رحلة ابن بطوطة - ج ٤

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ٤

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-010-9
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٣٥١

٢٨١
٢٨٢

الملاحق

شهادة ابن خلدون

تعقيب الزياني

كلمة (أفراج) المغربية

وثيقة تأسيس مسجد مالديف

تعليق وكالة المغرب العربي للأبناء

أكاديمية السلطان أبي عنان

رسالة إلى الروضة الشريفة

نص وقفية المدرسة البوعنانية بداخل فاس

حول الحديث عن الزاوية المتوكلية خارج فاس

تهنئة ملك غرناطة لملك المغرب بتحرير طرابلس

معلومات عن الرحلة من خلال المراسلات ...

٢٨٣
٢٨٤

لقد وعدنا أثناء المقدمة وفي غضون التعاليق بالاتيان ببعض الملاحق التي نراها ضرورية لإيضاح بعض النقط الغامضة في الرحلة أو لتكميل المعلومات الذي كانت في النص موجزة مختصرة ...

شهادة ابن خلدون

عن حديث ابن خلدون في المقدمة عمّا يقوله الناس حول مرويّات ابن بطوطة وما أجابه به الوزير ابن ودرار ، نسوق ما يلي نقلا عن المقدمة : (طبعة لبنان ١٩٥٦ ص ٣٢٥ ـ ٣٢٧)

«ولا تنكرنّ ما ليس بمعهود عندك ولا في عصرك شيء من أمثاله ، فتضيق حوصلتك عند ملتقط الممكنات ، فكثير من الخواص إذا سمعوا أمثال هذه الأخبار عن الدول السالفة بادر بالإنكار وليس ذلك من الصواب ، فإنّ أحوال الوجود والعمران متفاوتة، ومن أدرك منها رتبة سفلى أو وسطى فلا يحصر المدارك كلّها فيها ، ونحن إذا اعتبرنا ما ينقل لنا عن دولة بني العباس وبني أميّة والعبيديين ، وناسبنا الصحيح من ذلك والذي لا شكّ فيه بالذي نشاهده من هذه الدول التي هي أقلّ بالنسبة إليها وجدنا بينها بونا ، وهو لما بينها من التفاوت في أصل قوّتها وعمران ممالكها فالآثار كلّها جارية على نسبة الأصل في القوة كما قدّمناه ، ولا يسعنا انكار ذلك عنها ، إذ كثير من هذه الأحوال في غاية الشهرة والوضوح ، بل فيها ما يلحق بالمستفيض والمتواتر ، وفيها المعاين والمشاهد من آثار البناء وغيره. فخذ من الأحوال المنقولة مراتب الدول في قوّتها أو ضعفها وضخامتها أو صغرها ، واعتبر ذلك بما نقصه عليك من هذه الحكاية المستظرفة ، وذلك أنه ورد بالمغرب لعهد السلطان أبي عنان من ملوك بني مرين رجل من مشيخة طنجة يعرف بابن بطوطة كان رحل منذ عشرين سنة قبلها إلى المشرق وتقلب في بلاد العراق واليمن والهند ، ودخل مدينة دهلي حاضرة ملك الهند ، وهو السلطان محمد شاه ، واتّصل بملكها لذلك العهد وهو فيروزجوه (١) ، وكان له منه مكان ، واستعمله في خطّة القضاء بمذهب المالكيّة في عمله ، ثم انقلب إلى المغرب واتّصل بالسلطان أبي عنان وكان يحدّث عن شأن رحلته وما رأى من العجائب بممالك الأرض ، وأكثر ما كان يحدث عن دولة صاحب الهند إذا خرج إلى السفر أحصى أهل مدينته من الرجال والنساء والولدان ، وفرض لهم رزق ستّة أشهر تدفع لهم من عطائه ، وأنه عند رجوعه من سفره يدخل في يوم مشهود يبرز فيه الناس كافّة إلى صحراء البلد ويطوفون به ، وينصب أمامه في ذلك الحفل منجنيقات على الظهر ترمى بها شكائر الدراهم والدنانير على الناس ، إلى أنّ يدخل ايوانه ، وأمثال هذه

__________________

(١) القصد إلى فيروز ملك الذي ورد ذكراه عند ابن بطوطة في م ٨٤٣ ـ ٦٣٢ ـ ٠٣٢ ـ ١٢٢ ـ III ـ

٢٨٥

الحكايات فتناجي الناس بتكذيبه. ولقيت أيامئذ وزير السلطان فارس بن ودرار البعيد الصيت ففاوضته في هذا الشأن وأريته إنكار اخبار ذلك الرجل لما استفاض في الناس من تكذيبه ، فقال لي الوزير فارس : اياك أن تستنكر مثل هذا من أحوال الدول بما انك لم تره ، فتكون كابن الوزير الناشىء في السجن ، وذلك أن وزيرا اعتقله سلطانه ومكث في السجن سنين ربي فيها ابنه في ذلك المحبس ، فلما أدرك وعقل سأل عن اللحم الذي كان يتغذّى به ، فقال له أبوه هذا لحم الغنم ، فقال وما الغنم؟ فيصفها له أبوه بشياتها ونعوتها ، فيقول : يا أبت تراها مثل الفار فينكر عليه ، ويقول : أين الغنم من الفأر! وكذا في لحم الإبل والبقر إذ لم يعاين في محبسه من الحيوانات إلا الفار فيحسبها كلّها أبناء جنس الفار. ولهذا كثيرا ما يعتري الناس في الاخبار كما يعتريهم الوسواس في الزيادة عن قصد الإغراب كما قدّمناه أول الكتاب ، فليرجع الانسان إلى أصوله وليكن مهيمنا على نفسه ومميزا بين طبيعة الممكن والممتنع بصريح عقله ومستقيم فطرته ، فما دخل في نطاق الإمكان قبله ، وما خرج عنه رفضه ، وليس مرادنا الامكان العقليّ المطلق فانّ نطاقه أوسع شيء فلا يفرض حدّا بين الواقعات ، وانما مرادنا الامكان بحسب المادّة التي للشيء ، فانا اذا نظرنا أصل الشيء وجنسه وصنفه ـ ومقدار عظمه وقوّته أجرينا الحكم من نسبة ذلك على أحواله ، وحكمنا بالامتناع على ما خرج من نطاقه ، وقل ربّ زدني علما وأنت أرحم الراحمين والله سبحانه وتعالى أعلم.

