رحلة ابن بطوطة - ج ٤

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ٤

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-010-9
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٣٥١

ثم وصلنا بهد ذلك إلى مدينة كنكار (٢٤٩) ، وضبط اسمها بضم الكاف الأولى وفتح النون والكاف الثانية وآخره راء وهي حضرة السلطان الكبير بتلك البلاد ، وبناؤها بين جبلين على خور كبير يسمّى خور الياقوت ، لأن الياقوت يوجد به ، وبخارج هذه المدينة مسجد الشيخ عثمان الشيرازي المعروف بشاوش (٢٥٠) بشينين بينهما واو مضموم. وسلطان هذه المدينة وأهلها يزورونه ويعظمونه وهو كان الدليل إلى القدم فلما قطعت يده ورجله صار الأدلاء أولاده وغلمانه ، وسبب قطعه أنه ذبح بقرة! وحكم كفار الهنود أنه من ذبح بقرة ذبح كمثلها أو جعل في جلدها وحرق ، وكان الشيخ عثمان معظما عندهم فقطعوا يده ورجله وأعطوه مجبى بعض الأسواق.

ذكر سلطان [كنكار]

وهو يعرف بالكنار (٢٥١) بضم الكاف وفتح النون وألف وراء ، وعنده الفيل الأبيض ، لم أر في الدنيا فيلا أبيض سواه ، يركبه في الأعياد ويجعل على جبهته أحجار الياقوت العظيمة ، واتفق له أن قام عليه أهل دولته وكحلوا عينيه وولّوا ولده وهو هنالك أعمى.

ذكر الياقوت

والياقوت العجيب البهرمان (٢٥٢) انما يكون بهذه البلدة ، فمنه ما يخرج من الخور ، وهو عزيز عندهم ، ومنه ما يحفر عنه. وجزيرة سيلان يوجد الياقوت في جميع مواضعها ، وهي متملّكة فيشتري الانسان القطعة منها ، ويحفر عن الياقوت فيجد أحجارا بيضاء مشعّبة، وهي التي يتكون الياقوت في أجوافها فيعطيها الحكّاكين فيحكّونها حتى تنفلق عن أحجار

__________________

(٢٤٩) كنكار ربّما كان القصد إلى (Kurungala) تقع في داخل البلاد ، وهي عاصمة دولة السنهاليين منذ تاريخ ١٢٤٨. ٦٨٣ وفيها كان يقيم ملوكهم.

(٢٥٠) الشاوش كلمة تركية تعني الحارس أو المساعد.

(٢٥١) كنار ربما كان الأمر يتعلق بلقب من أصل سنسكري (Kunwar) (أمير) ... وعن السلطان الذي سملوا عينيه فإن القصد إلى فيجايابّاهو الخامس (Vijayabahu V) الذي تملك من عام ١٣٣٣ إلى ١٣٤٤ وولده هو بهو فانايكاباهو الرّابع ٤٥٧ ـ ٥٤٧ ٣٥٥١ ـ ٤٤٣١ (Bhuvanidabahu IV) وهو الذي حوّل عاصمته إلى گامبّولا (Gampola) التي تقع أيضا في داخل الجزيرة. كان على ابن بطوطة أن يزور كورنگالا (kurunegala) حوالي منتصف شهر شتنبر ١٣٤٤ أوائل جمادى الأولى ٧٤٥.

(٢٥٢) البهرمان (L.Escarbouches) نوع من الياقوت الأحمر الفاتح ، ويوجد في هذه الجزيرة الياقوت الجيد الذي لا يوجد مثله في العالم كله. وكذلك يوجد هنا النوع الأصفر الذي يسمى في الاصطلاح ، الطوبّازTopazes والنوع الأزرق الذي يسمى SAPHIR.

٨١

٨٢

الياقوت ، فمنه الأحمر ومنه الأصفر ومنه الأزرق ويسمونه النّيلم (٢٥٣) ، بفتح النون واللام وسكون الياء آخر الحروف.

وعادتهم أن ما بلغ ثمنه من أحجار الياقوت إلى مائة فنم ، بفتح الفاء والنون ، فهو للسلطان يعطي ثمنه وياخذه وما نقص عن تلك القيمة فهو لأصحابه ، وصرف مائة فنم ستة دنانير من الذهب.

وجميع النساء بجزيرة سيلان لهن القلائد من الياقوت الملون ويجعلنه في أيديهن وأرجلهن عوضا من الأسورة والخلاخيل (٢٥٤) ، وجواري السلطان يصنعن منه شبكة يجعلنها على رؤوسهن ، ولقد رأيت على جبهة الفيل الأبيض (٢٥٥) سبعة أحجار منه ، كل حجر أعظم من بيضة الدجاجة ، ورأيت عند السلطان أيري شكروتي سكرجة على مقدار الكف من الياقوت ، فيها دهن العود فجعلت أعجب منها فقال إن عندنا ما هو أضخم من ذلك.

ثم سافرنا من كنكار (٢٥٦) فنزلنا بمغارة تعرف باسم أسطا محمود اللّوري ، بضم اللام ، وكان من الصالحين ، واحتفر تلك المغارة في سفح جبل عند خور صغير هنالك ، ثم رحلنا عنها ونزلنا بالخور المعروف بخور بوزنة (٢٥٧) ، بالباء الموحدة وواو ونون وهاء ، وبوزنة : هي القرود.

ذكر القرود

والقرود بتلك الجبال كثيرة جدّا وهي سود الألوان لها أذناب طوال ولذكورها لحى كما هي للآداميين (٢٥٨) ، وأخبرني الشيخ عثمان وولده وسواهما أنّ هذه القرود لها مقدم تتبعه

__________________

(٢٥٣) إذن هناك البهرمان (الأحمر) والاصفر الطّوبّار ، والأزرق السفير ، وهو النّيلم وهذا تعبير سنسكري يعني الازرق.

(٢٥٤) يختص اسم الخلاخيل بالحلّي الذي يجعل عند عراقيب الأرجل ج. خلخال.

(٢٥٥) الفيل الأبيض رمز للسلطة العليا في تلك الأيام

S. Paranavitana in University of Ceylon HIstory of Ceylon. I. PT ٢. P. ٠٤٦

(٢٥٦) ابتداء من كورونگالا (kurunegala) إلى جبل قدم آدم فإن المسافة تصبح سهلة الاتباع.

(٢٥٧) بوزنة : يعني بالفارسية القرد. المسافة بين كوروناگالا (kurunegalla) وبين جبل آدم ، تتمّ في قلب الجزيرة ، وهناك انحراف يمر عبر خور يظهر أنّه يصعب احتماله. ينبغي أن نفهم أن كلمة خليج تعني منفذا أو صهريجا على ما يظهر.

