إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٣

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٣

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٧

وعين من الأمراء المقدمين أحد عشر أميرا ومن الأمراء الطبلخانات والعشروات زيادة عن ستين أميرا حتى عدت هذه التجريدة من نوادر التجاريد. وقد بلغ السلطان أن ابن عثمان جمع من العساكر ما لا يحصى ، فلما عرض الجند وعين الأمراء أخذ في أسباب تفرقة النفقة ، ثم إنه عين ثلاثة من الخاصكية بأن يسيروا على الهجن لكشف أخبار ابن عثمان وما يكون من أمره واستحثهم على الخروج ورد الجواب عليه بسرعة.

وفيه جاءت الأخبار من حلب بأن عسكر ابن عثمان قد استولى على قلعة آياس من غير قتال ولا مانع.

وفي جمادى الآخرة بعث السلطان نفقات الأمراء المقدمين والعشراوات فبلغت النفقة على الأمراء خاصة دون الجند مائة ألف دينار وثلاثة آلاف دينار ، ثم أنفق على الجند على العادة فكانت جملة النفقة على الأمراء والجند نحوا من ألف ألف دينار حتى عد ذلك من النوادر ولم يسمع فيما تقدم من الدول الماضية أن أحدا من السلاطين فعل مثل ذلك ، وكانت نفقة أزبك الأمير الكبير وحده ثلاثين ألف دينار ، وكانت عادة نفقة الأتابكية إلى دولة الظاهر برقوق عشرة آلاف دينار ولم يسمع بأوسع من هذه النفقة قط فكان كما قيل :

تهب الألوف ولا تهاب ألوفها

هان العدو عليك والدينار

فلما أخذ المماليك النفقة أطلقوا في الناس النار وأخذوا البغال والخيول حتى أكاديش الطواحين وحصل منهم الضرر الشامل في حق التجار وغيرهم.

وفيه كان خروج أزبك أمير كبير ومن عين معه من العسكر وكان يوما مشهودا ، واستمرت الأطلاب تنسحب من إشراق الشمس إلى ما بعد الظهر ، وخرج العسكر وهم لابسون آلة السلاح حتى عد ذلك من النوادر. وكان طلب أزبك أمير كبير وقانصوه خمسمائة غاية في الحسن حتى قيل كان مصروف طلب قانصوه خمسمائة نحوا من ثمانين ألف دينار ، ثم إن الأمراء برزوا ونزلوا بالريدانية واستمروا هناك إلى أن رحلوا ولم تخرج من مصر تجريدة أعظم من هذه لا في زمن الظاهر برقوق ولا غيره.

وفي رجب جاءت الأخبار من حلب بأن ابن عثمان بعث عدة مراكب من البحر وهي مشحونة بالسلاح والعسكر وقد وصلت إلى جهة باب الملك ليقاطع بها على العسكر المصري ، فما تم له ذلك وكانت النصرة لعسكر مصر كما سيأتي ذكره.

٨١

وفي رمضان جاءت الأخبار أن أزبك الأمير الكبير ملك باب الملك واستخلصه من أيدي عسكر ابن عثمان بعد أن أتوا إليه في ستين مركبا وهي مشحونة بالسلاح والمقاتلين ، فقلق العسكر من ذلك وانقطعت قلوبهم وظنوا أنهم المأخوذون ، فبينما هم على ذلك إذ بعث الله تعالى بريح عاصفة فغرق غالب تلك المراكب في البحر المالح ، والذي فر من البحر من العسكر العثماني وطلع إلى البر قتله العسكر المصري وكانت النصرة لهم على العثمانية على غير القياس.

وفيه ورد الخبر من أزبك الأمير الكبير بأنه في ثامن رمضان وقعت معركة عظيمة بين عسكر مصر وعسكر ابن عثمان فقتل من الفريقين ما لا يحصى ، وكان ممن قتل من أمراء مصر دولات باي الحسني رأس نوبة ثاني أصيب بمدفع ، وقتل من مماليك السلطان عدة وافرة ومن العسكر العثماني أكثر ، وقد هزموا العثمانية وغنم منهم عسكر مصر أشياء كثيرة من خيول وسلاح وغير ذلك ، فلما سمع السلطان بهذا الخبر أمر بدق البشائر بالقلعة سبعة أيام.

وفي شوال وصل مغلباى البجمقدار أحد الأمراء العشراوات من مماليك السلطان وصحبته عدة رؤوس قطعت من عسكر ابن عثمان وكانت نحوا من مائتي رأس ، فشق مغلباي من القاهرة وقدامه تلك الرؤوس وهي على الرماح وكان له يوم مشهود فخلع عليه السلطان ونزل في موكب حافل.

وفيه جاءت الأخبار بأن العسكر العثماني بعد ما حصلت هذه الكسرة عاد أيضا إلى آدنة وأن العسكر المصري شرع في حصارهم بها ، وقد تمادى الأمر في ذلك حتى أخذت بعد مضي ثلاثة أشهر وقتل في مدة هذه المحاصرة من الفريقين ما لا يحصى وآل الأمر إلى أخذها بالأمان وجرى في ذلك أمور يطول شرحها اه.

سنة ٨٩٤

ذكر عود الأمير أزبك إلى البلاد المصرية

وإرسال تجريدة إلى البلاد الحلبية

لمجيء الأخبار برجوع العساكر العثمانية

قال ابن إياس : في صفر دخل الأمير الكبير أزبك ومن كان معه مسافرا في التجريدة من الأمراء وبقية العسكر وكان لهم يوم مشهود ، ومن العجائب أنه في حالة دخولهم إلى

٨٢

القاهرة أشيع بين الناس عودهم إلى حلب عن قريب لأن عسكر ابن عثمان قد استولى على سيس وعلى طرسوس وغير ذلك من البلاد الحلبية ، وحضر مع الأمير أزبك جماعة كثيرة من عسكر ابن عثمان أتوا طائعين باختيارهم فأنزلهم السلطان في ديوانه وقرر لهم الجوامك وهم إلى الآن باقون في الديوان يسمون العثمانية.

وفي ربيع الآخر جاءت الأخبار بأن شاه بضاع بن دلغادر حضر إلى الأبلستين ومعه طائفة من عسكر ابن عثمان وكبس على أخيه علي دولات وقبض على اثنين من أولاده.

وفيه قرر السلطان مملوكه قانصوه الغوري في حجوبية حلب عوضا عن باكير ابن صالح الكردي الذي نقل إلى نيابة قلعة الروم ، وقانصوه هذا هو الذي تولى السلطنة فيما بعد.

