إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٣

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٣

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٧

قال في خلاصة الأثر في ترجمة (نصوح باشا) : وشهرته بناصف باشا وهذه عادة الأتراك في تلاعبهم بالحروف فيقولون نصوح ناصف ، وتبديلاتهم ليس لها حد يحصرها ولا قاعدة تضبطها. ونصوح باشا هذا أصله من نواحي درامة من بلاد روم إيلي خدم أولا في حرم السلطنة الخاص ثم صار من المتفرقة وحكم ببلدة زله ، ثم صار أمير أخور صغير في سنة سبع بعد الألف ثم ولي كفالة حلب ، وكان متغلبا في حكمه عسوفا قوي النفس شديد البأس ، ولما كان لجند الشام حينئذ الغلبة والعتو وكان في ذلك العهد يذهب منهم في كل سنة طائفة إلى حلب وينصب عليهم سردارا من كبرائهم يستخدمون بمدينة حلب ، وكان بعض كبار الجند قد تقووا في حلب وفتكوا وجاروا خصوصا طواغيهم خداوردي وكنعان الكبير وحمزة الكردي وأمثالهم حتى رهبهم أهلها وصاهرتهم كبراؤها واستولوا على أكثر قراها ، فلما رأى نصوح باشا ما فعلوه وما استولوا عليه منها ومن قراها بحيث قلت أموال السلطنة وصارت أهالي القرى كالأرقاء لهم رفع أيديهم عن قراها وجلاهم عن تلك البلاد ووقع بينه وبينهم وقعة ، وكان معه حسين باشا ابن جانبولاذ عند المعرة وفروا بين يديه هاربين إلى حماة وأخذ ما وجد من أموالهم وخيولهم وخيامهم ، ثم جمعوا عليه عشيرا بحماة وأرادوا قتاله فأدركهم مرور علي باشا الوزير منفصلا عن نيابة مصر ومعه خزينتها عن سنتين ، وقد تحفظ عليها بخمسة عشر مدفعا وعساكر نحو الأربعة آلاف فجاؤوا إلى دمشق للقائه واتقائه ، فلما خرج علي باشا من دمشق بالخزينة قاصدا جانب السلطنة لم يصل إلى حماة حتى هموا بالخروج وخرج أوائلهم ، ثم ذهب في أثناء ذلك طاغيتهم خداوردي وفي صحبته نحو عشرين رجلا من أعيانهم إلى الأمير علي ابن الشهاب ثم إلى الأمير فخر الدين ابن معن (من أمراء الدروز) ووقعوا عليهما في السفر معهم لقتال ابن جانبولاذ وأخذ ثأرهم منه ، فسافر قبلهم أمير بعلبك الأمير موسى بن الحرفوش وجمعوا عشيرا كثيرا بحمص وحماة ، وورد أمر سلطاني وعليه خط شريف بأن طائفة الجند بالشام لا يخرجون إلى حلب لقتال كافلها ناصف باشا وحاكم كلّز حسين باشا ابن جانبولاذ لأنهم كانوا اجتمعوا وعرضوا بذلك إلى أبواب الدولة ، وكان ذلك جواب عرضهم ، وكان وصوله إلى دمشق يوم السبت عاشر رجب سنة اثنتي عشرة بعد الألف. ومن جملة ما ذكر في الخط المذكور أنهم إن خرجوا يكونوا مغضوبا عليهم مستحقين للعقوبة والنكال من السلطان ، فرأى نائب الشام إذ ذاك فرهاد باشا وقاضيها المولى مصطفى بن عزمي ودفتريها حسن باشا أنهم لا يرجعون إلا بحيلة ، فرأوا أن يرسلوا الشيخ محمد بن سعد الدين لكسر هذه الفتنة الموجبة للعقوبة إلى

١٨١

حماة ويقرأ عليهم الخط السلطاني ويرجعهم إلى دمشق ليقال لو لا خاطر الشيخ محمد ما رجعنا ، فخرج الشيخ محمد إليهم في ثاني عشر رجب ثم عاد يوم الأحد ثاني شعبان ولم يسمعوا قوله ، وخرجوا بعد قراءة الحكم عليهم والكلام معهم إلى الطيبة ثم توجهوا إلى ناحية حلب وانضم إليهم غجر محمد الجلالي وعشيره ، ثم رجعوا في أواخر شعبان إلى دمشق بعد أن صار بينهم وبين ناصف باشا وابن جانبولاذ مناوشة عند كلّز يوما واحدا ، ثم ولوا هاربين وتفرق عشيرهم وذلك بعد أن حاصروا كلّز أياما وخربوا ما حولها من قرية الباب وعزاز وغيرهما من قرى حلب وهتكوا النساء وافتضوا جملة من أبكارهن ودخلت أشقياؤهم حماما بكلّز على النسوة وفعلوا أفاعيل جاهلية ، ثم تلاقوا مع نصوح باشا وابن جانبولاذ خارج كلّز يوما واحدا ثم انهزموا من ليلتهم وعادوا إلى دمشق وفرّ غجر محمد إلى البيوة ، وكانت الوقعة في أواسط شعبان ، ثم تتبع نصوح باشا غجر محمد الجلالي ومعه عشيره ومنهم طائفة من جند الشام فأغار عليهم في شوال وهو في الربيع بالقرب من حماة وانتهبهم وأخذ خيولهم وكرر الغارة عليهم ، فلما كان أوائل ذي الحجة مرّ مصطفى باشا الشهير بابن راضية متوليا نيابة الشام بغجر محمد وقد جمع عشيرا نحو ثلاثة آلاف مقاتل فقالوا له : لا نمكنك من الذهاب إلى دمشق حتى تنتصف لنا من ناصف باشا ، فسار معهم مكرها ، وكانوا قد تظاهروا بقطع الطريق وضربوا على أهل حمص وحماة ضرائب من المال واعترضوا القوافل وجرموهم فخرجوا بمصطفى باشا من حماة إلى ناحية حلب فلم يلبثوا إلا وناصف باشا قد انقض عليهم ، فلم يثبتوا له ساعة وأفلت عليهم المكاحل فقتل منهم جماعة كثيرون وفرّ الغجر ومن معه من الجند الشامي وانحاز مصطفى باشا إلى ناصف باشا ، ثم بعث خلف الغجر طليعة من العرب فيهم الأمير دندن ابن أبي ريشة الحياري فسار خلفه إلى تدمر وشتت شمله.

ثم شاع الخبر في دمشق في رابع أو خامس ذي الحجة أن ناصف باشا وصل إلى دمشق للانتقام من الجند ، ثم عقب يومين وصل من طرفه رسول ومعه كتاب فيه يطلب منهم نحو ثلاثين رجلا ليأخذ ما في عهدتهم من الأموال السلطانية التي تناولوها من أموال حلب ومنهم خداوردي وآق يناق وقرا يناق وحمزة الكردي وآخرون ، وإن لم يسلموا هذه الطائفة إليه وإلا أتى دمشق وقاتلهم واستأصلهم ، فامتنعوا وأظهروا له العناد والتمرد والقوة والاشتداد ، ثم دخلت طائفة منهم إلى القلعة واستولوا عليها وتحصنوا ، ثم بعثوا منهم جماعة

١٨٢

إلى الأمير فخر الدين بن معن والأمير موسى بن الحرفوش والأمير أحمد ابن الشهاب والشيخ عمر شيخ المفارجة ، ثم خرجوا إلى القابون واجتمع العشير عليهم ثمة ولم يتأخر إلا الأمير فخر الدين بن معن وبقيت خيامهم في القابون نحو عشرة أيام وأخذوا في نهب زروع الناس وبعض مواشيهم ، ودخل أهل الغوطة إلى دمشق ونقلوا أسبابهم وأمتعتهم ونساءهم إليها وارتعبت أهل دمشق ، ثم شاع في ثامن ذي الحجة بدمشق أن ناصف باشا رجع إلى حلب بعد أن كان وصل إلى الرستن ، وكان مصطفى باشا نائب دمشق قد فارقه قبل ذلك بأيام ونزل بالقابون فلم يمكنوه من دخول دمشق بل قالوا له : ارجع وقاتل معنا ناصف باشا ، وبقوا ثمة حتى استهلت سنة ثلاث عشرة يوم الاثنين.