(٢٥٨) يتعلق الامر بنوع من القردة : يعرف بالقردة المقدسة للهند ، وهي كثيرة في سيلان ، لها شعر رمادي فضي ، لكنّ قوائمها ووجوهها سود ، تعيش جماعات جماعات وهي تحترم جدّا الهيرارشية فيما بينها! واذكر أنني كلّفت بترجمة هذه القطعة يوم ٩ يناير ١٩٥٢ وأنا طالب بمعهد الدراسات العليا.

٨٣

٨٤

كأنه سلطان يشد على رأسه عصابة من أوراق الأشجار ويتوكأ على عصا ويكون عن يمينه ويساره أربعة من القرود لها عصى بأيديها وأنه إذا جلس القرد المقدم تقف القرود الأربعة على رأسه وتأتي أنثاه وأولاده فتقعد بين يديه كلّ يوم ، وتاتي القرود فتقعد على بعد منه ثم يكلمها أحد القرود الأربعة فتنصرف القرود كلها ، ثم ياتي كل قرد منها بموزة أو ليمونة أو شبه ذلك فيأكل القرد المقدم وأولاده والقرود الأربعة.

وأخبرني بعض الجوكية أنه رأى القرود الأربعة بين يدي مقدمها وهي تضرب بعض القرود بالعصى ثم نتفت وبره بعد ضربه ، وذكر لي الثقات أنه إذا ظفر قرد من هذه القرود بصبيّة لا تستطيع الدفاع عن نفسها جامعها! وأخبرني بعض أهل هذه الجزيرة أنه كان بداره قرد منها فدخلت بنت له بعض البيوت فدخل عليها فصاحت به فغلبها ، قال : ودخلنا عليها وهو بين رجليها فقتلناه!

ثم كان رحيلنا إلى خور الخيزران ، ومن هذا الخور أخرج أبو عبد الله بن خفيف الياقوتتين اللّتين أعطاهما لسلطان هذه الجزيرة حسبما ذكرناه في السفر الأول (٢٥٩).

ثم رحلنا إلى موضع يعرف ببيت العجوز وهو آخر العمارة ، ثم رحلنا إلى مغارة بابا طاهر ، وكان من الصالحين ، ثم رحلنا إلى مغارة السّبيك ، بفتح السين المهمل وكسر الباء الموحدة وياء مد وكاف ، وكان السّبيك من سلاطين الكفار وانقطع للعبادة هنالك.

ذكر العلق الطيار

وبهذا الموضع رأينا العلق الطيار ويسمونه الزّولو (٢٦٠) ، بضم الزاي واللام ، ويكون بالأشجار والحشائش التي تقرب من الماء فإذا قرب الإنسان منه وثب عليه ، فحيثما وقع من جسده خرج منه الدم الكثير! والناس يستعدّون له الليمون ، ويعصرونه عليه فيسقط عنهم ويجردون الموضع الذي يقع عليه بسكين خشب معد لذلك.

ويذكر أن بعض الزوار مرّ بذلك الموضع فتعلقت به العلق فاظهر الجلد ولم يعصر

__________________

(٢٥٩) يراجع II ٨٠ ـ ٨١ بيكينگام يترجم السّفر بالسّفر؟!

(٢٦٠) الزّلو : الكلمة فارسية ، ويتعلق الامر بنوع صغير من العلق الذي يعيش في سيلان ، ويعرف Mzik هذا العلق باسم Haemoddella Ceylanica قائلا أن هذا العلق أصغر وأشهر علق يمكن أن يكون خطيرا ... Beckinghim T. N P. ٢٥٣ ـ Note ٦١. وهذا غير العلق الطبّي (Sangsue) الذي تستعمله المستشفيات الأوربية ، والذي نجد له ذكرا في المواد التي تصدر من المغرب إلى انجلترا مثلا ـ انظر د. التازي : التاريخ الدبلوماسي للمغرب ج. ١٠ ، ٦٥ حول المكي القباج الذي كان له حقّ احتكار هذه التجارة.

٨٥

عليها الليمون فنزف دمه ومات ، وكان اسمه بابا خوزي بالخاء المعجم المضموم والزاي ، وهنالك مغارة تنسب اليه.

ثم رحلنا إلى السبع مغارات ثم إلى عقبة إسكندر ، ثم مغارة الاصفهاني وعين ماء وقلعة غير عامرة ، تحتها خور يعرف بغوطة كاه عارفان ، وهنالك مغارة النارنج ، ومغارة السلطان وعندها دروازة الجبل أي بابه.

ذكر جبل سرنديب (٢٦١).

وهو من أعلى جبال الدنيا رأيناه من البحر ، وبيننا وبينه مسيرة تسع ، ولما صعدناه كنا نرى السحاب أسفل منا ، قد حال بيننا رؤية أسفله وفيه كثير من الأشجار التي لا يسقط لها ورق ، والأزاهير الملونة ، والورد الأحمر على قدر الكف ، ويزعمون أن في ذلك الورد كتابة يقرأ منها اسم الله تعالى واسم رسوله عليه الصلاة والسلام ، وفي الجبل طريقان إلى القدم : احدهما يعرف بطريق بابا والآخر بطريق ماما يعنون آدم وحواء عليهما‌السلام ، فاما طريق ماما فطريق سهل ، عليه يرجع الزوار اذا رجعوا ومن مضى عليه فهو عندهم كمن لم يزر وأما طريق بابا فصعب وعر المرتقى. وفي أسفل الجبل ، حيث دروازته ، مغارة تنسب أيضا لاسكندر وعين ماء.

ونحت الأولون في الجبل شبه درج يصعد عليها وغرزوا فيها أوتاد الحديد وعلقوا منها السلاسل ليتمسّك بها من يصعده (٢٦٢) ، وهي عشر سلاسل : ثنتان في أسفل الجبل حيث الدوروازة ، وسبع متوالية بعدها ، والعاشرة هي سلسلة الشهادة لان الانسان إذا وصل اليها ونظر إلى أسفل الجبل أدركه الوهم فيتشهد خوف السقوط ، ثم إذا جاوزت هذه السلسلة وجدت طريقا مهملا ، ومن السلسلة العاشرة إلى مغارة الخضر (٢٦٣) سبعة أميال ، وهي في

__________________

(٢٦١) قمة جبل آدم التي تبلغ ٢٤٣. ٢ ميتر ليست هي أعلى جبال في سيلان ، هذا وان الطابع المقدس الذي اتخذه الجبل جعله معتبرا سواء عند البوذيين الذين يرون فيه أثرا لقدم بوذة أو عند المسلمين الذين يرون فيه أثرا لآدم الذي هبط من الجنة على هذا الجبل ويذكر أن حواء زوجة آدم نزلت في جدة بالجزيرة العربية ، وقد ورد في «أخبار الصين والهند» التي جمعت سنة ٢٣٧ : «وفي أرضها جبل يدعى الرّهون وعليه هبط آدم عليه‌السلام وقدمه في صفا رأس هذا الجبل منغمسة في الحجر : في رأس هذا الجبل قدم واحدة ... وحول هذا الجبل معدن الجوهر ... وفي هذه الجزيرة ملكان ... نشر هذا الكتاب J.Sauvaget باريزBECDINGHAMIV.P ٤٥٨ N ٢٢.٨٤٩١.

