إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٣

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٣

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٧

ازداد طغيان فرقة السادة وقتلوا من اليكيجرية عدة مئات ، فأمر متصرف مرعش ذو القدر زاده عمر باشا بالتوجه إلى عينتاب وإصلاح شؤونها ، فتوجه إلى عينتاب إلا أن بعض الأشقياء من العشائر خرجوا عليه وقتلوه في أثناء الطريق رميا بالرصاص ، فعينت الدولة حسن باشا متصرفا على مرعش عوضا عن عمر باشا فتوجه إليها اه.

سنة ١٢١٠

تعيين عظم زاده عبد الله باشا واليا على حلب

قال جودت باشا في حوادث هذه السنة : فيها تعين عظم زاده عبد الله باشا واليا على حلب. وفي السالنامة أنه عين سنة ١٢٠٧ ، ويغلب على الظن أن الأصح ما قاله جودت باشا.

سنة ١٢١٤

كان الوالي فيها حاجي إبراهيم باشا كما في السالنامة ، وهو إبراهيم باشا المشهور بقطر آغاسي جد آل القطر آغاسية الآن.

وفي سنة ١٢١٢ استولى الفرنسيس على مصر فشرعت الدولة العثمانية تجهز العساكر والجيوش من البلاد وترسلها إلى مصر بقصد محاربة الفرنسيس وإخراجه من مصر.

قال الشيخ بكري الكاتب : في غرة جمادى الأولى من سنة ١٢١٤ سافر من حلب إلى مصر أحمد آغا حمصة ومعه سبعة آلاف خيال من الأنجكارية وسحبوا أمامهم بيرقا كبيرا. وفي الثالث من شوال حبس أحمد آغا الحمصة بعد رجوعه مكسورا وسلب ماله وقبض على بعض جماعة من الأنجكارية وأخذ منهم أموال.

سنة ١٢١٥

قال الشيخ بكري الكاتب : فيها خرج إبراهيم باشا قطر آغاسي إلى الديار المصرية.

وفيها أتى خط شريف في سفر الأشراف إلى مصر ، وكان نقيبهم يومئذ محمد أفندي القدسي وسافر معه أربعة آلاف من الأشراف وطلع السنجق نهار السبت لثلاث مضت من ربيع الثاني ، وفي هذه السفرة صار الفتوح (أي استرداد مصر).

٣٠١

قال جودت باشا في تاريخه في ترجمة محمد أفندي القدسي : لما أتى الفرنسيس إلى الديار المصرية وجهزت الدولة العثمانية الجيوش إلى مصر لأجل استردادها جمع المترجم مقدار خمسة أو ستة آلاف من أهالي حلب وتوجه إلى مصر مع القائد ضيا باشا وشكر على خدمته هذه ووعد بأن يعطى قضاء مصر بعد استردادها ، وأنهى له من ذلك الحين من طرف القائد المذكور بتوجيه مولوية مصر عليه إلخ ما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى في وفيات هذه السنة في القسم الثاني.

سنة ١٢١٦

فيها عاد قدسي أفندي من مصر ودخل حلب هو والأشراف وصارت زينة يوم دخولهم وأتت البشائر باسترداد مصر ، ثم قدم الوزير الأعظم ومعه إبراهيم باشا قطر آغاسي.

سنة ١٢١٧

قال الكاتب : فيها أحضر الوزير الأعظم (ضيا باشا) الوجوه والأشراف والسردار عبد الرحمن آغا تل أرفادي وأولاد الجزماتي وخطباء الجوامع وإبراهيم باشا قطر آغاسي ورفع الأغوات ونفى ٣٦ شخصا من الأنجكارية وعمل على الأشراف نذرا (ضريبة) مقدار ثلاثمائة كيس وعلى الأنجكارية مثل ذلك على أنه لا يدخلهم إلى البلد مدة وكتب على الفريقين حججا اه. يظهر أن ذلك لفتن كانت قائمة بين الفريقين أدت إلى نفي ٣٦ من الأنجكارية ومصادرة الفريقين.

ثم قال : ثم صدر أمر من الصدر الأعظم في نفي ٤٣ شخصا من آغوات الأنجكارية ومن يلوذ بهم وسلم الفرمان إلى إبراهيم باشا ، ثم استولى الوزير على القلعة ووضع فيها من عنده عسكرا من الأرنؤوط ، ثم سافر الصدر إلى إستانبول ومعه قدسي أفندي.

سنة ١٢١٨ : كان الوالي فيها إبراهيم باشا.

سنة ١٢٢٠ : كان الوالي فيها علاء الدين باشا.

سنة ١٢٢٢ : كان الوالي فيها يوسف ضيا باشا.

سنة ١٢٢٤ : كان الوالي فيها سرور باشا.

سنة ١٢٢٦ : كان الوالي فيها محمد راغب باشا كما في السالنامة.

وفي هذه السنة مات أحمد آغا حمصة وهو من زعماء الأنجكارية.

٣٠٢

سنة ١٢٢٧

ذكر تولية حلب لجبّار زاده جلال الدين باشا

قال الشيخ بكري الكاتب في مجموعته : في سادس رجب من سنة ١٢٢٧ جاء ابن جبان إلى حلب ونزل في الشيخ أبي بكر الوفائي ودعا الأنجكارية بحيلة زينة وقتل آغوات الأنجكارية ومن جملتهم إبراهيم آغا الحربلي وياسين آغا ابن تل قراحية اه.

قال جودت باشا في الجزء العاشر من تاريخه في حوادث سنة ١٢٢٨ : ولظهور الفتن في حلب عزل عن ولايتها راغب باشا وعيّن جبار زاده جلال الدين باشا. وحينما كان واليا عليها وكان قد أعطي صلاحية واسعة احتال على قبض ثمانية عشر من رؤساء الأشرار في حلب وأعدمهم ، وبهذه الصورة سكنت الفتن هنا مدة اه.

(أقول) : الدائر على ألسنة الناس إلى يومنا هذا عن ابن جبار بالنون ، والمتواتر عنه أنه كان رجلا جبارا كاسمه ملأ الشهباء جورا وظلما منه ومن أتباعه وحواشيه وأخذ في مصادرة الناس ، ومتى سمع بغني كلفه دفع ما يأمره به من الأكياس (والكيس خمسمائة قرش) فإن لم يدفع أو تأخر عن الدفع أخذه أعوانه إلى القلعة وضربوا عنقه وألقوا برأسه وجثته إلى الخندق ، وكان كلما قتل شخصا ضرب مدفعا فإذا سمع في تلك الليلة صوت ثلاثة مدافع علم أن المقتول ثلاثة ، وكان الناس يتحدثون في اليوم الثاني أن فلانا (ضربوا طوبه) يعنون أنه قتل ، واضطر الناس في ذلك العصر إلى عدم التظاهر بالغنى والله أكبر على من تظاهر بشيء مما أنعم الله به عليه. نعم قد أحسن صنعا في قتل من قتله من الأنكجارية نظرا لما نقل إلينا بالتواتر أيضا من أنهم في ذلك العصر أكثروا من الفساد في الشهباء وخارجها ، وكان النساء إذا أردن الخروج إلى الحمام يخرجن مجتمعات مقدار عشرة فأكثر ، ومن خرجت منفردة تكون قد عرضت عرضها للهتك ، وإذا خرج منهن ثلاث أو أربع فهن على خطر. إلا أنه قتل هؤلاء لا لقطع دابر الفساد وإراحة العباد من أذاهم وشرهم وبسط بساط العدل والأمن في ربوع هذه البلاد بل ليخلفهم هو وأتباعه في سيىء أعمالهم ويحذو حذوهم في شرورهم وتعدياتهم ويزيد عليهم ، فكانت حالة الشهباء معه ومع أتباعه بالنسبة إلى حالة الأنكجارية كالمستجير من الرمضاء بالنار. والخلاصة أن ولايته وولاية خورشيد باشا الآتي ذكره والناسج على منواله كانتا أشد الولايات على الشهباء وزمنهما

٣٠٣

أشأم الأزمنة ، وكثيرا ما كنا نسمع من أفواه الطاعنين في السن يقولون لنا : إنكم الآن في مهد سيدنا عيسى بالنسبة إلى ما كان في زمن ابن جبان وخورشيد باشا.