وفيه جاءت الأخبار من عند نائب حلب بأن عسكر ابن عثمان لما بلغهم رجوع العسكر المصري طمعوا في أخذ البلاد الحلبية وأرسل يستحث السلطان في خروج تجريدة بسرعة لحفظ مدينة حلب ، فلما بلغ السلطان ذلك عرض العسكر وعين تجريدة وكتب عدة وافرة من الجند الذين كانوا مقيمين في القاهرة ، وجعل الباش على هذه التجريدة قانصوه الشامي أحد مقدمي الألوف ومن الأمراء الطبلخانات يشبك رأس نوبة ثاني وغيرهم ، ثم أنفق على الأمراء وأمرهم بسرعة الخروج إلى التجريدة من غير إهمال.

وفي جمادى الآخرة رسم السلطان بسلخ شخص يسمى أحمد بن الديوان من أهل حلب فسلخه في المقشرة وسلخ معه والده محمد وأشهروهما في القاهرة على جمال ، وكان أحمد بن الديوان من أعيان الناس الرؤساء بحلب وكان من أخصاء السلطان فنقل أنه كاتب ابن عثمان في شيء من أخبار المملكة ، فلما بلغ السلطان ذلك تغير خاطره عليه وجرى عليه أمور يطول شرحها وكانت من الوقائع المهولة.

وفيه خرجت التجريدة ومن عين بها من الأمراء والعسكر وكان يوما مشهودا. قيل قد بلغت النفقة على الأمراء والجند في هذه التجريدة نحوا من مائة وخمسين ألف دينار غير جامكية أربعة أشهر وثمن الجمال وكان السلطان دريا في خروج هذه التجريدة لصون مدينة حلب.

٨٣

وفيه قدم قاصد من عند داود باشا وزير ابن عثمان يشير على السلطان بأن يبعث قاصدا إلى ابن عثمان لعل أن يكون الصلح ، فرد له الجواب : إذا أطلق تجار المماليك الذين عنده وبعث مفاتيح القلاع التي أخذها كاتبناه في أمر الصلح وأرسلنا له قاصدا.

وفي شعبان حضر إسكندر بن جيحان أحد الأمراء المقدمين لابن عثمان وقد أسره بعض النواب وكان علي دولات هو القائم في القبض عليه فكان له بالقاهرة لما دخل يوم مشهود ، وأسر معه جماعة من العثمانية ، فلما عرضوا على السلطان رسم بسجنهم.

سنة ٨٩٥ ذكر عود شاه بضاع إلى طاعة الدولة المصرية

قال ابن إياس : في المحرم قدم إلى القاهرة شاه بضاع بن دلغادر ، وقد تقدم القول بأنه هرب من قلعة دمشق وكان مسجونا بها ، فلما هرب توجه الى ابن عثمان والتف على عسكره وملك الأبلستين واستمر في عصيانه مدة طويلة ، ثم وقع بينه وبين ابن عثمان فتنة وقصد قتله ففر منه والتجأ إلى السلطان ، فلما جاء إليه أكرمه السلطان وخلع عليه ثم بعد مدة أرسله إلى منفلوط ليقيم بها وأجرى عليه ما يكفيه فعد ذلك من جملة سعد السلطان.

ذكر مجيء العساكر العثمانية إلى كولك وإرسال المصريين تجريدة لهم

قال ابن إياس : في ربيع الأول جاءت الأخبار من عند علي دولات بأن ابن عثمان اهتم في تجهيز عساكر وقد وصل أوائلهم إلى كولك ، فلما بلغ السلطان ذلك تنكّر وجمع الأمراء وأخذ رأيهم في ذلك فوقع الاتفاق على خروج تجريدة صحبة أمير كبير.

ثم أخذ السلطان في جمع الخمس من نواحي الشرقية كما فعل عند خروج التجريدة الماضية لأجل فرسان العرب لتخرج صحبة أمير كبير باش العسكر ، فحصل للمقطعين بسبب ذلك غاية الأذى ، وقطع الخمس من خراجهم مرتين.

٨٤

وفيه عرض السلطان أولاد الناس أصحاب الجوامك من ألف درهم فما دونه ، وكان أمرهم أن يتعلموا رمي البندق الرصاص قبل ذلك ، فلما عرضهم ورموا قدامه كتبهم في التجريدة وأنفق عليهم كل واحد ثلاثين دينارا وكل اثنين أشركهم في جمل أعطاه لهما وخرجوا صحبة التجريدة. وفيه نادى السلطان للعسكر بالعرض وأشيع أمر التجريدة إلى ابن عثمان ، فلما عرضهم السلطان بادر إليهم بتفرقة النفقة ، ثم وقع في ذلك اليوم بعض اضطراب من المماليك الجلبان وقام السلطان من الدكة ونزل وقال : أنا أنزل لكم عن السلطنة وأمضي إلى مكة ، فتلطف به الأمراء ثم آل الأمر بعد ذلك إلى أن أنفق عليهم لكل مملوك مائة دينار على العادة وجامكية أربعة أشهر وثمن جمل سبعة أشرفية ، فأنفق في ذلك على عدة طباق واستمر على ذلك حتى أكمل النفقة ، ثم حملت نفقة الأمراء المقدمين والطبلخانات والعشراوات وقد تعينوا للسفر أجمعين ولم يبق بمصر سوى أقبر دي الدوادار وأزدمر تمساح فكانوا على الحكم الأول كما تقدم ، فبلغت النفقة على الأمراء والجند نحوا من خمسمائة ألف دينار. وكانت هذه التجريدة آخر تجاريد الأشرف قايتباي إلى ابن عثمان وغيره ولم يجرد بعدها أبدا ، ثم نادى للعسكر بأن لا يخرج منهم أحد قبل الباش فما سمعوا له شيئا.

وفي خامس عشر ربيع الآخر خرج أمير كبير أزبك من القاهرة قاصدا البلاد الحلبية وصحبته الأمراء والعسكر وكانت عدتهم عشرة وهم على ما ذكرناه في التجريدة الماضية ، وأما الأمراء العشراوات والطبلخانات فكانوا زيادة على الخمسين أميرا ، وأما المماليك السلطانية فكانوا زيادة عن أربعة آلاف مملوك فكان لهم يوم مشهود حتى رجت لهم القاهرة ، واستمرت الأطلاب تنسحب من أطراف الشمس إلى قريب الظهر وخرج مماليك الأمراء وهم باللبس الكامل من آلة السلاح فعدت هذه التجريدة من نوادر التجاريد ، وقد طال أمر الفتن بين السلطان وبين ابن عثمان والأمر لله.

