إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٣

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٣

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٧

زائدا ، وإذا مر حديث يعرفه لكثرة ما قرىء عنده بطرابلس ، ثم سافر إلى جهة البيرة لأجل مجيء جاه نكير بن قرايلوك إليها وكبسها وأخذ منها مالا وأمرني بالقراءة في غيبته ، فلما قدم حلب بلغه خبر العزل. ثم إنه في آخر شعبان صرع فدخلت إليه فرأيت عقله مختلا فقال لي : تمم البخاري بالجامع فإني عزلت. وضربت الحوطة السلطانية على حواصله فلم يحصل على شيء ، وسافروا به من حلب سلخ شعبان إلى دمشق فمات قبل وصوله إلى سراقب ، فلما وصل جماعته ، إلى المعرة وصل تنم (نائب حلب) إليها فكان هذا يدق بشائره وهذا النائحة قائمة عليه والصياح في وطاقه ، فسبحان من لا يزول ملكه. وبنى برسباي جامعا بدمشق وبرجا على البحر بطرابلس ولم يأخذ من خمارة حلب شيئا.

سنة ٨٥٢

قال أبو ذر : في أولها ولدت امرأة بقرية بنجارة من عمل سرمين لها جسد واحد وعنق واحدة وعلى العنق رأسان من جهة واحدة في كل رأس وجه في كل وجه عينان وفم وأنف وأذنان ، فإذا بكت بكت من المكانين وعاشت يوما واحدا.

وفي المحرم حضر جماعة من أهل أعزاز وصحبتهم الخطيب وشكوا إلى الكافل تنم بأنهم ظلموا فضربهم وأراد إشهارهم في البلد فخلصهم العامة فوقع بسبب ذلك فتنة بين الكافل والعامة ، ورمى جماعة من مماليك الكافل على العامة بالنشاب فجرح جماعة وقتل بعض ، ثم دخل الأمير الكبير والحاجب ودوادار السلطان ونائب القلعة بينهم وسكنت الفتنة.

وفي منتصف ربيع الأول طفا السمك الذي بخندق قلعة حلب ودام الطاعون ، وكان الطاعون خارج البلدة أكثر لا سيما بالكلّاسة وبانقوسا وصار الناس يبيتون على النعوش وعمل الناس نعوشا ، وتكلم في عدد الموتى فمقل ومكثر ، والصحيح أنه خرج من باب المقام دون الستين وفوق الخمسين نفسا ، وحصلت رائحة كريهة في بعض القرى لكثرة الموتى.

ذكر عزل تنم وتولية حلب لقاني بك الحمزاوي

قال أبو ذر : وفي العشر الثاني من جمادى الآخرة صرف تنم عن كفالة حلب بالحمزاوي ، وكان تنم كثير الطمع في أموال الرعية وصادر أهل الباب ومن حولها من القرى

٤١

عند ذهابه إليها ، وكثر قطاع الطرق في أيامه وصارت العرب من زعب يأتون إلى القرى ويأخذون الغفر ، حتى لقد رأيت فلاحا يزرع بقرية بارت التي للأشراف وضع بيدره عند مقام الأنصاري فجاء العرب إليه يطلبون الغفر على بيدره ، وأحدث خفراء عند خان طومان يغفرون القوافل إلى سرمين وذلك لعجزه عن ضبط المملكة ، وعاتب شخصا من أكابر أهل عين تاب بالصفع وأدخله السجن فمات بالسجن من الصفع.

ترجمة تنم المؤيدي :

قال في المنهل الصافي : تنم بن عبد الله بن عبد الرزاق الأمير سيف الدين من مماليك الملك المؤيد شيخ وممن صار في أيامه خازندارا صغيرا ، ودام على ذلك مدة يسيرة إلى أن نقله الملك الأشرف إلى وظيفة رأس نوبة الجمدارية. (ثم قال) :

وفي سنة إحدى وخمسين وثمانمائة خلع عليه بنيابة حماة بعد توجه الأمير يشبك الصوفي إلى نيابة طرابلس وذلك في شهر ربيع الأول ، فتوجه الأمير تنم إلى حماة وأقام بها إلى شهر رجب من السنة برز المرسوم الشريف بانتقاله إلى نيابة حلب عوضا عن الأمير برسباي الناصري بحكم مرضه ، فتوجه إليها وباشر نيابتها مدة يسيرة ووقع بينه وبين أهلها وحشة وكثر الكلام في حقه إلى أن عزل عن نيابة حلب بنائبها قديما الأمير قاني بك الحمزاوي ، وطلب إلى القاهرة فقدمها في مستهل شهر شعبان سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة فأخلع السلطان عليه وأنعم عليه بفرس بقماش ذهب وأجلسه تحت أمير مجلس فوق بقية الأمراء ، وفي سنة ٨٥٣ في صفر نقله إلى إمرة مجلس.

ولم يذكر صاحب المنهل تنقلاته بعد ذلك ولا تاريخ وفاته ولعلها تأخرت عن وفاة المؤلف.

سنة ٨٥٣

الكلام على سقف الجامع الأعظم وجداريه

القبلي والشمالي وما حصل بهما في زمن قاني بك

قال في كنوز الذهب : وأما سقفه فكان جملونا كجامع دمشق ، وكان بحائط المحراب وحائط الصحن قماري ومناظر وآثارها باقية إلى الآن ، فلما احترق الجامع في أيام

