مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-035-8
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٤٠٨

المعشوق المفعول من العشق وهو اسم لقصر عظيم بالجانب الغربي من دجلة قبالة سامرّاء في وسط البرية باق إلى الآن ليس حوله شيء من العمران ، يسكنه قوم من الفلّاحين إلّا أنّه عظيم مكين محكم لم يبن في تلك البقاع على كثرة ما كان من القصور أحسن منه. وبينه وبين تكريت مرحلة ، عمّره المعتمد على الله أحمد بن المتوكّل. وعمّر قصرا آخر يقال له حمدي وقد خرب. قال عبد الله بن المعتزّ ـ وسيأتي أخباره في الأجزاء الآتية بصورة تفصيليّة ـ :

بدر تنقّل في منازله

سعد يصبّحه ويطرقه

فرحت به دار الملوك فقد

كادت إلى لقياه تسبقه

والأحمديّ إليه منتسب

من قبل والمعشوق يعشقه

وسيأتي في الجزء الآتي سبب بناء هذا القصر وهو اليوم معروف عند أهالي سامرّاء بقصر العاشق.

١٠١

وجاء في كتاب الآثار العراقيّة (١) : قصر العاشق قصر مرتفع مبنيّ على ضفة نهر الإسحاقي في الجانب الغربي من نهر دجلة ، وهذا هو القصر المذكور في التواريخ باسم المعشوق ، بناه المعتمد في أواخر أيّام حكمه في سامرّاء قبل أن يتركها نهائيّا ويعيد مقرّ الخلافة إلى بغداد.

بناية القصر مستطيلة الشكل ذات طابقين وقد تحوّل الطابق التحتاني الآن إلى سراديب. طول البناية مائة وأحد وثلاثون مترا ، وعرضها ستّة وتسعون مترا

__________________

(١) الآثار العراقيّة : ٧٠.

١٠٢

غير أنّها محاطة بساحة مسوّرة ، ويشاهد في هذه الساحة بين القصر وبن السور الخارجي أعمدة مبان فرعيّة ، وقد نشر في آخر الكتاب بالصور الفوتغرافيّة التي رسمها للقصر هرتسفيلد ، وصورة منظره الجوّي حسب الصور الفوتغرافيّة الجوّيّة ، وصور مناظر أقسامها الشاخصة الآن ، وصور منظر السراديب ومناظر أقسامها الشاخصة الآن. وبإزائه بالجانب الشرقي قصر الهاروني للواثق.

وقد أشار البحتري بقصر المشعوق هذا فأنشد في قصيدته يمدح بها المعتمد على الله :

لا زال معشوقك يسقى الحيا

من كلّ آن المزن واهي الحزوق

لم أرى كالمعشوق قصرا بدا

لأعين الرائين غير المشوق

هذاك مذ برز في حسنه

سبقا ويفدا مسرع في اللحوق

١٠٣

قصر الغريب

قال في المعجم حرف السين عند ذكره سامرّاء : الغريب قصر للمتوكّل في سامرّاء أنفق عليه عشرة آلاف ألف درهم.

وقال المسعودي : قصر الغريب أنفق عليه المتوكّل عشرة آلاف ألف درهم ، وكان من طريف أبنيته وغرابة مقصوراته يسمّونه غريبا.

قصر الغرد

قال في مراصد الاطّلاع : قيل بسكون الراء ، بناء للمتوكّل بسامرّاء على دجلة. قال : وكأنّه الغرد ـ بفتح أوّله وكسر ثانيه ـ وهو كلّ ذي صوت طيّب ، واسم جبل. وقال المسعودي : قصر الغرد أنفق عليه المتوكّل ألف ألف درهم وهو كان على دجلة.

قصر القلائد

قال الطبري في حوادث سنة ٢٢٩ من تاريخه : قال عروة بن عبد العزيز الأنصاري : كنّا ليلة في هذه السنة عند الواثق فقال : لست أشتهي الليلة النبيذ ولكن هلمّوا نتحدّث الليلة ، فجلس في رواقه الأوسط في الهاروني في البناء الأوّل الذي كان إبراهيم بن رياح بناه وقد كان في أحد شقّي ذلك الرواق قبّة مرتفعة في السماء بيضاء كأنّها بيضة إلّا أنّه قدر ذراع فيما ترى العين حولها وفي وسطها ساج منقوش مغشى باللازورد والذهب ، وكانت تسمّى قبّة المنطقة ، وكان ذلك الرواق يسمّى رواق قبّة المنطقة.