وتتابع تلك الفتن بين الأنكجارية والسادة وظلم هؤلاء الولاة عطل دولاب التجارة وأوقف سير الصناعة وتقدم الزراعة ، فنضبت لذلك منابع الثروة واستولى الفقر والفاقة على البلاد ، وأتت بعد ذلك الزلزلة التي كانت سنة ١٢٣٧ وتابع ذلك الفتن التي حصلت في زمن احتلال إبراهيم باشا المصري لهذه البلاد فأثرت تلك العوامل تأثيرا كبيرا في الثروة والعمران وتفرق كثير من الناس في البلاد وتخربت أماكن كثيرة داخل الشهباء وخارجها. ولاستيلاء الفقر ونضوب منابع الثروة ومهاجرة الكثيرين قلت النفوس ، وكنت تجد معظم الحوانيت في الأسواق مغلقة ، ويقدر الخبيرون أن نفوس حلب بعد جلاء إبراهيم باشا عن هذه البلاد تقدر بخمسة وسبعين إلى ثمانين ألفا ، وقد علمت في حوادث سنة ١٠٩٤ أن شوفاديه دارفيو قدرها ب ٢٨٠ ألفا فلله الأمر من قبل ومن بعد.

زيادة بيان في مظالم ابن جبّان

كتب إلينا طاهر آغا المكانسي ابن محمد آغا نقلا عن والده الذي شاهد أحوال ابن جبان وقتل إبراهيم آغا الحربلي وأغوات الأنجكارية فآثرنا إثباتها لما فيها من التفاصيل ، ومنها يتجلى لنا ما كان عليه ابن جبان من الظلم والجور وما كان عليه الحال في ذلك الزمن قال : لما استقرت أقدام ابن جبان هنا عين اثنين من طرفه يتجسسان على الناس فصارا يقدمان له في كل يوم ورقة تتضمن اسم من ينبغي مصادرته ويقولان إن هذا يستحق جرمين ومقدار الجرم أربعون كيسا ، فكان ابن جبان يرسل من طرفه اثنين حاملين للبلطة (نوع من السلاح) فيأتيان بمن أمرا بإحضاره فيزج في الحبس في القلعة ويوضع في رقبته زنجير له شوك ثم يطالب بما قرر عليه وهو جرم أو جرمان أو أكثر ، فإذا أحضر ذلك أطلق سبيله ومن لم يعط الجرم في خلال ثلاثة أيام يخنق ليلا ويرمى تجاه باب القلعة ، وكلما خنقوا واحدا أطلقوا مدفعا فكان يعلم عدد المخنوقين في هذه الليلة من عدد المدافع ، وكانوا لا يمكنون أهالي المخنوق من نقل جثته بل يضعون عسكرا يحافظون تلك الجثث الملقاة في الخندق ، وربما أتى بعض أهالي المخنوقين ليلا وحبا على ركبتيه إلى أن يصل إلى قريبه فيحمله أو يحمل عضوا منه إذا كانت أوصاله مقطعة ويصعد به خفية ويذهب فيدفنه. وكان الوالي إذا أراد النزول إلى السوق أمر فزينت له الأسواق نهارا ، فينزل ومعه البلطجية والعساكر عن يمينه وشماله فيدور

٣٠٤

في الأسواق ومتى أدار الوالي نظره إلى رجل فإن البلطجية يأتون فيضربون رقبة صاحب ذلك الحانوت ، يفعل ذلك بثلاثة أو أربعة أشخاص ثم يعود.

ولما تكرر منه هذا العمل الفظيع سأله وجوه البلد عن سبب قتل هؤلاء وما ذنبهم فكان يقول : لا ذنب لهم غير أني أقصد إرهاب الناس.

وشاع في بعض الأيام خبر عزله فقبض أعوانه على واحد واتهموه أنه القاتل ، فأنكر ذلك وحلف لهم فلم يصدقوه فعزا ذلك إلى شخص آخر وقال : إني سمعتها منه ، فتركوه حينئذ وقبضوا على الثاني فأنكر كذلك وحلف لهم فلم يصدقوه ، فعزا ذلك إلى شخص آخر فأطلقوه وقبضوا على ذلك الشخص وهكذا إلى أن قبضوا على شخص يقال له الحاج بدّور الخيمي فأنكر ولم يعز ذلك لأحد ، فأتي به إلى سوق الزرب (الضرب) وكان هناك شجرة دلبة قديمة ونصبوا له خشبات الصلب وصاروا يستنطقونه وهو يحلف لهم الأيمان المغلظة أنه لم يقل ذلك ولا علم له بمن قال ، فلم يجده ذلك نفعا وصلبوه تحت الشجرة المذكورة بمحضر من الناس.

تفصيل مقتل إبراهيم آغا حربلي

وكان إبراهيم آغا الحربلي من التجار بحلب ذوي الثروة الطائلة ، فبلغ ابن جبان أمواله ونقوده فألقى القبض عليه وحبسه عنده (في الشيخ أبي بكر) وأمر بتعذيبه ليلا ونهارا ، وكان أعوانه يحمون الآنية من النحاس ويجردون إبراهيم آغا من ثيابه ويضعونه فوق الآنية حتى يسيل الدهن من أليتيه ، فكان يستغيث فلا يغاث ويستجير فلا يجار ، وهم يقولون له قر لنا عن الذهب الذي عندك ، فكان من شدة العذاب يقول لهم إن في داري الفلانية في المحل الفلاني فيه كذا من الجهاديات والغازيات فيتوجهون ويدخلون إلى الدار بغير استئذان ويأتون بما فيها من النقود ، ولم يزالوا على ذلك مدة سبعة أيام ، وفي آخر الأمر أقرّ لهم أن في داره التي في محلة قارلق في الصهريج كذا وكذا من الذهب وكان مبلغا عظيما فذهبوا وأتوا به ، ولما تيقنوا أنه لم يبق عنده شيء قطعوا رأسه بجانب حوض الشيخ أبي بكر وكان عمره حين قتل خمسا وسبعين سنة وذلك سنة ألف ومائتين وثمانية وعشرين.

٣٠٥

سنة ١٢٣٠

ذكر الطواعين التي حصلت في حلب من سنة ١٠٩٧ إلى هذه السنة

قال ابن الفنصاوي في رسالته التي نوهنا عنها في حوادث سنة ١٠٤٢ و ١٠٨٠ ما نصه بالحرف : وصار سنة ألف وسبع وتسعين طاعون إلا أنه ألطف منه وكان أشد من الطواعين التي صارت بعده ، ثم صار بعده طاعون سنة ١١٠٣ ألف ومائة وثلاثة ثم امتد إلى بغداد فأباد أهلها وتلك النواحي حتى حكى بعض أقاربنا أنه رأى ميتة في كفنها وكفنها مكتوب فيه : هذه بنت فلان وهي مربوطة على ظهر حمار من أمكنه أن يواري هذه الحرمة في التراب لنيل الثواب. وإن فلانا كان ذا مال عظيم ولم يكن أحد يواريها التراب وذلك لأنه لم يوجد من يتولى مثل هذه المصالح بل ولا غيرها ، وبقيت الأزقة والأسواق مملوءة بالموتى والمار لا يقدر على المرور من روايح الجيف ، والذي تصل إليه ويوجد له من يحمله يرمى في الشط ، فكان الرجل على ما نقل يمشي خطوات ثم يرجف ويقع فيموت في الحال. حتى حكي أن بيتا من البيوت دخله لص فمات في دهليزه في الحال ، ثم دخله آخر فمات في الحال إلى ثمانية أنفار ، فدخل التاسع فرأى أصحاب الدار كلهم موتى منتنين وهو يعرفهم من قبل ورأى اللصوص كلهم موتى في الدهليز وكان يعرفهم ، وفي حال دخول كل منهم كان مراقبا له لكونه من جيران ذلك البيت.