٤٢

التتار بنى ابن صقر القبو فغوش عليه كافل حلب وقال له : إنما بنيت إصطبلا. فلما كانت دولة الظاهر جقمق وكافل حلب إذ ذاك قاني بك الحمزاوي وملاك أمر حلب بيد زين الدين عمر سبط ابن السفاح اختلفت أقاويل المهندسين ورأسهم علي ابن الرحال وكان ماهرا في صنعته حينئذ وآراؤهم في أمر الحائط الذي فيه أبواب القبلية وهو نهاية في الجودة والترصيف وجودة النحت وثقل الآلة وحسن التركيب والترتيب وكثرة ما فيه من الكوى طلبا للمكنة والخفة ، وليس بحلب حائط مثله إذ مال أوسطه وخرج عن الميزان ميلا فاحشا ، وكانوا قد زانوه وظهر لهم ذلك ، وعلى رأس الباب المذكور نسر مبني بالحجارة الهرقلية وعليه رفرف جدده قصروه كافل حلب وأعانه عليه شيخنا المؤرخ (ابن الخطيب). وظهر تشقق وانفساخ في القبو الملاصق للحائط ، وكان الناس في صلاة الجمعة والخطيب على المنبر انهار تراب من الشقوق ففزع الناس وخرجوا من القبلية ، حتى إني كنت أصلي فيها فخيل لي أن الحائط قد سقط على الناس من شدة الفزع ، فحضر كافل حلب قانيباي الحمزاوي ومعه ابن السفاح ورؤساء البلد والمهندسون والبناؤون ومنهم الحاج محمد شقير وكان عالما بصنعته وفيه ديانة ، فاضطربوا أيضا واختلفت أقوالهم ، فبعضهم أشار بنقض الحائط وقال : أخاف إن وقع وقوع المنارة (١) وبعضهم أشار بحفر حفر في صحن الجامع ليكشف عن أساس الجامع وينظر في حاله وقال : إنما أتي ٢ من قبل الماء المجتمع في المصنع الذي بصحن الجامع ، فحفروا الحفاير فوجدوا الحائط مبنيا على قناطر فقال بعضهم : إن الذي بناه على أساسه القديم ولم يصل به إلى الجبل ، وقال بعضهم : بل هذا طلب للمكنة. وأخذوا في نزح الماء من المصنع وتفرق النايب والناس عن غير طائل. قال لي ابن الرحال : بينا أنا في صحن الجامع إذ أنا بشخص يتكلم بين الناس ويقول : الرأي أن ينقض النسر الذي على الباب وأن ينقض القبو المتقطع ويترك الحائط على حاله ، ولم أعرف الرجل فتدبرت كلامه فوقع في قلبي أنه الصواب فأشرت بذلك فأخذوا في نقض القبو الملاصق للحائط ، وكان الرأي أن ينقض قليلا قليلا فزادوا في النقض فتقطع بقية القبو ، ولو علم الكافل بذلك لقتل ابن

__________________

(١) في هامش الكرّاسة المنقولة من كنوز الذهب بخط بعض الفضلاء ما نصه أقول وقد كانت المنارة الأصلية في الحائط الغربي ملاصقة لحائط القبلية الشمالي الملاصق للصحن وحين رم الجامع سنة ١١٧٠ شوهد بابها ورسمها من أعلى السطح اه.

٢ ـ نص العبارة في مخطوطة ««كنوز الذهب» ـ كما رأيتها عند الأستاذ محمد كامل فارس ـ : إنما أتي الحائط من قبل أساسه ، وبعضهم قال : إنما أتي من قبل الماء ...

٤٣

الرحال ، وكانوا قد كاتبوا السلطان في أمره فأرسل ألف دينار إلى ابن السفاح ليصرفها في عمارة ذلك ، فاتفق رأي العامل نجم الدين مع ابن السفاح وقطعا المستحقين خلا أرباب الخمس وشرعوا في عمارة ذلك ، فلما خاف ابن السفاح من هيبة السلطان صرف شيئا قليلا من مال السلطان في عمل البوارز التي على الحائط المذكور وأخذت حجارة النقض ووضع منها شيء في معبر الباب الغربي (١) وبقي الباب القبلي بغير رفرف ، فشرع القاضي الحنفي ابن الشحنة في عمل رفرف عليه وركب في شهر شعبان سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة وثبت الحائط على حاله ولم يزدد بعد ذلك شيئا أنتهى (٢).

وفي رجب دخل الحمزاوي إلى حلب كافلا ، وكان لين الجانب كثير الحياء والتودد للناس ، وله زوج عملت خيرا كثيرا لم تدع مزارا بحلب إلا وأرسلت له الدراهم وأحسنت للفقراء ، وعزلت عقبة ديركوش وسهلتها بعد صعوبتها ، وكانت لا تسمع بفقير صالح إلا وأحسنت إليه ولا بمعروف إلا وبادرت إليه ، وتحسن لأهل الحبس كثيرا وتطعم الأيتام وتكسوهم وتزوجهم ، وكانت شهمة لها همة عظيمة في فعل الخير ، وماتت بعد زوجها بدمشق عن أثاث كثير.

سنة ٨٥٥

أخلاق وعادات

قال أبو ذر في حوادث هذه السنة : في جمادى الأولى عمل الحاج محمد بن خليفة المعصراني وهو من أهل بانقوسا طهورا لأولاده ، وأراد أهل بانقوسا أن يلبسوا السلاح على عادتهم في المشي في خدمة المطهرين ، فشاع الخبر بأنهم يريدون الإيقاع بالحوارنة ، فأرسل الكافل خلف الأكابر وحذرهم من الفتن وأشهر النداء بعدم لبسهم ، فدخل إليهم جماعة من أكابر تجار بانقوسا والتزموا بأن لا يحدث شر بين الطائفتين ، فأذن في ذلك فلبسوا على عادتهم وطافوا في البلد ، فلما وصلوا إلى تحت القلعة صاح شخص : يا لقيس ، فوقعت الفتنة وحمي الوطيس ودامت إلى قرب العصر فقتل جماعة من الطائفتين ومن المتفرجين

__________________

(١) كان الباب الغربي في وسط الرواق الغربي ثم سد بعد ذلك وفتح الباب الموجود الآن أمام المدرسة الحلاوية.

(٢) في الهامش : وقد جدد في دولة آل عثمان.

٤٤

وجرح جماعة ، فلما كان يوم الجمعة قبل الصلاة اقتتلوا أيضا تحت القلعة ، بأمر الكافل الأمراء ومماليكه فلبسوا السلاح وأشهروا النداء ودار القضاة الأربعة والمنادي ينادي : من لم يرجع عما هو عليه قتل ، فسكنت الفتنة.

واعلم أن سبب العداوة أولا أنه لما مات يزيد بن معاوية بويع ابن الزبير رضي‌الله‌عنهما بمكة ، وقام مروان بن الحكم بالشام في أيام ابن الزبير واجتمعت عليه بنو أمية ، وصار الناس بالشام فرقتين اليمانية مع مروان والقيسية مع الضحاك بن قيس متابعين لابن الزبير لأن الضحاك بايع ابن الزبير سرا بالشام ، وآخر ذلك أن الفريقين اقتتلوا بمرج راهط في الغوطة وانهزم الضحاك والقيسية وقتل الضحاك وجمع كثير من فرسان قيس ونادى منادي مروان أن لا يتبع أحد منهزما ، ودخل مروان دمشق ثم صار هذا في البلاد.

سنة ٨٥٧

ذكر وفاة الملك الظاهر جقمق العلائي وسلطنة ولده الملك المنصور عثمان

قال ابن إياس ما خلاصته : في هذه السنة في صفر توفي الملك الظاهر جقمق العلائي وله من العمر إحدى وثمانون سنة ، وكانت مدة سلطنته بالديار المصرية والبلاد الشامية أربع عشرة سنة وعشرة أشهر ، وكان ملكا عظيما جليلا دينا خيرا متواضعا كريما يحب فعل الخير ، وكان عنده لين جانب ، يحب العلماء وينقاد إلى الشريعة ويقوم للعلماء ، إذا دخلوا عليه ، وكان يحب الأيتام ويكتب لهم الجوامك (الرواتب) ولا يخرج إقطاع من له ولد إلا إلى ولده ، وكانت الدنيا في أيامه هادئة من الفتن والتجاريد.

