إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٣

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٣

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٧

السلطان في قلعة درندة وأنه يرسل ولده بمفاتيح القلعة ، فما وافق السلطان على ذلك إلا أن يحضر سوار بنفسه ويقابل السلطان.

وفي ذي الحجة وصل قاصد من عند يشبك الدوادار ومعه مكاتبة يخبر فيها أن سوارا يطلب الأمان لنفسه وأنه يقيم بقلعة زمنوطو هو وعياله ، فقال له الأمير يشبك : حتى نكاتب السلطان بذلك.

سنة ٨٧٧

ذكر القبض على شاه سوار وقتله

قال ابن إياس : في المحرم حضر قاني باي صلق وعلى يده مكاتبة الأمير يشبك الدوادار تتضمن القبض على شاه سوار ونزوله من قلعة زمنوطو ، وقد وصل قاني باي من حلب إلى مصر في ثلاثة عشر يوما ، فلما صحت هذه الأخبار عند السلطان سر بذلك وخلع على قاني باي خلعة حافلة وكذلك سائر الأمراء خلعوا عليه.

وكان من ملخص أخبار القبض على شاه سوار أنه لما طلع إلى قلعة زمنوطو واختفى بها حاصره الأمير يشبك الدوادار أشد المحاصرة ، وقد فل عن سوار عسكره وأراد الله خذلانه فأرسل يطلب الأمير تمراز النمشي قريب السلطان ، فتلطف الأمير يشبك بالأمير تمراز حتى وافقه إلى طلوعه إلى سوار ، فطلع إلى قلعة زمنوطو وصحبته القاضي شمس الدين بن أجا الحلبي قاضي العسكر (١) وهو والد القاضي كاتب السر الآن ، فلما طلع الأمير تمراز إلى سوار واجتمع به تعلل سوار بأنه يلبس خلعة السلطان ويبوس الأرض ولا يقابل الأمير يشبك ، فما وافقه الأمير تمراز على ذلك ، فقال له سوار : أنا قتلت من العسكر جماعة كثيرة وأخشى إذا نزلت إليهم يقتلونني ، فقال

__________________

(١) هو محمد بن محمود بن خليل الحلبي المعروف بابن أجا وكان مرافقا للأمير يشبك في هذه الحملة وألف في ذلك رحلة في ١٣٠ صحيفة من حين خروج يشبك إلى حين عوده إلى مصر ، وقد تفضل بإرسالها إلينا إعارة من مصر سعادة المفضال أحمد تيمور باشا ، وقد تصفحتها فوجدت ملخصها فيما نقلته هنا عن ابن إياس وغيره فاكتفيت بذلك ، وكتب على ظاهرها أن ولادته سنة ٨٢٠ بحلب وتوفي بها سنة ٨٨١ كما في ترجمته في الضوء اللامع.

٦١

الأمير تمراز : ضمانك علي فما يصيبك شيء ، فما وافق سوار على نزوله من القلعة ، فقام الأمير تمراز والقاضي شمس الدين بن أجا من عنده والمجلس مانع. فلما عاد الأمير تمراز بالجواب على الأمير يشبك لم يوافق على ذلك وحاصر سوار وضيق عليه ورمى عليه بالمدافع فما أطاق سوار ذلك ، فأرسل بطلب الأمير تمراز والقاضي شمس الدين بن أجا ثانيا على أنه ينزل صحبتهما ، فطلع إليه الأمير تمراز وابن أجا ثانيا فطال بينهما المجلس ، وقيل إن سوارا أضاف الأمير تمراز وابن أجا بقلعة زمنوطو ، فلما طال جلوس الأمير تمراز وابن أجا بقلعة زمنوطو عند سوار ماج العسكر على بعضه ، وأشيع بأن سوار قد قبض على الأمير تمراز وابن أجا ، فلما مضى من النهار النصف الأول نزل الأمير تمراز هو والقاضي ابن أجا وصحبتهما شاه سوار وهو في نفر قليل من عسكره ، فتوجه إلى وطاق الأمير يشبك الدوادار ونزل عن فرسه ودخل على الأمير يشبك في الخيمة ، فقام إليه ورحب به وأحضر إليه خلعة وألبسها له ، فلما أراد الانصراف من عنده قال الأمير يشبك : امض إلى نائب الشام وسلم عليه. وكان يومئذ برقوق نائب الشام ، فلما توجه إليه سوار نزل عن فرسه ودخل إلى برقوق وصحبته الأمير تمراز ، فلما وقف بين يدي برقوق قال له برقوق : من أنت؟ قال له : أنا سوار ، قال : أنت سوار؟ قال : نعم أنا سوار ، فجعل يكرر عليه هذا الكلام فيقول له نعم أنا سوار. ثم قال له برقوق : أنت الذي قتلت الأمراء والعسكر؟ فسكت سوار ، ثم قال برقوق : أحضروا له خلعة ، فأتوا إليه بخلعة وفي ضمنها زنجير ، فلما ألبسوها له وضعوا الزنجير في عنقه ، فلما رأى جماعة سوار أنه وضع في رقبته زنجير ثاروا على جماعة برقوق وسلوا سيوفهم ، وكان برقوق أكمن كمينا حول الخيمة وهم لابسون آلة الحرب فهجموا على جماعة سوار وقطعوهم ثم قبضوا على سوار وأدخلوه في بعض الخيام ، فلما رأى الأمير تمراز ذلك شق عليه وقال لبرقوق : أنا نزلت بسوار من القلعة وحلفت له أنكم لا تشوشون عليه فكيف يبقى أحد يأمن لكم ، فأخرق برقوق بالأمير تمراز إخراقا فاحشا وربما لكمه ، فخرج تمراز من عند برقوق وهو غضبان. وكان الأمير يشبك حلف للأمير تمراز أنه إذا قابله سوار لا يقبض عليه ولا يشوش عليه ، فلما نزل إليه سوار ندب برقوق إلى ما فعله بسوار وكان هذا عين الصواب ودع الأمير تمراز يغضب.

فلما تحقق العسكر القبض على سوار قاموا على حمية وقصدوا التوجه إلى الديار المصرية.

٦٢

تولية الأبلستين للأمير شاه بضاع أخي سوار

ولما قبض على سوار خلع الأمير يشبك على شاه بضاع أخي سوار وقرره عوضا عن أخيه في إمرة الأبلستين. ولما كان يوم الأثنين ثامن عشر ربيع الأول سنة سبع وسبعين وثمانمائة دخل الأمير يشبك الدوادار الى القاهرة وصحبته شاه سوار ودخل سوار قدام الأمير يشبك وهو راكب على فرس وعليه خلعة تماسيح على أسود وعلى رأسه عمامة كبيرة وهو في زنجير كبير طويل وراكب إلى جانبه شخص من الأمراء العشراوات وهو مشكوك مع سوار في الزنجير وكان قدام سوار إخوته وأقاربه وأعيان من قبض عليه من أمرائه ممن نزل معه من قلعة زمنوطو فكانوا نحوا من عشرين إنسانا ، وكان يوما مشهودا.