ثم صار طاعون سنة ١١٠٩ ألف ومائة وتسعة صار مخصوصا في بعض بيوت الناس بحلب. ثم صار طاعون سنة ١١١٧ ألف ومائة وسبعة عشر ظهر في شباط وانقطع بالكلية في أواخر تموز. ثم ظهر في السنة التي بعدها سنة ١١١٨ ألف ومائة وثمانية عشر في أوائل أيار وانقطع في الكلية في أواخر آب ، وكان طاعونا على خلاف العادة المعروفة من الطواعين الماضية في هذه البلاد على ما نقله المسنّون المعمّرون ، لكن كان طاعونا لطيفا ينزل الجامع الكبير كل يوم عشر جنائز أو أقل أو أكثر ولا يصل إلى عشرين إذا بلغ غاية الكثرة في اشتداده وأيام كثرته ، وكان امتداده لطيفا إذ لو مات فيه من مات في مدة أيامه المعودة لأوقع وهما في البلد فكان الخوف منه الخوف من امتداده فقط.

ثم صار طاعون سنة ١١٣١ ألف ومائة وإحدى وثلاثين ، وكان في الكثرة والشدة مثل الطاعون الذي وقع سنة ألف ومائة وثلاثين. ثم صار طاعون خاص ببعض الأشخاص

٣٠٦

وبعض البيوت بحلب سنة ١١٤٠ ألف ومائة وأربعين. ثم وقع طاعون سنة ١١٤٥ ألف ومائة وخمسة وأربعين وهو قريب من طاعون سنة ألف وماية وإحدى وثلاثين ، وغالب من مات فيه فتيان من قبل الثلاثين إلى أولاد صغار الأكثر فيهم فوق العشرة دون العشرين.

ثم وقع الطاعون المشهور بعد الغلاء المشهور سنة ألف ومائة وسبعين بحلب ، فعلى ما أخبر المسنّون أنه في ذلك الغلاء قدم إلى حلب أكثر من عشرين ألف غريب كلهم فقراء وصاروا يجمدون الدم على النار ويأكلونه من الجدب العظيم الذي وقع في بلادهم ، ثم أعقبه الوباء المشهور العظيم. وفي سنة ١٢٠١ إحدى ومائتين وألف وقع بحلب أيضا الغلاء المشهور وأعقبه الوباء المشهور وبلغ في الكثرة على ما قيل كل يوم نحو ألف جنازة (انظر حوادث هذه السنة) وخلت منه غالب البلد.

وأما الطواعين التي شاهدها صاحب هذه الأوراق العبد الفقير عبد الله ابن السيد قاسم الفنصاوي فإن أول طاعون شاهدته بحلب سنة ١٢١٧ ألف ومائتين وسبعة عشر لطيف ينزل فيه إلى الجامع الكبير أيام زيادته نحو عشرين جنازة أو أقل ، ثم وقع أيضا سنة ١٢٢٢ ألف ومائتين واثنتين وعشرين مثله أو ألطف منه. ثم وقع سنة ١٢٢٨ ألف ومائتين وثمان وعشرين لطيف للغاية ، ثم اشتد سنة التاسعة والعشرين شدة تقرب مما وقع سنة الواحد لكن أقل.

ومات فيه من علماء حلب وفضلائها جماعة أجلاء فمن أجلّهم شيخنا وحيد الدهر وفريد العصر في الحفظ والإتقان الشيخ هاشم الكلاسي ، ومن أجلّهم المحقق المدقق الفقيه المحدث الشيخ عاصم البانقوسي والشيخان الكاملان الفاضلان الجامعان بين الحفظ والإتقان والروايات والعلم فقها وحديثا فروعا وأصولا ونحوا وأدبا الشيخ عبد الله والشيخ طه أولاد الشيخ محمد العقاد المشهور ، وشيخنا العالم الفاضل والنحرير الجهبذ الكامل الشيخ محمد الضرير الشهير بالنوري ، والشيخ أحمد الواعظ الخطيب بجامع الكبير الشهير بالأشرفي وغيرهم من أفاضل حلب. ثم عاودها في سنة الثلاثين بعد المائتين والألف وصار ثلاث سنين متواليات ، ومات في هذه السنة من العلماء الشيخ طاهر البانقوسي أخو الشيخ عاصم المذكور رحم الله الجميع.

سنة ١٢٣١

كان الوالي فيها سيد أحمد باشا كما في السالنامة.

٣٠٧

سنة ١٢٣٣

ذكر ولاية خورشيد باشا

تقدم أن جبّار زاده جلال الدين باشا احتال على قبض ثمانية عشر من رؤساء الأنجكارية في حلب وأعدمهم وبهذه الصورة سكنت الفتن هنا مدة. قال جودت باشا : إلا أنه لم تمض مدة إلا وعادت الفتن إلى الظهور وعاد الأشرار إلى ما كانوا عليه وانضم إليهم بعض الفارين من وجه الدولة ، فرؤي أن من الواجب تأديبهم واستئصال شأفة الفساد ، إلا أن السبب الذي دعا هؤلاء الأشرار إلى إثارة الفتن والقيام في وجه الحكومة كان هو سوء إدارة من كان في دائرة خورشيد باشا وسيىء أحوالهم. وبقدر ما كان خورشيد باشا صالحا عابدا كان مأمورو معيته أراذل أسافل. ورئيس دائرته سليمان بك كان غريبا في أحواله وأطواره بحيث كانت الخمرة لا ترتفع من رأسه ليلا ونهارا ، وكان منهمكا تمام الانهماك في شهواته السافلة ، وكانت حالته في السكر تصل به إلى حد الجنون ، وكان في بعض الليالي يؤدي به الحال إلى إشهار السلاح على من حضره. وصادف أنه تكدر من سائسه نهارا فدخل الإصطبل ليلا ففرّ من كان هناك من السوّاس فأخذ في تقطيع حزامات الخيل وصار يضرب فيها ، فخرجت الخيول ليلا وصارت تتجول في الأزقة وحصل للأهلين من الرعب ما لا مزيد عليه ولم يعلموا السبب إلى اليوم الثاني ، وكان جميع من كان مع خورشيد باشا على هذا المنوال إلا أنه كان لا يظن بأتباعه إلا خيرا نظرا لصلاحه حتى إنه ما كان ليظن أن معتمده على هذه الصورة ولا كان يظن أن إمامه أيضا كان على شاكلة هؤلاء وسائرا سيرتهم.

فكانت أحوال رجال حكومة خورشيد باشا تؤثر على إحساسات أهالي حلب وتجعل حب الانتقام ينمو في قلوبهم شيئا فشيئا. ولما طفح الكيل وبلغ السيل الزبى توجه عصبة منهم إلى بيت سليمان بك المذكور وأعدموه في منزله وهجموا أيضا على دور بقية أمراء خورشيد باشا ودار إمامه أيضا وأخذوا كل ما وجدوه من آلات الفسق والفجور وساقوا أمامهم هؤلاء الأمراء وشهروهم في الأزقة وأمامهم ذلك الإمام إلى أن وصلوا بهم إلى المحكمة وقالوا للقاضي : يا قاضي حسبك أن تعلم الآستانة بهذا فقط.

ثم إن ذلك الإمام استعمل أنواع المخادعات والحيل وأقنع خورشيد باشا أن هؤلاء قصدهم إثارة الفتن والعصيان على الدولة ، فانقلب الأمر وانعكست القضية على هؤلاء

٣٠٨

بحيث دعت الحال أن يتوجه لفيف من وجوه الشهباء وعلمائها إلى خورشيد باشا وهو مقيم في الشيخ أبي بكر وصاروا يتلطفون بخاطره ويلتمسون رضاه. ثم إن خورشيد باشا قطع المؤن والماء عن البلدة وضيق عليها أشد التضييق وبعث العساكر في أنحائها وأرسل فاستحضر متسلميها ، وأرسل إلى ديار بكر لاستحضار العساكر التي أرسلت بمعية سلحدار باشا ، وأرسل إلى سلانيك لاستحضار ألفي جندي عن طريق اللاذقية وكتب بما قام به من التدابير إلى مقر السلطنة. فوصلت تحاريره في ١٨ محرم ، وكان في ذلك الأثناء حدثت فتن في ديار بكر فكان ذلك سببا لاضطراب أحوال الحكومة في الآستانة.