ولما مات أقيم في السلطنة ولده الملك المنصور أبو السعادات فخر الدين عثمان وهو الحادي عشر من ملوك الجراكسة وأولادهم بالعدد وبويع بالسلطنة وله من العمر نحو تسع عشرة سنة.

ذكر خلع الملك المنصور عثمان

وسلطنة الملك الأشرف إينال العلائي

قال ابن إياس : بقي الملك المنصور في السلطنة ثلاثة وأربعين يوما ، ثم خلع وأقيم في السلطنة الملك الأشرف إينال العلائي الظاهري وهو الثاني عشر من ملوك الجراكسة.

٤٥

قال : وفيها قدم القاضي محب الدين بن الشحنة إلى القاهرة من غير طلب فأراد السلطان أن يرده إلى حلب فوعد بمال فأذن له بالدخول إلى مصر فدخل على كره من الجمالي يوسف ناظر الخاص. (ثم قال) : وقرر القاضي محب الدين بن الشحنة باستمراره في قضاء حلب. (قال) : وفيها خلع السلطان على محب الدين بن الشحنة وقرره في كتابة السر بمصر وصرف عنها محب الدين بن الأشقر ، وهذه أول عظمة ابن الشحنة بمصر ، وكان قرر في قضاء الحنفية بحلب فتكاسل عن التوجه إلى حلب وسعى في كتابة السر حتى قرر بها.

وفيها توفي القاضي ضياء الدين بن النفيسي الشافعي الحلبي كاتب السر بحلب ، وكان من أعيان الناس الرؤساء بحلب.

وفي هذه السنة استولى السلطان محمد الفاتح رحمه‌الله على القسطنطنية واتخذها دار ملكه ، وقد بسط كيفية ذلك غير واحد من المؤرخين.

سنة ٨٥٨

قال ابن إياس : فيها قرر في نيابة حلب أقبردي الظاهري الساقي عوضا عن قاني باي الحمزاوي ، ثم وصل إلى مصر قاصد قاني باي وعلى يده تقدمة حافلة إلى السلطان ، وكان قد أشيع عنه العصيان والمخامرة فبطل ما قرر وبقي قاني بك في النيابة.

سنة ٨٥٩

ذكر تولية حلب للأمير جانم الأشرفي

قال ابن إياس : في هذه السنة جاءت الأخبار بموت جلبان نائب الشام [الذي كان نائب حلب] فعين السلطان نيابة الشام إلى قاني بك الحمزاوي نائب حلب ، وخلع السلطان على جانم الأشرفي وقرره في نيابة حلب عوضا عن قاني بك الحمزاوي.

قال أبو ذر : كان خروج الحمزاوي من حلب في مستهل ربيع الآخر.

٤٦

ترجمة قاني بك :

قال في المنهل الصافي : قاني بك ابن عبد الله الحمزاوي الأمير سيف الدين نائب حلب ، هو من مماليك الأمير سودون الحمزاوي الدوادار في الدولة الناصرية فرج ، ثم اتصل بعد موت أستاذه بخدمة والدي رحمه‌الله [هو تغري بردي الذي كان نائبا بحلب سنة ٧٩٦] هو وجماعة من إخوته وطالت أيامه عند الوالد إلى أن ثقل الوالد في مرض موته ففر قاني بك من عنده إلى الأمير شيخ المحمودي ودام عنده إلى أن تسلطن وأنعم عليه بإمرة عشرة بالقاهرة ، ثم نقله إلى إمرة طبلخاناه. (وبعد أن ذكر تنقلاته قال) : ثم نقله الملك الظاهر جقمق إلى نيابة طرابلس في أواخر سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة فباشر نيابة طرابلس أشهرا ونقل إلى نيابة حلب بعد الأمير جلبان في سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة ، فتوجه إلى حلب وحكمها سنين إلى أن عزل عنها بالأمير قاني بك الأبو بكري الناصري البهلوان في سنة ثمان وأربعين أو في أوائل سنة تسع وأربعين ، ثم استقدم إلى الديار المصرية ، ثم أعيد إلى نيابة حلب ثانيا بعد عزل الأمير تنم بن عبد الله بن عبد الرزاق المؤيدي في سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة وسر أهل حلب بعودة إليهم ١ ه‍.

قال السخاوي في الضوء اللامع : ثم نقله الأشرف بعد حلب وذلك في سنة ٨٥٩ (كما سيأتي) إلى نيابة دمشق ومات بها سنة ثلاث وستين ودفن بخانقاه تغري برمش تحت قلعتها وقد ناهز الثمانين ، وسر الدمشقيون بوفاته لكثرة جنايات مماليكه الذي استكثر منهم وجماعة بابه ، ومع ذلك فهو شديد الإسراف على نفسه سامحه الله اه.

قال أبو ذر : في رابع عشر جمادى الأولى وصل كافل حلب جانم من القاهرة إلى محل كفالته وأحضر بين يديه ما تحصل من الجهات في غيبته فقال لهم : هذه الدراهم لا يحل أخذها ، فقال له بعض وسائط السوء : متى تعففت وأظهرت العدل يخاف عليك من سطوات السلطان لأنه يقول إنما فعلت ذلك طلبا للسلطنة ، فأخذها كرها اه.

وصول ماء السمرمر إلى حلب :

قال أبو ذر : وفي سابع عشر جمادى الأولى وصل ماء السمرمر إلى حلب وخرج الناس إلى لقيه بالذكر والدعاء فأخرجوه إلى القلعة وعلقوه بمأذنة جامعها. ووقفت على كتاب قديم كتب إلى الممالك الشرقية بسبب أحضاره (وساق هنا الكتاب ولم أجد كبير

٤٧

فائدة في ذكره فأضربت عنه ، ثم قال) : وهذا الماء هو كائن في بلاد العجم أخبرني من أحضره بأنه في واد وعلى مكانه خدمة ، والسمرمر طائر يعادي الجراد ويقتله ويكون بينهما مقتلة عظيمة يحمل كل منهم على الآخر ويفر الجراد بين يديه اه.

أقول : من خواص هذا الماء على ما زعموا أنه يكون سببا لجلب طير السمرمر من الأماكن القاصية إلى هذه الديار فيدفع عنهم جيوش الجراد الجرارة.