(٢٦٢) السلاسل ما تزال إلى الآن موجودة ... وقد ادى ماركو پولو وصفا للموضوع على هذا النحو.

(٢٦٣) حول الخضر ، انظر ج.I ـ ١٩٥ ـ ٢٣٤ وج.II ، ١٩ ـ ٢٣٢ ـ ٣٤٩ ـ ٣٦٩ وج.IV ـ ٦١

٨٦

٨٧

موضع فسيح ، عندها عين ماء تنسب اليه ، ملأى بالحوت ولا يصطاده أحد ، وبالقرب منها حوضان منحوتان في الحجارة عن جنبتي الطريق ، وبمغارة الخضر يترك الزوار ما عندهم ويصعدون منها ميلين إلى أعلى الجبل حيث القدم.

ذكر القدم

وأثر القدم الكريمة قدم أبينا أدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صخرة سوداء مرتفعة بموضع فسيح وقد غاصت القدم الكريمة في الصخرة حتى عاد موضعها منخفضا ، وطولها أحد عشر شبرا ، وأتى إليها أهل الصين قديما فقطعوا من الصخرة موضع الإبهام وما يليه (٢٦٤) وجعلوه في كنيسة بمدينة الزيتون يقصدونها من أقصى البلاد.

وفي الصخرة حيث القدم ، تسع حفر منحوتة يجعل الزوار من الكفار فيها الذهب واليواقيت والجواهر ، فترى الفقراء إذا وصلوا مغارة الخضر يتسابقون منها لأخذ ما بالحفر! ولم نجد بها إلا يسير حجيرات وذهب أعطيناها الدليل.

والعادة أن يقيم الزوار بمغارة الخضر ثلاثة أيام ياتون فيها إلى القدم غدوة وعشيا ، وكذلك فعلنا.

ولما تمت الايام الثلاثة عدنا على طريق ماما ، فنزلنا بمغارة شيم ، وهو شيت بن أدمعليهما‌السلام ، ثم إلى خور السمك ، ثم إلى قرية كرملة ، بضم لكاف وسكون الراء وضم الميم، ثم إلى قرية جبركاوان ، بفتح الجيم والباء الموحدة وسكون الراء وفتح الكاف والواو وآخره نون ثم إلى قرية دل دينوه ، بدالين مهملين مكسورين بينهما لام مسكن وياء مد ونون مفتوح وواو مفتوح وتاء تأنيث ، ثم إلى قرية أت قلنجة (٢٦٥) ، بهمزة مفتوحة وتاء مثناة مسكنة وقاف ولام مفتوحين ونون مسكن وجيم مفتوح ، وهنالك يشتي الشيخ أبو عبد الله بن خفيف.

__________________

(٢٦٤) حسب ما رواه ماركوپولو عام ١٢٨٤ فإن الخان الأعظم بعث بسفارة إلى سيلان نجحت في أن تنقل معها إلى خان باليك (بيكين) ضرسين وشعرات. وبعض المواد وآنية خضراء منحوثة من حجر محفوظ في الجبل ، ويعتقد أن هذه المواد كانت ملكا لبوذا أو آدم هذا وسنرى أن ابن بطوطة يخلط بين شيم ولد نوح وشيت ولد آدم.

(٢٦٥) لم تمكّنا استشارة خريطة لسيلان Cylon ولو أنها من مقياس ٦٣٠٠٠ / ١ من تحديد مضبوط لهذه الامكنة المذكورة من قبل ابن بطوطة ، قرية كرملة ـ جبر كاوان ـ دل دينوه ـ أت قلنجة. اللهم اذا قلنا أن (ادل دينوة) تعني دينيايا (Denyaya) في إقليم الجنوب. وقلنا إن (أت قلنجة) يمكن أن تكون أتنلوو (Anttenluwo) في الخريطة التي وضعها فرانسوا فالاتيجينس (Francois Valentijim\'s) حوالي عام ١٦٨٦ ...

٨٨

٨٩

وكل هذه القرى والمنازل هي بالجبل وعند أصل الجبل في هذا الطريق درخت روان ، ودرخت هي بفتح الدال المهمل والراء وسكون الخاء المعجم وتاء معلوة ، وروان بفتح الراء والواو وألف ونون ، وهي شجرة عادية لا يسقط لها ورق ، ولم أر من رأى ورقها ، ويعرفونها أيضا بالماشية (٢٦٦) لان الناظر اليها من أعلى الجبل يراها بعيدة منه قريبة من أسفل الجبل ، والناظر اليها من أسفل الجبل يراها بعكس ذلك!

ورأيت هنالك جملة من الجوكيين ملازمين أسفل الجبل ينتظرون سقوط ورقها وهي بحيث لا يمكن التوصل اليها البتّة ولهم أكاذيب في شأنها من جملتها أن من أكل من أوراقها عاد له الشباب إن كان شيخا وذلك باطل! وتحت هذا الجبل الخور العظيم الذي يخرج منه الياقوت ، وماؤه في رأى العين شديد الزرقة.

ورحلنا من هنالك يومين إلى مدينة دينور ، وضبط اسمها بدال مهمل مكسور وياء مد ونون وواو مفتوحين وراء ، مدينة عظيمة على البحر يسكنها التجار (٢٦٧) ، وبها الصنم المعروف بدينور في كنيسة عظيمة فيها نحو الآلف من البراهمة والجوكية ونحو خمسمائة من النساء بنات الهنود ، ويغنين كلّ ليلة عند الصنم ويرقصن ، والمدينة ومجابيها وقف على الصنم وكل من بالكنيسة ، ومن يرد عليها ، ياكلون من ذلك ، والصنم من ذهب على قدر الأدمي ، وفي موضع العينين منه ياقوتتان عظيمتان أخبرت أنهما تضيئان بالليل كالقنديلين.

ثم رحلنا إلى مدينة قالي (٢٦٨) ، بالقاف وكسر اللام ، وهي صغيرة على ستة فراسخ من دينور ، وبها رجل من المسلمين يعرف بالناخودة ابراهيم أضافنا بموضع ، ورحلنا إلى مدينة كلنبو (٢٦٩) وضبط اسمها بفتح الكاف واللام وسكون النون وضم الباء الموحدة وواو ، وهي من أحسن بلاد سرنديب واكبرها ، وبها يسكن الوزير حاكم البحر جالستي (٢٧٠) ومعه نحو خمسمائة من الحبشة.

__________________

(٢٦٦) يعني التي تمشي : تتقلّب العين عند النظر اليها ...

(٢٦٧) دينور القصد إلى دوندره وليس إلى المدينة الشهيرة (دينور) الموجودة في كردستان ، جنوب شرقي كرمان شاه حيث كان الصّنم المعروف فشنو (Vishnu) الذي هدم عام ١٥٨٧ من لدن البرتغاليين.

