رحلة ابن بطوطة - ج ٤

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ٤

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-010-9
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٣٥١

قال ابن جزي : حسب المتشوف إلى علم ما عند مولانا أيده الله من سداد النظر للمسلمين ودفاع القوم الكافرين ما فعله في فداء مدينة طرابلس إفريقية فإنها لما استولى العدوّ عليها ومد يد العدوان إليها ورأى أيده الله أن بعث الجيوش إلى نصرتها لا يتأتى لبعد الاقطار كتب إلى خدّامه ببلاد افريقية أن يفدوها بالمال ، ففديت بخمسين الف دينار من الذهب العين ، فلما بلغه خبر ذلك ، قال : الحمد لله الذي استرجعها من أيدي الكفار بهذا النزر اليسير ، وأمر للحين ببعث ذلك العدد إلى افريقية ، وعادت المدينة إلى الإسلام على يديه(١١٨) ، ولم يخطر في الأوهام أن أحدا تكون عنده خمسة قناطير (١١٩) من الذهب نزرا يسيرا حتى جاء بها مولانا أيده الله مكرمة بعيدة ، ومأثرة فائقة قلّ في الملوك أمثالها وعز عليهم مثالها.

ومما شاع من أفعال مولانا أيده الله في الجهاد إنشاؤه الأجفان بجميع السواحل (١٢٠) واستكثاره من عدد البحر ، وهذا في زمان الصلح والمهادنة إعدادا لأيام

__________________

(١١٨) كانت مدينة طرابلس تعرضت عام ٧٥٥ ـ ١٣٥٤ للاحتلال من لدن الأميرال الجنوى فيليبّو دورياFilippo Doria في أبريل ١٣٥٥ ـ ربيع الأول ٧٥٦. وهو مالم تفت الإشارة إليه من لدن ابن فضل الله العمري في موسوعته المسالك والممالك ... ونرى من الفائدة أن نشير هنا لما أورده ابن خلدون (ج ٦ ص ٨٣٦) حول هذه الحادثة الخطيرة ، فلقد عاث الجنويون في المدينة سلبا ونهبا ، وهنا توسط أبو العباس أحمد بن مكي صاحب قابس لافتدائها من المغيرين وقد استعصى عليه ذلك لانهم طالبوا بدفع مبلغ من المال يقدر بخمسين الف مثقال من الذهب العين ، وحتى لا يترك المدينة عرضة للاحتلال فكر في أن يفتح اكتتابا يجمع بمقتضاه ما يمكن أن يساعد على تحرير طرابلس ، لكنه عجز فعلا عن أن يحصل على ما يحقق الرغبة ، ومن هنا وردت فكرة الاستنجاد بالعاهل المغربي أبي عنان الذي كان يأمل أن يبعث بجيشه لو لا بعد تلك الاقطار ... وقد هنّأ سلطان غرناطة أبا عنان بهذه المبادرة الشجاعة ، الريحانة لابن الخطيب تحقيق عنان ١٩٨٠ ج.I ص. ٣٢٤.

(١١٩) معنى هذا الكلام أن القنطار من الذهب يساوي أيام ابن بطوطة عشرة آلاف دينار ... وليس يعنى على كل حال ما يعنيه القنطار اليوم في استعمالنا!! وفي تاج العروس «والقنطار معيار ، قيل : وزن أربعين أوقية من ذهب أو الف ومائتا دينار ، وفي اللسان : ومائة دينار ، وقيل مائة وعشرون رطلا أو ألف ومائتا أوقية ، عن أبي عبيد : أو سبعون الف دينار ، وهو بلغة بربر الف مثقال من ذهب أو فضة وقيل ثمانون الف درهم قاله ابن عباس ، وقيل جملة كبيرة مجهولة من المال أو مائة رطل من ذهب وفضة إلى آخر الأقوال التي أوردها والقنطار كلمة معرّبة من اللاتينية (كنتاله) وقيل من اليونانية (كنتار يوم).

د. النعيمي : الفاظ من رحلة ابن بطوطة مجلة المجمع العلمي العراقي مجلّد ٢٤ ـ ١٩٧٤.