سنة ١٠١٣

قال : فهموا بالرحيل وافترقوا فرقتين فرقة تقول نذهب إلى حلب وهم الذين كانوا في استخدام حلب ، والآخرون يقولون نرجع إلى دمشق وقد رجع عنا ناصف باشا ونحن لا نعصي السلطنة ، ثم فكوا خيامهم وتوجه الحلبيون إلى أرض القصير وعذرا ، ثم في يوم الثلاثاء رحل مصطفى باشا إلى دمشق ومعه ابن الشهاب وابن الحرفوش وأكثر الجند وانقطع أمرهم عن حلب وعن سرداريتهم فيها وليته انقطع عن دمشق أيضا ، فلعمري إن بلدة تأمن غوائلهم ولا ترى مصائبهم ونوازلهم لهي آمنة من جميع المصائب مدفوع عنها بلطف الله تعالى جميع النوائب فإنهم مدار كل ضرر آجل وعاجل وليس لهم تالله نفع ولا تحتهم طائل.

عودا إلى تتمة ترجمة صاحب الترجمة : ثم صار بعد ذلك نائب السلطنة بديار أناطولي ثم ولي محافظة بغداد ثم صار نائبا بديار بكر ، ثم وجه إليه الوزير الأعظم مراد باشا سردارا لعساكر حكومة مصر فلم تمض أيام إلا ومرض مراد باشا مرض موته فبعث السلطان أحمد مراسيل إلى صاحب الترجمة بأن يكون قائم مقام الوزير. ثم توفي مراد باشا فوجهت إليه الوزارة العظمى والسردارية وجاءه الختم في جمادى الآخرة سنة عشرين وألف وعقد الصلح بين السلطان وشاه العجم ، ثم سافر راجعا بالعساكر إلى حلب وأرهب جند الشام وغيرهم وهرعت الناس إليه إلى حلب ، ثم سافر من حلب إلى قسطنطينية فدخلها في شعبان فقابله السلطان أحمد بالقبول والإقبال وزوجه ابنته ، ثم قتله يوم الجمعة ثاني رمضان سنة ثلاث وعشرين وألف اه.

١٨٣

وقد ترجمه في قاموس الأعلام ترجمة وجيزة قال في آخرها : إنه كان وزيرا عاقلا مدبرا لكنه كثير الطمع حاد المزاج وارتكب خواصه وأتباعه أنواع المظالم ، وفي سنة ١٠٢٣ غضب عليه السلطان فأعدمه وهو مدفون في أوق ميدان عند إبراهيم باشا.

ذكر تعيين حسين باشا ابن جانبولاذ على حلب

والوقائع بينه وبين واليها نصوح باشا

قال مصطفى نعيما في تاريخه : كان علي بن جانبولاذ أول من ترأس عشيرة الأكراد الجانبولاذية في نواحي كلّز ، ثم صارت الزعامة إلى حسين بك الذي هو أكبر أعقاب جانبولاذ ، وقام في أول الأمر بخدمات عظيمة للدولة العثمانية في الشرق والغرب ، ثم لما تعين السردار سنان باشا قائدا عاما لجهات الشرق وحضر إلى حلب عزل نصوح باشا عن ولاية حلب وعيّن عليها حسينا المذكور لمنافع شخصية ، إلا أن نصوح باشا امتنع من تسليم حلب لحسين باشا المذكور بحجة أنه ليس من أمراء الدولة بل هو من رؤساء العشائر ، وبلغ السردار المذكور أنه خابر الآستانة وهو ينتظر الأوامر التي تأتيه.

فحسين باشا أعلم السردار سنان باشا بذلك فأتاه الأمر بمحاربة نصوح باشا إذا أصر على الامتناع من تسليم حلب إليه. فأخذ عندئذ حسين باشا يجمع العساكر من الأكراد والعربان التي حواليه إلى أن صار معه جيش كثيف وتوجه إلى حلب وحاصرها.

وأما نصوح باشا فإن الجواب من الآستانة تأخر عليه مدة ثلاثة أشهر وحسين باشا محاصر لحلب. وتقدم أن الدولة كانت عينت سنان باشا قائدا عاما للبلاد الشرقية ووسعت له المأذونية وفوضت إليه الأمر يفعل في البلاد ما يشاء ، فوافقت على ما ارتآه سنان باشا وأمرت نصوحا بالانسحاب من حلب فأجاب إلى ذلك وتوجه منها إلى الآستانة وصار الوالي فيها حسينا يتصرف في أمورها كيف شاء.

قال في خلاصة الأثر في ترجمة حسين باشا ابن جانبولاذ الكردي المذكور : إنه كان في ابتداء أمره من المتفرقة ثم تولى إمارة كلّز منصب والده وعزله عنه أخوه الأمير حبيب ، وشبت العداوة بينهما ، ثم استمرا يتعازلان فتولى ديو سليمان كلّز فاحتاج إلى جمع السكبانية ، وكان ابتداء كثرتهم وظهور قوانينهم من عبد الحليم اليازجي أحد أتباع المسطور ، ولما سجن صاحب الترجمة بحلب وبيعت جميع عقاراته وأسبابه بأبخس الأثمان

١٨٤

لمال سلطاني كان عليه تولى كلّز بعد ذلك وصمم على الامتناع من تسليمها إن عزله أحد ، فكان إذا عزل من جانب السلطنة سعى في العود من غير تسليم المتولي الجديد ، فعلم أكابر الدولة أنهم إذا صمموا على عزله شق العصا فتركوه وارتضوا بالمال فكثرت أجناده وأمواله. وكان له مروءة وفتوة ومحبة للعلماء والصالحين إلا أنه كان ظالما لاحتياجه إلى علوفات السكبانية ، وكان له فضيلة في علم الفلك والزايرجا والتقويمات والرمل وصرف أكثر عمره في ذلك.

ولما توجه محمد باشا الوزير ابن سنان باشا الوزير الأعظم سردارا على حسين باشا أمير لواء الحبشة وكان خرج عن الطاعة وشق العصا ، وسببه أنه لما تولى إمارة الحبشة أخذ منه أكابر الدولة مالا جزيلا استدان غالبه ثم عزلوه سريعا فشق العصا مغاضبا لهم فتوجه صاحب الترجمة لحربه صحبة السردار فقدم إلى كلّز خارجي من السكبانية يقال له رستم ومعه من البغاة أجناد كثيرة ، وكان ضابط كلّز عزيز كتخدا من جماعة صاحب الترجمة فبعث واستنجد بعساكر حلب منهم العسكر الجديد ، فخرجوا لنصرته واجتمعوا جميعا فتقابلت الأجناد وقام بينهم سوق الحرب والطعن والضرب فانتصر عسكر رستم على عسكر حلب وكلّز وقتل عزيز كتخدا وقتل من العسكر ما لا يحصى وولوا منهزمين ، فنهب الخارجي كلّز وصادر أعيان أهل القرى.

