إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٣

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٣

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٧

ومأمور والملكية والعسكرية وكثير من العلماء والوجهاء وألوف من الناس ، وألقي فيه كثير من الخطب والقصائد وكلها تضرب على وتر واحد وهو الثناء والشكر للسلطان عبد الحميد خان الثاني وتعداد ماله في البلاد العثمانية من الآثار الجليلة. وأرخ وصول الخط الحديدي إلى حلب صديقنا السري الفاضل الشيخ مسعود أفندي الكواكبي بقوله :

حبّذا خط حديد به

قد أعدنا شأن شهبانا

عمت الأفراح لما غدا

كاملا في نصف شعبانا

ولسان السعد أرخه

وطريق الخير قد بانا

٣٢٥ ٨٤١ ١٠٤ ٥٤ ١٣٢٤

سنة ١٣٢٥

أول مسابقة بين الخيل وغيرها جرت في حلب

في سادس رمضان جرت مسابقة بين الخيل في الميدان الكائن جنوبي السبيل على دور ١٣٠٠ متر. دار للمرة الأولى ثمانية من الخيول العربية الأصيلة وللمرة الثانية ستة عشر من الخيول الأصيلة أيضا ، أعطي للسابق في المرة الأولى جائزة قدرها خمسون ليرة عثمانية وللسابق في المرة الثانية خمسة وعشرون ليرة ، ودار للمرة الثالثة سبعة من الخيول التي لم ينظر إلى أصلها وأعطي للسابق ٢٥ ليرة.

ثم جرت مسابقة بين ١٥ رجلا من أهل القرى في الركض وأعطي للسابق ٨ مجيديات.

ثم جرت مسابقة بين السيارات المسماة (بسكليت) وأعطي للسابق عشر مجيديات.

واتخذ هناك وراء مكان المسابقة مكان لقعود المتفرجين صفت فيه مقاعد بقيم مختلفة وخصصت تلك الواردات لهذه الغاية ، وهي أول مسابقة جرت في حلب على هذا الطرز.

توسيع الحجازية في الجامع الكبير وغير ذلك من الأعمال فيه :

في هذه السنة أو التي قبلها حكرت أرض كانت تربة قديمة في جوار التربة المعروفة بالعبّارة خارج باب الفرج بمبلغ ١٥٠٠ ليرة عثمانية ذهبا أخذتها دائرة الأوقاف ووسعت بها

٤٠١

قبلية الحجازية التي هي داخل الجامع في الطرف الشرقي ، أدخلت فيها جانبا من الرواق الشمالي ووسعت الباب وقد كان صغيرا والنافذتين اللتين بجانبه ، وفرشت أرضها بالبلاط ووسعت بها باب قبلية الأحناف الذي في الرواق الغربي وقد كان صغيرا جدا ، وباب قبلية الشافعية الذي في الرواق الشرقي والغرف التي فيه ، وبلطت تلك الغرف وأصلحت قسما كبيرا من بلاط أسطحة الأروقة. وكان الواقف على هذه الأعمال الشيخ محمد العبيسي مفتي حلب وبذل في ذلك من الهمة ما يستحق الثناء والشكر ، وبقي العمل سنتين أو أكثر قليلا. ونظم الشيخ كامل أفندي الغزي أبياتا نقشت على باب قبلية الحجازية وهي :

في ظل سلطان الزمان مليكنا

عبد الحميد المعتلي بمقامه

وبسعي والينا المعظم ناظم

من ساد في الشهباء حسن نظامه

وعناية المولى الهمام محمد

مفتي الشريعة زيد في إكرامه

صحت معالمه وشيد بناؤه

وزكا شذا وزها بفرش رخامه

عمل به الإسلام طابت نفسه

أرخت لما فاح مسك ختامه

١٣٢٦

تتمة

فيما حصل بعد ذلك في الجامع من الأعمال المهمة :

في سنة ١٣٤١ و ١٣٤٣ فرشت قبلية الحنفية والشافعية بالسجاد العجمي وبلغت قيمة هذه المفروشات نحو ألف ليرة عثمانية ذهبا ، والسجاد القديم وزع على بعض المساجد.

وفي سنة ١٣٤١ عمل سبيل ماء في الرواق الغربي بجانب الباب المقابل للحلوية يأتيه الماء من ماء عين التل بواسطة أنابيب حديدية وصلت به من مكان خارج الجامع بجانب الباب ، ونقشت أحجار هذا السبيل نقشا بديعا دل على دقة صنعة وعظيم براعة ، والجرن الموضوع هنا كان ملقى في أرض جامع الأطروش لا ينتفع فجيء به وزيّن بالنقوش اللطيفة أيضا ، ووضع في أعلى هذه الحجارة حجرة صغيرة نقش عليها بالخط الكوفي البديع من الجانبين قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ).

٤٠٢

وفي هذه السنة أعني سنة ١٣٤٣ جددت قبة الحوض الصغير الذي في أرض الجامع ودهن ظاهرها وظاهر قبة الحوض الكبير الذي في الصحن ، ووضع درابزين من الحديد في أعلى منارة الجامع ودهن هذا الحديد والرفراف والدرابزين التي تحته.

وكانت حافة جدار الرواق الشمالي من قنطرة الباب الشمالي إلى أواخر الرواق من جهة الشرق خالية من الشرفات الموجودة على جدران الجامع في الجهات الثلاث فأكمل ذلك المكان الخالي ليكون على نسق واحد في جهاته الأربع تحسينا لمنظر الجامع ، وكمل بناء هذه الشرفات في هذا الشهر وهو شهر شوال من سنة ١٣٤٣ وهو آخر عمل حصل فيه.

وهذه الأعمال في هذه السنين الثلاث كانت بمساعي مدير الأوقاف الحالي السيد يحيى الكيالي وقد نقش اسمه فوق هذا السبيل وفوق القنطرة الوسطى من هذا الرواق.

٤٠٣

خاتمة

وفينا والحمد لله بما وعدنا به في المقدمة من ذكر ملوك الشهباء وأمرائها وما كان في زمنهم من الحوادث ذات الشأن من حين الفتح الإسلامي إلى سنة ١٣٢٥ هجرية. وقلت ثمة إني أود وضع قسمين يكونان متممين لهذا التاريخ أذكر في قسم محلات حلب وما في كل واحدة منها من المدارس والجوامع وغير ذلك من الآثار القديمة وأتكلم على كل مكان فأذكر اسم بانيه وواقفه وما وقفه وحالته إلخ ، فهذا القسم وإن لم يتسن لي وضعه على هذا النسق على حدة غير أني في آخر ترجمة كل ملك أو وال ذكرت ما له من الآثار وتكلمت عليها بقدر الاستطاعة والإمكان. وفي تراجم الأعيان في الأجزاء التالية سأتكلم إن شاء الله تعالى على ما لهم من الآثار على هذا النسق أيضا ، فأكون قد أتيت على معظم هذا القسم وتكلمت على الأهم والمهم من هذه الآثار الجليلة مما يهم معرفته والوقوف على أحواله.