ـ هذا ومن المفيد أن نذكّر هنا بما سبق أن قلناه عند حديثنا عن مخطوطة الأمير مولاي العباس وتعليقه على هذا الافتداء منظرا بافتداء الحكومة المغربية لتطوان ـ انظر د. التازي : رسائل مخزنية ص ٢٩.

(١٢٠) تحدثت مصادر تاريخ المغرب بما فيها القصائد الشعرية عن الأسطول البحري على عهد ملوك بني مرين ومنهم السلطان أبو عنان ، وفي ذلك يقول ابن أبي حجلة :

قطائعها مثل النجوم قلاعها

وغربانها قطع من الليل دامس

كان مجاذيف الغراب قوادم

يطير بها والنسر في الأفق كانس

يراجع الجزنائي في زهرة الآس عن ميناء خولان بضاحية فاس ـ

Colin ـ Bulletin Decembre ٥٤٩١ Dr TAZI : la presencia de la poesia en la historia del estrecho de gibraltar sociadad Es ـ Panola de Madrid. Estudios para la comunicion erja a Traves del estrecho de Gibraltar S. A. SECEGSA ٥٩٩١

٢٠١

القرّة (١٢١) وأخذا بالحزم في قطع أطماع الكفار ، واكد ذلك بتوجّهه ـ أيده الله بنفسه ـ إلى جبال جاناتة (١٢٢) في العام الفارط ، ليباشر قطع الخشب للانشاء ، ويظهر قدر ما له بذلك من الاعتناء ، ويتولّى بذاته أعمال الجهاد مترجّيا ثواب الله تعالى وموقنا بحسن الجزاء.

رجع ، ومن أعظم حسناته ، أيده الله عمارة المسجد الجديد بالمدينة (١٢٣) البيضاء دار ملكه العلي ، وهو الذي امتاز بالحسن واتقان البناء وإشراق النور وبديع التّرتيب ، وعمارة المدرسة الكبرى (١٢٤) بالموضع المعروف بالقصر (١٢٥) مما يجاور قصبة فاس ولا نظير لها في المعمور اتساعا وحسنا وإبداعا وكثرة ماء وحسن وضع ، ولم أر في مدارس الشام ومصر والعراق وخرسان ما يشبهها.

وعمارة الزاوية العظمى (١٢٦) على غدير الحمّص (١٢٧) خارج المدينة البيضاء ، فلا

__________________

(١٢١) القيرة : سمح ابن بطوطة لنفسه باستعمال هذا التّعبير الإسباني (Guerra) ومن المعلوم أن هذا اللفظ كان جاريا على الألسنة لشدّة الجوار مع قشتالة ، وقد ظنّها البستاني محرفة عن كلمة الغزاة فاثبت هذه عوض القيرة!! وقد غقل د. عادل خلف عن هذه الكلمة في معجمه ...

(١٢٢) جناته (JANATENE) تقع جنوب غرب مدينة الخميسات وكانت جبالها غنية بأشجار العرعار على ما هو معلوم انظر الخريطة وقد اخطأ موني (mauny) وفريقه (١٩٦٦) عندما جعلوهاDJANET التي تقع غرب الجزائر كما أخطأ كيوك ١٩٩٥ عندما جعلها جنوب غرب غات وقد ذكر بيكينكام بأن تحديد الموقع غير معروف والواقع ما قلناه إن شاء الله! وإلى جناتة ينتسب عدد من العلماء والفقهاء. المنوني : نظم الدولة المرينية مجلة البحث العلمي ١٩٦٤. ذ. التازي : نصيب الأعلام الجغرافية المغربية من رحلة ابن بطوطة. الندوة العلمية لتاريخ الرباط ـ نونبر ١٩٩٥.

(١٢٣) القصد بالمسجد الجديد إلى جامع الحمراء من فاس الجديد لأن التشابه القائم بين شكل زخرفته وزخرفة مدرسة أبي عنان مما يرجح هذا ، ويحتوي على كرسي للعلم وخزانة للكتب. التازي : جامع القرويين ج III ـ ٦٨٣ ـ ٦٨٩

(١٢٤) تم بناء المدرسة البوعنانية عام ٧٥٦ ـ ١٣٥٥ قبل سنة من نسخ الرحلة ـ د. التازي : تاريخ جامع القرويين ج ٢ ص ٣٦٠ ـ تعليق ٢٧ ص ٥٨٩.

