إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٣

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٣

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٧

كرتباي وأخبره بأن قيسارية وعينتاب عصوا علينا وأرادوا قتالنا ومالوا مع السلطان سليم وأن طلائع عسكره قد أقبلت ، فارتج عسكر مصر لذلك ووقع الخلل فيهم.

رجوع الأمير مغلباي من عند السلطان سليم

قال ابن إياس : ما زال السلطان الغوري يكذب في أمر السلطان سليم شاه تارة ويصدق أخرى إلى أن حضر الأمير مغلباي دوادار سكين من عنده وهو في حال نحس بزنط أقرع على رأسه وعلى بدنه كبر عتيق وهو راكب على إكديش هزيل وقد نهب جميع بركه وأخذت خيوله وقماشه وأخبر أن ابن عثمان أبى الصلح وقال له : قل لأستاذك يلاقينا على مرج دابق وأخبره أنه وضعه في الحديد وقصد أن يحلق لحيته (يظهر أن هذا أصح مما تقدم عن المحلي أنه فعل ذلك) وقدمه إلى الشنق ثلاث مرات فشفع فيه بعض وزرائه وحمله الزبل من تحت خيله في قفة على رأسه وقاسى منه من الهوان والأهوال ما لا خير فيه ، فلما سمع السلطان هذه الحكاية تحقق وقوع الفتنة بينه وبين ابن عثمان ، فقيل إنه أنعم على مغلباي بألف دينار وخيول وقماش في نظير ما ذهب له.

خطيب الجامع الكبير بحلب

مدة إقامة السلطان الغوري بها

قال ابن إياس : إن السلطان لما دخل إلى حلب رسم لقاضي القضاة كمال الدين الطويل بأن يخطب في الجامع الكبير الذي بحلب ، فاجتمع الجم الكثير من أهل حلب في الجامع المذكور فخرج قاضي القضاة كمال الدين الطويل ورقي المنبر وخطب خطبة بليغة وأورد أحاديث شريفة في معنى الصلح ، وأذن المؤذنون بالجامع وقرؤوا حزب السلطان هناك وعمل الوعاظ وكان يوما مشهودا بالجامع المذكور ، ولم يحضر السلطان ولم يصل صلاة الجمعة هناك كما فعل بدمشق ، فعابوا عليه ذلك ، وكان قاضي القضاة كمال الدين يخطب بالجامع الكبير مدة إقامة السلطان بحلب.

١٢١

أسعار القوت ذلك الحين في حلب

قال ابن إياس : ورد كتاب من أمير المؤمنين إلى والده أمير المؤمنين يعقوب فيه أخبار ما كان من الحوادث وذكر فيه عن أمر الأسعار في حلب فقال : الشعير كل إردب بسبعة وعشرين نصفا والخبز كل رطل بثلاثة دراهم والجبن بنصفين الرطل واللحم بتسعة دراهم كل رطل مصري والدبس بنصف فضة الرطل المصري ، وتناهى سعر القمح إلى أشرفيين كل إردب والكرسنة عليق الجمال بمائة وأربعة وعشرين درهما الإردب.

إنعام السلطان الغوري وهو بحلب

على أمرائه وجيوشه بالرتب والدنانير

وتحليفه لأمرائه الأيمان على عدم الخيانة

قال ابن إياس : ومن الحوادث التي وقعت من السلطان بحلب أنه أنعم على قانصوه نائب حلب بتقدمة ألف وعلى يوسف الناصري شاد الشرابخانة الذي كان نائب حماة وعلى طراباي نائب صفد وعلى تمراز نائب طرابلس ، ومنها أنه أنفق على أولاد الناس الذين توجهوا صحبته بلا نفقة لكل واحد منهم ثلاثون دينارا ، وكان رسم لهم قبل ذلك لكل واحد بخمسين دينارا فعارض في ذلك كاتب المماليك وجعلها ثلاثين دينارا ، وصرف للعسكر ثمن اللحم عن ثلاثة شهور. ثم إن السلطان فرق على مماليكه الجلبان من حواصل قلعة حلب عدة سلاح لم يعبر عنها وفرق عليهم خيولا مالها عدد ، وصار ينعم عليهم بالعطايا الجزيلة من مال وخيول خاص وسلاح بطول الطريق ولم يعط المماليك القرانصة شيئا ، فعز ذلك عليهم في الباطن.

ثم إن السلطان قرأ ختمة في الميدان الكبير بحلب يوم الخميس مع ليلة الجمعة وحضر أمير المؤمنين المتوكل على الله والقضاة الأربعة ومشايخ الزوايا وصلى أمير المؤمنين بالسلطان في الخيمة صلاة العصر وصلاة المغرب ، وأنعم السلطان في ذلك اليوم بأربعمائة دينار ومائة رأس غنم ، وأنعم على قاضي القضاة الشافعي بسبعين دينارا وعلى نوابه ومن معه من العلماء بسبعين دينارا والقاضي الحنفي كذلك ، وأنعم على القاضي المالكي بخمسين

١٢٢

دينارا وعلى نوابه الثلاثين بثلاثين دينارا ، وأنعم على الفقراء الذين سافروا صحبته لكل واحد منهم عشرة دنانير ، وأنعم على القراء الذين حضروا هذه الختمة من قراء حلب وغيرها لكل واحد خمسة دنانير.

وفي عقيب ذلك أحضر السلطان الأمراء المقدمي الألوف والنواب والأمراء الطبلخانات والأمراء العشراوات وحلفهم على المصحف الشريف بأنهم لا يخونونه ولا يغدرونه ، فحلفوا كلهم على ذلك ، ثم نادى للعسكر بالعرض في الميدان الذي بحلب فعرضوا وهم باللبس الكامل وأدخلهم من تحت سيفين على هيئة قنطرة كما هي عادة الأتراك وعندهم أن هذا هو القسم العظيم.

وقال المحلي : جمع السلطان الأمراء والأعيان وتحالفوا على أن لا أحد منهم يخون صاحبه وأن يكونوا على قلب رجل واحد ويقاتلوا عدوهم بعد أن كان غالب العسكر ما يظن إلا الصلح بين السلطان سليم وبين شاه إسماعيل.