ولما كانت النفوس تتوق إلى معرفة قلعة حلب تلك القلعة العظيمة ذات الشأن الخطير والقدر الرفيع أحببت أن أختم هذا الجزء بذكر ما كتبه المؤرخون عنها ، وأتبع ذلك بوصف حالتها الحاضرة ، وأتبع ذلك بالكلام على حمّامات حلب القديمة والموجودة الآن ، وأذكر جدولا في عدد دور حلب وبقية أماكنها ، وجدولا في عدد نفوسها ونفوس معاملاتها الآن والأعمال التي قامت بها دائرة الأشغال العامة ، وأختم الكلام فيه بما قاله فحول الشعراء في مديح الشهباء من النظم البديع الدال على رفعة شأنها وعظيم قدرها فأقول :

٤٠٤

الكلام على قلعة حلب

قال أبو ذر في كنوز الذهب : اعلم أن القلعة التي بحلب قيل أول من بناها ميخائيل وقيل سلقوس الذي بنى حلب ، وهي على جبل مشرف على المدينة وعليها سور وبه أبراج ، وكان قديما عليها بابان من حديد أحدهما دون الآخر كذا قاله أحمد ابن الطبيب الذي نكبه المعتضد ، والآن عليها خمسة أبواب ثلاثة من حديد خالص واثنان محددان ، وهذان البابان والبرج الذي عليهما جددهما دمرداش كافل حلب بعد فتنة تيمور وأخرب أماكن بحلب ونقل أحجارها لعمارة هذا البرج ، فمن ذلك خان القوّاسين نقل أعمدته وجعل بين هذا البرج وبين البلد خلوا يوضع عليه سقالة من الخشب يمر عليها الصاعد للقلعة وعليه مشط من الحديد يرفع وينزل في عجلات ، وهو باب سادس خارج الأبواب بحيث إذا هجم أحد على باب القلعة أرخي هذا المشط وبقي من هجم داخل المشط انتهى.

وقد تقدم أن الخليل عليه‌السلام كان قد وضع أثقاله بتل القلعة وكان يقيم به ويبث الرعاة إلى تل الفرات والجبل الأسود ويجلس بعض الرعاة بما معهم عنده ويأمر بحلب ما معه واتخاذ الأطعمة ويفرقها على الضعفاء والمساكين ، وبها مقامان له صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال الهروي : بقلعة حلب مقام إبراهيم ، أما المقام الأعلى فهو الذي تقام فيه الجمعة وبه صندوق وبه قطعة من رأس يحيى عليه‌السلام ظهرت سنة خمس وثلاثين وأربعمائة ، وأما المقام الثاني فكان موضعه كنيسة للنصارى إلى أيام بني مرداس ، وكان فيه المذبح الذي قرب إبراهيم عليه‌السلام فغيرت بعد ذلك وجعلت مسجدا وجدد عمارته نور الدين الشهيد ووقف عليه وقفا ورتب فيه مدرسا يدرس الفقه على مذهب أبي حنيفة. وقال ابن بطلان : في القلعة مسجد وكنيستان وفي إحداهما المذبح.

٤٠٥

ولما ملك كسرى حلب وبنى سور البلد بنى في القلعة مواضع. ولما جاء أبو عبيدة إلى حلب وأخذها ثم جاء إلى القلعة ، فلما عاينها دامس أبو الهول قال : هي قلعة منيعة شامخة حصينة يعجز عن مثلها الرائد وتمتنع على الطالب والقاصد ، لا ينفع أهلها محاصرة الرجال ولا يضيق صدرهم من قتال. ثم احتال عليها أبو الهول وأخذها من يوقنا ، والقصة مطولة مذكورة في كتاب الواقدي (١). وكان أخذه لها من البرج الكبير المطل على باب الأربعين هذا وصفه لها. وقد وجدها مرممة الأسوار بسبب زلزلة كانت أصابتها قبل الفتوح فأخربت أسوارها وأسوار البلد ولم يكن ترميما محكما فنقض بعض ذلك وبناه ، وكذلك لبني أمية وبني العباس فيها آثار.

ولما استولى نقفور ملك الروم على حلب في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة وجاس خلال الديار اعتصم بها الهاشميون فحمتهم ، ولم يكن لها حينئذ سور عامر يمنعهم لأنها كانت قد تهدمت وعفت آثار تلك المرابع ، فكانوا يتقون سهام العدو بالأكف والبرادع ، وزحف نقفور عليها فألقي على ابن أخيه حجر فمات ، فلما رأى نقفور ذلك طلب الصلح فصالحه من كان فيها ومن حينئذ اهتم الملوك بعمارتها وتحصينها ، فبنى سيف الدولة فيها مواضع لما بنى سور حلب ، وكانت الملوك لا تسكنها بل كانوا يسكنون قصورهم التي بالبلد.

وفي تاريخ الذهبي : لما قتل ابن أخت الملك كان قد أسر من أعيان حلب ألفا ومائتين فضرب أعناقهم جميعهم. ولما ولي سعد الدولة بنى فيها أماكن وسكنها وذلك لما أتم ما بناه والده سيف الدولة من الأسوار. وكذلك بنى فيها بنو مرداس دورا وجددوا سورها ، وكذلك من بعدهم من الملوك إلى أن وليها عماد الدين أقسنقر وولده عماد الدين زنكي فحصناها ولهم بها آثار حسنة. وبنى فيها طغدكين برجا من قبليها ومخزنا للذخائر عليه اسمه ، وبنى فيها السلطان نور الدين أبنية كثيرة وعمل ميدانا وخضره بالحشيش يسمى الميدان الأخضر ، وكذلك بنى فيها ولده الصالح باشورة كانت قديمة فجددها وكتب عليها اسمه ، وفي وسطها برج كبير فوق طريق الماء الذي يدخل إلى الساتورة ، وعلى البرج اسم الصالح إسماعيل. وكانت هذه الباشورة من موضع الباب الذي يلي البلد وتدور في وسط التل إلى المنشار المتصل بباب الأربعين ، وكان في الباشورة مساكن للأجناد.

__________________

(١) هو الفتوحات الشامية وهو مطبوع كثير التداول ، وقد بسط القول فيه على فتح حلب وقلعتها.