ثم إنهم صلبوا على باب زويلة وخمدت فتنة سوار كأنها لم تكن بعد ما ذهب عليها أموال وأرواح وقتل جماعة كثيرة من الأمراء وكسر الأمراء ثلاث مرات ونهب بركهم ، وقد انتهكت حرمة سلطان مصر عند ملوك الشرق وغيرهم حتى إن الفلاحين طمعوا في الترك وتبهدلوا عندهم بسبب ما جرى عليهم من سوار ، وكادت أن تخرج المملكة عن الجراكسة ، وقد أشرف سوار على أخذ حلب وقد خطب له بالأبلستين وضربت هناك السكة باسمه.

تتمة أخبار سوار وأسباب عصيانه :

قال القرماني في تاريخه في الكلام على الدولة الدلغادرية : في سنة سبعين وثمانمائة قدم أرسلان بن سليمان بن ناصر الدين بك الدلغادري التركماني إلى القاهرة فقتله صاحب مصر لكونه سلم بلاد خربوت إلى حسن الطويل ملك بلاد العراق والموصل وعين مكانه أخاه شاه بداق [بضاع] بن سليمان ، واعتضد أخوه شاه سوار بيك بسلطان الروم فاستولى على البستان ، ولما بلغ ذلك صاحب مصر أرسل لقتاله جمعا كثيرا من العسكر فهزمهم شاه سوار وأفناهم بالقتل [حسبما شرحناه].

وقال السخاوي في الضوء اللامع في ترجمته : هو سوار بن سليمان بن ناصر الدين بك دلغادر التركماني ويسمى فيما قيل محمد ويقال له شاه سوار نائب الأبلستين ومرعش ، خرج عن الطاعة ومشى على بعض البلاد الحلبية محتجا بأنها لآبائه وأجداده ، فقرر الظاهر

٦٣

خشقدم في سنة إحدى وسبعين عوضه أخاه شاه بضاع على عادته قبل ، فاستعان باسترجاعها منه بملك الروم ابن عثمان ، وخرج إليه نواب الشام وحلب وغيرها فكسرهم بمواطأة نائب الشام بردبك البجمقدار [ثم ذكر تجهيز العساكر إليه إلى أن ألقي القبض عليه وأخذ إلى مصر وصلب فيها سنة سبع وسبعين وهو ابن بضع وأربعين سنة].

قال : وكان فيما قيل يكثر التلاوة من المصحف لطول الطريق ويصوم الاثنين والخميس مع فهم في الجملة ومشاركة في بعض منطق ومعاناة للنظر في النجوم ، قد نبذه الشيب ببعض شعرات في لحيته من الجانبين بعمامة مدورة وفوقاني مفتوح مزنّر بقصب بمقلب لطيف على جاري عادة تفصيل التركمان ، ووجهه حسن أبيض اللون ظاهر الحمرة مستدير اللحة بشعر أسود جميل الهيئة محترم الشكل ، وتألم غير واحد من المقدمين لإتلافه والله يحسن العاقبة.

ذكر الحرب بين المصريين

وبين حسن الطويل ملك العراقين

قال ابن إياس : وفي جمادى الآخرة عين السلطان تجريدة إلى حسن الطويل وعين بها من الأمراء المقدمين ثلاثة وهم جاني بك قلقسيز أمير سلاح وسودون الأفرم وقراجا الطويل الإينالي وعدة من الأمراء الطبلخانات والعشراوات ، ومن الجند نحو من خمسمائة مملوك ، فلما عينهم أنفق عليهم وأمرهم بالمسير إلى حلب بسرعة من غير تأخير.

وفيه جاءت الأخبار من حلب بأن عسكر حسن الطويل قد استولى على كختا وكركر ، وبعث مكاتبة مكتوبة بماء الذهب إلى شاه بضاع صاحب الأبلستين بأن يسلم إليه القلاع التي حوله ولا يخرج عن طاعة ، وأرسل له في المكاتبة ألفاظا مزعجة بما معناه وأطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم ، ثم هدده في مكاتبته بأنه متى خالفه يحصل له منه ما هو كيت وكيت.

فأرسل بضاع المكاتبة للسلطان ، فلما قرأها السلطان وعلم ما فيها انزعج لذلك وتأثر ، ثم عين الأمير يشبك الدوادار باش العسكر وعين تجريدة أعظم من الأولى التي عينها قبل ذلك ، فعين بها من الأمراء المقدمين يشبك الدوادار وإينال الأشقر وبرسباي قرا ، ومن الأمراء الطبلخانات والعشراوات عدة وافرة وكتب من الجند فوق ألفي مملوك ، ثم أنفق عليهم

٦٤

وأخذوا في أسباب الخروج إلى السفر ، فخرجت التجريدة الأولى قبل ذلك وكان باش العسكر جاني بك قلقسيز أمير سلاح ومن معه من الأمراء ، فلما رحل من الريدانية خرج الأمير يشبك ومن معه من الأمراء فرجت لهم القاهرة وكان لهم يوم مشهود.

وفي رجب جاءت الأخبار من حلب بأن ورديش نائب البيرة قد قبض على جماعة من عسكر حسن الطويل وكسر جاليشه فسر السلطان بهذا الخبر.

وفي شعبان حضر قاصد نائب حلب وأخبر أن نائب حلب قبض على عثمان بن أغلبك (١) وشخص آخر كان أستادارا على تقدمة حسن الطويل التي كانت بحلب وقبض على جماعة آخرين نحوا من الأربعين نفرا وقد نسبوا الجميع إلى المواطأة مع حسن الطويل وكانوا يكاتبونه بأخبار المملكة فأمر نائب حلب بشنقهم.

وفي شوال جاءت الأخبار من حلب بأن الأمير يشبك الدوادار دخل إلى حلب وكان له يوم مشهود ، فلما استقر بحلب قدم عليه قاصد من عند حسن الطويل وعلى يده مكاتبة شرحها أنه أرسل يطلب جماعته الذين أسروا وسجنوا بحلب وأنهم إذا أطلقوهم يطلق من عنده من الأسرى ، وكان عنده دولات باي النجمي الذي كان نائب ملطية وجماعة آخرون فلم يلتفت إليه يشبك ولا أجابه عن ذلك بشيء.