سنة ٨٦١

الغلاء الشديد في حلب

قال أبو ذر : في شهر صفر تزايد ارتفاع الأسعار واشتد الغلاء ، فشكى الناس حالهم إلى كافل حلب جانم في يوم الخميس أول ربيع الأول ثم صاحوا عليه يوم الجمعة ، وجاء أناس من طرف البلد إلى سوق الصابون ونهبوا حانوتا ، وماج الناس كموجان البحر وصلى الناس الجمعة وهم في وجل كبير وخوف من نهب الأسواق ، فغلقت الأسواق ولم يدخل أحد إلى الجامع من بابه الشرقي لإغلاق الأسواق ، ثم بعد صلاة الجمعة رمى الناس بعضهم بعضا بالحجارة على سطح الجامع وأصبح الناس وباب الجامع المذكور والأسواق مغلقة.

بطلان الدراهم المستعملة وضرب دراهم جديدة بحلب :

وفي العشرين منه غيرت الدراهم بحلب وصار الأشرفي بخمسين درهما وكان الأشرفي في أيام الأشرف برسباي بأربعين درهما ، وصار يترقى لفساد المعاملة حتى صار بمائة درهم. وكانت الدراهم غالبها نحاس بسكك مختلفة فيذهب الشخص ليشتري له حاجة فترد عليه ولا يقبضها غالب الناس ، وغلت الأسعار بسبب ذلك فاجتهد الكافل جانم أخو الأشرف في إبطالها وضرب الدراهم ، وأقام لدار الضرب الشيخ شمس الدين ابن السلامي وكان قد فاوضني في ذلك فامتنعت واعتذرت بأني لا أعرف الدراهم ولا الزغل فأعفاني من ذلك ، ثم أقام لها بعد ذلك الشيخ شمس الدين ابن الشماع الشافعي وكان يخرج تارة بنفسه لدار الضرب وتسبك الدراهم بحفرته وتصك ، وعتب بعض الناس عليه في ذلك إذ هو صوفي فكيف يدخل نفسه في أمور الدنيا ، فبلغه ذلك فقال : بذلت نفسي لإصلاح أحوال الناس ، وأحضر أربع صيارف عارفين بالسكك والنقد فبعد ختمها يقف عليها الصيارف

٤٨

الأربعة ، وكان الناس تضرروا بالدراهم العتيقة ضررا زائدا ، وكان وزن الدراهم إذ ذاك ربع درهم. وضرب دراهم كل درهم وزن درهم ، وكان عليها النور إذ هي خالية من الغش

حادثة الشيخ جنيد الأردبيلي وما آل إليه أمره :

قال أبو ذر في حوادث هذه السنة ومن خطه نقلت : وفي الثلاثاء خامس عشرين رمضان عقد مجلس بدار العدل بالجنينة عند كافل حلب جانم وحضره القضاة الأربعة والشيخ شمس الدين بن الشماع والشيخ شمس الدين محمد بن السلامي بسبب الشيخ جنيد ابن سيدي علي بن صدر الدين الأردبيلي. وهذا الرجل سكن كلّز وبنى بها مسجدا وحماما وللناس فيه اعتقاد عظيم بسبب أبيه وجده ويأتمرون بأمره ولا يغفلون عن خدمته ويثابرون على لزوم بابه ، ويأتيه الناس من الروم والعجم وسائر البلاد ويأتيه الفتوح الكثير ، ثم سكن جبل موسى عند إنطاكية هو وجماعته وبنى به مساكن من خشب ، وفي الجملة كان على طريق الملوك لا على طريق القوم.

وكان كافل حلب قد أرسل خلفه قبل ذلك فلم يحضر ، وذهب مع جماعة الكافل إليه شمس الدين بن عجين الشافعي مفتي أنطاكية فأمسكه عنده وهم بقتله ، ثم أرسل خلفه ثانيا دوادار السلطان ألماس ومعه جماعة من الأجناد فلم يحضر ، فلما حضر ألماس نسب إلى جماعته المقيمين عنده أنه حارب من ذهب خلفه وأن في الموقعة قتل إبراهيم بن غازي من أمراء التركمان بجبل الأقرع ، فعقد هذا المجلس بسبب هذا ، فبينما نحن في المجلس أرسل الكافل خلف الشيخ محمد ابن الشيخ أويس الأردبيلي المقيم بحلب ، وهذا كان أيضا بأربل ثم انتقل إلى حلب وتزوج الشيخ جنيد بأخت الشيخ محمد ثم تشاجرا وتطالقا وصار في النفوس شيء ، فلما حضر سأله ما يقول في هذا الرجل فقال : أنا بيني وبينه عداوة لا يقبل كلامي فيه ، ثم انصرف فاستحسن الحاضرون عقله ، فبينا نحن كذلك إذ حضرت ورقة من عند الشيخ عبد الكريم أن هذا الرجل شعاشعي المذهب وورقة من عند الشيخ أحمد البكرجي أن هذا الرجل تارك الجماعة ، ونسب إليه أشياء ، إلى أن قال : ثم خرج الناس إليه إلى الجبل فاقتتلوا وأسفرت الوقعة عن قتلى من الفريقين ، فتسحب من الجبل إلى جهة بلاد العجم وأقام هناك ثم خرج على بعض ملوكها فقتل. وبعض أصحابه يدعي

٤٩

حياته. وقول الشيخ عبد الكريم هذا شعاشعي نسبة إلى محمد بن فلاح الذي ظهر بالجزائر. وقتل الناس وحملهم على الرفض وترك الجماعات ونكاح المحارم ويعرف بالشعشاع.

وسيأتي بعض هذه القصة في ترجمة الشيخ محمد الكواكبي المتوفي سنة ٨٩٧.

سنة ٨٦٣

ذكر تولية الأمير إينال اليشبكي

والطاعون العظيم بحلب

قال في تحف الأنباء في هذه السنة : في ربيع الآخر ولي نيابة السلطنة بحلب إينال اليشبكي عوضا عن جانم الأشرفي.

وفي جمادى الآخرة وقع الطاعون بحلب فأحصي من مات بها وبضواحيها فكان زيادة عن مائتي ألف إنسان.

سنة ٨٦٥

في هذه السنة توفي الملك الأشرف وتولى السلطنة ابنه الملك المؤيد شهاب الدين أحمد. وفي شعبان خلع الملك المؤيد وتولى السلطة الملك الظاهر أبو سعيد خشقدم الناصري المؤيدي.

وفاة إينال اليشبكي وترجمته :

قال السخاوي : إينال اليشبكي الجكمي ويقال له حاج إينال ، خدم عند بعض الأمراء قليلا ثم صار من أمراء دمشق ، ثم فدّم بها في أيام الظاهر جقمق ، ثم نقل لنيابة الكرك ثم لحماة ثم لطرابلس ثم لحلب في سنة ثلاث وستين ، كل ذلك بالبذل إلى أن مات بها في سابع عشري شعبان سنة ٦٥ وقد قارب الستين. وكان مسرفا على نفسه بل ساءت سيرته بأخرة وأبغضه الحلبيون ورجموه غير مرة لكثرة متاجره وشرهه في جمع المال مع سكون وعقل ورئاسة وحشمة وتواضع اه.