وأما يونس نائب عينتاب فإنه ندم على فعله مع كرتباي (الذي توجه للكشف ومر على عينتاب فأظهر له النائب ميله إلى السلطان سليم) وقال في نفسه ربما تكون النصرة لهم فلا آمن على نفسي ولكن أجعل لي معهم وجها ، وركب من ساعته إلى أن تمثل بين يدي الغوري وزعم أن السلطان سليما قبض عليه وأنه هرب منه وجاء إلى مولانا السلطان مساعدا له على عدوه ، فلم تنطل حيلته على السلطان ، ثم أمر بتوسيطه في الوقت والساعة فوسط والأمراء والأعيان كلهم مجتمعون ، فقام من بينهم الأمير سيباي نائب الشام وقبض على خاير بك نائب حلب وجره من طوقه بين يدي السلطان الغوري وقال : يا مولانا السلطان إذا أردت أن الله ينصرك على عدوك فاقتل هذا الخائن ، وكان خاير بك في يده كالشاة بين يدي السبع وهو يجره ، فقام الأمير جانبر دي الغزالي وقال : يا مولانا السلطان لا تفتن العسكر وتبدأ في قتال بعضهم بعضا وتذهب أخباركم إلى عدوكم ويزداد طمعه فيكم وتضعف شوكتكم والرأي لكم ، وتأخر في مكانه وهذه مكيدة من الغزالي وإلا كان خاير بك قد هلك ، فعند ذلك أمرهم السلطان أن يتحالفوا ثانيا وأن لا يخون منهم أحد والخائن يجازيه الله تعالى وعليه لعنة الله. ثم أمر السلطان أن ينادى في حلب بالرحيل منها بالعسكر لقتال السلطان سليم وأن يتأهب كل واحد ويستفيق لنفسه ، وكان ذلك في يوم الجمعة ثاني رجب سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة وكان له موكب حتى رجت الأرض وليس الخبر

١٢٣

كالعيان. وكان الجلبان ثلاثة عشر ألف مملوك كلهم مشترى الغوري ولا واحد منهم إلا ويعرف سائر أنواع الحرب والفروسية فإنه كان مجتهدا في تعليم الجلبان ، وكان قصده أن ينشىء له عسكرا من مماليكه الذين يشتريهم ويقطع القرانصة وهم مماليك الملوك الذين قبله ، وكان يحسب حسابهم خوفا من أن يمكروا به كما فعلوا بمن قبله ، وكان آخذا حذره ولكن الحذر لا ينفع من القدر.

قال المحلي : لما أمر الغوري بالخروج إلى الحرب خرج جميع العسكر وأدعوا جميع أموالهم عند أهل حلب بعد أن كدروا عليهم غاية التكدير وآذوهم غاية الأذى ، فلما خرجوا من عندهم دعا عليهم الكبير والصغير والغني والفقير لما حصل لهم من الضرر منهم.

خروج عسكر السلطان الغوري من حلب إلى حيلان

قال ابن إياس : ثم إن السلطان أنعم على الأمير عبد الرزاق وولاه على إقليم أولاد دلغادر ، فخرج من حلب وصحبته ملك الأمراء خاير بك في موكب حافل ، فخرج نائب حلب وأمراؤها وعساكرها ونزلوا عن حلب بيوم وصحبتهم من المشاة خمسة آلاف ماش.

ثم خرج بعدهم ملك الأمراء سيباي نائب الشام وتمراز نائب طرابلس وطراباي نائب صفد ونائب حمص ونائب غزة فخرجوا من حلب يوم السابع عشر من شهر رجب وقد أشيع أن ابن عثمان ماش من جهة وابن سوار ماش من جهة. ثم خرج السلطان من ميدان حلب يوم الثلاثاء في العشرين من رجب بعد أن صلى الظهر وصحبته أمير المؤمنين المتوكل على الله والقضاة الأربعة ، وكان قد تقدمه نائب الشام ونائب حلب وجماعة من النواب فخرجوا بأطلاب حربية وطبول وزمور ونفوط حتى رجت لهم حلب ، فلما خرج السلطان من حلب توجه إلى حيلان فبات فيها.

١٢٤

توجه السلطان الغوري من حيلان إلى مرج دابق

والملحمة العظمى فيه

قال ابن إياس : صبيحة يوم الأربعاء في الحادي والعشرين من رجب رحل السلطان الغوري من حيلان وتوجه إلى مرج دابق فأقام به إلى يوم الأحد الموافق للخامس والعشرين من رجب ، فلم يشعر إلا وقد دهمته عساكر السلطان سليم شاه ، فصلى صلاة الصبح ثم ركب وتوجه إلى زغزغين و (تل رفاد) قيل إن هناك مشهد نبي الله داود عليه‌السلام ، فركب السلطان وهو بتخفيفة وملوطة على كتفه طبر وصار يرتب العسكر بنفسه ، وكان أمير المؤمنين على الميمنة وهو بتخفيفه وملوطة وعلى كتفه طبر مثل السلطان وعلى رأسه الصنجق الخليفتي ، وكان حول السلطان أربعون مصحفا في أكياس حرير أصفر على رؤوس جماعة أشراف وفيها مصحف بخط الإمام عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ، وكان حول السلطان جماعة من الفقراء وهم خليفة سيدي أحمد البدوي ومعه أعلام والسادة الأشراف القادرية ومعهم أعلام خضر وخليفة سيدي أحمد بن الرفاعي ومعه أعلام والشيخ عفيف الدين خادم السيدة نفيسة رضي‌الله‌عنها بأعلام سود ، وكان الصبي قاسم بك (١) بن أحمد بك بن عثمان واقفا بإزاء الخليفة وعلى رأسه صنجق حرير أصفر وقيل أحمر ، وكان الصنجق

__________________

(١) قال ابن إياس : قاسم بك هو من سلالة آل عثمان وهو ابن أحمد بك بن بيازيد وهو ابن أخي السلطان سليم ، وكان عمه السلطان سليم لما قتل أخاه أحمد بك فرّ ابنه قاسم هذا هو ولالاه ودخل إلى حلب في الخفية ثم جاء إلى مصر وأقام بها إلى أن خرج السلطان الغوري إلى جهة البلاد الشامية فأخذه صحبته ليبلغ بذلك مقاصده فلم يفد من ذلك شيئا ، وكان عمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة وكان السلطان قد قام له بمصالح البرق وتكلف عنه بنحو ألفي دينار حتى يظهر أمره ويشاع ذكره في بلاد بني عثمان بأن في مصر من أولاد بني عثمان ولدا ذكرا ، وظن السلطان أن عسكر ابن عثمان إذا سمعوا ذلك يخامرون على سليم شاه ويأتون إلى هذا الصبي قاسم بك فلم يظهر لهذا الأمر نتيجة ولا أفاد شيئا.

