مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-035-8
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٤٠٨

وإمساكه بالخبل ، ولم يكن أحد ممّن سلف من خلفاء بني العبّاس ظهر في مجلسه اللعب والمضاحك والهزل ممّا قد استفاض في الناس وجوب تركه إلّا المتوكّل فإنّه السابق إلى ذلك والمحدث له ، وأحدث أشياء من نوع ما ذكر فتبعه فيها الأغلب من خواصّه وأكثر رعيّته ، ولم يكن في وزرائه والمتقدّمين من كتّابه وقوّاده ومن يوصف بجود والإفضال أو يتعالى عن مجون وطرب ، وكان الفتح بن الخاقان التركي أغلب الناس عليه وأقربهم منه وأكثرهم تقدّما عنده ولم يكن الفتح مع هذه المنزلة من الخلافة ممّن يرجى فضله ويخاف شرّه ، وكان له نصيب من العلم ومنزلة من الأدب ، وألّف كتابا في الأدب ترجمه بكتاب البستان.

قال المسعودي : ذكر محمّد بن أبي عون قال : حضرت مجلس المتوكّل في يوم نيروز وعنده محمّد بن عبد الله بن طاهر وبين يديه الخليع الشاعر ، فغمز المتوكّل خادما على رأسه حسن الصورة أن يسقي الخليع كأسا ويحيّه بتفّاحة عنبر ، ففعل ذلك ثمّ التفت المتوكّل إلى الخليع فقال : قل فيه أبياتا ، فأنشأ يقول :

وكالدرّة البيضاء حيّا بعنبر

من الورد يسعى في قراطيس كالورد

له عبثات عند كلّ تحيّة

بعينيه تستدعى الحليّ إلى الوجد

تمنّيت أن أسقي بعينيه شربة

تذكّرني ما قد نسيت من العهد

سقى الله دهرا لم أبت فيه ساعة

من الليل إلّا من يجيب على وعد

قال المتوكّل : أحسنت ، والله يعطى لكلّ بيت مائة دينار.

فقال محمّد بن عبد الله : ولقد أجاد فأسرع ، وذكر فأوجع ، ولو لا أنّ يد أمير المؤمنين لا تطاولها يد لأجزلت له العطاء ولو بالطارف والتالد.

فقال المتوكّل عند ذلك : يعطى لكلّ بيت ألف دينار.

قال : وقد قيل : إنّه لم تكن النفقات في عصر من الأعصار ولا وقت من الأوقات مثلها في أيّام المتوكّل. ويقال : إنّه أنفق على الهاروني والجوسق والجعفري أكثر من

١٢١

مائة ألف ألف درهم ، هذا مع كثرة الموالي والجند والشاكرية ودرور العطا لهم وجليل ما كانوا يقبضوا في كلّ شهر من الجوائز والهبات. ويقال : إنّه كان له أربعة آلاف سريّة وطأهنّ كلّهنّ ، وقتل وفي بيوت الأموال أربعة آلاف ألف دينار ، وسبعة آلاف ألف درهم.

وذكر البيهقي في المحاسن والمساوي وقال : قال أحمد بن أبي طاهر : أخبرني مروان ابن أبي الجنوب قال : لمّا استخلف المتوكّل بعثت إليه بقصيدة مدحت فيها ابن أبي دؤاد وفي آخرها بيتان ذكرت فيها ابن الزيّات بين يدي ابن أبي دؤاد وهما :

وقيل لي الزّيات لا في جماعة

فقلت أتاني الله بالفتح والنصر

فقد حفر الزيّات بالغدر حفرة

فألقى فيها بالخيانة والغدر

فلمّا صارت القصيدة في يدي ابن أبي دؤاد ذكر ذلك المتوكّل وأنشده البيتين. قال : أحضره ، قال : هو باليمامة ، قال : يحمل ، قلت : عليه دين ، قال : كم؟ قلت : ستّة آلاف دينار ، قال : يعطاها ، فأعطيت ذلك وحملت وصرت إلى سرّ من رأى وامتدحت المتوكّل بقصيدة أقول فيها ، وذكر الأبيات. قال : فأمر لي بخمسين ألف درهم.

قال البيهقي : وكان عليّ بن الجهم يقع في مروان ويثلبه حسد المنزلة عند المتوكّل ، فقال له المتوكّل : يا علي ، أيّكما أشعر؟ قال : أنا أشعر منه. قال : ما تقول يا مروان؟ قال : إذا حقّقت شعرك في أمير المؤمنين لم أبال بمن زيّف شعري. ثمّ التفت مروان إلى علي بن الجهم وقال : أنت أشعر منّي؟ قال : نعم ، تشكّ في ذا؟ قال : أمير المؤمنين بيني وبينك. قال : هو يحاميك. فقال المتوكّل : هذا من عيّك ، ثمّ التفت إلى حمدون النديم فقال : ذا حكم بينكما. فقال حكم : يا أمير المؤمنين تركتني بين لحيي الأسد. قال : لا بدّ أن تصدّقني. قال : يا أمير المؤمنين ، أعرفهما في الشعر أشعرهما. فقال المتوكّل : يا مروان أهجه. قال : لا أبدأ ولكن يقول. فقال ابن

١٢٢

الجهم : قد كظّني النبيذ ولست أقدر أن أقول. قال مروان : لكنّي أقول :

إنّ ابن جهم في المغيب يغيبني

ويقول لي حسنا إذا لاقاني

وإذا التقينا ناك شعري شعره

ونزا على شيطانه شيطاني

إنّ ابن جهم ليس يرحم امّه

لو كان يرحمها لما عاداني

فقال المتوكّل : يا مروان ، بحياتي لا تقصر. فقال :

يا عليّ يابن بدر قلت أمّي قرشيّه

قلت ما ليس بحقّ فاسكتي يا نبطيّه

أسكتي يا بنت جهم أسكتي يا حلقيّه

قال : فجعل المتوكّل يضرب برجله ويضحك وأمر لي بألف دينار.