١٠٤

قصر الكوير

جاء في كتاب الآثار القديمة العراقيّة (١) : الكوير بقايا العاشق قصر ويستند إلى مسنّاة قويّة يستدلّ من موقعه ومسنّاته بأنّه هو القصر الهاروني الذي بناه الخليفة هارون الواثق على دجلة وجعل فيه مجالس في دكّة شرقيّة ودكّة غربيّة حسب وصف اليعقوبي ، ومعالمه تكاد تزول بسبب تهافت الأهلين على اقتلاع الآجر من جدرانه والبلوغ في ذلك حتّى أسّسها ، ومنظر هذا القصر من الجوّ يعطي فكرة

__________________

(١) الآثار القديمة العراقيّة : ٦٩.

١٠٥

عامّة من تقسيماته الأساسيّة أنّ قاعدة الحوض الكبير المعروف في دار الآثار العربيّة ببغداد نقلت من بين أنقاض القصر المذكور.

أقول : إنّ ما ذكره من أنّ قاعدة الحوض نقل من بين أنقاض القصر المذكور لا يوافق الحقيقة لأنّي كنت ممّن حضر حين إخراج الحوض من تحت الأنقاض فكان موضوعا في قبلة بركة السباع من جهة الشرق وصرّح أنّ الكوير يقع في الجهة الشماليّة الغربيّة من بيت الخليفة.

قصر اللؤلؤ

قال في المعجم عند ذكره سامرّاء : اللؤلؤ اسم قصر للمتوكّل في سامرّاء أنفق له خمسة آلاف ألف درهم ، ومثله في مروج الذهب للمسعودي. وللمعتصم أيضا قصر سماّه اللؤلؤ.

قال الطبري : ثمّ بنى المعتصم للأفشين حيدر بن كاوس حبسا مرتفعا وسماّه لؤلؤ ، داخل الجوسق ، وهو يعرف بالأفشين ، وكان الحبس الذي بنى للأفشين شبيها بالمنارة وجعل في وسطها مقدار مجلسه ، ثمّ إنّ المعتصم قتل الأفشين خوفا منه ، كما سيأتي.

ذكر الدكتور أحمد سوسه في ريّ سامرّاء (١) : ولتموين المدينة الجديدة بالمياه السيحيّة أخرج المتوكّل نهرا من ضفة دجلة اليسرى من نقطة تقع على بعد حوالي أربعين كيلومترا من شمال مدينة تكريت ويسير هذا النهر على محاذات دجلة جنوبا مسافة حوالي ستّين كيلومترا حتّى يصل إلى المتوكّليّة. وقد سمّي النهر الجعفري ، وأنفق عليه ما يقرب من مليون دينار إلّا أنّه كان مشروعا فاشلا.

__________________

(١) ريّ سامرّاء ١ : ١٣١.

١٠٦

ويلاحظ أنّ المتوكّل كان يشرف شخصيّا على أعمال المدينة الجديدة في الماحوزة وعلى حفر النهر الذي يمدّها بالمياه ، فانتقل من سرّ من رأى وجعل مقرّه في قرية المحمّديّة ليكون قريبا من ساحة العمل فيسهل الإشراف عليه عن قرب.

أمّا موضع قرية المحمّديّة فيقول البلاذري إنّها قريبة من الماحوزة وإنّها كانت تعرف بالأيتاخيّة نسبة إلى أيتاخ التركي ثمّ سماّها المتوكّل المحمّديّة باسم ابنه محمّد المنتصر ، وكانت تعرف أوّلا بدير أبي الصفرة ؛ وهم قوم من الخوارج غير أنّ ابن سرابيون اعتبر الأيتاخيّة والمحمّديّة قريتين منفصلتين وقال : إنّهما تقعان بالقرب من بعضهما على القاطول الأعلى الكسروي الأيتاخيّة من الشمال ، والمحمّديّة جنوبها ، وذلك على مسافة قليلة من صدره. وأضاف ابن سرابيون إلى ذلك قوله : إنّه كان على القاطول جسر من الحجارة عند الأيتاخيّة وجسر من الزواريق عند المحمّديّة. وجاء ذكر المحمّديّة أيضا فيما رواه الطبري عن مقتل أبي نصر في حوادث سنة ٢٥٦.