ولما تولى نصوح باشا كفالة حلب وكان عساكر دمشق تغلبوا على حلب ونواحيها وأمره السلطان أحمد بإخراجهم وعجز عن ذلك فاستعان بصاحب الترجمة فبعث ابن أخيه الأمير علي بعسكر عظيم فأصبح نصوح باشا وقد أخذ القلعة ووضع متاريس تحت قلعة حلب واستعدت جماعته فكانوا نحو ستمائة فأخذت العساكر الدمشقية باب بانقوسا واستعدوا وجمعوا عساكرهم نحو الألفين وهم لا يعلمون أن صاحب الترجمة بعث عساكر ، فأحضر نصوح باشا إليه كنعان سردار الدمشقيين وأخبره أن السلطان رفعهم من الاستخدام وأمر بإخراجهم من حلب بعيالهم فامتنعوا.

ثم تواردت الأخبار أن الأمير علي بن جانبولاذ وصل إلى قرية حيلان بعساكر لا تحصى فخرجوا في الظلام ولم يبق منهم أحد ، وفي اليوم الثاني دخل الأمير علي بالعساكر المتكاثفة فتبعهم نصوح باشا ومعه الأمير علي إلى قرية كفرطاب فوقع بينهم محاربة فانهزم الدمشقيون بعد ما قتل منهم جم غفير ، فصادر نصوح باشا أقاربهم وأتباعهم ، وفعل

١٨٥

حسين باشا مع نصوح باشا هذا الفعل ، فأخذ نصوح باشا يتكلم بين الناس أنه يريد قتل حسين باشا ، فسمع الخبر فأخذ في جمع العساكر وبعث جماعة إلى السردار سنان باشا ابن جغالة الذي أرسله السلطان لقتال الشاه ، فبلغ ذلك نصوح باشا فاشتدت عداوته فعزم على المفاجأة بالقتال لكون كلّز قريبة من حلب ، فخرج في عساكره مجدا حتى وصلها في يوم واحد فقابل حسين باشا بعسكره والتقت الفئتان فانكسر نصوح وقتل أكثر عسكره ودخل حلب منهزما.

ثم في اليوم الثاني أخذ في جمع الأجناد وبذل الأموال لتكثير العدد والأعداد ظنا منه أن صبح سعده أسفر ، ثم جاءه رسول من السردار سنان باشا ابن جغالة يخبره بالأوامر السردارية أنه قد صار حسين باشا كافل المملكة الحلبية وعزل نصوح باشا منها ، فلبس نصوح باشا جلد النمر وامتنع من تسليم حلب لحسين باشا وقال : إذا ولوا حلب لعبد أسود أطيع ذلك إلا ابن جانبولاذ ، فما مضى أسبوع إلا وقد أقبلت عساكر حسين باشا بجموعها إلى قرية حيلان فاستقبلهم نصوح باشا بالحرب ثانيا فانكسر ثانيا ، فنزل حسين باشا بعساكره في محلات حلب خارج السور وأغلق نصوح باشا أبواب المدينة وسدها بأحجار وفتح باب قنسرين وحرسه بعساكر أوقفهم هناك ، وقطع حسين باشا الماء عن حلب ومنع الميرة والطعام عن داخل المدينة ، ونصب حسين باشا متاريس على أسوار المدينة وصف عساكره على الأسوار مع المكاحل وقامت بينهم حرب البسوس ، وأخذ حسين باشا في حفر اللغوم والاحتيال على أخذ البلدة ونصوح باشا في حفر السراديب لدفع اللغوم ، وعم الحلبيين البلاء من المبيت على الأسوار وحفر السراديب ومصادرة الفقراء والأغنياء كل يوم وليلة لطعام السكبانية وعلوفاتهم ، وأغلقت الدكاكين وتعطلت الصناعات وحرقت الأخشاب للطعام والقهوة بسبب قطع حسين باشا الميرة حتى الخشب والحطب ، ونزل البلاء من جانب السماء على حلب فبيع مكوك الحنطة بمائة قرش ريال وجرة الشيرج بثمانية عشر قرشا ورطل لحم الكديش بنصف قرش والتينة الواحدة بقطعة وأوقية بزر البطيخ بأربع قطع ، وأعظم من في البلد يجد أكل البصل والخل من أحسن الأطعمة ، وكان بعضهم يأخذ الشمع الشحمي ويضعه في طعام الأرز والبرغل ، وكان العساكر لا يجدون التين بل يأخذونها ١ وينقعونها في الماء ويقطعونها ويطعمونها للخيل بدلا عن التبن ، وكل فقير يغرم في اليوم قرشين والمتوسط عشرة والغني عشرين. واستمر الحصار نحو أربعة أشهر وأياما.

__________________

١ ـ في «خلاصة الأثر» : بل يأخذون الحصر ...

١٨٦

ثم قدم السيد محمد المشهور بشريف قاضيا بحلب فنزل خارج المدينة وأخذ يسعى في الصلح ، ثم عقد الصلح ولم يرض نصوح باشا إلا بأيمانات السكبانية وعهودهم فإن لهم عهودا وثيقة ، فحلفهم بالسيف أن يكون آمنا على نفسه وأمواله إذا تعرضه حسين باشا يقاتلونه معه ، ثم أمر الشريف نصوح باشا أن يذهب بنفسه إلى حسين باشا ويصالحه لكون نصوح باشا كان ضرب بنت حسين باشا وأخذ أموالها ، فذهب ومعه شاطر واحد إلى منزل حسين باشا فأكرمه وسقاه شربة سكر بعد ما امتنع نصوح باشا فشرب حسين باشا من الإناء قبله فاقتدى به وشرب ، ولما ذهب كان لابسا درعا تحت الثوب وظن الناس خروج نصوح باشا خفية ليلا خوفا من حسين باشا وعساكره فلم يكن الأمر كذلك بل خرج بعساكره وطبوله وزموره وقت الغداة فودعه حسين باشا واستولى على الديار الحلبية وصادر الأغنياء والفقراء لأجل علوفة السكبان.

سنة ١٠١٤

قتل حسين باشا وتغلب ابن أخيه الأمير علي على حلب

وخروجه عن السلطنة

قال في الخلاصة في ترجمة حسين باشا المذكور : ثم أمر سنان حسين باشا بالتوجه إليه (إلى بلاد العجم) لقتال الشاه فقدم رجلا وأخر أخرى وتثاقل عن السفر حتى حصلت الكسرة ببلاد العجم للعساكر العثمانية في وقعة مشهورة قتل فيها جماعة من الأمراء ، وكانت في سادس عشري جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وألف ، فلما رجع الوزير سنان باشا ابن جغالة أدركه حسين باشا في رجعته بمدينة وان فقتله لتأخره في السنة المذكورة ، وكان يريد جعل ابن أخيه الأمير عليا قائما مقامه بحلب ، فلما بلغه قتل عمه تملك حلب وخرج بها على السلطنة وتولدت من ذلك فتن عظيمة سنذكرها في ترجمة الأمير علي إن شاء الله تعالى ١ ه‍.