قال البيهقي في المحاسن والمساوي : أعطى مروان لقصيدة قالها له عشرين ومائة ألف درهم وخمسين ثوبا وثلاثته من الظهر فرسا وبغلا وحمارا حتّى قال مروان : فامسك ندى كفّيك عنّي ولا تزدد فقد خلفت أن أطغى وأتجبّر. فقال المتوكّل : لا والله لا أمسك حتّى أغرقك بجودي ولا تبرح أو تسأل حاجة. قال مروان : قلت : يا أمير المؤمنين ، الضيعة التي باليمامة ، فجعلها في أقطاعها.

أقول : عطاء المتوكّل غالبا كان منحصرا على الملهين والمغنّين والشعراء وأصحاب الخلاعة والمجون والفكاه ولكن العلويّين والعلويّات في غاية الضيق.

محن العلويّين في خلافة المتوكّل

ذكر أبو الفرج الأصبهاني في مقاتل الطالبيّين أنّ المتوكّل كان شديد الوطأة على آل أبي طالب ، غليظا على جماعتهم ، شديد الغيظ والحقد عليهم ، وسوء الظنّ والتهمة لهم ، سيّئ الرأي فيهم ، يحسن له ما هو قبيح في معاملاتهم فبلغ بهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العبّاس قبله ، وكان من ذلك كرب قبر الحسين عليه‌السلام وعفى

١٢٣

آثاره ووضع على سائر طرق الزوّار مسالح لا يجدون أحدا إلّا أتوه فقتله أو أنهكه عقوبة.

وإنّ المتوكّل استعمل على المدينة ومكّة عمر بن الفرج فمنع آل أبي طالب من التعرّض لمسألة الناس ومنع الناس من برّبهم ، وكان لا يبلغه أنّ أحدا برّ أحدا منهم بشيء وإن قلّ إلّا أنهكه عقوبة وأثقله غرما ، حتّى كان القميص يكون بين جماعة من العلويّات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة ثمّ ترفعه ، ويجلس على مغازلهنّ عواري حواسر إلى أن قتل المتوكّل فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم ووجّه بمال فرّقه فيهم ، وكان يأمر بمخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادّة مذهبه طعنا عليه ونفرة لفعله.

قال : ولمّا ولي المتوكّل تفرّق آل أبي طالب في النواحي ، فخرج بعضهم بالري وبعضهم بطبرستان ، وحبس محمّد بن صالح الحسني ثلاث سنين ، وأخذ القاسم بن عبد الله بن الحسن بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن الحسين حمل إلى سرّ من رأى وكان فاضلا تقيّا ، وتوفّي متواريا أحمد بن عيسى بن زيد بن عليّ بن الحسين ، وكذلك عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب بالجملة.

وقد ذكر في مقاتل الطالبين أزيد من سبعين من آل أبي طالب إنّهم بين شريد ناء وخائف متوارى ومحبوس ومقتول إمّا بالسمّ وإمّا بالسيف.

ليس هذا لرسول الله يا

أمّة الطغيان والغيّ جزا

يا رسول الله لو عاينتهم

وهم ما بين قتل وسبى

كأنّ رسول الله من حكم شرعه

على أهله أن يقتّلوا أو يصلّبوا

أبادوهم قتلا وأسرا ومثلة

كأنّ رسول الله ليس لهم أب

في البحار عن كتاب الاستدراك عن ابن قولويه بإسناده عن البحتري قال :

١٢٤

كنت بحضرة المتوكّل إذ دخل عليه رجل من أولاد محمّد بن الحنفيّة ؛ حلو العينين ، حسن الثياب ، قد اتّهم عنده بشيء ، فوقف بين يديه والمتوكّل مقبل على الفتح يحدّثه ، فلمّا طال وقوف الفتى بين يديه وهو لا ينظر إليه قال له : يا أمير المؤمنين ، إن كنت أحضرتني لتأديبي فقد أسأت الأدب ، وإن كنت قد أحضرتني ليعرف من بحضرتك من أوباش الناس استهانتك بأهلي فقد عرفوا. فقال له المتوكّل : والله يا حنفي ، لو لا يعطفني عليك من أوصال الرحم ومواقع الحلم لانتزعت لسانك بيدي ولفرّقت بين رأسك وجسدك ولو كان محمّد أبوك.

قال : ثمّ التفت إلى الفتح فقال : أما ترى ما نلقاه من آل أبي طالب ؛ إمّا حسنيّ يجذب إلى نفسه تاج نقله الله إلينا ، أو حسينيّ يسعى في نقض ما أنزل الله إلينا قبله ، أو حنفيّ يدلّ بجهله أسيافنا على سفك دمه.

فقال له الفتى : وأيّ حلم تركته لك الخمور وإدمانها والعيدان وقيانها؟ ومتى تعطف الرحم على أهلي وقد ابتززتم فدكا وكان إرثنا من رسول الله فورثها أبو جرملة؟ وأمّا ذكرك محمّدا أبي فقد طفقت تضع عن عزّ رفعه الله ورسوله ، وتطاول شرفا تقصر عنه ولا تطوله ، وأنت كما قال الشاعر :

فغضّ الطرف إنّك من نمير

فلا كعبا بلغت ولا كلابا

ثمّ ها أنت تشكو لي علجك هذا ما تلقاه من الحسني والحسيني والحنفي ، فلبئس المولى ولبئس العشير ، ثمّ مدّ رجليه وقال : هاتان رجلاي لقيدك ، وهذه عنقي لسيفك ، فبؤ بإثمي وتحمّل ظلمي فليس هذا أوّل مكروه أوقعته أنت وسلفك بهم ، يقول الله عزوجل : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)(١) ، فو الله ما أجبت رسول الله عن مسائلته ولقد عطفت المودّة على غير قرابته ، فعمّا قليل ترد الحوض

__________________

(١) الشورى : ٢٣.