قصر المختار

قال الحموي في المعجم في حرف الميم : المختار قصر كان بسامرّاء من أبنية المتوكّل. ذكر أبو الحسن عليّ بن يحيى المنجّم عن أبيه قال : أخذ الواثق بيدي يوما وجعل يطوف الأبنية بسامرّاء ليختار بها بيتا يشرب فيه ، فلمّا انتهى إلى البيت المعروف بالمختار استحسنه وجعل يتأمّله وقال لي : هل رأيت أحسن من هذا البناء؟ فقلت : يمتّع الله أمير المؤمنين وتكلّمت بما حضرني ، وكانت فيها صور عجيبة من جملتها صورة بيعة فيها رهبان وأحسنها صورة شهّار البيعة ، فأمر بفرش الموضع وإصلاح المجلس وحضر الندماء والمغنّون وأخذنا في الشراب ، فلمّا انتشى في الشرب أخذ سكّينا لطيفا وكتب على حائط البيت هذه الأبيات :

١٠٧

ما رأينا كبهجة المختار

لا ولا مثل صورة الشهّار

مجلس حفّ بالسرور وبالنر

جس والأنس والغنا والزمّار

ليس فيه عيب سوى أنّ ما

فيه سيفنى بنازل الأقدار

فقلت : يعيذ الله أمير المؤمنين ودولته من هذا ووجمنا. فقال : شأنكم وما فاتكم من وقتكم وما يقدّم قولي شرّا ولا يؤخّر خيرا.

قال أبو علي : فاجتزت بعد سنيّات بسرّ من رأى فرأيت بقايا هذا البيت وعلى حائط من حيطانه مكتوب هذه الأبيات :

هذي ديار ملوك دبّروا زمنا

أمر البلاد وكانوا سادة العرب

عصى الزمان عليهم بعد طاعته

فانظر إلى فعله بالجوسق الخرب

وبزركوار وبالمختار قد خلتا

من ذلك العزّ والسلطان والرتب

قال المسعودي : والمختار قصر كان بسامرّا من أبنية المتوكّل ، أنفق عليه خمسة آلاف ألف درهم.

وذكره في مراصد الاطّلاع أيضا وقال : المختار قصر كان بسامرّاء من أبنية المتوكّل ، أنفق عليه خمسة آلاف ألف ، ولم يذكر درهم أو دينار.

والواثق قبل المتوكّل ولعلّ المتوكّل زاد في بنائه أو بنى قصرا آخر باسمه أو قصّة عليّ بن يحيى كانت مع المتوكّل.

قصر المتوكّليّة

قال المسعودي في مروج الذهب : المتوكّليّة هو الذي يقال له الماحوزة ، أنفق عليه خمسين ألف ألف درهم.

وفي المعجم : المتوكّليّة مدينة بناها المتوكّل على قرب سامرّاء بنى فيها قصرا وسماّه الجعفري. ومنه يعلم أنّ المتوكّليّة اسم المدينة والجعفري اسم قصره.

١٠٨

وجاء في كتاب الآثار العراقيّة (١) : المتوكّليّة يقع في أقصى الشمال هو القصر الجعفري الذي بناه جعفر المتوكّل في المدينة الجديدة التي اختطّها وسماّها باسمه ، وإنّ أسوارها الطويلة وأطلالها الفسيحة تشاهد بوضوح من فوق التلّ الذي يعلو قنطرة الرصاص.

قصر المطيرة

قال اليعقوبي في البلدان (٢) : أقطع المعتصم الأفشين حيدر بن كاوس الأشروسني في آخر البناء شرقا على قدر فرسخين وسمّى الموضع المطيرة ، فلمّا قتل أفشين نزل فيه صالح بن وصيف إلى أن نزل فيه المعتزّ بن المتوكّل.

وقال الطبري في تاريخه في حوادث سنة ٢٢٣ : وكان قدوم الأفشين في سامرّاء ببابك الخرّمي ليلة الخميس لثلاث خلون من صفر سنة ثلاث وعشرين ومائتين فأنزله الأفشين في قصره بالمطيرة ، إلى آخر ما يأتي في محلّه.

وقال الحموي في المعجم : المطيرة ـ بالفتح ثمّ الكسر فعيلة من المطر ويجوز أن يكون مفعلة اسم المفعول من طار يطير ـ هي قرية من نواحي سامرّاء وكانت من متنزّهات بغداد وسامرّاء.