وفي ذي القعدة جاءت الأخبار من حلب بأن الأمير يشبك بعث جماعة من العسكر إلى البيرة لقتال عسكر حسن الطويل وقد بلغه أن حالهم تلاشى إلى الفرار وأن حسن الطويل أرسل يكاتب الإفرنج ليعينوه على قتال عسكر مصر ، وهذا أول ابتداء عكسه لكون أرسل يستعين بالإفرنج على قتال المسلمين.

وفيه جاءت الأخبار بأن ابن عثمان ملك الروم أرسل قاصده إلى الأمير يشبك بأن يكون عونا للسلطان على قتال حسن الطويل فأكرم القاصد وأرسل صحبته القاضي شمس الدين ابن أجا الحلبي قاضي العسكر بأن يتوجه إلى ابن عثمان وعلى يده هدية حافلة ومكاتبة بأن ينشىء بينه وبين السلطان مودة بسبب أمر حسن الطويل.

وفيه وصل إلى السلطان مكاتبة من عند ابن الصوا من حلب يخبر فيها بأن الأمير يشبك قد انتصر على عسكر حسن الطويل ورحلهم عن البيرة وأن ولد حسن الطويل قد

__________________

(١) هو باني الجامع في المحلة المعروفة به المشهورة الآن بمحلة باب الأحمر ، وانظر ترجمته في القسم الثاني في وفيات سنة ٨٧٨.

٦٥

جرح جراحات بالغة وآخر من أولاده أصيب في عينه ووقع بين الفريقين مقتلة شديدة ، ثم رحل عسكر حسن الطويل من البيرة وقد خذلهم الله تعالى بعد ما عدوا من الفرات وطرقوا البلاد الحلبية من أطرافها. وعاد الأمير يشبك إلى الديار المصرية فدخلها في سنة ٨٧٨.

سنة ٨٧٩

قال ابن إياس : في هذه السنة في المحرم قدم قاصد حسن الطويل وعلى يده مكاتبة تتضمن الاعتذار عما كان منه وأن ذلك لم يكن باختياره ، فأكرم السلطان ذلك القاصد وأظهر العفو عما جرى منه.

وفي جمادى الأولى عاد الأمير يشبك الجمالي الذي كان توجه إلى ابن عثمان ملك الروم وقابل السلطان في خليج الزعفران وعليه خلعة ابن عثمان ومكاتبة تتضمن التودد بينهما فانسر السلطان بذلك.

سنة ٨٨٠

قال ابن إياس : في ربيع الآخر من هذه السنة جاءت الأخبار من حلب بأن (أغرلو) بن حسن الطويل قد وقع بينه وبين أبيه وقد بعث يستنجد بنائب حلب على أبيه ، فجهز نائب حلب معه جماعة من عساكر حلب وجعل عليهم باش إينال الحكيم أتابك حلب وجانم السيفي وجاني بك نائب جده وكان يومئذ نائب البيرة ودولات باي المحجوب وآخرين من أمراء حلب ، فلما خرجوا إلى عسكر حسن الطويل تقاتلوا معهم فانكسر عسكر حلب وجرح محمد أغرلو جرحا بليغا ورجع إلى حلب في خمسة أنفار وأن إينال الحكيم فقد في المعركة وأن دولات باي أسر في المعركة وقتل من عسكر حلب جماعة كثيرة ، فلما بلغ السلطان هذا الخبر تشوش له وعين جماعة من الأمراء منهم الأتابكي أزبك ويشبك الدوادار وتمراز رأس نوبة النوب وأزدمر الطويل حاجب الحجاب وبرسباي قرا وخاير بك بن حديد ووردبش وعين من الأمراء الطبلخانات والعشراوات عدة وافرة وأمرهم بأن يتجهزوا ويكونوا على يقظة حتى يرد عليهم من أمر حسن الطويل ما يكون ، فاضطربت أحوال العسكر ، فبينما هم على ذلك إذ ورد كتاب من ابن الصوا يخبر فيه بأن عسكر حسن الطويل عاد إلى بلاده ولم يحصل منه ضرر.

٦٦

وفي جمادى الأولى وصل القاضي شمس الدين بن أجا قاضي العسكر وكان قد توجه قاصدا إلى حسن الطويل فأخبر بأن الطاعون قد هجم في بلاده ومات من عسكره ما لا يحصى وقد تلاشى أمره فسر السلطان بهذا الخبر.

وفيه قدمت إلى القاهرة زوجة حسن الطويل أم ولده محمد أغرلو تستجير لولدها محمد بالسلطان بأن يشفع له عند أبيه ويصلح بينهما ، فأكرمها السلطان وأنزلها بدور الحريم

وفي جمادى الآخرة جاءت الأخبار من بلاد الشرق بوقوع فتنة بين شاه بضاع ابن دلغادر صاحب الأبلستين وبين ابن قرمان ووقع بينهما مقتلة عظيمة. ووقع أيضا بين حسن الطويل وبين أخيه أويس وبعث إليه طائفة من عسكره بالرها فحاربوا أويسا وقتلوه ومن معه من العسكر.

سنة ٨٨١

ذكر توجه قانصوه اليحياوي نائب حلب

إلى مصر وعوده إلى النيابة

قال ابن إياس : في جمادى الأولى في هذه السنة حضر إلى الأبواب الشريفة قانصوه اليحياوي نائب حلب ، وكان قد أشيع عنه أنه قد خرج عن الطاعة ، فلما حضر خلع عليه السلطان باستمراره وبطلت تلك الإشاعة ، وكان القائم في أمر مساعدته الأتابكي أزبك أمير كبير.

سنة ٨٨٢

ذكر مجيء السلطان قايتباي إلى حلب

وعوده إلى مصر

قال ابن إياس : في جمادى الأولى خرج السلطان على حين غفلة من العسكر وتوجه إلى الصالحية ، ثم بعد أيام أشيع بأن السلطان توجه من هناك إلى البلاد الشامية ، فتعجب الناس من ذلك وكان في نفر يسير من العسكر بحيث إنه كان معه من المماليك نحو من أربعين مملوكا من خواصه وكان معه بعض أمراء عشراوات وتاني قرا الدوادار الثاني وآخرون من الأمراء.

وفي شعبان وصل هجان من عند السلطان وأخبر بأن السلطان دخل حلب وأقام بها وهو قاصد إلى جهة الفرات وقد عرج قبل دخوله إلى حلب نحو طرابلس.

٦٧

وفي رمضان جاءت الأخبار من حلب بأن السلطان لما توجه إلى الفرات أقام هناك أياما ثم عاد إلى حلب ورحل عنها ، وكان القصد من هذه السياحة الكشف عن أمر النواب والقلاع بنفسه.

وفي شوال عاد السلطان إلى القاهرة ودخلها في موكب عظيم.