قال في تاريخ نعيما : لما بلغ الأمير عليا قتل عمه حسين باشا غضب لذلك غضبا شديدا وعزم على الانتقام من الدولة وشق عصا الطاعة وجمع حوله كثيرا من الحشرات الأكراد والعربان ، ولما وصلت الأخبار إلى الآستانة بذلك أرسلت له منشور الولاية على

١٨٧

حلب وقصد بذلك تسكين غضبه ، إلا أن ذلك زاد في عتوه وبقي مصمما على الخروج عن الطاعة وتوجه لمحاربة الأمير يوسف بن سيفا حاكم طرابلس الشام وكسره ، وتحصن ابن سيفا في طرابلس ثم صالحه على مال وصاهره ليكون ظهيرا له. ثم توجه إلى الشام لعداوة سابقة بينه وبين أمرائها وحاربهم وحاصرهم في القلعة وقتل من عسكرهم كثيرين ، ثم صالحهم على مال كثير وصادر أموالهم ثم عاد إلى حلب ، وبعد وصوله إليها قسم الغنائم على قسمين من العساكر وظن أنه بذلك استكمل قوته واشتد ساعده فجمع أيضا عساكر وشق عصا الطاعة على الدولة ومنع وصول خزائن المال إلى قسطنطينية وقسم عساكره إلى قسمين خيالة ومشاة المشاة على نسق اليكيجيرية والخيالة على نسق السباهية ، وعدد المشاة ستة عشر ألفا يرأسهم شخص يدعى جمعة ، والخيالة قسمهم إلى قسمين ميمنة وميسرة جملتهم ثمانية عشر ألفا يرأسهم شخص يدعى خرتاوي ، علم ذلك من دفاتر السجلات التي وجدت في حلب بعد استئصالهم.

وحينما حصل هذا الأمر أرسلت الدولة السردار مراد باشا لتأديب علي باشا جانبولاط المذكور وكان أمره هو الشغل الشاغل لأفكار الدولة ، وكان توجهه إلى الديار الحلبية في سابع ربيع الأول من السنة المذكورة ، وكان علي باشا جانبولاذ متحصنا في مضيق بغراص (بيلان) وقد اتخذ فيها متاريس واستحكامات ومعه من العساكر عشرون ألفا من الخيالة وعشرون ألفا من المشاة ، وحينما علم السردار مراد باشا بتحصن علي باشا في الأمكنة المذكورة انحرف عنها وجاء من جهة (أرسلان بلي). وفي جمادى الآخرة اجتاز المضيق المذكورة ونزل إلى صحراء الحمامات فلحق به ذو الفقار باشا والي مرعش بعساكر ذي الغادرية وقعدا في هذا المكان ثلاثة أيام إلى أن تم مرور العساكر من ذلك المضيق واستقرت في صحراء درمه ، وحينما بلغ ابن جانبولاط اجتياز العساكر قام من مكانه ثاني رجب وأتى نحو عساكر الدولة وحط رحاله في صحراء الروج بحيث صار بينه وبين عساكر الدولة نصف مرحلة.

ثم أرسل ابن جانبولاط ثلة من العساكر لأجل الكشف فوقع بينهم وبين عساكر الدولة مصادفة أدت إلى قتل رئيس تلك الثلة وكان يسمى (الجن) وانهزم الباقون وأسر منهم طائفة ، وحينما مثل المأسورون بين يدي ابن جانبولاط قتلهم للحال ، وصباح ذلك اليوم صف السردار مراد باشا عساكره وتهيأ للقتال فأرسل علي باشا جانبولاط رسولا بطلب

١٨٨

الأمان فرد الرسول ولم يقبل بالصلح ، ثم التقى الفريقان وكان في المقدمة ذو الفقار باشا حاكم مرعش فظهر منه شجاعة عظيمة وأبلى في ذلك اليوم بلاء حسنا ، وكان في الميسرة حسن باشا ترياكي ومعه عساكر الروملي فهجم عليه ابن جانبولاط ووقع بينهما حرب عظيمة وقتل في ذلك اليوم من عساكر ابن جانبولاط عشرون جمعت الرؤوس ووضعت مكردسة أمام القائد مراد باشا وعين عشرون شخصا لقطع رؤوس الأشقياء الذي أسروا فأمضوا ذلك اليوم في قطع الرؤوس من الأسرى. وأدى الأمر إلى انكسار ابن جانبولاط وفراره إلى جهة كلّز مسقط رأسه ، إلا أنه لم يقر له بها قرار فتوجه منها إلى حلب وأخذ في مصادرة الأغنياء ، وأيضا لم يستقر له بها قرار فأبقي في قلعة حلب جمعة وخرتاوي وهما من مقدمي عساكره وخرج منهزما من حلب من باب بانقوسا ، وفي أثناء خروجه منها كان النساء والأطفال يولولون ويسبونه ويلقون على رأسه القاذورات ويحقرونه بأنواع كلمات التحقير ، ثم صار أهالي حلب يلقون القبض على أتباع ابن جانبولاط فبلغوا نحو الألف ، وحينما أتى مراد باشا إلى حلب سلموا إليه هؤلاء الأشقياء فقطع رؤوسهم.

وثاني يوم الواقعة المتقدمة بعد انهزام ابن جانبولاط أتى مراد باشا إلى خيامه وقعد فيها وأخذ كبار قوّاده يأتون إليه يهنئونه بالنصر والظفر وكان في جملتهم الدفتردار باقي باشا فهنأه بهذه الشطرة (بيك أون آلتيده قرلدي سكبان) فجاءت هذه الشطرة تاريخا لهذه الوقعة.

ويروى أن القائد مراد باشا لما كان يقاتل ابن جانبولاط كان مع جانبولاط فخر الدين ابن معن ومعه عساكر من بني كلب ومن الدروز ، ولما انكسر ابن جانبولاط فرّ ابن معن إلى قلعة الشقيف.

ثم إن السردار مراد باشا توجه إلى حلب وفي طريقه مرّ على كلّز وصادر جميع أملاك ابن جانبولاط وألحقها في الأموال الأميرية ، وفي تاسع عشر رجب دخل إلى حلب وضرب خيامه في الميدان وخرج أعيان البلد وأهلها واستقبلوه أحسن استقبال وهناك سلموه الألف رجل الذين قبضوا عليها كما قدمنا فأمر بقتلهم. ثم إن السكبانيين المحاصرين في القلعة طلبوا الأمان وسلموه القلعة يوم الثلاثاء وبعد خروجهم من القلعة قتلوا بعد أن كان أعطى لهم الأمان.

ثم سلمت ولاية حلب إلى ديشلك حسين باشا وعيّن جشمه أفندي قاضي الجيش قاضيا على حلب لما له من العلاقات القديمة.

١٨٩

ثم إن ابن جانبولاط توجه إلى قسطنطينية والتجأ إلى داود باشا أحد كبار الوزراء فسعى له لدى الحضرة السلطانية بالعفو عن جرائمه فعفا عنه وأنعم عليه برتبة بكلربكي وأرسل إلى الحدود في جهة طمشوار (في بلاد العجم) للمحافظة ، وبعد استقراره هناك سنة عاد بمقتضى رداءة طينته إلى عادته السابقة من الظلم والجور والتعدي ، وهم الأهالي هناك بقتله فانهزم لجهة بلغراد والتجأ إلى علي باشا قاضي زاده وهذا حبسه في القلعة المذكورة حفظا له ممن رام قتله من أهل طمشوار ، ثم لما عاد مراد باشا إلى الآستانة أشار على ابن قاضي زاده بقتل ابن جانبولاط فقتله.