* * *

تعقيب الزياني

وعن التحامل على ابن بطوطة من لدن الزياني مما اشرنا إليه في التقديم نورد نص الترجمانة الكبرى مصحوبا بالرد عليه من قبل الكتاني في مخطوطة عن تاريخ القرويين :

قال الزياني : إنما رسمت فيها (أي الترجمانة) ما شاهدته في الأقاليم التي بلغتها ، وغيره نقلته من رحلة العياشي ، ومحاضرة اليوسي ، ورحلة البلوي ، ورحلة ابن نباتة ، ورحلة السرخسي للاندلس والمغرب ، ورحلة الكردي ، ورحلة البكري ، واخبار الهند ، والسند والصين من تاريخ الإسلام للذهبي ، ومن تواريخ لبعض علماء الهند اجتمعت بهم بالحرم الشريف وبمكة، وكنت أسرد عليهم رحلة ابن بطوطة ، فأنكروا كثيرا مما فيها من أخبار ملوكهم ، وأما قضاؤه بالهند ومصاهرته لسلطانه ، فقد أبطلوه بالكلية ، وقالوا : هذا غير ممكن ، فبسبب ذلك لم أنقل من خبرها شيئا ، ثم بعد ذلك وقفت على ترجمته في الاحاطة ، لأبي عبد الله الخطيب ، نقلا عن شيخه أبي البركات البلفيقي ، أن محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي ، المعروف بابن بطوطة. حاله كان رجلا له مشاركة في الطب ، وارتحل للمشرق وتزيابزي الصوفية ، وجال الاقطار ، ودخل بلاد العجم ، والسند والهند والصين ، وعاد لبلده طنجة ، وجاز البحر للأندلس ،

٢٨٦

وبلغ غرناطة ، واجتمع بفقهائها في دعوة ، وكان يحدثهم عن رحلته في يومه وليلته فاستغربوا أخباره واستبعدوها. وقال البلوي في رحلته ، في ترجمة ابن بطوطة ، إنه لما عاد من رحلته ومن لقيه بها من الملوك ، وأن ملك الهند صاهره وقلده القضاء بمدينته العظمى ، وحصل من الأموال عددا كثيرا ، زيفوه وكذبوه ، ثم عاد لبر العدوة ودخل مدينة فاس أيام السلطان أبي عنان فارس ابن أبي الحسن المريني ، ولم يجتمع به ، ثم توجه للصحراء ثم للسودان ، يحسب أن ملوكه كملوك الهند وأرضه مثلها ، فخفق سعيه ووجد الأرض غير الأرض ، والناس غير الناس ، وبلغ خبره للسلطان أبي عنان ، فكتب له واستقدمه ، ولما اجتمع به عاتبه على عدم الاجتماع به لما قدم من الأندلس لفاس ، وكان أبو عنان فرغ من تشييد المدرسة المتوكلية التي بطالعة فاس ، فقال له : يا مولانا السلطان ، انما أتيت لفاس بقصدك والمثول بين يديك ، ولما دخلت هذه المدرسة التي شيدت ، ولم أقف على مثلها فيما شاهدته في المعمور كلّه ، قلت والله لا بد لي أن أتمم عملي ، وأبر قسمي بالوصول إلى أقاليم السودان حتى أشاهده ، وأقسم أن ليس في المعمور كله مثلها ، فحقق الله ظني ، وأبر يميني ، هذا موجب تأخيري عن المثول بين يديك ، فأكرمه السلطان أبو عنان ، وأجرى عليه الانعام ، وأمره أن يؤلف رحلته ويذكر فيها مدرسته التي زعم أنها لا نظير لها في المعمور. انتهى.

قال كاتبه عفا الله عنه ، وهذا من التغالي في الكذب ، ودليل على ما لمزه به فقهاء الأندلس ، فان في كل اقليم من أقاليم بلاد العرب ، كمصر ، والشام ، والعراق ، التي شاهدناها من المدارس والمساجد ، ما هو مثلها وأعلى منها ضخامة وتأنقا وحسنا ، وأما بلاد العجم ، والترك ، فحدث عن البحر ولا حرج ، فكل مسجد ، وكل مدرسة صغيرة أو كبيرة ، فوقها وأعظم منها؟؟؟؟ وأتقن منها ، وما وصف به المدرسة العنانية لبانيها ، أبي عنان رحمه‌الله ، فانما قصد به مدحه والتخلص منه بتلك الحيلة التي نجح سعيه بسببها ، غفر الله لنا وله ولقد أخبرني أحد طلبة السلطان ، سيد محمد رحمه‌الله ، أنه كان يسرد عليه رحلة ابن بطوطة ، وساق كلام ابن تيمية في الاستواء ، والنزول ، فنزل من محل جلوسه ، وقال : كنزولي هذا ، فقال له السلطان سيدي محمد ، اطو ذلك الكتاب وبعه في السوق وكل ثمنه لحما ، هذا رجل كذاب من اهل التجسيم كمن نقل عنه ، فو الله لو حضر بين يدي لاضربن عنقه ، فقد تحقق عنه ما وسمه به أهل الأندلس من الكذب ، وسيما اذ هو من أهّل البدع.