وفي هذه السنة توفي السلطان حسن الطويل ملك العراقين وتولى بعده السلطنة ولده خليل.

سنة ٨٨٤

ذكر تولية حلب للأمير أزدمر بن مزيد

قال ابن إياس : في ربيع الأول من هذه السنة نقل السيفي قانصوة اليحياوي من نيابة حلب إلى نيابة الشام عوضا عن جاني بك قلقسيز بحكم وفاته ، ونقل أزدمر قريب السلطان من نيابة طرابلس إلى نيابة حلب عوضا عن قانصوه اليحياوي بحكم انتقاله إلى نيابة الشام.

قال رضي الدين الحنبلي في تاريخه در الحبب في ترجمة أزدمر المذكور : ولي كفالة حلب في دولة قريبه السلطان الملك الأشرف قايتباي ودخل حلب متوليا في جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وثمانمائة في أبهة وتجمل وألبس القضاة والأمراء وأركان الدولة الخلع على العادة ، وكان شجاعا سيىء الخلق حضر الوقعة التي كانت بين عسكري السلطان قايتباي والسلطان بايزيد فاقتحم المعركة فضرب بسيف على أنفه وفمه فسماه الناس بأزدمر الأشرم من يومئذ.

وكان بحلب طائفة من العتاة الأبطال يعرفون بالحوارنة في دولة الجراكسة ، وكانوا ذوي بطش وسفك لدماء أعوان الظلمة كالأستادار فمن دونه ، حتى كانوا يقولون : نحن نقتل فلانا ونعطي ديته معلاقا لأنهم كانوا قصّابين أو من ذرية القصاّبين يأوون طرف باب المقام والقصيلة ، فبطشوا ببعض أعوان أزدمر فصار يتتبعهم ليقتلهم ، فحصروه مرة بدار العدل فخشي شيخهم ابن بسيرك من عاقبة الأمر فأمرهم أن يطردوه بالسلاح والحجارة صورة ، ففعلوا فهرب إلى دار العدل وقال لأزدمر : إن لم تناد لهم بالأمان والاطمئنان وإلا قتلوك وقتلوني ، ومتى أطمأنوا فتتبع واقتل ، فنادى ثم أمسك منهم بعد مدة طائفة وأمر بإحضارهم متى كان القضاة الأربعة عنده في يوم الموكب وكان منهم جدي الجمال الحنبلي ولكن بحيث

٦٨

لا يرونهم ، وأمر الجلاد بقتلهم ليلبس على السلطان أنهم قتلوا بالشرع يوم الموكب بحضرة جميع القضاة ، فالتفت جدي فإذا أحدهم قد ضربت عنقه ، فأغلظ جدي له القول وقام من المجلس ، وقام باقي القضاة معه فحقنت دماء الباقين بسببه وكان يملك ألف مملوك. وأنشأ بحلب خانا بسوق الصابون وحماما بساحة باب المقام وتربة بقرب سعد الأنصاري دفن بها زوجته ، وكانت صالحة يخاف هو منها مع سطوته والدار التي دخلت الآن في خبر كان وذكرنا شيئا من خبرها (هكذا ١) ومع شهامته كان يذهب إلى الجديدة فيشرب الخمر بها وعاد منها مرة وهو سكران فاضطرب ١ ه‍.

قال ابن إياس : وفي ذي الحجة جاءت الأخبار بوفاة خليل بن حسن الطويل ملك العراقين قتله بعض أمرائه ، ولما مات ولي بعده أخوه يعقوب وكان من خيار بني حسن الطويل.

سنة ٨٨٥

ذكر عصيان سيف أمير آل فضل

في نواحي حماة وتوجه الأمير يشبك إلى حماة

بسبب ذلك

قال ابن إياس : في صفر من هذه السنة جاءت الأخبار من حماة بوقوع فتنة كبيرة فيها قتل فيها نائب حماة أزدمر بن أزبك قريب السلطان ، وسبب ذلك أن سيف أمير آل فضل كان قد خرج عن الطاعة فحاربه أزدمر نائب حماة فقتل في المعركة وقتل معه جمع من أمراء حماة فانزعج السلطان لهذا الخبر جدا.

وفي ربيع الأول عين السلطان الأمير يشبك الدوادار للخروج إلى حماة بسبب قتال سيف أمير آل فضل الذي قتل أزدمر نائب حماة ، وهذه السفرة كانت آخر العهد بالأمير يشبك ولم يعد منها إلى مصر ، وعين معه من الأمراء المقدمين برسباي قرا وتاني بك قرا وعدة من الأمراء الطبلخانات والعشراوات وعدة وافرة من الجند ، وقد لهج الناس بأن هذه

__________________

١ ـ جاء ذكر هذه الدار في «در الحبب» في ترجمة برهان الدين بن أبي شريف (إبراهيم بن محمد).

٦٩

التجريدة خرجت إلى سيف وكان الأمر كذلك وراح أكثر الأمراء والعسكر على السيف فكان كما قيل في المعنى :

لا تنطقن بما كرهت فربما

نطق اللسان بحادث سيكون

وكان الأمير يشبك له غرض تام في السفر إلى ديار بكر وقد سأل السلطان في ذلك بنفسه ، والسبب في ذلك أن الأمير يشبك كان وقع بينه وبين جلبان السلطان بسبب جانم الشريفي (أحد الأمراء اتهم الأمير يشبك في قتله) فصار معهم في تهديد وقصدوا قتله غير ما مرة ، فحسن له بعض الأعاجم أن مملكة حسن الطويل سائبة وأن العسكر مختلف على ابنه يعقوب ومتى حاربتهم لا يقدرون على محاربتك ويسلمونك مملكة العراق قاطبة ، فانصاع الأمير يشبك لهذا الكلام وسأل السلطان السفر بنفسه حتى يجعل الله لكل شيء سببا لنفوذ القضاء والقدر كما قيل في المعنى :

أتطمع من ليلى بوصل وإنما

تقطع أعناق الرجال المطامع

فلما عين السلطان الأمراء وعرض من بعد ذلك الجند وكتب منهم نحوا من خمسمائة مملوك وأنفق عليه أزيد من مائة ألف دينار وأمرهم بسرعة التجهيز والخروج صحبة الأمير يشبك. وفي ربيع الآخر خرج الأمير يشبك إلى التجريدة من غير طلب لذلك وكان عليه خمدة زائدة فتفاءل الناس أنه لا يعود إلى مصر أبدا وكذا جرى.

