رحلة ابن بطوطة - ج ٤

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ٤

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-010-9
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٣٥١

يحمل الجمل منها لوحين (٧) ، ولا يسكنها إلّا عبيد مسّوفة (٨) الذين يحفرون على الملح ، ويتعيّشون بما يجلب اليهم من تمر درعة (٩) وسجلماسة ، ومن لحوم الجمال ، ومن أنلي (١٠) المجلوب من بلاد السّودان ، ويصل السودان من بلادهم فيحملون منها الملح ، ويباع الحمل منه بايوالّاتن (١١) بعشرة مثاقيل إلى ثمانية (١٢) ، وبمدينة مالي بثلاثين مثقالا إلى عشرين وربّما انتهى إلى اربعين مثقالا.

وبالملح يتصارف السودان كما يتصارف بالذهب والفضة ، يقطعونه قطعا ويتبايعون به. وقرية تغازّى على حقارتها يتعامل فيها بالقناطير المقنطرة من التّبر ، وأقمنا بها عشرة أيام في جهد لان ماءها زعاق وهي أكثر المواضع ذبابا ، ومنها يرفع الماء لدخول الصحراء التي بعدها(١٣) وهي مسيرة عشر لا ماء فيها إلّا في النادر ، ووجدنا نحن بها ماء كثيرا في غدران أبقاها المطر ، ولقد وجدنا في بعض الأيام غديرا بين تلّين من حجارة ماءه عذب فتروّينا منه وغسلنا ثيابنا.

والكمأة بتلك الصّحراء كثيرة ، ويكثر القمل بها ، حتى يجعل الناس في أعناقهم خيوطا فيها الزئبق فيقتلها (١٤)! وكنا في تلك الأيام نتقدم أمام القافلة فإذا وجدنا مكانا ، يصلح

__________________

(٧) نفس الوصف عند البكري ...

Recueil des sources ARABES Concernant l\'Afrique occidentale du VIIIe au XVIe Siecle) Bilad AL ـ Sudan (Trad et notes par Josef n. cuoq Ed. di C. N. R. S. ٥٨٩١ P. ١٩٢.

(٨) مسوفة : قبيلة من صنهاجة ، كان أهلها يعيشون في القرن الخامس الهجري ـ القرن الحادي عشر الميلادي ، كإخوانهم لمتونة بشمال نهر السينغال ، ويعتقد أنهم جاءوا إلى هناك من تندوف حوالي القرن الثاني الهجري الثامن الميلادي ، وهي الفترة التي استولوا فيها على مملحة تغازّى ... وقد انتزعت منهم في القرن اللاحق من لدن البرابيش ... انظر المصدر السابق ص ٢٩٢ تعليق ٥ ـ يراجع ٦٧ ,IV.

(٩) وادي درعة (واددرا) جنوب الأطلس الصغير حيث تنحدر مياهه إلى الوادي ...

(١٠) أنلي :(Pennisetum Typhoideum) نوع مما يعرف تحت اسم Mil أوMillet وقد تقدم ذكره ٢١١ : IV ٠٣١ ٤١٣ ,II

(١١) إيوالّاتن : بربرة للاسم المالينكي (Malinke) ، وكلمة ولّاته تعريب للكلمة المالينكية (والا) بمعنى مكان الظل. ترقّب التعليق الآتي رقم ٢٥.

(١٢) نذكر أن وزن دينار واحد كان يعادل مثقالا واحدا يعني ٥ ، ٤ گرام ذهبي.

(١٣) تذكرني هذه الفقرة من أبن بطوطة فيما عرف في الصحراء باسم (الحوض) فقد كانت هناك ظاهرة صنع السقّائين للأحواض بمختلف الأحجام : يصنعونها من جلود الجواميس كالصهاريج الضخام ، يسقون بها الجمال ويملأون الروايا والقرب ، ولكل أمير حوض يسقى منه جماله. وسواهم من الناس يتفق مع السقائين على سقي جمله وملء قربته بشيء معلوم من المال على نحو ما حكاه ابن بطوطة عن التزود بالماء استعدادا للصحراء المخوّفة بين العلا وتبوك. انظر ٨٥٢ ,I.

(١٤) الكمأة هي (الترفاس) عند المغاربة تعظم عندهم حتى يتخذ فيها الأرنب جحره. «هكذا في البكري ص ١٨٢ ، وقد ورد عند الادريسي التعبير التالي ص ١٠٨ : " وأخبر بعض الثقات من متجولي التجار إلى بلاد السودان أن بمدينة أودغشت ينبت بأرضها بقرب مناقع المياه المتصلة بها كمأة ، يكون في وزن الكمء ثلاثة أرطال وأزيد وهو يجلب إلى أودغشت كثيرا ، يطبخونه مع لحوم الجمال ويأكلونه ويزعمون أن ما على الأرض مثله وقد صدقوا»! هذا وقد استخدم الفيزائيون العرب الزئبق لعلاج أمراض الجلد ويستعملوه مرهما بغرض محاربة الطفيليات الجلدية مثل القمل والصئبان والقراد. القزويني : عجائب المخلوقات القسم الثالث : في الأجسام الذهنية.

٢٤١

للرعي رعينا الدواب به ، ولم نزل كذلك حتى ضاع في الصحراء رجل يعرف بابن زيري فلم أتقدم بعد ذلك ولا تأخرت ، وكان ابن زيري وقعت بينه وبين ابن خاله ، ويعرف بابن عدي، منازعة ومشاتمة فتأخّر عن الرفقة فضلّ ، فلما نزل الناس لم يظهر له خبر ، فأشرت على ابن خاله بان يكتري من مسّوفة من يقصّ أثره لعله يجده ، فأبى. وانتدب في اليوم الثاني رجل من مسوفة دون أجرة لطلبه فوجد أثره وهو يسلك الجادة طورا ويخرج عنها تارة ، ولم يقع له على خبر ، ولقد لقينا قافلة في طريقنا فأخبرونا أن بعض رجال انقطعوا عنهم فوجدنا أحدهم ميتا تحت شجيرة من أشجار الرّمل ، وعليه ثيابه وفي يده سوط ، وكان الماء على نحو ميل منه. ثم(١٥) وصلنا إلى تاسرهلا (١٦) ، بفتح التاء المثناة والسين المهمل والراء وسكون الهاء ، وهي أحساء ماء تنزل القوافل عليها ، ويقيمون ثلاثة أيام فيستريحون ويصلحون أسقيتهم ويملؤونها بالماء ويخيطون عليها التلاليس (١٧) خوف الرّيح ، ومن هناك يبعث التّكشيف (١٨).

ذكر التكشيف

والتكشيف : اسم لكل رجل من مسوفة يكتريه أهل القافلة فيتقدم إلى إيوالّاتن بكتب الناس إلى أصحابهم بها ليكتروا لهم الدور ويخرجون للقائهم بالماء مسيرة أربع ، ومن لم يكن له صاحب بايوالّاتن كتب إلى من شهر بالفضل من التجار بها فيشاركه في ذلك ، وربما هلك التّكشيف في هذه الصحراء ، فلا يعلم أهل إيوالّاتن بالقافلة ، فيهلك أهلها أو الكثير منهم.

وتلك الصحراء كثيرة الشياطين (١٩) ، فإن كان التكشيف منفردا لعبت به واستهوته حتى يضلّ عن قصده فيهلك إذ لا طريق يظهر بها ولا أثر ، إنما هي رمال تنسفها الريح فترى جبالا من الرمل في مكان ثم تراها قد انتقلت إلى سواه ، والدليل هنالك من كثر تردّده،

__________________

(١٥) الميل العربي يعادل تقريبا أقل من كيلوميترين أما الميل الروماني فلا يعدو كيلو ميترا ونصفا تقريبا.

(١٦) حول (تاسرهلا) أورد الأب جوزيف م. كوك J.M.Couq سالف الذكر في تأليفه القيّم حول مصادر تاريخ افريقيا العربية (التعليق ٧) تعليقا مسهبا حول الموضوع ...

ويظهر أن الأحساء المقصودة هي بئر الگصيب الذي يبعده ٢٥٠ ك. م عن محطة تغازّى و ٤٨٠ عن محطة ولاته Mauny : textes et documents P.٨٣ N ٠ ٤

(١٧) التلاليس ج تلّيس ويعني في الدارجة المغربية وعاء كبيرا ينسج من الصوف أو الشعر يصلح في العادة لحمل الحنطة وما أشبه.