هذا ما ذكره المؤرخ مصطفى نعيما في تاريخه ، وأنت كما ترى قد اختصر حوادثه ووقائعه في الشام والعلامة المحبي قد بسط حوادثه ثمة ، ثم ذكر بعد ذلك وقائعه مع السردار مراد باشا وانكساره أمامه وانهزامه إلى البلاد الرومية إلى أن قتل فقال : هو الأمير علي بن أحمد بن جانبولاذ بن قاسم الكردي القصيري ، قد أكثر أهل التاريخ والمجاميع ممن لحقوا واقعته من ذكره وذكر ما فعله بدمشق وما جرى لحكام الشام وأهلها معه من الوقائع ، وقد اخترت من ذلك ما أودعته في هذه الأوراق من مبدأ أمره إلى منتهاه ، وأما ذكر أصله ومنزعه فجده جانبولاذ هذا كان يعرف بابن عربو وكان أمير لواء الأكراد بحلب ، ولي حكومة المعرة وكلّز وعزاز وكان له صيت شائع وهمة علية. ومبدأ الأمير علي هذا أنه كان في طليعة عمره ولي حكومة العزيزي ، وقد تقدم في ترجمة عمه حسين باشا أنه لما قتله الوزير ابن جغالة لتراخيه في أمر السفر الذي كان عين له خرج الأمير علي عن طاعة السلطنة وجمع جمعا عظيما من السكبانية حتى صار عنده منهم ما يزيد على عشرة آلاف ومنع المال المرتب عليه وقتل ونهب في تلك الأطراف ودبر على قتل نائب حلب حسين باشا وكان ولاه السلطان نيابتها ووصل إلى آذنة وكان بآذنة حاكم يعرف بجمشيد فكتب إليه ابن جانبولاذ أن يصنع له ضيافة ويقتله ففعل ونما خبره إلى الأقطار واستمر في حلب يظهر الشقاق إلى أن أرسل الأمير يوسف بن سيفا صاحب عكار إلى باب السلطنة رسالة يطلب فيها أن يكون أميرا على عساكر الشام والتزم بإزالة الأمير علي من حلب ، فجاءه الأمر على ما التزم وأرسل إلى عسكر دمشق وأمراء ضواحيها يطلبهم إلى مجتمع العساكر وهو مدينة حماة فتجمعوا هناك من كل ناحية وجاء ابن جانبولاذ إلى حماة وتلاقيا وتصادما ، فما هو إلا أن كان اجتماعهم بمقدار نحر جزور فانكسر ابن سيفا وأتباعه ورجع بأربعة أنفار واستولى ابن جانبولاذ على

١٩٠

مخيمه ومخيم عسكر الشام ، ثم إنه راسل الأمير فخر الدين بن معن أمير الشرف وبلاد صيدا وأظهر له أنه قريبه مع بعد النسبة فحضر إليه واجتمعا عند منبع العاصي وتشاورا على أن يقصدا طرابلس الشام لأجل الانتقام من ابن سيفا ، فسار ابن سيفا في البحر وأخلى لهم طرابلس وعكار وأرسل أولاده وعياله إلى دمشق وأجلس مملوكه يوسف في قلعة طرابلس فتحصن بها وبعث ابن جانبولاذ (الأمير درويش بن حبيب بن جانبولاذ) ١ إلى طرابلس فضبطها واستولى على غالب أموال من وجد هناك واستخرج دفائن كثيرة لأهلها ولم يستطع أن يملك قلعتها. وسار الأمير علي ومعه ابن معن إلى ناحية البقاع العزيزي من نواحي دمشق ومرا على بعلبك وخربا ما أمكن تخريبه منها واستقرا في البقاع وأظهرا أنهما يريدان مقاتلة عسكر الشام ، ولم تزل العساكر الشامية ترد إلى دمشق حتى استقر في وادي دمشق الغربي ما يزيد على عشرة آلاف وتزاحف العسكران حتى استقر ابن جانبولاذ وابن معن في نواحي العراد وزحف العسكر الدمشقي إلى مقابلتهما ، وكان ابن سيفا وصل إلى دمشق وأظهر التمارض ولم يرحل مع العسكر الشامي ، واستمرت الرسل مترددة بين الفريقين ليصطلحا فلم يقدر لهم الاصطلاح وتزاحف الجيشان فتوهم ابن جانبولاذ من صدمة العسكر الشامي فشرع في تفخيذ أكابر العسكر عن الاتفاق وأوقع بينهم. ثم إنه أرسل إلى طائفة من أكابرهم فوردوا عليه في مخيمه ليلا وألبسهم الخلع وتوافقوا معه على أنهم ينكسرون عند المقابلة ، وكان في جانب ابن جانبولاذ ابن معن وابن الشهاب أمير وادي التيم ويونس بن الحرفوش فطابت نفوسهم لملاقاة الشاميين وتقابل الفريقان في يوم السبت من أواسط جمادى الآخرة سنة خمس عشرة بعد الألف ولم يقع قتال فاصل بين الفريقين. ثم في صبيحة نهار الأحد وقف العسكر الشامي في المقابلة واقتتلا فما مرّ مقدار جلسة خطيب إلا وقد انفل العسكر الشامي حتى قال ابن جانبولاذ : العسكر الشامي ما قاتلنا وإنما قابلنا للسلام علينا. فلما ولى عسكر دمشق زحف ابن جانبولاذ حتى نزل بقرية المزة وكان نزوله في الخيام. وأما ابن معن فإنه كان ضعيف الجسد في هاتيك الأيام وكان نزوله في جامع المزة ، وأصبحت أبواب البلد يوم الاثنين مقفلة وقد خرج منها ابن سيفا وجماعته ليلا بعد أن اجتمع به قاضي القضاة بالشام

__________________

١ ـ إضافة من «خلاصة الأثر» ليست في الأصل. (٣ / ١٣٦)

١٩١

المولى إبراهيم بن علي الأزنيقي وحسن باشا الدفتري المقدم ذكرهما ولم يمكناه من الخروج حتى دفع إليهما مائة ألف قرش ليفتدوا بها الشام من ابن جانبولاذ ، ثم خرج ومعه الأمير موسى بن الحرفوش ، ولما بلغ الأمير ابن جانبولاذ خروجه غضب وقال أهل دمشق : لو أرادوا السلامة مني ما مكنوا ابن سيفا من الخروج وهم يعرفون أنني ما وردت بلادهم إلا لأجله ، ونادى عند ذلك بالسكبانية أن يذهبوا مع الدروز جماعة ابن معن لنهب دمشق ، فوردت السكبانية والدروز أفواجا إلى خارج دمشق وشرعوا في نهب المحلات الخارجة ، فلما اشتد الكرب والحرب على المحلات وتلاحم القتال خاف العقلاء في دمشق فخرج جماعة إلى ابن جانبولاذ وقالوا له : إن ابن سيفا قد وضع لك عند قاضي الشام مائة ألف قرش وتداركوا له خمسة وعشرين ألف قرش أخرى كما وقع عليه معه الاتفاق من مال بعض الأيتام التي كانت على طريق الأمانة في قلعة دمشق وبعد ذلك أداها أيضا ابن سيفا كالمائة ألف ، فلما تكلم الناس في الصلح طلب ابن جانبولاذ المال الذي وقع عليه الصلح على يد الدفتري وقال : إن جاءني المال في هذا الوقت رحلت ، فحملوا له مائة ألف قرش وخمسة وعشرين ونادى بالرحيل عن المزة في اليوم الرابع من نزوله. واستمر النهب في أطراف دمشق ثلاثة أيام متوالية وكانوا يأخذون الأموال والأولاد الذكور ولم يتعرضوا للنساء.