وفي رجب وصل هجان من عند العسكر وأخبر بأن العسكر قصد التوجه إلى بلاد ابن عثمان وقد أرسلوا ماماي الخاصكي رسولا إلى ابن عثمان ، فلما أبطأ عليهم خبره زحف العسكر المصري على أطراف بلاد ابن عثمان ووصلوا إلى قيسارية وفتكوا بها ونهبوا عدة من ضياعها وأحرقوها ، ثم فعلوا مثل ذلك بعدة أماكن من بلاد ابن عثمان وانقسموا فرقتين فرقة إلى (ماوندة) وفرقة مقيمة بكولك ينتظرون ما يكون من هذا الأمر.

٨٥

وفي رمضان حضر هجان وأخبر بأن العسكر على حصار قلعة كوارة ومات في مدة المحاصرة قانصوه بن فارس المعروف بقرا وهو من مماليك السلطان وكان من الأمراء العشراوات ، ثم أخذت هذه القلعة فيما بعد وهدمت إلى الأرض.

وفي ذي القعدة جاءت الأخبار بأخذ قلعة كوارة من يد عسكر ابن عثمان فسر السلطان بذلك ، ثم بعد مدة وردت عليه الأخبار بأن العسكر قلق وهو طالب المجيء إلى مصر فتنكد السلطان لذلك وأرسل عدة مراسيم للأمراء بالإقامة فما سمعوا له شيئا. ثم جاءت الأخبار بأن أزبك أمير كبير قد دخل إلى الشام هو والأمراء والنواب والعسكر قاصدين الدخول إلى القاهرة من غير إذن وقد جاؤوا طالبين وقوع فتنة وصرحوا بذلك ، ثم نودي من قبل السلطان بأن العسكر الذي قدم من التجريدة يصعد القلعة فامتنع المماليك من ذلك ولم يصعدوا إلى القلعة.

سنة ٨٩٦

ذكر الصلح بين السلطان بايزيد

وبين السلطان قايتباي

قال ابن إياس : في جمادى الآخرة حضر إلى الأبواب الشريفة قاصد من عند ابن عثمان صحبة ماماي الخاصكي الذي توجه قبل تاريخه إلى ابن عثمان ، وكان هذا القاصد الذي حضر من أجلّ قضاة ابن عثمان وكان متوليا القضاء بمدينة بروسة وهو شخص من أهل العلم يقال له الشيخ علي جلبي ، فلما صعد إلى القلعة أكرمه السلطان وبالغ في تعظيمه جدا وحضر على يديه مفاتيح القلاع التي كان ابن عثمان قد استولى عليها فسلمها إلى السلطان ، وأشيع أمر الصلح فأنزله السلطان في مكان أعد له على غاية الإكرام.

ثم إن السلطان أطلق إسكندر بن ميخال [فيما سبق سماه ابن جيحان ولعل ما هنا أصح] الذي كان أسر وسجن كما تقدم وأقام مدة طويلة ، فلما أطلقه السلطان أحسن إليه وكساه وكذلك أطلق الأسرى الذين كانوا مأسورين من عسكر ابن عثمان وكساهم وأحسن إليهم وتوجهوا إلى بلادهم صحبة القاصد لما سافر. هذا ما كان من ملخص أمر الصلح بين السلطان وبين ابن عثمان.

٨٦

ذكر وقوع فتنة بين نائب حلب وبين أهلها

قال ابن إياس : في ذي القعدة جاءت الأخبار من حلب بوقوع فتنة كبيرة بين نائب حلب وبين جماعة من أهلها ، وقتل في هذه الفتنة من مماليك أزدمر نائب حلب سبعة عشر مملوكا وقتل من أهل حلب نحو من خمسين إنسانا وأحرقوا جماعة من حاشية النائب بالنار وكادت حلب أن تخرب عن آخرها لو لا أن قانصوه الغوري حاجب الحجاب بحلب قام في إخماد هذه الفتنة حتى سكنت. ولما سمع السلطان بذلك عين ماماي الخاصكي بأن يتوجه إلى حلب ليكشف عن هذه الفتنة وأخذ في أسباب السفر إلى حلب.

سنة ٨٩٩

ذكر وفاة أزدمر بن مزيد نائب حلب

قال ابن إياس : في صفر جاءت الأخبار من حلب بوفاة أزدمر نائب حلب قريب السلطان ، وكان إنسانا حسنا لا بأس به وتولى عدة وظائف سنية منها نيابة طرابلس ونيابة صفد ونيابة حلب وإمرية مجلس مصر وغير ذلك من الوظائف والنيابات ، ومات وهو في عشر الستين ، وكان في أوائل عمره في قلة وخمول وأقام على ذلك دهرا طويلا ، فلما تسلطن السلطان قايتباي ظهر أنه من قرابته فجاءت إليه السعادة بغتة فأقام بها مدة ومات اه.

قال السخاوي في الضوء اللامع في ترجمته : كان أزدمر ممن شهد وقعة الرها مع الدوادار الكبير وقطع أنفه وشفته مع القبض عليه ، فلما توجه جانبك حبيب رسولا من الأتابك أزبك بسبب الصلح المتضمن إطلاق المقبوض عليهم كان ممن أفرج عنه وجيء به إلى القاهرة مع الأتابك فأعطي إمرة مجلس وكانت شاغرة بموت لاجين ، ثم سافر باش التجريدة المجهزة لعلاء الدولة ابن دلغادر في سنة ثمان وثمانين ، فلما قتل نائب جانبك

٨٧

المدعو ورديش أعيد لنيابة حلب وابتنى بها حماما هائلا وتربة بجوار الإنصاري (١) عقب موت زوجته سورباي ، بل أسرع في بناء خان عظيم بالقرب من سوق الصابون (٢).

ذكر تولية حلب للأمير إينال السلحدار

قال ابن إياس : بعد موت أزدمر أرسل السلطان خلعة إلى إينال السلحدار نائب طرابلس ونقله إلى نيابة حلب عوضا عن قريبه أزدمر بحكم وفاته.

سنة ٩٠١

وفاة قايتباي سلطان الديار المصرية

وسلطنة ولده محمد

قال ابن إياس : في سابع عشر ذي القعدة من هذه السنة كانت وفاة السلطان قايتباي وأقيم في السلطنة ولده الناصري محمد ، وكانت مدة سلطنة قايتباي في الديار المصرية والبلاد الشامية تسعة وعشرين سنة وأربعة أشهر وإحدى وعشرين يوما وتوفي وله من العمر ست وثمانون سنة. ثم ساق ابن إياس ترجمته وأطال في ذلك.