إن خورشيد باشا بالرغم على كونه صالحا متدينا صافي السريرة نظيف اللسان ، وبالرغم عن سوء أحوال حاشيته فكان الواجب على أهالي حلب أن يرفعوا أمرهم رأسا للدولة لا أن يثيروا الفتن ليؤدي الحال إلى اعتبارهم عصاة في نظر الدولة لتسعى في تأديبهم ولكونهم كانوا مستحقين للتأديب (هكذا رأيه ومصلحة دولته تدعوه أن يقول ذلك). أعطي الأمر إلى متصرف قيسارية أبي بكر باشا بجمع مقدار من العساكر والتوجه إلى حلب ، وكذلك أعطي الأمر إلى جبّار زاده جلال الدين باشا والي آدنة بإرسال عساكر مع قائد إلى ديار بكر عوضا عن العساكر التي استدعيت من ديار بكر إلى حلب ووعد جبّار زاده المذكور لوالي حلب بتقديم كل ما يلزم له من أنواع المساعدة في سبيل تأديب هؤلاء العصاة ، حتى إنه وعده بالمجيء بنفسه إذا اقتضى الحال.

ثم إن العساكر التي كانت حضرت من طريق الإسكندرونة وكانت موجهة إلى بغداد ومعها آلات الحرب والمدافع أمرت بالبقاء في حلب والالتحاق بمن هناك من العساكر.

وأرسل من هؤلاء شرذمة لتأديب حمود الإبراهيم رئيس عشيرة الحديديين لمعاونته العصاة من أهالي حلب ، ثم حضر إلى حلب متسلمو الأطراف مع ما لديهم من العساكر ووصل إليها عساكر سلانيك وعساكر الأرناؤوط التي كانت موجهة إلى ديار بكر ، وكانت هذه العساكر تأتي إلى حلب زمرة بعد زمرة ، ثم حضر إليها جبارزاده جلال الدين باشا والي آدنة ولطف الله باشا والي الرقة وحضر معهم عساكر أيضا فصار في حلب قوة عظيمة من العساكر.

ثم حصل وقعة في محلة قسطل الحرامي بين العساكر والعصاة من الأهالي فانكسر العصاة لكنهم لم يخلدوا إلى السكينة ، فاتفق الولاة الثلاثة على الدخول جبرا إلى داخل البلدة بما معهم من العساكر ، فرتب هؤلاء كيفية الهجوم على نفس البلدة فهجموا عليها في

٣٠٩

ربيع الآخر (أي في سنة ١٢٣٥) وصاروا يطلقون المدافع على أسوار البلدة وقت السحر فخربوا جانبا من السور ، فدخل منه عساكر الأرناؤوط (وكانت مدة الحصار مائة وأحد عشر يوما) وصار القتال داخل البلدة في الشوارع والأسواق ، وكان القتال سجالا بينهم إلى أن أدى الحال إلى فرار العصاة من الأهالي ، ثم دخل الولاة مع ما معهم من العساكر واحتلوا البلدة ثم إنهم أعدموا سبعة من كبار العصاة وأرسلوا برؤوسهم إلى الآستانة مع تحريرات فوقع عليها الوزراء الثلاثة ، وهذه التحارير وصلت إلى الباب العالي في جمادى الأولى فسر الباب العالي لذلك كثيرا وأنعم على الولاة الثلاثة بخلع من فرو السمّور وأنعم على خورشيد باشا بخنجر مرصّع بثمين الأحجار.

ثم لما كان يدور على الألسنة في دوائر الآستانة أن أسباب هذا الاختلال في حلب وأسباب هذه الفتن إنما كان لسوء إدارة حاشية خورشيد باشا تقرر إرسال معتمد للتحقيق عن الأسباب التي دعت أهالي حلب إلى القيام في وجه الحكومة والعصيان على الدولة ، فأرسل لهذه المهمة مصطفى نظيف أفندي الكاملي ، وكان إرساله بسعي نقيب الأشراف في الآستانة عبد الوهاب أفندي ، إلا أنه لم يرق في عين خورشيد باشا إرسال مصطفى أفندي لأن خورشيد باشا لما كان رئيس العسكر في جهة صوفية كان مصطفى نظيف أفندي من رجال معيته بوظيفة أمين المنزل ولم يكن ممتنا منه. وكان نقيب الأشراف عبد الوهاب نافذ الكلمة في دوائر الآستانة وكان في نيته أن يعين مصطفى نظيف أفندي واليا على حلب بعد أن يعزل عنها خورشيد باشا ، وأسر إليه ذلك وأوصاه أن يذهب إلى حلب بدبدبة وفخفخة عظيمة ، فتوجه إليها كما أشار إليه النقيب وزيادة ، وخورشيد باشا لكونه كان قبل ذلك في منصب الصدارة ومنصب القيادة الأولى وله يد عليا في دوائر الدولة واطلاع على شؤونها وتطوراتها ، فقبل وصول مصطفى نظيف أفندي إلى حلب علم بخفايا ما ينوي له. وبعد ضبط حلب بيومين على الصورة التي تقدمت وصل إلى حلب مصطفى نظيف أفندي ونزل في مكان قريب من مكان الشيخ أبي بكر ، فأوقفه خورشيد باشا في هذا المكان ، وبعد أيام طلبه إليه وبعد أن أعلمه أنه مطلع على خفايا نواياه أكرمه وأحسن إليه وأباح له أن يقوم بالمهمة التي أتى لأجلها.

وبعد أن أخذ المفتش في التحقيق والتدقيق عن أسباب هذه الفتن رفع تقريرا مسهبا بيّن فيه أن أغراض خورشيد باشا الخفية هي التي كانت السبب لإثارة هذه الفتن وذلك

٣١٠

العصيان ، وأيضا فإن خورشيد باشا قرب إليه من لا يستحق التقريب وأبعد من لا يستحق التبعيد وأعدم من الأهلين من لا يستحق الإعدام ، وكل ذلك نشأ عن مأموري معية خورشيد باشا بما اعتاده من الظلم للأهلين وتناول الرشوة التي لا تطاق منهم في سبيل أغراضهم الفاسدة. ورفع تقارير أخر ، إلا أن تلك التقارير التي قدمها إلى دوائر الآستانة لما كان بعضها يناقض بعضا تناقضا بيّنا وللمساعي التي بذلها خورشيد باشا ألقيت في زوايا الإهمال وتخلص خورشيد باشا مما كتب في حقه وفاز بسياسته ودهائه.

ومن الغريب أنه بعد انتهاء هذه الفتنة واتخاذ التدابير الشديدة أتى مأمور إلى صالح قوجه آغا أحد المتسلمين لديه وأخبره أن البارحة تنازع رجل فقير درويش من دراويش المولوية مع عسكري لأجل عباءة فأخذ الدرويش المسكين وحبس ليلا وخنق.