١٢٥

السلطاني خلف ظهر السلطان بنحو عشرين ذراعا وتحته مقدم المماليك سنبل العثماني والسادة القضاة الأربعة والأمير تمر الزردكاش أحد المقدمين ، وكان على ميمنة العسكر الأمير سيباي نائب الشام وعلى الميسرة خاير بك نائب حلب ، فقيل أول من برز إلى القتال في الميدان الأتابكي سودون العجمي وملك الأمراء سيباي نائب الشام والمماليك القرانصة دون المماليك الجلبان فقاتلوا قتالا شديدا هم وجماعة من النواب فهزموا عساكر ابن عثمان وكسروهم كسرة مهولة منكرة وأخذوا منهم سبع صناجق وأخذوا المكاحل التي على العجل ورماة البندق ، فهم ابن عثمان بالهرب أو بطلب الأمان وقد قتل من عسكره فوق العشرة آلاف إنسان وكانت النصرة لعسكر مصر أولا ، لكنه قد بلغ المماليك القرانصة أن السلطان قال للمماليك الجلبان : لا تقاتلوا لا تقاتلوا أبدا وخلوا المماليك القرانصة يقاتلون وحدهم. فلما بلغهم ذلك ثنوا عزمهم عن القتال ، فبينما هم على ذلك وإذا بالأتابكي سودون العجمي قتل في المعركة وقتل ملك الأمراء سيباي نائب الشام فانهزم في الميمنة من العسكر جانب كبير. ثم إن خاير بك نائب حلب انهزم وهرب فكسر الميسرة وأسر الأمير قانصوه بن سلطان جركس وقيل قتل ، وقيل إن خاير بك كان موالسا على السلطان الغوري في الباطن وهو مع ابن عثمان على السلطان وقد ظهر مصداق ذلك فيما بعد فكان أول من هرب قبل العسكر قاطبة وأظهر الهزيمة ، وكان ذلك من الله تعالى خذلانا لعسكر مصر حتى نفذ القضاء والقدر وصار السلطان واقفا تحت الصنجق في نفر قليل من المماليك فشرع ينادي : يا أغوات هذا وقت المروءة هذا وقت النجدة ، فلم يسمع له أحد قولا وصاروا يتسحبون من حوله وهو يقول للفقراء : ادعوا الله تبارك وتعالى بالنصر فهذا وقت دعائكم ، وصار لا يجد له معينا ولا ناصرا فانطلقت في قلبه جمرة نار لا تطفأ ، وكان ذلك اليوم شديد الحر وانعقد بين العسكرين غبار حتى صاروا لا يرى بعضهم بعضا وكان نهار غضب من الله تعالى قد انصب على عسكر مصر وغلت أيديهم عن القتال وشخصت منهم الأبصار.

ولما اضطربت الأحوال وتزايدت الأهوال خاف الأمير تمر الزردكاش على الصنجق السلطاني فأنزله وطواه وأخفاه ، ثم تقدم إلى السلطان وقال : يا مولانا السلطان إن عسكر ابن عثمان قد أدركنا فانج بنفسك إلى حلب ، فلما تحقق السلطان ذلك غلبه في الحال خلط فالج أبطل شقه وأرخى حنكه ، فطلب ماء فأتوه بماء في طاسة من ذهب فشرب منه

١٢٦

قليلا وألفت فرسه على أنه يهرب فمشى خطوتين وانقلب عن الفرس إلى الأرض فأقام نحو درجة وخرجت روحه ومات من شدة قهره ، وقيل فقئت مرارته وطلع من حلقه دم أحمر. فلما أشيع موته زحف عسكر ابن عثمان على من كان حول السلطان فقتلوا الأمير بيبرس أحد المقدمين وقتلوا جماعة من الخاصكية وغلمان السلطان ممن كان حوله.

وأما السلطان من حين مات لم يعلم له خبر ولا وقف له على أثر ولا ظهرت جثته بين القتلى فكأن الأرض قد ابتلعته في الحال وفي ذلك عبرة لمن اعتبر ، فداس العثمانية وطاق الغوري بما فيه من الأمتعة والأرزاق التي كانت حوله بأرجل الخيول وفقد المصحف العثماني وداسوا أعلام الفقراء وصناجق الأمراء ووقع النهب في أرزاق عسكر مصر وبرقهم وزال ملك الأشرف الغوري في لمح البصر فكأنه لم يكن فسبحان من لا يزول ملكه ولا يتغير ، فاضمحل أمره وزال ملكه بعد ما تصرف في ملك مصر وأعمالها والبلاد الشامية وأعمالها ، وكانت مدة سلطنته خمس عشرة سنة وتسعة أشهر وعشرين يوما وكان الناس معه في هذه المدة في غاية الضنك ، وقد قلت في المعنى :

اعجبوا للأشرف الغوري الذي

مذ تناهى ظلمه في القاهره

زال عنه ملكه في ساعة

خسر الدنيا إذا والآخره

وقد أقامت هذه الواقعة من طلوع الشمس إلى ما بعد الظهر وانتهى الحال إلى الأمر الذي قدره الله تعالى فقتل في تلك الوقعة من عسكر السلطان ابن عثمان ومن عسكر السلطان الغوري ما لا يحصى عدده ، فقتل من الأمراء المقدمين ثلاثة وهم الأتابكي سودون العجمي وبيبرس قريب السلطان وأقباي الطويل وأسروا قانصوه ابن السلطان جركس وقتل سيباي نائب الشام وتمراز نائب طرابلس وطراباي نائب صفد وأصلان نائب حمص وغير ذلك جماعة كثيرة من أمراء دمشق وأمراء حلب وطرابلس ، وقتل من أمراء مصر جماعة كثيرة من أمراء الطبلخانات والعشروات والخاصكية ، وأكثر من قتل من عسكر مصر المماليك القرانصة ولم يقتل من مماليك الجلبان إلا القليل فإنهم لم يقاتلوا في هذه الواقعة ولا ظهر لهم فروسية ولا جذبوا سيفا ولا هزوا رمحا فكأنهم خشب مسندة ، وقتل من أمراء مصر ودمشق وحلب فوق الأربعين أميرا ، وقتل في ذلك اليوم القاضي ناظر الجيش عبد القادر القصروي وجماعة كثيرة من الجند ، وكانت ساعة يشيب منها الوليد ويذوب لسطوتها الحديد ، فكان مرج دابق فيه جثث مرمية وأبدان بلا رؤوس ووجوه معفرة بالتراب قد تغيرت

١٢٧

محاسنها ، وصار في ذلك المكان خيول مرمية موتى وسروج مفرقة وسيوف مسقطة بذهب وبركستونات فولاذ بذهب وخوذ وزرديات وبقج قماش فلم يلتفت إليها أحد وكل من العسكرين قد اشتغل بما هو أهم من ذلك.