انظر ج II ، ص ١٠٥

Gibb : Ibn Battuta in Asia and Africa P. ٥٦٣ ـ Bechingham P. ٥٥٨ ـ Note ٧٢.

(٢٦٨) قالي (Galle) توجد على الساحل في غرب دوندره سالفة الذكر ميناء نشيط على ذلك العهد ، وهو معروف بتصدير الأحجار الكريمة. انظر الخريطة.

(٢٦٩) كلنبو :(Colombo) على الساحل الغربي ، وهي العاصمة الحالية للجزيرة ، ونحن مدينون لابن بطوطة في معرفة ضبط النطق بها على ذلك العهد على نحو ما نرى بالنسبة للنطق بدهلي بدل دلهي الحالية ـ وان وجود جالية إسلامية بالمدينة يرجع بدون شك لدورها كمركز لتصدير القرفة ، وستصبح بعد سنوات خاضعة للتأميل ولكنها سترجع عام ٧٧٠ ـ ١٣٦٨ للسنهاليين.

(٢٧٠) كلمة جالستي ليست علما شخصيا ولكنها ـ كما يرى أحد المعلقين من المنطقة : لقب تشريف ووظيف: أمير قائد.

٩٠

ثم رحلنا فوصلنا بعد ثلاثة أيام إلى بطالة ، وقد تقدم ذكرها ، ودخلنا إلى سلطانها الذي تقدم ذكره ، ووجدت الناخودة ابراهيم في انتظاري ، فسافرنا بقصد بلاد المعبر ، وقويت الريح وكاد الماء يدخل في المراكب ولم يكن لنا رايس عارف.

ثم وصلنا إلى حجارة كاد المركب ينكسر فيها ، ثم دخلنا بحرا قصيرا فتجلّس المركب ، ورأينا الموت عيانا ، ورمى الناس بما معهم وتوادعوا وقطّعنا صاري المركب فرمينا به وصنع البحرية معدية من الخشب ، وكان بيننا وبين البر فرسخان ، فأردت أن أنزل في المعدية ، وكان لي جاريتان وصاحبان من أصحابي فقالا : أتنزل وتتركنا؟ فآثرتهما على نفسي وقلت : انزلا انتما والجارية التي أحبها ، فقالت الجارية : إني أحسن السباحة ، فأتعلق بحبل من حبال المعدية وأعوم معهم ، فنزل رفيقاي وأحدهما محمد بن فرحان التوزري ، والآخر رجل مصري ، والجارية معهم والأخرى تسبح ، وربط البحرية في المعدية حبالا وسبحوا بها ، وجعلت معهم ما عزّ علي من المتاع والجواهر والعنبر ، فوصلوا إلى البر سالمين لأن الريح كانت تساعدهم.

وأقمت بالمركب ونزل صاحبه إلى البر على الدّفة وشرع البحرية في عمل أربع من المعادي فجاء الليل قبل تمامها ودخل معنا الماء فصعدت إلى المؤخر وأقمت به حتى الصباح ، وحينئذ جاء إلينا نفر من الكفار في قارب لهم ، ونزلنا معهم إلى ساحل ببلاد المعبر ، فأعلمناهم أنّا من أصحاب سلطانهم وهم تحت ذمته ، فكتبوا اليه بذلك ، وهو على مسيرة يومين في الغزو ، وكتبت أنا إليه أعلمه بما اتفق علي ، وأدخلنا أولئك الكفار إلى غيضة فأتونا بفاكهة تشبه البطيخ يثمرها شجر المقل (٢٧١) ، وفي داخلها شبه قطن فيه عسيلة يستخرجونها ويصنعون منها حلواء يسمونها التّل (٢٧٢) وهي تشبه السكر وأتوا بسمك طيب.

وأقمنا ثلاثة أيام ثم وصل من جهة السلطان أمير يعرف بقمر الدين معه جماعة فرسان ورجال وجاءوا بالدولة وبعشرة أفراس فركبت وركب أصحابي وصاحب المركب وإحدى الجاريتين ، وحملت الأخرى في الدولة ، ووصلنا إلى حصن هركاتو (٢٧٣) ، وضبط اسمه بفتح الهاء وسكونالراء وفتح الكاف وألف وتاء معلوة مضمومة وواو.

__________________

(٢٧١) المقل ثمر شجر الدّوم أو شجر المقل ، والدّوم من فصيلة النّخليات ساقه مشعبة يستخرج من ثماره نوع من الدبس.

(٢٧٢) تل : كلمة من أصل سنسكري (Tala) وهو يطلق على الشجر كما يطلق على ثمرها (Hyphaena.Thenaica)

(٢٧٣) باللغة التاميلية نجد أن كلمة (aru ـ Kadu) وتعني ستّ غابات ولا يمكن أن يكون القصد إلى Arcote كما تصوّرها الناشران الفرنسيان ٤ ، ١٨٨).

ـ Ginn Selec, P. ٥٦٣ Chap IXN ١٠

٩١

وبتنا به وتركت فيه الجواري وبعض الغلمان والاصحاب ووصلنا في اليوم الثاني إلى محلة السلطان.

ذكر سلطان بلاد المعبر

وهو غياث الدين الدامغاني ، وكان في أول أمره فارسا من فرسان الملك مجير (٢٧٤) بن أبي الرجا أحد خدام السلطان محمد ، ثم خدم الأمير حاجي بن السيد السلطان جلال الدين ثم ولى الملك ، وكان يدعى سراج الدين قبله ، فلما ولى تسمّى غياث الدين ، وكانت بلاد المعبر تحت حكم السلطان محمد ملك دهلي ، ثم ثار بها صهري الشريف جلال الدين أحسن شاه (٢٧٥) ، وملك بها خمسة أعوام ، ثم قتل وولّي أحد أمرائه ، وهو علاء الدين أديجي (٢٧٦) بضم الهمزة وفتح الدال المهمل وسكون الياء آخر الحروف وكسر الجيم ، فملك سنة ثم خرج إلى غزو الكفار فأخذ لهم أموالا كثيرة وغنائم واسعة وعاد إلى بلاده ، وغزاهم في السنة الثانية فهزمهم وقتل منهم مقتلة عظيمة.

واتفق يوم قتله لهم أن رفع المغفر عن رأسه ليشرب فأصابه سهم غرب ، فمات من حينه فولّوا صهره قطب الدين (٢٧٧) ثم لم يحمدوا سيرته فقتلوه بعد أربعين يوما وولى بعده السلطان غياث الدين (٢٧٨) وتزوج بنت السلطان الشريف جلال الدين التي كنت متزوجا أختها بدهلي.