٤٠٦

قال ابن أبي طي : ثم في سنة ثمان وثمانين وخمسماية دخلت والظاهر غازي قد شرع في بناء جسر الجبل وهدم الطريق الأول ، وكان أولا يدخل إليه من سرداب عليه باب يقال له باب السر وكان عمره شريف الدين أبو المعالي بن سيف الدولة ، وكان هذا الباب برسم المهمات ، فلما ملك حلب رضوان كره الصعود من باب القلعة وكان يتجرد من الباطنية ففتح هذا السرب وجعله درجة يصعد منها إلى الجوشن وهو فصيل للقلعة ، ولم تزل كذلك إلى زمن الصالح إسماعيل فعمل له في الخندق الذي هو موضع هذا الجسر بستانا كان ينزل إليه ويتفرج فيه.

فلما ملك حلب العادل خرب فصيل القلعة من جنب تلك الدرجة إلى حدود دركاوات القلعة وعمل مكان الفصيل سفحا ، ثم عمل طريقا منكشفا في وجهه سترة شراريف إذا كان راكبا رأى وجه من يكون واقفا تحت القلعة. وكان الصاعد في تلك الدرجة ينزل أولا إليها من شمالي ميدان باب العراق حتى يصير إلى قعر خندق القلعة ثم يصعد من هناك مع سفح التل ، فلما ملك الظاهر حلب فكر في أمر الدرجة وأن الملك يحكم على نفسه ١ من يكون على جانب الخندق فلا يمكنه من حصل في الخندق دفع عادية من يريد أذيته إما اختيارا وإما اضطرارا ، فعمد إلى الدرجة وهدمها وقلع شجره وأذهب أثره ثم هدم باقي الفصيل إلى الأرض. وكان سور حلب الشرقي متصلا بفصيلة القلعة فقطعه وباعده عنها ، ثم جعل سعة الخندق أربعين ذرعا ، ثم بنى جانب الميدان من جهة الشمال بالصخور ، ثم نقي قعر الخندق إلى أن نبع الماء من أصله ، ثم بنى ثمانية عضايد من أسفل الخندق ورفعها إلى أن حاذت أرض الميدان ، ثم مدّ عليها أخشاب التوت وأعواد الدلب والسنديان وجعله سقفا واحدا إلى تل القلعة ، ثم أقام على تل القلعة بابا عاليا وجعل عليه مصراعين من حديد ، ثم بنى على أصله من الشمال برجا عاليا وجعل عليه باب حديد أيضا ، ثم ساق من هذا البرج إلى سور القلعة العالي طريقا مدرجا بحجارة سود طوال وبنى له شراريف من يسار هذا الطريق ، ثم عمد إلى رأس هذا الطريق من جهة الشمال فبنى عليه برجين عظيمين عاليين مسامتين أبراج القلعة ، ثم جعل في إحدهما باب حديد فإذا أفضي إليه خرج إلى داخل القلعة ، وبنى هذا الجسر في مقدار خمس سنين وغرم عليه ما يزيد على خمسين ألف دينار مصرية.

__________________

١ ـ هكذا في الأصل. والكلمة مطموسة في مخطوطة أبي ذر.

٤٠٧

ثم قال (أي ابن أبي طي) : في سنة خمس وتسعين تم تسفيح تل القلعة بالحجارة ، وانتهت القطعة التي بين باب الجبل وباب القلعة ، وشرع في هدم باب القلعة والباشورة ، وكان باب القلعة أولا يفتح إلى جهة الشرق والأرض متصلة به. ثم شرع بعد هدمه في سعة الخندق وقطع باب القلعة عن البلد وبنى به الجسر الكبير. وفي سنة ثمان وتسعين شرع الظاهر في حفر خندق القلعة وتوسعته أربعين ذراعا وبنى جانبه بالصخور ولقي أرضه حتى نبع الماء. وفي سنة سبع جد الظاهر في عمارة القلعة وحفر خنادقها.

ولما وسع الظاهر الخندق وعمقه وبنى حائطه من جهة البلد في سنة عشر وستمائة في رابع عشر رمضان وجد فيه تسع عشرة لبنة من ذهب وزنها سبعة وعشرون رطلا بالحلبي (الرطل سبعمائة وعشرون درهما) ورفع بابها إلى مكانه الآن ، وعمل لها هذا الجسر الممتد وحصنها ، وبنى فيها مصنعا كبيرا للماء الحلو ومخازن للغلات وسفح تلها ، وفي تاريخ الصاحب سفح بعضها وعزم على التتميم فاخترمته المنية وبناه بالحجر الهرقلي. وكان الباب أولا قريبا من أرض البلد متصلا بالباشورة فوقع في سنة ستمائة وقتل تحته خلق كثير. وبنى على الباب برجين لم ير مثلهما قط ، وعمل للقلعة خمس دركاوات بآزاج معقودة وجعل لها ثلاثة أبواب حديد زاد واحدا وجعل لكل باب أسفهسلارا ونقيبا ، وبنى فيها أماكن يجلس بها الجند وأركان الدولة وكان معلقا بها آلات الحرب ، وفتح في سور القلعة بابا يسمى باب الجبل شرقي بابها وعمل له دركاه لا يفتح إلا له إذا نزل دار العدل ، وهذا الباب وما قبله انتهت عمارتهما في سنة إحدى عشرة وستمائة ، وقد سد هذا الباب وعمل عليه برجان عظيمان. وأخبرني من أثق به أن الباب الذي أغلق هو الذي عليه البرج المطل على سوق الخيل.

واعلم أن هذه القلعة لم تزل في عمارة وزيادة إلى أن ملكها صلاح الدين يوسف وأعطاها لأخيه العادل فبنى بها برجا ودارا لولده فلك الدين وتعرف الآن به ، وفي وسطها بئر قديمة ينزل إليها بمائة وخمسة وعشرين مرقاة قد هندمت تحت الأرض وخرقت خروقا وصيّرت آزاجا ينفذ بعضها إلى بعض إلى ذلك الماء المالح. (قلت) : وهذه الدار بيد بعض أمراء القلعة الآن ، وهذه البئر موجودة. وذكر لي بعض القدماء أنه كان هذا البئر دولاب حيلة يستعمل عند احتياج أهل القلعة إلى الماء وليس عندهم من الدواب ما يستعملونه في الساتورة المعهودة. وبنى فيها (أي في القلعة) الظاهر ساتورة محكمة بدرج