وصبيحة هذا اليوم حضرت زوجة الدرويش ومعها أولاده الأربعة إلى باب خورشيد باشا ورفعت له عريضة بيّنت فيها الحال وذكرت أنه ليس لديها ما تتعشى به هي وأولادها تلك الليلة ، وأن زوجها لم يترك سوى أربعة قروش ، واستمطرت رحمة الباشا بهؤلاء الأولاد ، فتأسف الباشا جدا لهذه الحادثة وأحسن إلى المرأة وأولادها بنصف كيس ، فتعجب صالح آغا من هذا الخبر واستغربه جدا وقال لذلك الرجل الذي أخبره بالحكاية إنه ضرب هذا اليوم ثلاثة مدافع إعلاما بإعدام ثلاثة رجال في هذه الليلة ، وهذا اليوم لم تزد أجساد القتلى الذين وجدوا في ميدان القلعة على ثلاثة رجال وإني سأجري التحقيقات وأعلم حضرة الباشا عن الرجل الذي يقتضي أن يعدم وأعدم مكانه هذا الدرويش وأين فر ذلك الرجل الذي أعطي الأمر بإعدامه (قصده أنه تبين أنه أعدم أربعة والحال لم يطلق سوى ثلاثة مدافع فلم كان ذلك) وأيضا أعدم أربعة أشخاص بدون ذنب وترك عوضا عنهم أربعة مستحقين للإعدام ولم يتركوا إلا لما بذلوه من الرشوة. أخبر بذلك من وقف على حقائق الأمور. وتبين أن قطار آغاسي مصطفى بك له يد في هذه الأعمال الفظيعة ، فاضطر صالح آغا قوجة إلى السكوت. وهذه الأخبار مندرجة في تاريخ شاني زاده والعهدة على الراوي.

ثم قال جودت باشا : في ذلك الزمن كان يوجد كثير من أعيان وجوه البلاد على هذه الصفات وليست مختصة في الولايات ومحصورة فيها ، بل كان يوجد كثير من هؤلاء الرجال في نفس العاصمة ولم يكن للرجل قيمة ولا للدم حرمة ، وكان يذبح الإنسان كما تذبح الدجاجة الصغيرة. (ثم قال) : والحاصل أنه في ذلك الزمان سواء كان في الآستانة

٣١١

أو في الولايات كان يوجد كثير من الرجال قلوبهم قاسية كالحجر الأسود ، وكان سوء الإدارة في جميع أطراف المملكة بصورة لا يمكن التعبير عنها ، وكان لا يوجد طريقة لإزالة هذه الأمور إلا بتجديد نظامات الدولة وإدخال الإصلاح في دوائرها ، وكان أول من حاز قصب السبق في ذلك محمد علي باشا والي مصر اه.

زيادة بيان في ثورة أهل حلب على واليهم خورشيد باشا

قال المراش في مختصر تاريخ حلب : لما أفضى الأمر إلى السلطان محمود العثماني وذلك في سنة ١٢٢٣ شرع في وضع نظام جديد للمملكة مغاير للنظام الذي جرى عليه سلفاؤه ، ونوى أن ينفي من جنده جماعة المتطوعة المعروفين بالأنجكارية لأن استمرارهم في الجيش ينافي النظام الجديد ، وكان قد صح عنده أنهم سيتغلبون عليه كما تغلبوا على سلفائه حتى لم يبقوا لهم من الخلافة سوى الخطبة والسكة ، وأضمر أن ينكبهم نكبة الرشيد للبرامكة ، وولى على البلاد التي كان فيها فئة منهم ولاة من أهل ثقته وفوض إليهم إنجاز ما شرع فيه ، وعقد على ولاية حلب لرجل من أوليائه يقال له أحمد خورشيد باشا.

وقد تقدم أن حلب كانت على انحطاطها لم تزل من أهم مدن المملكة العثمانية تجارة وكثرة أهل وكان المسلمون من أهلها حزبين أحدهما يعرف بحزب السيدة وهم الأقل عددا والأعظم شأنا وذلك كان فيهم أكثر الخاصة والأعيان وذوي الوجاهة والمنظورين ، والآخر يعرف بحزب الأنجكارية وكان فيه الأنجكارية أنفسهم ومن كان ضلعه معهم من العامة.

وكانت نفوس هذه الفئة لم تطب لقبول النظام الجديد لما كان يلزم عنه من نزع امتيازات الأنجكارية وانكسار شوكتهم ، فلما صارت الولاية لخورشيد باشا المتقدم ذكره وأشعروا بما كان السلطان يضمره من قطع دابر الأنجكارية على يده ناصبوه العداوة فثقل الوطأة عليهم وعلى كل من كان قائما بنصرتهم أو متصفا بشعارهم من أهل المدينة ، وأقبل يعريهم شيئا فشيئا عن كل ما كان لهم من امتيازات قديمة كانوا قد حصلوا عليها وتفردوا بها من حيث هم جند السلطان وحماة آل عثمان ، فساواهم بغيرهم من الناس في الضرائب وكانوا قبل ذلك معفيين منها ، وجعل ينكس أعلامهم ويحملهم من عنفه ما لم يألفوه ويتحكم فيهم بهواه حتى لم يبق لهم سبيل إلى الشك في أنهم قد أصبحوا على أثر النظام الجديد رعية بعد أن كانوا رعاة ، وصاروا مرؤوسين بعد أن كانوا رؤساء ، فنقموا عليه ذلك فيما نقموا وعقدوا عزمهم آخر الأمر على الثورة به وخلع ربقته من أعناقهم. وكان مما نقموا

٣١٢

عليه أيضا ضربه عليهم ضريبة جديدة سماها خراج الدار واعتزاله إياهم ، وذلك أنه رأى من الحزم وتسهيلا لإنجاز ما كان شارعا فيه أن يهجر دار الولاية التي في المدينة وأن يقيم في قصر حصين مبني على هضبة في شمالي المدينة يعرف بقصر الشيخ أبي بكر ويستنيب عن نفسه في دار الولاية رجلا يعرف بالمتسلم ، وكان هذا المتسلم فظا غليظا فلم يرتضوه ورغبوا إلى الوالي بادىء بدء أن يعزله ويولي غيره وأن يعفيهم من تلك الضريبة فأبى.

وكان قد مضى عليهم نحو من سبع سنين وهم في هذه الحالة التي لم يألفوها ، غير أنه كان يتعذر عليهم اجتماع كلمتهم على أمر ما ، وذلك لأن أوجاقهم (١) كان قد ألغي وانفرط عقدهم من الجيش على أثر النظام الجديد ، فلم يبق لهم رئيس نافذ الكلمة يجمع أمرهم وأصبحوا فوضى ، وكان الوالي أوجس من عداوتهم ما حمله على اعتزالهم كما ذكرنا وعلى مداومة التيقظ والسهر عليهم فلم يتسن لهم أن يتواطؤوا على أمر ذي بال إنجازا لما كانوا ينوونه. ثم عن للوالي أن يبارح المدينة بضعة أيام لمناظرة ما كان قد شرع فيه مرارا ولم ينجز قط أعني جر ماء الساجور إلى حلب (٢) ، فرأوا أن غيابه هذا من سوانح الفرص التي لا ينبغي إهمالها فانتهزوها واجتمع زعماؤهم وتواطؤوا على الثورة وشق عصا الجماعة.

ولما كان مساء يوم الجمعة الثاني والعشرين من تشرين الأول سنة تسع عشرة وثمانمائة للميلاد (توافق أواخر سنة ١٢٣٤) خرج مناد من قبلهم وجال في شوارع المدينة ينشد ولدا عمره سبع سنين قد فقده أهله في الساعة السابعة من الليل ، وكان هذا النداء أمارة تؤذن لأصحابهم بما صمموا عليه من الثورة ، وكان في الولد الذي عمره سبع سنين إشارة إلى أنه قد سلبت حريتهم وعروا من امتيازاتهم منذ سبع سنين ، والساعة السابعة إيعاز إلى أصحابهم أن يبتدئوا الثورة في تلك الساعة من الليل وكان أول من سمع هذا النداء أهل المحلة المعروفة بقارلق ، فحملوا سلاحهم وكبسوا منازل الجند السلطاني التي كانت في محلتهم

__________________

(١) أصل الأوجاق أو جاغ فحرفته العامة ، وهو لفظ تركي معناه لغة موقد أي موقد النار ، واصطلاحا بيت رئيس القوم يجتمعون إليه فيه ، ثم توسع فيه حتى صار يطلق على الزعيم نفسه ، ومنه أوجاق الأنجكارية أي زعيمهم ، وقد يراد به نسق أو طائفة من الجند تكون مؤلفة منهم ، وقد ألغي ذلك كله بالنظام الجديد اه منه.

