إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٣

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٣

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٧

وهكذا استتب الأمر لخورشيد باشا وتمكن من فتح المدينة وقمع الثورة ، فرجا أهل الدعة من السكان وكثير من الثائرين أنه سيعاملهم بالرفق والحلم إذ كان الحلم والعفو من مكارم الأخلاق ، ولأنه كان في نفوسهم أنه أخذ المدينة صلحا ولم يعتدوا بالفتنة الأخيرة. أما هو فقد كان في نفسه أنه أخذها عنوة ولذلك رأى أن إفراطه في الحلم في هذا الموطن ضرب من التفريط فلم يعف عن زعماء الثائرين جميعا كما رجوا بل أمر بنفر منهم وفيهم ابن قجة نفسه فضربت أعناقهم وألقيت جثثهم في خندق القلعة وهرب من باقي الزعماء من هرب واختفى من اختفى فأذكى عليهم العيون وكان من يثقفه منهم يقتله صبرا ، واستمر على ذلك أياما كان عامة الأنكجارية يجلون في أثنائها أرسالا ، فلما تيقن أنه لم يبق منهم في المدينة أحد منهم يعتد به نادى بالأمان واطمأنت الناس وعادت المياه إلى مجاريها اه.

سنة ١٢٣٧

كان الوالي فيها بيلانلي مصطفى باشا كما في السالنامة. ومن آثاره تجديد العمارة التي على مرقد عماد الدين النسيمي في التكية المعروفة به بالقرب من دار الحكومة ، ودفن زوجته داخل القبة ولا زال قبرها موجودا.

ذكر الزلازل العظيمة وما تهدم فيها

قال الشيخ بكري الكاتب في مجموعته : في شهر آب حصل زلازل عظيمة هدمت حارة اليهود والعقبة وسوق العطّارين مكثت أربعين يوما كل يوم هزة وهدمت مكتب أولاد وبيوتا ودورا وكثيرا من أماكن البلد حتى اضطر الناس للخروج إلى ظاهر البلد واستعملوا بيوت الدف والشعر ، وانشقت منارة الجامع الكبير مقدار ما يسع إنسانا ووقع أحجار من وسطها من محل الأذان ، وطبق الشق في الحال وأثره باق إلى زماننا هذا وقد حشي بالحجارة ، وكان ذلك سنة ١٢٧٨ وقد شاهدت ذلك اه.

قال جودت باشا في تاريخه : في الساعة الثالثة من ليلة سادس ذي الحجة (١) من سنة ألف ومائتين وسبع وثلاثين ١٢٣٧ حصل في حلب وكلّز وأنطاكية وما يجاور هذه

__________________

(١) وجدت على ظهر كتاب في مكتبة المولوية بخط بعض الحلبيين أن الزلزلة كانت ليلة الأربعاء في الثامن والعشرين من ذي القعدة من هذه السنة وهو أصح مما ذكره جودت باشا من أنها كانت في السادس من ذي الحجة ، أما كونها ليلة الأربعاء فمما لا خلاف فيه كما ستقرؤه في الأبيات الآتية ، وقيل كانت ليلة السابع والعشرين كما ستقرؤه في المقامة الترمانينية قريبا.

٣٢١

البلاد زلزلة شديدة تهدم فيها كثير من الأبنية وقتل تحت الهدم عالم كثير وأوجبت هذه الحادثة أكدارا كثيرة في الآستانة اه (١).

وقد ظفرت بقصيدة مخمسة لمحمد تقي الدين ابن الشيخ محمد المطلبي وهو قاطن في ديار حلب في هذه السنة وهي تصف تلك الزلازل وتذكر البلاد والأماكن التي خربتها وقد أثبتناها على ما فيها من التسامح من ناظمها والتحريف من ناسخها قال :

ما لليالي تمادى في مساويها

والدهر كدر لذاتي وصافيها

والحادثات رمتني في دواهيها

والعين بالدمع ما جفت مآقيها

والبيض والسمر ما كلت مواضيها

حلت علينا مصائب أوجبت هرمي

مما ألم بنا في الأشهر الحرم

زلازل لم ترى أمثالها إرم

كأنها السيل سيل العارض العرم

أو بحريم طغى من عند منشيها

تزلزل العقل منا والقلوب دوت

والروح ماجت وفي بحر الهموم هوت

وجمرة الحرب في وسط الفؤاد ثوت

أخنت ضلوعي وعيني الغزار كوت

فسال دمعي من عيني ليطفيها

في كل يوم رجيف لا يفارقنا

والأرض تهتز جل الله خالقنا

في كل آن نظن الدهر خانقنا

والله حافظنا والله رازقنا

كأننا سفن زالت مراسيها

قد حل في أرضنا من كل نائبة

هز وهد وتكدير ورائبة

ووقع دور وأوطان ونادبة

وموت أهل وأولاد وتاقبة

تبكي على أهلها من عاد يحويها

تلك الرزايا تمادت ليس يحصرها

مر الزمان ولا الأيام تقصرها

كأن أرواحنا والدهر يعصرها

عصر العصير ولا الأوقات تنصرها

مثل الدقيق سطت في سوافيها

والنفس في إصر والقلب في فكر

والأهل في كدر والجسم في ضجر

__________________

(١) ذكر عبد الله المراش في تاريخه مختصر تاريخ حلب أن القتلى نحو عشرين ألفا.