(١٨) الكلمة تعني معرفة معالم الطريق ومسالكها ، والشخص الذي يدل على ذلك يحمل اسم الكشاف على نحو ما نعيشه اليوم مع الحركة العالمية للكشفية (Scoutisme) ، وهكذا يكون معنى التكشيف : صاحب التكشيف ، وهو الدور الذي تقوم به اليوم الشركات السياحية في مختلف جهات العالم ...

(١٩) حديثه عن «الشياطين» في الصحراء يذكرني في نقاش جرى بين المجميين ونحن في الطريق إلى واحة سيوة (مارس ١٩٩٦) حول عزيف الرمل أو طبل الصحراء عند هبوب الرياح وتخلل المطر بينها ...

٢٤٢

وكان له قلب ذكي ، ورأيت من العجائب أنّ الدليل الذي كان لنا هو أعور العين الواحدة مريض الثانية وهو أعرف النّاس بالطريق (٢٠)!

واكترينا التّكشيف في هذه السفرة بمائة مثقال من الذهب ، وهو من مسّوفة ، وفي ليلة اليوم السابع رأينا نيران الذين خرجوا للقائنا فاستبشرنا بذلك ، وهذه الصحراء منيرة مشرقة ينشرح الصّدر فيها وتطيب النفس ، وهي آمنة من السّراق ، والبقر الوحشية (٢١) بها كثير يأتي القطيع منها حتى يقرب من الناس فيصطادونه بالكلاب والنّشاب ، لكن لحمها يولّد أكله العطش فيتحاماه كثير من الناس لذلك ، ومن العجائب أنّ هذه البقرة إذا قتلت وجد في كروشها الماء (٢٢) ، ولقد رأيت أهل مسوفة يعصرون الكرش منها ويشربون الماء الذي فيه! والحيّات أيضا بهذه الصحراء كثيرة.

حكاية [ملاعب الحيّات]

وكان في القافلة تاجر تلمساني يعرف بالحاج زيّان ، ومن عادته أن يقبض على الحيّات ويعبث بها ، وكنت أنهاه عن ذلك فلا ينتهي ، فلما كان ذات يوم أدخل يده في جحر ضب ليخرجه ، فوجد مكانه حية فأخذها بيده وأراد الركوب فلسعته في سبابته اليمنى وأصابه وجع شديد فكويت يده وزاد ألمه عشيّ النهار فنحر جملا وأدخل يده في كرشه وتركها كذلك ليلة ثم تناثر لحم أصبعه فقطعها من الأصل ، وأخبرنا اهل مسوفة أن تلك الحية كانت قد شربت الماء قبل لسعه ولو لم تكن شربت لقتلته (٢٣)!

ولما وصل الينا الذين استقبلونا بالماء شربت خيلنا ، ودخلنا صحراء شديدة الحر ليست كالتي عهدنا ، وكنا نرحل بعد صلاة العصر ونسري الليل كلّه وننزل عند الصباح ،

__________________

(٢٠) هناك عدة مراجع عن وجود عميان يمكنهم أن يكونوا ادلاء للمبصرين في الصحراء يستعينون بحاسة الشم لمعرفة الأرض التي يسلكونها ولمعرفة مواقع الماء ونادرا ما كانوا يخطئون.

د. صلاح جرّار : طريقة القراءة عند المكفوفين بصريا في قصائد من الشعر الأندلسي ، الجامعة الأردنية عمان ١٩٩٥.

(٢١) القصد إلى المهاADDAX NASOMACULATuS)

(٢٢) الحديث عن شرب الماء الذي يوجد في جوف هذه الحيوانات سبق أن طرقه بعض الباحثين المؤلفين ، بيد أن هذا الامر يتعلق بالجمال وليس بالبقر الوحشي ، أما عن مسّوفة حملة اللثام فقد تقدم الحديث عنهم في ١٨٣ ـ ٠٨٣ ـ ٨٧٣ ـ ٣٠٣ ـ ٦٧ ,IV.

(٢٣) وسيلة العلاج هذه ما تزال إلى الآن مستعملة في بعض جهات الجزائر في الگرگور اقليم سطيف ، حيث يذبح ديك مثلا ويوضع العضو المصاب في معدته. انظر (Mauny) ص ٤٠ تعليق ٦.

٢٤٣

وتأتي الرجال من مسّوفة وبردامة (٢٤) وغيرها بأحمال الماء للبيع ، ثم وصلنا إلى مدينة إيوالّاتن(٢٥) في غرة شهر ربيع الأول بعد سفر شهرين كاملين من سجلماسة ، وهي أول عمالة السودان ، ونائب السلطان بها فربا حسين ، وفربا بفتح الفاء وسكون الراء وفتح الباء الموحدة ، ومعناه النائب.

ولما (٢٦) وصلناها جعل التجار أمتعتهم في رحبة وتكفل السّودان بحفظها ، وتوجهوا إلى الفربا ، وهو جالس على بساط في سقيف ، وأعوانه بين يديه ، بأيديهم الرماح والقسّي وكبراء مسوفة من ورائه ، ووقف التجار بين يديه وهو يكلمهم بترجمان على قربهم منه احتقارا لهم(٢٧)فعند ذلك ندمت على قدومي بلادهم لسوء أدبهم واحتقارهم للأبيض! وقصدت دار ابن بدّاء ، وهو رجل فاضل من أهل سلا كنت كتبت له أن يكتري لي دارا ففعل ذلك، ثم إن مشرف (٢٨) إيوالّاتن ، ويسمى منشاجو ، بفتح الميم وسكون النون وفتح الشين المعجم والف وجيم مضموم وواو ، استدعى من جاء في القافلة إلى ضيافته ، فأبيت من حضور ذلك ، فعزم الأصحاب عليّ أشد العزم فتوجهت فيمن توجه ثم أتى بالضيافة ، وهي جريش أنلي مخلوطا بيسير عسل ولبن قد وضعوه في نصف قرعة صيّروه شبه الجفنة ، فشرب الحاضرون

__________________

(٢٤) بردام وهو الاسم الذي يعطى من لدن الفلّانين للتوارگ على العموم وللنبلاء منهم على الخصوص ويمكن أن يكون لهذا الاسم صلة بالقبيلة التي تحمل اسم إيبير ديانان Beckingham ٤٩٩١ ,IV P.٠٥٩ N ٠ ٥١ ومن المعلقين من يفترض أن القصد ببردامة إلى بغامة التي ذكرها الشريف الادريسي ج I ص ٢٥.

(٢٥) إيوالاتن جمع ولاته ، يذكر ابن الوزان أنها مملكة صغيرة خاملة بالنسبة لسائر ممالك السودان ، ليس لها من الأماكن المسكونة سوى ثلاث قرى كبيرة واكواخ متفرقة بين حدائق النخل ... الخريطة الحالية تظهر مكانين يحملان اسم ولاته ـ ايولاتن التي يتحدث عنها ابن بطوطة هي القرية الجنوبية التي تقع على الخط ٠٢ ، ١٧ شمالا والخط ٤٤ ، ٠ ٦ غربا ... كانت في وقت ابن بطوطة الحد الشمالي لامبراطورية مالي ، وهكذا فعلى نحو ما لاحظناه اثناء وجود ابن بطوطة في سيلان نجد هذه الإشارة من ابن بطوطة : «وهي أول عمالة السودان» ، وهذا يعني رسم الحدود بين الأقطار الأمر الذي سيكون له بعده على صعيد العلاقات الثنائية في المنطقة. ـ هذا ويوافق تاريخ أول ربيع الأول : ١٧ ابريل ١٣٥٢.

(٢٦) فربا كلمة تعني بامبرا أي الشخص الذي يمثل منسى مالي يعني الحاكم.

(٢٧) كان علي ابن بطوطة أن يعرف أن البروتوكول في بلاد السودان يقتضي ، لزوما ، اتخاذ ترجمان مع الأجانب تعبيرا عن الذات وعن الشخصية ومن غير قصد إلى احتقار على نحو ما نراه اليوم يطبّق في بعض البلاد ولو مع معرفة اللغة ... ومن هنا نجد أن مبعوث ملك مصر إلى منسى موسى ملك مالي يحكى عن انه استقبل بحفاوة كبيرة بيد أن هذا الملك الذي كان يتقن اللغة العربية إنما كان يتحدث للمبعوث المصري بواسطة الترجمان ...