(٢) تقدم أنه نجز سنة ٧٣١ في أيام سيف الدين أرغون لكن لعدم الاعتناء بأمره سدت مجاريه إلى يومنا هذا.

٣١٣

وقتلوا نفرا ممن وجدوه فيها. ثم انضم إليهم أهل باقي المحال التي خارج السور وأقبلوا يكبسون ما كان فيها من منازل العسكر ويقتلون من يلقونه فيها إلى الصباح ، ولم يسلم من جند الوالي الذين كانوا في تلك المنازل أو في أبواب السور سوى من فاز بنفسه هربا فلحق بقصر الشيخ أبي بكر أو لجأ إلى القلعة.

وكان في المدينة من قبل الوالي موظفان آخران غير المتسلم أحدهما يعرف بالجوخدار والآخر بالأربا أميني ، فلما علما بالثورة هربا وحث الجوخدار ابنه على الهرب أيضا ، إذ كان قد علم أنه ليس له بالثائرين طاقة ، فأبى أن يبرح مكانه فحصره الثائرون ونقبوا عليه داره ففر من السطح إلى دار جاره واختفى في مغارة هناك ، إلا أن بعض الناس أبصر به وهو يتسلق حاجزا بين سطحين فدل عليه طائفة من الثائرين فأخرجوه من المغارة وقتلوه ومثّلوا به وألقوا جثته من إحدى الكوى إلى البرية.

ثم صارت طائفة منهم إلى الزقاق المعروف بالطويل ، وكان فيه منزل لجند الوالي فحصروهم فيه وضيقوا عليهم ، فأضرم الجند النار في أرجائه فاحترق واحترق معه ما كان يلاصقه من دور الناس ، فاشتغل الثائرون بإطفاء النار ففاز الجند بأنفسهم هربا. وقد تقدم أن المتسلم كان مقيما بدار الولاية وهي في المدينة داخل السور ، وكان آخرون من أصحاب الوالي وعماله مقيمين بقناقات أي دور داخل السور أيضا ، فكان كاتب السر مقيما بالقناق المعروف بدار بني الجزماتي في محلة العريان ، وكان المحصل مقيما بدار عمر طه زاده بالقرب من جامع البهرامية في محلة الجلّوم ، فلما علم قاضي المدينة بالثورة أتى دار الولاية وشاور المتسلم في الأمر وقر رأيهما على الخروج من المدينة فخرجا منهما لساعتهما وصحبهما أيضا نفر من الأعيان المنتمين إلى حزب السيدة وفيهم أولاد إبراهيم باشا قطر آغاسي وغيرهم ولجؤوا جميعا إلى قصر الوالي ، فلما رآهم الوالي وافدين عليه لائذين بقصره وعلم بما تم على جنده أخذته سورة الغضب وأمر بتسديد المدافع على محال الثائرين ورماها بكرات الحديد التي يقال لها قنابر في اصطلاح العامة.

وفي صباح يوم الأحد الرابع والعشرين من تشرين الأول أتى بعض المنظورين من حزب الأنكجارية إلى دار كاتب السر وأشاروا عليه أن يخرج هو أيضا من المدينة وضمنوا له أنه لا يتعرض له أحد حتى يحصل في مأمنه ، فأبى إلا القتال (١) ، فهجم الثائرون داره

__________________

(١) قيل إنه كان سكيرا وإن السكر سوّل له أن لا يبرح مكانه.

٣١٤

وحصروه فيها ثم نقبوها عليه وقتلوه وقتلوا اثنين وعشرين رجلا من الجند كانوا معه ، ثم أتوا دار الولاية وكان فيها أخو المتسلم وقد انضوى إليه صاحب الشرطة ونفر من الشرطة والجلاوزة وخدام الإصطبل والمطبخ وذلك نحو من أربعمائة نفس فحصرهم الثائرون في دار الولاية وأحرقوا آخر الأمر ما كان يحاذيها ويلاصقها من الأسواق (١) وضيقوا عليهم وقطعوا عنهم الميرة مدة أربعة أيام حتى أضر بهم الجوع وخارت قواهم وضعفوا عن الدفاع ، فنقبوا عليهم وقتلوا منهم نفرا وفرّ باقوهم إلى برج القلعة ، ولجأ صاحب الشرطة وابنه وأخو المتسلم إلى القلعة نفسها ، وكان ذلك يوم الخميس الثامن والعشرين من تشرين الأول.

وكان المحصل قد خرج من منزله وأبقى فيه مقدم الأرناؤوط في مائة وسبعة وعشرين رجلا منهم فحصرهم الثائرون ونصبوا حول المنزل متاريس وأقبلوا يرمونهم من ورائها ولم ينالوا منهم أربا إلا بعد مشقة ، وذلك أن الأرناؤوط تحصنوا بجامع البهرامية. وكانوا يطلقون الرصاص من مأذنته وكواه على الثائرين ولا يمكنونهم من الدنو ، ثم اضطروا آخر الأمر إلى التسليم وراسلوا في ذلك زعماء أهل المدينة ، فجاءهم شيخ من العلماء المنظورين وأمنهم على أنفسهم ونزع منهم السلاح وأتى بهم إلى داره مستسلمين.

ثم رأى الثائرون أن المصلحة في تخلية سبيلهم ، فأطلقوهم ثاني يوم بعد أن أجازوهم تحت السلاح (٢) ، ولما مضى على الثورة أسبوع ولم يبق في المدينة ولا في الربض من جند الوالي أحد إلا من كان محصورا في القلعة رأى الثائرون أن الجو قد خلا لهم فطمحت أبصارهم إلى التسطي على الوالي في قصره ، فخرجوا من الأبواب في التاسع والعشرين من تشرين الأول وحلوا في هضبة تقابل القصر وتعرف بجبل العظام (٣) وشرعوا يطلقون منها الرصاص على القصر ، فأمر الوالي فأطلقت عليهم المدافع ، واستمر الثائرون والجند يتناوشون القتال أربعة أيام والحرب بينهم سجال حتى عنّ للثائرين من أهل محلة آق يول (أغير) أن يهجموا القصر فهجموه يوم الثلاثاء الثاني من تشرين الثاني ، فانبرى لهم الجند ورفعوهم عنه ، وكانت هذه أول وقعة ذات بال جرت بين الثائرين والجند وهلك فيها خلق كثير من الفريقين.

__________________

(١) مثل سوق العبي وسوق الدهشة والضرب وقراقماش والصابون.

(٢) وذلك أنهم شبكوا من بواريدهم ما ينيف على عشرة آلاف بارودة في باب الحديد وجعلوها على هيئة أزج وأجازوهم ليلقوا الرعب في قلوبهم ويظهروا للوالي أنهم ذوو نجدة وبأس شديد لا ينقصهم العدد ولا العدد فعبروا تحته وأفئدتهم تخفق من الخوف اه منه.

(٣) ولعل ذلك لكثرة ما يرى فيها من العظام المستحجرة اه منه.