٤٠٨

إلى العين تمير بها سائر منازلها ، وبنى ممشى من شمالي القلعة إلى باب الأربعين وهو طريق بآزاج مقعودة لا تسلك إلا في الضرورة وكأنه باب سر. وزاد في حفر الخندق وأجرى فيه الماء الكثير ، وأخرق في شفير الخندق مما يلي البلد مغاير أعدها لسكنى الأسارى يكون في كل مغارة مقدار خمسين بيتا وأكثر. وبنى فيها دارا تعرف بدار العز وكان في موضعها دار للعادل نور الدين تسمى دار الذهب ودار تعرف بدار العواميد ودار الملك رضوان ، وذلك في سنة أربع وثمانين. وفيها يقول الرشيد عبد الرحمن ابن النابلسي في سنة تسع وثمانين وخمسمائة وأنشده إياها ممتدحا له :

دار حكت دارين في طيب ولا

عطر بساحتها ولا عطّار

رفعت سماء عمادها فكأنها

قطب على فلك السعود تدار

وزهت رياض نقوشها ببنفسج ١

غض وورد يانع وبهار

نور من الأصباغ مبتهج ولا

نور وإزهار ولا أزهار

ما أينعت منها الصخور وأورقت

إلا وفيها من نداك بحار

وضحت محاسنها ففي غسق الدجى

تلقى ٢ لصبح جبينها إسفار

ومنها :

فتقر عين الشمس إن يضحي لها

بفنائها مستوطن وقرار

تربت بد رامت بها خيلا لها

في غير معترك الورى إحصار

وفوارسا شيب ٣ لظى حرب وما

دعيت نزال ولم تشن مغار

صور ترى ليث العرين تجاهه

منها ولا تخشى سطاه صوار

ومنها :

__________________

١ ـ لعل الصواب : فبنفسج ، وبذلك يتخلص البيت من الإقواء.

٢ ـ لعل الصواب : يلفى.

٣ ـ لعل الصواب : شبت.

٤٠٩

وموسدين على أسرة ملكهم

سكرا ولا خمر ولا خمّار

هذا يعانق عوده طربا وذا

دأبا يقبّل ثغره المزمار

وهي طويلة جدا فإنه خرج من هذا إلى ذكر البركة والفوارة والرخام ثم إلى مدح الملك الظاهر فاقتصرت منها على ما يعلم منه حسن هذه الدار. وبنى حولها بيوتا وحجرا وحمامات وبستانا كبيرا في صدر إيوانها فيه أنواع الأزهار وأصناف الأشجار ، وبنى على بابها آزجا يسلك فيه إلى الدركاوات التي قدمنا ذكرها ، وبنى على بابها أماكن لكتاب الدرج وكتاب الجيش.

وهنا كتب العلامة أبو ذر على الهامش ما نصه : قلت : وهذه القاعة هي القاعة العظمى الموجودة الآن ، وهي محكمة البنيان واسعة الأرجاء كثيرة المخادع ، وبها إيوان كبير وبصدره وجانبيه مخادع. وقد كانت هذه القاعة أشرفت في أيامنا على الانهدام فأمر السلطان الظاهر خشقدم لمتوليها بإصلاح هذه القاعة فأصلحت وبيضت وزخرفت ، وهي مفروشة بالرخام الملون المحكم التركيب ، وبها فوارة يأتي إليها الماء من الساتورة الحلوة إلى مقلب في إيوانها الصغير محكم من الرخام الملون ، ثم يغوص الماء في أسفل هذا المقلب ويخرج من الفوارة التي في وسط هذه القاعة ، ولهذه القاعة دهليز طويل جدا وبوابة عظيمة ، وإلى جانب هذه القاعة قاعة لطيفة مفروشة من الرخام الملون المحكم التركيب ، ولها بابان أحدهما من جانب القاعة العظمى والآخر يدخل دهليزها وسيأتي من عمرها.

وبهذه القاعة العظمى من جهة الشرق قاعة ثالثة لطيفة ولها أيضا بابان باب يخرج منه إلى حمّام القلعة الآن وباب في جانب القاعة العظمى ، ولو استوفينا وصف هذه القاعة لأطلنا وفي الجملة ما رؤي مثلها.

ولما تزوج الظاهر في سنة تسع وستمائة بضيفة خاتون ابنة عمه الملك العادل التي حكمت في حلب بعد وفاته وأسكنها بها وقعت نار عقب العرس فاحترقت وجميع ما كان فيها من الفرش والمصاغ والآلات والأواني واحترق معها الزردخاناة ، وكان الحريق في حادي عشر جمادى الأولى من سنة تسع ، ثم جدد عمارتها وسماها دار الشخوص لكثرة ما كان منها في زخرفتها ، وسعتها أربعون ذرعا في مثلها.

قال في كنوز الذهب في الكلام على مدرسة الفردوس التي بنتها الملكة ضيفة خاتون بنت الملك العادل وزوجة الملك الظاهر غازي : إنها لما ولدت الملك العزيز في سنة عشر

٤١٠

أظهرت السرور وبقيت حلب شهرين مزينة والناس في أكل وشرب ، ولم يبق صنف من أصناف الناس إلا أفاض عليهم السلطان النعم ووصلهم بالإحسان ، وسيّر إلى المدارس والخوانق الغنم والذهب وأمرهم أن يعملوا الولائم ، ثم فعل ذلك مع الأجناد والغلمان ، وعمل للنساء دعوة مشهودة أغلقت لها المدينة. وأما داره بالقلعة فزينها بالجواهر وأواني الذهب ، وكان حين أمر بحفر الخراب حول القلعة وجد عشرين لبنة ذهبا فيها قنطار حلبي فعمل منها أربعين قشوة بحقاقها ، وختن ولده الأكبر أحمد وختن معه جماعة من أولاد المدينة وقدم له تقادم جليلة فلم يقبل منها شيئا رفقا بهم ، لكن قبل قطعة سمندل ذراعين في ذراع فغمسوها في الزيت وأوقدوها حتى نفد الزيت وهي ترجع بيضاء فالتهوا بها عن جميع ما حضر. (١)

وكان عنده من أولاد أبيه وأولاد أولادهم مائة وخمسة وعشرون نفسا فزوّج الذكور منهم بالإناث فعقد في يوم واحد خمسا وعشرين عقدا بينهم ، ثم صار كل ليلة يعمل عرسا ويحتفل له ، وبقي على ذلك مدة رجب وشعبان ورمضان اه.