ذكر تولية حلب للأمير جانبك التاجي

قال في تحف الأنباء : وبعد وفاة إينال اليشبكي تولى نيابة السلطنة بحلب جانبك التاجي وقرر في نيابة قلعتها كمشبغا السيفي.

٥٠

سنة ٨٦٦

ذكر عصيان جانم الأشرفي نائب حلب السابق

قال في تحف الأنباء : في هذه السنة أتت الأخبار إلى السلطان من حلب بأن جانم نائب دمشق (ونائب حلب السابق) قد قطع الفرات في جموع وافرة وهو قاصد الأعمال الحلبية ، وقد وصل إلى تل باشر ، وأن نائب حلب تهيأ لقتاله ، فلما بلغ السلطان ذلك اضطربت أحواله وعين تجريدة إلى حلب وعين بها من الأمراء والمقدمين جاني بك وبلباي وإزبك بن ططخ وغيرهم ، وعين من المماليك السلطانية نحوا من ستمائة مملوك وأخذ في أسباب تفرقة النفقة عليهم ، فبينما هم على ذلك إذ جاءت الأخبار بأن جانم عاد من حيث أتى وقد وقع بينه وبين عسكره خلف وثاروا عليه وقصدوا قتله ، فلما تحقق السلطان ذلك أمر بدق البشائر بالقلعة وعلى أبواب الأمراء.

سنة ٨٦٧

ذكر قتل جانم الأشرفي الذي كان نائب حلب

قال في تحف الأنباء : وفي هذه السنة تحيل جانبك التاجي في قتل جانم نائب دمشق بالرها (وكان توجه إليها هاربا كما بسطه السخاوي) حتى قتله بغتة على يد مماليكه ، فلما وصل خبر قتله إلى السلطان أمر بدق البشائر أيضا بالقلعة وعلى أبواب الأمراء فعد موته من سعد الملك الظاهر خشقدم اه.

قال السخاوي في ترجمته : كان جانم الأشرفي دينا متعبدا متعففا محبا للسنة والفقهاء والصالحين منوّر الشيبة قصير القامة كثير الأفضال والمواساة مجتهدا في أحكامه متحريا في أحواله. إلى أن قال : وبالجملة فقد عاش سعيدا ومات شهيدا.

سنة ٨٦٨

ذكر تولية حلب للأمير برد بك الجمدار

قال في تحف الأنباء : في هذه السنة تولى نيابة السلطنة بحلب برد بك الجمدار ١. وفي سنة ٨٧٠ أرسل برد بك نائب حلب تقدمة حافلة إلى السلطان على يد دواداره أبي بكر فأكرمه وخلع عليه (وذلك علامة على إقراره على عمله).

__________________

١ ـ الصواب : البجمقدار ، كما وردت في «الضوء اللامع» (٣ / ٦).

٥١

سنة ٨٧١

ذكر تولية حلب للأمير يشبك البجاسي

قال في تحف الأنباء في هذه السنة في صفر مات برسباي البجاسي نائب دمشق ، فأرسل السلطان خلعة إلى برد بك الجمدار وقرره في نيابة دمشق وأرسل خلعة إلى يشبك البجاسي وقرره في نيابة حلب.

وفي جمادى الآخرة جاءت الأخبار من حلب إلى السلطان بأن رستم بن دلغادر (ملك مرعش) قد تحارب مع شاه سوار (نائب أبلستين) فرسم السلطان أن يخرج عسكر حلب لمساعدة رستم ، وهذا أول فتح باب الشر مع شاه سوار.

سنة ٨٧٢

ذكر فتنة شاه سوار نائب أبلستين التي ظلت

من هذه السنة إلى أن قتل في سنة ٨٧٧

قال ابن إياس في حوادث هذه السنة ، فيها جاءت الأخبار من حلب بأن خارجيا تحرك على البلاد يقال له شاه سوار ، فرسم السلطان للأمير برد بك الجمدار نائب حلب بأن يخرج إليه ، ثم جاءت الأخبار من بعد ذلك بأن برد بك نائب حلب لما خرج إلى سوار التف عليه وأظهر العصيان على السلطان وقصدا التوجه إلى الشام (١) ، فلما بلغ السلطان ذلك اضطربت أحواله وعين إلى سوار تجريدة وبها من الأمراء خمسة مقدمو ألوف اه.

ذكر وفاة السلطان خشقدم الظاهري

وسلطنة أبي النصر بلباي المؤيدي ثم خلعه

وسلطنة الملك الظاهر أبي سعيد تمر بغا ثم خلعه

وسلطنة الملك الأشرف قايتباي المحمودي

قال ابن إياس ما خلاصته : في ربيع الأول سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة توفي السلطان الملك الظاهر خشقدم الظاهري وله من العمر نحو خمس وسبعين سنة ، وكانت مدة

__________________

(١) يغلب على الظن أن ذلك خلاف الحقيقة وأنها ما سيأتيك قريبا.

٥٢

سلطنته بالديار المصرية والبلاد الشامية ست سنين ونصفا. وأقيم في السلطنة بعده الملك الظاهر أبو النصر سيف الدين بلباي المؤيدي ولم يتم أمره في السلطنة وبان عليه العجز ، فخلع سابع جمادى الأولى من هذه السنة ، وكانت مدة سلطنته شهرين إلا أربعة أيام ، ثم وقع الاتفاق من الأمراء على سلطنة الأتابكي تمربغا فأقيم في السلطنة سابع جمادي الأولى ، ثم خلع سادس رجب وأقيم في السلطنة قايتباي المحمودي ولقب بالملك الأشرف وله من العمر خمس وخمسون سنة.

انتصار شاه سوار على الجيوش المصرية

قال في تحف الأنباء : وفي ربيع الأول أتت الأخبار إلى مصر بأن شاه سوار قد كسر العسكر الشامي والحلبي وقتل كثيرين من الأعيان واستولى على عدة مدن وقلاع وأسر برد بك الجمدار نائب دمشق وقتل قاني باي الحسني نائب طرابلس وقراجا الظاهري أتابك دمشق ونوروز المحمودي أحد المقدمين الألوف بحلب وألماس الأشرفي أتابك حلب ومحمد غريب الأستادار بحلب ، ومن العسكر ما لا يحصى ، وهذا أول استظهار شاه سوار على العسكر وأول فتكه بهم.

وفي ربيع الآخر تخلص بردبك الجمدار من أسر شاه سوار وهرب وأتى إلى القاهرة واختفى ، فإنه كان سببا في كسرة العسكر لأنه كان متواطئا مع سوار في الباطن ، فقبض عليه السلطان وأرسله إلى القدس وسجنه بها.