قال البلاذري : وبيعة مطيرة محدثة بنيت في خلافة المأمون ونسبت إلى مطر بن فزارة الشيباني ، وكان يرى رأي الخوارج ، وإنّما هي المطريّة فغيّرت فقيل المطيرة ، وقد ذكرها الشعراء في أشعارهم فمن ذلك قول بعضهم :

سقيا ورعيا للمطيرة موضعا

أنواره ظهرت وخيره مشهور

__________________

(١) الآثار العراقيّة : ٦٩.

(٢) البلدان : ٢٦.

١٠٩

وترى البهار معانقا لبنفسج

وكأنّ ذلك زائر ومزور

وكأنّ نرجسها عيون كحّلت

بالزعفران جفونها الكافور

تحي النفوس بطيبها فكأنّها

طعم الرضاب تنالها المهجور

منقول عن كتاب آثار البلاد وأخبار العباد للقزويني أنّ المطيرة من قرى سامرّاء أشبه أرض الله بالجنان من لطافة الهواء وعذوبة الماء وطيب التربة وكثرة الرياحين وهي من متنزّهات بغداد يأتيها أهل الخلاعة ، وفي وصفها قال بعض الشعراء :

سقى الله المطيرة ذات الظلّ والشجر

ودير عبدون هطّال من المطر

قصر المحمّديّة

بناه المتوكّل في سامرّاء ؛ قاله الطبري ، وكأنّه سماّه باسم ولده محمّد المنتصر.

قصر المحدث

قال الطبري في سيرة المنتصر : إنّ محمّدا المنتصر توفّي في قصر المحدث بسامرّاء.

قصر الوحيد

قال المسعودي في مروج الذهب : اسم قصر بسامرّاء للمتوكّل وأنفق عليه ألفي ألف درهم.

قصر الهاروني

قال في المعجم : اسم قصر قرب سامرّاء ينسب إلى هارون الواثق بالله وهو على دجلة بينه وبين سامرّاء ميل ، وبإزائه بالجانب الغربي المعشوق.

١١٠

وقال في المراصد : الهاروني قصر قرب سامرّاء ينسب إلى هارون الواثق بالله على شاطئ دجلة في شرقيها وبإزائه في الجانب الغربي المعشوق.

قد أوردنا لك جملة وافية من القصور الجليلة في سامرّاء ممّا وصلت إليه يد التتبّع وظفر نابها ، وحسب ما ذكره اليعقوبي في البلدان (١) بقوله : وصيّر إلى كلّ رجل من أصحابه بناء قصر فجعلوا يبنون القصور في أقطاعهم :

منها قصر أيتاخ الذي كان من الأتراك وكان مملوكا لسلام بن الأبرش اشتراه المعتصم فعلا قدره عنده.

وقصر وصيف الذي كان من الأتراك وكان مملوكا لآل نعمان وكان زرّادا ، اشتراه المعتصم فصار من قوّاد جيوشه ، وسنتلو عليك نبذة من أخباره في محلّه.

وقصر سيما الدمشقي وكان مملوكا لذي الرياستين اشتراه المعتصم فحظى عنده.

وقصر الفضل بن مروان شاعر المعتصم ، وكان وزيره ، وكان منحرفا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وقصر محمّد بن عبد الملك الزيّات المعروف.

وقصر ابن أبي دؤاد القاضي ، وسنتلو عليك أخباره في محلّه.

وقصر أبي الوزير أحمد بن خالد ، وقصره كان معروفا بالوزيري.

وقصر الحسن بن سهل أخي الفضل بن سهل ذي الرياستين.

قصر إسحاق بن إبراهيم الذي كان من ندماء المأمون والمعتصم ، وله نوادر كثيرة.

قصر إسحاق بن يحيى بن معاذ.

وقصر أبي أحمد بن رشيد.

__________________

(١) البلدان : ٢٤.

١١١

وقصر هاشم ابن بانيجور.

وقصر عجيف بن عنبسة من أعاظم الأتراك ، قتله المعتصم.

وقصر الحسن بن علي المأموني.

وقصر هارون بن نعيم.

وقصر حزام بن غالب ويعقوب أخيه.

وقصر دليل بن يعقوب النصراني.