١٢٥

ليذودك أبي ويمنعك جدّي صلوات الله عليه.

فبكى المتوكّل ممّا قال. ثمّ قال : ودخل إلى قصر جواريه فلمّا كان من الغد أحضره وأحسن جائزته.

المتوكّل وابن السكّيت

أوردنا تاريخه في الجزء الثاني من هذا الكتاب بصورة تفصيليّة وهو مطبوع.

ابن السكّيت ـ بكسر السين المهملة والكاف المشدّدة وسكون الياء المثنّاة ثمّ التاء ـ قتله المتوكّل لأجل تشيّعه كما أنّه قتل عيسى بن جعفر بن محمّد بن العاصم بعد أن ضربه خمسمائة سوط ثمّ رمى به في دجلة ، وكان الرجل من أصحاب الجواد والهادي عليهما‌السلام.

وفي خطط المقريزي : إنّ رجلا من جند ضربوه في شيء وجب عليه فأقسم الجندي عليه بحقّ الحسن والحسين إلّا عفى عنه ، فزاده ثلاثين درّة ورفع ذلك صاحب البريد إلى المتوكّل ، فورد الكتاب بأن يضرب الجندي مأة سوط لأجل قسمه.

فمن نظر إلى الجزء الرابع من خطط المقريزي إلى صفحة ١٦٢ يحكم بأنّ عصر المتوكّل من أشدّ الأعصار ظلما وقتلا وتشريدا على المؤمنين سيّما على آل أبي طالب عليه‌السلام ، ولكن البسطاء من هذه الأمّة يسمّون عصر المأمون بعصر المحنة وعصر المتوكّل بعصر رفع المحنة.

[الثياب في زمن المتوكّل]

وقال المسعودي في مروج الذهب : لمّا أفضت الخلافة إلى المتوكّل أمر بترك

١٢٦

النظر والمباحثة في الجدال والترك لما كان عليه الناس في أيّام المعتصم والواثق ، وأمر الناس بالتسليم والتقليد ، وأمر الشيوخ المحدّثين بالتحديث وإظهار السنّة والجماعة ، وأظهر لبس ثياب الملحمة وفضّل ذلك على سائر الثياب وأتبعه في داره على لبس ذلك وشمل الناس لبسه وبالغوا في ثمنه ، واهتماما بعمله واصطناع الجيّد منها لمبالغة الناس فيها وميل الراعي والرعيّة إليها ، فالباقي في أيدي الناس إلى هذه الغاية من تلك الثياب يعرف بالمتوكّليّة وهي نوع من ثياب ملحم نهاية في الحسن والصبغ وجودة الصنع.

المتوكّل وما فعل بأتياخ

قال الطبري في تاريخه ما حاصله : إنّ أتياخ كان غلاما خزريّا لسلام بن أبرش وكان طبّاخا فاشتراه المعتصم في سنة ١٩٩ ، وكان لأتياخ جلادة وبئس ، فرفعه المعتصم ومن بعده الواثق حتّى ضمّ إليه من أعمال السلطان أعمالا كثيرة وولّاه المعتصم معونة سامرّاء مع إسحاق بن إبراهيم وكان من قبله رجل ومن قبل إسحاق رجل ، وكان من أراد المعتصم والواثق قتله فعند أتياخ يقتل ، وبيده يحبس منهم محمّد بن عبد الملك بن زيّات وأولاد المأمون من سندس وصالح بن عجيف وغيرهم.

فلمّا ولي المتوكّل كان أيتاخ في مرتبته إليه الجيش والمغاربة والأتراك والموالي والبريد والحجابة ودار الخلافة ، فخرج المتوكّل بعد ما استوت له الخلافة متنزّها إلى ناحية القاطول فشرب ليلة فعربد على أيتاخ فهمّ أيتاخ بقتله ، فلمّا أصبح المتوكّل قيل له : فاعتذر إليه والتزمه ، وقال له : أنت أبي ، ربّيتني. فلمّا صار المتوكّل إلى سامرّاء دسّ إليه من يشير عليه بالاستئذان للحجّ ، ففعل ، فأذن له وصيّره

١٢٧

أميرا لكلّ بلد يدخلها وخلع عليه وركب جميع القوّاد معه وخرج معه من الشاكريّة والقوّاد والغلمان سوى غلمانه وحشمه ، فلمّا انصرف من مكّة راجعا إلى العراق وجّه المتوكّل إليه سعيد ابن صالح الحاجب مع كسوة وألطاف وأمره أن يلقاه بالكوفة ويقول له : إنّ أمير المؤمنين أمرك أن تدخل بغداد وأن يلقاك بنو هاشم ووجوه الناس وأن تقعد لهم في دار خزيمة بن حازم فتأمر لهم بجوائز.

فلمّا فعل أتياخ بكلّ ما قيل له ودخل دار خزيمة بن حازم أغلق الباب خلفه فأدخل ناحية منها ثمّ قيّد فأثقل بالحديد في عنقه ورجليه فحبس ببغداد مع ولده وكتّابه فبقي في الحبس حتّى مات عطشا وبقي ابناه منصور ومظفّر في الحبس حتّى قتل المتوكّل ، فلمّا أفضى الأمر إلى المنتصر أخرجهما وأمر بإطلاقهما.