(١٢٥) هكذا كانت التسمية في القديم وقد هجر هذا الاسم اليوم وحل مكانه : الطالعة ومعلوم أن المدرسة تقع بين الطالعة الكبرى حيث الساعة المائية التي انشت عام ٧٥٨ بعد انتساخ الرحلة.

BEL : INSCRI. DEFESP. ٥٥٢

(١٢٦) الزاوية العظمى هي دون شك غير المدرسة الكبرى وقد أسلفنا الحديث عنها باسهاب في ٤٨ ,I فهناك نبهنا إلى أن جميع المعلقين من أمثال البروفيسور گيب ومن قبله وبعده التبست عليهم الزاوية هذه بالمدرسة ، وهناك أعطينا وصفا دقيقا لما كانت عليه قبل أن تختفي عن الأنظار بفعل الزلازل وتقلبات الأحوال .. وسنأتي في (الملاحق) على ما قيل عن هذه المعلمة الحضارية الكبرى.

انظر فيض العباب لابن الحاج النميري دراسة واعداد د. محمد بن شقرون. دار الغرب الاسلامي بيروت ١٩٩٠ ص ٢٠٦ ـ ٢١٨. المقري : أزهار الرياض ج ٣ ص ١٩٦ ـ ١٩٧ ، الرباط ١٩٧٨.

(١٢٧) القصد بغدير الحمص إلى وادي الجواهر على ما نقرأه في (روضة النسرين) لابن الأحمر ، ولفظ (حمص) أطلق ـ كما يقول العمري في مسالك الأبصار ـ على جانب من فاس العليا ، وقد أتى اسم حمص من اليهود الوافدين عليها من اشبيلية الذي تسمى حمصا لنزول أهل حمص السوريين بها ، وقد كانت راكبة على النهر وهي مشرفة على الجميع ، ومن هنا نعرف خطأ الترجمة التي ضبطت الكلمة بكسر الحاء وتشديد الميم وترجمت حمص المدينة بالحمّص النبات :(Pois chiches)!

وحمص لا تنس لها تينها

واذكر مع التّين زياتينها

٢٠٢

٢٠٣

مثل لها أيضا في عجب وضعها وبديع صنعها ، وأبدع زاوية رأيتها بالمشرق زاوية سرياقص التي بناها الملك الناصر (١٢٨) ، وهذه أبدع منها واشد احكاما وإتقانا والله سبحانه ينفع مولانا أيده الله بمقاصده الشريفة ويكافىء فضائله المنيفة ويديم للاسلام والمسلمين أيامه وينصر ألويته المظفرة وأعلامه (١٢٩).

ولنعد إلى ذكر الرحلة فنقول : ولما حصلت لي مشاهدة هذا المقام الكريم وعمّني فضل إحسانه العميم قصدت زيارة قبر الوالدة فوصلت إلى بلدي طنجة وزرتها ...

الزاوية العظمى كما تخيّلها سعيد لحميني فكيف تتخيلها أنت من خلال وصف ابن الحاج النميري؟

__________________

(١٢٨) انظر ج I ص ٨٤.

(١٢٩) مكّنتنا هذه الخاتمة من تسجيل لقطات تاريخية هامة أيام أبي عنان ومجالسه العلمية وطموحاته ومنشأته الحضارية الكبرى : المدارس العلمية والزاوية الكبرى ولو لا ما تعرض له هذا الملك العظيم من مصير محزن في ذي الحجة ٧٥٩ ـ ١٣٥٨ لكان للدولة المرينية وجه أكثر إشراقا ، ويكفي أن نعرف أن العواصم المغربية لا تخلو من أثر حضاري من آثار السلطان أبي عنان رحمه‌الله ...