وفي شوال جاءت الأخبار من الرها بوقوع كائنة عظيمة طامة قتل فيها الأمير يشبك الدوادار وانكسر العسكر قاطبة وقتل الأكثر منهم ، وكان سبب ذلك أن الأمير يشبك لما دخل إلى حلب كان صحبته نائب الشام ونائب حلب ونائب طرابلس ونائب حماة والعسكر الشامي والحلبي والمصري وغير ذلك من العسكر ، فلما استقر بحلب بلغه أن سيف أمير آل فضل الذي خرج بسببه قد فر وتوجه إلى نواحي الرها ، فقوي عزم الأمير يشبك بأن يعدي من الفرات ويتبع سيفا في أي مكان كان فيه. فعدى من الفرات هو والعساكر فاجتمع معه فوق عشرة آلاف إنسان ، فلما عدى توجه إلى نحو الرها ، وكان المتولي أمرها يومئذ شخص يقال له بابندر أحد نواب يعقوب بك ابن حسن الطويل فحاصر الأمير يشبك مدينة الرها أشد المحاصرة ، فلما أشرف على أخذها أرسل بابندر يتلطف بالأمير يشبك ويقول له : ضمان مسك سيف عليّ ، وأرسل يقول له : ارحل من الرها وأنا أجمع لك من المدينة مالا له صورة ، فأبى الأمير يشبك من ذلك لما رأى من كثرة

٧٠

العساكر التي كانت معه فطمعت آماله في أخذ مدينة الرها ويزحف بعد ذلك على ملك العراق كما حسنوا له ذلك ، فزعق النفير وركب العسكر قاطبة ، فبرز بابندر ومن معه من العسكر وتحارب معهم فلم تكن إلا ساعة يسيرة وقد انكسر عسكر مصر قاطبة وبقية العسكر قاطبة ، فأسر الأمير يشبك وهو راكب على ظهر فرسه فأتوا به إلى بابندر وأسروا نائب الشام قانصوه اليحياوي ونائب حلب أزدمر بن مزيد ونائب حماة جانم الجداوي وقتل بردبك قريب السلطان نائب طرابلس وأسر برسباي قرا حاجب الحجاب وتاني بك قرا أحد المقدمين ، وقتل من الأمراء العشراوات ومن أمراء الشام وحلب ما لا يحصى وقتل من العساكر التي كانت مع الأمير يشبك ما لا يحصى عددهم ، وكانت حوافر الخيل لا تطأ إلا على جثث القتلى من العسكر.

ذكر قتل الأمير يشبك الدوادار

وأما الأمير يشبك الدوادار فإنه أقام في الأسر ثلاثة أيام ثم في اليوم الرابع بعث إليه بعبد أسود من عبيد التركمان قطع رأسه تحت الليل وأحضرها بين يدي بابندر ، وقيل إنه حز رأسه بالسيف عدة مرات وهي لا تنقطع فقطعها بسكين صغير وعذبه غاية العذاب ، فلما طلع النهار وجدوا جثته بغير رأس وهي مرمية على قارعة الطريق وعورته مكشوفة حتى ستره بعض الغلمان بحشيش من الأرض ، فلما قطعت رأس الأمير يشبك بعث بها بابندر إلى بلاد العجم إلى يعقوب بن حسن الطويل فكان له يوم مشهود بمدينة ماردين وطافوا بها بلاد العجم وهي على رمح ، وألبسوا رأس الأمير يشبك تخفيفته الكبيرة لما طافوا بها ، وطافوا بالنواب والأمراء الذين أسروهم في قيود وزناجير والمماليك الذين أسروا مشاة ، وأرسل بابندر إلى يعقوب بن حسن جميع ما نهبه من العسكر من مال وخيول وسلاح وقماش وبرك وغير ذلك مما لا يحصى ، وكانت هذه الكسرة على عسكر مصر من الوقائع الغريبة. وكان قتل الأمير يشبك في العشر الأخير من رمضان سنة خمس وثمانين وثمانمائة بالرها وقد ساقه أجله حتى خرج في هذه التجريدة بسبب سيف أمير آل فضل فكانت منيته بالرها. وكان الأمير يشبك باغيا على بابندر ، فإنه قصد محاربته من غير سبب ولا موجب لذلك فكان كما قيل :

من لاعب الثعبان في وكره

يوما فلا يأمن من لسعته

وقد نهى بعض الحكماء عن التوجه إلى بلاد الشرق من غير حاجة فقال :

٧١

إذا شئت أن تلقى دليلا إلى الهدى

لتقفو آثار الهداية من كاف

فخل بلاد الشرق عنك فإنها

بلاد بلا دال وشرق بلا قاف

ذكر تولية حلب للأمير ورديش

قال ابن إياس : لما ورد الخبر إلى مصر بالقبض على يشبك وانكسار العساكر المصرية ماجت القاهرة عن آخرها واضطربت أحوال السلطان ، ثم أشيع بين الناس أن السلطان قصد السفر إلى حلب بنفسه ويقيم بها خوفا من عسكر يعقوب بن حسن أن يطرق بلاد حلب والشام فإن النواب قاطبة كانوا في الأسر عند يعقوب بن حسن.

ثم إن السلطان عين الأتابكي أزبك إلى حلب وعين معه ورديش أحد المقدمين وخلع عليه وأقره في نيابة حلب عوضا عن أزدمر ، وعين من الأمراء العشراوات والطبلخانات عدة وافرة منهم جاني بك حبيب أمير أخور وآخرين من الأمراء ، ثم عرض الجند وكتب منهم جماعة واستحثهم على الخروج بسرعة قبل أن تهجم عساكر الشرق على حلب ، ولو لا فعله ذلك لخرج من يده غالب جهات حلب. ثم بعد أيام خرج الأتابكي أزبك من القاهرة هو والعسكر في تجمل زائد وكان له يوم مشهود ، وفوض السلطان أمر البلاد الشامية والحلبية للأتابكي أزبك وجعل له التكلم في أمور المملكة من ولاية وعزل.

وفي ذي الحجة جاءت الأخبار من حلب بقتل محمد بن حسن بن الصوا الحلبي نائب قلعة حلب وكان من أخصاء السلطان ثار عليه أهل حلب بسبب مظالم أحدثها بحلب فقتله العامة وقتل فرج بن أغلبك حاجب الحجاب بحلب ، وكان رئيسا حشما من أعيان أهل حلب وكان لا بأس به.

سنة ٨٨٦

قال ابن إياس : في المحرم أرسل السلطان تاني بك الجمالي أحد المقدمين إلى حلب إعانة للأتابكي أزبك فطلب وخرج وكان له يوم مشهود.