٣١٥

وكان الثائرون قد رأوا أن أمورهم لا تصلح ما لم يكن لهم رؤساء يدبرونهم ويجمعون كلمتهم لا في أمر القتال فقط بل في سياسة المدينة أيضا ، إذ كان لا يصلح القوم فوضى لا سراة لهم ، فاجتمعوا وقدموا على أنفسهم رجالا يركنون إليهم ويثقون بهم وجعلوا ناظورتهم واحدا منهم ذا رأي وحزم يقال له محمد قجة ، فاجتمع هؤلاء المقدمون بعلماء المدينة ومشايخها للمشاورة في الأمر ، وكانوا قد أوجسوا أنه إذا طالت مدة الحصار وما يلزم عنه من انقطاع الميرة عنهم وأصر الوالي على حبس ماء القناة عن المدينة وكان قد أمر بحبسه اضطربت أحوالهم ، فرأوا من الحزم أن يتلافوا الأمر واجتمعوا عند نائب القاضي في منزله الذي بالمحكمة وذلك يوم الأربعاء الثالث من تشرين الثاني ، وقر رأيهم على شراء ما كان عند الأعيان من القمح وتوزيعه في الناس ، فأخذوه وأدوا ثمنه إلى وكلاء أربابه إذ كان أربابه أنفسهم غائبين عن المدينة ملتجئين بقصر الوالي. ثم رفع العلماء قصة إلى الوالي كتبوها عن لسان الأهلين وقالوا فيها إنهم لم يحملوا السلاح عصيانا وإنما ثاروا لشدة ما كانوا يلقونه من العنف وما كان يبهظهم من الضريبة الجديدة أي خراج الدور ، سيما وأنها ضربت عليهم في سنة قحط وغلاء سعر ، وذكروا أن أكثر ما يتظلمون منه إنما هو ناشىء عن متسلمه ، وكرروا الرغبة إليه في أن يعفيهم من هذا الخراج وأن يعزل هذا المتسلم وينزل هو إلى دار الولاية فيلي سياسة المدينة بنفسه كما جرت به العادة في سائر المدن وأن يجمع جنده في موضع واحد من البلد إذ كان يسوءهم أن يكون العسكر بين ظهرانيهم متفرقا في منازل شتى متأشبا بهم مساكنا لهم وهو مؤلف في غالب أمره من رعاع الترك وسفلة الأرناؤوط ، ولوحوا له بأن يبني ما كان قد احترق من الأسواق والأزقة ، وأرسلوا إليه نائب القاضي بهذه القصة ، فلما أتاه بها لم يصخ إليها صغيا من يومه ورأى من الحزم أن يؤخر الجواب إلى الغد. فلما كان الغد أجابهم عليها فقال إنه يجدد بناء ما احترق لكنه لا يعفيهم من الخراج ولا ينزل إلى دار الولاية ، وقصارى ما يفعله أنه يعزل المتسلم القديم وينصب آخر مكانه ، ولمح إلى متسلم عينتاب ، وقيل إنه وعدهم بالتلميح لا بالتصريح أن يجعل رياسة الشرطة لزعيمهم محمد قجة المتقدم ذكره فلم يروا في ذلك مقنعا.

ودامت الحال على ذلك أياما الرسل بين الوالي والأهلين تتردد ، والمواقع بين الجند والثائرين تتعاقب كل يوم وتتجدد ، والحرب بين الفئتين سجال إذ لم يكن يتأتى للثائرين أن يستولوا على قصر الوالي ولا للجند أن يقتحموا المدينة ويأخذوها عنوة وذلك لقلة عددهم.

٣١٦

وقد اتضح مما كان يدور بين رسل الوالي وأهل المدينة أن خورشيد باشا كان عاقدا عزمه على إنفاذ أمر السلطان في جلاء الأنكجارية عن حلب والقبض على زعمائهم الذين تسببوا في الثورة ، فصمم على ذلك وأبى إلا بلوغ هذه الغاية ، وكان رسله في كل محاوراتهم مع الثائرين يقترحون هذا الشرط ويقولون إنه لا يتم بدونه وفاق ، وكان الثائرون يأبونه ويقولون إن الأنكجارية إخوتهم وأولادهم وقد بذلوا أنفسهم دونهم فلن يخذلوهم أبدا وإنه ليس ثم زعماء يصح أن يقال عنهم إنهم تسببوا في الثورة وإنما ثار الناس عامة من فورهم ، فإما العفو عن الجميع أو معاقبة الجميع. ولما شعروا بأن محمد بن قجة وكان مقدمهم كما أسلفنا قد بدا منه فتور وجنح إلى الصلح على شرط الوالي قرفوه بأنه كان يحاول أن يستأمن لنفسه بالغدر بأصحابه ، فعزلوه عن الرياسة وقدموا على أنفسهم رجلا آخر.

ومما زاد في إلقاء التنافر وتعذر الصلح أن فئة الأنكجارية كانوا قد أشربوا في قلوبهم بغض الوالي والمتسلم متوهمين أنهما كانا يعملان على جلائهم عداوة ومن تلقاء أنفسهما ، فلذا كانوا إذا اجتمعوا وتشاوروا في أمر من أمورهم أصروا على اقتراح عزلهما ، ولما قدم ابن جوبان إلى حلب كما سنذكره لك بعيد هذا طمعوا في أن يحملوا السلطان على عقد الولاية له مكان خورشيد وعزب عنهم أن السلطان كان قد قضى بقطع شأفتهم وعقد على ذلك عزمه منذ أفضت إليه الخلافة وأن خورشيد باشا والمتسلم ما كانا سوى آلة في يده ينفذ بهما مآربه ، فلذا تعذر الوفاق وأبطأ إبرام الصلح وطالت مدة الحصار حتى أنافت على شهرين لم ينقطع القتال فيهما يوما واحدا.

وقد هلك في بعض هذه الوقائع خلق كثر من الفئتين المتحاربتين ، قيل إنه قتل نحو من مائة وخمسين رجلا في وقعة قاضي عسكر الأولى التي جرت في الثامن عشر من تشرين الثاني ، ونحو من مائتين وخمسين رجلا في وقعة قاضي عسكر الثانية وهي التي جرت في الحادي والعشرين منه. وكان في هذا الوقعة نحو ألف وخمسمائة فارس من جند الوالي يصحبهم سبعة مدافع ومن الثائرين نحو خمسة آلاف رجل سوى النساء. ومن خبر هذه الوقعة أن جند الوالي حاولوا اقتحام المحلة المعروفة بقاضي عسكر على حين غفلة من الثائرين إذ كان أكثرهم قد تركوا متارسهم وذهبوا يقيمون صلاة الجمعة في مساجدهم ، فكاد الجند يستولون على المحلة ، ونمي الخبر إلى الثائرين فتركوا الصلاة وطاروا إلى المحلة زرافات ووحدانا وانبروا للجند فأظهر هؤلاء الهزيمة إلى ما وراء الكروم ، وكان ذلك خدعة راموا بها

٣١٧

إبعاد الثائرين عن المتارس ، فانخدع الثائرون وبارحوا متارسهم واتبعوا الجند وابتعدوا نحو ميلين عن المدينة ، ثم كر الجند عليهم كرة منكرة وأثخنوا فيهم فانكسروا وانقلبوا راجعين إلى المدينة وتحصنوا فيها ثانية وصدوا الجند عن دخولها عنوة.

ولما صح عند الوالي بعد هذه المواقع أنه عاجز عن قمع الثورة لقلة من عنده من الرجال استنجد السلطان فأوعز السلطان إلى ثلاثة من ولاة المدن القريبة أن يسيروا إلى حلب بمن معهم من الجند ، ويقال إنه أمرهم سرا أن يسعوا في إصلاح ذات البين بالتي هي أحسن حقنا للدماء ، فإن لم يتسن لهم ذلك على وجه لا يكون فيه إفراط في الحكم ولا تفريط في العنف حتى لا ييأس الثائرون لشدة العنف ولا يتجرؤوا لفرط التساهل فيحسبوا الحلم عجزا وضعفا ويتمادوا في غيهم ويتجرأ غيرهم على اقتفاء أثرهم فلينصروا خورشيد باشا بجنودهم.

فكان أول هؤلاء الثلاثة قدوما إلى حلب لطف الله باشا والي سيواس ، وصل إلى المدينة في السادس عشر من كانون الأول ومعه ألف رجل وبعض مدافع وحل بهم في البستان المعروف ببستان الشيخ طه إلى الشمال من المدينة ، ولما أبصر به الجند المحصورون في القلعة أطلقوا المدافع إحدى وعشرين طلقة للتسليم عليه فرد عليهم بتسع طلقات على ما تقتضيه قوانين النظام الجديد ، ووصل بعده بثلاثة أيام باكر باشا والي قيسارية ومعه أيضا جند ومدافع ، ثم نزلت الطامة الكبرى بقدوم جلال الدين محمد بن جوبان في أربعة آلاف من الجند وذلك بعد أسبوع من وصول باكر باشا.