وقصر جعفر الخيّاط ، وقصر العبّاس بن علي المهدي ، وقصر عبد الوهّاب ابن علي المهدي ، وقصر المبارك المغربي ، وقصر يحيى بن أكثم القاضي ، وقصر بختيشوع النصراني ، وقصر إبراهيم بن رياح ، وقصر موسى بغا الكبير ، وقصر مسرور الخادم ، وقصر موسى البغا الصير ، وقصر قرقاس الخادم ، وقصر ثابت الخادم ، وقصر سمانة الخادم ، وقصر برمش الخادم ، وقصر أحمد بن الخطيب ، وقصر الفتح بن خاقان الوزير ، وقصر محمّد بن موسى المنجّم ، وغير ذلك من قصور القوّاد والكتّاب والخزريّة والهاشميّة الزيديّة والأتراك وأخلاط الناس كلّ هذه كانت من الأبنية الجليلة في سرّ من رأى.

١١٢

تاريخ المتوكّل وآثاره

قال السيوطي في تاريخ الخلفاء : المتوكّل على الله أبو الفضل جعفر بن المعتصم بن هارون الرشيد. أمّه أمّ ولد اسمها شجاع. ولد سنة خمس وقيل سبع ومأتين ، وبويع له في ذي الحجّة سنة اثنتين وثلاثين ومأتين بعد الواثق ، فأظهر الميل إلى السنّة ونصر أهلها ثمّ قتله ابنه المنتصر في خامس شوّال سنة سبع وأربعين ومأتين في مجلس لهوه ، كانت خلافته أربع عشر سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيّام ، وكان عمره نحو أربعين سنة.

أقول : ولقد ذكرنا ما جرى بين المتوكّل ومولانا عليّ الهادي عليه‌السلام في الجزء الثالث من هذا الكتاب بصورة تفصيليّة والكتاب مطبوع منتشر بحمد الله والمنّة.

وكان المتوكّل عاشر خلفاء العبّاسيّين.

روى ابن شهر آشوب في مناقبه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «عاشرهم أكفرهم» يعني بذلك المتوكّل لكثرة بغضه وعداوته على أمير المؤمنين عليه‌السلام.

قال السيوطي في تاريخ الخلفاء : وفي سنة ست وثلاثين أمر بهدم قبر الحسين وهدم ما حوله من الدور ، وأن يعمل مزارع ، ومنع الناس من زيارته ، وخرّب القبر فبقي صحراء. وكان المتوكّل معروفا بالتعصّب ، فتألّم المسلمون من ذلك ، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد ، وهجاه الشعراء ، فممّا قيل في ذلك :

بالله إن كانت بنو أميّة قد أتت

قتل ابن بنت نبيّها مظلوما

١١٣

فلقد أتاه بنو أبيه بمثله

هذا لعمري قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتله فتتّبعوه رميما

وذكر الجزري في الكامل ما هذا لفظه : وفي هذه السنة ـ يعني سنة ٢٣٦ ـ أمر المتوكّل بهدم قبر الحسين بن عليّ عليهما‌السلام وهدم ما حوله من المنازل والدور ، وأن يبذر ، ويسقى موضع قبره ، وأن يمنع الناس من إتيانه ، فنادى بالناس في تلك الناحية : من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة أيّام حبسناه في المطبق ، فهرب الناس وتركوا زيارته وخرب وزرع.

وكان المتوكّل شديد البغض لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ولأهل بيته ، وكان يقصد من يبلغه عنه أنّه يتولّى عليّا وأهل بيته يأخذ المال والدم ، وكان من جملة ندمائه عبادة المخنّث ، وكان يشدّ على بطنه تحت ثيابه مخدّة ويكشف رأسه وهو أصلع ويرقص بين يدي المتوكّل والمغنّون يغنّون : قد أقبل الأصلع البطين خليفة المسلمين ، يحكي بذلك عليّا عليه‌السلام ، والمتوكّل يشرب ويضحك ، ففعل ذلك يوما والمنتصر حاضر ، فأومأ إلى عبّادة يتهدّده فسكت خوفا منه ، فقال المتوكّل : ما حالك؟ فقام وأخبره. فقال المنتصر : يا أمير المؤمنين ، إنّ الذي يحكيه هذا الكلب ويضحك منه الناس هو ابن عمّك وشيخ أهل بيتك وبه فخرك ، فكل أنت لحمه إذا شئت ولا تطعم هذا الكلب وأمثاله منه. فقال المتوكّل للمغنّين : غنّوا جميعا :

غار الفتى لابن عمّه

رأس الفتى في حرّ أمّه

وكان هذا من الأسباب التي استحلّ بها المنتصر قتل المتوكّل.