سبب كرب المتوكّل قبر الحسين عليه‌السلام

ذكر أبو الفرج في مقاتل الطالبيين أنّ بعض القينات كانت تبعث جواريها إلى المتوكّل قبل خلافته يغنّين له إذا شرب ، فلمّا صار خليفة بعث إلى تلك القينة فعرف أنّها غائبة وكانت قد زارت قبر الحسين عليه‌السلام ، وبلغها خبره ، فأسرعت الرجوع وبعثت إليه جارية من جواريها كان المتوكّل يألفها ، فقال لها : أين كنتم؟ قالت : خرجت مولاتي إلى الحجّ وأخرجتنا معها وكان ذلك في شعبان. فقال : إلى أين حججتم في شعبان؟ قالت : إلى قبر الحسين عليه‌السلام. فاستثار غضبا وأتى بمولاتها فحبست واستعفى أملاكها.

وبعث الديزج إلى قبر الحسين وأمره بكربه ومحوه وإخراب كلّ ما حوله ، فمضى لذلك وخرّب ما حوله وهدم البناء وكرب ما حوله نحو مائتي جريب ، فلمّا بلغ إلى قبره لم يتقدّم إليه أحد فأحضر قوما من اليهود فكربوه وأجرى حوله الماء ووكّل

١٢٨

به مسالح على ساير الطريق بين كلّ مسلحتين ميل على أن لا يزوره أحد ، فإذا رأوا أحدا أخذوه ويرسلوه إلى المتوكّل فيقتله أو ينهكه عقوبة ، والأخبار بهذا المعنى كثيرة.

ذهاب المتوكّل إلى دمشق

قال الدميري في حياة الحيوان في ترجمة الضر غام أنّ المتوكّل لمّا خرج إلى دمشق فركب يوما إلى رصافة هشام بن عبد الملك بن مروان فنظر إلى قصورها ثمّ خرج فرأى ديرا هناك قديما حسن البناء بين مزارع وأنهار وأشجار ، فدخله فبينما هو يطوف إذا برقعة قد التصقة في صدره فأمر بقلعها ، فإذا هذه الأبيات :

أيا منزلا بالدير أصبح خاليا

تلاعب فيه شمأل ودبور

كأنّك لم يسكنك بيض أوانس

ولم تتبختر في فنائك حور

وأبناء أملاك غواشم سادة

صغيرهم عند الأنام كبير

إذا لبسوا أدراعهم فعوابس

وإن لبسوا تيجانهم فبدور

على أنّهم يوم اللقاء ضراغم

وأيديهم يوم العطاء بحور

ليالي هشام بالرصافة قاطن

وفيك أبته يا دير وهو أمير

وروضك مرتاض ونورك مزهر

وعيش بني مروان فيك نضير

تذكّرت قومي خاليا فبكيتهم

بشجو ومثلي بالبكاء جدير

فعزّيت نفسي وهي نفسي إذا جرى

لها ذكر قومي أنّة وزفير

لعلّ زمانا جار يوما عليهم

لهم بالذي تهوى النفوس بدور

رويدك إنّ اليوم يتبعه غدا

وإنّ صروف الدائرات تدور

فلمّا قرأها المتوكّل ارتاع وتطيّر وقال : أعوذ بالله من شرّ أقداره ، ثمّ دعا صاحب الدير وسأله عن الرقعة ومن كتبها ، فقال : لا علم لي بها.

١٢٩

وقيل : إنّ المتوكّل بعد عوده بسرّ من رأى قتله ابنه المنتصر ولم يلبث إلّا أيّاما قلائل.

المتوكّل وشرائه السيف الذي قتل به

قال في مروج الذهب (١) : حدّث البحتري قال : اجتمعنا ذات يوم الندماء في مجلس المتوكّل فتذاكرنا أمر السيوف ، فقال بعض من حضر : بلغني يا أمير المؤمنين أنّه وقع عند رجل من أهل البصرة سيف من الهند ليس له نظير ولم ير مثله ، فأمر المتوكّل بالكتاب إلى عامل البصرة يطلبه بشرائه بما بلغ ، فنفذت الكتب على البريد وورد جواب عامل البصرة بأنّ السيف اشتراه رجل من أهل اليمن ، فأمر المتوكّل بالبعث إلى اليمن يطلب السيف وابتياعه ونفذت الكتب بذلك.

قال البحتري : فبينا نحن عند المتوكّل إذ دخل عليه عبيد الله بن يحيى والسيف معه وعرّفه أنّه ابتاعه من صاحبه باليمن بعشرة آلاف درهم ، فسرّ بوجوده وحمد الله على ما سهّل من أمره وانتضاه فاستحسنه وتكلّم كلّ واحد بما يحبّ ، فأخذه وجعله تحت فراشه فلمّا كان من الغداة قال للفتح : أطلب لي غلاما تثق بنجدته وشجاعته ادفع له هذا السيف ليكون واقفا به على رأسي لا يفارقني في كلّ يوم مادمت جالسا.

قال : فلم يستتمّ الكلام حتّى أقبل باغر التركي فقال الفتح : يا أمير المؤمنين ، هذا باغر التركي قد وصف لي بالشجاعة والبسالة وهو يصلح لما أراده أمير المؤمنين ، فدعا به المتوكّل فدفع إليه السيف وأمره بما أراد وتقدّم أن يزاد في مرتبته وأن يضعّف له الرزق.

__________________

(١) مروج الذهب ج ٥ ص ٣٦.

١٣٠

قال البحتري : فو الله ما انتضى ذلك السيف ولا خرج من غمده من الوقت الذي دفعه إليه إلّا في الليلة التي ضربه فيها باغر التركي بذلك السيف.

كيف قتل المتوكّل

قال ابن الأثير في الكامل : وفي هذه السنة قتل المتوكّل ، وكان سبب قتله أنّه أمر بإنشاء الكتب بقبض ضياع وصيف بأصبهان والجبل ، وإقطاعها الفتح بن خاقان ، فكتب وصارت إلى الخاتم ، فبلغ ذلك وصيفا ، وكان المتوكّل أراد أن يصلّي بالناس أوّل جمعة في رمضان ، وشاع في الناس ، واجتمعوا لذلك ، وخرج بنو هاشم من بغداد لرفع القصص وكلامه إذا ركب.