٣٢٢

والخلق في حذر والأرض في هدر

والعين في عبر والناس في سفر

يبكي عليها من الأهوال باكيها

زلازل ما سمعنا مثلها أبدا

ولا زمان مضى في مثلها شهدا

ولا كتاب ولا خبر بها وردا

ولا سماء ولا جبل لها رعدا

مثل الرعيد الذي لا زال يوحيها

والشهب في الأفق ترمي بيننا شررا

مثل المشاعيل يقفو إثرها إثرا

وفي الأراضي رجيف حير البشرا

وفي الليالي رجيج يقلق البصرا

وفي النهار مشقات نقضيها

والشمس تصهرنا والقر يقهرنا

والذل يحقرنا والترب يسترنا

والهز يزعجنا والدهر يدمرنا

والدار تبعدنا عنها وتخبرنا

أن البلاء ركام في نواحيها

لعل بارئنا الموصوف بالقدم

وهو الرؤوف وذو الألطاف والكرم

بالمصطفى المجتبى والبيت والحرم

يأذن برفع البلا عن سائر الأمم

برأفة منه تنجينا وتنجيها

فكم خطوب بأرض الشام قد وقعت

وفي حماة وحمص أعين دمعت

وفي المعرة كم من نسوة فجعت

وأرض ريحا وسلقين لقد صدعت

وأرض عنتاب ماجت في أهاليها

أين القصير وأين الجسر يا سندي

صاروا رميما بلا مال ولا ولد

أفناهم الدهر والباقون في كمد

وكم تحصنوا في حصن وفي زرد

فلم تفدهم وناعي الموت ناعيها

وانظر إلى حلب آها على حلب

أفناهم الدهر بالزلزال والعطب

تبكي عليهم بنو الأتراك والعرب

أسفا عليهم ذوي الغايات والرتب

سقاهم من كؤوس الموت ساقيها

كم من شباب وغادات بها فنيت

وكم عيون عليها بالبكا عميت

وكم ديار لهم من أهلها خليت

وكم جسوم لهم في أرضها بليت

أضحى عبيدهم تبكي مواليها

٣٢٣

حلت عليهم زلازل أوهنت جلدي

وذاب من وقعها جسمي كذا كبدي

وقرح الجفن دمعي واكتوى جسدي

وخانني الدهر فيهم آه وا ولدي

ومارت الدور من أعلى عواليها

كم من ديار وخانات بها هدمت

وكم مساجد للعباد قد عدمت

وكم موادن في حيطانها صدمت

وكم نفوس على ما فاتها ندمت

راحوا ضياعا ولم تكفل ذراريها

بالله يا سادتي نوحوا على حلب

وأندبوا الفضل والإحسان والأدب

وابكوا أهيل الهدى والجود والحسب

يا ليتهم سلموا من وقعة الوصب

أولم يكونوا بليل الأربعا فيها

كانت ديارهم من أحسن الدور

كأنها جنة للولد والحور

أتتهم هزة كالنفخ في الصور

وقال رب العلا يا أرضها موري

فمارت الدور وانهدت أعاليها

تلك العلال على أربابها نكست

وفي بحار الزلازل والبلا ركست

تلك الحوانيت تحت الأرض قد طمست

وأوجه الخلق من بلواهم عبست

والبوم صاحت سرورا في نواحيها

وانظر إلى القلعة الشهبا وقد عثرت

في أهلها بعد ما مالت وقد دثرت

وفي الخنادق أحجار لها نثرت

وكم نفوس عليها حرقة زفرت

أسفا عليها وخانتها لياليها

وكم شموس وأقمار بها كسفت

وكم خدود منعمة بها تلفت

وكم أراض بهم وبغيرهم رجفت

وكم رياح البلا من فوقهم عصفت

سادوا وقد خسفت فيهم أراضيها

حزني على ذلك البنيان والغرف

صاروا رميما بأهل المجد والشرف

عاشوا زمانا بصفو العيش والترف

وعاش بعضهم باللهو والسرف

شادوا بناء فخاب الآن بانيها

كانوا أناسا يخاف الدهر صولتهم

فخانهم دهرهم واغتال دولتهم

تبكي عليهم مطاياهم ونسوتهم

والمجد يبكيهم أيضا وإخوتهم

والدار تندب من قد كان يحميها

٣٢٤

تبكي عيوني إذا نظرتك يا حلب

دما عليك ولم يهتز بي طرب

ما كنت أحسب أن الدهر ينقلب

يوما عليك وتغدو دوركي خرب

أو حادث الدهر بالهزات يبليها

لعل يوما أراها مثل عادتها

تدنو إليها مواليها وسادتها

وتعمر الدار في إيناس قادتها

ويأذن الله في إمضا إرادتها

فالله أعدمها والله يحييها

فانظر قراها وأيدي الدهر ما لعبت

فيها وما فتكت فيها وما ضربت

فأهلها دمرت والدور قد خربت

وما أجارت ولا أبقت ولا وهبت

لكنها سلبت منها أهاليها

أرض الأتارب غارت ثم إبّين

ورام حمدان ليس الأمر بالهين

وإدلب هدمت وبلاد سرمين

وبنش بعضها ومعار مصرين

وبلاد دركوش قد غارت بمن فيها

يا إدلب أين أنت من مواليك

صرت خرابا وقد شتت أهاليك

مالي أراكي وقد هدت أعاليك

أغالك الدهر أم شلت أياديك

أم الزمان جنى أم خان واليها

مالي أرى البوم في ساحاتها قطنت

والدور خالية من بعد ما سكنت

والأرض ماجت بهم يا ليتها ركنت

تلك الزلازل عليهم بعد ما أحزنت

نساءهم وابتلاهم في ذراريها

حيف على إدلب ما كان ألطفها

في أهلها والنسا ما كان أظرفها

حلت عليّ بلايا لست أعرفها

تستغرق الكتب لو قد كنت أوصفها

فالله باريهم قد خصهم فيها

دركوش دركوش لم يبق بها دار

ولا رجال ولا أنثى ولا جار

وكلهم في بطون الأرض قد صاروا

جبالهم فوقهم من هزة ماروا

تبكي الوحوش عليهم ثم عاصيها

من أرمناز بلاني الدهر بالعبر

فبعضهم في الفلا والبعض في حفر

وبعضهم مثخن والبعض في سفر

والدور واقعة والكل في كدر

أمسوا مواتا وقاضي الحق قاضيها

٣٢٥

يا جسر شغر لحاك الله من وطن

أفنيت أهلك لا غسل ولا كفن

قرحت قلبي بالأحزان والشجن

أسفا على كل وجه أبيض حسن

وأهيف قد دوت منه مبانيها

وحل في كلّز ما حل في حلب

فبعضهم ميت والبعض في هرب

وبعضهم ناحل والبعض في عطب

وبعضهم في البلا كالنار في حطب

والريح تسفي عليهم من سوافيها

والدور قد هدمت والناس قد عدمت

والنفس ما سلمت من هزة علمت

والخلق ما رحمت لكنها نقمت

والناس ما ظلمت لكنها ظلمت

فنالها من عذاب الله موديها

والترك ما تركت ظلما ولا هجرت

والكرد ما عطفت لكنها فجرت

والعرب قد فسقت ما لحظة أجرت

والأرض من غير حق بالدماء جرت

من أجل ذلك قد مادت رواسيها

وأرض أعزاز ما قرت ولا سكنت

من الأراجيف والزلزال ما ركنت

أمست قراها عجافا بعد ما سمنت

وأهلها في بطون الأرض قد دفنت

راحوا سكارى وصار الترب واليها

قرى القصير خلت ما فيهم دار