وقيل : إنّ المتوكّل كان يبغض ممن تقدّمه من الخلفاء المأمون والمعتصم والواثق في محبّتهم عليّ وأهل بيته وإنّما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعليّ عليه‌السلام منهم عليّ بن الجهم الشاعر من بني سامة بن لؤي ، وعمرو بن فرج ، وأبو السمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالي بني أميّة ، وعبد الله بن

١١٤

محمّد بن داود الهاشمي المعروف بابن أترجة ، وكانوا يخوّفونه من العلويّين ويشيرون عليه بإبعادهم والإعراض عنهم والإسائة إليهم ، ثمّ حسّنوا الوقيعة في أسلافهم الذين يعتقد الناس علوّ منزلتهم في الدين ، ولم يبرحوا حتّى ظهر منه ما كان.

أقول : إنّ أمر المتوكّل بهدم قبر مولانا أبي عبد الله عليه‌السلام ممّا اتفق عليه المؤرّخون مثل الطبري ، ذكره في حوادث سنة ٢٣٦ ، وابن الأثير وأبو الفداء والقرماني وصاحب روضة الصفا وجلال الدين السيوطي في تاريخ الخلفاء وغيرهم.

تفسير طيالسة النصارى بأمر المتوكّل

ذكر الطبري في حوادث سنة ٢٣٥ من تاريخه ما حاصله : إنّ المتوكّل أمر النصارى وأهل الذمّة كلّهم بلبس الطيالسة العسليّة والزنانير وركوب السروج الخشبيّة وبتيصير كرتين (١) على مؤخّر السروج ، وبتيصير الزرود على قلانس من لبس منهم قلنسوة مخالفة لون قلنسوة التي يلبسها المسلمون ، وبتيصير رقعتين على ما ظهر من لباس مماليكهم مخالف لونهما لون الثوب الظاهر الذي عليه ، وأن تكون إحدى الرقعتين بين يديه عند صدره والأخرى منهما خلف ظهره ، وتكون واحدة من الرقعتين قدر أربع أصابع ولونهما عسليّان ، ومن لبس منهم عمامة فكذلك يكون لونها لون العسلي. ومن خرجت من نسائهم فلا تبرز إلّا في إزار عسليّ ، وأمر بأخذ مماليكهم بلبس الزنانير وبمنعهم لبس المناطق ، وأمر بهدم بيعهم المحدثة ، ويأخذ العشر من منازلهم ، وأمر أن يجعل على أبواب دورهم صور الشياطين من خشب مسمورة فرقا بين منازلهم ومنازل المسلمين ، ونهى أن

__________________

(١) دو پارچه سفيد. (برهان قاطع)

١١٥

يستعان بهم في الدواوين وأعمال السلطان ، ونهى أن يتعلّم أولادهم في مكاتيب المسلمين ، ولا يعلّمهم مسلم ، ونهى أن يظهروا صليبا ، وأن يشمعلوا في الطريق ، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض لئلّا تشبه قبور المسلمين ، ونهى أن يركبوا الفرس أو البرذون ، إنّما يركبون البغال والحمير ، وكتب بذلك إلى عمّاله في الآفاق.

عقد البيعة لبنيه الثلاثة

قال الطبري : وفي هذه السنة عقد المتوكّل البيعة لبنيه الثلاثة : لمحمّد وسماّه المنتصر ، وللزبير وسماّه المعتزّ ، ولإبراهيم وسماّه المؤيّد.

وكان ما ضمّ إلى ابنه المنتصر أفريقيّة والمغرب كلّه من عريش مصر إلى حيث بلغ سلطانه من المغرب ، وجند قنسرين والعواصم والثغور والشاميّة والجزيرة وديار مضر وديار ربيعة والموصل وهيت وعانات والخابور والقرقيسا وتكريت وطساسيج السواد وكور دجلة والحرمين واليمن وعكّ وحضر موت واليمامة والبحرين والسند وكور الأهواز والمستقلّات بسامرّاء وماء الكوفة وماء البصرة وصدقات العرب بالبصرة وأصبهان وقم وقاشان وقزوين وأمور الجبل وضياع المنسوبة إلى الجبال.

وكان ما ضمّ إلى ابنه المعتزّ كور خراسان وما يضاف إليها وطبرستان والري وأرمنيّة وآذربيجان وكور فارس.