وفي أيام العزيز ابن الظاهر وقعت من القلعة عشرة أبراج مع أبدانها وذلك في سنة اثنتين وثلاثين وستمائة ووافق ذلك زمن البرد ، وكان تقدير ما وقع خمسمائة ذراع وهو المكان المجاور لدار العدل ، ووقع نصف الجسر الذي بناه الملك الظاهر فاهتم الأتابك شهاب الدين طغريل بعمارتها فجمع الصناع واستشارهم فأشاروا أن يبنى من أسفل الخندق على الجبل ويصعد بالبناء فإنها متى لم تبن على ما وصفنا وقع ما يبنى عاجلا وطرأ فيه ما طرأ الآن وإن قصدها عدو لم يمنعه ، فرأى الأتابك أن ذلك يحتاج إلى مال كثير ومدة طويلة فعدل عن هذا الرأي وقطع أشجار الزيتون والتوت وترك الأساس على التراب وبنى. ولهذا لما نزلها التتر لم يتمكنوا من أخذها إلا من هذا المكان لتمكن النقابين منه.

وفي سنة ثمان وعشرين بنى فيها العزيز دارا إلى جانب الزردخاناه يستغرق وصفها الإطناب ويقصر عنه الإسهاب مساحتها ثلاثون ذراعا في مثلها.

ولما تسلم التتر القلعة في تاسع شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وستمائة عمدوا إلى خراب سورها وأحرقوا ما كان بها من الذخائر والزردخاناه والمجانيق ، وزال رونقها وذهبت محاسنها. ولما هزم الملك المظفر التتر على عين جالوت وهرب من كان منهم في حلب ثم

__________________

(١) هنا تكلم على السمندل وأي شيء هو وأحال تحقيق أمره إلى حياة الحيوان للكمال الدميري. وقد تكلم عليه ابن خلكان في تاريخه أيضا.

٤١١

عادوا إليها مرة ثانية بعد قتل المظفر فرأوا في القلعة برجا قد بني للحمام بأمر الملك المظفر قطز فأنكروا عليهم وأخربوا القلعة خرابا شنيعا وما فيها من الدور والخزاين ولم يبقوا فيها مكانا للسكنى ، وذلك في المحرم سنة تسع وخمسين.

وقال بعض المؤرخين : وفي دولة العزيز جدد طغرل دارا فيها للسكنى فظهر في الأساس صورة أسد من حجر أسود فأزالوه عن موضعه فسقط بعد ذلك الجانب القبلي من أسوار القلعة وانهدم من جسرها قطعة كبيرة. ولما حفر العزيز أساس الدار المذكورة وذلك في سنة اثنتين وثلاثين وستمائة ظهر لهم مطمورة مطبقة وفيها رجل في رجليه لبنة حديد فلا أشك أنه أحمد بن عبيد الله بن محمد بن عبيد الله بن محمد بن بهلول بن أبي أسامة أحد كبراء حلب ، وهو الذي قبض عليه أسد الدولة صالح بن مرداس ودفنه حيا بالقلعة ، وهذا الرجل ولي قضاء حلب وتمكن في أيام سديد الدولة ثعبان بن محمد ١ وموصوف والي القلعة فكانا يرجعان إلى رأيه ، فلما حضر نواب صالح كان ابن أبي أسامة في القلعة فتسلمها نواب صالح وقتلوا موصوفا وابن أبي أسامة دفنوه حيا ، وذلك سنة خمس عشرة وأربعمائة ، وقال بعض الناس في ذلك :

وأد القضاة أشد من

وأد البنات عمى وغيا

أدفنت قاضي المسلم

ين بقلعة الشهباء حيا

واعلم أن هذه القلعة حصينة ومباركة ببركة الخليل عليه‌السلام وبركة الخضر عليه‌السلام ومقامهما بها ، وما رامها أحد بسوء إلا أهلكه الله بعد ذلك ، ولم تؤخذ فيما استحضر بقتال ولا خربت في جدال ، وها أنا أذكر لك ما يبين هذا :

أما الصحابة رضي‌الله‌عنهم فأخذوها بالحيلة وصعود الرجال على أكتاف الرجال ليلا ، وكانت أسوارها غير حصينة كما تقدم. وأما فتح القلعي فقد عصى فيها على مولاه مرتضى الدولة بن لولو ثم سلمها إلى نواب الحاكم. وقد عصى فيها عزيز الدولة فاتك على الحاكم فسلمها أيضا وقتل بالمركز ، وكان قصره الذي تنسب إليه خانكاه القصر متصلا بالقلعة والحمّام المعروف بحمّام القصر إلى جانبه تحصينا لها فصار الخندق موضعه ، ولما جاء الملك الظاهر هدم الحمّام وجعلها مطبخا له ، ولما قتل عزيز الدولة صار الظاهر وولده المستنصر يوليان واليا بالقلعة وواليا بالمدينة خوفا أن يتفق ما اتفق من عزيز الدولة.

__________________

١ ـ في زبدة الحلب : سديد الملك ثعبان بن محمد بن ثعبان.

٤١٢

وأما أبو المكارم مسلم بن قريش فقد غارت الساتورة فسلموها له إذ ذاك عطشا.

ولما حاصرها غلت الأسعار بحلب فعول على الرحيل عنها واتفق له ما ذكرناه في ترجمته.

وأما هولاكو فإنه أخذها بالأمان ثم خربها ، وبقيت نحو ثلاث وثلاثين سنة كذلك حتى شرع في عمارتها قراسنقر المنصوري بأمر الملك المنصور ، وكملت عمارتها في سنة تسعين وستمائة. قال ابن حبيب : وكتب عليها اسم السلطان الأشرف خليل ابن المنصور بماء الذهب فإنه تولى السلطنة في هذه السنة.

وأما غازان فامتنعت منه وامتنعت من منطاش أيضا.

وأما تيمور فأخذها بالأمان ثم خربها جماعته وأخذ منها من حواصلها ما بهره كما اعترف به تيمور أنه لم يجد في حصن قط ما وجد فيها ، ودامت على ذلك خرابا حتى انتدب لعمارتها جكم العادل وهو الذي ادعى السلطنة بحلب وقتل على يد عثمان بن طرعلي في سنة تسع وثمانمائة وأخرب عدة أماكن بحلب من الترب والمدارس لعمارتها وعمل بنفسه واستعمل قضاة البلد ، وعمر البرج المطل على سوق الخيل وكذلك البرج المطل على باب الأربعين (البرج الشمالي) وبنى قصرا على البرجين المطلين على باب القلعة. وهذا القصر عظيم واسع جدا مفروش بالرخام وله مناظر من جهاته المطلة على البلد ، وله بوابة عظيمة وتجاهها إيوان واسع برسم مصالح خدمة السلطان إذا حضر إلى حلب ونزل بهذا البرج. وقيل إنه لم ير مثل هذا القصر في حصون المسلمين. أما المكحلة (المدفع) التي على جدران البرجين والدركاه فمن فعل نائبها الأمير ناصر الدين في أيام الظاهر برقوق.