الكتاني ينتقد الزياني

عن مخطوطة الخزانة العامة رقم ٢٩

تحت عنوان : «الشعائر الدينية المقامة بالقرويين»

٢٨٧

وعند الكلام على «المدرسة المتوكلية» التي تعرف بالعنانية ... قال : عبد الحي الكتاني، ولما تم بناؤها دخلها السلطان أبو عنان لينظرها وأعطاه القائم عليها هناك زمام صائرها ... إلى أن قال :

... ذكر مؤرخ المغرب أبو القاسم الزياني في الترجمانة الكبرى نقلا عن رحلة البلوى أن الرحالة ابن بطوطة لما دخل فاسا بعد رحلته الطويلة ولم يجتمع بالسلطان أبي عنان وسافر إلى السودان استقدمه وعاتبه على عدم الاجتماع به ، وكان أبو عنان قد فرغ من تشييد المدرسة المتوكلية ، فقال : يا مولانا السلطان لما دخلت هذه المدرسة التي شيدت ولم أقف على مثلها فيما شاهدته في المعمور كلّه ، قلت : والله لا بد أن أتمم عملي وأبر بقسمي بالوصول إلى أقاليم السودان حتى أشاهده وأقسم أن ليس في المعمور كله مثلها. فحقق الله ظني وأبرّ يميني. فأكرمه السلطان وأمره أن يؤلف رحلته ويذكر فيها مدرسته التي زعم أنه لا نظير لها في المعمور ... أقول (الكتاني) وهذه مبالغة ، وعجيب سريان حقد الزياني إلى من كان قبله بدهور وأجيال! والعجب أن القصة التي ذكرت في اعتذار ابن بطوطة لأبي عنان عن موجب عدم لقيّه بعد رجوعه من الأندلس لم أجدها في رحلته المطبوعة إلا أن أهل البحث من الأروباويين اليوم يذكرون أن رحلة ابن بطوطة الأصلية ليست هي المطبوعة في مجلد ، وأن المطبوعة إنما هي تلخيص ابن جزي لا الرحلة الأصلية والله أعلم أي ذلك كان ، على أني أقول : قد دخلت كثيرا من مدارس الشام ومصر والحجاز والمغرب فلم أر من حيث ضخامة البناء والوسع والشكل أضخم من المدرسة العنانية هذه إلا ما كان من جامع السلطان حسن بمصر وجامع بني أمية بدمشق وبيت المقدس بفلسطين ، أما في النهر الجاري وسط المدرسة العنانية والبيوت المحيطة بها من فوق لسكنى طلاب العلم وغير ذلك من النقش والزخرف ، فلم أر لها نظيرا مطلقا فيما رأيت بعد التتبع والبحث الذي أتشخصه ...

* * *

عن كلمة (أفراج) أو أفراق المغربية

عن ذكر (أفراج) في عدد من المرات II ، ٣٦٩ ـ ٤٠٥ ـ III ٤٤ ، ٢٥١ ـ ٤١٥ وحيرة المعلقين حول القصد منها نسوق الملحق التالي عن ابن الحاج النّميري من كتابه فيض العباب.

وأفراق السعيد كالبلد الواسع الأقطار ، القائم الأسوار. البديع الاختطاط ، الشريف الاستنباط ، المحكم الارتباط. وهو في وضعه مستدير الساحة ، بدري المساحة. قد صنع من شقاق الكتّان الموضونة ، وفضلاته الفاضلة المصونة. وضوعفت طاقاته ، وحذيت حذو القذّة بالقذّة مسافاته.

وأظهر النصّاحون في خياطته النصائح ، وظاهر المراوح منهم المغادي والمعادي

٢٨٨

المراوح. وأعملوا فيه نبات الوخز غائصة غوص الأذهان ، أخذ من الألسنة الفاتقة رتوق البيان. ترسل خيوطها أسرع من البريق وتغادر الأنامل وكأنّها أفراس رهان تبارت في لا سبق ، عارفة كالأصولي بالجرح إلا أنها جاهلة بالفرق. ضيّقة العيون كالأتراك ، ناحلة الجسوم كالعابدين النسّاك ، إلا أنّها تبيّن لها الخيط الأبيض لا تدين بالإمساك. فالتأمت أجزاؤه أحسن الالتئام ، والتحمت على وفق الإبداع أجمل الالتحام. وتجانست أنحاؤه وتطابقت ، وتناسبت ميامنه ومياسره وتوافقت.

وجمع بشرائطه شرائط الكمال ، واختار من لونه وهو البياض طراز الجمال. وصنعت له عمد مثقفة كالقداح ، موشاة كأثواب الخود الرداح. بأسافلها زجاج حديد كبير الأجرام ، تشقّ الأرض شقّ الغرام قلب المستهام. وتقرّ في الترب كأنها جذور النخل الباسقة ، وعروق الأزرة السامية السامقة.

فتقف تلك العمد متناسقة الصفوف ، جائبة لمعنى في غيرها وزهى الملك منها بصحيفة دلّ على شرف ما فيها عنوانها. ذات الاطناب التي تمتد امتداد أشعة الشمس ، وتحل أوتادها من الأرض محل النفس من الجسم والسر من النفس. قائمة لفارس كإيوان كسرى ، مزدانة بأنواره التي هي أفخر من أنوار البدر وأسرى.

ويتصل بها البيت الأعظم الذي كاد يبلغ الفرقدين ، وتصير ذات العماد منه إلى ذي العمادين. بديع المحاسن جميل المسافر ، بهي المناظر ، زكي المخابر. وسيع مقام الاستضراب ، ممتد شأو الاستنخاب.

وتتّصل به القبّة التي هي ثالثة التعزيز ، وسمة شرف التمييز. ذات الحسن الفائق ، والجمال الرائق. والشكل البديع ، والاستنباط المرضى التأصيل والتفريع.

وبغربي هذه المساكن خيمة الشعر التي أعجز وصفها الشعراء ، وأنست بألوانها وبدائع صنعتها وشي صنعاء. قريبة التداني ، منيفة على أوثق المباني ، مستطيلة الشكل كالفجر الأول ، مستطيرة الذكر المنزّهة عن التداني ، وخلال الأقيال (العياهلة) الذين فازوا من دنياهم بنيل الأماني.