(٢٨) المشرف لقب وظيفي حضاري دخل في القاموس الأوربي AL MOJARIF : الذي يتوصل بالواجبات والحقوق اللازمة عند الايراد. ابن صاحب الصلاة : تاريخ المن بالامامة تحقيق عبد الهادي التازي ، الطبعة الثالثة دار الغرب الإسلامي ـ بيروت ١٩٨٧.

٢٤٤

وانصرفوا ، فقلت لهم : ألهذا دعانا الأسود؟ قالوا : نعم! وهو الضيافة الكبيرة عندهم (٢٩)، فأيقنت حينئذ أن لا خير يرتجى منهم ، وأردت أن أسافر مع حجاج أيوالاتن ، ثم ظهر لي أن أتوجه لمشاهدة حضرة ملكهم.

وكانت إقامتي بايوالّاتن نحو خمسين يوما وأكرمني أهلها وأضافوني ، منهم قاضيها محمد بن عبد الله بن ينومر ، وأخوه الفقيه المدرس يحيى. وبلدة ايوالّاتن شديدة الحر ، وفيها يسير نخيلات يزدرعون في ظلالها البطيخ ، وماؤهم من أحساء بها ، ولحم الضأن كثير بها ، وثياب أهلها حسان مصرية ، وأكثر السكان بها من مسّوفة ، ولنسائهم الجمال الفائق وهنّ أعظم شأنا من الرجال (٣٠).

ذكر مسّوفة الساكنين بإيوالّاتن.

وشأن هؤلاء القوم عجيب ، وأمرهم غريب ، فأما رجالهم فلا غيرة لديهم ولا ينتسب أحدهم إلى أبيه بل ينتسب لخاله ، ولا يرث الرجل إلا ابناء أخته دون بنيه ، وذلك شيء ما رأيته في الدنيا إلا عند كفار بلاد المليبار من الهنود ، وأما هؤلاء فهم مسلمون محافظون على الصّلوات ، وتعلم الفقه وحفظ القرآن ، وأما نساؤهم فلا يحتشمن من الرجال ولا يحتجبن مع مواظبتهن على الصلوات ، ومن اراد التزوج منهن تزوج لكنهن لا يسافرن مع الزوج ، ولو أرادت إحداهن ذلك لمنعها أهلها!

والنساء هنالك يكون لهنّ الأصدقاء والأصحاب من الرجال الأجانب وكذلك للرجال صواحب من النساء الأجنبيات ويدخل أحدهم داره فيجد امرأته ومعها صاحبها فلا ينكر ذلك(٣١).

__________________

(٢٩) يعتقد بعض المعلّقين أن هذا النوع من التقديم للطعام لا يعني شيئا ضد الضيف! بل إنه يعبر عن حبّ له وعدم الكلفة معه يعبّر عن تقاليد وطنية على نحو ما يقدم المغاربة الحليب والتمر لكبار الضيوف ... ـ هذا وكلمة منشاجو تعني عبد السلطان.

(٣٠) لقطة كثيرا ما يستشهد بها اللذون يتحدثون عن مركز المرأة ودورها في المجتمع الإسلامي ، ونحن نعرف أن المسّوفيات هن اللواتي كن يشرفن في بعض الفترات على استغلال مملحة تغازّى ، فإن سكان المدينة بعد أن يبيعوا الملح ويأخذوا ما يكفي لحاجتهم يسلمون الباقي للسيدات ...

د. التازي : المرأة في تاريخ الغرب الإسلامي نشرFRIEDRICH EBERT Stiftung والفنك ـ الدار البيضاء ١٤١٣ ـ ١٩٩٢ ص ٢١ ـ التعليق ٤.

(٣١) كأني بابن بطّوطة ينقل عمّا سيكتبه ـ بعد قرون ـ المهدي الغزّال عند ما سفر عام ١١٧٩ ـ ١٧٦٦ بين ملك المغرب وملك اسبانيا!! ج I ص ٢٧٠ ، د. التازي : التاريخ الدبلوماسي ج l ص ٢٧٠

٢٤٥

٢٤٦

حكاية [القاضي وصاحبته]

دخلت يوما على القاضي بإيوالّاتن بعد إذنه في الدخول ، فوجدت عنده امرأة صغيرة السن بديعة الحسن ، فلما رأيتها ارتبت وأردت الرجوع ، فضحكت مني ولم يدركها خجل ، وقال لي القاضي : لم ترجع؟ إنها صاحبتي! فعجبت من شأنهما ، فإنه من الفقهاء الحجّاج وأخبرت أنه استأذن السلطان في الحج في ذلك العام مع صاحبته ، لا أدري أهي هذه أم لا فلم يأذن له!.

حكاية نحوها

دخلت يوما على أبي محمد يندكان المسّوفي الذي قدمنا في صحبته فوجدته قاعدا على بساط وفي وسط داره سرير مظلّل ، عليه امرأة معها رجل قاعد ، وهما يتحدثان ، فقلت له : ما هذه المرأة؟ فقال : هي زوجتي ، فقلت : وما الرجل الذي معها. أإبنها؟ فقال : هو صاحبها! فقلت له : أترضى بهذا وأنت قد سكنت بلادنا وعرفت أمور الشرع؟! فقال لي : مصاحبة النساء للرجال عندنا على خير وحسن طريقة لا تهمة فيها ، ولسن كنساء بلادكم!! فعجبت من رعونته وانصرفت عنه ، فلم أعد إليه بعدها ، واستدعاني مرات فلم أجبه!

ولما عزمت على السفر إلى مالي وبينها وبين إيوالّاتن مسيرة أربعة وعشرين يوما للمجدّ اكتريت دليلا من مسّوفة إذ لا حاجة إلى السفر في رفقة لأمن تلك الطريق وخرجت في ثلاثة من أصحابي.

وتلك الطريق كثيرة الأشجار ، وأشجارها عادية ضخمة تستظل القافلة بظل الشجرة منها (٣٢). وبعضها لا أغصان لها ولا ورق ، ولكن ظلّ جسدها بحيث يستظل به الانسان ، وبعض تلك الأشجار قد استأسن داخلها واستنقع فيه ماء المطر فكأنها بئر! ويشرب النّاس من الماء الذي فيها ، ويكون في بعضها النحل والعسل فيشتاره النّاس منها ، ولقد مررت بشجرة منها فوجدت في داخلها رجلا حائكا قد نصب بها مرمته وهو ينسج فعجبت منه!

قال ابن جزي : ببلاد الأندلس شجرتان من شجر القسطل في جوف كلّ واحد منهما حائك ينسج الثياب : إحداهما بسند وادي آش ، والأخرى ببشّارة (٣٣) غرناطة.

__________________

(٣٢) القصد دون شك إلى الشجر الاستوائي العريض الجذع الذي يحمل اسم BAOBAB في ثمره لبّ يؤكل ...

(٣٣) وادي آش (Guadix) شمال شرقي غرناطة ، والبشّارة (ALPUJARRAS) مرتفعات جبلية بين غرناطة والبحر.

٢٤٧

رجع ، وفي أشجار هذه الغابة التي بين إيوالّاتن ومالي ما يشبه ثمرة الإجّاص والتفاح والخوخ والمشمش وليست بها ، وفيها أشجار تثمر شبه الفقوص ، فإذا طاب انفلق عن شيء شبه الدقيق ، فيطبخونه ويأكلونه ويباع بالأسواق ، ويستخرجون من هذه الأرض حبات كالفول فيقلونها ويأكلونها ، وطعمها كطعم الحمص المقلوّ (٣٤) ، وربما طحنوها وصنعوا منها شبه الاسفنج وقلوه بالغرتي (٣٥). والغرتي : بفتح الغين المعجم وسكون الراء وكسر التاء المثناة ، وهو ثمر كالاجاص شديد الحلاوة مضر بالبيضان إذا أكلوه ، ويدق عظمه فيستخرج منه زيت لهم فيه منافع ، فمنها أنهم يطبخون به ويسرجون السّرج ويقلون به هذا الاسفنج ويدهنون به ويخلطونه بتراب عندهم ويسطّحون به الدور كما تسطح بالجير ، وهو عندهم كثير متيسر ، ويحمل من بلد إلى بلد في قرع كبار تسع القرعة منها قدر ما تسعه القلّة ببلادنا.