ولما رحل ابن جانبولاذ ارتفع النهب عن المدينة وفتحت أبواب المدينة في اليوم الرابع فازدحم الناس على الخروج أفواجا أفواجا ودخل إليها من نهبت أسبابه من المحلات الخارجة فكانوا لا يعرفون لتغير أسبابهم ووجوههم ، وابتدأت العساكر الهاربة تتراجع إلى دمشق ولم يبالوا بما صدر منهم من الفضيحة. ولما فارق ابن جانبولاذ دمشق سار على طريق البقاع وفارق ابن معن هناك ورحل إلى أن وصل إلى مقابلة حصن الأكراد وأقام هناك ، وأرسل إلى ابن سيفا يطلب منه الصلح والمصاهرة فأجابه وأعطاه ما يقرب من ثلاث كرات من القروش وزوجه ابنته وتزوج منه أخته لابنه أمير حسين ، ورحل ابن جانبولاذ من هناك إلى جانب حلب وجاءته الرسل من جانب السلطنة تقبح عليه ما فعل بالشام ، فكان تارة ينكر فعلته وتارة يحيل الأمر على عسكر الشام ، وشرع يسد الطرقات ويقتل من يعرف أنه سائر إلى طرف السلطنة لإبلاغ ما صدر منه حتى أخاف الخلق ونفذ حكمه من آدنة إلى نواحي غزة ، وكان ابن سيفا ممتثلا لأمره غير تارك مداراة السلطنة واتفق معه على أن تكون حمص تحت حكم ابن سيفا.

١٩٢

وكانت حماة وما وراءها من الجانب الشمالي إلى آدنة في تعلق ابن جانبولاذ وانقطعت أحكام السلطنة عن البلاد المذكورة نحو سنتين ووقعت الوحشة وانقطعت الطرقات إلى أن ولي الوزارة العظمى مراد باشا وكان سافر في ابتداء وزراته إلى الروم وأصلح ما بين السلطان وسلاطين المجر ، فلما قدم عينه السلطان لدفع ابن جانبولاذ وبقية الخوارج مثل العبد سعيد ومحمد الطويل الخارجين في نواحي سيواس فقدم الوزير المذكور ومعه من العساكر الرومية ما يزيد على ثلاثمائة ألف ما بين فارس وراجل ، وكان كلما مرّ بقوم من السكبانية الخارجين يقتلهم حتى أزال السكبانية الخارجين ولم يبق سوى العبد سعيد والطويل محمد فإنهما حادا عن طريقه ولم يستطع لحاقهما ووصل إلى آدنة فخلصها من يد جمشيد الخارجي ، ولما انفصل عن جسر المصّيصة إلى هذا الجانب تيقن ابن جانبولاذ أنه قاصده فجمع جموعه المتفرقة في البلاد حتى اجتمع عنده أربعون ألفا وخرج من حلب والوزير في بلاد مرعش (هو ذو الفقار باشا كما تقدم) وجزم بمقابلته ، وكان الوزير في أثناء ذلك يراسله بالكلمات الطيبة طمعا في إصلاح أمره فلم يزدد إلا عتوا ، ولما تلاقى الفريقان برز عسكر ابن جانبولاذ إلى المقاتلة يومين ولم يظهر لأحد الفئتين غلبة على الأخرى ، ففي اليوم الثالث التحم القتال حتى كاد أن يكون عسكر البغاة غالبا ، وكان من أعاجيب الأمر أن وزيرا يقال له حسن باشا الترياقي وكان من جملة العسكر السلطاني رتب عسكر السلطان وقال : قاتلوا البغاة إلى وقت الظهر فإذا حكم وقت الظهر فافترقوا فرقتين فرقة منكم تذهب لجانب اليمين وأخرى تذهب لجهة الشمال واجعلوا عرصة القتال خالية للأعداء وحدهم ، وقد أخفى المدافع الكبيرة في مقابلة العدو وملأها بالبارود ، فلما افترق عسكر السلطان ظن حزب ابن جانبولاذ أنهم كسروا فبالغوا في اتباع عسكر السلطان إلى أن كادوا يخالطونهم ، فلما قربوا وخلت لهم عرصة القتال أطلقوا عليهم المدافع ولحقوهم بالسيوف إلى أن أزاحوهم عن خيامهم وكسروهم كسرة شنيعة وقتلوا منهم خلقا كثيرا وهرب ابن جانبولاذ إلى حلب ولم يقربها إلا ليلة واحدة ، فوضع أهله وعياله وذخائره في قلعتها وخرج منها إلى أن ألجأه الهرب إلى ملطية وبقي الوزير يتبع أعوان ابن جانبولاذ فأبادهم قتلا بالسيف وجاء إلى حلب بالجنود فرأى قلعتها في أيدي بعض أعوان البغاة فرام محاصرتها فتحقق من فيها أن كل محصور مأخوذ ، فطلبوا الأمان من الوزير فأنزلهم بأمانه وكانوا نحو ألف رجل وكان معهم نساء ابن جانبولاذ ، وكان من أكابر الجماعة أربعة من رؤوس السكبانية فلما نزلوا بادروا إلى تقبيل ذيل

١٩٣

الوزير فأشار إلى النساء بالكن في مكان معلوم وفرق الرجال على أرباب المناصب وطلع إلى القلعة ورأى ما بها من أموال ابن جانبولاذ وتحفه الغزيرة فضبط ذلك كله لبيت المال ، ثم شرع يتجسس في حلب على الأشقياء وأتباعهم فقتل جملة من الأتباع ، وهجم الشتاء ففرق العساكر في الأطراف وشتى هو في حلب.

وأما ابن جانبولاذ فإنه خرج من ملطية وسار إلى الطويل العاصي في بلاد أناطولي وأراد أن يتحد معه فأرسل إليه الطويل يقول له : أنت بالغت في العصيان وأنا وإن كنت مسمى باسم عاص لكني ما وصلت في العصيان إلى رتبتك ، فرحل عنه بعد ثلاثة أيام وسار إلى العاصي المعروف بقرا سعيد ومعه ابن قلندر ، ولما وصل إلى جمعية هؤلاء العصاة تلقوه وعظموه وحسنوا فعلته مع العساكر السلطانية وأرادوا أن يجعلوه عليهم رئيسا فشرط عليهم شروطا فما قبلوها ، فاطمأن تلك الليلة إلى أن هجم الليل وأخذ عمه حيدر وابن عمه محمدا وخرج ولم يزل سائرا حتى دخل بروسه مع الليل وتوجه إلى حاكمها وأخبره بنفسه فتحير منه ، ولما تحقق ذلك قال له : ما سبب وقوعك؟ فقال : ضجرت من العصيان وها أنا ذاهب إلى الملك فأرسلني إليه في البحر ، فأرسله من طريق البحر ، فلما دخل دار السلطنة أعلم به السلطان فقال : أحضروه ، فلما حضر إليه قال له : ما سبب عصيانك؟ فقال له : ما أنا عاص وإنما اجتمعت عليّ فرق الأشقياء وما خلصت منهم إلا بأن ألقيتهم في فم جنودك وفررت إليك فرار المذنبين فإن عفوت فأنت لذلك أهل وإن أخذت فحكمك الأقوى ، فعفا عنه وأعطاه حكومة طمشوار في داخل بلاد الروم (في بلاد المجر) ونجا بذلك ولم يزل على حكومتها إلى أن عرض له أمر أوجب قتاله لرعايا تلك الديار. ولزم أنه انحصر في بعض القلاع في بلاد الروم فعرض أمره إلى باب السلطنة الأحمدية فبرز الأمر بقتله وعدم إخراجه من تلك القلعة ، فقتل وأرسل رأسه إلى باب السلطنة ، وكان ذلك في حدود العشرين وألف اه.