وفي أفراق السعيد من الأخبية والبيوت ما يشابه الكواكب في جمالها وازدحامها ، ويشابه العقود النفائس في حسنها وانتظامها. كل ذلك مما نشأ في مظاهر الإبداع والإتقان ، وصنع في أسعد الأوقات والأزمان. واستفرغ في تنجيده الوسع ، ونعم برؤيته البصر وبوصفه السمع.

وأمام باب أفراق قبّة الجلوس وهي قبّة ليست بالكبيرة إلّا أنّها في غاية الاحتفال ،

٢٨٩

مشتملة بالمحاسن أحسن الاشتمال. وفيها مرتبة الملك العزيز التمكين ، أحسن من طاقات السوسان والنسرين. وهي مستندة إلى ألواح تتصل بلطائف الصنعة ، وتتلاءم أجزاؤها فتصير سورا ظاهر المنعة. وقد أودعها الدّهانون عجائب اشغالهم. وأظهروا بالفعل ما كان بالقوة في خيالهم حتى شمل الاتقان جميع ما تقع عليه الأبصار ، وتتشوّف إليه الأفكار ، واستوضحت الحكم التي استتبعت بها الأسرار.

ويستقدم قبّة الجلوس مجال يقيد الألحاظ ، وتقف على ذكر محاسنه الألفاظ. وبه طريق الخليفة إذا خرج من مضاربه إلى حياة الساقة ، التي قامت قيام الجبل الرفيع الذروة ، والحديقة الملتفّة بأعلى الربوة. مرسلة أطنابها إرسال شآبيب الأمطار ، رافعة عمدها الثابت الذي كاد كالحروف. فتنتشر المرواقات على أعطافها ، وتتكاشف بمواطن استشرافها. حتى تحيط بالبقعة المتخيّرة لنزول خير الملوك ، والمنزّل المطهر الذي يحوز بسلوك الإمام عليه بركة أهل السلوك.

سور عظيم يعارض مهاب الرياح ، ويسمو سمو الحبا على الراح. ويزاحم الجو بمناكبه ، ويكاتب البروق المومضة بكوائبه. وله شرفات من الرقاع الزرق تباهي ألوان السحاب ، والعيون المناسبة في حجر الروض أحسن الانتساب.

وله بابان أحدهما جوفي وهو المسمى بباب الصرف ، وهو مفتوح لبيت علا سمكه علو السماك ، وأشرف على المحلّة إشراف البدر المنوّر الأحلاك. وأعرب عن الفخامة الثابتة الدلائل ، والجلالة الرفيعة المنازل ، والضخامة التي أنافت على الملوك الأوائل. والباب الثاني بقبلية أمام البرج الذي كاد يبلغ عنان السماء ، ويزحم النجوم المختومة كؤوسها بمسك الظلماء. وهو مربّع الشكل ، محتفل العلو والسفل ، دواخل حيطانه أبدع من الروض غب العهاد ، وأحسن من تحلّيات الخريدة ولا غرو فهي منوطة بالعماد.

فسيح مجال الأطناب ، عالي مسادل الجلباب. شديد الأركان ، يفوق شامخ البنيان. سام على الهضاب ، دافع في صدور السحاب. قابض بأعنّة الرياح الهوج ، مشرف كغوارب القلائص العوج. قد لبس أثواب الهيئة وجرّ برودها ، وصدع بأنوار العزّ وأبدى صعودها. وزهى بجامور تحسد الثريا اجتماع تفافيحه ، ويود الشفق لو كان بعض ذوائبه المرسلة إلا هزّ ريحه.

وفي جوفه حائط من الخشب يروق الأبصار بريقه ، ويفوق الوشي اليماني تنميقه. حسن المساق ، جميع الاستنساق تجتمع أجزاءه بعد الافتراق ، وتعود بعد الانخرام للانتظام والاتّساق.

٢٩٠

وفيه جملة أبواب محكمة الصنائع ، مفيضة بقداح البدائع ، آخذة بأزمّة العيون إلى حسنها الرائع ، قائمة على قلب القلوب بجمالها الموفور البضائع. وكلّها موصد مغلق إلا الباب الذي بجهة الشرق فإنه معدّ لدخول الخليفة ، ومواطئ أقدامه الشريفة ، مخصوص بالولوج إلى المواقف العالية المنيفة ، والحواضر التي احتوت على أسرار الحسن اللطيفة. ومن هنالك يشرع إلى باب أفراق الثاني الذي به مساكن الخلافة ومضاربها ، ومسارح ربّات خدوره ومساربها.

ويوالي باب أفراق الثاني القبّة العظمى التي ظهرت كقوس قزح ألوانها يلحق بالكوكب السيّار.

قد أحكمت بدواخله الحرائم البديعة الاختراع ، والتوارق العجيبة التي استمتع الحسن بها أعظم الاستمتاع.

وبها أيضا مرتبة الملك بيضاء عالية كالصبح ، مكتنفة في كل الأوقات بالنصر والفتح. يحلّها البدر فتجلي الأحلاك لكن بانتسامه ، ويستقر بأعلاها البحر فيرسل الدرّ لكن من كلامه، وتروي عن سهل لكن من خلائقه وعن كثير لكن من أنعامه ، «وتشاهد منه ثالث العمرين لكن عند تنفيذ أحكامه» ونصر الدّين بالماضيين لسانه وحسامه.

ويمقربة من قبّة الجلوس بالجهة الشرقية يضرب الجامع الذي امتدت له الأسباب ، وسرّ بالدخول في المحراب منه المحراب. وبه استقرار الحزّابين والمؤذنين من مرتبين لقراءة القرآن ، وحفظ أوقات الصلوات بالآذان ، وإقامة شعائر الإسلام والإيمان.