__________________

(١) في قرية الأنصاري المطلة على مدينة حلب بنايتان قديمتان إحداهما مشهد الأنصاري وقد سبق الكلام عليه في حوادث سنة ٨٣٠ والثانية هذه التربة وهي تعرف الآن عند أهل القرية بجامع الحديد. وقد شاهدت هذا المكان سنة ١٣٤٢ فإذا فيه إيوان كبير مرتفع مبني بالحجارة الضخمة يكتنفه قبتان مرتفعتان أيضا وفي اليمنى منهما قبران لعل أحدهما هو قبر زوجة أزدمر ، وهناك منارة خربة والمكان جميعه مشرف على الخراب ، وإذا لم تداركه الأيدي بالعمارة فسيخرب جميعه ويصبح أثرا بعد عين ، ومكتوب على باب التربة من الخارج :

١ ـ أنشأ هذه التربة المباركة أيام الملك الأشرف السيفي أزدمر مولانا ملك

٢ ـ الأمراء بحلب المحروسة عزّ نصره بتاريخ ثلاث وتسعين وثمانمائة.

ومكتوب على الباب من الداخل :

١ ـ الحمد لله هذه تربة الست المصونة جهة مولانا ملك الأمراء السيفي أزدمر كافل

٢ ـ المملكة الحلبية المحروسة عزّ الله نصره بتاريخ شهر ربيع .. سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة اه.

(٢) هو المشهور الآن بخان الصابون وأمامه السوق المعروف بسوق الصابون إلى الآن.

٨٨

سنة ٩٠٣

ذكر عصيان آقبردي ومحاصرته لحلب

وتولية حلب للأمير جان بلاط بن يشبك

لآقبردي الدوادار وقائع كثيرة حصلت بينه وبين الأمراء بمصر بسطها ابن إياس ، وآخر الأمر هرب من مصر وأتى إلى غزة وملكها فاتفق رأي الأمراء على إرسال تجريدة إليه.

وفي ربيع الأول عين السلطان تجريدة بسبب آقبر دي الدوادار ، فإنه لما انكسر وخرج من مصر هاربا حاصر الشام وقصد أن يملكها فما قدر فنهب الضياع التي حول دمشق وخرب غالبها وفعل مثل ذلك بضياع حلب ، فوقع الاتفاق من الأمراء على خروج تجريدة له فعينوا ذلك وأنفق السلطان على العسكر المعينين للتجريدة وبعث نفقة الأمراء الذين عينوا للخروج وهم قانصوه البرجي أمير مجلس وقيت الرحبي حاجب الحجاب وقانصوه الغوري أحد المقدمين وهو الذي تسلطن فيما بعد وغيرهم.

وفيه جاءت الأخبار بأن آقبر دي بعد أن حاصر الشام نحوا من شهرين لم يقدر عليها وحاربه الأمراء الذين بالشام ورموا عليه بالمدافع وفر إلى حلب ، فلما توجه إلى حماة حاصرها وأخذ منها أموالا لها صورة ، فلما وصل إلى حلب حاصرها نحوا من شهرين وكان إينال السلحدار يومئذ نائب حلب وكان من عصبة آقبر دي فقصد أن يسلمه مدينة حلب فرجمه أهل المدينة وطردوه منها وحصنوا المدينة بالمدافع على الأسوار ، فعند ذلك فر آقبر دي ومن كان معه من الأمراء والعسكر وكذلك إينال نائب حلب صحبتهم ، وفروا أجمعون وتوجهوا إلى علي دولات والتجؤوا إليه ، فلما بلغ الأمراء ذلك اضطربت أحوالهم فوقع الاتفاق على أن يولوا جان بلاط بن يشبك الذي كان دوادارا كبيرا نيابة حلب عوضا عن إينال الذي كان بها بحكم فراره مع آقبر دي.

وفي ربيع الآخر كان خروج الأمراء الذين عينوا للتجريدة فكان لهم يوم مشهود حتى ارتجت لهم القاهرة وقد تقدمهم كرتباي الأحمر الذي تقرر في نيابة الشام وجان بلاط بن يشبك الذي تقرر في نيابة حلب.

وفي رجب مات بالطاعون شاه بضاع بن دلغادر أمير التركمان وكان مقيما بالقاهرة.

٨٩

وفيه جاءت الأخبار بأن العسكر الذين توجهوا إلى مواجهة آقبر دي قد تبعوه إلى عين تاب وتقاتلوا معه هناك ووقع بينهم واقعة عظيمة فانكسر آقبر دي كسرة مهولة وقتل لعلي دولات معه ولدان وقتل من الخاصكية والمماليك الذين كانوا معه جماعة كثيرة وقد حاربه كرتباي الأحمر نائب الشام أشد المحاربة إلى أن انكسر وهرب على جبل الصوف وتوجه منه إلى نحو الفرات بمن معه من الأمراء والمماليك.

وفي شوال وصل سودون الدواداري أحد الأمراء العشراوات وصحبته عدة رؤوس ممن قتل في المعركة التي وقعت بين آقبر دي والعسكر الذين خرجوا من مصر فكان عدة تلك الرؤوس إحدى وثلاثين رأسا وكان فيها رأس إينال السلحدار نائب حلب الذي فر مع آقبر دي ورأس ابن علي دولات الذي قتل في المعركة.

وفي ذي القعدة جاءت الأخبار من حلب بأن آقبردي الدوادار لما بلغه أن التجريدة عادت إلى مصر عاد إلى عين تاب وصار ينهب البلاد ويقطع الطريق على التجار ، فلما بلغ الأمر ذلك أعياهم أمره.

سنة ٩٠٤

قتل الملك الناصر محمد وسلطنة قانصوه الأشرفي

قال ابن إياس : في ربيع الأول من هذه السنة قتل الملك الناصر محمد بن قايتباي وتولى السلطنة بعده قانصوه بن قانسوه الأشرفي الملقب بالملك الظاهر أبي سعيد وهو السابع عشر من ملوك الجراكسة بالديار المصرية وخال الملك الناصر.

ذكر تولية حلب للأمير قصروه بن إينال

ومحاصرة آقبر دي لحلب

قال ابن إياس : وفي ربيع الأول عمل السلطان الموكب بالقصر وخلع على قصروه بن إينال وقرره في نيابة حلب عوضا عن جان بلاط بن يشبك الذي نقل إلى الشام بحكم وفاة كرتباي الأحمر نائب الشام ، وخرج الأمير قصروه من مصر في ربيع الآخر.