وفي صفر جاءت الأخبار من حلب بأن الأتابكي أزبك لما وصل إلى حلب وجد أمر الفتنة التي وقعت بين عسكر مصر وبين بابندر قد سكن أمرها وأن يعقوب بن حسن الطويل شق عليه ما فعله بابندر من سرعة قتله للأمير يشبك الدوادار ولامه على ذلك. ثم

٧٢

إن الأتابكي أزبك أرسل جاني بك حبيب قاصدا إلى يعقوب بن حسن فتلطفه في الكلام وكان الأمير جاني بك حبيب سيوسا دريّا حلو اللسان ، فأكرمه يعقوب وأجله ثم أطلق من كان عنده من الأسرى من النواب والأمراء وغير ذلك فسلمهم للأمير جاني بك فأتى بهم إلى حلب صحبته ، فلما بلغ السلطان هذا الخبر سر به جدا.

وفي رمضان وصل قاصد من عند يعقوب بن حسن الطويل وعلى يديه مكاتبة من عند يعقوب وهو يعتذر فيها مما وقع من بابندر وأن ذلك لم يكن بعلمه ، فعتب السلطان على القاصد وخلع عليه وأذن له في السفر.

وفي شوال جاءت الأخبار بوصول الأمير أزبك إلى غزة وصحبته النواب والأمراء الذين كانوا أسروا عند بابندر ، فأرسل السلطان هجانا للأتابكي أزبك بأن يقبض على قانصوه اليحياوي الذي كان نائب الشام وأسر عند بابندر ويرسله إلى القدس بطالا وأن بقية الأمراء والنواب يحضرون إلى القاهرة ، وكان قد بلغ السلطان بأن قانصوه اليحياوي كان سببا لكسرة العسكر وقتل يشبك فعمل له ذنب كبير بسبب ذلك فكان كما قيل :

له ألف ذنب لا تعد بواحد

ولي فرد ذنب لا يعادله ألف

سنة ٨٨٧

ذكر قتل سيف أمير آل فضل

قال ابن إياس : في جمادى الأولى جاءت الأخبار بقتل سيف أمير آل فضل الذي خرج الأمير يشبك الدوادار بسببه كما تقدم ، قتله ابن عمه غسان في بعض بلاد العراق.

سنة ٨٨٨

ذكر محاصرة علي دولات بن دلغادر إلى ملاطية

قال ابن إياس : في جمادى الآخرة جاءت الأخبار بأن علي دولات بن دلغادر قد أتى إلى ملطية في جمع كثير من العساكر وقد حاصر البلد أشد المحاصرة فانزعج السلطان لهذا الخبر.

٧٣

وفيه عرض السلطان الجند وعين تجريدة إلى حلب بسبب علي دولات بن دلغادر وعين بها من الأمراء أزدمر أمير مجلس الذي كان نائب حلب والأمير تغري بردي ططر حاجب الحجاب الثاني وغيرهم من الأمراء ومن الجند نحو خمسمائة مملوك وأنفق عليهم ، فبلغت النفقة على الأمراء والجند زيادة عن سبعين ألف دينار.

وفي رجب خرج الأمراء والعسكر إلى التجريدة التي عينت إلى علي دولات ابن دلغادر وكان آخر العهد بالأمير أزدمر أمير مجلس الذي كان نائب حلب فلم يدخل إلى مصر بعد ذلك.

سنة ٨٨٩

ذكر إرسال تجريدة ثانية إلى ابن دلغادر

صاحب مرعش ومبدأ الخلاف بين دولة الجراكسة

في مصر والدولة العثمانية وانكسار العساكر المصرية

وقتل ورديش نائب حلب

قال ابن إياس : في المحرم عين السلطان تجريدة ثانية تقوية لمن تقدم من العسكر ، فعين تمراز النمشي أمير سلاح باش العسكر ومن المقدمين أزبك اليوسفي وعين من الجند نحوا من أربعمائة مملوك من المماليك السلطانية.

وكان سبب تعيين هذه التجريدة أن السلطان قد بلغه أن ابن عثمان ملك الروم [هو السلطان بايزيد ابن السلطان محمد الفاتح رحمه‌الله تعالى] قد أمد علي دولات بعساكر كثيرة ، وهذا أول تحول ابن عثمان على بلاد السلطان ، واستمرت الفتن بعد ذلك تتزايد إلى أن كان ما سنذكره في موضعه.

وفي ربيع الأول جاءت الأخبار بأن العسكر الذي خرج من القاهرة قد تقاتل مع علي دولات أخي سوار ، وقد كسر العسكر وقتل منهم جماعة كثيرة من الأمراء والجند ، فقتل الأمير قاني بك أحد أمراء الطبلخانات وقتل معه جماعة من أمراء حلب والشام.

وفي رمضان جاءت الأخبار من حلب بأن ورديش نائب حلب خرج في جمع من العساكر وتقاتل مع علي دولات أخي سوار ، وقد أمده ابن عثمان بجمع كثير من عساكره ، فلما التقى العسكران وقع بينهما واقعة مهولة فانكسر العسكر الحلبي وقتل وردبش نائب حلب وجماعة كثيرة من العسكر الحلبي والمصري.

٧٤

وكان ورديش شجاعا بطلا وأصله من مماليك الظاهر جقمق يعرف بوردبش بن محمود شاه وتولى عدة وظائف سنية منها نيابة سيس ثم نيابة قلعة الروم ولم يباشرها ثم تولى نيابة البيرة ، ثم بقي أتابك العساكر بحلب ثم بقي مقدم ألف بمصر ثم بقي نائب حلب واستمر بها إلى أن قتل على يد علي دولات باي ، وقتل أيضا ألماس نائب صفد وعدة من الأمراء (ذكرهم ابن إياس).

ذكر العود لمحاربة علي دولات وانكسار عساكره

قال : ثم جاءت الأخبار من بعد ذلك بأن الأمير تمراز لما حصلت هذه الكسرة لعسكر حلب ركب هو والأمير أزدمر أمير مجلس [نائب حلب السابق] والعسكر المصري وتوجهوا إلى علي دولات فتقاتلوا معه ، فانكسر علي دولات وعسكره وعسكر ابن عثمان ونهبوا جميع بركهم وأخذوا صناجق ابن عثمان ودخلوا بها إلى حلب وهي منكسة ، وكانت هذه الحركة أول الفتن مع ابن عثمان واستمرت من يومئذ عمالة (١) مع سلطان مصر ومعه حتى كان من أمرهما ما سنذكره. وكان أصل هذه الفتنة تعصب ابن عثمان لعلي دولات ، وكان ابن عثمان متحملا على سلطان مصر في الباطن بسبب أشياء لم تظهر للناس.

ذكر تولية حلب للأمير أزدمر

للمرة الثانية

قال ابن إياس : وفي ذي القعدة أرسل السلطان خلعة إلى أزدمر بن مزيد أمير مجلس ورسم له بعوده إلى نيابة حلب كما كان أولا عوضا عن وردبش بحكم قتله عند علي دولات.