والكل من شدة الهزات قد غاروا

وأهلها في قرار الأرض قد صاروا

والناس في أمرهم والله قد حاروا

سارت مطاياهم والموت حاديها

ما أقبح الموت إذ أفنى أكابرهم

واصطاد أوسطهم أيضا أصاغرهم

وفرق البين إرغاما عشائرهم

وكدر الدهر قاطنهم وسائرهم

لم يبق منهم سوى آثار ناديها

ريحا قراها قراها الدهر كاس ظما

والعين من أجلها شربت كؤوس عما

والبين هدم أركانا لهم ورمى

والحتف في أهلها كالبحر حين طما

ناداهم الموت فاتبعوا مناديها

وسرمدا وبلاد الحلقة انهدمت

وأكثر الخلق مع أموالها انهزمت

ودورها بعضها في البعض إصطدمت

من بعد ما شيدوها القوم واختدمت

وأهلها في البلا لا خل ينجيها

٣٢٦

هدت أنطاكي وهدّ البرج والصور

وغارت الأرض والخانات والدور

وأظلم الأفق لم يبدو به نور

ونادى رب العلا يا أهلها موروا

فزلزلت أرضها وانحط عاليها

ولست أعلم نفسا منهم سلمت

من المصائب وأركان لهم ثلمت

تلك الجبال لهم وديانها لثمت

من رجفة في جميع الخلق قد عظمت

يا ليتنا لم نراها في أراضيها

ومرعش بارتعاش الهز ما برحت

وأرض بيلان في بحر لقد سبحت

والروم ظني بها خسرت وما ربحت

والترك والكرد ما سلمت وما نجحت

جبالهم قد تساوت مع روابيها

ولست أعلم ما قد صار في البلد

من غير هذا ومن هذا فني جلدي

نعوذ من شرها بالواحد الأحد

جبار قهار لم يولد ولم يلد

إن شاء أعدمها أو شاء يبقيها

وأمة الخير بالقرآن هذبها

لو لا المعاصي فشت ما كان عذبها

لعلها جحدت حكما فكذبها

وبالزلازل والهزات أدبها

حتى تفيء لأمر الله مهديها

عيناي من كثرة الزلزال قد سهرت

وحادثات الليالي للورى قهرت

آيات خالقنا للخلق قد بهرت

لفظت درا وأفكاري به ظهرت

أستغفر الله مما كنت أجنيها

أنشأت نظمي وقلبي لازم الفكرا

أنا التقي وشعري يشبه الدررا

كأنه الشمس تعلو البدو والحضرا

يحدو الحداة بها إن أوجدوا سفرا

يهتز من شدة الأهوال قاربها

بليغة عبقت في أرضنا وسمت

على اللآلي وآناف العدا رغمت

ذادت حواسدها عن نيلها وحمت

عن وردها وقلوب الطاعنين رمت

وأخرست كل منطيق قوافيها

رصّعتها من يواقيت علت فغلت

وفي الفصاحة سادت في الورى وعلت

وأخبرت عن يد الأيام ما فعلت

وأفجعت كل قلب بالرثا وسلت

ترثي الألى ذهبوا جلت مراثيها

٣٢٧

نسجتها حلة تجلى بها الحور

في جيدها درر في وجهها نور

لم يعترى نظمها كذب ولا زور

إن رمت تاريخها تاريخها الغور ١٢٣٧

تبارك الله ما أحلى معانيها

لا تتهموني بكذب إنني رجل

قد أخبروني وقلبي هائم وجل

لما سمعت بها أنشأتها عجل

إن يكذبوا فلهم من ربهم أجل

أو كان قد صدقوا شدنا مبانيها

أستغفر الله من جرمي ومن زللي

إن كنت أخطأت في قولي وفي عملي

فإن رحمة ربي منتهى أملي

نظمتها درة فاقت على الحمل

تحلو لسامعها الصاغي وتاليها

صلى الإله على المبعوث في الأمم

محمد المصطفى ذو المجد والهمم

خير البرية من عرب ومن عجم

والآل والصحب أهل المجد والكرم

ما فاض فضل من الرحمن باريها

وعمل الشيخ محمد الترمانيني والد الشيخ عبد السلام أفندي المتوفى سنة ١٢٥٠ مقامة في وصف هذه الزلزلة ثم تخلص منها إلى مدح والي عصره ، قال بعد الخطبة :

أما بعد ، فلما كانت سنة سبع وثلاثين بعد المائتين والألف. حصل في أواخرها ليلة السابع والعشرين من ذي القعدة الهز والرجف. وذلك في محروسة حلب السنية. وما ينسب إليها من القرى والبلاد البهية. فبينما نحن في ثالث ساعة من تلك الليلة نتحدث. ولحاظ أعين سرورنا بألبابنا تغزو وتعبث. إذ وردت علينا مقدمات جيوش هازم اللذات. وصار كل منا يقول والله إن للموت سكرات. وما ذاك إلا دوي كدوي الصواعق. تتدكدك من هوله الشوامخ والشواهق. وما مضت ثانية من الثواني. إلا ولم يعرف الواحد منا الثاني. ونفضتنا الأرض عن ظهرها حتى قربنا من السماء. وكدنا نغترف بأكفنا من السحاب الماء. ثم هبطنا للحضيض الأسفل. وعدنا لما وصلنا إليه أول. نحو خمس مرات متواليات. حتى ظننا أن الأرض قد اختلطت بالسموات. وأن نفخة الفزع قد آن أوانها. وأن الساعة قد حانت أحيانها. فصرنا أولا نبتهل ونتضرع. ونستغيث ونار الخوف بأفئدتنا تتدلع. ثم تلجلج اللسان تلجلج الفأفاء. ولم يبق لنا من الحواس سوى بصر شاخص إلى السماء. واستولت علينا ظلمات الغضب. ولم يثبت لأحد في ذلك الوقت عصب. فبينما

٣٢٨

نحن في ذا الحال. إذ نزلت علينا شهب من السماء تتلامع. ورآها غالب من كان في ذات العواصم يتبايع. ثم اشتد الظلام في تلك الليلة حتى غاب سناها. وصار الواحد منا إن أخرج يده لم يكد يراها. فأيقنّا إذ ذاك هول يوم القيامة. ثم لما تذكرنا ما أعدّ لها من العلامة. علمنا أن هذه هي المقدمات. وأنها لعبر وعظات. فبعد خمس من الدقايق. زال الظلام من المغارب والمشارق. ونظرنا إلى أنفسنا كأنّا خرجنا من القبور. وعلينا التراب مغط للثياب وللشعور. ثم التفتنا إلى الربوع والقصور. فرأيناها قاعا صفصفا كهيئة الجبال يوم النشور. فاشتغلنا بالحسبلة والحوقلة. خشية من الاسترجاع واستعذنا بالله من هول تلك الزلزلة. وافتقدنا الأهل والأقارب. والأباعد والأجانب. فإذا قد فقد منهم نحو عشرة آلاف. كلهم كفنوا بثيابهم أو فراش أو لحاف. وخرجنا من البلدة إلى الصحراء. واشتدت بنا جميعنا البلواء. إلى أن برزت شموس الذات الأحمدية. وجالت فرسان الهمة الآصفية. في ميدان روضة بلدتنا البهية. فنادى من قبله منادي السرور. أن أبشروا فقد زال العناء من الصدور. وقد آن أوان العفو من الرب الغفور. فسكنت الأرض واستقرت. ولو لا الله دامت حركتها واستمرت. وأنسنا بقدوم جنابه العالي. وإنما بقدوم جنابه العالي انتظم شملنا كنظم العقود في اللآلي الخ.