عود برد بك الجمدار إلى نيابة حلب

وفي جمادى الأولى أرسل إزبك بن ططخ نائب الشام يشفع عند السلطان في برد بك الجمدار بأن يعاد إلى نيابة حلب ، فأجابه إلى ذلك وأعاده إلى نيابتها.

قدمنا أن في هذا الشهر أقيم في السلطنة الملك الأشرف قايتباي. (قال ابن إياس) : بعد أن أقيم في السلطنة أخذ في عرض العساكر بسبب التجريدة لسوار واستمر جالسا على الدكة وهو يعرض ويكتب إلى ما بعد العصر ، ثم ضيق على أولاد الناس وألزمهم بالسفر إلى سوار أو يقيموا لهم بدلا ، فصار يأخذ من كل واحد إن كان لا يسافر مائة دينار عوضا عن البديل إلى السفر ، وقرر على جماعة من المباشرين جملة مال وأمرهم

٥٣

بإحضاره بسرعة ليستعين به على نفقة العسكر ، وهذه أول شدة وقعت منه في حق الناس ، فلما تكامل حضور المال حملت النفقات للأمراء المعينين للسفر فحمل للأتابكي جاني بك قلقسيز أربعة آلاف دينار ولبقية الأمراء المقدمين لكل واحد ثلاثة آلاف دينار وللأمراء الطبلخانات لكل واحد خمسمائة دينار وللأمراء العشراوات لكل واحد مائتا دينار ، وأنفق على الجند لكل واحد من المماليك مائة دينار.

ويوم الاثنين ثاني عشر شعبان خرج الأمراء والعسكر المعينون للتجريدة وكان لهم يوم مشهود ، وهذه أول تجريدة خرجت من مصر إلى شاه سوار (أي أول تجريدة من طرف قايتباي) فكانوا نحو عشرين أميرا ما بين مقدمي ألوف وطبلخانات وعشراوات ومن الجند نحو ألف مملوك.

(ثم قال ابن إياس) : وفي ذي القعدة جاءت الأخبار بأن العسكر الذي توجه إلى شاه سوار قد انكسر كسرة شنيعة وأسر الأتابكي قلقسيز وقتل جماعة من الأمراء ومن الجند ما لا يحصى ، وكان غالب العسكر من الخشقدمية ، وأما من قتل من الخاصكية والمماليك السلطانية فما ضبطوا ، وقد نهب برك الأمراء والعسكر قاطبة والذي سلم دخل إلى حلب في أسوأ حال من العري والمشي ، وقد قوي أمر سوار وتوجه إلى عينتاب وحاصر قلعتها وملك البلد ، وأشيع بين الناس أن ابن عثمان ملك الروم أرسل نجدة من عسكره إلى سوار. (ثم قال) :

وكانت هذه الواقعة سابع ذي القعدة من السنة المذكورة ، فلما وردت هذه الأخبار ماجت القاهرة وحار السلطان في أمره وما يظن أن سوارا يقوى على العسكر لكثرته ، ثم جاءت الأخبار بأن سوارا سجن الأتابكي جاني بك قلقسيز في جب وأن عسكر سوار قد قوي بما نهبه من العسكر من خيول وسلاح وبرك وقد عزم سوار بأن يزحف على حلب.

فلما تحقق السلطان ذلك أمر بعقد مجلس بالقلعة ، فحضر الخليفة المستنجد بالله يوسف والقضاة الأربعة وهم ولي الدين الأسيوطي الشافعي ومحب الدين بن الشحنة الحنفي وحسام الدين بن حريز المالكي وعز الدين الحنبلي ، وحضر شيخ الإسلام يحيى الأقصرائي ومشايخ من العلماء ، وحضر سائر الأمراء ، وكان هذا المجلس بالحوش السلطاني ، فلما تكامل المجلس قام القاضي كاتب السر أبو بكر بن مزهر وتكلم عن لسان السلطان ووجه الخطاب إلى الخليفة والقضاة ومشايخ العلم بما معناه من كلام طويل بأن بيت المال

٥٤

مشحوت من المال وأن سوار الباغي قد استطال على البلاد وقتل العباد ولابد من خروج تجريدة عسكر لتحمي بلاد المسلمين ، وأن العسكر يحتاج إلى نفقة وليس في بيت المال شيء ، وأن كثيرا من الناس معهم زيادة في أرزاقهم ووظائفهم ، وأن الأوقاف قد كثرت على الجوامع والمساجد ، وأن قصد السلطان أن يبقي لهم ما يقوم بالشعائر فقط ويدخل الفائض إلى الذخيرة ، فمال الخليفة وقضاة الجاه إلى شيء من معنى الإجابة إلى ذلك.

فبينما هم على ذلك إذ حضر شيخ الإسلام أمين الدين الأقصرائي الحنفي وكان قد تأخر عن الحضور فأرسل خلفه السلطان ، فلما حضر أعاد عليه كاتب السر الكلام الذي وقع أول المجلس.

فلما سمع هذا الكلام أنكره غاية الإنكار وقال في الملأ العام من ذلك المجلس : لا يحل للسلطان أن يأخذ أموال الناس إلا بوجه شرعي ، وإذا نفد جميع ما في بيت المال ينظر إلى ما في أيدي الأمراء والجند وحلي النساء فيأخذ منه ما يحتاج إليه وإذا لم يوف بالحاجة في ذلك ينظر في المهم إن كان ضروريا في المنع عن المسلمين حل ذلك بشرائط متعذرة ، وهذا هو دين الله تعالى ، إن سمعت آجرك الله على ذلك ، وإن لم تسمع فافعل ما شئت ، فإنا نخشى من الله تعالى أن يسألنا يوم القيامة ويقول لنا لم لا نهيتموه عن ذلك وأوضحتم له الحق ، ولكن السلطان إن أراد أن يفعل شيئا يخالف الشرع فلا يجمعنا ولكن بدعوة فقير صادق يكفيكم الله مؤنة هذا الأمر كله. ثم قام فانجبه منه السلطان وانفض المجلس من غير طائل وكثر القيل والقال ، وشكر الأمراء الشيخ أمين الدين على ذلك وغالب الناس وكثر الدعاء له وعد هذا المجلس من النوادر.

ثم إن السلطان نادى للجند بالعرض وأخذ في أسباب خروج تجريدة وهي التجريدة الثانية.

سنة ٨٧٣

ذكر تولية حلب للأمير إينال الأشقر

قال ابن إياس : في هذه السنة قرر إينال الأشقر في نيابة حلب عوضا عن برد بك البجمقدار بحكم انتقاله إلى نيابة الشام عوضا عن إزبك بن ططخ بحكم انتقاله إلى الأتابكية.