٩٠

وفي ربيع الآخر جاءت الأخبار من حلب بأن آقبر دي الدوادار قد حاصر حلب أشد المحاصرة وأحرق ما حولها من الضياع وأشرف على أخذ المدينة وقد التم عليه الجم الغفير من الناس والتركمان وحصل منه غاية الضرر ، فلما تحقق السلطان ذلك عين تجريدة ثقيلة إلى آقبر دي وكان باش العسكر تاني بك الجمالي أمير سلاح وبها من الأمراء المقدمين قاني باي أمير أخور كبير وسودون العجمي وبلباي المؤيدي وجماعة من الأمراء الطبلخانات والعشراوات وعدة وافرة من العسكر فأنفق عليهم واستحثهم على الخروج الى حلب بسرعة.

وفي ربيع الآخر توجه جانم طاز الإبراهيمي أحد العشراوات إلى علي دولات بن دلغادر وصحبته خلعة وتقليد إلى علي دولات باستمراره على إمرية التركمان على عادته.

وفي جمادى الأولى خرجت التجريدة المعينة إلى آقبر دي الدوادار وكان لخروجها يوم مشهود.

وفيه جاءت الأخبار من دمشق بأن قصروه الذي قرر نائب حلب لما دخل الشام وضع يده على مال كرتباي الأحمر جميعه وكان مبلغا ثقيلا نحوا من سبعة وستين ألف دينار ، وكان هذا أول عصيان قصروه واستخفافه بالسلطان ، فلما بلغ السلطان ذلك تنكد لهذا الخبر وعين مشد أحد الدوادارية بالتوجه إلى قصروه وأن يأمره برد ما أخذه من مال كرتباي الأحمر ، فلما توجه إلى قصروه لم يلتفت إلى مراسيم السلطان ولا رد شيئا من المال الذي أخذه واعتذر بأشياء لم تقبل.

إرسال خاير بك قانصوه رسولا إلى ابن عثمان وعوده

قال ابن إياس : في حادي عشر شعبان وصل خايربك أخو قانصوه البرجي الذي توجه قاصدا إلى ابن عثمان ملك الروم وكان الملك الناصر أرسله إليه في المحرم من السنة الماضية ، ولما وصل إليه أكرمه وأظهر الفرح بسلطنة الملك الناصر ، فلما بلغه قتلة الملك الناصر شق عليه ووبخ خاير بك بالكلام.

٩١

وفي شعبان أيضا جاءت الأخبار بأن عسكر ابن عثمان زحفوا على بلاد السلطان وآل الأمر إلى أن ابن عثمان أرسل يقول لنائب حلب : اعزل ابن طرغل ، فأجابه نائب حلب إلى ذلك وعزل ابن طرغل (١).

وفي رمضان اجتمع السلطان والأمراء في قاعة البحرة وضربوا مشورة في أمر آقبر دي الدوادار ، فوقع الاتفاق في ذلك اليوم على أن آقبر دي يستقر في نيابة طرابلس. وفي شوال جاءت الأخبار من حلب بأن آقبر دي الدوادار دخل إلى حلب طائعا وقد تم الصلح بينه وبين الأمراء الذين توجهوا من مصر ، وسبب ذلك أن العسكر الذين توجهوا إلى قتال آقبر دي وجدوه بمرعش عند علي دولات ، فلما طال الأمر على العسكر وكان الغلاء موجودا بحلب والعليق لم يوجد أرسل قصروه نائب حلب يسأل آقبر دي في الصلح فتوجه إليه قاني باي الرماح أمير أخور كبير فمشى في أمر الصلح وكان السلطان والأمراء مائلين إلى ذلك ، فلما وثق آقبر دي بذلك حضر صحبة قاني باي الرماح ودخل إلى حلب طائعا مختارا فلاقاه قصروه نائب حلب وسائر الأمراء الذين كانوا هناك ، وكان الأمير آقبر دي متوعكا في جسده ، فلما استقر بحلب كاتبوا بذلك السلطان فعين له خلعة حافلة وفرسا بسرج ذهب وكنبوش وكتب له تقليد نيابة طرابلس ومالها في كل سنة ثم أخذوا في أسباب التوجه إليه.

وفي شوال جاءت الأخبار بوفاة آقبردي بن علي الدوادار الكبير. ساق ابن اياس ترجمته ثم قال : إن آقبر دي لما دخل إلى حلب وأقام بها اعترته آكلة في فمه وقيل في وجهه رعت فيه حتى مات بحلب ودفن عند سيدي سعد الأنصاري ، ثم نقلت جثته إلى القاهرة سنة خمس وتسعمائة ودفن بتربته التي أنشأها له في الصحراء.

ذكر تولية حلب للأمير دولات باي

قال ابن إياس : وفي ذي الحجة انتقل قصروه من نيابة حلب إلى نيابة الشام عوضا عن جان بلاط نائب الشام بحكم انتقاله إلى الأتابكية بمصر ، وانتقل دولات باي بن أركماس نائب طرابلس ، إلى نيابة حلب عوضا عن قصروه.

__________________

(١) أقول : لم أعلم ابن طرغل من هو ولا الأسباب التي دعت السلطان بايزيد إلى حمل نائب حلب على عزله.

٩٢

ذكر خلع السلطان قانصوه

وتولية السلطنة للملك الأشرف

أبي النصر جان بلاط بن يشبك الأشرفي

قال ابن إياس : في الثاني من ذي الحجة خلع السلطان قانصوه بن قانصوه وولي السلطنة الملك الأشرف أبي النصر جان بلاط بن يشبك الأشرفي.

سنة ٩٠٦

ذكر خلع أبي النصر جان بلاط

وسلطنة الملك العادل طومان باي

قال ابن إياس : ما خلاصته في جمادى الآخرة من هذه السنة خلع السلطان أبو النصر جان بلاط وتولى السلطنة طومان باي ولقب بالملك العادل وهو التاسع عشر من ملوك الجراكسة.

ذكر تولية حلب للأمير قرقماس بن ولي الدين

قال ابن إياس : في رجب عمل السلطان الموكب وخلع على جماعة من الأمراء فخلع علي دولات باي المشهور بأخي العادل وقرره في نيابة الشام وقرر أرقماس (قرقماس) بن ولي الدين في نيابة حلب عوضا عن دولات باي :

(أقول) : دولات باي نائب حلب السابق كان حضر إلى الشام لما عصى بها نائبها قصروه وحضر لأجله من مصر الأمير طومان باي ، ولما انتصر على قصروه ادعى السلطنة لنفسه وبويع بالشام وساعده على ذلك دولات باي نائب حلب ، ولما تم أمره في السلطنة عين نيابة الشام لدولات باي نائب حلب وعين نيابة حلب إلى قرقماس بن ولي الدين ، ثم

٩٣

توجه السلطان طومان باي بمن معه من الأمراء إلى مصر وحاصر السلطان جان بلاط إلى أن أسره وأرسله إلى الإسكندرية وبويع ثانيا واستقل في السلطنة ، ولما تم له ذلك خلع على جماعة من الأمراء من جملتهم دولات باي وقرره في نيابة الشام وقرر قرقماس في نيابة حلب كما قدمنا.