أقول : وإلى مراد باشا ينسب الجسر الواقع في قضاء الريحانية بالقرب من بحيرة السمك المعروفة الآن بالكوله ، ولعله هو الذي عمره أو أصلحه فنسب إليه.

سنة ١٠١٦

بعد أن استولى مراد باشا على حلب ولى عليها ديشنلك حسين باشا كما تقدم.

١٩٤

سنة ١٠١٧

كان الوالي على حلب في هذه السنة ملك محمد باشا ، ثم أمير أخور يوسف باشا كما في السالنامة.

سنة ١٠١٨

ذكر تولية حلب إلى كوجك سنان باشا

قال في خلاصة الأثر في ترجمة المذكور ما خلاصته : أن الوزير الأعظم مراد باشا لما أتى إلى الديار الحلبية لمحاربة ابن جانبولاذ استدعى من مصر نائبها كوجك سنان باشا وكان بينهما مودة أكيدة ، فورد إليه في حلب وهو مخيم هناك فجعله بمجرد قدومه أمير الأمراء في بلاد قرمان ، ثم توجه مع الوزير إلى توقات فولاه نيابة دمشق ، وبعد عزله من دمشق أعطي كفالة حلب وتوفي بعد ذلك ، والظاهر أن وفاته لم تتجاوز العشرين من هذا القرن بكثير.

ورأيت قطعة من ديوان لبعض شعراء الشهباء بخطه لم أعلم من هو فيها عدة قصائد مصدرة بقوله : (وكتبت بها ممتدحا حضرة سنان باشا الحاكم يومئذ بحلب وذلك في صفر من شهور سنة ١٠١٨ ذاكرا لنصرته على عرب الشام) :

قدومك للشهباء يا واضح البشر

بدا للورى من طيه طيب النشر

وأشرقت الآفاق شرقا ومغربا

بعدلك يا من عدله كوكب يسري

إلى حلب قد جئت فاخضرت الربا

وأصبح وجه الأمن مبتسم الثغر

وفرجت ضيق النفس من بعد جهدها

وقابلتها بالجبر في موقف الكسر

وأظهرت فينا سيرة العدل تبتغي

من الله أوفى الأجرفي الطي والنشر

وأنت الذي أعطيت أعظم رتبة

سمت فوق فرق الفرقدين مع النسر

وأصبحت ما بين الأنام مخصصا

بتأييد رب العرش بالعز والنصر

ونلت من الرحمن فضلا ونعمة

وإن نحصها جلت عن العد والحصر

رقيت إلى أوج المحامد صاعدا

إلى ذروة العلياء من غاية الفخر

وحزت لأصناف الكمال بأسرها

وأخلصت للرحمن في السر والجهر

تواضعت لما زادك الله رفعة

وخصك منه مِنة رفعة القدر

فرأيك بالتوفيق واليمن مقرن

وحكمك سيف الحق في النهي والأمر

١٩٥

لك المأثرات الغر يهدى بنورها

وكشف دياجي الخطب يا واحد العصر

لقد جمعت فيك الفضائل والتقى

فكل لسان ناطق لك بالشكر

فلا رتبة إلا وجاءت دليلة

إليك تجر الذيل مظهرة الفقر

وكم عسكر قد فر منك منكسا

على عقبيه بالهوان وبالخسر

ألست الذي بالأمس شتت جحفلا

من العرب الطاغين في السهل والوعر

وأوردتهم من مورد الذل منهلا

فأصدرتهم كأسا من الموت والأسر

وأوريت زند العزم يسطع نوره

وواريتهم طي الثرى بالقنا السمر

وأرويت حد البيض من معظم الطلا

وأشفيت غيظا كنَّ في داخل الصدر

وغادرتهم للطير طعما ومغنما

على الأرض صرعى في المهامه والقفر

نهرتهم بالسيف في الحرب فانثنت

دماؤهم كالنهر من عنقهم تجري

وقمت بأمر الحق تسحق فيهم

فسحقا لأصحاب السعير أولي المكر

وشردتهم في البيد أيَّ هزيمة

وشملهم المنظوم قد عاد في نثر

وأيدت بالنصر العظيم عليهم

وذلك سرّ الله يا مظهر السر

وكم وقعة فرجتها عند ضيقها

بحد سنان ضوءه كوكب دري

ودمت ترى في خير عز ورفعة

وشأن على الأيام باق مدى الدهر

بجاه خيار الرسل من نسل هاشم

وحرمة مولى العالم السيد الطهر

دواما فما غنى على الدوح ساجع

وما غردت في الروض صادحة القمري

سنة ١٠١٩

في هذه السنة ولي حلب محمود باشا كما في السالنامة.

سنة ١٠٢٤

في هذه السنة توفي العلامة الشيخ حسن البوريني الدمشقي شارح ديوان ابن الفارض ، وله رحلة إلى حلب ذكرها المحبي في ترجمته في جملة مؤلفاته ، وكان مجيئه إليها سنة خمس عشرة وألف جاءها حينما كان مخيما بها الوزير الأعظم مراد باشا وبشره أنه سيلي دمشق لرؤيا رآها ، وكان الأمر كذلك كما تقدم ، ذكر ذلك المحبي في ترجمة سنان باشا المذكور.

١٩٦

سنة ١٠٢٦

في هذه السنة ولي حلب قره قاش محمد باشا كما في السالنامة.

ذكر قتل الأمير حسين بن يوسف بن سيفا في حلب

قدمنا ذكر يوسف بن سيفا وأنه كان حاكم طرابلس وعكار وذكرنا وقائعه مع ابن جانبولاذ وأنه في آخر الأمر صاهره وأن ابن جانبولاذ زوج أخته لحسين ابن الأمير يوسف بن سيفا.

قال المحبي في ترجمته : ولي الأمير حسين بن يوسف بن سيفا في حياة والده كفالة طرابلس الشام ثم عزل عنها ثم وليّ كفالة الرها ثم تركها من غير عزل ، وقدم حلب وكافلها محمد باشا قره قاش فحضر الأمير حسين لديه مسلما عليه فأكرمه واحترمه ، ثم دعاه إلى وليمة فجاء مع جماعة قليلة فاحتاطت به جماعة قره قاش وأمرهم أستاذهم بالقبض عليه فمسكوه ورفعوه إلى القلعة مسجونا ووضع في مسجد المقام يحتاط به الحرسة ، فبعث قره قاش إلى السلطان يخبره بذلك ، وبلغ والده الخبر فبعث جماعته ووعد السلطان بمائة ألف قرش إن عفا عنه فلم يجبه إلى ذلك وبعث أمرا بقتله ، فجاء الجلاد فقال بقلب جريء وجنان قوي : أيليق أن أكون من الباشوات ويقتلني الجلاد ، ثم إنه أشار إلى رجل معظم من أتباع قره قاش أن يقتله وقال له : اصبر عليّ حتى أكتب مكتوبا إلى والدي وأوصيه بعض وصايا ، فكتب ورقة أوصاه بأولاده وعزاه في نفسه ، ثم صلى ركعتين واستغفر الله وقال : رب إني ظلمت نفسي وعملت سوءا بجهالة فتب علي إنك أنت التواب الرحيم ، ووضع محرمة نفسه في عنقه وأمر ذلك الرجل بخنقه فخنقه وبكى عليه جماعة كثيرة لحسنه وكونه شابا ، وكان شجاعا بطلا إلا أنه كان يبالغ في ظلم العباد. ثم أخرجت أمعاؤه ودفنت بتربة القلعيين وصبّرت جثته وأرسلت إلى والده فاستقبلها الرجال والنساء بالبكاء والصراخ والويل والثبور وصار يوم دخوله كيوم مقتل الحسين وقالت الغواني فيه المراثي يضربن وقت إنشاد أشعار مقتله بالدف بصوت حزين.