فلمّا كان يوم الجمعة ، وأراد الركوب للصلاة ، قال له عبيد الله بن يحيى والفتح بن خاقان : إنّ الناس قد كثروا من أهل بيتك ومن غيرهم ، فبعض متظلّم ، وبعض طالب حاجة ، وأمير المؤمنين يشكو ضيق الصدر ، وعلّة به ، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بعض ولاة العهود بالصلاة ، ونكون معه ، فليفعل.

فأمر المنتصر بالصلاة ، فلمّا نهض للركوب قالا له : يا أمير المؤمنين ، إن رأيت أن تأمر المعتزّ بالصلاة ، فقد اجتمع الناس لتشرّفه بذلك ، وقد بلغ الله به ؛ وكان قد ولد للمعتزّ قبل ذلك ولد ، فأمر المعتزّ ، فركب فصلّى بالناس ، وأقام المنتصر في داره بالجعفريّة ، فزاد ذلك في إغرائه.

فلمّا فرغ المعتزّ من خطبته قام إليه عبيد الله والفتح بن خاقان فقبّلا يديه ورجليه ، فلمّا فرغ من الصلاة انصرف ومعه الناس في موكب الخلافة ، حتّى دخل على أبيه ، فأثنوا عليه عنده ، فسرّه ذلك.

فلمّا كان عيد الفطر قال : مروا المنتصر يصلّي بالناس! فقال له عبيد الله : قد

١٣١

كان الناس يتطلعون إلى رؤية أمير المؤمنين ، واحتشدوا لذلك ؛ فلم يركب ؛ ولا يأمن إن هو لم يركب اليوم ، أن يرجف الناس بعلّته ، فإذا رأى أمير المؤمنين أن يسرّ الأولياء ، ويكبت الأعداء بركوبه فليفعل.

فركب وقد صفّ له الناس نحو أربعة أميال ، وترجّلوا بين يديه ، فصلّى ، ورجع ، فأخذ حفنة من التراب ، فوضعها على رأسه وقال : إنّي رأيت كثرة هذا الجمع ، ورأيتهم تحت يديّ ، فأحببت أن أتواضع لله ؛ فلمّا كان اليوم الثالث افتصد ، واشتهى لحم جزور ، فأكله ، وكان قد حضر عنده ابن الحفصيّ وغيره ، فأكلوا بين يديه. قال : ولم يكن يوم أسرّ من ذلك اليوم ، ودعا الندماء والمغنّين ، فحضروا ، وأهدت له أمّ المعتزّ مطرف خزّ أخضر ، لم ير الناس مثله ، فنظر إليه ، فأطال ، وأكثر تعجّبه منه ، وأمر فقطع نصفين وردّه عليها ، وقال لرسولها : والله إنّ نفسي لتحدّثني أنّي لا ألبسه ، وما أحبّ أن يلبسه أحد بعدي ، ولهذا أمرت بشقّه.

قال فقلنا : نعيذك بالله أن تقول مثل هذا ؛ قال : وأخذ في الشرب واللهو. ولجّ بأن يقول : أنا والله مفارقكم عن قليل! ولم يزل في لهوه وسروره إلى الليل.

وكان قد عزم هو والفتح أن يفتكا بكرة غد بالمنتصر ووصيف وبغا وغيرهم من قوّاد الأتراك ، وقد كان المنتصر واعد الأتراك ووصيفا وغيره على قتل المتوكّل.

وكثر عبث المتوكّل ، قبل ذلك بيوم ، بابنه المنتصر ، مرّة يشتمه ، ومرّة يسقيه فوق طاقته ، ومرّة يأمر بصفعه ، ومرّة يتهدّده بالقتل ، ثمّ قال للفتح : برئت من الله ومن قرابتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إن لم تلطمه ، يعني المنتصر ، فقام إليه فلطمه مرّتين ، ثمّ أمرّ يده على قفاه ، ثمّ قال لمن حضره : اشهدوا عليّ جميعا أنّي قد خلعت المستعجل ، يعني المنتصر ، ثمّ التفت إليه فقال : سمّيتك المنتصر ، فسمّاك الناس ، لحمقك ، المنتظر ، ثمّ صرت الآن المستعجل.

فقال المنتصر : لو أمرت بضرب عنقي كان أسهل عليّ ممّا تفعله بي ؛ فقال :

١٣٢

اسقوه ، ثمّ أمر بالعشاء فأحضر ، وذلك في جوف الليل ، فخرج المنتصر من عنده ، وأمر بنانا غلام أحمد بن يحيى أن يلحقه ، وأخذ بيد زرّافة الحاجب ، وقال له : امض معي! فقال : إنّ أمير المؤمنين لم ينم ، فقال : إنّه قد أخذ منه النبيذ ، والساعة يخرج بغا والندماء ، وقد أحببت أن تجعل أمر ولدك إليّ ، فإنّ أو تامش سألني أن أزوّج ولده من ابنتك ، وابنك من ابنته ؛ فقال : نحن عبيدك فمر بأمرك! فسار معه إلى حجرة هناك ، وأكلا طعاما ، فسمعا الضجّة والصراخ ، فقاما ، وإذا بغا قد لقي المنتصر ، فقال المنتصر : ما هذا؟ فقال : خير يا أمير المؤمنين ، قال : ما تقول ويلك؟ قال : أعظم الله أجرك في سيّدنا أمير المؤمنين ، كان عبد الله دعاه فأجابه.