وقد حاصرها جماعة منهم ابن قصروه فامتنعت وكذلك تغري ورمش كافل حلب في سنة اثنتين وأربعين حصارا بليغا ورمى عليها بمكحلة عظيمة فأثر فيها في البرج المطل على سوق الخيل ، ونقب عليها ، ونزل في النقب بنفسه فرأى ما يهوله فرجع واستعان في حصارها بمشاة من الأكراد ، وزحف عليها ليلة العاشر من رمضان من جميع جوانبها ونزلوا الخندق ظنا منهم أن يلقوا الجسر الذي لها ، ففتح أهل القلعة بإشارة نقيبها الأمير شهاب الدين طاقات من أعلى الجسر ورموا عليهم بقدور من الكلس فخرجوا ، وبالجملة لم يأخذها أحد بالأمان كما في فصل الملوك.

وقد نقل إلى هذه القلعة المؤيد أخشابا من دمشق وسقف القصر ببعضه وأحدث الكوات التي في ظلمة الدركاه وبعضها باق الآن. وقد عمر نائبها (باك) في أيام

٤١٣

الأشرف برجا مثمنا شرقي بابها وعمل له شباكا من النحاس الأصفر فردا في بابه. ثم خرب من سورها مكان من جهة الغرب فعمر في أيام الظاهر جقمق ، وأصلح في التسفيح مكان بالقرب من جسرها في أيامه أيضا.

ذكر ما يضرب فيها من النوبات :

قال : أما النوبة التي تضرب عند ثلث الليل الأخير فهذا شيء أحدثته ضيفة خاتون أم العزيز لأجل قيام الليل فإنها كانت تقوم ذلك الوقت للصلاة وما كان أحد يستطيع إيقاظها.

وأما التي تضرب بعد العشاء فللإعلام بانقضاء صلاة العشاء ، ثم يضرب الطبل مرة واحدة بعد ذلك إلى ثلث الليل ، ثم يضرب مرتين ثم ثلاثا.

وأصل ذلك أنه كان بالقلعة جرس كالتنور العظيم معلق على برج من أبراجها التي من غربيها كانت الحراس تحركه ثلاث دفعات في الليل دفعة في أوله لانقطاع الرجل عن السعي وأخرى في وسطه للبديل وأخرى في آخره للإعلام بالفجر ، وعلق هذا الجرس في سنة ست وتسعين وأربعمائة. والسبب في تعليقه ما حكاه منتخب الدين يحيى بن أبي طي النجار الحلبي في تاريخه أن الفرنج لما ملكوا أنطاكية في سنة إحدى وتسعين وأربعمائة طمعوا في بلاد حلب فخرجوا إليها وعاثوا في بلادها وملكوا معرة النعمان وقتلوا من فيها ، فخافهم الملك رضوان بن تاج الدولة تتش لعجزه عن دفعهم فاضطر إلى مصالحتهم ، فاقترحوا عليه أشياء من جملتها أن يحمل إليهم في كل سنة قطيعة من مال وخيل وأن يعلق بقلعة حلب هذا الجرس ويضع صليبا على منارة المسجد الجامع ، فأجابهم إلى ذلك ، فأنكر عليه القاضي أبو الحسن بن الخشاب وكان بيده زمام البلد وضع الصليب على منارة الجامع وقبح ذلك ، فراجع الفرنج في أمر الصليب إلى أن أذنوا له في وضعه على الكنيسة العظمى التي بنتها هيلانة ، فلم يزل بها إلى أن حاصرت الفرنج حلب سنة ثماني عشرة وخمسمائة ونبشوا ما حولها من القبور فأخذ القاضي ابن الخشاب الكنايس كما تقدم ورمى الصليب. وأما الجرس فإنه لم يزل معلقا إلى أن ورد حلب الشيخ الصالح أبو عبد الله بن حسان المغربي فسمع حركة الجرس وهو مجتاز تحت القلعة فالتفت إلى من كان معه وقال : ما هذا الذي قد سمعت من المنكر في بلدكم ، هذا شعار الفرنج ، فقيل له : هذه عادة البلد من قديم الزمان ، فازداد إنكاره وجعل أصبعيه في أذنيه وقعد في الأرض وقال : الله أكبر الله أكبر ،

٤١٤

وإذا بوجبة عظيمة قد وقعت في البلد فانجلت عن وقوع الجرس إلى الخندق وكسره وذلك في سنة سبع وثمانين وخمسمائة ، فجدد بعد ذلك وعلق مرة ثانية فانقطع لوقته وانكسر وبطل من ذلك اليوم.

قال كمال الدين ابن العديم في ترجمة هذا الرجل : محمد بن حسان بن محمد أبو عبد الله وأبو بكر المغربي الزاهد رجل فاضل مقرىء محدث ولي من أولياء الله تعالى ، قدم حلب ونزل بدار الضيافة بالقرب من تحت القلعة ، وكان من الموسرين المتمولين ببلاد المغرب فترك ذلك جميعه وخرج على قدم التجريد وحج بيت الله الحرام ، ثم قدم حلب ورحل منها إلى جبل لبنان وساح فيه ، وقيل إنه مات فيه ولم يذكر وقت وفاته اه.

وقال (يعني ابن أبي طي) في سيرة الملك الظاهر : في السنة التي قتل فيها السهروردي (هي سنة ٥٨٧) أبطل غازي الجرس من قلعة حلب وكان معلقا كأنه التنور العظيم في ثالث برج من أبراج القلعة من شمالي المنظرة المطلة على حلب ، وسببه أنه جلس ليلة للسمر فسمعه فسأل عن ذلك وقال : هذه مملكة الإسلام وهذا من شعار الكفار ، فذكر له السبب فقال : عجبا للسلطان نور الدين كيف لم يوفق لذلك ، وأمر بإبطاله انتهى (١).

ثم اتخذ هذا الضرب في القلاع عادة. وأما الضرب الذي يضرب وقت اصفرار الشمس فلأن الخليل عليه‌السلام كان يتخذ للفقراء طعاما ويجمعهم ذلك الوقت لأكله. وبقية ما يضرب فيها في الأوقات فهو من اصطلاح الملوك.

وسورها مساحته ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون ذراعا وعدد أبراجها تسعة وأربعون برجا وأبدانها ثمان وأربعون بدنة ، هذا ما كانت عليه قديما.

وقال ابن شداد : المساجد التي بالقلعة عدتها عشرة مساجد أولها مسجد النور ملاصق سور القلعة ، ومنها مسجد الخضر عليه‌السلام.

__________________

(١) أقول : ما ذكره ابن أبي طي هنا في سبب إزالة هذا الجرس يناقض ما ذكره قبل ذلك من أن إزالته كانت بسبب أبي عبد الله المغربي مع أن ابن أبي طي كان في ذلك الوقت شابا مشاهدا لهذه القصة. وأما السنة التي حصلت فيها وهي سنة ٥٨٧ فلا تناقض فيها والله أعلم.