وضمّ إلى ابنه المؤيّد جند دمشق وجند حمص وجند الأردن وجند فلسطين ، وكتب إليهم كتابا بأنّ الخلافة من بعده لمحمّد المنتصر ، ثمّ المؤيّد ، وشرط لهم شروطا ذكرها الطبري ، وكتب هذا الكتاب في أربع نسخ : نسخة منها في الخزانة ، والثاني عند المنتصر ، والثالث عند المعتزّ ، والرابع عند المؤيّد.

١١٦

أقول : لم تنقضي الأيّام والليالي إلّا أنّ الخلافة بعد المتوكّل عادت ألعوبة بين الأتراك فمات المنتصر بعد ستّة أشهر ، وقتل المعتزّ ، ولم يعلم خبر عن المؤيّد ، إنّ الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

شغف المتوكّل بالجواري

ذكر ابن عبد ربّه في الجزء الثالث من العقد الفريد : إنّ عليّ بن الجهم قال : دخلت يوما على المتوكّل فقال : يا علي ، قلت : لبّيك يا أمير المؤمنين ، قال : دخلت الساعة إلى قبيحة ؛ وهي أمّ المعتزّ من أحسن النساء جمالا ، وقد كتبت على خدّها بالمسك اسمي ، والله ما رأيت سوادا في بياض أحسن منه في ذلك الخدّ ، فقل فيه شعرا. فقلت : يا أمير المؤمنين ، أمظلومة معي؟ قال : نعم خلف الستارة ، فدعوت بدواة فبادرتني بالقول فقالت قبل أن أتكلّم :

وكاتبة بالمسك في الخدّ جعفر

بنفسي بخطّ المسك من حيث أثّرا

ئن أودعت سطرا من المسك خدّها

لقد أودعت قلبي من الحبّ أسطرا

فيا من لمملوك تملّك مالكا

مطيعا له فيما أسرّوا أظهرا

ويا من مناها في السرائر جعفر

سقى الله من صوب الغمامة جعفرا

قال علي بن الجهم : فأفحمت ولم أنطق وتغلّبت على خواطري فما قدرت على حرف أقوله ، فضحك المتوكّل.

قال في تاريخ الخلفاء : أهديت إلى المتوكّل جارية يقال لها فضل ، فقال لها : شاعرة أنت؟ قالت : هكذا زعم من باعني واشتراني. فقال لها : أنشدينا من شعرك ، فأنشدته :

استقبل الملك إمام الهدى

عام ثلاث وثلاثينا

١١٧

خلافة أفضت إلى جعفر

وهو ابن سبع بعد عشرينا

إنّا لنرجو يا إمام الهدى

أن تملك الملك ثمانينا

لا قدّس الله امرء لم يقل

عند دعائي لك آمينا

وقال فيه أيضا : أهدي إلى المتوكّل جارية يقال لها محبوبة قد نشأت بالطائف وتعلّمت الأدب وروت الأشعار فأغري المتوكّل بها ، ثمّ إنّه غضب عليها ومنع جواري قصر من كلامها.

قال علي بن الجهم : فدخلت عليه يوما فقال لي : قد رأيت محبوبة في منامي كأنّي قد صالحتها وصالحتني. قال : فقلت : خيرا يا أمير المؤمنين ، فقال : قم بنا لننظر ما هي عليه ، فقمنا حتّى أتينا حجرتها فإذا هي تضرب بالعود وتقول :

أدور في القصر لا أرى أحدا

أشكو إليه ولا يكلّمني

حتّى كأنّي أتيت معصية

ليست لها توبة تخلّصني

فهل لي شفيع إلى ملك

قد زارني في الكرى وصالحني

حتّى إذا ما الصباح لاح لنا

عاد إلى هجره فصادمني

فصاح المتوكّل فخرجت وأكبّت على رجليه تقبّلهما ، فقالت : يا سيّدي رأيتك في ليلتي هذه كأنّك قد صالحتني. قال : وأنا والله قد رأيتك ، فردّها إلى مرتبتها. فلمّا قتل المتوكّل صارت إلى بغا.

وفي محاضرات الراغب الإصبهاني إنّه قال : افتصد المتوكّل فلم يبق أحد من جواريه وحشمه إلّا أرسلت إليه بهديّة ، فأخبرت قبيحة بذلك معشوقته فتزيّنت ودخلت عليه فأنشدته :

طلبت هديّة لك باحتيال

على ما كان من حسبي ونسبي

فلمّا لم أجد شيئا نفيسا

يكون هديّتي أهديت نفسي

فقال المتوكّل : نفسك والله أحبّ إليّ.