__________________

(٢٧٤) حو الملك مجير بن أبي الرجاء ، يرجع إلى ج.III ـ ٢٣٠ ـ ٣١٨ وج.IV ـ ٥ ـ ٦

(٢٧٥) من المهم أن نسجل هنا أنه لا يعرف التاريخ الغابر لسلطنة مترة (Madura) إلا من خلال هذه المعلومات الاصيلة التي أوردها ابن بطوطة والتي تؤيدها بعض القطع النقدية. جلال الدين أحسن ثار عام ٧٣٤ ـ ١٣٣٤ (دائما حسب إفادة ابن بطوطة) وبعد الحركة الغير الموفقة لمحمد ابن تغلق نجح في تكوين سلطنة في أقصى الجنوب الهندي وحكم إلى سنة ٧٣٩ ـ ١٣٣٩ ـ تزوج ابن بطوطة بابنته عندما كان في دهلي ـ حول مترة (Madura) أنظر (V.L.B.Mendis) في كتابه (Currents ـ) ص ٧٠ / ٨٤ / ٢١٩ / ٤٥٣ سالف الذكر.

(٢٧٦) علاء الدين أديجي حكم ـ ودائما حسب مرويات ابن بطوطة ـ من عام ٧٣٩ ـ ١٣٣٩ إلى سنة ٧٤١ ـ ١٣٤١. وكان عليه أن يتقاتل مع آل بانديا (Pandya) ، الدولة المحلية القديمة التي تحتفظ دائما بقسم من البلاد.Beckingham IV ,P ,٨٥٨ N ٠ ٢.

(٢٧٧) حسب القطعة النقدية التي ظهرت في وقته فإن السلطان هو قطب الدين فيروز شاه.

(٢٧٨) غياث الدين محمد شاه الدغماني ١٣٤١ ـ ١٣٤٤.

٩٢

ذكر وصولي إلى السلطان غياث الدين

ولما وصلنا إلى قرب من منزله بعث بعض الحجاب لتلقّينا وكان قاعدا في برج خشب وعادتهم بالهند كلّها أن لا يدخل أحد على السلطان دون خفّ ، ولم يكن عندي خف ، فأعطاني بعض الكفار خفا ، وكان هنالك من المسلمين جماعة فعجبت من كون الكافر كان أتم مروءة منهم! (٢٧٩) ودخلت على السلطان فأمرني بالجلوس ودعا القاضي الحاج صدر الزمان بهاء الدين ، وأنزلني في جواره في ثلاثة من الأخبية ، وهم يسمونها الخيام وبعث بالفرش وبطعامهم ، وهو الأرز واللحم.

وعادتهم هنالك أن يسقوا اللبن الرائب على الطعام كما يفعل ببلادنا ، ثم اجتمعت به بعد ذلك ، وألقيت له أمر جزائر ذيبة المهل وأن يبعث الجيش اليها فأخذ في ذلك بالعزم وعيّن المراكب لذلك ، وعين الهدية لسلطانتها والخلع للوزراء والأمراء والعطايا لهم وفوض إليّ في عقد نكاح مريم (٢٨٠) أخت السّلطانة وأمر بوسق ثلاثة مراكب بالصدقة لفقراء الجزائر ، وقال لي يكون رجوعك بعد خمسة أيام ، فقال له قائد البحر خواجة سرلك : لا يمكن السفر إلى الجزائر إلّا بعد ثلاثة أشهر من الآن ، فقال لي السلطان : أما إذا كان الأمر هكذا فامض إلى فتّن حتى(٢٨١) حتى نقضي هذه الحركة ونعود إلى حضرتنا مترة (٢٨٢) ومنها تكون الحركة فأقمت معه بخلال ما بعثت عن الجواري والأصحاب.

__________________

(٢٧٩) ذكرني هذا يوم ١٣ / ٥ / ١٩٦٣ وقد طلب الوزير أحمد بلافريج من مولاي الأمين ابن زيدان أن يعيرني طربوشه لأتسلم أوراق اعتمادي سفيرا إلى بغداد وكنت أنسيته ، أي الطربوش!

(٢٨٠) عوض (مريم) توجد كلمة (جميع) في النسخ الباريزية جميعها ، وفي مخطوطة تونسية كذلك ولا نرى لها معنى ظاهرا ، والصواب ما ورد في مخطوطة مولاي العباس (الخزانة الملكية ، رقم ٣٠٣٠ ص ٦١٢) ، وما ورد في مخطوطة (الخزانة العامة رقم ٢٣٩٩) والوارد فيهما كلمة (مريم) وهو بالفعل اسم أخت السلطانة التي تعرف أيضا باسم (Radafati) ، راجع التعليق رقم ٢٠٦ سالف الذكر.

(٢٨١) نظرا لوفرة المواقع التي تحمل اسم فتّن (بيطّنام Patano) فإنه من الصعب أن يحدد المرء موقع فتّن هذه ، وإن الميناء الرئيسي للمعبر حتى بداية القرن الرابع عشر كان هو كافيريبطنام (Kaveripattanam) الواقع على أحد أطراف وادي كافيري (Kaveri) ، وقد هدم بفعل طوفان وقع على هذا العهد ، يتعلق الأمر إما بهذه المدينة أو بمدينة ناگابّاتّنام (Nagappattinam) الواقعة أكثر إلى الجنوب أنظر الخريطة ـ راجع التعليق ٢٧٥. ـ ويستغرب السير گيب من عدم ذكر ابن بطوطة لميناء كايل Kayal (ماركوبولو : كايل (Cail) الذي يقع جنوب توتيكورين (Tuticorin) والذي كان أهم محطة تجارية على ذلك العهد ـ أنظر الخريطة.

(٢٨٢) حول مترة التي تحمل في الخرائط اسم (Madura) راجع التعليق ٢٧٥ والتعليق ٢٨١ وقد قلنا أن افادات ابن بطوطة عن هذه المملكة ، ولو أنها لم تعمر طويلا ، كانت افادات أصيلة ...

٩٣

ذكر ترتيب رحيله وشنيع فعله في قتل النساء والولدان.

وكانت الأرض التي نسلكها غيضة واحدة من الأشجار والقصب بحيث لا يسلكها أحد فأمر السلطان أن يكون مع كل واحد من في الجيش من كبير وصغير قادوم لقطع ذلك، فإذا نزلت المحلة ركب إلى الغابة والناس معه فقطعوا تلك الأشجار من عدوة النهار إلى الزوال، ثم يوتي بالطعام فيأكل جميع الناس طائفة بعد أخرى ، ثم يعودون إلى قطع الأشجار إلى العشى وكلّ من وجوده من الكفار في الغيضة أسروه ، وصنعوا خشبة محددة الطرفين فجعلوها على كتفيه يحملها ومعه امرأته وأولاده ويوتي بهم إلى المحلة!