(أقول) : تهدم في هذه الزلزلة أيضا ما كان أمام باب القلعة من الدور والأسواق والمدارس والجوامع يبتدي ذلك من جانب خان الفرّايين غربا إلى المحلة المعروفة بساحة الملح والمحلة المعروفة بالمزوّق والمحلة المعروفة بباب الأحمر شرقا ، وإلى حدود محلة القصيلة ومحلة السفاحية شمالا ، ولم يبق مما كان ثمة من الأبنية سوى مدرسة خسرو باشا والزاوية المعروفة بزاوية الشيخ تراب وجامع الأطروش والمدرسة السلطانية والحمام المعروفة قديما بحمام الناصرية المشهورة الآن بحمام اللبابيدية. وقد لحق هذه الأماكن شيء من الخراب أيضا وبقيت تلك الأماكن قاعا صفصفا إلى سنة ١٣٠٠ فتجدد فيها في أول هذا القرن ثلاثة خانات شرقي خان الفرايين ثم خان آخر بينها وبين المدرسة الخسروية وهو الخان المعروف بالشونة. وقد دخل فيه بقية سوقين كانا للمدرسة المذكورة كما قدمنا ، وجدد ثمة في الجهة الغربية مستشفى للغرباء واسع جدا شرع في عمارة هذا المستشفى سنة ١٣٠٢ أثناء ولاية المرحوم جميل باشا ، وبعد أن ارتفع البناء فيه مقدار ثلاثة أمتار عزل الوالي المذكور فأهمل البناء فيه وبقي على هذه الصورة تأوى إليه الكلاب وأرباب الفساد إلى سنة ١٣١٧ ، فسعى رؤوف

٣٢٩

باشا في إتمامه واهتم لذلك غاية الاهتمام. وفي الجهة الشرقية بنى مفتي حلب محمد أفندي العبيسي دارا لسكناه وخانا بين داره وبين حمام الناصرية ، وبنيت دور حقيرة شمالي جامع الأطروش أمام المحلة المعروفة بساحة الملح وما عدا ذلك فهو خراب إلى هذه السنة سنة ١٣٤٣.

وفي جانب من هذا الخراب من أمام جامع الأطروش إلى حمام الناصرية ومنها إلى أمام باب القلعة إلى شرقي المدرسة السلطانية تقام سوق في كل يوم جمعة يباع فيها الخضر والفواكه والصوف والقطن والحصر وأواني النحاس والأخشاب والطيور والدجاج والثياب القديمة والشيت والخام وغير ذلك ، ويقدر من يجتمع فيه كل يوم جمعة من الصباح إلى الظهر بعشرة آلاف ، وبعض هذا المكان يعرف قديما بدرب المرمى ثم عرف بدرب المبلط. قال في كنوز الذهب في الكلام على الدروب : درب المبلّط هو الدرب الآخذ من حمّام الذهب إلى ناحية القلعة ، وقد بلطه الظاهر غازي ويعرف الآن بدرب المبلّط ، وسميت حمام الذهب لأنها وقف على الفقراء وكانوا يأخذون منها صدقتهم ذهبا ، وقد جعل بعضها الآن ملكا والذي فعل ذلك قرض الله ذريته.

والساحة التي هي أمام الحمّام اتخذت لبيع الدواب في كل يوم وهذا المكان معروف من القديم بسوق الخيل.

سنة ١٢٤٠

كان الوالي فيها كليسلي محمد وحيد باشا كما في السالنامة.

سنة ١٢٤٢

ذكر ولاية سيروزلي يوسف باشا

قال الكاتب في مجموعته في حوادث هذه السنة : فيها حصل غلاء ووباء (طاعون) ، وكان والي حلب يوسف باشا إلى أن صار رطل الخبز بناقشلي وعمّ الوباء اه.

قال في قاموس الأعلام : هو ابن إسماعيل بك أحد أعيان سيروز ، عيّن سنة ١٢٣٣ في بعض الوظائف إلى يانية ، ولما كان فيها أتته رتبة الوزارة وعين محافظا إلى أغريبوز

٣٣٠

ثم إلى صاروخان ، وفي سنة ١٢٣٨ عين إلى حلب (في السالنامة أن تعيينه كان سنة ١٢٤٢ وافق فيه ما قاله الكاتب كما تقدم فهو أصح مما ذكره في القاموس) ثم عيّن إلى كوتاهية ثم منتشا ثم قره حصار ، وفي سنة ١٢٥١ عيّن محافظا إلى بلغراد ، وفي سنة ١٢٥٦ أعيد إلى صاروخان ، وفي سنة ١٢٥٨ عاد إلى سيروز وطنه وهناك توفي سنة ١٢٥٩. وكان شاعرا أورد له في القاموس بيتين من الشعر التركي.

سنة ١٢٤٣

كان الوالي فيها رؤوف باشا كما في السالنامة.

سنة ١٢٤٤

ولاية علي باشا وقتله لأحمد بك ابن إبراهيم باشا

هذا لم يذكره في السالنامة. قال الكاتب في مجموعته : في سنة ١٢٤٤ أحضر يوسف بك أمرا بقتل أحمد بك وكان والي حلب علي باشا فقتل أحمد بك وهو في بستان المفتي ضرب برصاص وهو على درج القصر.