والقرع ببلاد السودان يعظم ، ومنه يصنعون الجفان ، يقطعون القرعة نصفين فيصنعون منها جفنتين وينقشونها نقشا حسنا ، وإذا سافر أحدهم يتبعه عبيده وجواريه ، يحملون فرشه وأوانيه التي يأكل ويشرب فيها ، وهي من القرع.

والمسافر بهذه البلاد لا يحمل زادا ولا إداما ولا دينارا ولا درهما ، إنما يحمل قطع الملح وحليّ الزجاج الذي يسمّيه الناس النظم (٣٦) ، وبعض السلع العطرية ، وأكثر ما يعجبهم منها القرنفل والمصطكي وتاسرغنت (٣٧) وهو بخورهم ، فإذا وصل قرية جاء نساء السودان

__________________

(٣٤) يتعلق الأمر بما يسمّى فواندزو (Voandzou) عوّض اليوم بالفول السوداني : كاوكاو النبات الوارد من البرازيل ...Cuoq P.٧٩٢ Stephane III P.٦٠٤

(٣٥) الغرتي هو بالذات القاريتي عند العمري معروف بإفريقيا الغربية" وشجر اسمه قاريتي يحمل شبيه الليمون ... وطعمه يشبه طعم الكمثرى بداخله نوى ملحم ، يؤخذ منه ذلك النوى وهو طري ويطحن فيخرج منه شبيه بالسمن ، ويجمد ، تبيّض به البيوت وتوقد منه السرج والقناديل ويعمل منه صابون ، وإذا أريد أن يوكل ذلك الدّهن يحرق بتدبير ... ويستعمل في الماكل كالسمن ...

العمري : مسالك الأبصار في ممالك الانصار (ت ٧٤٩) السفر الثالث إصدار فؤاد سزكين ـ معهد تاريخ العلوم العربية ـ والإسلامية جامعة فرانكفورت ـ ألمانيا ١٤٠٨ ـ ١٩٨٨ ص ٣٦ ـ ٣٧.

(٣٦) النظم من نظم العقيق أو اللؤلؤ ... أي جعله في نحو خيط مرتبا ليصلح كعقد.

(٣٧) تاسرغنت صيغة تأنيت ، كلمة بربرية ، والاسم المعرّب سرغينة (Corrigiola telephiifolia) ، وهي كما يقول الحسن ابن الوزّان : «جذر عطري يوجد على ساحل المحيط إلى جهة الغرب ويجلبه تجار موريطانيا إلى بلاد السودان حيث يستعمل عطرا رفيعا ، ولا حاجة إلى حرقه أو تسخينه ، لانه إذا حفظ في حجرة نشر فيها نفس الرائحة على أية حال ...»

٢٤٨

بأنلي واللبن والدجاج ودقيق النّبق (٣٨) والأرز والفوني ٣٩) ، وهو كحب الخردل ، يصنع منه الكسكسو (٤٠) والعصيدة (٤١) ، ودقيق اللّوبياء (٤٢) ، فيشتري منهنّ ما أحب من ذلك ، إلا أن الأرز يضر أكله بالبيضان ، والفوني خير منه.

وبعد مسيرة عشرة أيام من إيوالّاتن وصلنا إلى قرية زاغري (٤٣) ، وضبطها بفتح الزاي والغين المعجم وكسر الراء ، وهي قرية كبيرة يسكنها تجار السودان ويسمون ونجراتة (٤٤) بفتح الواو وسكون النّون ، وفتح الجيم والراء والف وتاء مثنّاة وتاء تانيث ، ويسكن معهم جماعة من البيضان يذهبون مذهب الإباضية (٤٥) من الخوارج ويسمون صغنغو بفتح الصاد

__________________

(٣٨) النّبق باللهجة المغربية يكون على مقدار الحمص تقريبا ، وفيه نوع أكبر يسمى في المغرب الزّفزف ـ Ju) (jub ويسمى بالعربية الفصحى العنّاب ... ويشبه به الشعراء أطراف أصابع العذارى ...

(٣٩) يلاحظ وجود الأرز في بلاد السودان الغربي ـ الفوني : فونيوDigitaria exilis وهو كما يقول العمري : «بنت مزغّب يدرس فيخرج منه شبيه حبّ الخردل أو أصغر وهو أبيض ، يغسل ثم يطحن ثم يعجن ويؤكل» مسالك الأبصار ـ السفر الرابع ص ٣٦.

(٤٠) يبدوا أن ابن بطوطة أول من استعمل هذا اللفظ بهذه الصيغة : الكسكسو وبها ورد في شعر ابن أجروم (ت ٧٧٢ ه‍) عندما استدعى زميله الماجري لتناول الكسكسو بالقديد واللفت!. وقد ورد ذكره في ترجمة أبى العباس أحمد المقري الذي زار القدس وكان الزوار اعتادوا الا يتناولوا عنده الا الكسكس. كما ورد في مذكرات السفير الزاياني وفي محاضرات اليوسى ويكثر التعليق على اصل هذه الكلمة سيما بعد أن اصبحت تنطق هكذا الكسكس! ويعتبر الكسكس الصحن المألوف في كل بيت مغربي بما فيه من أنواع تتجاوز العشرة ... ويعتمد على سميذ القمح أو الشعير أو الذرة أو أنلي مع اللّحم ـ د. التازي : التاريخ الدبلوماسي للمغرب ـ ج II ص ٣٠٨. د. شقور : الشعر المغربي في العصر المريني ١٩٩٦.

(٤١) العصيدة نوع من الطعام يرتكز كذلك على السميذ والدقيق على نحو الكسكس وهي غير الدشيشة طعام سيدنا ابراهيم لضيوفه (يراجع تفسير قوله تعالى : وجاء ضيف ابراهيم ... الآية.

(٤٢) ليس القصد إلى اللوبيا التي وردت من إمريكا ولكن القصد إلى ما يعرف ب : فاصوليا اليونان أو اللّاتين (PHASiOLUS) اللوبيا العربية معروفة في السودان تحت اسم نيبي (Niebe).

(٤٣) زاغري هو ماسينا الغربية المسمّى ديا غاراDiaghara من قبل المانديگ ، ودياگاري Diagari من قبل البول Peuls. هذه بلاد دياگاDiaga أودياDia الاسم الذي أعطى للاقليم وكذلك لقاعدته التي توجد الآن على مقربة من ديافارابي Mauny : Texte ٦٤ N : ٨ ـ Diafarane

(٤٤) ونجراته ، هي ونقارة عند الادريسي : التي يقول عنها من جملة ما يقول : «بلاد التبر المشهورة بالطيب والكثرة (كثرة ذهبها) وهي جزيرة طولها ثلاثمائة ميل وعرضها مائة وخمسون ميلا ... واشترى أكثره (الذهب) أهل وارقلان ، وأهل المغرب الأقصى وأخرجوه إلى دور السكك في بلادهم فيضربونه دنانير ويتصرّفون بها في التجارات والبضائع ... وأرض ونقاره فيها بلاد مغموره ومعاقل مشهورة وأهلها أغنياء ... الادريسي : النزهة ، الجزء الأول ص ٢٤ ـ طبعة معهد الدراسات الشرقية نابولي.

(٤٥) كان وجود الاباضية قويا بإفريقيا الشمالية في القرون الأولى للهجرة حيث بلغ الأمر إلى حد تكوين دولة أباضية في المغرب الأوسط : دولة الرستميين في تيهرت وبعد أن سقط الرستميون في بداية القرن الرابع وجدنا أن بعض الجماعات الاباضية تصمد في وارجلان ... ثم في مزاب إلى أيامنا .. ومن هؤلاء وجدنا مذهب الاباضية يتسلل عبر القوافل التجارية الصحراوية إلى بلاد السودان ... ومن المهم أن نذكر بهذه المناسبة جلسة مفيدة حضرتها كمستشار خاص (AD HOC) في محكمة العدل الدولية بلاهاي يوليه عام ١٩٧٥ عن مدى التأثير الإباضي في كلّ من الجزائر والمغرب وموريطانيا لمعرفة الحقيقة حول من هو «المعنّى بقضية الصحراء الغربية ... ـ د. التازي : التاريخ الدپلوماسي للمغرب ج ١٠ ص ٢٣٨ ـ ندوة الامام مالك بفاس ١٩٨١ ـ يراجع ٦٢٢ ,II.

٢٤٩

المهمل والغين المعجم الاول والنون وضم الغين الثاني وواو ، والسنّيون المالكيون من البيض يسمّون عندهم توري (٤٦) بضم التاء المثناة وواو وراء مكسورة ، ومن هذه القرية يجلب أنلي إلى إيوالّاتن.