وكان الثائرون قبل وصول هذه النجدة أضعاف جند الوالي عددا ، غير أنهم كانت تعوزهم العدد ، ولو كان لهم مدافع كما كان لجند الوالي وكان فيهم من يحسن ممارستها فما كان يبعد أن يستولوا على قصر الوالي من أول وهلة ، وقد حاولوا أن يستعينوا غير مرة على ذلك بالمدافع فلم يفوزوا منها بطائل وذلك لأنه لم يكن فيهم من يعرف من أمرها شيئا ، ولذا لم يغن عنهم عددهم حين كان الوالي في قل من الرجال ، فلما أتاه مدد السلطان وقدم ابن جوبان بنجدة بأربعة آلاف رجل كما أسلفنا تشدد عزمه ووثق بالنصر ورأى أن وضع الحلم موضع السيف مضر بالسياسة فأبى إلا نزول الثائرين على حكمه.

وكان المتبحرون في فن الحرب وأبوابها وحيلها من قواده وقواد أنصاره قد علموا أن الاستيلاء على المدينة لا يسهل عليهم بالسرعة المقصودة ما لم يستولوا أولا على الزقاق الطويل

٣١٨

وهو في الربض الشرقي الشمالي من أرباض المدينة إزاء القصر ، وكان الثائرون كثيرا ما يتحصنون فيه ويتسطون منه على القصر ، فلذا كان جند الوالي قد صرفوا جل همتهم بادىء بدء إلى الاستيلاء عليه.

وهاجموه مرارا يحاولون أخذه ولم يستطيعوا ، فلما أتى مدد السلطان وتكاثر الجند تأتى لهم بعد العناء الشديد والجهد الجاهد أن يأخذوه ، وكان ذلك في الثالث من كانون الثاني سنة عشرين وثمانمائة وألف (أوائل سنة ١٢٣٥ ه‍). فلما تم لهم الاستيلاء عليه لم يلبثوا أن استولوا على المدينة بأسرها في بضعة أيام كما سترى ، وكان حرس القلعة وسكانها والأرناؤوط اللاجئون إليها قد حصرهم فيها الثائرون وقطعوا عنهم الميرة والمدد ، وكان إذا حاول أحد منهم أن يخرج منها فإن كان من سكانها ردوه إليها وإن كان من الجند أو من الأرناؤوط قتلوه صبرا ، إذ كان هؤلاء كالشوكة في جوانبهم وكالشجى في حلوقهم شديدي النكاية في الثائرين يرمونهم بالرصاص والقنابر من أمد بعيد ويثبطونهم عن الجولان في المدينة والتنقل فيها إلى حيث كانت تدعوهم ضرورة القتال ، فلذا شددوا عليهم الحصار رجاء أن يكرهوهم على التسليم ويضطروهم إلى النزول على حكمهم ، وراسلوا في ذلك مقدمهم مرارا فكان يأباه ويقول إنه خادم الوالي فلن يبرح مكانه أو يأذن له سيده ، واستمروا محصورين إلى أن انقضت الثورة واستولى خورشيد باشا على المدينة ففرج عنهم.

وقد تقدم ذكر أهمية التجارة في حلب ، على أن جل تجارها كانوا يومئذ من الإفرنج ، فلما طالت مدة الحصار وتفاقم الخطب انقطعت قوافلهم وتعطلت متاجرهم فاجتمعوا وضربوا أخماسا بأسداس ، وكان أيضا قد بلغهم عن رجل من زعماء الثائرين يقال له ابن عرب ناصر أنه لما رأى اشتداد الأزمة على حزبه قال في إحدى حانات القهوة : إن الثائرين قد بلغ منهم السكين العظم وإنه قد آن للإفرنج وقناصلهم أن يسعوا في حمل الدولة على عزل هذا الوالي وكشف بلائه عن المدينة ، فقد أضر الجوع بفقرائها من جري الحصار وإنه إن لم يحاول الإفرنج إزالة بعض الشدة عن المدينة بمقدار وسعهم وهم يأكلون خيراتها بمتاجرهم اتخذ الناس من ذلك دليلا على أنهم لا هم لهم سوى مصلحة أنفسهم. وتهددهم أيضا بطريقة منحرفة فقال إنه لا يأمن إذا اشتد اليأس بالفقراء الجائعين أن يثوروا على الإفرنج وينزلوا بهم ما يكرهون ، فأوجس الإفرنج خيفة على أنفسهم وخشوا غائلة هذا الوعيد وأجمعوا على إغلاق أبواب الخانات التي كانوا يقيمون بها ، وأعدوا من البارود

٣١٩

وأسلحته ما يذبون به عن أنفسهم وعقدوا عزمهم على السعي في الصلح وبذل مجهودهم في إبرامه ، فراسلوا الوالي في ذلك وذكروا له ما كان الناس فيه من الضيق وما صار إليه الأهلون ولا سيما الفقراء من سوء الحال ، وحذروه غائلة ما يترتب على ذلك من اليأس وإن اليأس كثيرا ما يحدو إلى ارتكاب الجرائم ، وسولوا له أن يعدل عن جلاء الأنكجارية ، فقال لهم في جوابه : إن جلاء هؤلاء لا بد منه إذ كان قد أتاه به أمر مشدد من السلطان ، فلما بلغ ذلك الثائرين تنخوا وأخذتهم الحمية فقالوا : لو رام الأنكجارية أنفسهم أن يجلوا عن المدينة طائعين لم ندعهم ، فإما أن ننجلي عنها معهم ونغادرها خاوية على عروشها أو نهلك معهم.

وإنما كان ذلك منهم ضربا من نزاع المحتضر ، إذ كانت قواهم في الحقيقة قد خارت لتطاول مدة الحصار عليهم وانقطاع الميرة عنهم واستيلاء جند الوالي كل يوم على حي جديد من أحيائهم منذ تم لهم الاستيلاء على الزقاق الطويل ، فنخبت قلوبهم وانكسرت عزائمهم وأخذ مظافروهم ومظاهروهم يتسللون منهم واحدا بعد واحد حتى أصبحوا في الرابع والعشرين من كانون الثاني وهم نفر قليل لا قبل لهم بجند الوالي وأنصاره ، فجنحوا إلى الصلح على شرط الوالي وكتبوا إليه في نزول الأنكجارية على حكمه في الجلاء عن المدينة وأنهم يرغبون إليه أن ينظرهم ثلاثة أيام ، فأجابهم الوالي إلى ذلك.

ولما انقضت هذه العدة وذلك في الثامن والعشرين من كانون الثاني صباحا دخل خورشيد باشا المدينة صلحا ومعه المتسلم ونحو أربعمائة من الجند ونزل في دار بني الجابري في نفر من الجند وتفرق باقوهم في أحياء المدينة ، ثم أمر بإصعاد الميرة إلى القلعة سدا لرمق حرسها والجنود الذين كانوا فيها وعاد في مساء ذلك اليوم إلى قصره.

إلا أن أهل المحلة المعروفة بالقصيلة لما رأوا غرارات الميرة يصعد بها إلى القلعة ساءهم ذلك فاستأنفوا الفتنة وتحصنوا بالجوامع وطفقوا يرمون الجند بالرصاص من مآذنها حتى اضطروهم إلى الهرب ، فلما بلغ ذلك الوالي كاد يتميز من الغيظ وأمر أصحاب مدافعه أن يرموا المدينة بالقنابر ، وأوعز إلى قواده أن يهجموها برجالهم في ليلتهم تلك ويأخذوها بالسيف إذ كان أهلها قد غدروا وصالحوه على دخل ، فهجموها وأخذوها بالسيف وعاملوها معاملة مدينة قد أخذت عنوة واستباحوها إلى الصباح (١).

__________________

(١) وكان عدد ما نهبوه من الدور سبعمائة دار اه منه.

٣٢٠