تفصيل مقتله :

ذكر الشيخ وفا الرفاعي قصة قتل أحمد بك في بعض مجاميعه بأوسع من ذلك فقال : كان أحمد بك ابن الحاج إبراهيم باشا قطر آغاسي أمير الحج الأسبق الذي تولى حلب أمر أن يتوجه إلى أرضروم بمائة وخمسين عسكريا ، فتوجه من حلب في ٢٠ من كانون فأصابه عند كرم الخوش حمى معها ذات الجنب ، فعاد إلى حلب وأقام في بستان المفتي ، وكان والي حلب وقتئذ علي باشا فأتاه الأمر بقتل أحمد بك ، وذلك ليلة الثلاثاء في السابع والعشرين من ذي القعدة سنة ١٢٤٤ ، فتوجه علي باشا للبستان المذكور فتلقاه أحمد بك وأحسن استقباله وجلسا للمحادثة ، ثم نهض علي باشا وخرج من باب القصر فخرج لتشييعه ، وكان علي باشا أوقف ثلاثا من أتباعه بالباب وأعلمهم أنه مأمور بقتله وأمرهم أن يطلقوا عليه الرصاص متى خرج ، ولما خرج كما قلنا أطلق عليه القواس باشي الرصاص ثم ثنى عليه الجماشرجي ، وقيل ثم ثلث عليه المعتمد فخر أحمد بك صريعا ،

٣٣١

فحزوا رأسه وأدخلوا الجثة إلى دار الحريم فوقع الصراخ والنواح ، وصادف أني ذلك اليوم خرجت لوداعه لأنه كان صمم على التوجه يوم الخميس في التاسع والعشرين من الشهر المذكور وجلست بالقرب منهم أنتظر ذهابهم من عنده لأدخل إليه ، فلما وقع الأمر عدت إلى البلد ، ثم سمعت أنهم يريدون دفنه تلك الليلة فرجعت إلى بستان المفتي ومعي حطب زاده ، وبعد أن غسلوه مشينا مع الجنازة من بستان المفتي إلى التكية المولوية ووصلنا مع العشاء ، وبعد أن صلينا عليه وكنت أنا إمام القوم واروه التراب في قبر هناك جديد ، وكتب على قبره من نظمي :

لقد فزت يا قومي ونلت شهادة

وغفران ربي كل يوم مجدد

فعممني عفوا وجاد برحمة

ومثواي في دار النعيم مخلد

ولما دعاني طبت زلفى لقربه

وفي المقعد الصدق المقيم مؤبد

فبشر أني أحمد الله أرخوا

وقصري في الفردوس زاه مشيد

قال : وكان عفا الله عنه على سنه متكالبا على الدنيا ذا طمع عظيم يحب الادخار ولا يقنعه شيء يتلو دائما هل من مزيد من كل شيء ، كتوما رصينا. ولما كنت في الآستانة بقصد الحصول على جهة أتعيش منها أنعم علي بمزرعة السربس فأخذتها بالتولية ببراءة ثم شاركت المترجم على النصف فوضع المترجم يده على الكل وصار يستورد جميع الواردات ولا يعطيني إلا القليل منها ، ذا إصرار إذا خطر له أمر يصر على إمضائه ولو تبين له غلطه ، وكان يضمر الغدر لمن عانده أو بلغه عنه ما يكدره. وتوفق أيام حكومته إلى ترميم المسجد الأموي وتعميره وإلى تعمير سبيل عظيم في باب المقام اكتفى به أهل تلك المحلة واستغنوا عن شراء الماء في أوقات الاحتياج ، وإلى تعمير سبيل آخر في محلة تراب الغرباء وإلى ترميم المشهد المدفون فيه الإمام محسن رضي‌الله‌عنه ، وقتل قبل أن تتم العمارة ، ولعل الله يسمح عنه بسبب هذه الآثار.

والمشهور أن علي باشا أرسل رأس أحمد بيك إلى دار السلطنة والسلطان وقتئذ هو السلطان محمود ، وهناك قبض على أخيه مصطفى بيك الذي كان في الآستانة أمير أخور أول وعرض عليه رأس أخيه أحمد بك وسأله : هذا هو أخوك؟ فقال : نعم ، فأمر بقتله فقتل أيضا. ثم ورد الأمر بمصادرة أملاكهما التي في حلب وملحقاتها فصودرت أملاكهما وقراها ، ثم جرى نفي أولادهما وكافة من يلوذ بهما البعض منهم إلى سيواس والبعض إلى عينتاب والبعض إلى أمكنة أخرى.

٣٣٢

سنة ١٢٤٥

ولاية إبراهيم باشا ثم علي رضا باشا

قال في السالنامة : كان الوالي فيها إبراهيم باشا ثم صار علي رضا باشا

ترجمة علي رضا باشا :

قال في قاموس الأعلام : هو طرابزوني الأصل بعد أن تقلب في عدة وظائف صار مدير الإصطبل العامر سنة ١٢٤٤ ، ثم عين قائمقاما لحلب ، وبعد سنة أنعم عليه برتبة الصدارة وعيّن واليا لحلب ، وفي سنة ١٢٤٦ شق والي بغداد عصا الطاعة فأمر المترجم بالتوجه إلى بغداد فتوجه إليها ووفق في سفره وعيّن واليا على بغداد ، وفي سنة ١٢٥٧ عيّن واليا على الشام ثم عزل عنها سنة ١٢٦١ ، وعلى أثر ذلك توفي بالشام ، وله شعر ذكر منه في القاموس بيتين.

أقول : يغلب على الظن أن علي رضا باشا هو المذكور في حوادث سنة ١٢٤٤ الذي قتل أحمد بك قطر آغاسي وبقي إلى هذه السنة ، وأن ما ذكره في السالنامة أن الوالي في هذه السنة كان أولا إبراهيم باشا ثم علي رضا باشا سهو ، أعني أنه لم يتول حلب في هذه السنة من يسمى بإبراهيم باشا.

سنة ١٢٤٧

كان الوالي فيها إينجه بيرقدار زاده محمد باشا كما في السالنامة.

سنة ١٢٤٨

ذكر مجيء إبراهيم باشا المصري ابن محمد علي باشا

إلى الديار الشامية واستيلائه على عكا ثم على دمشق ثم على حمص وحماة ثم على حلب

قال إسكندر أبكاريوس في الباب الثالث من كتابه المسمى بالمناقب الإبراهيمية والمآثر الخديوية (١) ما خلاصته :