٢٠٤

٢٠٥
٢٠٦

الفصل السابع عشر

الرحلة إلى الاندلس

جبل الفتح في حديث ابن بطوطة

اهتمام الدولة بالجبل

المعمار في الجبل ... صورة مجسّمة له بالقصر الملكي بفاس

حضور الشّعر في الجبل

الحديث عن رنده ... ومربلة

مالقة – الحمّة

غرناطة ومجالسها ...

التقاء ابن جزي بابن بطوطة لأول مرة!

حديث عن العجم المستوطنين بالمدينة وإهمال لآثار الحمراء!!

عودته للمغرب ومقامه بمدينة أصيلا ثم التحاقه بمدينة مراكش

مصاحبة ابن بطوطة لركب أبي عنان الذي حمل شلو والده من مراكش لدفنه في شالة الرباط.

٢٠٧
٢٠٨

٢٠٩
٢١٠

وتوجهت إلى مدينة سبتة (١) فأقمت بها أشهرا وأصابني بها المرض ثلاثة أشهر ثم عافاني الله فأردت أن يكون لي حظ من الجهاد والرباط ، فركبت البحر من سبتة في شطّي (٢) لأهل أصيلا (٣) ، فوصلت إلى بلاد الأندلس حرسها الله تعالى ، حيث الأجر موفور للساكن والثواب مذخور للمقيم والظاعن ، وكان ذلك أثر موت طاغية الرّوم أدفونش (٤) وحصاره الجبل عشرة أشهر ، وظنه أنه يستولي على ما بقي من بلاد الاندلس للمسلمين فأخذه الله من حيث لم يحتسب ومات بالوباء الذي كان أشد الناس خوفا منه.

وأول بلد شاهدته من البلاد الأندلسية جبل الفتح (٥) فلقيت به خطيبه الفاضل أبا زكرياء يحيى بن السراج الرّندى (٦) وقاضيه عيسى البربري ، وعنده نزلت وتطوفت معه على الجبل ، فرأيت عجائب ما بنى به مولانا أبو الحسن رضي‌الله‌عنه وأعد فيه من العدد وما زاد على ذلك مولانا أيده الله ، ووددت أن لو كنت ممّن رابط به إلى نهاية العمر.

__________________

(١) تعتبر سبتة من أهم الثغور المغربية وانشطها ، وقد ارتبط تاريخ المغرب الدّولي والحضاري بهذه المدينة التي تعتبر من اقليم تطوان وعندها تجهز طارق بن زياد للعبور إلى القارة الأروبية ... هذا ومن الجدير بالذكر أن بعض الباحثين من المهتمين برحلة ابن بطوطة يرى أن الرحالة المغربي قصد الأندلس في مهمة سياسية عهد بها اليه السلطان أبو عنان؟

(٢) الشطي كلمة من أصل لاتيني ، وتعني المركب الذي يحتوي على صاريّتين ، ويهجى باللاتينية هكذا : Sajitta هذا وقد اهتم ليفي بروفنصال برحلة ابن بطوطة للأندلس معتمدا على مخطوطة الشيخ عبد الحي الكتاني التي تحمل في الخزانة العامة بالرباط (المغرب) اليوم رقم ٢٣٩٩ ، والتي تنقصها الأوراق الخاصة بالأندلس!!

E. Levi ـ Provencal : Le voyage d\'Ibn Battuta dans leRoyaume de Grenade) ٠٥٣١ (Melanges offerts a Wiliam Marcais par l\'institut d\'Etudes Islamiques de l\'Universite de Paris ٠٥٩١ P. ٥٠٢ ـ ٤٢٢. Il. T. Norris : Ibn Battutah\'s Andalu sian Journey, The Geographical Jounroul Vo c XXV Part ٢, June ٩٥٩١.

(٣) تقع مدينة أصيلا بين العرائش وطنجة على المحيط الأطلسي ولها تاريخ حافل في العلاقات بين المغرب والجزيرة الايبيرية بالرغم من حجمها الصغير ، وقد ورد في المثل المغربي : (أصيلا صغيرة ومحاينها كبار) أي متاعبها وأهوالها كبيرة.