وعادتهم أن يصنعوا على المحلة سورا من خشب يكون له أربعة أبواب ويسمونه الكتكر ، بفتح الكافين وسكون التاء المعلوة وآخره راء ، ويصنعون على دار السلطان كتكرا ثانيا ويصنعون خارج الكتكر الأكبر مصاطب ارتفاعها نحو نصف قامة ويوقدون عليها النار باللّيل ويبيت عندها العبيد والمشاؤون ، ومع كل واحد منهم حزمة من رقيق القصب ، فإذا أتى احد من الكفار ليضربوا على المحلة ليلا أوقد كل واحد منهم الحزمة التي بيده ، فعاد اللّيل شبه النهار ، لكثرة الضياء وخرجت الفرسان في اتباع الكفار ، فإذا كان عند الصباح ، قسم الكفار الماسورون بالأمس أربعة أقسام وأوتى إلى كلّ باب من أبواب الكتكر بقسم منهم فركزت الخشب التي كانوا يحملونها بالأمس عنده ثم ركزوا فيها حتى تنفذهم ، ثم تذبح نساؤهم ويربطن بشعورهم إلى تلك الخشبات ويذبح الأولاد الصغار في حجورهن ويتركون هنالك وتنزل المحلة ويشتغلون بقطع غيضة أخرى ويصنعون بمن أسروه كذلك!

وذلك أمر شنيع ما علمته لأحد من الملوك وبسببه عجل الله حينه! ولقد رأيته يوما والقاضي عن يمينه وأنا عن شماله وهو يأكل معنا وقد أوتي بكافر معه امرأته وولده سنّه سبع فأشار إلى السيافين بيده أن يقطعوا رأسه ، ثم قال لهم وزن أو وبّسر أو (٢٨٣) معناه : وابنه وزوجته فقطعت رقابهم ، وصرفت بصري عنهم فلما قمت وجدت رؤوسهم مطروحة بالأرض! وحضرت عنده يوما وقد أتي برجل من الكفار فتكلم بما لم أفهمه فإذا بجماعة من الزبانية قد استلوا سكاكينهم ، فبادرت القيام ، فقال لي : إلى أين؟ فقلت : أصلي العصر ، ففهم عني وضحك ، وأمر بقطع يديه ورجليه ، فلما عدت وجدته متشطحا في دمائه!

__________________

(٢٨٣) تهجى هذه العبارات الفارسية بالحروف اللاتينية : VAZAN ـ iUVA PESAR ـ iU.

٩٤

ذكر هزيمته للكفار وهي من أعظم فتوحات الإسلام

وكان في ما يجاور بلاده سلطان كافر يسمى بلّال ديو (٢٨٤) ، بفتح الباء الموحدة ولام وألف ولام ثانية ودال مهمل مكسور وياء آخر الحروف مفتوحة وواو مسكن ، وهو من كبار سلاطين الكفار يزيد عسكره على مائة ألف ، ومعه نحو عشرين الفا من المسلمين أهل الذعارة وذوى الجنايات والعبيد الفارين ، فطمع في الاستيلاء على بلاد المعبر ، وكان عسكر المسلمين بها ستة آلاف منهم النصف من الجياد والنصف الثاني لا خير فيهم ولا غناء عندهم فلقوه بظاهر مدينة كبّان (٢٨٥) فهزمهم ورجعوا إلى حضرة مترة ، ونزل الكافر على كبّان وهي من أكبر مدنهم وأحصنها وحاصرها عشرة أشهر ولم يبق لهم من الطعام إلا قوت أربعة عشر يوما ، بعث لهم الكافر أن يخرجوا على الأمان ويتركوا له البلد ، فقالوا له : لا بد من مطالعة سلطاننا بذلك، فوعدهم إلى تمام أربعة عشرة يوما ، وكتبوا إلى السلطان غياث الدين بأمرهم فقرأ كتابهم على النّاس يوم الجمعة ، فبكوا ، وقالوا : نبيع أنفسنا من الله ، فإن الكافر إن أخذ تلك المدينة انتقل إلى حصارنا ، فالموت تحت السيوف أولى بنا! فتعاهدوا على الموت وخرجوا من الغد ونزعوا العمائم عن رؤوسهم وجعلوها في أعناق الخيل ، وهي علامة من يريد الموت ، وجعلوا ذوي النجدة والأبطال منهم في المقدمة ، وكانوا ثلاثمائة ، وجعلوا على الميمنة سيف الدّين بها دور ، وكان فقيها ورعا شجاعا ، وعلى المسيرة الملك محمد السّلحدا (٢٨٦) ، وركب السلطان في القلب ومعه ثلاثة آلاف ، وجعل الثلاثة الآلاف الباقين ساقة لهم ، وعليهم اسد الدين كيخسرو الفارسي ، وقصدوا محلّة الكافر عند القائلة ، وأهلها على غرة ، وخيلهم في المرعى فأغاروا عليها، وظن الكفار أنهم سرّاق فخرجوا اليهم على غير تعبئة وقاتلوهم ، فوصل السلطان غياث الدين فانهزم الكفار شرّ هزيمة ، وأراد سلطانهم أن يركب وكان ابن ثمانين سنة ، فأدركه ناصر الدين بن أخي السلطان الذي ولي الملك بعده ، فأراد قتله ، ولم يعرفه ، فقال له أحد غلمانه : هو السلطان ، فأسره وحمله إلى عمه فأكرمه في الظاهر حتى جبى منه الأموال والفيلة والخيل ، وكان يعده السراح ، فلما استصفى ما عنده ذبحه وسلخه ، وملئ جلده بالتبن ، فعلّق على سور مترة ، ورايته بها معلقا!

ولنعد إلى كلامنا فنقول : ورحلت عن المحلة فوصلت الى مدينة فتّن ، بفتح الفاء والتاء المثناة المشددة ونون وهي كبيرة حسنة على الساحل ، ومرساها عجيب قد صنعت فيه قبّة خشب كبيرة قائمة على الخشب الضخام يصعد اليها على طريق خشب مسقّف ، فإذا جاء

__________________

(٢٨٤) بلال ديو الثالث (BALLALA III) آخر سلطان لهوزالاHoysala سنة ١٩٩٢ ـ ١٣٤٢ ـ ٦٩١ ـ ٧٤٢.

(٢٨٥) القصد إلى Konnanur ـ Koppam كونّانوركوبّان وتقع في أقصى جنوب ولاية أندرابراديش ـ (AN DRAPRADESH) أنظر الخريطة.

(٢٨٦) ضابط مكلّف بحراسة الأسلحة.

٩٥

العدوّ ضموا إليها الأجفان التي تكون بالمرسى ، وصعدها الرجال والرماة فلا يصيب العدوّ فرصة.

وبهذه المدينة مسجد حسن مبنى بالحجارة ، وبها العنب الكثير والرّمان الطيب ، ولقيت بها الشيخ الصالح محمد النيسابوري أحد الفقراء المولّهين الذين يسدلون شعورهم على أكتافهم ، ومعه سبع ربّاه يأكل مع الفقراء ويقعد معهم ، وكان معه نحو ثلاثين فقيرا ، لأحدهم غزالة تكون مع الأسد في موضع واحد فلا يعرض لها!