ثم إن السلطان سليما زحف بعسكره وأتى إلى وطاق السلطان فنزل في خيامه وجلس في المدورة واحتوى على الطشتخاناه وما فيها من الأواني الفاخرة وعلى الزردخاناه وما فيها من السلاح وعلى خزائن المال والتحف ، ونزل كل أمير من أمرائه في وطاق أمير من أمراء الغوري واحتوى على ما فيها فاحتوى على وطاق خمسة عشر أميرا مقدمي ألوف خارجا عن أمراء الطبلخانات والعشراوات ، واحتوى العسكر على خيام العسكر المصري والشامي والحلبي وغير ذلك. ولم يقع قط لأحد من سلاطين مصر مثل هذه الكائنة ومات تحت صنجقه في يوم واحد وانكسر على هذا الوجه أبدا ولا سمع بمثل ذلك ونهب ماله وبركه بيد عدوه غير قانصوه الغوري وكان ذلك في الكتاب مسطورا ، وكان السلطان والأمراء ما منهم أحد ينظر في مصالح المسلمين بعين العدل والإنصاف فردت عليهم أعمالهم ونياتهم وسلط عليهم ابن عثمان حتى جرى لهم ما جرى كما قيل في المعنى :

أين الملوك الألى في الأرض قد ظلموا

والله منهم لقد أخلى أماكنهم

ما ذكره المحلي في تاريخه في تفصيل هذه الملحمة

قال : التقى الجمعان في مرج دابق وباتوا تلك الليلة على غير حرب ولكن لم يهنأ لأحد منهم نوم خوفا من مكر بعضهم لبعض.

ولما اتضح نهار يوم الأحد الموافق للثالث والعشرين من رجب (تقدم أنه كان موافقا للخامس والعشرين منه) ركبوا كالبحر الزاخر فإذا صفوف العثمانية قد بانت صفا بعد صف خارجا عن الوصف والأعلام الملونة من اليسار والميمنة وهم سائرون كالبحر السيال وقد رتبوا الصف من كل طرف ، ثم طيروا من الطرف الكبير الذي فيه السلطان سليم مدفعا كبيرا كالبرق الخاطف والرعد القاصف تزلزلت منه تلك الصحراء وطلع دخان كالجبال الزرقاء ، فكان أول من بادر العثمانية بالحرب من طائفة الجراكسة أصلان بن بداق نائب حمص أخذ قنطاريته بيده وأطلق عنان جواده وصار يطعن في الفرسان يمينا وشمالا ، فلما

١٢٨

رأى الأمراء فعل أصلان بن بداق في حملته أخذتهم الحمية فحمل الأمير سيباي نائب الشام ثم حمل أمير كبير سودون العجمي ومماليكه خلفه نحو الألف ملبسين ، ثم حمل الأمير جانبلاط أبو ترسين ثم الأمير علان دوادار ثاني ، ثم حمل قانصوه ابن السلطان جركس ، ثم حمل كرتباي الوالي وكان فارس المنايا لله دره من شجاع ، ثم حمل تمر الزردكاش وبخشباي أمير مجلس والأمير أنسباي حاجب الحجاب والأمير قانصوه كارت والأمير تاني بك الخازندار والأمير تاني بك النجمي والأمير بيبرس ابن عم السلطان الغوري والأمير قانصوه أبو سنة والأمير الفاخر والأمير خير بك المعمار والأمير جانبر دي نائب بيروت والأمير جانبر دي الغزالي وخير بك نائب حلب ، وكلاهما كانا رأس المتعصبين على الغوري ، والأمير تمراز نائب طرابلس ، وحملوا جماعتهم حملة واحدة وصادموا الروم ومالوا في القتال والروم الآخرون لاقوهم كالأسود. قال الشيخ أحمد بن زنبل المحلي : ولم نر في التواريخ القديمة والحديثة وقعة مثل هذه الوقعة ولا اجتمع فيها مثل هذين العسكرين ولا أكثر عددا. قال : ولم يقاتل في هذا اليوم من الجراكسة أكثر من ألفي فارس وهم الأمراء الذين قدمنا ذكرهم وأتباعهم.

وأما جلبان الغوري الذين هم مشتراه فلم يتحركوا من مواضعهم ولم يهزوا رمحا ولا جذبوا سيفا ، وسبب ذلك أن الله تعالى لما أراد إزالة دولتهم أوقع فيهم الخلف لأمر يقضيه وحكم يمضيه ، وعلى ما قيل إن السلطان الغوري أمر بأن أول مرة يخرج للحرب القرانصة لكونهم أعرف بالحرب من الجلبان ، وكان قصده أن ينقطع القرانصة ليكتفي شرهم ويصفو له الوقت وكان يحسب حسابهم خوفا من مكرهم. فأمر بتقديمهم للحرب وأخر جلبانه ، فعلموا مكره لما رأوه واقفا هو وجلبانه لم يتحرك منهم أحد عن موضعه ، فتغيرت نياتهم عليه وقالوا له : نحن نقاتل بأنفسنا مع النار وأنت واقف تنظر إلينا كالعين الشامتة ما تأمر أحدا من مماليكك يخرج للميدان ، فكان العسكر كله مختلفا في بعضه مفسود النية ليس لهم رأي يرجعون إليه ولا تدبير يقفون عليه ، بل كل من تكلم بكلام يقول الآخر ضده فمن ذلك انخرم نظامهم.

وأما الأمراء الذين تقدم ذكرهم نحو الألفين هم ومن يلوذ بهم اعتمدوا على الله تعالى في حملاتهم وأخلصوا في نياتهم وصدموا الروم وضرب الروم بالمدافع والبندقيات حتى صار النهار كالليل الحالك من كثرة الدخان والغبار من حوافر الخيل لأنهم كانوا يقاتلون من قلب رجل واحد ونيات متفقة ليس لأحد منهم في قلبه غل ولا مكر ولا حسد لأحد ، وهذا أحسن ما يكون لمن يريد النصر.

١٢٩

ومن أعجب ما يكون من العجب أن هؤلاء القوم القريبين من الألفي فارس المتقدم ذكرهم من الجراكسة يقاتلون قتال الموت في نحو مائة وخمسين ألفا من الروم والترك ما بين ألوف مشاة ومثلهم خيالة من عسكر الروم ، ثم حطموا عليهم حطمة واحدة ، وبينما هم كذلك وإذا بالسلطان سليم رمح حصانه من قلب الصف الكبير حتى وصل إلى الصف الوسطاني وفي يده سيف عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه وصاح في عسكره : هكذا تعاركون قدامي مع عدوي ، وصاح في البشوات ، فلما نظر الروم إلى ذلك ردوا على الجراكسة كالبحر إذا سال بعرض الوادي فتراجع الجميع وأطلقوا المدافع والبندقيات وحملوا على الجراكسة وصاحوا الله الله فكانت الكسرة على الجراكسة ، وطيروا الجراكسة والعربان والمشاة مثل القطر في الثرى وصار النهار مثل القيامة الكبرى ، وكان يجيء كل مدفع على نحو خمسين أو ستين أو مائة نفس فصارت تلك الصحراء كالمجزرة من الدماء ، ومازال الروم والسلطان سليم سائرين حتى جاؤوا الى صف الغوري فرجع خير بك والغوالي مع من انهزم من الجراكسة حتى دخلوا وطاق الغوري ونادوا : الفرار الفرار فإن السلطان سليما أحاط بكم وقتل الغوري والكسرة علينا وانثنى طالبا حلب ، فتبعه الجلبان وتشتت العسكر وظنوا أن السلطان قتل كما قال خير بك ، وإنما فعل ذلك بغضا ومكيدة مع الغوري والسلطان الغوري واقف مكانه وحوله بعض الجلبان القريبين منه ، وأما الذين كانوا بعيدين عنه فإنهم ظنوا أنه قتل فانهزموا مع خير بك قاصدين حلب.