٥٥

وفي ربيع الأول عين السلطان الأمير أزدمر الطويل الإينالي بأن يخرج ومعه خمسمائة مملوك من المماليك السلطانية إلى حفظ البلاد الحلبية ويقيم بحلب إلى أن تحضر التجريدة ويخرج عقيب ذلك ، وكان بلغ السلطان بأن عسكر سوار نزل على قلعة درندة وحاصرها ، فبادر الأمير أزدمر وخرج في قلب الشتاء ليحفظ حلب ، وكان في ذلك عين الصواب. (ثم قال) : فحمل لأزدمر الطويل ستة آلاف دينار وحمل لقجماس الطويل أحد أمراء الطبلخانات خمسمائة دينار وحمل للأمراء العشراوات لكل واحد منهم مائتي دينار وأعطى لكل مملوك مائة دينار ، فكان الذي صرف على هذه التجريدة التي خرج فيها أزدمر الطويل ومن عين معه من الأمراء ومن الجند وهم نحو من خمسمائة مملوك ما يزيد على مائتي ألف دينار ، فخرج أزدمر الطويل ومن عين معه من الأمراء ومن الجند في أوائل الشتاء ليقيم في حلب.

قال ابن إياس : وفي جمادى الآخرة عرض السلطان العسكر وأخذ في أسباب خروج العسكر إلى سوار وهي التجريدة الثانية ، فعين باش العسكر الأتابكي إزبك بن ططخ وقرقماس الجلب أمير مجلس وغيرهم من الأمراء زيادة على عشرين أميرا ، ثم رسم لأولاد الناس من أراد السفر فليسافر ومن لم يسافر يحمل إلى بيت المال مائة دينار ويقدمها بدلا عنه ، وهذا لمن يكون له جامكية وإقطاع ، ومن لم يكن له إقطاع وله ألف دينار أو له جامكية ألف درهم يحمل خمسة وعشرين دينارا ، وفيه أنفق السلطان على العسكر لكل مملوك مائة دينار ولكل أمير مقدم ألف ألفا دينار وحمل للأمراء الطبلخانات لكل واحد خمسمائة دينار وللأمراء العشراوات لكل واحد مائتا دينار ، فكان جملة ما صرف على هذه التجريدة نحوا من أربعمائة ألف دينار.

وفي شعبان خرج العسكر المعين إلى سوار فخرجوا من القاهرة في تجميل زائد وطلبوا أطلابا حافلة ، وفي ذي القعدة جاءت الأخبار من حلب بأن العسكر لما وصل أخذ باب الملك منهم وأنهم في استظهار على العدو سوار ، ثم جاءت الأخبار من نائب حلب بقتل مال باي الأقطع أخي سوار وجماعة كثيرة من عسكره وبعث برأس مال باي الأقطع ومعها رأسان من أمرائه ، فلما حضرت تلك الرؤوس طيف بها بالقاهرة ثم علقت بباب زويلة وباب النصر.

٥٦

وفي ذي الحجة حضر تاني بك الظاهري أحد رؤوس النوب وكان من جملة من خرج في التجريدة فأخبر بكسر العسكر ورجوعه من حلب ، وهذه ثاني كسرة وقعت لعسكر مصر مع سوار ، فلما تحقق السلطان ذلك اضطربت أحواله وماجت القاهرة بمن فيها.

وكان سبب انكسار العسكر أن سوار تحيل عليهم حتى دخلوا في مواضع ضيقة بين أشجار فخرج عليهم السواد الأعظم من التركمان بالقسي والنشاب والسيوف والأطبار فقتلوا من العسكر ما لا يحصى عددهم ، وأخبر تاني بك بقتل الأمير قرقماس الجلب وسودون القصروي حمل مجروحا إلى حلب فمات بها وكان قد طعن في السن وناف على الثمانين سنة ، وقتل كثيرون من الأمراء الكبار سردهم ابن إياس ثم قال : وأما من قتل من الجند والمماليك السلطانية ومشايخ عربان جبل نابلس والعشير التركمان والغلمان فما أمكن ضبطه.

وكانت هذه من الواقعات المشهورة التي لم يسمع بمثلها ، فلما شاع بين الناس ذكر من قتل من الأمراء والعسكر صار بالقاهرة في كل حارة نعي ليلا ونهارا مثل أيام الوباء ، فزاد قلق الناس من سوار ودخل الوهم في قلوب العسكر مثل أيام تمرلنك وصاروا يرعدون من ذكره ، وصار العسكر بعد ذلك يدخلون إلى القاهرة في أنحس حال من العري والجوع وبعضهم مجروح وبعضهم ضعيف ، وكان يدخل بعضهم وهو راكب على حمار أو جمل أو يدخل ماشيا وهو عريان ، ولم يلاقوا في هذه التجريدة خيرا.

سنة ٨٧٤

ذكر انكسار عسكر سوار على يد نائب ملطية

قال ابن إياس : وفي صفر جاءت الأخبار من حلب بأن قرقماس الصغير نائب ملطية تقاتل مع عسكر سوار وأسر جماعة كثيرة من أمرائه وأقاربه ، وكان ذلك بمكيدة صعدت بيد قرقماس حتى بلغ فيها ذلك.

ذكر تولية حلب للأمير قانصوه اليحياوي

قال ابن إياس : وفي ربيع الآخر أرسل السلطان خلعة إلى قانصوه اليحياوي باستقراره في نيابة حلب عوضا عن إينال الأشقر وكتب إلى إينال الأشقر بالحضور إلى القاهرة على تقدمة ألف بها.

٥٧

وذكر السخاوي في ضوئه أن وفاة إينال كانت سنة ٨٧٩ وقال : غير مأسوف عليه ، وقد كنت أشهد في وجهه المقت وكان من سيئات الدهر.

وفيه جاءت الأخبار بأن ابن رمضان أمير التركمان أخذ جماعة من التركمان وكبس على أعوان سوار وأخذ منهم قلعة سيس ، فسر السلطان بهذا الخبر وأرسل إلى ابن رمضان خلعة سنية.

وفي جمادى الأولى حضر إلى القاهرة قراجا السيفي وأخبر بأن شاه سوار أطلق الأتابكي جاني بك قلقسيز وبعث به إلى حلب وقد أكرمه غاية الإكرام وقصد بذلك أن يرضي خاطر السلطان ، وقرر مع الأتابكي جاني بك قلقسيز بأن يكون سفيرا بينه وبين السلطان في أمر الصلح.

وفي رمضان حضر الأتابكي إزبك وكان مقيما بحلب من حين كسر العسكر فدخل القاهرة هو ومن بقي معه من الأمراء والعسكر وصحبته شاه بضاع أخو سوار الذي أخذ منه سوار البلاد.