* * *

وثيقة تأسيس مسجد مالديف

عن حديثه حول الخطوط التي قرآها وهو يزور الجامع الأعظم في مالديف نسوق النص الكامل لهذا النقش كما وقفنا عليه بالعيان.

١) السطر الأول : أمر ببناء هذا المسجد المبارك الجامع لله تعالى السلطان درمس محمد بن عبد الله وأخوه سيري كلؤ؟ رحمة الله عليهم أجمعين وأمر الوزير شنورازاه ببنائه ، فبنا وعمّر رحمة الله عليه ووصل في هذا البلد أبو البركات.

٢) السطر الثاني : يوسف؟ البربري وأسلم على يديه في شهر ربيع الآخر في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة فقدم وأمر بعمارة هذا المسجد الجامع لله عزوجل مولانا السلطان

٢٩١

ابن السلطان : شهاب الدين أحمد بن أبي الفتح جلال الدين عمر بن صلاح الدين خلد الله أعماله وأمر الوزير.

٣) السطر الثالث : شنورازه؟ الدين علي بن أبي الفرج الصلاحي بعمارته فبنى وعمر وقام فيه بحمد الله وشكر وفرغ من عمارته في شهر ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين؟ وسبعمائة من الهجرة النبوية على صاحبها السلام.

٢٩٢

٢٩٣

أكاديمية السلطان أبي عنان

عن المجلس العلمي المشار إليه في IV ٣٤٢ نذكر ما يلي نقلا عن شرح الموقت الجاديري (ت ٨٣٩) لبردة البوصيري.

وقد تعمدنا ايراد هذا الملحق لأنه يعطي صورة عن الحياة الفكرية بفاس على عهد السلطان أبي عنان ، ثم هو يقدم لنا نخبة من العلماء الذين تعددت اختصاصاتهم وتنوعت حقول معارفهم بين فقيه وقاض وأديب وخطيب وموقت ومفتي وفيلسوف ودبلوماسي وسياسي ومهندس ورياضي ومقرئ ومتصوف وموثق ومؤرخ ، ومعبّر للرؤيا! علاوة على الرحّالة ابن بطوطة ... إنه مجمع علمي حافل :

وهذا الشرح إنما هو مختصر لما ورد في الشرح الحافل لبردة البوصيري الذي ألفه الأمير أبو الوليد إسماعيل ابن الأحمر المتوفى بفاس سنة ٨٠٧ ه‍.

قال البوصيري :

لعلّ رحمة ربي حين يقسمها

تأتي على حسب العصيان في القسم

لعلّ : كلمة ترج ، قال الجوهري : وأصلها عل ، واللام في أولها زائدة. قال المرادي : ولعل للترجي في المحبوب والإشفاق في المكروه ، ولا يكون إلا في الممكن ولا تكون للتعليل ولا للاستفهام ولا للشك عند البصريين خلافا لمن قال بذلك ، وليست مركبة على الأصح ، والرحمة : الرقة والتعطف ، يقال رحمة ومرحمة ، والحين : الوقت ، ويقسمها : يهبها. وتأتي : تجيء على حسب على مقدار ، والعصيان : ضد الطاعة ، والقسم : الحظ والنصيب. معناه : رجا الشيخ رحمه‌الله من الله تعالى أن تكون رحمته شاملة مستوعبة لجميع المعاصي حين قسمه إياها ، وذلك لما جاء في الحديث النبوي : إن الله تعالى يقول : " لو أتاني ابن آدم بقراب ملء الأرض ذنوبا لآتيته بقراب ملء الأرض رحمة.

قال شيخنا أبو الوليد : وقد وقع الكلام بين يدي السلطان أمير المؤمنين أبي عنان فارس بن السلطان أبي الحسن بن السلطان أبي سعيد عثمان بن السلطان أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني ملك المغرب من مقعد ملكه من المدينة البيضاء من حضرة فاس ، بمحضر الفقهاء والعلماء والأساتيذ والقضاة والشرفاء والخطباء وأصحاب العلوم ، منهم :

١ ـ الفقيه الإمام المفتي القاضي الخطيب أبو عبد الله محمد بن محمد القرشي التلمساني المقري بمفتح الميم.

٢ ـ وشيخنا الإمام الفقيه المدرك المفتي القاضي الخطيب أبو عبد الله محمد بن الفقيه

٢٩٤

القاضي الخطيب أحمد بن عبد الملك بن شعيب الفشتالي الصنهاجي الحميري.

٣ ـ والفقيه العارف بالفقه أبو عبد الله محمد بن الحسن السدراتي.

٤ ـ وشيخنا الفقيه الحاج الخطيب أبو علي عمر بن محمد البطوئي المعروف بابن البحر.

٥ ـ والفقيه الإمام المتكلم أبو عبد الله محمد بن أحمد المعافري التلمساني المعروف.

٦ ـ وشيخنا الفقيه القاضي الخطيب المفتي أبو العباس أحمد بن محمد بن قاسم الجذامي الفاسي المعروف بالقبّاب.

٧ ـ والشريف الفقيه الإمام العالم المتكلم النظار المفتي أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي الحسني التلمساني.

٨ ـ والفقيه المحدث الحاج الخطيب أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن مرزوق العجيسي.

٩ ـ الفقيه الإمام المتكلم النظار القاضي الخطيب أبو عثمان سعيد بن محمد الخزرجي التلمساني المعروف بالعقباني.

١٠ ـ والفقيه المفتي المدرس العارف بالفقه والفرائض أبو الحسن علي الصرصري الفاسي.

١١ ـ والشريف الفقيه القاضي أبو محمد عبد النور بن محمد العمراني الحسني.

١٢ ـ وصاحبنا الفقيه المفتي أبو إسحاق ابراهيم بن الفقيه المفتي الصالح إبراهيم بن عبد الله بن عبد الرحيم اليزناسني.