فلما علم الغوري بما جرى لعسكره من التشتت صار ينادي عليهم بأعلى صوته : يا أغوات الشجاعة صبر ساعة ، فلم يلتفت إليه أحد منهم وكان أمر الله قدرا مقدورا ، وكل ذلك بغضا منهم لسلطانهم فإنه كان يريد أن يقطع القرانصة شيئا فشيئا ثم يستقل هو بجلبانه ويصفو له الوقت والسلطنة.

ثم تقدم إليه الأمير سودون العجمي أمير كبير وقال له : يا مولانا السلطان أين جلبانك؟ أين خاصتك؟ هكذا عملت بنا ولا زلت قائما في حظ نفسك حتى أهلكت نفسك وأهلكتنا معك ، ولكن القيامة تجمع بيننا وبينك وسنقف بين يدي مولانا سبحانه وتعالى يحكم بيننا بالعدل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم التفت عن يمينه فوجد الأمير سيباي والأمير أقباي الطويل والأمير علان والأمير أصلان بن بداق ومن يشبه هؤلاء من

١٣٠

القرانصة الأعيان وهم واقفون متجهزون فإن جيشهم انكسر قهرا وما عسى أن تقاتل مائة نفس إلى مائة وثمانين ألف نفس ، ولكنهم مع قلتهم أوقفوا هذا الجيش العظيم ولم يقدر أحد منهم أن يتقدم. ثم عييت هذه الطائفة القليلة من الضرب والقتل [والكثرة تغلب الشجاعة] وما زال الغوري حتى بقي وحده وخلفه حامل السنجق أمير اللواء وكان رجلا كبير السن من مماليك إينال الأجرود ، فمن شدة ما حصل للغوري من القهر وقع على الأرض مغشيا عليه.

ذكر قطع رأس السلطان قانصوه الغوري

قال المحلي : فلما وقع السلطان الغوري على الأرض رمى حامل السنجق الرمح وأخذ القماش المطرز وكان يساوي ثلاثة آلاف ذهب فقال الأمير علان لأقباي الطويل : ما ترى في أمر السلطان؟ قال له : قل ما عندك ، قال : إن نحن تركناه ورحنا وخليناه يأتي الأعداء فيقتلونه ويأخذون رأسه يطوفون بها جميع بلاد الروم ، قال : فما الرأي؟ قال : الرأي أن نقطع رأسه ونرمي بها في هذا الجب والجثة بلا رأس لا يعرفها أحد ، قال : نعم الرأي ، فأمر الأمير علان عبدا من عبيده فقطع رأس السلطان الغوري ورمى بها في جب هناك ، ثم ولى الأمير علان إلى ناحية حلب.

وأما الأمير أقباي الطويل فإنه طلب ناحية العجم وأقام بها إلى أن مات. وأما الأمراء الذين التهوا بالقتال مع الروم فإنهم فاض عليهم بحر المنايا وزاد وابتلوا بعساكر ملأت السهل والواد. واجتمع عليهم ذلك الجمع الكثير وخاضت خيولهم في بطون القتلى فقاتلوا قتال من قطع من الدنيا أمله ، فقصدهم الرماة بالبندق فوقع الأمير سيباي والأمير سودون العجمي. وأما الأمير قانصوه ابن السلطان جركس فإنه ما زال يضرب بالسيف حتى خرق عسكر الروم وطلع من ذلك الجانب على حمية ، فلما خلص شم الهواء وردت روحه إليه بعد أن كان يئس من الحياة. والف حسنة لرجل خرج من بين ألوف ولكن إذا جاء أمر الله قضى بالحق ولا راد لما قضاه الله ، فإنه وقع في نهر هناك ينبت فيه عرق السوس فالتفت على قوائم الفرس فغرق وكانت عسكر الروم تنظر إليه على بعد ، فلم رأوه في هذه الحالة طمعوا فيه وأحاطوا به فقبضوه وعروه من الملبس وقطعوه بسيوفهم.

١٣١

وأما الأمراء فمنهم من تشتت في البلاد ومنهم من قتل وانهزمت تلك الجموع فتمكن عسكر السلطان سليم من أوطاق الغوري وأخذوا كل ما فيه وكان شيئا يفوق الوصف من الذهب والفضة والقناطير المقنطرة ومن البرق والملبوس والتحف التي جمعتها الملوك السالفة ذهبت كلها ونهبت في يوم واحد ، وذلك بالنسبة لما أبقاه السلطان في قلعة حلب وما أودعته الأمراء والأجناد عند أهل حلب وهو شيء لا ينحصر قليل جدا.

ومما نقل أن السلطان الغوري لما خرج لمحاربة السلطان سليم أخذ معه مائة قنطار ذهبا ودنانير ومائتي قنطار فضة أنصافا وكان قصده أن يجعل ذلك نفقة للعسكر ، ونوى أنه لا يزال ذاهبا حتى يصل إسلامبول ويأخذها من يد السلطان سليم ، وسبب ذلك أن السلطان سليما أرسل له كتابا على سبيل النصيحة وغالبه تهديد كالسم في الدسم ، ومن جملة ما فيه قال : إن لم ترجع عما أنت فيه من الظلم والعناد على المسلمين وإلا جئتك بعسكر من الروم وأخرب مصرك عليك ، فكان هذا الكلام من جملة الأسباب التي دعت الغوري لخروجه لحرب السلطان سليم ، وأرسل له في الجواب : أنا لا أحوجك للمجيء إلينا ولكن تأهب للقاء الأبطال وتنظر كيف تفعل الرجال ، وصدق في قوله لأنه أفعم قلوب عسكره وأهلك غالب الأمراء من القرانصة فكرهته العساكر كلها ، وما خرجوا معه إلا وكل منهم يتمنى أن لا يرجع إلى مصر ، وكان هذا من سوء تدبيره وكل ذلك حتى يجري القضاء والقدر اه.