وقد بسط ذلك ابن إياس في حوادث هذه السنة. وفي السالنامة الحلبية أن قرقماس ابن ولي الدين عين بها سنة ٩٠٥ ، وسنة ٩٠٦ عين بها أركماس بن ولي الدين وهو سهو فهما شخص واحد [قرقماس] أو (أركماس) وقد كان تعيينه سنة ٩٠٦ لا غير ، ومنشأ هذا السهو ما قدمناه.

وفي تحف الأنباء في حوادث هذه السنة أنه في جمادى الأولى أتى علي دولات إلى دمشق وتعصب للأمير طومان باي وتكلم في سلطنته إلخ ، وهو سهو أيضا فإن الذي حضر هو الأمير دولات باي نائب حلب ، وأما علي دولات فهو ابن دلغادر التركماني أمير مرعش والبستان.

ذكر قتل الملك العادل طومان باي

وسلطنة الملك الأشرف أبي النصر قانصوه الغوري

وهو آخر ملوك الجراكسة

قال القرماني : لما تمكن الملك العادل طومان باي من الملك بعد نصف شهر قتل الأمير قصروه واستخف بالأمراء المقدمين فحقدوا عليه فاتفق قتل الرماح أمير سلاح والأشرف الغوري الدوادار الكبير وغيرهما ، فركبوا عليه في سابع عشر رمضان سنة ولايته فنزل في آخر نهاره من القلعة هاربا واختفى ، فتبعه العسكر إلى أن ظفروا به فقتلوه وقطعوا رأسه ودفنوه في تربته التي أعدها لنفسه أيام إمرته في أطراف الصحراء وتولى السلطنة الملك الأشرف أبو النصر قانصوه الغوري نهار الجمعة مستهل شوال سنة ست وتسعمائة (١).

__________________

(١) تنبيه. تاريخ ابن إياس المطبوع في مصر ينتهي سنة ٩٢٨ وقد سقط منه من سنة ٩٠٦ إلى غاية سنة ٩٢١ وقد نبهت المطبعة على ذلك في آخر الجزء الثاني وقالت : إن هذه المدة غير موجودة في النسخ التي بين يديها. وقد راجعت النسخة الخطية الموجودة في المكتبة الأحمدية في مدينة حلب فوجدت فيها من سنة ٩٠٦ إلى سنة ٩١٢ ومن سنة ٩٢٢ إلى الآخر وهي سنة ٩٢٨ فيكون الناقص فيها من أول سنة ٩١٣ إلى غاية سنة ٩٢١ والزائد عن النسخة المطبوعة من سنة ٩٠٧ إلى غاية ٩١٢ ومن سنة ٩٢١ إلى ٩٢٨ والحوادث المتعلقة بالشهباء في هذه المدة منقولة عن هذه النسخة الخطية.

٩٤

سنة ٩٠٨ ذكر تولية حلب للأمير سيباي

قال ابن إياس : كان ممن قرر بالنيابة في أوائل هذه السنة سيباي المعروف بنائب سيس قرر في نيابة حلب.

سنة ٩١٠

عزل الأمير سيباي وتولية حلب للأمير خاير بك

وهو آخر أمرائها من طرف الدولة المصرية الجراكسية

وذكر عصيان الأمير سيباي

قال ابن إياس : في ربيع الآخر عمل السلطان الموكب بالحوش وخلع على الأمير سودون العجمي وقرره في نيابة الشام عوضا عن قانصوه البرجي بحكم وفاته ، وخلع على الأمير خاير بك أخي قانصوه البرجي الذي كان نائب الشام وقرره في نيابة حلب عوضا عن سيباي الذي كان بها ، ورسم لسيباي بأن يحضر إلى القاهرة ليلي إمرة مجلس عوضا عن سودون العجمي بحكم انتقاله إلى نيابة الشام.

وفي جمادى الآخرة جاءت الأخبار من حلب بأن سيباي نائبها امتنع من الحضور إلى القاهرة ولم يوافق بأن يلي إمرة مجلس وقد أظهر العصيان ، فلما تحقق السلطان ذلك أبطل أمر سودون العجمي من نيابة الشام وأعيد إلى إمرة مجلس كما كان ، وأرسل السلطان إلى أركماس نائب طرابلس بأن يكون نائب الشام عوضا عن سودون العجمي الذي كان قرر بها.

وفي التاسع عشر من جمادى الآخرة خرج الأمير خاير بك الذي قرر في نيابة حلب وكان له يوم مشهود ونزل من القلعة في موكب حافل قدامه الأمراء قاطبة.

وفيه جاءت الأخبار بأن دولات باي قرابة العادل طومان باي الذي كان نائب الشام وولي أيضا نيابة طرابلس قد أظهر العصيان والتف على سيباي نائب حلب وقد توجها إلى دمشق وحاصرا المدينة وأشرفا على أخذها ، فلما تحقق السلطان ذلك اضطربت أحواله.

٩٥

وفي رجب جاءت الأخبار بأن دولات باي أخا العادل توجه إلى حماة ونهب غالب ضياعها وفر منها النائب الذي كان بها وقبض على أعيان أهلها ، فلما بلغ السلطان ذلك عين تجريدة إلى البلاد الشامية.

ذكر توسط علي دولات صاحب مرعش في الصلح

بين سيباي ودولات باي وبين السلطان

قال ابن إياس : وفي شوال حضر قاصد من عند علي دولات وقد أرسل ليشفع عند السلطان في سيباي نائب حلب ودولات باي نائب طرابلس ، وكان قد أشيع عنهما العصيان وأنهما من عصبة قيت الرحبي [أحد الأمراء الذين تغير خاطر السلطان عليهم لاستشعاره أنه ممن يتطلب السلطنة وسيباي كان من المنتسبين إليه] وفيه خلع السلطان على قاصد علي دولات وأذن له بالعود إلى بلاده وكتب له الجواب عن أمر سيباي نائب حلب ودولات باي نائب طرابلس [أي بالرضا عنهما وعودهما إلى مصر] وفي سنة ٩١١ ولي نيابة الشام كما ذكره ابن إياس في حوادث شهر ذي الحجة من هذه السنة.