١٣ ـ وشيخنا القاضي الخطيب الكاتب صاحب القلم الأعلى العارف بالفقه والحديث والنحو والأدب أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان الخزرجي المالقي.

١٤ ـ وشيخنا الفقيه القاضي الخطيب الكاتب أبو القاسم محمد بن يحيى بن محمد الغساني البرجي.

١٥ ـ وشيخنا الفقيه القاضي المدرس العارف بنوازل الفقيه أبو عبد الله محمد المدعو بأبي خريص بن ياسين الياباني المريني.

١٦ ـ والفقيه المفتي القائم على حفظ المدونة عبد الرحمن النفزي المعروف بأبي عائشة.

١٧ ـ وشيخنا الفقيه القاضي الخطيب الحاج الكثير الجولة بالمشرق والمغرب وجميع البلاد محمد بن بطوطة العارف بالتاريخ.

١٨ ـ والفقيه القاضي العارف بكتاب ابن الحاجب الفرعي المدرس معبّر الرؤيا أبو عبد الله محمد القسمطيني المعرفو بالتمتام.

١٩ ـ والفقيه المعدل الهندسي الحسابي أبو الحسن علي بن أحمد الصنهاجي الحميري التلمساني المعروف بابن الفحام.

٢٠ ـ وشيخنا الفقيه المدرس المفتي أبو إسحاق إبراهيم بن الفقيه العالم أبي زيد عبد الرحمن بن محمد الحميري التلمساني المعروف بابن الإمام.

٢١ ـ وأخوه الفقيه المدرس أبو عبد الله محمد.

٢٩٥

٢٢ ـ والفقيه الخطيب العارف بكتاب ابن الحاجب الفرعي علي بن منصور بن هدية القرشي التلمساني.

٢٣ ـ وشيخنا الأستاذ النحوي سيبويه زمانه أبو عبد الله بن علي بن حياتي الغافقي الغرناطي.

٢٤ ـ وصاحبنا الفقيه القاضي العارف بالبديع والبيان أبو يحيى محمد بن أبي البركات العياضي السكاك.

٢٥ ـ والأستاذ المقري النحوي محمد المجكسي فارس زمانه.

٢٦ ـ وشيخنا الصوفي الحكيم محمد بن شاطر الجمحي المراكشي.

٢٧ ـ والفقيه الأستاذ العارف بالقراءات والتصوف والنحو محمد بن إبراهيم الموحدي التينملّي المراكشي المعروف بابن الصفار.

٢٨ ـ وشيخنا الفقيه القاضي أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله الأورّبي الفاسي العارف بالوثائق.

٢٩ ـ والفقيه المدرس مجالس السلطان أحمد بن أبي الفضل ابن الصباغ الخزرجي العارف بالفقه والحديث ، الآية في علم التاريخ.

قلت : وغير ذلك ممّن تركنا ذكره ويطول به الكتاب في قوله : (لعل رحمة ربي حين يقسمها) البيت.

وتردّد بينهم الكلام فيه ، فقال مجالس السلطان أبو زيان عريف ابن يحيى العربي السويدي : إذا كانت الرحمة تأتي على حسب العصيان إذا لخسر المحسنون! قال شيخنا : لو كنت حاضرا هناك لقلت مجاوبا له : أما أهل الطاعة ففرارهم عن الذنوب ونبذهم إياها بعراء الترك ، وأدبارهم عن المعاصي ، وإقبالهم على الطاعة لهو الرحمة الكبرى ، والطائع بإحسانه لا يشابه العاصي بإساءته : لشتان ما بين اليزيدين : يزيد بن سليم والأغر بن حاتم(١).

__________________

(١) الإشارة إلى قول الشاعر ربيعة الرقى :

لشتان ما بين اليزيدين في الندى

يزيد سليم والأغر بن حاتم

وقد كان الشاعر قد ذهب إلى الأمير يزيد بن سليم الذي غزا الروم عام ١٥٨ واستولى على حصون من ناحية قاليقلا ، وقد توفي بعد عام ١٦٢ ، لكن الشاعر استقلّ ما أعطاه يزيد هذا ثم ذهب إلى الأمير يزيد بن حاتم والي المنصور العباسي على إفريقية عام ١٥٤ الذي قضى على كثير من الفتن وقد توفي بالقيروان عام ١٧٠ واشتهر بالجود والكرم فأغدق عليه من خيراته ...

٢٩٦

وقد فضّل الله تعالى الصالح على العاصي بقوليه : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن يجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ، الآية ، وقوله : وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء إلى آيات كثيرة في هذا المعنى ، لكن لما وقع العصاة في المعصية ولم يجدوا سبيلا لأفعال البر فانكسرت قلوبهم بالوقوع في الحوب ، جاءت الأحاديث بما طمعوا به من رحمة الله وهو قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : شفاعتي لأهل الكبائر ، وقوله في خبر عن ربنا : أنا عند ظن عبدي فليظنّ بي ما شاء فشاء العصاة لذلك بحروف الرحمة، ولذلك قال الناظم :

لعلّ رحمة ربي حين يقسمها

تأتي على حسب العصيان في القسم

ومع ذلك فالرحمة تلحق العاصي بالطائع ، وقال بعض المشايخ من الصوفية :

إذا بدت عين من عيون الرحمة ألحقت المسيء بالمحسن! وقال تعالى : ورحمتي وسعت كل شيء.

رسالة إلى الروضة الشريفة

عن الرسالة والقصيدة اللتين بعثهما السلطان أبو عنان إلى سيد المرسلين بخط يده (٤٥٣ ـ IV) وحتى نأخذ فكرة عن محتويات مثل هذه الرسائل نأتي هنا ـ في غياب خطاب أبي عنان ـ بنموذج مما بعث به ملك غرناطة عن نفح الطيب (ج ٥ ص ٣٥٤ الإحاطة ٤ ، ٥٥٦) وهو من عمل لسان الدّين ابن الخطيب إثر نظم كما نذكر بأن هذه الرسائل كانت تلقى أمام الضريح قبل خزنها.