ثم سرنا من زاغري فوصلنا إلى النّهر الأعظم ، وهو النيل (٤٧) وعليه بلدة كارسخو (٤٨)، بفتح الكاف وسكون الراء وفتح السين المهمل وضم الخاء المعجم وواو ، والنّيل ينحدر منها إلى كابرة (٤٩) ، بفتح الباء الموحدة والراء ، ثم إلى زاغة (٥٠) بفتح الزاي والغين المعجم ، وللكابرة وزاغة سلطانان يؤديان الطاعة لملك مالي ، وأهل زاغة قدماء في الإسلام ، لهم ديانة وطلب علم، ثم ينحدر النّيل من زاغة إلى تنبكتو (٥١) ، ثم إلى كوكو ، وسنذكرهما ، ثم إلى

__________________

(٤٦) هذه الأسماء ما تزال إلى الآن كأسماء عائلية ـ توري (TURE) وهو يؤدي معنى : (أجنبي) ، وأول ملك فيمالي كان يعتنق مذهب الاباضية ، فمن المحتمل أن آل صغنغو يكوّنون الشريحة الأولى للبيض الذين استقروا في عين المكان ، وقد أتبعت فيما بعد بطبقة أخرى ، وكانت هذه الطبقة سنّية مالكية ، بيد أنه ـ بعد ابن بطوطة ـ وجدنا أن آل صغنغو سوف يعتنقون المذهب المالكي.J.cuoq.Recueil P. ٩٩٢ N ٠ l. د. التازي : التاريخ الدپلوماسي للمغرب ج ٣ ص ٣٠٥.

(٤٧) يلاحظ أن اسم النيل أعطى من لدن الجغرافيين العرب لبعض الأنهار الافريقية وهكذا فحتى إلى القرن الثامن الهجري ـ الرابع عشر الميلادي ، نرى أنه توجد أودية في افريقيا لا صلة لها اطلاقا بنيل مصر ومع ذلك تحمل اسم النّيل! وها نحن مع ابن بطوطة في هذه الفترات التي يذهب فيها بعيدا فيذكر أن النيل ينحدر إلى بلاد النوبة!! وهكذا غاب عنه كسائر سابقية وجود وادي النيجر ...! لقد كان يجهل منابع النيل التي اهتم بها الأسواني سفير جوهر الصقلي إلى ملك النوبة حوالي ٣٥٦ ـ ٩٧٥ ـ كراتشكو فسكي : الأدب الجغرافي ص Mauny : Texte ٨٤ N ٠ l. ـ ٠١٢

(٤٨) من الممكن أن يكون القصد حسب ديلفوس إلى (kARA ـ SAKHOU) في عالية ديافارابي ـ (DI AFARABE) على الساحل الأيمن لنهر النيجر.

(٤٩) كابرة ربما كان أحد أسماء ديافارابي (Diafarabe) في أسفل النيجر ، في إقليم موپتي (Mopti) ـ ومدينة زاغة (ZAGHA) يمكن أن تكون هي (DIA) عند سافلة ديافارابي Beckingham P.٦٣ N ٠ ٦٣

(٥٠) يلاحظ أنّ غيرة سكان زاغة على الاسلام ربما كانت مرتبطة بقربها من مدينة جني الواقعة شرق النيجر والتي ابتدأت منذ هذا التاريخ تفرض نفسها كمركز ديني تجاري الأمر الذي يفسره تردد بعض العلماء عليها ... أبو القاسم الفگيگي : الفريد في تقييد الشريد ، تحقيق د. التازي ـ طبع بالبيضاء مطبعة النجاح عام ١٩٨٣ ص ٥١ تعليق ٢١.

(٥١) سياتي الحديث عن تنبكتو وكاوكو (گاو)

٢٥٠

بلدة مولي (٥٢) ، بضم الميم وكسر اللام من بلاد اللّيميّين (٥٣) وهي آخر عمالة مالي ، ثم إلى يوفي (٥٤) ، واسمها بضم الياء آخر الحروف وواو وفاء مكسورة ، وهي من أكبر بلاد السودان، وسلطانها من أعظم سلاطينهم ، ولا يدخلها الأبيض من الناس لأنهم يقتلونه قبل الوصول إليها! ثم ينحدر (٥٥) منها إلى بلاد النّوبة. وهم على دين النصرانية ، ثم إلى دنقلة (٥٦) ، وهي أكبر بلادهم وضبطها بضم الدال والقاف وسكون النون بينهما وفتح اللام ، وسلطانها يدعى بابن كنز الدين ، أسلم على أيام الملك الناصر (٥٧). ثم ينحدر إلى جنادل (٥٨) ، وهي آخر عمالة السودان ، وأول عمالة أسوان (٥٩) من صعيد مصر.

ورأيت التّمساح بهذا الموضع من النّيل بالقرب من الساحل ، كأنه قارب صغير ، ولقد نزلت يوما إلى النّيل لقضاء حاجة ، فإذا بأحد السودان قد جاء ووقف فيما بيني وبين النهر

__________________

(٥٢) مولي تقع على سافلة نهر النيجر ، ولكنه لا يعرف هل إنّ الأمر يتعلق بمدينة أو بجنس موري (Mouri) الذي يعيش في منطقة دستو (Dosso) جنوب جمهورية النيجر الحالية حيث إقليم نيامي

) Niamey (Gibb : Selections P. ٩٧٣ ـ N ٠ ٤١ ـ Beckingham ـ

(٥٣) اللّيميّون أو النّمانم حسب مختلف المؤلفين العرب ، أو الدمدم ، يقول البكري : وإذا سار السائر من بلاد كوكو (گاوGao) على شاطىء البحر غربا انتهى إلى قبيلة يقال لها الدمدم ، يأكلون من وقع إليهم ولهم سلطان كبير وملوك تحت يده ، ـ انظر ٢٩١ ,II ـ تعليق ٨٢٤ ـ IV ٨٦ ت ١٠٠ ـ خليفة عبّاس العبيد : الزبير باشا ـ مركز الدراسات السّودانية ـ القاهرة ١٩٩٥ ت ١٠٠.

(٥٤) (يوفي) علم جغرافي مربك! يظهر من ابن بطوطة ٣٩١ ـ II انه على بعد شهر من مدينة سفالة (في الموزامبيق) وانه يوجد هناك تبر الذهب. قال ابن بطوطة : إن (يوفي) في بلاد اللّيميين بسفالة ، على مسافة سير تقدر بشهر ... هناك إذن تساهل في تحديد الأمكنة بإفريقيا الشرقية والغربية ... ويظهر أن (يوفي) يتناسب ومملكة النّوبة. انظر خريطة افريقيا

J. Cuoq : RecueilU P. ٠٠٣ ـ ٨٧٤ ـ Beckingham ٥٥٢ N ٠ ٨٣.

(٥٥) حول قوله ثم ينحدر منها إلى بلاد النوبة! يراجع التعليق رقم ٤٧.

(٥٦) مملكة دنقلة شمال السودان كانت موجودة منذ القرن السادس الميلادي وقد فتحت عام ١٣١٧ ـ ٧١٧ من لدن القبائل الاسلامية واعتنقت الاسلام سريعا. عبد الغفار : مؤتمر المائدة المستديرة ، رسالة دكتوراه ج. الحسن الثاني ص ١٣٤ ـ ١٩٩٦ الدار البيضاء ـ المغرب.

(٥٧) ينتقد بيكينگام هنا تساهل ابن بطوطة في إفادته هذه وينقل أن الأمر يتعلق بكنز الدولة وليس كنز الدين ، وأن كنز الدولة لقب لرئيس بني كنز : وهي قبيلة تحتل إقليم الجنوب : أسوان ونواحيه ، وهكذا فقد كان بطبيعة الحال مسلما وليس حديث اقتناع بالإسلام ، وأصبح أول ملك لامارة مقرّةMuqurra المملكة الشمالية التي تعتبر دنقلة عاصمة لها حوالي ٧١٩ ه‍ ـ ٣١٩l م ، وان المملكة المسيحية التي سبقت هذه المملكة الاسلامية كانت في بعض الاوقات خاضعة لسلطنة المماليك في مصر ـ كنز الدولة المتحدث عنه أصبح ملكا طوال الفترة الثالثة التي تملك فيها الملك محمد الناصر على مصر ...