(وفيه أيضا) صعد قاصد سوار إلى القلعة وصحبته هدية للسلطان فلم يؤذن له في صعودها معه وحضر بمكاتبة سوار فكان مضمونها أنه يطلب الصلح من السلطان لكن على شروط منه لم يقبلها السلطان ، منها أن يكتب له السلطان تقليدا بإمرة [الأبلستين] وأن ينعم عليه بتقدمة ألف بحلب وإن فعل ذلك يسلم عينتاب للسلطان ، فطال الكلام من القاصد والسلطان ولم ينتظم الأمر بينهما في شيء من الصلح ونزل القاصد بغير خلعة.

سنة ٨٧٥ ذكر انكسار ابن رمضان أمير التركمان مع سوار

قال ابن إياس : وفي المحرم جاءت الأخبار بأن شاه سوار تقاتل مع ابن رمضان أمير التركمان ، فانكسر ابن رمضان وملك سوار قلعة آياس ، فانزعج السلطان لهذا الخبر وأخذ في أسباب تجريدة إلى سوار.

وفيه عين السلطان الأمير إينال الأشقر رأس نوبة النوب ومعه عدة من الأمراء الطبلخانات والعشراوات وعدة من الجند بسبب قتال سوار ، وقد خشي السلطان من سوار

٥٨

أن يكبس حلب على حين غفلة فأرسل هذه التجريدة يقيمون بحلب إلى أن يرسل تجريدة ثقيلة بعد ذلك ، فلما عينه بعث إليه النفقة من يومه وحمل إليه اثني عشر ألف دينار ، ثم أنفق على بقية الأمراء والجند وألزمهم الخروج بسرعة ، فخرجوا عقيب ذلك من غير أطلاب ولا أشلة ، وقد عز ذلك على إينال الأشقر لكونه خرج في قلب الشتاء.

وفي ربيع الآخر جاءت الأخبار من حلب بأن حسن الطويل [ملك العراقين والموصل] تحرك على أخذ البلاد الحلبية وأنه أظهر العداوة للسلطان وقد طمع في عسكر مصر بموجب ما فعله معهم سوار ، فثار السلطان لهذا الخبر وقصد أن يخرج إلى حلب بنفسه.

وفي جمادى الأولى عين السلطان تجريدة ثقيلة إلى سوار وعين بها من الأمراء المقدمين يشبك دوادار كبير باش العسكر وتمراز النمشي ابن أخت السلطان أحد المقدمين وخاير بك حديد الأشرفي ، وعين عدة من أمراء طبلخانات وعشراوات وعرض الجند وكتب منهم عدة أمراء وأعلمهم بأن السفر يكون بعد أن يربع الخيل.

وفي رجب جاءت الأخبار من حلب بأن سوار قد استولى على سيس وقلعتها ، ففزع السلطان لهذا الخبر. وفي شعبان عين السلطان الأمير برسباي قرا أحد المقدمين بأن يخرج جاليش العسكر إلى سوار قبل خروج الأمير يشبك ، فخرج معه عدة من الجند وبعث إليه السلطان أربعة آلاف دينار.

وفي شوال كان خروج العسكر المعين إلى سوار ، فخرج الأمير يشبك الدوادار الكبير وأزدمر الأستادار وكاشف الكشاف وباش العسكر فكان في غاية العز والعظمة ، وقد فوض إليه السلطان أمور البلاد الشامية والحلبية وغير ذلك من البلاد وجعل له الولاية والعزل في جميع أحوال المملكة وكتب معه خمسمائة علامة ويكتب على البياض. وجعل له التصرف في جميع النواب والأمراء ما خلا نائب حلب ونائب الشام فقط ، فكان له ما خرج يوم مشهود وطلب طلبا حافلا بحيث لم يعمل مثله قط ، وجر في طلبه عدة خيول ملبسة بركستونات فولاذ مكفتة بالذهب وبركستونات مخمل ملون وصنع في رنكه (لونه) صفة سبع ، وقد اقترح أشياء عجيبة غريبة لم يسبق إليها ، ورسم لمماليكه بأن تخرج في الطلب باللبس الكامل ، وخرج صحبته الأمراء الذين تقدم ذكرهم ومن الجند نحو ألفي مملوك فرجت له القاهرة ، واستمرت الأطلاب تنسحب إلى قريب الظهر ، ثم خرج العسكر

٥٩

أفواجا أفواجا حتى سد الفضاء وكانوا من أعيان الشجعان فتفاءل الناس بأن هذا العسكر ينتصر وأن سوارا مأخوذ لا محالة وكذا جرى.

سنة ٨٧٦

استرداد عينتاب وآدنة وطرسوس من شاه سوار

قال ابن إياس : في صفر جاءت الأخبار من حلب بأن الأمير يشبك الدوادار أخذ قلعة عينتاب من جماعة سوار وأن سوارا أخذ أولاده وعياله وأودعهم بقلعة زمنوطو وصار عنده التتر من العسكر بخلاف العادة.

وفيه جاءت الأخبار بأن الأمير يشبك أخذ من سوار ما كان استولى عليه من آدنة وطرسوس وتحارب مع جماعة سوار أشد المحاربة حتى طردهم من تلك البلاد وملكها.

وفي جمادى الأولى حضر محمد بن نائب بهسنى بمكاتبة يذكر فيها انحلال أمر سوار من الأمير يشبك وأن عسكر سوار قد فل عنه وهو خائف من العسكر ، ثم أرسل الأمير يشبك يطلب من السلطان نفقة للعسكر يتوسع بها فإن العليق كان هناك مشحوتا ، فبعث له السلطان مائة ألف دينار تفرق على العسكر هناك.

وفي جمادى الآخرة وصل قاصد من عند الأمير يشبك الدوادار وعلى يده مكاتبة يذكر فيها أنه وقع بينه وبين عسكر سوار واقعة مهولة على نهر جيحون وجرح فيها الأمير تمراز النمشي في يده بسهم نشاب ، وكان أول من ألقى نفسه في النهر ، فلما بلغ العسكر رموا أنفسهم في النهر خلفه فجرح تمراز وأغمي عليه ، فحملوه ورجعوا به إلى الوطاق.

ثم إن الأمير يشبك ثبت وقت الحرب وزحف بالعسكر على عسكر شاه سوار وكان بين الفريقين ساعة تشيب فيها النواصي ، فانكسر عسكر سوار كسرة بليغة وقتل منه ما لا يحصى عدة. وهرب سوار في نفر قليل من عسكره وطلع إلى قلعة زمنوطو واختفى. فلما بلغ الأمير يشبك أن سوارا في قلعة زمنوطو حاصرها أشد المحاصرة ورمى بالمدافع واستمر محاصرا لها.

وفي رمضان جاءت الأخبار من عند يشبك الدوادار بأن شاه سوار قد تلاشى أمره وفل عنه غالب عسكره وأرسل يطلب الصلح من الأمير يشبك وأن يكون نائبا عن

٦٠