٤١٥

مدائح الشعراء لهذه القلعة :

قال السري الرفاء من قصيدة يمدح سيف الدولة بها :

وشاهقة تحمي الحمام سهولها

ويمنع أسباب المنايا وعورها

إذا سترت عين السحاب وقد سرت

جوانبها خلت السحاب ستورها

مقيما يمر الطير دون مقامه

فليس ترى عيناه إلا ظهورها

تنس إلى عليائها الأسد فانثنت

تساور بالبيض الصوارم نورها

وقال الفقيه الوزير أبو الحسن علي بن ظافر المعروف بابن أبي المنصور يصف قلعة حلب من قصيدة مدح بها الظاهر غازي :

وفسيحة الأرجاء سامية الذرا

قلبت حسيرا عن علاها الناظرا

كادت لفرط سموها وعلوها

تستوقف الفلك المحيط الدائرا

وردت قواطنها المجرة منهلا

ورعت سوابقها النجوم أزاهرا

شماء تسخر بالزمان وطالما

بشواهق البنيان كان الساخرا

ويظل صرف الدهر منها خائفا

وجلا فما شيء لديها خاسرا

ويشوق حسن روائها مع أنها

أفنت بصحتها الزمان الغابرا

فلأجلها قلب الزمان قد انثنى

قلقا وطرف الجو أمسى ساهرا

غلابة غلب الملوك فطالما

قهرت من اغتصب الممالك قاهرا

غنيت بجود مليكها وعلت به

حتى قد امتطت الغمام الماطرا

فترى وتسمع للغمام ببرقه

والرعد لمعا تحتها وزماجرا

وقدمنا في الجزء الثاني في صحيفة ٣٠٥ ما مدحت به هذه القلعة أيضا.

ووجدت على ظهر كتاب من لسان الحكام في الفقه الحنفي عليه خط العلامة إبراهيم ابن الملا الحلبي ما نصه : مما قيل في تاريخ تبييض قلعة حلب بأمر نصوح باشا أمير الأمراء بحلب وذلك في أواخر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وألف :

يمينا قلعة الشهباء أضحت

عروسا عرفها مسك يفوح

وقالت أرخوا عني بياضي

فأرخنا مبيضها نصوح

١٠١٢

٤١٦

وصف القلعة الحاضر :

القلعة واقعة في وسط المدينة تقريبا نحو ثلثها الفوقاني صناعي وما تحته جبل طبيعي أبيض اللون لين يظهر لك ذلك من جدران خندقها ، وهي إهليلجية الشكل يبلغ أكبر قطرها طولا ٥٠٠ متر وأصغره ٤٠٠ متر ، ويبلغ قطر قمتها خمسين مترا ، وتعلو عن سطوح المنازل المحاذية لها ٦٠ مترا وعن سطح البحر ٥٠٠ متر ، يحيط بها خندق عظيم ويصعد إليها من الجهة الجنوبية حيث بني هناك جسر عظيم عليه ثماني قناطر قائمة في الخندق ، بني على هذا الجسر الباب الأول وهو مصفح بالحديد من آثار الملك الظاهر غازي ، وقد ذكرنا في الجزء الثاني في صحيفة ١٨٣ ما هو مكتوب على هذا الباب وعلى الباب الرابع.

ثم تنتهي إلى الباب الثاني وقد كتب عليه :

١ ـ أمر بعمارتها بعد دثورها السلطان الأعظم الملك الأشرف صلاح

٢ ـ الدنيا والدين خليل محيي الدولة الشريفية العباسية ناصر الملة المحمدية عز نصره.

وتحت ذلك حجرة كبيرة هي قنطرة الباب كتب عليها :

١ ـ جددت بعد إهمال عمارتها وإشرافها على الدثور في أيام مولانا السلطان الملك الظاهر أبي سعيد برقوق

٢ ـ وشرف بوجوده وأدام دولته .. العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن يوسف أرسلان نائب السلطنة بها في شهور سنة ست وثمانين وسبعمائة.

وفوق هذا الباب وأمامه قبو عظيم الارتفاع وبرج كبير يحمل القصر العظيم الذي فوقه ، وقد كتب على ظاهر هذا البرج وفي هذا القبو بخط حسن جاف جدا ما نصه :

١ ـ أمر بعمارتها بعد دثورها مولانا السلطان الأعظم الملك الأشرف العالم العادل الغازي ..... المنصور

٢ ـ صلاح الدنيا والدين .... ناصر الإسلام والمسلمين عماد الدولة ركن الملة مجير الأمة ظهير الخلا

٣ ـ فة نصير الإمامة سيد الملوك والسلاطين سلطان جى

٤ ـ وش الموحدين ناصر الحق بالبراهين محيي العدل في العالمين قاهر الخوارج والمتمردين

٤١٧

٥ ـ قاتل ... الطغاة والمارقين قامع عبدة الصلبان إسكندر الزمان فاتح الأمصار هازم جيوش الفرنج والأرمن والتتار هادم عكا والبلاد الساحلية محيي الدولة الشريفة العباسية ناصر الملة المحمدية والدين مولانا السلطان الملك المنصور قلاون أعز الله أنصاره وذلك سنة إحدى وسبعمائة.

وكتب في صدر مطلع القلعة فوق قوله نصير الإمامة قوله تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وتحت ذلك (بالإشارة العالية المولوية الأميرية الكبيرية الشمسية قراسنقر الجوكندار المنصوري الأشرفي كافل المملكة الحلبية أعز الله نصره) وقد قدمنا في حوادث سنة ٦٩٠ شروع قراسنقر في عمارتها.

ثم تنعطف إلى جهة اليسار وهناك الباب الثالث وعلى قنطرته تمثال أسدين متقابلين كأنهما يتناطحان تحتهما حجرة كبيرة هي قنطرة هذا الباب ، وفي منعطف هذا الباب مصطبة مرتفعة هي على ما نقل مقام الخضر عليه‌السلام ، وهناك مصطبة أخرى فيها محراب هي تربة دفن فيها غير واحد وربما كانت ضيفة خاتون ابنة الملك العادل مدفونة هنا أيضا.

ثم تمشي إلى الباب الرابع وهناك باب عظيم أيضا وعلى طرفيه تمثال أسدين من الحجر الذي على اليمين كأنه يضحك والذي على اليسار كأنه يبكي ، وتاريخ هذا الباب سنة ٦٠٦ وهو مصفح بالحديد من عهد الظاهر غازي ، وقد قدمنا ما كتب عليه في الجزء الثاني في صحيفة ١٨٣.