فجلس المنتصر ، وأمر بباب البيت الذي قتل فيه المتوكّل فأغلق ، وأغلقت الأبواب كلّها ، وبعث إلى وصيف يأمره بإحضار المعتزّ والمؤيّد عن رسالة المتوكّل. وأمّا كيفيّة قتل المتوكّل ، فإنّه لمّا خرج المنتصر دعا المتوكّل بالمائدة ، وكان بغا الصغير المعروف بالشرابيّ قائما عند الستر ، وذلك اليوم كان نوبة بغا الكبير ، وكان خليفته في الدار ابنه موسى ، وموسى هو ابن خالة المتوكّل ، وكان أبوه يومئذ بسميساط ، فدخل بغا الصغير إلى المجلس ، فأمر الندماء بالانصراف إلى حجرهم ، فقال له الفتح : ليس هذا وقت انصرافهم ، وأمير المؤمنين لم يرتفع ؛ فقال بغا : إنّ أمير المؤمنين لم يرتفع ؛ فقال بغا : إنّ أمير المؤمنين أمرني أنّه إذا جاوز السبعة لا أترك أحدا ، وقد شرب أربعة عشر رطلا ، وحرم أمير المؤمنين خلف الستارة. وأخرجهم. فلم يبق إلّا الفتح وعثعث ، وأربعة من خدم الخاصّة ، وأبو أحمد بن المتوكّل ، وهو أخو المؤيّد لأمّه.

وكان بغا الشرابيّ أغلق الأبواب كلّها ، إلّا باب الشطّ ، ومنه دخل القوم الذين قتلوه ، فبصر بهم أبو أحمد ، فقال : ما هذا يا سفل! وإذا سيوف مسلّلة ، فلمّا سمع المتوكّل صوت أبي أحمد رفع رأسه ، فرآهم فقال : ما هذا يا بغا؟ فقال : هؤلاء

١٣٣

رجال النوبة ؛ فرجعوا إلى ورائهم عند كلامه ، ولم يكن واجن وأصحابه وولد وصيف حضروا معهم ، فقال لهم بغا : يا سفل! أنتم مقتولون لا محالة ، فموتوا كراما! فرجعوا ، فابتدوه بغلون فضربه على كتفه وأذنه فقدّه ، فقال : مهلا! قطع الله يدك ؛ وأراد الوثوب به ، واستقبله بيده ، فضربها فأبانها ، وشاركه باغر ، فقال الفتح : ويلكم! أمير المؤمنين ... ورمى بنفسه على المتوكّل ، فبعجوه بسيوفهم ، فصاح : الموت! وتنحّى ، فقتلوه.

وكانوا قالوا لوصيف ليحضر معهم ، وقالوا : إنّا نخاف ؛ فقال : لا بأس عليكم ، فقالوا له : أرسل معنا بعض ولدك ، فأرسل معهم خمسة من ولده : صالحا ، وأحمد ، وعبد الله ، ونصرا ، وعبيد الله.

وقيل إنّ القوم لمّا دخلوا نظر إليهم عثعث ، فقال للمتوكّل : قد فرغنا من الأسد ، والحيات ، والعقارب ، وصرنا إلى السيوف ، وذلك أنّه ربّما أسلى الحيّة والعقرب والأسد ، فلمّا ذكر عثعث السيوف قال : يا ويلك! أيّ سيوف؟ فما استتمّ كلامه حتّى دخلوا عليه وقتلوه ، وقتلوا الفتح ، وخرجوا إلى المنتصر ، فسلّموا عليه بالخلافة ، وقالوا : مات أمير المؤمنين ، وقاموا على رأس زرافة بالسيوف ، وقالوا : بايع ، فبايع.

وأرسل المنتصر إلى وصيف : إنّ الفتح قد قتل أبي فقتلته ، فاحضر في وجوه أصحابك! فحضر هو وأصحابه ، فبايعوا. وكان عبيد الله بن يحيى في حجرته ينفذ الأمور ولا يعلم ، وبين يديه جعفر بن حامد ، إذ طلع عليه بعض الخدم فقال : ما يحبسك والدار سيف واحد؟ فأمر جعفرا بالنظر ، فخرج ، وعاد وأخبره أنّ المتوكّل والفتح قتلا ، فخرج فيمن عنده من خدمه وخاصّته ، فأخبر أنّ الأبواب مغلّقة ، وأخذ نحو الشطّ ، فإذا أبوايه مغلّقة ، فأمر بكسر ثلاثة أبواب ، وخرج إلى الشطّ ، وركب في زورق ، فأتى منزل المعتزّ ، فسأل عنه ، فلم يصادفه ، فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، قتل نفسه وقتلني.

١٣٤

جلوس المنتصر

قال السيوطي في تاريخ الخلفاء : المنتصر بالله اسمه محمّد ، كنيته أبو جعفر ، أمّه أمّ ولد روميّة اسمها جشية ، بويع له بعد قتل أبيه في شوّال سنة ٢٤٧ وكانت خلافته ستّة أشهر ويومين ، وكان عمره أربعا وعشرين سنة ، وتوفّي بسامرّاء في يوم أحد لخمس خلون من ربيع الآخر وكانت علّته أنّه وجد حرارة فدعا بعض أطبّائه ففصده بمبضع مسموم فمات منه وانصرف الطبيب إلى منزله وقد وجد حرارة فدعا تلميذه ليفصده فوضع مباضعه بين يديه ليختار أجودهما فاختار ذلك المبضع المسموم وقد نسيه الطبيب ففصده به فلمّا فرغ نظر إليه فعرّفه فأيقن بالهلاك ووصّى من ساعته ، فمات.

وقيل : دسّوا إلى ابن الطيفوريّ ثلاثين ألف دينار في مرضه فأشار بفصده ثمّ فصده بريشة مسمومة فمات.