إذا فاتني ظلّ الحمى ونعيمه

فحسب فؤادي أن يهبّ نسيمه

ويقنعني أنّى به متكنّف

فزمزمه دمعي ، وجسمي حطيمه

يعود فؤادي ذكر من سكن الغضا

فيقعده فوق الغضا ويقيمه

ولم أر شيئا كالنّسيم إذا سرى

شفى سقم القلب المشوق سقيمه

نعلّل بالتذكار نفسا مشوقة

ندير عليها كأسه ونديمه

وما شفني بالغور قدّ مرنّح

ولا شاقني من وحش وجرة ريمه

ولا سهرت عيني لبرق ثنيّة

من الثغر يبدو موهنا فأشيمه

براني شوق للنبيّ محمد

يسوم فؤادي برحه ما يسومه

٢٩٧

ألا يا رسول الله ناداك ضارع

على النأي محفوظ الوداد سليمه

مشوق إذا ما الليل مدّ رواقه

تهمّ به تحت الظّلام همومه

إذا ما حديث عنك حاءت به الصّبا

شجاه من الشّوق الحثيث قديمه

أيجهر بالنّجوى وأنت سميعها

ويشرح ما يخفي وأنت عليمه

ونعوزه السقيا ، وأنت غياثه

وتتلفه الشّكوى ، وأنت رحيمه

بنورك نور الله قد أشرق الهدى

فأقماره وضّاحة ونجومه

لك انهلّ فضل الله بالأرض ساكبا

فأنواؤه ملتفّة وغيومه

ومن فوق أطباق السماء بك اقتدى

خليل الّذي أوطاكها وكليمه

لك الخلق الأرضى الذي جلّ ذكره

ومجدك في الذكر العظيم عظيمه

يجلّ مدى علياك عن مدح مادح

فموسر درّ القول فيك عديمه

ولي يا رسول الله فيك وراثة

ومجدك لا ينسى الذمام كريمه

وعندي إلى أنصار دينك نسبة

هي الفخر لا يخشى انتقالا مقيمه

وكان بودّي أن أزور مبوّأ

بك افتخرت أطلاله ورسومه

وقد يجهد الإنسان طرف اعتزامه

ويعوزه من بعد ذاك مرومه

وعذري في تسويف عزمي ظاهر

إذا ضاق عذر العزم عمّن يلومه

عدتني بأقصى الغرب عن تربك العدا

جلالقة الثغر الغريب ورومه

أجاهد منهم في سبيلك أمة

هي البحر يعيي أمرها من يرومه

فلولا اعتناء منك يا ملجأ الورى

لريع حماه واستبيح حريمه

فلا تقطع الحبل الذي قد وصلته

فمجدك موفور النوال عميمه

وأنت لنا الغيث الذي نستدرّه

وأنت لنا الظلّ الذي نستديمه

ولمّا نأت داري وأعوز مطمعى

وأقلقني شوق يشبّ جحيمه

بعثت بها جهد المقلّ معوّلا

على مجدك الأعلى الذي جلّ خيمه

وكلت بها همي وصدق قريحتي

فساعدني هاء الرويّ وميمه

فلا تنسى يا خير من وطئ الثرى

فمثلك لا ينسى لديه خدمه

عليك صلاة الله ماذّر شارق

وما راق من وجه الصباح وسمه

«إلى رسول الحق إلى كافة الخلق ، وغمام الرحمة الصادق البرق ، الحائز في ميدان

٢٩٨

اصطفاء الرحمن قصب السّبق ، خاتم الأنبياء ، وإمام ملائكة السماء ، ومن وجبت له النبوّة وآدم بين الطين والماء ، شفيع أرباب الذنوب ، وطيب أدواء القلوب ، والوسيلة إلى علّام الغيوب ، نبي الهدى الذي طهر قلبه ، وغفر ذنبه ، وختم به الرسالة ربه ، وجرى في النفوس مجرى الأنفاس حبّه ، الشفيع المشفع يوم العرض ، المحمود في ملإ السماء والأرض ، صاحب اللواء المنشور يوم النشور ، والمؤتمن على سرّ الكتاب المسطور ، ومخرج الناس من الظلمات إلى النور ، المؤيد بكفاية الله وعصمته ، الموفور حظّه من عنايته ونعمته ، الظل الخفاق على أمّته ، من لو حازت الشمس بعض كماله ما عدمت إشراقا ، أو كان للآباء رحمة قلبه ذابت نفوسهم إشفاقا ، فائدة الكون ومعناه ، وسر الوجود الذي يبهر الوجود سناه ، وصفيّ حضرة القدس الذي لا ينام قلبه إذا نامت عيناه ، البشير الذي سبقت له البشرى ، ورأى من آيات ربّه الكبرى ، ونزل فيه (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى) من الأنوار من عنصر نوره مستمدّة ، والآثار تخلق وآثاره مستجدّة ، من طوي بساط الوحي لفقده ، وسدّ باب الرسالة والنبوّة من بعده ، وأوتي جوامع الكلم فوقفت البلغاء حسرى دون حدّه ، الذي انتقلض في الغرر الكريمة نوره ، وأضاءت لميلاده مصانع الشام وقصوره ، وطفقت الملائكة تجيئه وفودها ونزوره ، وأخبرت الكتب المنزلة على الأنبياء وصفاته ، وأخذ عهد الإيمان به على من اتصلت بمبعثه منهم أيام حياته ، المفزع الأمنع يوم الفزع الأكبر ، والسند المعتمد عليه في أهوال المحشر ، ذو المعجزات التي أثبتتها المشاهدة والحس ، وأقرّ بها الجنّ والإنس ، من جماد يتكلّم ، وجذع لفراقه يتألّم ، وقمر له ينشقّ ، وحجر يشهد أن ما جاء به هو الحق ، وشمس بدعائه عن مسيرها تحبس ، وماء من بين أصابعه يتبجّس ، وغمام باستسقائه يصوب ، وطويّ بصق في أجاجها فأصبح ماؤها وهو العذب المشروب ، المخصوص بمناقب الكمال وكما المناقب ، المسمى بالحاشر العاقب ، ذو المجد البعيد المرامي والمراقب ، أكرم من رفعت إليه وسيلة المعترف المغترب ، ونجحت لديه قربة البعيد المقترب ، سيد الرسل محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، الذي فاز بطاعته المحسنون ، واستنقذ بشفاعته المذنبون ، وسعد باتباعه الذي لا خوف عليهم ولا هم يخزنون صلى الله وسلّم ما لمع برق ، وهمع ودق ، وطلعت شمس ، ونسخ اليوم أمس :