__________________

(١) مطبوع في حمص سنة ١٩١٠

٣٣٣

حدث بين محمد علي باشا أبي إبراهيم باشا المصري وبين عبد الله باشا والي عكا نفور وخصام ، وكان عبد الله باشا لا يركن إليه في أمر من الأمور عديم الوفاء منقلب الآراء لا يرعى عهدا ولا يحفظ ودا ، وكان أبوه من مماليك أحمد باشا الجزار يقال له علي آغا الخزندار ، فساعدته يد العناية حتى تمكن من الولاية وجعل دأبه تحصين عكا بالأبراج والأسوار وجمع المال ، وكان قد استولى عليه البطش واستخفه البطر وطيب العيش حتى حاد عن الطريق وأشهر العصيان على الدولة العثمانية أملا بالاستقلال وطمعا في الأموال ، ولما بلغ السلطان محمود خان ذلك أرسل عسكرا لقتاله تحت راية درويش باشا والي دمشق ، فحاصره زمنا طويلا ، ولما طالت عليه الحال استدعى الأمير بشير الشهابي (حاكم جبل لبنان) وأرسله إلى الديار المصرية ليستميل له خاطر الحضرة الخديوية لإصلاح أمره مع الدولة العثمانية ، وكان محمد علي له وجاهة كبيرة ومنزلة عند الدولة رفيعة خطيرة فلبى دعوته وكتب في شأنه إلى القسطنطينية واسترضى الدولة عنه بموجب إرادة سنية فرفعت عنه الحصار ، غير أن عبد الله باشا كبرت نفسه بعد ذلك وجحد فضل محمد علي باشا وإحسانه إليه وسلك معه سلوك اللئام وتكلم في حقه بما لا يليق من الكلام ، فلما بلغ محمد علي باشا هذا الخبر كاتب الحضرة السلطانية يعلمه بهذا الشان ويلتمس من جلالته خلع عبد الله من ولايته ، فلم يكترث بخطابه ولا أجابه على كتابه ، فاستعظم ذلك الأمر ولم يعد يمكنه الاصطبار على ذلك الذل والعار ، فجهز ولده إبراهيم باشا وأمره أن يسير لحرب الديار الشامية وأردفه بالعمارة البحرية وأصحبه بثلاثين ألفا من العساكر ، وكان خروجه من الإسكندرية في غرة جمادى الأولى سنة ١٢٤٧.

قال جرجي زيدان في كتابه مشاهير الشرق في ترجمة الأمير بشير الشهابي حاكم جبل لبنان : وفي سنة ١٨٣١ م قدم المغفور له إبراهيم باشا بن محمد علي باشا لحصار عكا. والسبب الحقيقي لقدومه يكاد يكون مجهولا لأن المؤرخين قلما أفصحوا عن حقيقة ، ولكنا قد عرفناه ممن عاصر الأمير (بشير الشهابي) وكان من حاشيته وسمع حقيقة الخبر من فيه قال : إن محمد علي باشا لما قدم إليه الأمير بشأن العفو عن عبد الله باشا تداولا في أمور كثيرة تعود إلى التعاضد والتعاون عند الحاجة ، وكان محمد علي باشا عازما على توسيع نطاق حكمه بافتتاح سورية ، وكان يظن صنعه الجميل مع عبد الله باشا والأمير يكفي لبلوغ أمانيه ، ولكنه رأى من عبد الله باشا اعوجاجا عن غرضه ، والغالب أن عبد الله باشا كان طامعا بمثل مطامع محمد علي ، فلما علم بما نواه هذا صار يحاذره.

٣٣٤

وأدرك محمد علي ذلك فعزم على اختباره والتعويل على تنفيذ مقاصده بالقوة فبعث إلى الأمير بشير أن يبعث إليه بجانب من الأخشاب التي يحتاج إليها في بناء المراكب ، فباشر الأمير إجابة طلبه فمنعه عبد الله باشا ، فشق ذلك على محمد علي واعتبره بظاهر الأمر مخالفا لأوامر الدولة العلية ، لأن تلك المراكب إنما هي للحكومة ، فجرد لمقاصته حملة تحت قيادة ولده إبراهيم باشا لحصار عكا. ثم قال : وبعد أن فتح إبراهيم باشا عكا وقبض على عبد الله باشا وبعث به إلى الإسكندرية سار إلى دمشق وفتحها.

وهنا ذكر صاحب المناقب الإبراهيمية في الباب الرابع والخامس والسادس تفاصيل الحروب التي كانت بينه وبين عبد الله باشا إلى أن استولى على عكا ثم على بقية السواحل ثم على جبل لبنان ثم على دمشق ، إلى أن قال في الباب السابع :

وكانت الدولة العلية لما بلغها قدوم إبراهيم باشا إلى سورية وافتتاحه المواني البحرية عينت السردار حسين باشا وأرسلت معه ستين ألفا من العساكر ومائة وستين مدفعا ، وعند وصوله إلى أنطاكية أرسل أمامه طليعة من العساكر إلى حمص بقيادة محمد باشا البيرقدار (والي حلب المتقدم الذكر) وعند وصوله إليها عسكر بجنده حواليها ، ولما بلغ إبراهيم باشا وصول هذا الجيش وهو بدمشق استعد لاستقباله وكتب إلى عباس باشا يأمره بالمسير من بعلبك إلى القصير ، وكتب إلى حسن المناسترلي وكان في طرابلس الشام يأمره بالمجيء إلى القصير ، ثم سار هو بمن معه من العساكر فالتقى بهذين في المكان المتقدم ، ثم ساروا جميعا منه إلى حمص.

ذكر انكسار العساكر العثمانية بالقرب من حمص

قال في المناقب : كان محمد باشا والي حلب ومن معه من الباشاوات لما بلغهم قدوم إبراهيم باشا إليهم أخذوا في الاستعداد ، وسار محمد باشا بمن معه من العساكر فالتقى الجيشان في حمص ، وكانت العساكر العثمانية ثلاثين ألفا ومعها أربعون مدفعا والعساكر المصرية عشرين ألفا ومعها أربعة وأربعون مدفعا ، ولما دارت رحى الحرب لم تثبت العساكر العثمانية أمام العساكر المصرية ولاذت بالفرار بعد أن قتل منها نحو أربعة آلاف ومن العساكر المصرية خمسمائة ، وكان سبب الانتصار مهارة إبراهيم باشا في إدارة حركات الحرب.

٣٣٥

أما محمد باشا فإنه قصد حلب وتبعه أكثر القوّاد والوزراء ، وأما محمد باشا البيرقدار فإنه بعد انهزامه قصد حسين باشا السردار ليعلمه بتلك الكسرة ويطلب منه النجدة واستحوذ إبراهيم باشا على مهمات الجيش العثماني وذخائره وفرق منها على ضبّاطه وعساكره واستولى على حمص وحماة ، وكان قد وقع في يده ألفان من الأسارى بين عساكر نظامية وأرناؤوط ، فعاملهم بالرفق والإحسان وأدخلهم بين جنوده المصرية وعيّن لكل واحد منهم راتبا وكتب إلى أبيه بمصر يخبره بهذا النصر.