قال السيوطي وابن الأثير وغيرهما : إنّ المنتصر مليح الوجه ، أسمر أعين ، أقنى الأنف ، ربع القامة ، جسيما بطينا مليحا مهيبا ، وافر العقل ، راغبا في الخير ، قليل الظلم ، محسنا إلى العلويّين ، وأزال عن آل أبي طالب ما كانوا فيه من الخوف والمحنة بمنعهم من زيارة قبر الحسين ، وردّ على آل الحسين فدكا. فقال يزيد المهلّبي في ذلك :

ولقد بررت الطالبيّة بعد ما

ذمّوا زمانا بعدها وزمانا

ورددت ألفة هاشم فرأيتهم

بعد العداوة بينهم إخوانا

وأظهر العدل والإنصاف في الرعيّة ، فمالت إليه القلوب مع شدّة هيبة لهم ، وكان كريما حليما ، ومن كلامه : لذّة العفو أعذب من لذّة التشفّي ، وأقبح أفعال المقتدر الانتقام.

وقال المسعودي : وكان المنتصر واسع الاحتمال ، راسخ العقل ، كثير المعروف ، راغبا في الخير ، سخيّا أديبا عفيفا ، وكان يأخذ بمكارم الأخلاق وكثرة الإنصاف

١٣٥

وحسن المعاشرة بما لم يسبقه خليفة إلى مثله الخ.

وفي عاشر البحار (١) نقلا عن أمالي الشيخ الطوسي بسنده عن أبي المفضّل أنّ المنتصر سمع أباه يشتم فاطمة عليها‌السلام فسأل رجلا من الناس عن ذلك ، فقال له : قد وجب عليه القتل إلّا أنّه من قتل أباه لم يطل له عمره. قال : ما أبالي إذا أطعت الله بقتله إن لا يطول لي عمر ، فقتله وعاش بعده سبعة أشهر ، انتهى.

وفي تاريخ الفخري : كان المتوكّل شديد الانحراف عن آل عليّ وفعل من حرث قبر الحسين ما فعل ، ولذلك قتله ابنه غيرة وحميّة.

وفي مدينة المعاجز في معاجز الإمام الهادي عليه‌السلام : قال المنتصر : زرع والدي الآس (وهو نوع من الأوراد) في بستان وأكثر منه ، فلمّا استوى الآس كلّه وحسن أمر الفرّاشين أن يفرشوا له الدكان الذي في وسط البستان وأنا قائم على رأسه ، فرفع رأسه إليّ وقال : يا رافضي سل ربّك الأسود عن هذا الأصل الأصفر ما باله بين ما بقي من هذا البستان قد اصفرّ فإنّك تزعم أنّه يعلم الغيب. فقلت : يا أمير المؤمنين ، إنّه ليس يعلم الغيب. قال : فأصبحت وغدوت إليه عليه‌السلام وأخبرته بالأمر ، فقال : يا بني ، امض أنت واحفر الأرض التي تحت الأصل الأصفر فإنّ تحته جمجمة نخرة واصفراره لبخارها ونتنها. قال : ففعلت ذلك فوجدته كما قال. ثمّ قال لي : يا بني ، لا تخبرنّ أحدا بهذا الأمر فلن نحدّثك بمثله.

وقال المسعودي : وكان من شعره :

إنّي رأيتك في المنام كأنّني

أعطيتني من ريق فيك البارد

وكأنّ كفّك في يدي وكأنّما

بتنا جميعا في لحاف واحد

ثمّ انتبهت ومعصماك كلاهما

بيدي اليمين وفي يمينك ساعدي

فظللت يومي كلّه متراقدا

لأراك في نومي ولست براقد

__________________

(١) بحار الأنوار ١٠ / ٢٩٦.

١٣٦

أديار (١) سامرّاء ونواحيها

١ ـ دير باشهرا

قال الحموي في المعجم : دير باشهرا كان على شاطئ دجلة بين سامرّاء وبغداد ، أنشد أبو العيناء :

نزلنا دير باشهرا

على قسّيسه ظهرا

على دين يسوعيّ

فما أسنى وما أمرا

فأولى من جميل الفع

ل ما يستعبد الحرّا

وسقّانا وروّانا

من الصافية العذرا

فطاب الوقت في الدير

ورابطنا به عشرا

٢ ـ دير السوسي

جاء في كتاب الآثار العراقيّة (٢) ما نصّه : ذكر ابن المعتزّ في بعض أشعاره ديرا باسم دير السوسي :

__________________

(١) الدير : خان النصارى ، جمعه أديار ، وصاحبه الذي يسكنه ويعمره ديار وديراني على غير قياس. قال الزبيدي في التاج : والأديار أكثر ما كانت تكون في ضواحي المدن بين الرياض والحدائق وفي قمم الجبال والروابي المطلّة على الأودية والسهول الفسيحة وفي المواضع المنقطعة عن الناس ولذلك قال ياقوت الحموي في معجم البلدان في تعريف الأديار : والدير بيت يتعبّد فيه الرهبان ، ولا يكاد يكون في المصر الأعظم إنّما يكون في الصحاري ورؤوس الجبال فإن كان في المصر كان كنيسة أو بيعة. وفي الشعر العربي إشارات كثيرة إلى الأديار القديمة القائمة فوق الهضاب وقلل الجبال وفي سفوح الأطواد وذرى المستشرفات ، وقد طبع سنة ١٣٥٧ بالمطبعة الكاثوليكيّة ببيروت كتاب «الديارات النصرانيّة في الإسلام» تأليف حبيب زيّات ، يقع في ١١٧ صفحة.

(٢) الآثار العراقيّة : ٧٦.

١٣٧

يا ليالي بالمطيرة والكرخ

ودير السوسي بالله عودي

كنت عندي أنموذجات من

الجنّة ولكنّها بغير خلود

قال : ويفهم ممّا ذكره أبو الحسن عليّ بن محمّد المشهور بالشابشتي في كتاب الديارات أنّ الدير المذكور لطيف على شاطئ دجلة بقادسيّة سرّ من رأى وبين القادسيّة وسرّ من رأى أربعة فراسخ ، والمطيرة بينهما. وهذه النواحي كلّها متنزّهات وكروم وبساتين والناس يقصدون هذا الدير ويشربون في بساتينه وهو من مواطن السرور ومواضع القصف واللعب.