نبدة من شعره :

أقول : قد أطلعني بعض وجهاء الشهباء على قطعة من شعر السلطان قانصوه الغوري في عشر أوراق يظهر أنها محررة في حال حياته وهي قصائد وموشحات فاخترت منها قصيدتين وموشحتين ، فالقصيدة الأولى قوله :

بالملك أنعم ربنا الرحمن

وهو الكريم المنعم المنان

فله علينا الشكر حق واجب

يقضيه قلب مخلص ولسان

فالحمد لله الذي إحسانه

أبدا يليه بفضله إحسان

فبملك مصر وما حواه خصنا

وبنصره ثبتت لنا الأركان

قد كان موهبة بلا سعي ولا

فيه تجرد صارم وسنان

ولقد كفانا الله في أعدائنا

فضلا فبعد صعوبة قد هانوا

١٣٢

وعلى محبتنا بصدق أجمعت

أمراؤنا في الملك والأعيان

والآن قام على السداد نظامنا

ولنا العساكر طاعة قد دانوا

صاروا على قلب سليم واحد

في حبنا فكأنهم بنيان

فالله يحفظهم ويجمع شملهم

ففؤادنا من حبهم ملآن

والله يجمعهم جميعا قرة

لعيوننا فلنا هم الأخوان

فكأنهم للملك سور حافظ

وعلى مصالحه هم الأعوان

والعسكر المنصور كل مخلص

في نصحنا وجميعهم فرسان

ما منهم من فيه شك عندنا

فيقال في التعريف ذاك فلان

فكبيرهم كأب وأوسطهم أخ

ولنا الأصاغر كلهم ولدان

لكن مقامات المراتب تقتضي

تمييزها فلكل طور شان

فالله ينصرهم فإن الملك من

تمكينهم يزداد أو يزدان

والله بالتأييد منه يمدهم

فبهم يقوم بمجدنا البرهان

ويزيدهم في العالمين زيادة

من فضله ما بعدها نقصان

والأشرف الغوري ناظمها بهم

وبحسن طاعتهم له برهان

والله يجمعنا على نور الهدى

حتى يزيد لنا به إيمان

ثم الصلاة على النبي وآله

ما دام يتلى الذكر والقرآن

والثانية قوله وقد كتب فوقها : ومن نظمه أدام الله أيامه :

لله في أيامنا نفحات

من دهرنا تزكو بها الأوقات

فبها ألا فتعرضوا وتضرعوا

فيها تجاب لكم بها الدعوات

هذي مواسمها لنا قد أقبلت

ودنا بموعدها لنا ميقات

فبفضل شعبان وليلة نصفه

يروي الصحيح من الحديث ثقات

وبفضل ليلة نصفه قد فسرت

في الذكر من تنزيله آيات

إذ قيل يفرق كل أمر محكم

فيها وفيها تسقط الورقات

هي ليلة فيها على أهل الهدى

وقلوبهم قد خفت الطاعات

هي ليلة ما زال محتفلا بها

مذ قام دين المصطفى السادات

١٣٣

هي ليلة هجروا مضاجعهم بها

مما تقام بجنحها الصلوات

هي ليلة يتوقع الداعي بها

لله أن تقضى له حاجات

يا ربنا فيها تقبل دعوة

لي منك فيها تشمل الخيرات

أصلح لي الملك الذي قلدتني

وصلاحه أن تسعد الحركات

وتدر أرزاق الرعية فيه في

أمن ففيها تنزل البركات

واجمع قلوب عساكري جمعا به

تصفو وتصلح منهم النيات

وجميع من في قلبه غش لنا

فبه تحيط من الردى هلكات

وانصر وأيد من جنودي من له

حزم وعزم صادق وثبات

واحفظ لي الأمراء وانصرهم فهم

في الملك أركان له وحماة

وانظر لهم واشملهم بعناية

وسعادة تعلو بها الدرجات

لا سيما أركان دولتنا ففي

وجه الزمان وجودهم حسنات

ولعبدك الغوري فانظر نظرة

منها تضيء بقلبه مشكاة

وبها ينال مناه منك جميعه

وبها يفيض عليه منك هبات

وعلى النبي وآله مع صحبه

أبدا سلام دائما وصلاة

ما دامت الأفلاك دائرة بها

تترادف الأوقات والساعات

وله موشح من نغم الحسيني :

ربنا أدم نعما* جدت لي بها كرما* فيضا حكى ديما* بالغمام منهله

منك سيدي مددي* أنت دائما سندي* أنت آخذ بيدي* فاستعانتي بالله

ملكنا وعسكره* أنت لي تدبره* بالذي تقدره* لي فاكتفي بالله

رب فاحفظ الأمرا* فيه لي مع الوزرا* والصدور والكبرا* والجنود بالجمله

غوري عبدك الخاضع منك في المنى طامع* كن لشملهم جامع* رب فاغفر الزله

وله موشح من نغمة المصرية علو محيّر يهبط على عشاق العجم :

جل من لنا وهبا* ملك مصر واكتسبا* حيث سبب السببا* في قديم علم الله

ملك مصر نعمته* والوجود رحمته* لا تطاق نقمته* حسبنا الحليم الله

شكرنا له وجبا* إذا قضى لنا أربا* فهو خصنا وحبا* نعمة بفضل الله

١٣٤

ما لنا سوى كرمه* والدخول في حرمه* بالسؤال من نعمه* حلمه وعفو الله

غوري قد قضى وطره* فهو حامد شكره* سائل هدي البرره* إنهم هداة الله

رب زده من نعمك* بالنجاة من نقمك* والدخول في حرمك* فهو لائذ بالله

لا إله إلا الله محمد رسول الله

وله هذا الموشح التركي من نغم المحيّر :

كزلرم يا شينه رحَم آيت يا رحيم

سائلي رد إيلمز هركِز كريم

رب هب لي من لدنك رحمة

تب علينا أنت تواب رحيم

حق جمالن استرز جنت ندر

كورنُر جنت بزه إنسز جحيم

انظرونا نقتبس من نوركم

أيها السكان في دار النعيم

يا إلهي نجنا مما نخاف

كسمسون يوك بزه شيطان رجيم

قومبيزي نفس النده ضالين

إهدنا ربي الصراط المستقيم

فاسقني يا أيها الساقي مدام

واشفني إني أرى جسمي سقيم

غور بنده كوك ولنده ذكردر

دائما أستغفر الله العظيم

الله الله الله الله يا كريم

يا غفور يا شكور يا حليم

قد صدر منا الخطايا والذنوب

ربنا أستغفر الله العظيم

ذكر مبيت السلطان سليم في مرج دابق

ودفنه هناك للأمير سودون العجمي

قال المحلي : ثم إن السلطان سليما بات في مرج دابق ، ولما اصبح أمر أن تعد القتلى من الفريقين فوجدوا أن الذي قتل من الجراكسة ألف نفس وأكثرهم من المدافع والبندقيات والذي قتل من الروم أربعة آلاف. ثم وجدوا في القتلى رجلا عظيما من الجراكسة وعليه من الملابس الفاخرة ما يناسب الملوك وعليه من الهيبة والوقار ما لا يوصف ووجهه يتلألأ نورا وقد جاءه ضرب (قنبلة) أخذ فخذه ، فجيء ببعض من يعرف الجراكسة فوجدوه سودون العجمي الأمير الكبير ، فأمر به السلطان سليم فغسل وصلي عليه وأمر بدفنه فكان ترابه في زاوية هناك تسمى زاوية الشيخ النور القاري.