ترجمة سيباي الجركسي وآثاره بحلب والشام

قال في در الحبب : سيباي بن عبد الله الجركسي كان كافل حلب قبل خير بك ، وفي أيام كفالتها وقع بينه وبين أبرك نائب قلعتها شنآن فحاصر القلعة ولم يقدر عليها ، فلما بان له تغير السلطان الغوري عليه أخذ معه ثوبا أبيض موصليا ودخل به عليه قائلا إنه جاء بكفنه فليفعل به ما يختار من قتل أو غيره ، فصفح عنه ونقله إلى كفالة دمشق ، ولم يزل يجمع بها العلماء عنده في كل ليلة جمعة يتذاكرون بين يديه في أنواع العلوم بعد أكل السماط.

وهو الذي أنشأ بحلب خلاء الجامع الكبير لينتفع به من بات بالجامع ومن لم يبت. وأنشأ بدمشق المدرسة السيبائية كأنه تلافى بإنشائها هفوته بحلب بالمدرسة الظاهرية الشهيرة بالسلطانية [تحت القلعة] حيث كان قد خرقها إذ حاصر القلعة من موضعين بسبب الطوبات أحدهما لإدخالها والآخر لنصبها تجاه القلعة ثم رمى بها ، إلا أنه أمى عليه القلعيون فلم يظفر بشيء ١ ه‍.

٩٦

سنة ٩٢٢

ذكر الحرب بين السلطان سليم خان العثماني

وبين السلطان قانصوه الغوري في مرج دابق

وقتل السلطان الغوري وانكسار العساكر المصرية

واستيلاء السلطان سليم على حلب

ثم على الشام ومصر وانقراض دولة الجراكسة

أسباب هذه الحرب :

قال الشيخ أحمد بن زنبل الرمال المحلي في أوائل تاريخه الذي ذكر فيه الوقائع بين السلطان سليم خان وبين سلطان مصر الملك الأشرف قانصوه الغوري : إن السلطان سليما لما غزا شاه إسماعيل الصفوي سلطان العجم سنة ٩٢٠ وجاء بالعساكر من طريق البيرة [بيره جك] وكان نائبها يسمى علاء الدولة من طرف السلطان الغوري ، فأمر علاء الدولة أهل مرعش أن لا يبيعوا على عسكر السلطان سليم شيئا مطلقا من المأكل والعلف فمات كثير من الناس والدواب من شدة الغلاء ، فلما جرى ذلك حصل للسلطان سليم من الغم ما لا مزيد عليه ، وكان السلطان سليم حاد المزاج فأراد أن يأمر العسكر بالحملة على تلك النواحي ويحاصر مرعش ، فأشار وزراؤه عليه أن يرسل للغوري يعلمه بذلك ، فأمر بكتابة مرسوم إليه يخبره بما فعل علاء الدولة فأجابه بأن علاء الدولة عاص أمري فإن قدرت عليه فاقتله ، وخلع على قصاده وأرسلهم ، ثم كتب الغوري مرسوما وأرسله خفية إلى علاء الدولة يشكره على ما فعل ويغريه على قتال السلطان سليم ولا يمكنه من شيء أبدا ، وكان قصد الغوري إلقاء الفتنة بين الاثنين رجاء أن يقتل أحدهما أو كلاهما فيكتفي شرهما ، فإنه كان يعرف شدة بأس كل منهما ، فقوي قلب علاء الدولة على قتال السلطان سليم.

وأما السلطان سليم فإنه لما قرأ جواب الغوري علم بفراسته أن ذلك خديعة له فتحملت نفسه من الغوري غاية التحمل وأسرها في نفسه فكان ذلك سببا لإثارة الفتنة بينهما حتى وقع ما وقع كما هو المشهور.

٩٧

قال القرماني في تاريخه في الكلام على الدولة الدلغادرية : لما توجه السلطان سليم لقتال شاه إسماعيل وجاوز حدود البستان أغار جماعة من عسكر علاء الدولة بن سليمان [صاحب البستان ومرعش وتلك النواحي] صحبة بعض أولاده على أحمال ذخائر عسكر السلطان سليم فأخذ منه شيئا كثيرا ، فلم يلتفت إليهم السلطان حتى عاد من غزو بلاد العجم وشتى بمدينة أماسية وعين جماعة من العسكر صحبة سنان باشا الطواشي إلى قتال علاء الدولة ، واقتتل الفريقان بقرب البستان فانهزم عسكر علاء الدولة وقتل هو وكان عمره أكثر من تسعين سنة ، فعين مكانه السلطان المبرور الأمير علي بيك ابن شاه سوار بن علاء الدولة بن سليمان.

وقال ابن زنبل في تاريخه المتقدم : لما انثنى السلطان سليم راجعا من قتال شاه العجم إسماعيل الصفوي مظفرا منصورا يريد قتال علاء الدولة كان مع السلطان سليم خان [علي بك] ابن شاه سوار وكان شاه سوار هو الملك والحاكم على تلك الديار وهو أخو علاء الدولة ، وكان شاه سوار قبض عليه على يد الأمير يشبك الدوادار وأرسل إلى مصر وشنق بها على باب زويلة في زمن السلطان قايتباي فأخذ الحكم بعده علاء الدولة (١).

وكان لشاه سوار ولد أكبر أولاده فهرب إلى السلطان سليم فما زال عنده حتى وقعت هذه الحرب مع علاء الدولة واصطف الفريقان للقتال وخرج ابن شاه سوار إلى الميدان بين الجمعين بإذن من السلطان سليم وقال : من عرفني فقد كفي ومن لم يعرفني فأنا ابن شاه سوار ، أين من ربي في إنعام أبي أين المحبون لي ولوالدي؟ فليأتوا تحت سنجق من حماني من عدوي ولا بد لكل إنسان من يحبه ويبغضه. فارتج عسكر علاء الدولة وافترق منه بعضه فمن كان يبغض علاء الدولة مالوا إلى ابن شاه سوار ، فما تم غير ساعة حتى قتل علاء الدولة وغالب أولاده وقطعت رؤوسهم وجاؤوا بها إلى السلطان سليم فأرسلها إلى الغوري ، فلما رآها الغوري أحس قلبه بزوال ملكه لما يعلم من اختلاف عسكره عليه كما وقع لعلاء الدولة.

وقال القرماني : أرسل السلطان سليم وزيره فرهاد باشا بعسكر كثير إلى قتال ملك مرعش والبستان الأمير علاء الدولة فانتصر عليه فرهاد باشا وقتله وعين إمارة تلك البلاد إلى

__________________

(١) الصواب أن الذي استولى على تلك البلاد بعد شاه سوار هو شاه بداق أو (بضاغ) ثم تغلب عليه أخوه علاء الدولة فأخذ تلك البلاد منه كما في القرماني.

٩٨

علي بك بن شاه سوار ابن أخي علاء الدولة وكان قد هرب من عمه والتجأ إلى كنف السلطان وشرط عليه أن تكون الخطبة والسكة باسم السلطان (١).