حكى قره قاش : إني كنت في خدمة السلطان أحمد وقد خرج إلى الصيد فعرضوا عليه طيور الصيد ثم جاؤوه بطير عظيم لا نظير له فتعجب منه وقال : من بعث هذا؟ قالوا : عبدك حسين باشا بن سيفا أمير الأمراء بطرابلس ، فقال السلطان : آه آه آه من

١٩٧

خيانة مماليكي الأمر لله إلى هذا الحين هذا الكافر بالحياة ، فأسرها قره قاش في نفسه وصاده بطيره ، وكان قتله في رابع عشري شهر ربيع الأول سنة ست وعشرين وألف وعمره قريب من الثلاثين رحمه‌الله تعالى اه.

أقول : لعل قره قاش هذا هو الظالم المشهور الذي يضرب بظلمه المثل إلى يومنا هذا فيقول الناس : (هذا حكم قره قاش) يقولونها كلما رأوا مسألة حكم بها الحاكم بغير حق أو أجحف في الحكم وكلما عامل وال من الولاة أو أمير من الأمراء أحدا من الرعية معاملة سيئة فظيعة نسأله تعالى إصلاح الراعي والرعية بمنّه وكرمه.

سنة ١٠٣١

ذكر تولية حلب لمحمد باشا

في السالنامة أن قره قاش محمد باشا تولى حلب من سنة ١٠٢٦ إلى سنة ١٠٤٠ ، وهذا سهو ويستبعد أن يلي وال هذه المدة. وقد رأيت في خلاصة الأثر أنه وليها في سنة إحدى وثلاثين وألف الوزير محمد باشا وقال في ترجمته : إنه كان ظالما ، وبعد أن عزل عن حلب ولي مدينة آدنة وأساء الحكم فيها حتى حرج على البضائع كلها فلا يبيعها جلابها إلا لمن عيّنه من جماعته ثم تباع للسوقة بعد ذلك ، ثم ذكر أن وفاته كانت سنة ثلاث وثلاثين وألف ولم نعثر على من وليها بعد قره قاش محمد باشا إلى سنة ١٠٤٠ على غير الوزير محمد باشا كما قدمناه.

ثم رأيت في قاموس الأعلام في ترجمة كورجي محمد باشا أنه وجهت عليه رتبة الوزارة سنة ١٠٣٧ وعيّن واليا على دمشق ثم ديار بكر ثم حلب ثم الشام ثم أرضروم ، ثم في سنة ١٠٦١ أودع إليه ختم الصدارة ، وبعد سنة ١٠٤٠ إلى سنة ١٠٦١ ليس في السالنامة من تسمى بمحمد ، فيغلب على الظن أن ولايته لحلب كانت في سنة تسع وثلاثين وألف وعزل عنها ثم ولي مرتضى نوغاي باشا.

سنة ١٠٤٠

في هذه السنة كان الوالي في حلب مرتضى نوغاي باشا وبقي إلى سنة ١٠٤٣ كما في السالنامة.

١٩٨

سنة ١٠٤٢

ذكر الطاعون في هذه السنة

في هذه السنة صار طاعون في حلب صار الغاسلون لا يتفرغون للغسل ، وكذلك الحمالون والحفارون ، وبلغ أجرة الحمل دينارا ويحمل الميت أهله وجيرانه ومعارفه ، وكان الإنسان إذا خرج من بيته لا يرى سوى الجنائز على عرض الطريق ما عدا من وضعوا للصلاة عليهم وما عدا من يجهزون وما عدا المرضى ، وكان يخرج من باب واحد من أبواب البلد أثناء شدته ألف جنازة وأزيد ، وخرج في يوم واحد ألف وثمانمائة جنازة اه. من رسالة في كراستين بقلم السيد عبد الله بن قاسم الفنصاوي الحلبي المتوفى أواسط القرن الثاني عشر. قال في الكراسة الأولى : الباب الأول في الطاعون وفيه سبعة أبحاث ذكرها ، ثم قال : السابع فيما وقع منه في البلاد والآفاق.

وقال في الكراسة الثانية : الباب الثاني في الغلاء والرسالة لا أول لها ولا آخر وهي بخطه.

الكلام على الرخام المفروش في صحن الجامع الأموي

قال في كنوز الذهب : وأما الرخام المفروش في وسط صحنه فالأصفر منه قطع من معدن بعادين خارج حلب من شماليها ، وبعادين والعافية من منتزهات حلب ، وقد خرج إلى بعادين والعافية البليغ المعري المذكور في وقائع الفرنج في نصر ابن صالح مع أقوام من أهل حلب فتعب فأنشد :

يا فرجة ما مر بي مثلها

عدمت فيها العيشة الراضية

زرت بعادين ولكنني

عدمت في العافية العافيه

وهذا المعدن لا يوجد إلا في حلب ومنه ينقل إلى سائر البلاد كدمشق والقاهرة ، وأما الحجر الأسود فإنه قطع من الأحصّ من معدن هناك وهو غاية في حسن التركيب والجودة والأشكال المختلفة ، والشكل الذي قدام باب الجامع الشرقي إلى نحو القبلة هو صفة مدينة النحاس (هكذا قال) فإذا دخلت من باب من أبوابه لا يمكنك أن ترجع إليه في غير الطريق الذي دخلت منه ، وهذا الرخام الموجود في سنة أربع وسبعين وثمانمائة الذي

١٩٩

تكلمنا غير الرخام القديم بل هو رابع ترخيم وضع فيه لأن رخامه القديم نقل كما تقدم والمتجدد بعده غير ما مرة تكسر من التتار وهو باق تحت هذا الراخام اه.

تجديد بلاطه في هذا العام :

وفي هذه السنة جدد بلاط الجامع الأعظم رجل يقال له زين الدين بك ، وفي ذلك يقول بعضهم :

صاحب الخيرات زين الدين بك

مذ تحقق أن إلى الله المصير

أنبل الخيرات في شهبائنا

جاره الرحمن من حر السعير

زين الجامع في ترخيمه

جاء في تاريخه خير كثير

١٠٤٢

وقال الشيخ أبو الوفا العرضي مؤرخا له أيضا بقوله :

قد زان زين الدين ماجده عصره

آثار خير للقيامة باقيه

أنشا لجامعنا الكبير بلاطه

لله مولاه بنفس راضيه

وبنى لنا الحوضين يجرى منهما

للمسلمين عيون ماء جاريه

هذا له يوم الحساب ذخيرة

وذخائر الأعمال تبقى زاكيه

لقبولها نادى البشير مؤرخا

صدقات زين الدين يهنا جاريه

١٠٤٢

وهذا البلاط باق إلى يومنا هذا وهو من أحجار ملونة رصفت ترصيفا محكما ، وإذا نظرت إليه من أعلى منارة الجامع أراك منظرا لطيفا حسنا.

سنة ١٠٤٣

مجيء السردار محمد باشا وقتله مرتضى نوغاي باشا

وتولية حلب إلى أحمد باشا

قال مصطفى نعيما : في جمادى الآخرة من هذه السنة وصل إلى الديار الحلبية السردار محمد باشا فاستقبله بالقرب من قلعة بغراس والي حلب نوغاي باشا ، واستقر السردار بحلب فرأى من نوغاي باشا توانيا وتساهلا في القبض على بعض المفسدين

٢٠٠