وفي ذي الحجة جمع السلطان الأمراء وضربوا مشورة في أمر ابن عثمان بسبب ما وقع منه في تعصبه لعلي دولات ، فأشار السلطان هو والأتابكي أزبك وغيره من الأمراء بأن السلطان يرسل هدية على يد قاصده وتزول هذه الوحشة من بينهما ، فانصاع السلطان لهذا الكلام وعين في ذلك المجلس الأمير جاني بك حبيب أمير أخور ثاني ، وقد تقدم أنه توجه إلى يعقوب بن حسن الطويل ملك العراقين.

__________________

(١) لعل قصده متواصلة.

٧٥

سنة ٨٩٠

ذكر توجه جاني بك حبيب إلى القسطنطينية رسولا

وسبب الوحشة بين الدولة المصرية والدولة العثمانية

قال ابن إياس : وفي صفر كان توجه جاني بك حبيب أمير أخور ثاني إلى ابن عثمان ، وكان توجهه من الإسكندرية من البحر ، وأرسل السلطان صحبته تقليدا من الخليفة إلى ابن عثمان بأن يكون مقام السلطان على بلاد الروم وما سيفتحه الله تعالى على يديه من البلاد الكفرية ، وأرسل إليه أيضا الخليفة مطالعة تتضمن تخميد هذه الفتنة التي نشبت بينه وبين السلطان وفي المطالعة بعض ترقق له ، والذي استفاض بين الناس أن سبب هذه الفتنة الواقعة بينه وبين السلطان أن بعض ملوك الهند أرسل إلى ابن عثمان هدية حافلة على يد بعض تجار الهند ، فلما وصل إلى جدة احتاط عليها نائب جدة وأحضرها صحبته إلى السلطان ، وكان من جملة تلك الهدية خنجر قبضته مرصعة بفصوص ثمينة ، فطمع السلطان في تلك الهدية وأخذ الخنجر ، فلما بلغ ابن عثمان ذلك حنق وجاء في عقب ذلك أن علي دولات ترامى على ابن عثمان وشكى له من أفعال السلطان وما يصدر منه فتعصب لعلي دولات وأمده بالعساكر واستمرت الفتنة تتسع حتى كان منها ما سنذكره في موضعه. وقد طمع غالب ملوك الشرق في عسكر مصر بموجب ما وقع لهم مع سوار وبابندر وغير ذلك من ملوك الشرق.

ثم إن السلطان أرسل الخنجر المذكور والهدية التي بعث بها ملك الهند وأرسل يعتذر إلى ابن عثمان عن ذلك بعد أن صار ما صار فكان كما قيل :

جرى ما جرى جهرا لدى الناس وانبسط

وعذر أتى سرا يؤكد ما فرط

ومن ظن أن يمحو جليّ جفائه

خفيّ اعتذار فهو في غاية الغلط

وفي ربيع الأول عرض السلطان العسكر وعين تجريدة إلى علي دولات وعين بها من الأمراء برسباي قرا رأس نوبة النوب وتاني بك الجمالي أحد المقدمين ورسم لهم بأن يتقدموا جاليش العسكر إلى أن يخرج الأتابكي إزبك ، ثم أنفق على العسكر الذي تعين للتجريدة فبلغت النفقة زيادة عن مائة ألف دينار.

٧٦

ذكر أول وقعة بين الدولة المصرية والدولة العثمانية

واستيلاء العثمانيين على قلعة كولك

قال ابن إياس : في جمادى الآخرة جاءت الأخبار من حلب بأن عسكر ابن عثمان قد استولى على قلعة كولك وكان بها شخص من المماليك السلطانية يقال له طوغان الساعي ، فلما حاصروه سلمها إليهم بالأمان وكانت هذه أول وقائع ابن عثمان ، ثم اتسع الأمر بعد ذلك وكان ما سنذكره في موضعه.

وفي شعبان جاءت الأخبار بأن عساكر ابن عثمان قد استولوا على أطراف بلاد السلطان ، وأرسل أزدمر نائب حلب يستحث السلطان بخروج تجريدة ثقيلة أو يخرج السلطان بنفسه ، فتكدر السلطان لهذا الخبر ونادى للعسكر بالعرض ثم عرض الجند بحضرة الأتابكي أزبك وكان هو المشار إليه في تعيين الجند مما يختاره منهم ، ثم عرض القرانصة وأولاد الناس وصار الذي لا يطيق السفر منهم يقيم له بديلا كاملا بخيوله ولبسه وغير ذلك ويورد مائة دينار من له إقطاع وجامكية. ثم إن المماليك المعينة للسفر أطلقوا في الناس النار وصاروا يأخذون بغال الناس وخيولهم غصبا حتى أخذوا بغال الطواحين والأكاديش التي بها وتعطلت الطواحين بسبب ذلك وتشحط الخبز من الدكاكين وكادت أن تكون غلوة كبيرة حتى وبخ السلطان المماليك بالكلام ونادى في القاهرة بالأمان والاطمئنان وأن كل من أخذ له بغل أو فرس يطلع إلى أمير أخور كبير يخلصه فسكن الحال قليلا.

ذكر خروج العسكر المعين إلى علي دولات

بقيادة الأتابكي أزبك

قال ابن إياس : وفي شوال خرج العسكر المعين إلى علي دولات وكان باش العسكر الأتابكي أزبك ، وكان صحبته قانصوه أمير أخور كبير وتاني بك قرا أحد مقدمي الألوف ، وقد تقدم قبلهم ستة من الأمراء المقدمين أزدمر أمير مجلس وتغري بردي ططر وقرر بعدهم تمراز أمير سلاح وأزبك اليوسفي أحد الأمراء المقدمين ، ثم خرج من بعدهم برسباي قرا

٧٧

رأس نوبة النوب وتاني بك الجمالي أحد المقدمين ، فكان جملة الذين خرجوا أولا وآخرا تسعة أمراء بالأتابكي أزبك ومن الجند نحو من ثلاثة آلاف مملوك مما تقدم في الأول والآخر ، وكانت هذه التجريدة من أعظم التجاريد ، وطلب الأتابكي أزبك طلبا حافلا حتى رجت له القاهرة ، وكذلك قانصوه كان طلبه غاية في الحسن بحيث لم يعمل مثله قط. قيل كان مصروف قانصوه نحوا من ثمانين ألف دينار ، وخرج العسكر وهم لابسون آلة الحرب وكان لهم يوم مشهود ، وكان مع الأمير أزبك عدة أمراء طبلخانات وعشراوات والجم الغفير من الخاصكية والمماليك السلطانية فعدت هذه التجريدة من النوادر.