P. M Holt : The coronation Oaths of the Nubian Kings Sudanic Africa I, ٠٩٩١ p. ٥ ـ ٩.

(٥٨) القصد إلى شلالات النّيل.

(٥٩) نلاحظ مرة أخرى أن ابن بطوطة يرسم الحدود بين الأقاليم والولايات يراجع التعليق ٢٥.

٢٥١

٢٥٢

فعجبت من سوء أدبه وقلة حيائه ، وذكرت ذلك لبعض الناس فقال : إنما فعل ذلك خوفا عليك من التمساح فحال بينك وبينه! ثم سرنا من كارسخو فوصلنا إلى نهر صنصرة ، بفتح الصادين المهملين والراء وسكون النون ، وهو على نحو عشرة أميال من مالّي (٦٠) ، وعادتهم أن يمنع الناس من دخولها إلا بالإذن ، وكنت كتبت قبل ذلك لجماعة البيضان ، وكبيرهم محمد بن الفقيه الجزولي ، وشمس الدين بن النّقويش المصري (٦١) ، ليكتروا لي دارا ، فلما وصلت إلى النهر المذكور جزت في المعدية ولم يمنعني أحد ، فوصلت إلى مدينة مالّي ، حضرة السودان (٦٢) ، فنزلت عند مقربتها ، ووصلت إلى محلة البيضان ، وقصدت محمد ابن الفقيه فوجدته قد اكترى لي دارا إزاء داره فتوجهت اليها ، وجاء صهره الفقيه المقرئ عبد الواحد (٦٣) بشمعة وطعام ، ثمجاء ابن الفقيه إليّ من الغد وشمس الدين بن النقويش وعلي الزّودي المراكشي ، وهو من الطلبة ، ولقيت القاضي بمالي عبد الرحمن ، جاءني ، وهو من السودان حاج فاضل له مكارم أخلاق ، بعث إلي بقرة في ضيافته ، ولقيت التّرجمان دوغا ، بضم الدال وواو وغين معجم ، وهو من أفاضل السودان وكبارهم وبعث إليّ بثور وبعث إليّ الفقيه عبد الواحد غرارتين من الفوني ، وقرعة من الغرتي (٦٤) ، وبعث إليّ ابن الفقيه الأرز والفونى ، وبعث إليّ شمس الدين بضيافة ، وقاموا بحقي أتمّ قيام ، شكر الله حسن أفعالهم.

__________________

(٦٠) تعددت افتراضات المعلقين حول موقع عاصمة مالي : هناك من يعتقد أنها نيامي وهؤلاء يقاربون بين صنصرة وسنكرني على يمين ساحل النيجر! وبعضهم رأى أن عاصمة مالي هي گامبيا وهناك من يعتقد أن موقع مالي ينبغي أن يكون بين سيگو وباماكو ... ولهذا فإن تحرير القول حول الموضوع يحتاج إلى المزيد من التنقيبات ... يراجع التعليق الآتي رقم Beckingham P.٥٥٩ ـ ٦٥٩ ـ Note ٠٤ ـ ٢٦.

(٦١) بعض المخطوطات ترسم النغريس وبعضها النقريس.

(٦٢) هل إن مالي عند ابن بطوطة هي نيني عند العمري الذي يقول عنها نقلا عن سعيد الدكالي الذي سكنها طوال خمس وثلاثين سنة : ومدينة نيني ممتدة طولا وعرضا تكوّن طول بريد تقريبا (٢٣ ك. م) وعرضها كذلك لا يحيط بها سور وللملك عدة قصور يستدير بها سور ، محيط بها وفرع من النيل يستدير بهذه المدينة من جهاتها الأربع وفي بعضها مجاز يمشي فيه عند قلة الماء وفي بعضها لا يعبر إلا بالمراكب ، وبناء هذه المدينة بأياد من الطين ... وسقوفها بالأخشاب والقصب ... وشرب أهلها من ماء النيل وآبار محتفرة وجميع هذه البلاد مصخرة مجبلة ..." وحسب رسم الكلمة المشكوك فيه ، فإن نيني المدينة حدّدت مع القرية التي تحمل نفس الاسم والتي تقع على سنكرني في الحدود الغينية المالية. والتنقيبات التي أجريت ١٩٦٥ لم تكن فاصلة ، وهكذا فإن محلة جديدة رشحت للتنقيب في أعلى غامبيا في الأرض الغينية ـ أنظر التعليق السابق رقم ٦٠.

Gibb : IBn BAT, Asia and Africa P. ٩٧٣ ـ ٠٨٣ ـ Note ٩١

(٦٣) يتعلق الأمر بعبد الواحد المقري المنحدر من عائلة كانت تتوفر على عدد من التجار المقيمين في ولّاته منذ بداية القرن السابع الهجري ـ الثالث عشر ، علاوة على تمكنهم من التجارة عبر الصحراء ، بين تلمسان ومالي. كلمة (دوغا) تعني النّسر في باماناBamana. المقري : نفح الطيب في غصن الأندلس الطيب ـ تحقيق د. احسان عباس ـ دار صادر بيروت ج ٥ ، ص ٢٠٥ ١٣٨٨ ـ ١٩٦٨ ـ د. التازي : التاريخ الدبلوماسي للمغرب ج ٦ ص ١٥٥ ـ ١٥٦ ـ راجع التعليق ٢٥ سالف الذكر.

(٦٤) انظر بالتتابع ما تقدم في التعليق ٣٥ ـ ٣٩.

٢٥٣

٢٥٤

وكان ابن الفقيه متزوجا ببنت عمّ السلطان فكانت تتفقدنا بالطّعام وغيره ، وأكلنا بعد عشرة أيام من وصولنا عصيدة تصنع من شيء يشبه القلقاس ، ويسمى القافي ، بقاف والف وفاء ، وهي عندهم مفضلة على سائر الطعام (٦٥) ، فأصبحنا جميعا مرضى وكنا ستة فمات أحدنا وذهبت أنا لصلاة الصبح فغشي علي فيها ، وطلبت من بعض المصريين دواء مسهلا فأتى بشيء يسمى بيدر ، بفتح الباء الموحدة وتسكين الياء آخر الحروف وفتح الدال المهمل وراء ، وهو عروق نبات ، وخلطه بالأنيسون والسكّر ولتّه بالماء ، فشربته وتقيأت ما أكلته مع صفراء كثيرة ، وعافاني الله من الهلاك ولكني مرضت شهرين!

ذكر سلطان مالّي

وهو السلطان منسى سليمان (٦٦) ، ومنسى بفتح الميم وسكون نون وفتح السين المهمل، ومعناه السلطان ، وسليمان اسمه ، وهو ملك بخيل لا يرجى منه كبير عطاء ، واتفق أنيأقمت هذه المدة ولم أره ، بسبب مرضي ثمّ إنّه صنع طعاما برسم عزاء مولانا أبي الحسن(٦٧) رضي‌الله‌عنه ، واستدعى الأمراء والفقهاء والقاضي والخطيب ، وحضرت معهم فاتوا بالرّبعات ، وختم القرآن ، ودعوا لمولانا أبي الحسن ، رحمه‌الله ، ودعوا لمنسى سليمان ، ولما فرغ من ذلك تقدمت فسلمت على منسى سليمان ، وأعلمه القاضي والخطيب وابن الفقيه بحالي، فأجابهم بلسانهم ، فقالوا لي: يقول لك السلطان : أشكر الله ، فقلت : الحمد لله والشكر على كل حال.

ذكر ضيافتهم التّافهة وتعظيمهم لها.

ولما انصرفت بعث إليّ الضيافة ، فوجهت إلى دار القاضي وبعث القاضي بها مع رجاله إلى دار ابن الفقيه ، فخرج ابن الفقيه من داره مسرعا حافي القدمين فدخل عليّ وقال: جاءك قماش السلطان وهديته! فقمت وظننت أنها الخلع والاموال ، فإذا هي ثلاثة أقراص من الخبز وقطعة لحم بقري مقلو بالغرتي ، وقرعة فيها لبن رائب ، فعندما رأيتها ضحكت ، وطال تعجبي من ضعف عقولهم وتعظيمهم للشيء الحقير.

__________________

(٦٥) القلقاص يشبه البطاطا يدعى في المنطقة المحلية طارو (Taro) ويتطلب الغسل بعناية قبل أن يؤكل ـ القافي نبات نشوي يتناول أيضا ـ بيدر : لم نتمكن من تحديده.