وأقمت بمدينة فتنّ ، وكان السلطان غياث الدين قد صنع له أحد الجوكية حبوبا للقوة على الجماع ، وذكروا أن من جملة أخلاطها برادة الحديد ، فأكل منها فوق الحاجة فمرض ووصل إلى فتّن فخرجت إلى لقائه وأهديت له هدية فلما استقر بها بعث عن قائد البحر خواجة سرور ، فقال له : لا تشتغل بسوى المراكب المعيّنة للسفر إلى الجزائر ، وأراد أن يعطيني قيمة الهدية ، فأبيت ، ثم ندمت! لانه مات فلم آخذ شيئا! وأقام بفتن نصف شهر ثم رحل إلى حضرته.

وأقمت أنا بعده نصف شهر ، ثم رحلت إلى حضرته ، وهي مدينة مترة ، بضم الميم وسكون التاء المعلوة وفتح الراء ، مدينة كبيرة متسعة الشوارع ، وأول من اتخذها حضرة صهريّ السلطان الشريف جلال الدين أحسن شاه وجعلها شبيهة بدهلي ، وأحسن بناءها ، ولما قدمتها وجدت بها وباء يموت منه الناس موتا ذريعا فمن مرض مات من ثاني يوم مرضه، أو ثالثه (٢٨٧) وإن أبطأ موته فإلى الرابع ، فكنت إذا خرجت لا أرى إلا مريضا أو ميتا. واشتريت بها جارية على أنها صحيحة فماتت في يوم آخر ، ولقد جاءت إليّ في بعض الأيام امرأة كان زوجها من وزراء السلطان أحسن شاه ومعها ابن لها سنّة ثمانية أعوام نبيل كيّس فطن فشكت ضعف حالها فأعطيتها نفقة ، وهما صحيحان سويّان. فلما كان من الغد جاءت تطلب لولدها المذكور كفنا ، وإذا به قد توفى من حينه.

وكنت أرى بمشور السلطان حين مات ، المئين من الخدم اللاتي أوتى بهن لدق الأرز المعمول منه الطعام لغير السلطان وهن مريضات قد طرحن انفسهن في الشمس

ولما دخل السلطان مترة وجد أمه وامرأته وولده مرضى فأقام بالمدينة ثلاثة أيام ، ثم خرج إلى نهر على فرسخ منها كانت عليه كنيسة للكفار وخرجت إليه في يوم خميس فأمر بإنزالي إلى جانب القاضي فلما ضربت لي الأخبية رأيت الناس يسرعون ويموج بعضهم في بعض ، فمن قائل : إن السلطان مات ومن قائل : إن ولده هو الميت ، ثم تحققنا ذلك ، فكان

__________________

(٢٨٧) يتعلق الأمر على ما يظهر بالطاعون الذي ظهر في المنطقة على ذلك العهد.

٩٦

الولد هو الميت ولم يكن له سواه فكان موته مما زاد في مرضه وفي الخميس بعده توفيت أم السلطان!

ذكر وفاة السلطان وولاية ابن أخيه وانصرافي عنه

وفي الخميس الثالث توفيّ السلطان غياث الدين وشعرت بذلك فبادرت الدخول إلى المدينة خوف الفتنة ، ولقيت ناصر الدين بن أخيه الوالي بعده خارجا إلى المحلة قد وجّه عنه، إذ ليس للسلطان ولد ، فطلبني في الرجوع معه فأبيت ، وأثّر ذلك في قلبه وكان ناصر الدين هذا خديما بدهلي قبل أن يملك عمّه فلما ملك عمه هرب في زيّ الفقراء إليه فكان من القدر ملكه بعده.

ولما بويع مدحته الشعراء فأجزل لهم العطاء وأول من قام منشدا القاضي صدر الزمان فأعطاه خمسمائة دينار وخلعة. ثم الوزير المسمّى بالقاضي فأعطاه ألفي دينار دراهم ، وأعطاني أنا ثلاثمائة دينار وخلعة ، وبث الصدقات في الفقراء والمساكين ، ولما خطب الخطيب أول خطبة خطبها باسمه نثرت عليه الدنانير والدراهم في أطباق الذهب والفضة ، وعمل عزاء السلطان غياث الدين فكانوا يختمون القرآن على قبره كلّ يوم ، ثم يقرأ العشّارون(٢٨٨) ، ثم يوتي بالطعام فيأكل الناس ثم يعطون الدراهم كلّ إنسان على قدره ، وأقاموا على ذلك أربعين يوما ثم يفعلون ذلك في مثل يوم وفاته من كل سنة.

وأول ما بدأ به السلطان ناصر الدين أن عزل وزير عمه وطلبه بالأموال ، وولي الوزارة الملك بدر الدين الذي بعثه عمّه إلي وأنا بفتن ليتلقاني ، فتوفى سريعا فولى الوزارة خواجة سرور قائد البحر ، وأمر أن يخاطب بخواجة جهان ، كما يخاطب الوزير بدهلي ، ومن خاطبه بغير ذلك غرم دنانير معلومة.

ثم إن السلطان ناصر الدين قتل ابن عمته المتزوّج بنت السلطان غياث الدين وتزوّجها بعده ، وبلغه أن الملك مسعودا زاره في محبسه قبل موته فقتله أيضا ، وقتل الملك بهادور ، وكان من الشجعان الكرماء الفضلاء.

وأمر لي بجميع ما كان عيّنه عمه من المراكب برسم الجزائر ، ثم أصابتني الحمى القاتلة هنالك ، فظننت أنها القاضية ، وألهمني الله التمر الهندي ، وهو هنالك كثير فأخذت نحو

__________________

(٢٨٨) لا يعرف شيء أزيد عن ناصر الدّين المذكور هنا ـ كل ما نعرف أن قطع العملة الأولى لخلفه عادل ، شاه ترجع لتاريخ ١٣٥٦ ـ ٧٥٧ ـ كلمة (العشارين) تعني الذين يتلون عشرة احزاب من القرآن الكريم ، ويلاحظ هنا عادة اقامة الذكرى كلّ سنة للمتوفّى ...

٩٧

رطل منه وجعلته في الماء ثم شربته ، فأسهلني ثلاثة أيام ، وعافاني الله من مرضي ، فكرهت تلك المدينة ، وطلبت الإذن في السفر ، فقال لي السلطان : كيف تسافر ولم يبق لأيام السفر إلى الجزائر غير شهر واحد؟ أقم حتى نعطيك جميع ما أمر لك به خوند عالم ، فأبيت، وكتب لي إلى فتّن لأسافر في أيّ مركب أردت ، وعدت إلى فتّن فوجدت ثمانية من المراكب تسافر إلى اليمن ، فسافرت في إحداها ، ولقينا أربعة أجفان فقاتلتنا يسيرا ثم انصرفت ، ووصلنا إلى كولم وكان في بقيّة مرض فأقمت بها ثلاثة أشهر (٢٨٩) ثم ركبت في مركب يقصد السلطان جمال الدين الهنّوري فخرج علينا الكفار بين هنّور وفاكنور.