ذكر وصول حسين باشا السردار إلى حلب

وامتناع الحلبيين من تقديم عسكر له

قال في المناقب ما خلاصته : كان حسين باشا السردار قد خرج من أنطاكية طالبا حمص وحماة ، فبلغه وهو في أثناء الطريق ما حل بعسكره ، فاضطرب لذلك فؤاده وارتد راجعا إلى الوراء ليجمع شمل العساكر المنهزمة ويأخذ لنفسه الاحتياطات اللازمة ، ولما أتاه محمد باشا البيرقدار بمن معه من المنهزمين وبخه ورفسه برجله ونزع عنه سيفه وطرده من أمامه ووكل به بعض الخدم ، ثم أخذ في السير إلى أن وصل إلى جسر الحديد وهو مكان يبعد عن أنطاكية أربع ساعات وجمع ما تشتت من الجنود ثم ارتحل قاصدا حلب ، ولما وصلها التقى بواليها محمد باشا فأعلمه بواقعة الحال وهزيمة العسكر ، فازداد حنقا على حنق وقلقا على قلق ، وعند وصوله إلى حلب عقد مجلسا حربيا مع الأعيان والعلماء ، وبعد جلسة طويلة ومذاكرة مستطيلة طلب منهم أن يمدوه بالذخائر والعدد ويقدموا له عسكرا من أبناء البلد ، فلم يوافقوه على ذلك لأن نفوسهم كانت غير مائلة إليه ولا مؤملة حصول النصر على يديه ، بل كانوا يحاولون الخروج من قبضة الدولة العلية والدخول تحت طاعة الحكومة المصرية ، فلما يئس من النجدة والمعونة عزم على المسير إلى الإسكندرونة ، ليقيم فيها الحواجز والقلاع ويجعلها حصن الوقاية والدفاع.

ومما يستحق الاعتبار أن هذا السردار كان قد اجتمع مع قنصل فرانسا في ذلك النهار ، فأخذ يحادثه في الكلام ويسأله عن حواصل بر الشام وعن أسعار الحرير والحنطة والشعير وغير ذلك من المسائل التي ليس تحتها طائل ، وبعد أن تناول معه الطعام خرج إلى المضارب والخيام وبات تلك الليلة في المعسكر ، وعند طلوع النهار بلغته الأخبار بقرب

٣٣٦

وصول ذلك الجبار والليث المغوار إبراهيم باشا ، فلم يسعه إلا الرحيل من هذه الديار ، فقسم جيشه إلى قسمين وأرسله إلى الإسكندرونة على طريقين الأول سار على طريق كلّز وبيلان وسار هو في الثاني عن طريق أنطاكية ، وتبعه والي حلب ووالي دمشق الشام ، وعند وصوله إلى الإسكندرية أقام فيها.

استيلاء إبراهيم باشا على حلب

قال في المناقب الإبراهيمية : إن إبراهيم باشا لما استولى على حمص وحماة سار إلى حلب على طريق تل السلطان فمعرة النعمان فحلب ، وكان وصوله إليها في اليوم الثامن من شهر صفر سنة ١٢٤٨ ألف ومائتين وثمانية وأربعين هجرية ويوافق ذلك السابع عشر من تموز سنة ١٨٣٢ مسيحية وذلك بعد خروج حسين باشا من المدينة بيومين ، فاستقبله أهلها بالترحيب والتفخيم ودخلها بموكب عظيم ، وكان أول من ورد إليه للتهنئة والسلام قناصل الدول العظام ، ثم جاء القاضي والمفتي (كان المفتي في ذلك الحين محمد أفندي الجابري ذكر ذلك الشيخ بكري الكاتب في مجموعته) وأعيان البلد وباقي الوجوه والعمد فسلموا عليه وهنأوه ، وبعد أيام قلائل وردت إليه الكتب والرسائل من عمال تلك الديار تعرب عن تهنئته والانتظام في سلك دولته.

وبعد أن نظم أحكام المدينة وأذعنت لطاعته جميع الولايات الكائنة في تلك الجهات كديار بكر ونواحيها وأورفة وما يليها ونصب بها الولاة والمتسلمين تجهز للارتحال إلى الإسكندرونة للقاء حسين باشا ، وكان رحيله من حلب في اليوم السابع والعشرين من صفر فوصل إلى بيلان في اليوم الثاني من ربيع الأول.

انكسار الجيش العثماني في بيلان

قال في المناقب : كان حسين باشا عند مروره ببيلان أقام فيها سبعة عشر ألفا من الرجالة والفرسان ليقطع على المصريين منافذ الطريق بإقامة الحواجز عند باب مضيقها بحيث كان يستطيع بألف مقاتل يدفع عشرين ألفا بالنسبة إلى مركزها الشاهق. فلما أقبل إبراهيم باشا إليها وأشرف بجيشه عليها وجدها مشحونة بالعساكر والمؤن فبادر إلى الحرب وقسم جيشه إلى أربعة أقسام وأقام كل قسم في مكان ، ولما اختبر إبراهيم باشا مراكز

٣٣٧

الجيوش العثمانية وعرف حركاتهم الحربية أمر الآلاي الثامن والثامن عشر من الرجالة وآلاي الحرس أن يسيروا عن طريق كلّز ويصعدوا إلى ذروة الجبل ويهجموا على ميسرة الجيوش العثمانية ، ثم أمر حسن بك المناسترلي بالهجوم على الميمنة من الجهة الثانية المعروفة بطريق أنطاكية ، وأقام إبراهيم باشا عن يمين ويسار فم الوادي فرقا من خيالة الأجناد ليعضد العساكر إذا ظفروا ويرد العدو عنهم إذا انكسروا ، فلما رأت العساكر العثمانية تقدم الجيوش المصرية وهي صاعدة إليها ومشرفة عليها من اليمين والشمال أطلقت عليها المدافع من الجانبين المحكمة على الطريقين ، فعند ذلك أمر إبراهيم باشا عسكره بالهجوم وإطلاق المدافع وتسابقت العساكر إلى الحرب فاشتبك القتال بين الجانبين واصطدمت الرجال بالرجال وسالت الدماء ، وكانت ساعة من ساعات القيامة أذهلت العقول وأشابت الأطفال ، وكانت النيران بين الطرفين غير منقطعة غير أن المصريين كانوا في الحرب أكثر انتظاما وأخف حركة ، واستمر القتال من العصر إلى بعد غروب الشمس ، وكانت جيوش الأتراك قد كلت وقتل منها ما يزيد عن ثلاثة آلاف نفس ، فعند ذلك اختل نظامها وتمزقت صفوفها فولّت الأدبار وتشتت شملها ولم يفقد من المصريين غير أربعمائة وعشرين شخصا واستولى المصريون على مدافعهم وذخائرهم.

وعند طلوع النهار أرسل إبراهيم باشا عباس باشا إلى الاسكندورنة في ستة آلاف مقاتل ليقتفي أثر حسين باشا السردار ، واتفق أن حسين باشا قبل أن تصل إليه أخبار الهزيمة كان موجودا في دار موسيو مارتينلي قنصل دولة فرانسة ، فبينما هو يتناول الطعام إذ بلغه هذا الخبر وما حل بعسكره فاستعظم المصاب فنهض للحال بمن بقي معه من الرجال طالبا الهزيمة والفرار ، وعند وصول عباس باشا إلى البلد وجدها مشحونة بالذخائر والعدد فاستولى عليها ، ثم أرسل سرية أسرت من كان متأخرا من جيوش الأتراك ، وما زال حسين باشا مجدا في السير إلى أن وصل إلى قونية.