كما أنّ خرائب الضفة الغربيّه لسامرّاء من دجلة كذلك فإنّ المنطقة التي تمتدّ بين دجلة ونهر الإسحاقي كانت بمثابة حدائق المدينة فكانت عامرة بالبساتين والمجالس والقصور غير انّ المباني التي بقيت شاخصة إلى الآن في هذه الجهة تنحصر بقصر العاشق وقبّة الصيلبيّة ، وأمّا بقيّة الأقسام فلم يبق منها آثار ظاهرة بسبب انخفاض الأرض واستمرار زراعتها ومع هذا قد اكتشفت مديريّة الآثار القديمة بقايا قصر فسيح في شمال قصر العاشق في المحلّ الذي كان يعرف باسم تلّ الحويصلات كما برزت آثار المجالس والحدائق في المحلّ المعروف باسم تلّ الصخر ، ولأطلال سامرّاء من جهة جنوب القادسيّة ، كما سيأتي.

٣ ـ دير الطواويس

قال في المعجم في حرف الدال : جمع طاوس ، وهذا الدير بسامرّاء متصل بكرخ جدان ، يشرف عند حدود آخر الكرخ على بطن يعرف بالنبي.

وفي المراصد : يعرف بالشيء يتصل بدور عريانا وهو قديم ، كان منظرة لذي القرنين ويقال لبعض الأكاسرة فاتخذه النصارى ديرا في أيّام الفرس ، ومن هنا يعلم

١٣٨

أنّ سامرّاء ونواحيها كانت عامرة في عصر ذي القرنين.

وفي حياة القلوب : كان اسكندر معاصرا لإبراهيم الخليل عليه‌السلام وأمّا اسكندر الرومي كان في أيّام الفترة بين عيسى ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويقال لهما : اسكندر ذو القرنين.

وذكر الطريحي في مجمع البحرين في مادة «قرن» : إنّ أب ذا القرنين كان أعلم أهل الأرض بعلم النجوم ولم يراقب أحد الفلك ما راقبه ، وكان قدمه الله له في الأجل فقال ذات ليلة لزوجته : قد قتلني السهر فدعيني أرقد ساعة وانظري في السماء فإذا رأيت قد طلع في هذا المكان نجم ـ وأشار إلى موضع طلوعه ـ فانبهيني حتّى أطأك فتعلّقين بولد يعيش إلى آخر الدهر ، وكانت أختها تسمع كلامه ، ثمّ نام أبو الاسكندر فجعلت أخت زوجته تراقب النجم فلمّا طلع أعلمت زوجها بالقصّة فوطأها فعلقت منه بالخضر ابن خالة الاسكندر ، فلمّا استيقظ أبو الاسكندر رأى النجم قد نزل في غير البرج الذي كان يراقبه فقال لزوجته : ما منعك ما أنبهتيني؟ فقالت : استحييت والله. فقال لها : أما تعلمين إنّي أراقب هذا النجم منذ أربعين سنة ، والله لقد ضيّعت عمري في غير شيء ولكن الساعة يطلع نجم في أثره فأطأك فتعلقين بولد يملك قرني الشمس ، فما لبث أن طلع فوطأها فعلقت بالاسكندر فولد الاسكندر وابن خالته الخضر في ليلة واحدة.

٤ ـ دير العاقول

قال في المراصد : دير العاقول بين مداين كسرى والنعمانيّة ، كان على شاطئ دجلة ، وأمّا الآن فقد بعدت دجلة عنه وكان عنده بلد عامر وأسواق أيّام عمارة النهروان ، وذكرنا هذا الدير مع عدم كونه من ديار سامراء لأنّه كان لصاحبه المعروف صاحب دير العاقول قصة مع الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام بسامرّاء سيأتي بيانها في معاجزه إن شاء الله.

١٣٩

وفي تاريخ الحيرة (١) قال في قصّة دير العاقول وتعيين صاحبه : إنّ بختيشوع الطبيب أقنع الخليفة المتوكّل بتعيين تئودوس أسقف.

٥ ـ دير عبدون

قال في المعجم : هو بسرّ من رأى إلى جنب المطيرة وسمّي بدير عبدون لأنّ عبدون أخا صاعد بن مخلد كان كثير الإلمام به والمقام فيه فنسب إليه. وكان عبدون نصرانيّا وأسلم أخوه صاعد على يدي الموفّق واستوزره. وفي هذا الدير يقول ابن المعتزّ :

سقي المطيرة ذات الظلّ والشجر

ودير عبدون هطّال من المطر

يا طالما نبّهتني للصبوح به

في ظلمة الليل والعصفور لم يطر

أصوات رهبان دير في صلاتهم

سود المدارع نعّارين في السحر

مزنّرين على الأوساط قد جعلوا

على الرؤوس أكاليلا من الشعر

كم فيهم من مليح الوجه مكتحل

بالسحر يطبق جفنيه على حور

الحاظّه بالهوى حتّى استقاد له

طوعا وأسلفني الميعاد بالنظر

وجاءني في ظلام الليل مستترا

يستعجل الخطو من خوف ومن حذر

فقمت أفرش خدّي بالتراب له

ذلّا وأسحب أذيالي على الأثر

فكان ما كان ممّا لست أذكره

فظنّ خيرا ولا تسأل عن الخبر

٦ ـ ديار العذارى

قال في المعجم نقلا عن أبي الفرج الأصبهاني : دير العذارى هو دير عظيم قديم وبه نساء عذارى قد ترهّبن وأقمن به للعبادة فسمّي بذلك ، وكان قد بلغ بعض

__________________

(١) تاريخ الحيرة : ٢٨٩.

١٤٠