ذكر سلب الكفار لنا

ولما وصلنا إلى الجزيرة الصغرى بين هنّور وفاكنور (٢٩٠) خرج علينا الكفار في اثنى عشر مركبا حربية ، وقاتلونا قتالا شديدا ، وتغلبوا علينا فأخذوا جميع ما عندي مما كنت أذّخره للشدائد وأخذوا الجواهر واليواقيت التي أعطانيها ملك سيلان ، وأخذوا ثيابي والزّوادات التي كانت عندي مما أعطانيه الصالحون والأولياء ولم يتركوا لي ساترا خلا السّراويل! وأخذوا ما كان لجميع الناس! وأنزلونا بالساحل ، فرجعت إلى قالقوط فدخلت بعض المساجد ، فبعث إلي أحد الفقهاء بثوب وبعث القاضي بعمامة ، وبعث بعض التجار بثوب آخر.

وتعرفت هنالك بتزوّج الوزير عبد الله بالسلطانة خديجة بعد موت الوزير جمال الدين ، وبأن زوجتي التي تركتها حاملا ولدت ولدا ذكرا فخطر لي السفر إلى الجزائر ، وتذكرت العداوة التي بيني وبين الوزير عبد الله ، ففتحت المصحف فخرج لي : تتنزّل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا (٢٩١) ، فاستخرت الله وسافرت ، فوصلت بعد عشرة أيام إلى جزائر ذيبة المهل ، ونزلت منها بكنّلوس (٢٩٢) ، فأكرمني واليها عبد العزيز المقدشاوي ، وأضافني

__________________

(٢٨٩) كان على ابن بطوطة أن يصل إلى كولم (Quilon) في بداية شهر يناير ١٣٤٥ وهو التاريخ الذي يصادف بداية شهر رمضان ٧٤٥ ولذلك فقد كان عليه أن يمضي رمضان وعيد الفطر والأضحى. وهذا العيد الأخير كان يوافق أبريل من نفس السنة.

(٢٩٠) القصد إلى نيطران Nitran جزيرة الحمام أوPigeon Island بين هنّور (Honavar وباركو ـ Bac canore ويقول يول Yule إنها على بعد ٢٥ ميلا جنوب أونورOnore التي هي هنور (Hinawr) ولا ننسى أنه سلب مرة أولى بين حدود السند والهند ...

(٢٩٢) التاريخ اللاحق يدفع بنا إلى التفكير في الوصول لذيبة المهل (مالديف) حوالي منتصف ربيع الثاني ٧٤٦ غشت ١٣٤٥ الأمر الذي يستدعي مقاما لفترة شهرين ونصف في قالفوط.

٩٨

٩٩

وجهز لي كندرة ، ووصلت بعد ذلك إلى هللي (٢٩٣) وهي الجزيرة التي تخرج السلطانة وأخواتها اليها برسم التفرّج والسباحة ويسمون ذلك التّبحّر ، ويلعبون في المراكب ويبعث لها الوزراء والأمراء بالهدايا والتحف متى كانت بها ، ووجدت بها أخت السلطانة وزوجها الخطيب محمد بن الوزير جمال الدين وأمها التي كانت زوجتي فجاء الخطيب إليّ وأتوا بالطعام.

ومرّ بعض أهل الجزيرة إلى الوزير عبد الله فأعلموه بقدومي ، فسأل عن حالي وعمّن قدم معي ، وأخبر أني جئت برسم حمل ولدي ، وكانت سنه نحو عامين (٢٩٤) وأتته أمه تشكو من ذلك ، فقال لها : أنا لا أمنعه من حمل ولده ، وأذن لي في دخول الجزيرة ، وأنزلني بدار تقابل برج قصره ليتطلّع على حالي ، وبعث إلي بكسوة كاملة وبالتّنبول وماء الورد على عادتهم ، وجئت بثوبي حرير للرمى عند السلام فأخذوهما ، ولم يخرج الوزير إليّ ذلك اليوم ، وأتي إليّ بولدي فظهر لي أن تعجيل السفر أولى ، فطلبت الإذن في ذلك فاستدعاني الوزير ودخلت عليه وأتوني بالثوبين الذين أخذوهما مني فرميتهما عند السلام على العادة ، وأجلسني إلى جانبه ، وسألني عن حالي ، وأكلت معه الطعام وغسلت يدي معه في الطست ، وذلك شيء لا يفعله مع أحد ، وأتوا بالتنبول ، وانصرفت ، وبعث إلي بأثواب وبساتي (٢٩٥) من الودع ، وأحسن في افعاله وأجمل.

وسافرت فأقمنا على ظهر البحر ثلاثا وأربعين ليلة ، ثم وصلنا إلى بلاد بنجالة ، وضبطها بفتح الباء الموحدة وسكون النون وجيم معقود وألف ولام مفتوح ، وهي بلاد متسعة كثيرة الأرز ، ولم أر في الدنيا أرخص أسعارا منها لكنها مظلمة ، وأهل خرسان يسمونها دوزخست بور نعمت (٢٩٦) معناه : جهنم ملأى بالنعم ، رأيت الأرز يباع في أسواقها خمسة وعشرين رطلا دهلية بدينار فضي (٢٩٧) ، والدينار الفضي هو ثمانية دراهم ، ودرهمهم كالدرهم النّقرة سواء ، والرطل الدّهلي عشرون رطلا مغربية ، وسمعتهم يقولون أن ذلك غلاء عندهم.

__________________

(٢٩٣) هللي هي بالذات الجزيرة التي أصبحت مطارا دوليا للجمهورية ، وفيه نزلت العاصمة مالي ومنه أقلعت ـ د. التازي: أقدم نقش عربي في مالديف ، مصدر سابق.

(٢٩٤) يلاحظ على الرحالة المغربي أنه ـ إذا ما قبلنا هذا التأكيد منه فيما يتصل بالعامين ـ سيجب علينا أن نتصرف في تاريخ زيارته الثانية لمالديف على الأقل بسنة واحدة وهو الأمر الذي يضع ليس فقط مشكلة استعمال الزمن طوال هذه السنة الاضافية بين السّفر الأول والثاني بل سيجعل السفر إلى الصين من المستحيل ، سيما ونحن نعلم أن الرجوع إلى الجزيرة العربية حدد في شهر أبريل ١٣٤٧ ذي الحجةSTEPHANE ـ III P.٠٨٢ ـ ٧٤٧.

(٢٩٥) بساتي جمع بستو وهو مبلغ مائة الف من الودع الذي نعرف أنه عملة أهل مالديف راجع التعليق رقم ١٨٩.

(٢٩٦) تهجية هذه العبارة بالحروف اللّاتينية (Duzakhast PUR nima)

(٢٩٧) انظر ج.III ـ ١٠٦ ـ ١٦٧ وانظر كذلك ج.III ـ ٢٩٠ رطل واحد لدهلي يعادل عشرين رطلا مغربيا أي ثمانية كيلو غرام.

١٠٠