(٤) القصد إلى الفونس الحادي عشر ، ملك قشتالة الذي توفي يوم ٢٠ مارس ١٣٥٠ ـ ١٠ محرم ٧٥١ أثناء محاصرته لجبل طارق ـ د. التّازي : التاريخ الدبلوماسي للمغرب ج ، ٧ ـ ٨٧ ـ ٨٩.

(٥) جبل الفتح أو جبل طارق نسبة إلى طارق بن زياد أول قائد للجيوش العربية التي كانت صحبته ، نزله في ربيع ٧١١ ـ رجب ٩٢ وقد عبر المضيق لفتح إسپانيا وقد انهزم أمامه في الصيف الموالي أوديريك العاهل القوطي ، ومن ذلك الاسم وردت التسمية الأورپيةGibraltar وقد كان في أبرز المصادر المغربية الأصيلة التي تحدثت عن بنائه كتاب تاريخ المنّ بالإمامة على المستضعفين الذي ألفه ابن صاحب الصلاة في عهد الموحّدين ، وقد حققه وعلق عليه ـ د. عبد الهادي التازي ـ طبعة ثالثة بيروت ١٩٨٧ ص ـ ٨٤ ـ ٨٨ ٨٣.

(٦) القصد إلى الفقيه العالم الصلح الناصح أبي زكرياء يحيى بن أبي العباس أحمد بن محمد بن حسن ابن يحيى بن عاصم القسّ (بضم القاف وكسر السين مهملا) النّفزي الحميري الرندي الأصل الفاسي المولد والوفاة المعروف بالسراج ، ترجمه ابن القاضي في جذوة الاقتباس فقال عنه : قلّما تجد كتابا في المغرب ليس عليه خطّه! انتهت اليه رياسة الحديث وروايته توفي بفاس سنة ٨٠٥ ـ ١٤٠٣ ، ودفن مع أبي عبد الله سيدي محمد بن عباد رفيقه وصاحبه داخل باب الفتوح وقال في درة الحجال : له فهرسته وسماع عظيم ، وقال في الروضة المقصودة : بنو السراج بيت علم ودين بالاندلس ، وينسبهم إلى حمير ...

٢١١

٢١٢

قال ابن جزي : جبل الفتح هو معقل الاسلام المعترض شجا في حلوق عبدة الاصنام حسنة مولانا أبي الحسن (٧) رضي‌الله‌عنه ، المنسوبة إليه ، وقربته التي قدمها نورا بين يديه ، محل دد الجهاد ومقر أساد الأجناد (٨) ، والثغر الذي افترّ عن نصر الايمان وأذاق أهل الأندلس ، بعد مرارة الخوف ، حلاوة الأمان ومنه كان مبدأ الفتح الاكبر وبه نزل طارق بن زياد مولى موسى بن نصير (٩) عند جوازه ، فنسب إليه فيقال له : جبل طارق ، وجبل الفتح، لان مبدأه كان منه.

وبقايا السور الذي بناه ومن معه باقية إلى الآن تسمى بسور العرب شاهدتها أيام إقامتي به عند حصار الجزيرة (١٠) أعادها الله ، ثم فتحه مولانا أبو الحسن رضوان الله عليه ، واسترجعه من أيدي الروم بعد تملكه له عشرين سنة ونيفا ، وبعث إلى حصاره ولده الامير الجليل أبا مالك وأيده بالاموال الطائلة والعساكر الجرّارة ، وكان فتحه بعد حصار ستة أشهر، وذلك في عام ثلاثة (وثلاثين) وسبعماية (١١).

__________________

(٧) شيد جبل طارق عام الخمسات الثلاث كما يقولون : ٥٥٥ ه‍ ـ ١١٦٠ م من لدن الخليفة عبد المؤمن الموحدي ، وقد احتل الجبل عام ١٣٠٩ ـ ٧٠٩ من قبل فيرديناند الرابع ملك قشتالة. وقد استرجعه أبو الحسن المريني عام ٧٣٣ ـ ١٣٣٣ وقام فيه بعدة أعمال ومنشآت كبرى ... ـ ذ. التازي : الموحدون وجبل طارق من خلال مخطوط قديم ، مجلة الافاق ، لسان اتحاد كتاب المغرب العربي يناير ، مارس ١٩٦٣

T. Norris : The Early Islamic Settlement in Gibreltar, journal of Royal Anthropological institute xCI Pr ٢

د. التازي : التاريخ الپلوماسي للمغرب ج ٧ ص ٧٧.