«من عتيق شفاعته ، وعبد طاعته ، المعتصم بسببه ، المؤمن بالله ثم به ، المستشفي بذكره كلّما تألم ، المفتتح بالصلاة عليه كلّما تكلّم ، الذي إن ذكر تمثل طلوعه بين أصحابه وآله ، وإن هبّ النسيم العاطر وجد فيه طيب خلاله ، وإن سمع الأذان تذكر صوت بلاله ، وإن ذكر القرآن تردّد جبريل بين معاهده وخلاله ، لاثم تربه ، ومؤمل قربه ، ورهين طاعته وحبّه ، المتوسل به إلى رضى الله ربّه ، يوسف بن إسماعيل بن نصر :

«كتبه إليك يا رسول الله والدمع ماح ، وخيل الوجد ذات جماح ، عن شوق يزداد كلّما

٢٩٩

نقص الصبر ، وانكسار لا يتاح له إلّا بدنوّ مزارك الجبر ، وكيف لا يعني مشوقك الأمر ، وتوطأ على كبده الجمر ، وقد مطلت الأيام ابلقدوم على تربك المقدسة اللحد ، ووعدت الآمال ودانت بإخلاف الوعد ، وانصرفت الرفاق والعين بنور ضريحك ما اكتحلت ، والركائب إليك ما رحلت ، والعزائم قالت وما فعلت ، والنواظر في تلك المشاهد الكريمة لم تسرح ، وطيور الآمال عن وكور العجز لم تبرح ، فيالها من معاهد فاز من حيّاها ، ومشاهد ما أعطر ريّاها ، بلاد نيطت بها عليك التمائم (١) ، وأشرقت بنورك منها النجود والتهائم ، ونزل في حجراتها عليك الملك ، وانجلى بضياء فرقانك فيها الحلك ، مدارس الآيات والسور ، ومطالع المعجزات السافرة الغرر ، حيث قضيت الفروض وحتمت ، وافتتحت سورة الرحمن وختمت ، ابتدئت الملّة الحنيفيّة وتممت ، ونسخت الآيات وأحكمت :

«أما والذي بعثك بالحق هاديا ، وأطلعك للخلق نورا باديا ، لا يطفئ غلّتي إلّا شربك، ولا يسكن لوعتي إلا قربك ، فما أسعد من أفاض من حرم الله إلى حرمك ، وأصبح بعد أداء ما فرضت عن الله ضيف كرمك ، وعفّر الحدّ في معاهدك ومعاهد أسرتك ، وتردد ما بين داري بعتتك وههرتك ، وإنّي لما عاقتني عن زيارتك العوائق ، وإن كان شغلي عنك بك ، وعدتني الأعداء فيك عن وصل سبي بسببك ، وأصبحت بين بحر تتلاطم أمواجه ، وعدوّ تتكاثف أفواجه ، ويحجب الشمس عند الظهيرج عجاجه ـ في طائفة من المؤمنين بك وطنّوا على الصبر نقوسهم ، وجعلوا التوكل على الله وعليك لبوسهم ، ورفعوا إلى مصارختك رؤوسهم ، واستعذبوا في مرضاة الله تعالى ومرضاتك بوسهم ، يطيرون من هيعة إلى أخرى ، ويلتفتون والمخاوف عن يمنى ويسرى ، ويقارعون وهم الفئة القليلة جموعا كجموع قيصر وكسرى ، لا يبلغون من عدوّ هو الذرّ عند انتشاره ، عشر معشاره ، قد باعوا من الله تعالى الحياة الدنيا ، لأن تكون كلمة الله تعالى هي العليا ، فيا له من سرب مروع ، وصريخ إلا منك ممنوع ، ودعاء إلى الله وإليك مرفوع ، وصبية حمر الحواصل ، تخفق فقو أوكارها أجنحة المناصل ، والصليب قد تمطّى فمدّ ذراعيه ، ورفعت الأطماع بضبعيه ، وقد حجبت بالقتام السماء ، وتلاطمت أمواج الحديد ، والبأس الشديد ، فالتقى الماء ، ولم يبق إلا الدّماء ، وعلى ذلك فما ضعفت البصائر ولا ساءت الظنون ، وما وعد به الشهداء تعتقده القلوب حتى تكاد تشاهده العيون ، إلى أن نلقاك غدا إن شاء الله تعالى وقد أبلينا العذر ، وأرغمنا الكفر ، وأعملنا في سبيل الله تعالى وسبيلك البيض والسّمر ـ استنبت (٢) رقعتي هذه لتطير إليك من شوقي بجناح خافق ، وتسعد من نيتي التي تصحبها برفيق موافق ، فتؤدّي عن عبدك وتبلّغ ، وتعفّر الحدّ في تربك وتمرّغ ،

__________________

(١) نثر فيه قول الأعرابي :

بلاد بها نيطت علي تمائمي

وأول أرض مس جلدي ترابها

(٢) استنبت : جواب «لما» التي وقعت قبل سطور عديدة.

٣٠٠