١٣٥

الكلام على مرج دابق

وعلى قبر سليمان بن عبد الملك

ذكرت في الجزء الأول في صحيفة ١١٩ ما قاله ياقوت في المعجم من الكلام على دابق ، وهنا أتكلم على حالة هذا المرج الحاضرة وعلى قبر سليمان بن عبد الملك فأقول :

قال أبو ذر في كنوز الذهب : ومنهم (أي وممن دفن في حلب أو في معاملاتها من الملوك) سليمان بن عبد الملك قبره بدابق ، وقد وقع الحريق بها حتى احترق الرجال والدواب وذلك في سنة ثمان ومائة ، واستخرج من قبره في أيام السفاح فلم يوجد منه إلا صلبه وأضلاعه ورأسه فأحرق ، وبويع سليمان المذكور بدمشق في اليوم الذي كانت فيه وفاة الوليد ، وذلك يوم السبت النصف من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين ، وتوفي يوم الجمعة عاشر صفر سنة تسع وتسعين ومات وهو ابن تسع وثلاثين سنة.

وقرأت في المنتظم أن سليمان كان يوما جالسا ينظر في المرآة إلى وجهه وكان حسن الوجه فأعجبه ما رآه من جماله وكان على رأسه وصيفة فقال : أنا الملك الشاب ، فرأى شفتي الجارية تتحركان فقال لها : ما قلت؟ قالت : خيرا ، قال : لتخبريني ، قالت :

قلت :

أنت نعم المتاع لو كنت تبقى

غير أن لا بقاء للإنسان

وزاد غيره في الشعر :

أنت خلو من العيوب ومما

يكره الناس غير أنك فاني

ثم خرج إلى المسجد فخطب فسمع أقصى من في المسجد صوته ، ثم لم يزل يضعف وانصرف محموما حمى موصولة بمنيته. انتهى.

ورأيت في «مصباح العيان» أنه لما حمل إلى بيته قال : عليّ بتلك الوصيفة التي كانت قائمة على رأسي ، فجاءت فقال : أعيدي ما قلت ، قالت : وما قلت؟ قال : ألست القائلة : أنت نعم المتاع لو كنت تبقى؟ فقالت : والله ما طرق سمعي هذا قط ، فعلم أن نفسه قد نعته فمات اه.

١٣٦

لم يزل هذا الاسم (مرج دابق) باقيا إلى عصرنا هذا وفيه قرية باسم دابق فيها نحو مائة بيت وهي تبعد عن محطة (أخترين) قدر ساعة ونصف مشيا على الأقدام ، ويوجد قرية أخرى تدعى (دويبق) ١ فيها نحو ٦٠ أو ٧٠ بيتا واقعة شمالي شرقي الأولى والمسافة بينهما عشر دقائق ، ويلاصق دابق من الجهة الشمالية تل كبير عليه قبر سليمان بن عبد الملك وعليه قبة مسورة يزوره الناس ويتبركون به وهو مشهور هناك بمزار الشيخ بركات.

ويمر بين القريتين المذكورتين ومن شرقي دويبق نهر حلب المسمى قويق ، وبين هاتين القريتين على طرف النهر خربة قديمة يقال لها (تليلة النحاس) بالتصغير.

ويظهر من الآثار الحفرية أن هناك مصانع لعمل الآجر لأن طينة هذه الأراضي هي بيلونية ، ويستعمل أهل حلب هذا الطين المعروف بالبيلون في حماماتهم لإزالة القشرة التي تحصل في شعر الرأس لرطوبته ، ويحمل منه إلى حماة وحمص ودمشق ويستعمل ثمة لهذه الغاية.

وطول هذا المرج من الغرب إلى الشرق نحو ثماني ساعات وعرضه نحو خمس ، وهو من الجهة الغربية أعرض منه في الجهة الشرقية ، ويحده من الشمال أراضي (كلّز) ومن الجنوب أراضي جبل سمعان التابعة لحلب ومن الغرب أراضي العمق.

ومرج دابق لم يبق مرجا على وضعيته الأصلية بل أصبح اليوم معمورا بالقرى التي يزيد عددها عن خمسين قرية ، منها (تركمان بارح) و (أرشاف) وهما شرقي دابق ، ومنها (تليلين) و (ميرع) وهما في غربيه ، ويحصل في الشتاء في (ميرع) بحيرة كبيرة يصير طولها نحو ساعتين وعرضها كذلك وفيها نحو ٤٠٠ بيت.

وفيها (جبرين) و (النقلة) و (صوران) و (احتيملات) وهذه تقع في الشمال الغربي بين (تليلين) و (دويبق) وهناك عين تسمى عين البيضاء ، ومن القرى (شيخ ريح) و (حور النهر) و (راعل) و (كفره). وأهم مزروعات هذه القرى هي السمسم والبطيخ الأصفر والحنطة والشعير والذرة البيضاء ، ومعظم الخضرة التي ترد إلى حلب هي من محصولات هذا المرج ، ويوجد فيه عرق السوس بكثرة.

__________________

١ ـ ذكرها القاموس المحيط.

١٣٧

منع أهالي حلب للجراكسة المنهزمين

من دخول حلب

قال المحلي : وأما ما كان من الجراكسة فإنه لما وقعت عليهم الكسرة نهب بعضهم بعضا وصار كل إنسان منهم يأخذ ما قدر عليه وكل من كان له عدو وقدر عليه قتله ، ولكل شيء آفة من جنسه ، ثم ذهب غالب العسكر قاصدين إلى حلب فمنعهم أهل حلب لشدة ما قاسوا منهم حين مجيئهم مع الغوري فتشتت شملهم وذهبت حميتهم وانكسرت شوكتهم بعد تلك القوة والمنعة العظيمة والبأس الشديد. وكان سبب سعادة أهل حلب من هذه الوقعة فإنهم كانوا أودع عندهم الجراكسة جميع أموالهم وخرجوا على جرائد الخيل فطمعت فيهم أهل حلب وصدوهم عن الدخول لأجل ذلك.