(٦٦) تملك السلطان منسى سليمان من سنة ٧٤١ ه‍ ـ ١٣٤١ إلى ٧٦١ ه‍ ـ ١٣٦٠ وهو أخ لمنسى موسى الذي حكم لفترة عشرين سنة أو تزيد وقد ادركه أجله حوالي عام ٧٦١ ـ ١٣٦٠.

(٦٧) القصد كما هو معلوم إلى السلطان أبي الحسن المريني الذي توفي كما سبق يوم ٢٣ ربيع الثاني ١٩ ٧٥٢ ـ يونيه ١٣٥١ ـ راجع التعليق ٣٨ ـ ٦٢ من الفصل السابق عشر السابق.

٢٥٥

ذكر كلامي للسلطان بعد ذلك وإحسانه إلي

وأقمت بعد بعث هذه الضيافة شهرين لم يصل إليّ فيهما شيء من قبل السلطان ، ودخل شهر رمضان (٦٨) ، وكنت خلال ذلك أتردد إلى المشور وأسلم عليه وأقعد مع القاضي والخطيب ، فتكلمت مع دوغا الترجمان ، فقال : تكلم عنده وأنا أعبّر عنك بما يجب ، فجلس في أوائل رمضان ، وقمت بين يديه وقلت له : إني سافرت بلاد الدنيا ولقيت ملوكها ولي ببلادك منذ أربعة أشهر ولم تضفني ولا أعطيتني شيئا! فماذا أقول عنك عند السلاطين؟! فقا : إني لم أرك ولا علمت بك ، فقام القاضي وابن الفقيه فردّا عليه وقالا : إنه قد سلّم عليك وبعثت إليه الطعام! فأمر لي عند ذلك بدار أنزل بها ونفقة تجرى عليّ ، ثم فرق على القاضي والخطيب والفقهاء مالا ليلة سبعة وعشرين من رمضان يسمونه الزكاة(٦٩) ، وأعطاني معهم ثلاثة وثلاثين مثقالا وثلثا وأحسن إليّ عند سفري بمائة مثقال ذهبا.

ذكر جلوسه بقبّته

وله قبّة مرتفعة ، بابها بداخل داره يقعد فيها أكثر الاوقات (٧٠) ، ولها من جهة المشور طيقان ثلاثة من الخشب مغشاة بصفائح الفضة ، وتحتها ثلاثة مغشاة بصفائح الذهب ، أو هي فضة مذهبة ، وعليها ستور ملف ، فإذا كان يوم جلوسه بالقبة رفعت الستور ، فعلم أنه يجلس ، فإذا جلس أخرج من شباك إحدى الطاقات شرّابة حرير قد ربط فيها منديل مصري مرقوم ، فإذا رأى الناس المنديل ضربت الأطبال والأبواق ، ثم يخرج من باب القصر نحو ثلاثمائة من العبيد في أيدي بعضهم القسّي ، وفي أيدي بعضهم الرماح الصغار والدّرق ، فيقف أصحاب الرّماح منهم ميمنة وميسرة ، ويجلس أصحاب القسّي كذلك ، ثم يوتي بفرسين مسرجين ملجمين ومعهما كبشان يذكرون أنهما ينفعان من العين!

وعند جلوسه يخرج ثلاثة من عبيده مسرعين فيدعون نائبه قنجا موسى ، وتاتي الفرارية(٧١) ، بفتح الفاء ، وهم الامراء وياتي الخطيب والفقهاء فيقعدون أمام السّلحدارية يمنة ويسرة في المشور ويقف دوغا الترجمان على باب المشور وعليه الثياب الفاخرة من

__________________

(٦٨) ابتداء من ll أكتوبر ١٣٥٢.

(٦٩) الزكاة يعني بها هنا في ليلة القدر مطلق العطاء ...

(٧٠) قبة الاستقبال بنيت من قبل أبي إسحاق ابراهيم الساحلي الغرناطي المعروف بالطّويجن" ... قبة مربعة الشكل استفرغ فيها إجادته ، وكان صناع اليدين وأضفى عليها من الكلس ووالى عليها بالاصباغ المشبعة فجاءت من أتقن المباني ، ووقعت من السلطان منسى موسى موقع الاستغراب لفقدان صنعة البناء بأرضهم ... انظر تعليق ٩٢ ـ د. التازي : التاريخ الدپلوماسي للمغرب ج ٧ ص ٤٠ تعليق ٢.

(٧١) الفرارية ج فاري بلغة الماندينك تعني الرئيس العسكري.

٢٥٦

الزردخانة (٧٢) وغيرها ، وعلى رأسه عمامة ذات حواشي ، لهم في تعميمها صنعة بديعة وهو متقلد سيفا ، غمده من الذهب ، وفي رجليه الخف والمهاميز ، ولا يلبس أحد ذلك اليوم خفّا غيره ، ويكون في يده رمحان صغيران : أحدهما من ذهب والآخر من فضة ، وأسنتهما من الحديد.

ويجلس الأجناد والولاة والفتيان ، ومسوّفة وغيرهم خارج المشور في شارع هنالك متسع فيه أشجار ، وكلّ فراري بين يديه أصحابه بالرماح والقسي والأطبال والأبواق ، وبوقاتهم من أنياب الفيلة وآلات الطرب المنوّعة من القصب والقرع ، وتضرب بالسطّاعة ، ولها صوت عجيب (٧٣) ، وكل فراري له كنانة قد علقها بين كتفيه ، وقوسه بيده وهو راكب فرسا وأصحابه بين مشاة وركبان ، ويكون بداخل المشور تحت الطيقان رجل واقف. فمن أراد أن يكلم السلطان كلّم دوغا ، ويكلم دوغا لذلك الواقف ، ويكلم الواقف السلطان.

ذكر جلوسه بالمشور

ويجلس أيضا بالمشور ، وهنالك مصطبة تحت شجرة لها ثلاث درجات يسمونها البنبي(٧٤)، بفتح الباء المعقودة الأولى وكسر الثانية وسكون النون بينهما وتفرش بالحرير وتجعل المخادّ عليها ، ويرفع الشطر وهو شبه قبّة من الحرير وعليه طائر من ذهب على قدر الباز ، ويخرج السلطان من باب في ركن القصر وقوسه بيده وكنانته بين كتفيه ، وعلى رأسه شاشية ذهب مشدودة بعصابة ذهب لها أطراف مثل السكاكين رقاق ، طولها أزيد من شبر. وأكثر لباسه جبّة حمراء موبرة من الثّياب الرومية (٧٥) التي تسمى المطنفس ويخرج بين يديه المغنون بأيديهم قنابر (٧٦) الذهب والفضة ، وخلفه نحو ثلاثمائة من العبيد أصحاب السلاح ، ويمشي مشيا رويدا ، ويكثر التأني ، وربما وقف ، فإذا وصل إلى البنبي وقف ينظر في الناس ، ثم يصعد برفق كما يصعد الخطيب المنبر ، وعند جلوسه تضرب الطبول والأبواق والأنفار ويخرج ثلاثة من العبيد مسرعين فيدعون النائب والفرارية فيدخلون ويجلسون ، ويوتي بالفرسين والكبشين معهما ويقف دوغا على الباب وسائر الناس في الشارع تحت الاشجار.

__________________

(٧٢) ثوب مطرز بالحرير الرقيق ، لا يخلو من رسوم حيوانات كان يصنع في الاسكندرية ، العبارة من أصل فارسي ، وقد كان لفظ الزردخان مستعملا بالمغرب إلى سنين خلت ـ انظرii ، ٢٦٤.

(٧٣) القصد إلى آلة موسيقية مؤلفة من قضبان يعزف عليها بمطرقتين خشبيتين (XYLOPHONES \'\'BALAS) على نحو الآلة التي يسميها أهل بغداد بالسنطور ، وهي تقارب ـ ولو عن بعد ـ في تركيبها الآلة التي تسمى اليوم بالقانون ...

(٧٤) البنبي بلغة الماندينك BEMBE عبارة عن منصة مبنية يوضع عليها الكرسي الملكي ويصف العمري البنبي بأنه كرسي من عاج.

(٧٥) المطنفس : من المهم أن تستوقفنا هذه الفقرة التي تشير للعلاقات الافريقية مع أوروبا عبر فاس وتلمسان ومراكش ، وقد كانت سجلماسة بمثابة (الملتقي) الحيوي للاتجاه نحو بلاد السودان ، أما عن الثوب الذي يحمل اسم المطنفس ، فإن المعلقين لم يستطيعوا تحديده ...