وعاد إبراهيم باشا إلى حلب بعد أن كتب إلى أبيه من بيلان بما جرى.

استيلاء إبراهيم باشا على قونية

في الباب الثامن من الكتاب الموسوم بالمناقب الإبراهيمية تكلم على الحرب التي جرت بين إبراهيم باشا وبين محمد رشيد باشا الصدر الأعظم عند قونية وانتهت بأسر

٣٣٨

الصدر المذكور واستيلاء إبراهيم باشا على قونية ، وأطال الكلام في ذلك وخلاصته : أن الدولة العلية لما بلغها انكسار جيشها الذي أرسلته بقيادة حسين باشا السردار عزلت حسينا وعيّنت محمد رشيد باشا الصدر الأعظم وأخذت في تجهيز العساكر ، وأما إبراهيم باشا فإنه أخذ في التقدم نحو القسطنطينية وخرج من حلب في الخامس عشر من ربيع الأول من السنة المذكورة وذلك يصادف الحادي عشر من آب سنة ١٨٣٢ ، ولما وصل إلى آدنة لم يجد فيها من يقاومه فاستولى عليها ثم سار نحو قونية ، فالتقى هناك بالجيوش العثمانية بقيادة محمد رشيد باشا وكان ذلك في التاسع والعشرين من رجب من السنة المذكورة وعددها خمسة وخمسون ألفا ، وكان عدد الجيوش المصرية ثلاثين ألفا ، وبعد حرب دامت سبع ساعات أسر الصدر وانكسرت الجيوش العثمانية وولت الأدبار واستولت الجيوش المصرية على ما معها من المدافع والذخائر والمهمات ، وأخذ من الجيوش العثمانية ثمانية آلاف أسير وستة وخمسون مدفعا وقتل خمسة آلاف رجل ، وقتل من العساكر المصرية ثمانمائة وجرح ألف وعشرون شخصا ، وبعد انكسار الجيوش العثمانية عاد إبراهيم باشا إلى قونية فدخلها ظافرا منصورا ومعه الصدر الأعظم محمد رشيد باشا وهو أسير فأكرمه غاية الإكرام وأحسن معاملته وأعطاه المحل ليجلس به وجلس هو بقربه ، ثم أمر إبراهيم باشا بالقهوة أن تحضر فأبى الصدر أن يشربها وخشي أن تكون مسمومة وطلب شربة من ماء فأحضرت ، ولما ملأ الساقي الطاس تمهل عن أخذها وشربها فمد إبراهيم باشا يده بسرعة وشرب منها قسما كبيرا ثم قال له : خذ ولا تسىء بنا ظنا.

الصلح بين الدولة العثمانية والحكومة المصرية

ورجوع إبراهيم باشا إلى سورية

قال في المناقب الإبراهيمية في الباب التاسع ما خلاصته : لما وصلت أخبار هذه الكسرة إلى القسطنطينية اضطرب الباب العالي ولم يبق في وسعه إلا التسليم للقضاء ، وفكر رجال الدولة فيما يجبر الخلل فلم يجدوا أوفق من الصلح ، فطلبوا إذ ذاك من فرنسا توسط الأمر فأجابتهم إلى ذلك وبعثت وكيل سفارتها البارون دي فارين برسالة إلى إبراهيم باشا وبأخرى إلى والده محمد علي باشا ، وبعد أخذ ورد تقرر أن تتنازل الدولة العثمانية للحكومة المصرية عن جزيرة كريد وعن آدنة وسورية ، وتحررت شروط العهد في السادس عشر من

٣٣٩

ذي القعدة والثامن من نيسان ورجع إبراهيم باشا إلى قطر الشام وشرع في تمهيده وتنظيم شؤونه.

قال في مشاهير الشرق في الكلام على العائلة الخديوية : إن الباب العالي لما أرسل رشيد باشا الصدر الأعظم جنّد إبراهيم باشا جندا كبيرا من البلاد التي افتتحها وسار نحو الآستانة لملاقاة رشيد باشا فالتقى الجيشان في دسمبر (ك ١) سنة ١٨٣٢ م في قونية جنوبي آسيا الصغرى فتقهقر رشيد باشا برجاله واخترق إبراهيم باشا آسيا الصغرى حتى هدد الآستانة.

فتعرضت الدول وفي مقدمتهن الدولة الروسية فأنفدت إلى مصر البرنس مورافيل لمخاطبة محمد علي باشا بذلك وتهديده ، فبعث إلى إبراهيم باشا أن يتوقف عن المسير ، ثم عقدت بمساعدة الدول معاهدة من مقتضاها أن تكون سورية قسما من مملكة مصر وإبراهيم باشا حاكما عليها وجابيا لخراج آدنة ، وقد تم ذلك الوفاق في ٢٤ ذي القعدة سنة ١٢٤٨ الموافق ١٤ أيار سنة ١٨٣٢ وهو المدعو وفاق كوتاهية ، فعاد إبراهيم باشا إلى سورية واهتم بتدبير أحكامها وجعل مقامه أولا في أنطاكية وابتنى فيها قصرا وقشلاقات ، وولى إسماعيل بك على حلب وأحمد منكلي باشا على آدنة وطرسوس ، أما الإجراءات العسكرية فلم يكن يسوغ لأحد أن يتولاها سواه.

سنة ١٢٤٩

ذكر قتل أحمد آغا بن هاشم

أحمد آغا بن هاشم هو أحد زعماء الأنكشارية في حلب ، والسبب في قتل إبراهيم باشا له أن إبراهيم باشا لما قفل من قونية وعاد إلى حلب أخذ في جمع العساكر والاستعداد خشية طارق يطرق البلاد على غرة ، وطلب من الأغوات أن يسلموا أولادهم فترددوا في بادىء الأمر ثم اتفقوا على تسليمهم ، وقبل سفرهم طلع آباؤهم لوداعهم فرأوهم على حالة مهينة يحتقرون ويشتمون فقال الآباء : هذه حالة أولادنا وهم هنا بين ظهرانينا فكيف تكون حالتهم في السفر ، فندموا على ما فعلوا وأخذوا في إعمال الحيلة فاجتمعوا في منزل أحمد آغا بن هاشم ، وهناك قرروا قتل إبراهيم باشا ووكيله وكتبوا بذلك عهدا ختموه جميعا وسلموه لابن حطب (أحد آغوات الأنكشارية) فأخذ هذا ورقة العهد وذهب توا

٣٤٠