سبب آخر لمنعهم :

قال ابن إياس : وأما ما كان من الأمراء العسكر بعد الكسرة فإنهم توجهوا إلى حلب وأرادوا دخولها فوثب عليهم أهالي حلب قاطبة وقتلوا جماعة من العسكر ونهبوا سلاحهم وخيولهم وبرقهم ووضعوا أيديهم على ودائعهم التي كانت بحلب وجرى عليهم من أهل حلب ما لم يجر عليهم من عسكر ابن عثمان.

وكان أهل حلب بينهم وبين المماليك السلطانية حظ نفسي من حين توجهوا قبل خروج السلطان من القاهرة إلى حلب صحبة قاني بك أمير أخور كبير ، فنزلوا في بيوت أهل حلب غصبا واعتدوا على بعض النساء والأولاد وحصل منهم غاية الضرر والأذية لأهل حلب ، فما صدق أهل حلب أن وقعت لهم هذه الكسرة فأخذوا بثأرهم منهم ، فلما رأى الأمراء وبقية العسكر ذلك خرجوا من حلب حمية وتوجهوا إلى دمشق ودخلوها وهم في أفحش حال لا برك ولا قماش ولا خيول ، ودخل غالب العسكر إلى الشام وبعضهم راكب على حمار وبعضهم راكب على جمل وبعضهم عريان وعليه عباءة أو بشت ، ولم يقع لعسكر مصر مثل هذه الكائنة ، فأقام الأمراء والمباشرون والعسكر في الشام حتى تتكامل البقية ويظهر السالم من العاطب.

١٣٨

دخول خير بك إلى حلب ثم خروجه منها

مع الأمير محمد ابن السلطان الغوري

قال المحلي : وأما خير بك فإنه دخل حلب وأخذ سيدي محمد ابن الغوري وكان أبقاه أبوه على خزانته وأمواله بقلعة حلب فأخبره أن ابن شاه سوار نزل على حيلان بعشرين ألف فارس وهو قاصد أخذك وأخذ حلب ، فقال سيدي محمد : فما الرأي يا أمير خير بك ، قال : الرأي أن تنادي في العسكر بالرحيل إلى مصر ويجتمع إليك ما شئت من العسكر وتكون ملك مصر موضع أبيك وأنا مساعد لك في ذلك ، فصدقه في ذلك ونادى في حلب بالرحيل إلى مصر ومن له رغبة في المسير إلى مصر فليتبعنا ، فخرجت الناس على وجوههم وتركوا أثقالهم وأموالهم واختاروا سلامة الروح وكانت مكيدة ، وخرجوا من حلب كالهاربين ، وفعل ذلك خير بك حتى يأخذ حلب للسلطان سليم من غير حرب وكان الأمر كذلك ، فإنه أرسل إلى السلطان يخبره بما فعل وأنك تسير في هذا الوقت إلى حلب فإنها خالية من العسكر المصري ، وأما عسكر حلب فمن أطاعنا أبقيناه.

مجيء السلطان سليم إلى حلب

واستقبال الأهالي له في الميدان الأخضر

قال القطبي في تاريخ مكة بعد ذكره للواقعة المتقدمة : لما أقبلت رايات السلطان سليم إلى حلب خرج أهلها إلى لقائه بالمصاحف والأعلام وهم يجهرون بالتسبيح والتكبير ويقرؤون (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) وطلبوا منه الأمان والتسليم فأجابهم إلى القبول لطفا وكرما وقابلهم بالإجلال والإكرام وأفرغ على كواهلهم خلع اللطف والإنعام وتصدق بأنواع الصدقات على الخاص والعام.

قال ابن إياس : لما وصل السلطان سليم إلى الميدان الذي في حلب أقام فيه ، ولما كان فيه توجه إليه أمير المؤمنين المتوكل على الله والقضاة الثلاثة وهم قاضي القضاة الشافعي كمال الدين الطويل وقاضي القضاة محيي الدين الدميري المالكي وقاضي القضاة شهاب الدين

١٣٩

الفتوحي الحنبلي ، وأما قاضي القضاة الحنفي محمود بن الشحنة فإنه هرب مع العسكر إلى الشام ونهب جميع بركه وقماشه ودخل الى الشام في أنحس حال. قيل لما دخل أمير المؤمنين على ابن عثمان وهو بالميدان عظمه وأجلسه وجلس بين يديه فأشيع أنه قال له : أصلكم من أين؟ فقال له : من بغداد ، فقال له ابن عثمان : نعيدكم إلى بغداد كما كنتم.

دخول السلطان سليم إلى حلب واستيلاؤه على القلعة

وما فيها من الذخائر

قال ابن إياس : لما جاء السلطان سليم إلى حلب سلمه أهلها المدينة من غير نزاع ، وهرب قانصوه الأشرفي نائب القلعة وتوجه إلى الشام مع العسكر وترك أبواب قلعة حلب مفتحة ، فلما بلغ السلطان سليما ذلك أرسل إليها شخصا من جماعته أعرج أجرود وفي يده دبوس خشب ، فطلع إلى قلعة حلب فلم يجد بها مانعا يرده فختم على الحواصل التي بها واحتوى على ما فيها من مال وسلاح وتحف وغير ذلك ، وقد فعل ابن عثمان ذلك ليقال إنه أخذ قلعة حلب بشخص أعرج وفي يده دبوس خشب وهو أضعف من في عسكره.

وأشيع أن السلطان سليما من حين استولى على مدينة حلب لم يدخلها غير ثلاث مرات ، المرة الأولى دخلها وطلع إلى القلعة بسبب عرض حواصلها ، فلما عرضت عليه رأى ما أدهشه من مال وسلاح وتحف ، وكان فيها من المال نحو مائة ألف ألف دينار (هكذا) ورأى من الكنابيش الزركش والرقاب الزركش والطبر والسروج الذهب والبلور وطبول البازات واللجم المرصعة والفصوص المثمنة والبركستوانات الفولاذ الملون والسيوف المسقطة بالذهب والزرديات والخوذ الفاخرة وغير ذلك من السلاح ما لم يره قط ولا أحد من ملوك الروم ، لأن الذي جمعه الغوري من الأموال من وجوه الظلم والجور والتحف التي أخرجها من ذخائر الملوك السالفة من عهد ملوك الترك الجراكسة احتوى عليه جميعه السلطان سليم شاه بن عثمان من غير تعب ولا مشقة ، هذا خارج عما كان للأمراء المقدمين والأمراء الطبلخانات والعشراوات والمباشرين والعسكر قاطبة من الودائع بحلب من مال وسلاح وقماش وبرك وغير ذلك ، فاحتوى ابن عثمان على ذلك جميعه ، وقيل إنه ملك ثلاث عشرة قلعة من بلاد السلطان واحتوى على ما

١٤٠