(٧٦) القنابر ج. قنبري (وتنطق القاف في المغرب گافا معقودة) نوع من المانضولينه لكن له فقط وتران ، جوفه يتكون من ظهر سلحفاة أو نصف كرة من العود المغلف بالجلد ... وما تزال هذه الآلة حية على صعيد الفولكلور المغربي إلى اليوم ـ MAUNY : Textes etdocuments ,P.٥٥ n ٠ ٤

٢٥٧

٢٥٨

ذكر تذلل السودان لملكهم وتتريبهم له وغير ذلك من أحوالهم.

والسودان أعظم الناس تواضعا لملكهم وأشدّهم تذللا ، ويحلفون باسمه فيقولون : منسى سليمان كي (٧٧) ، فإذا دعا بأحدهم عند جلوسه بالقبّة التي ذكرناها نزع المدعو ثيابه، ولبس ثيابا خلقة ونزع عمامته وجعل شاشية وسخة ودخل رافعا ثيابه وسراويله إلى نصف ساقه وتقدم بذلّة ومسكنة وضرب الارض بمرفقيه ضربا شديدا ووقف كالراكع يسمع كلامه!

وإذا كلّم أحدهم السلطان فردّ عليه جوابه كشف ثيابه عن ظهره ورمى بالتراب على رأسه وظهره كما يفعل المغتسل بالماء ، وكنت أعجب منهم كيف لا تعمى أعينهم! وإذا تكلّم السلطان في مجلسه بكلام وضع الحاضرون عمائمهم عن رؤوسهم وأنصتوا للكلام ، وربّما قام أحدهم بين يديه فيذكر أفعاله في خدمته ، ويقول : فعلت كذا يوم كذا ، وقتلت كذا يوم كذا ، فيصدّقه من علم ذلك ، وتصديقهم أن ينزع أحدهم في وتر قوسه! ثم يرسلها كما يفعل إذا رمى (٧٨) ، فإذا قال له السلطان : صدقت أو شكره ، نزع ثيابه وترّب، وذلك عندهم من الأب.

قال ابن جزي : وأخبرني صاحب العلامة (٧٩) الفقيه أبو القاسم بن رضوان أعزه الله أنه لما قدم الحاج موسى الونجراتي رسولا عن منسي سليمان (٨٠) إلى مولانا أبي الحسن

__________________

(٧٧) الكلمة تعني باللغة المالينكية : «الأمر للملك سليمان» ، هذا ويقول ابن خلدون عن سفارة سودانية وصلت لفاس في يوم مشهود" .. وحيّوا السلطان بأن جعلوا يحثون التراب على رؤوسهم على سنّة ملوكهم ..." د. التازي : التاريخ الدپلوماسي للمغرب ٧ ، ص ٤١.

(٧٨) «... والترجمان يترجم عنهم وهم يصدقونه بالنزع في أوتار قسيّهم على العادة المعروفة لهم ..." ابن خلدون ... وانظر التاريخ الدپلوماسي للمغرب ج ٧ ص ٤١.

(٧٩) من المعلوم أن (صاحب العلامة) يعني الكاتب الخاص الذي يوقّع الرسائل ويجعل علّامة السلطان عليها يراجع التاريخ الدبلوماسي للمغرب ج I ص ٣٠٠ ـ ٣٠١ ـ ٣٠٢. معرض وزارة الخارجية يوم ٢١ / ٢ / ١٩٩٧.

(٨٠) الإشارة إلى السفارة السودانية بتاريخ ١٣٤٨ ـ ٧٤٨ ه‍ وكانت السفارة السابقة المعروفة بتاريخ ١٣٣٧ ـ ٧٣٧ ، لكنها أي سفارة ١٣٤٨ ... كان عليها ـ لظروف طارئة ـ أن ترسل من لدن منسى ماري زاطا الثاني الذي أضاف إلى الهدايا الزّرافة التي اهتزت لها رحاب مدينة فاس ـ وأبو القاسم هذا هو عبد الله بن يوسف بن رضوان النّجاري الخزرجي من أهل مالقة واشتغل كاتبا لدى عدد من سلاطين بني مرين ، من شعره قصيدة لامية يهنئ فيها أمير المسلمين السلطان أبا الحجاج يوسف ملك الأندلس يهنئه بغلبته للأسطول الحربي بالزقاق الغربي ٧٥٠ ـ ١٣٥٠ عندما هلك الفونسو الحادي عشر ...

ولما استقامت بالزقاق أساطل

له واستقلت للسّعود محافلا

رآها عدو الله فانقضّ جمعه

وابصر ـ أمواج البحار اساطلا!

ومن دهش ظنّ السواحل أبحرا

ومن رعب خال البحار سواحلا!

الإحاطة ـ ابن الخطيب الاحاطة ٣ ، ٤٤٣ ـ السيد عبد العزيز سالم ـ احمد مختار العبادي : تاريخ البحرية الاسلامية في المغرب والاندلس ٢٩٧.

Dr. TAZI la presencia de la poesia en la Historia del Estrecho de Gibraltar SECEGSA ٥٩٩١ ـ p. ٩٦١.

٢٥٩

رضي‌الله‌عنه ، كان اذا دخل المجلس الكريم حمل بعض ناسه معه قفة تراب فيترّب مهما قال له مولانا كلاما حسنا كما يفعل ببلاده!

ذكر فعله في صلاة العيد وأيامه

وحضرت بمالي عيدي الاضحى والفطر (٨١) ، فخرج الناس إلى المصلّى وهو بمقربة من قصر السلطان ، وعليهم الثياب البيض الحسان ، وركب السلطان وعلى رأسه الطيلسان ، والسودان لا يلبسون الطيلسان (٨٢) إلا في العيد ما عدا القاضي والخطيب والفقهاء فإنهم يلبسونه في سائر الأيام ، وكانوا يوم العيد بين يدي السلطان وهم يهللون ويكبرون ، وبين يديه العلامات الحمر (٨٣) من الحرير ، ونصب عند المصلى خباء فدخل السلطان إليها وأصلح من شأنه ثم خرج إلى المصلى فقضيت الصلاة والخطبة ، ثم نزل الخطيب وقعد بين يدي السلطان وتكلّم بكلام كثير ، وهنالك رجل بيده رمح يبين للناس بلسانهم كلام الخطيب ، وذلك وعظ وتذكير وثناء على السلطان وتحريض على لزوم طاعته وأداء حقه.

ويجلس السلطان في أيام العيدين بعد العصر على البنبي وتأتي السّلحدارية بالسلاح العجيب من تراكش الذهب والفضة والسيوف المحلّاة بالذهب وأغمادها منه ، ورماح الذهب والفضة ودبابيس البلّور ، ويقف على رأسه أربعة من الأمراء يشرّدون الذباب ، وفي أيديهم حلية من الفضة تشبه ركاب السرج ، ويجلس الفرارية والقاضي والخطيب على العادة ، وياتي دوغا الترجمان بنسائه الأربع وجواريه ، وهن نحو مائة ، عليهن الملابس الحسان وعلى رؤوسهن عصائب الذهب والفضة ، فيها تفافيح ذهب وفضة ،

وينصب لدوغا كرسي يجلس عليه ويضرب الآلة التي هي من قصب وتحتها قريعات(٨٤) ويغنى بشعر يمدح السلطان فيه ، ويذكر غزواته وأفعاله ، ويغني النساء والجواري معه ويلعبن بالقسي.

__________________

(٨١) ١٠ نونبر ١٣٥٢ ـ ١٨ يناير ١٣٥٣.

(٨٢) الطيلسان عبارة عن قطعة من الثوب الحريري الاسود تحمله بعض الشخصيات على الأكتاف ، شعار القضاة والعلماء والأيمة والفقهاء.

(٨٣) اللون الأحمر شعار ملكي في أمبراطوية غانا في القرن الثامن والحادي عشر الميلادي ولا بدّ أننا نتذكر أن الحلل الأرجوانية شعار الأمراء الأفارقة منذ أيام يوبا الذي منع سيبيون scipion ارتدائها طالما أنه ليس أميرا!! ـ د. التازي : التاريخ الدبلوماسي للمغرب ج ٣ ص ١٤٨.

(٨٤) القصد دائما إلى ما قلناه في التعليق ٧٣ ... والترجمان هنا يقوم بدور الشاعر ...

٢٦٠