زيادة بيان في أسباب هذه الحرب وحالة ملوك الجراكسة :

قال عبد الله المراش في كتابه مختصر تاريخ حلب (٢) في الفصل الذي ذكر فيه انقضاء دولة الجراكسة واستيلاء آل عثمان على مملكتهم في الشام ومصر : قد علمت مما تقدم أن ملك الشام قد انتقل من الأيوبيين إلى مماليكهم الجراكسة الذين شروهم بمالهم ورفعوا منازلهم حتى آل الأمر إلى أنهم تغلبوا على سادتهم وأخذوا الملك منهم كما تغلب الترك على الخلفاء في القرن الثالث للهجرة واستبدوا بالأمر دونهم ، وهذا لعمري ما يترتب بحكم الضرورة على الاسترسال إلى العبيد ، ولذا قيل : أعط العبد الكراع فيطمع في الذراع.

وكان هؤلاء الجراكسة بمكان من التغفل المقترن بالتهور فلا يبالون ما يقولون أو يفعلون ولا يحسبون العواقب ولا يميزون بين ما يليق في بعض الأحوال وما لا يليق أو ما ينفع وما يضر ، وقد بلغ من حماقتهم وفرط اعتدادهم بأنفسهم أنهم استنكفوا من استعمال المدافع (٣) وبنادق البارود التي اخترعت في ذلك العصر واستعملتها سائر الأمم حتى الترك أنفسهم ، بل كانت من أنكى سلاح أعدائهم هؤلاء عليهم وعنها تسبب ذهاب ملكهم

__________________

(١) انظر بقية الكلام على الدولة الدلغادرية في حوادث سنة ٩٢٨.

(٢) عبد الله المراش من أدباء المسيحيين في حلب وقد كانت وفاته سنة ١٨٩٩ م الموافقة سنة ١٣١٦ ه‍ ومن جملة آثاره هذا التاريخ وهو في مائة صحيفة صغيرة استهله بنبذة يسيرة من تاريخ حلب قبل الفتح الإسلامي في سبع صحايف ثم عقد فصلا تحت عنوان (ذكر الفتح الإسلامي) تكلم فيه على ذلك بصورة مختصرة إلى مجيء تيمور لنك إلى حلب في ٢٣ صحيفة ثم ذكر الفصل الذي ذكرناه هنا وهو في ثماني صحائف ثم ذكر يوم مرج دابق في خمس صحايف ، وبعد ذلك تكلم على ثورة أهل حلب على واليهم خورشيد باشا وهذا الفصل أحسن ما في الكتاب وسيأتيك في موضعه إن شاء الله تعالى.

ثم تكلم على موقع حلب وعلى القلعة والجامع الأعظم وعلى بعض معاملاتها ، وقد أخذ الفصول الأخيرة عن الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة. وهذا الكتاب دخل خزانة كتب صاحب السعادة الوجيه الفاضل أحمد تيمور باشا المصري التي وقفها في مصر وهو بخط مؤلفه وقد أخذ عنه نسخة بالمصور الشمسي [الفوتوغراف] وأهداه لنا بارك الله به وبأمثاله من أرباب الغيرة وذوي الهمة العالية ومحبي نشر العلم. وقد وصل إلينا بعد أن نجز طبع الجزء الثاني لذا لم نذكره في المقدمة في عداد مؤلفي التواريخ الحلبية.

(٣) هذا غير صحيح فإنك تجد فيما نقلناه قبل أوراق أنهم استعملوها لكن ربما يقال إن المدافع التي استعملها العثمانيون كانت أتقن وأكثر عددا.

٩٩

فنبذوها ظهريا واحتقروها وجعلوا جل اعتمادهم على فروسيتهم وشجاعتهم الشخصية في معمعان الحرب ، وأنت خبير أن الشجاعة أو البسالة إذا لم يكن العقل لها مدبرا عدت تهورا وأن الجرأة الشخصية لم يبق لها معنى بعد اختراع البارود وأسلحته وما حدث عنه من تغير طرق القتال فلذا لم تغن عنهم شجاعتهم شيئا.

فلما أفضى إليهم الأمر بعد الأيوبيين أخذوا يتداولونه بينهم على غير نظام ولا قانون بل افتياتا ، فكان الأمراء منهم يجتمعون ويبايعون بالسلطنة لمن يقع عليه اختيارهم منهم ثم يبدوا لهم بعد قليل فيخلعونه أو يقتلونه ويولون غيره ، فانفتح بذلك باب للمكايد والتوالس (١) والأثرة حتى أصبح الملك مما يزهد فيه ويرغب عنه وحتى صار العرش رمزا عن النعش ، واستمرت الحال على ذلك دهرا. فلما كانت سنة ست وتسعمائة للهجرة قتلوا سلطانهم سيف الدين واجتمعوا لتولية آخر مكانه فأجمع رأيهم على تولية قانصوه الغوري وهو واحد منهم فلم يقبل أن يلي السلطان حتى أخذ عليهم عهدا أن لا يقتلوه بل متى عنّ لهم أن يولوا غيره خلع نفسه طائعا (٢) فبايعوه على ما اشترط لأنهم توهموه لين العريكة يستطاع لهم خلعه بأيسر مرام وكانت البيعة بقلعة الجبل بحضرة الخليفة العباسي المستنصر بالله والقضاة الأربعة وأصحاب الحل والعقد وذلك في مستهل شوال من هذه السنة.

إلا أن الغوري لم يكن من لين العريكة بحيث يوهموا بل كان بالإضافة إلى غيره من أمراء الجراكسة ذا رأي وفطنة وبصيرة ، فلما ولي السلطان رأى بعين بصيرته ما كان يراه كل ذي لب وهو أن تلك الحال لا يمكن دوامها لأنها داعية إلى الاختلال فنوى أن يرتق هذا الفتق ما استطاع وأضمر أن يقمع الأمراء ويكسر شوكتهم متى أمكنه ذلك.

وإنما كانت قوتهم بالقرانصة وهم المماليك البحرية (٣) الذين كان معظم جند مصر منهم وكانوا في ذلك بمنزلة الأنكجارية من الترك في الأعصر التالية وأمراؤهم بمنزلة الأغاوات

__________________

(١) الوالس الخيانة والخديعة وتوالسوا : تناصروا في خب وخديعة ا ه قاموس.

(٢) كما جاء في نزهة الناظرين فيمن ولي مصر من الخلفاء والسلاطين للشيخ مرعي الحنبلي المقدسي.

(٣) نسبة إلى البحيرة من أرض مصر.

١٠٠