ذكر عود جاني بك حبيب من القسطنطينية

وإخباره بما لاقاه

قال ابن إياس : وفي ذي القعدة عاد جاني بك حبيب الذي توجه إلى ابن عثمان قاصدا ، وكان قد سافر أولا من البحر المالح وعاد من طريق ملطية ، فلما طلع بين يدي السلطان كان عليه خلعة ابن عثمان فخلع عليه وعلى من كان معه من الخاصكية. ثم إن جاني بك حبيب خلا بالسلطان وأخبره عن أحوال ابن عثمان بأنه ليس براجع عن أذاه لعسكر مصر وأنه لم ير منه إقبالا ولا أكرمه وأنه غير ناصح للسلطان ، فكثر القال والقيل بسبب ذلك.

وفي ذي الحجة جاءت الأخبار من نائب حلب بأن علي دولات أرسل يسأل في الصلح بعد ما اتسع الخرق على الراقع كما قيل في المعنى :

أتروض نفسك بعد ما هرمت

ومن العناء رياضة الهرم

سنة ٨٩١

ذكر الحرب بين العساكر المصرية والعساكر العثمانية

وانتصار العساكر المصرية

قال ابن إياس : وفي صفر جاءت الأخبار من حلب بأن العسكر المصري تقاتل مع عسكر ابن عثمان وانتصر على عسكر ابن عثمان وقتل منهم جماعة كثيرة نحوا من أربعين ألفا من توابع عسكره وقبض على أحمد بك بن هرسك وكان باش عسكر ابن عثمان وأجل أمرائه ومعه جماعة من الأمراء أصحاب الصناجق العثمانية وأسروهم وأودعوهم في الحديد ، فلما بلغ السلطان ذلك سرّ به.

٧٨

وفي ربيع الأول وصل دوادار نائب حلب وأخبر بصحة كسرة ابن عثمان والقبض على أحمد بك بن هرسك وجماعة من أمراء ابن عثمان وأعيانهم ، وقد أخذ العسكر المصري من النهب ما لا يحصى من خيول وجمال وسلاح وبرك وقماش وغير ذلك وأخذوا صناجقهم وكانوا نحوا من مائة وعشرين صنجقا ، وقد قطعت عدة وافرة من رؤوس عسكر ابن عثمان وستحضر صحبة قيت الرحبي الساقي الخاصكي ، فسر السلطان لهذا الخبر وخلع على دوادار نائب حلب خلعة حافلة.

وفي ربيع الآخر وصل قيت الساقي من حلب ومعه عدة وافرة من الرؤوس التي قطعت من عسكر ابن عثمان ، فلما دخل القاهرة زينت له زينة حافلة واصطفت الناس للفرجة فدخل وقدامه الرؤوس محمولة على الرماح وكان عدتها ما يزيد على مائتي رأس.

ذكر عود العساكر العثمانية مع العساكر المصرية

قال ابن إياس : وفي جمادى الآخرة جاءت الأخبار بأن عسكر ابن عثمان لما حصلت لهم تلك الكسرة جمع جيشا كثيفا ورجع إلى المحاربة ثانيا ، وأن عسكر السلطان بعد أن رجع إلى حلب خرج ثانيا إلى نحو كولك ، فتنكد السلطان إلى الغاية لهذا الخبر ونادى للعسكر بالعرض وعين جماعة من الأمراء المقدمين والجند فكانوا نحوا من خمسمائة مملوك ، وكان الباش عليهم يشبك الجمالي الزردكاش الكبير أحد المقدمين ، ثم أنفق عليهم واستحثهم على الخروج إلى حلب وضاق الأمر بالسلطان حتى قصد أن يخرج إلى التجريدة بنفسه وأرسل السلطان إلى كرتباي الأحمر كاشف البحيرة بأن يجمع له من طائفة العربان الذين بالبحيرة ما يقدر عليه ، ثم عرض جماعة من الزعر وقصد أنه ينفق عليهم لكل واحد ثلاثين دينارا وأن يخرجوا صحبته وصار ينتظر ما يرد عليه من الأخبار ، ثم خرج الأمير يشبك الجمالي ومن عين معه من الجند إلى جهة حلب فكان لهم يوم مشهود.

وفي ذي القعدة كان دخول الأتابكي أزبك وبقية الأمراء والجند ممن كانوا مسافرين في التجريدة إلى علي دولات وإلى عسكر ابن عثمان. فلما دخلوا إلى القاهرة كان لهم يوم مشهود ، وقدامهم الأسراء من عسكر ابن عثمان وهم مزنجرون والصناجق منكسة وكان

٧٩

صحبتهم جماعة من أعيان أمرائه وهم بزناجير على خيولهم وصحبتهم باش عسكر ابن عثمان وهو أحمد بك بن هرسك وهو راكب وفي عنقه زنجير. وقيل إن ابن هرسك كان أميرا كبيرا أتابكي ابن عثمان ، فلما عرضوا على السلطان عاتب أحمد بن هرسك ووبخه بالكلام ثم سلمه إلى الأمير قانصوه خمسمائة أمير أخور كبير ثم وزع بقية الأسراء على جماعة من المباشرين حتى قضاة القضاة ، ثم خلع على الأتابكي أزبك وعلى بقية الأمراء ونزلوا إلى دورهم.

سنة ٨٩٢

ذكر إطلاق أحمد بك بن هرسك

قائد العساكر العثمانية

قال ابن إياس : وفي المحرم رسم السلطان بفك قيد أحمد بك بن هرسك الذي قد أسر وكذلك فك قيود من أسر من عسكر ابن عثمان وأخذوا في أسباب تجهيزهم إلى بلادهم وقد أشيع أمر الصلح بين السلطان وابن عثمان.

وفي شوال جاءت الأخبار بفرار شاه بضاع بن دلغادر وكان مسجونا بقلعة دمشق ، فلما بلغ السلطان ذلك تنكد إلى الغاية ورسم بشنق نائب قلعة دمشق ، ثم جاءت الأخبار بأن شاه لما فر من قلعة دمشق توجه إلى ابن عثمان فأكرمه وأقام عنده إلى أن كان من أمره ما سنذكره في موضعه.

سنة ٨٩٣

ذكر الحرب بين العساكر المصرية والعثمانية

وانتصار المصريين أيضا

قال ابن إياس : في المحرم جاءت الأخبار بأن ابن عثمان أرسل عسكرا عظيما وقصد محاربة عسكر مصر. وفي جمادى الأولى جاءت الأخبار من حلب بأن ابن عثمان جهز عسكرا وقد وصل إلى آدنة ، فلما بلغ السلطان ذلك اضطربت أحواله ونادى بالعرض فحضر الأتابكي أزبك باش العسكر فكتب بحضرته من الجند نحوا من أربعة آلاف مملوك

٨٠