١١٨

نبذة من نوادر المتوكّل

قال السيوطي في تاريخ الخلفاء : إنّ عليّ بن الجهم دخل على المتوكّل وبيده درّتان يقلّبهما ، فأنشده قصيدة ، فرماه إليه بدرّة ، فكان عليّ بن الجهم يقلّبها ، فقال له المتوكّل : تقصر بها؟! والله هي خير من مائة ألف. فقال : لا ، ولكنّي فكّرت في أبيات أعملها آخذ بها الأخرى ، فقال : قل ، فقال :

بسرّ من رأى إمام عدل

تغرق من بحره البحار

الملك فيه وفي بيته

ما اختلف الليل والنهار

يرجى ويخشى لكلّ خطب

كأنّه جنّة ونار

يداه في الجود ضرّتان

عليه كلتاهما تغار

لم تأت منه اليمين شيئا

إلّا أتت مثلها يسار

فرمى إليه المتوكّل بالدرّة الأخرى.

ذكر ابن عبد ربّه في الجزء الثالث من العقد الفريد عن الحسين بن الضحّاك قال : دخلت على جعفر المتوكّل وشفيع الخادم ينضّد وردا بين يديه ولم يعرف في ذلك الزمان خادم كان أحسن منه ولا أجمل ، وعليه ثياب مورده ، فأمره أن يسقيني ويغمز كفّي ، ثمّ قال لي : يا حسين ، قل في شفيع ، وقد كان حيّا المتوكّل بوردة ، فجعل المتوكّل يشرب ويشمّ الوردة ، فقلت :

فيا درّة البيضاء حيّا بأحمر

من الورد يمشي في قراطف كالورد

ويغمز كفّي عند كلّ تحيّة

وكفّيه تستدعي الشجى إلى الورد

سقاني بكفّيه وعينيه شربة

فأذكر في ما قد نسيت من العهد

سقى الله دهرا لم أبت فيه ليلة

من الدهر إلّا من حبيب على عهد

فأمر المتوكّل شفيعا أن يسقيني وبعث معه إليّ أتحافا في عنبر سماّها.

١١٩

وقال الأنماطي : إنّ المتوكّل كان طلب من محمود الورّاق جارية مغنّية فأعطاه بها عشرة آلاف وقال لها : كنّا أعطينا مولاك بك عشرة آلاف وقد اشتريناك من ميراثه بخمسة آلاف. قالت : يا أمير المؤمنين ، إذا كانت الخلفاء تتربّص بلذّاتها المواريث فستشترى بأرخص ممّا اشتريت.

قال في مروج الذهب : إنّ المتوكّل قال لأبي العنبس : أخبرني عن حمارك ووفاته وما كان من شعره في الرؤيا التي رأيتها؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، حماري كان أعقل من القضاة ولم يكن له زلّة ولا عيب فاعتلّ على غفلة فمات منها فرأيته فيما يرى النائم ، فقلت له : يا حماري ، ألم أبرد لك الماء وأنق لك الشعير وأحسن إليك جهدي ، فلم متّ على غفلة؟ قال : نعم ، كان في اليوم الذي وقفت على فلان الصيدلاني تكلّمه في كذا وكذا مرّت بي أتان حسناء فرأيتها فأخذت بمجامع قلبي فعشقتها واشتدّ وجدي بها فمتّ كمدا متأسّفا. فقلت له : يا حماري ، فهل قلت في ذلك شعرا؟ قال : نعم ، فأنشدني :

هام قلبي بأتان

عند باب الصيدلاني

يتّمتني يوم (١) رحنا

بثناياها الحسان

وبخدّين أسيلين

كلون الشّنقراني

فبها متّ ولو عشت

إذا طال هواني

قال : فقلت : يا حماري ، فما الشنقراني؟ فقال : هذا من غريب الحمير.

فطرب المتوكّل وأمر الملهين والمغنّين أن يغنوا ذلك اليوم بشعر الحمار ، وفرح في ذلك اليوم فرحا وسرورا لم ير مثله. وزاد في تكرمة أبي العنبس وجائزته.

قال المسعودي : ولم يكن المتوكّل ممّن يوصف في عطائه وبذله بالجود ولا تبرّكه

__________________

(١) بدلال. مروج الذهب ج ٥ ص ١١.

١٢٠