وقد كتب على قنطرة هذا الباب :

١ ـ البسملة

٢ ـ أمر بعمله مولانا السلطان الظاهر العالم

٣ ـ العادل المجاهد المرابط المؤيد المظفر المنصور عماد الدنيا

٤ ـ ملك الإسلام والمسلمين سيّد الملوك والسلاطين قامع الكفرة والمشركين

٥ ـ قاهر الخوارج والمشركين أبو المظفر الغازي ابن الملك الناصر صلاح الدين

٦ ـ يوسف بن أيوب ناصر أمير المؤمنين أعز الله أنصاره .... الملكي الظاهري

٧ ـ وذلك في سنة ست وستمائة.

وبعد هذا الباب تخرج إلى فضاء القلعة الذي كان عامرا بالدور والقصور والمساجد والحمامات وأماكن الذخائر ولا تجد الآن هناك إلا آثار ذلك العمران.

٤١٨

وبعد أن تقطع خطوات تجد قبوا آخر تنزل منه بدرج على نحو عشرة أمتار إلى قبو شديد الظلمة ليس له سوى كوة واحدة يبلغ طوله نحو ٢٠ ذراعا وعرضه نحو ١٥ ذراعا ، وفيه ثلاث سوار نصفها مبني من الحجر وأعلاها مبني من القرميد ، وقد قوي هذا القرميد على صدمات الدهر ولا زال متينا ، وهذا المكان هو حبس القلعة المشهور ، وقد تقدم معك أن الكثير من الأمراء وغيرهم كانوا يحبسون فيه وهو مشهور بحبس الملك الظاهر. وبالقرب من هذا القبو جرن من المرمر فيه صورة سمكتين متقابلتين ، وهناك صورة طفلين واقفين ، وطول هذا الجرن نحو مترين وعرضه نحو ذراع وعمقه كذلك ، وقد أخرج هذا الجرن من بين الردم حديثا ، وتقدم في كلام أبي ذر أنه في سنة ٦٢٨ بنى فيها العزيز دارا إلى جانب الزردخاناه ، فهذه الدار العظيمة التي قال عنها إنه يستغرق وصفها الإطناب لم يبق منها سوى بابها العظيم الملون الأحجار بهندسة بديعة يكل اللسان عن وصفه وقد تراكمت الأتربة وراءه حتى صارت كالجبل العظيم ، وبعض أحجار هذا الباب ملقى في أرض القلعة ، وقد كتب على حجرة فوق قنطرة هذا الباب :

١ ـ البسملة

٢ ـ ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر

٣ ـ ساق الماء إلى هذه القلعة المباركة في أيام مولانا ....

٤ ـ السلطان الملك الأشرف ناصر الدنيا والدين شعبان أعز الله

٥ ـ أنصاره بالإشارة العالية المولوية المالكية المخدومية السيفية منكلي بغا

٦ ـ .... كافل الممالك الشريفة الحلبية عز الله نصره بولاية العبد

٧ ـ الفقير إلى الله محمد ... الأشرفي أعزه الله في شهر المحرم سنة سبع وستين وسبعمائة.

ويلاصق هذه الدار من جهة الجنوب دار الزردخاناه ولا زال بابها موجودا وعلى قنطرتها حجرة صفراء كبيرة لم أتمكن من قراءة ما كتب عليها سوى بعض كلمات وهي الزردخاناه والتاريخ الذي في السطر الأخير وهو سنة عشر وستمائة ، وداخل هذا المكان قبو واسع لا شيء فيه.

وجنوبي هذا المكان المكان المعروف بالساتورة (بئر ماء واسع) أمامه أجران كبيرة من الحجر الأسود وداخله جرن أصفر كبير طوله متران وستون سنتيما وعمقه نصف متر

٤١٩

وهو من عهد الرومانيين وعليه هذه الكتابة : YOtHTOAY وليس في القلعة من آثار الرومانيين سوى هذا الجرن والجرن الذي قدمنا ذكره.

ثم تمشي إلى جهة الجنوب أيضا صاعدا إلى ما فوق الأقبية التي فيها أبواب القلعة ، وهناك تجد بابا كبيرا من الرخام في داخله صحن واسع طوله نحو ٢٠ ذراعا وعرضه نحو ١٢ ذراعا يحيط به جدران عالية تجد في صدره من جهة الجنوب أيضا بابا واسعا من الرخام الملون كتب في أعلاه :

لصاحب هذا القصر عز ودولة

وكل الورى في حسنه يتعجب

بنى في زمان العدل بالجود والتفى

محاسنه فاقت جميع الغرائب

وشاهدت في هذا الصحن بغالا وخيلا مربوطة تحت أرجلها أكوام الزبل فقلت : سبحان المعز المذل ، بعد أن كان هذا المكان مقعد الملوك والأمراء صار إصطبلا للدواب. ومن هذا الباب العظيم تدخل إلى دهليز وهناك مخادع ، ثم تخرج منه إلى القصر الكبير المبني على الباب الثاني وما يليه المطل على الجهة الجنوبية من البلدة.

طول هذا القصر ٢٨ مترا وعرضه كذلك ، وفي وسطه ساريتان عظيمتان ومعهما عمودان من الحجر الأسود ، وفي القصر ثلاثة أروقة كل رواق ذو ثلاث قبب ، والسقف جميعه متهدم الآن وجدرانه من الجهات الثلاث متوهنة خصوصا الجدار المشرف على البلدة فإنه متشقق ، وفي هذه السنة رمم من أسفله ووضع في شقوقه وفي أرضه قضبان حديدية فتماسك بهذه الواسطة وهذا يؤخر سقوطه سنين.

وفي صدر هذا القصر شباك كبير من النحاس الأصفر بديع الصنع وقد كان أربع عشرة شبكة وقد سرق منها ثلاث وفيه الآن إحدى عشرة شبكة.

وعلى قنطرة هذا الشباك وفي جوانبه من داخله وعلى عضادتيه من خارجه فوق ذلك الرخام الملون كتابة بخط جاف إلا أنها مشتبكة ببعضها البعض لم أتمكن من قراءتها إلا بعد الجهد بعد وضع السلالم ، وساعدني في ذلك الشابان النجيبان الشيخ مصطفى الزرقا والشيخ معروف الدواليبي يوم خرجنا إلى القلعة عدة مرات لهذه الغاية وذلك في شعبان من هذه السنة وهي سنة ١٣٤٣ :

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين أمر بإنشاء هذا القصر المبارك مولانا السلطان الأعظم مالك رقاب الأمم المالك الملك قايتباي حامي الذمار على ملوك الأرض أعلا شرفا

٤٢٠