(٨) بني جبل طارق من لدن الموحدين ليكون محطّتهم للتحكم في القارتين الافريقية والأوربية. قال ابن صاحب الصلاة : (عن سور العرب) «وأحكم البنّاؤون فيه بناء من القصور المشيّدة والديار ... ممّا هو عجيب في الآثار ، وكما قيل : «الملوك تبنى على قدرها من الأقدار» وربما لو عاينها المتقدمون من آل عاد بن شدّاد لأقروا للموحدين بالعجز ، وفضلوهم على الذين بنو القصر من سنداد ... وكان الحاج يعيش المهندس قد صنع في أعلاه رحى تطحن الأقوات بالريح ... ابن صاحب الصلاة ... ص ٨٧ ـ ٨٨.

(٩) موسى بن نصير أبو عبد الرحمن فاتح الأندلس ، أصله من وادي القرى بالحجاز كان أبوه نصير على حرس معاوية ، ونشأ موسى في دمشق وولى غزو البحر لمعاوية فغزى قبرس وبنى بها حصونا ... ثم غزا إفريقية وما وراءها من المغرب واستعمل مولاه طارق بن زياد الليثي على طنجة وأمره بغزو شواطىء أورپا ... له ترجمة حافلة مليئة بالمفاخر ... أدركه أجله بالمدينة المنورة عام ٩٧ ـ ٧١٥.

(١٠) كان حصار الجزيرة من لدن الفونص الحادي عشر عام ٧٤٢ ـ ١٣٤٢ بعد انتصاره على السلطان أبى الحسن في طريف ـ التاريخ الدبلوماسي للمغرب ج ٧ ص ٨٣ ـ ٨٤ ،

(١١) كان ذلك يوافق ١٣٣٣ ، وقد كان الملك فيرديناند الرابع القشتالي استولى عليه منذ عام ٧٠٩ ـ ١٣٠٩ ... ومن المهم أن نذكر هنا أن هذه المناسبة هي التي نقل فيها ناقوس كان لكنيسة بالأندلس ، نفل إلى فاس حيث ادخلت عليه تحسينات وعلق بالبلاط الأوسط بجامع القرويين في القبة الثامنة ، وقد نقش عليه اسم الامير أبى مالك بن السلطان أبى الحسن وكان قد نقش عليه ظهره كلمات نقشت بالحروف اللاتينية.

د. التازي : تاريخ جامعة القرويين ٢ ، ص ٣٥٩ ـ ٨٧ د ـ التاريخ الدبلوماسي للمغرب : ج ٧٩.

٢١٣

ولم يكن حينئذ على ما هو الآن عليه فبنى به مولانا أبو الحسن رحمة الله عليه القلهرّة(١٢) العظمى بأعلى الحصن وكانت قبل ذلك برجا صغيرا تهدم بأحجار المجانيق ، فبناها مكانه (١٣) ، وبنى به دار الصناعة ، ولم يكن به دار صنعة ، وبنى السور الأعظم المحيط بالتّربة الحمراء الآخذ من دار الصنعة إلى القرمدة ثم جدد مولانا أمير المومنين أبو عنان ، أيده الله عهد تحصينه وتحسينه وزاد بناء السور بطرف الفتح ، وهو أعظم أسواره غناء وأعمها نفعا وبعث إليه العدد الوافرة والأقوات والمرافق العامة وعامل الله تعالى فيه حسن النية وصدق الاخلاص.

ولما كان في الأشهر الأخيرة من عام ستة وخمسين (١٤) وقع بجبل الفتح ما ظهر فيه أثر يقين مولانا أيده الله وثمرة توكّله في أموره على الله ، وبان مصداق ما اطّرد له من السعادة الكافية ، وذلك أن عامل الجبل ، الخائن الذي ختم له بالشقاء ، عيسى بن الحسن بن أبي(١٥) منديل نزع يده المغلولة على الطاعة ، وفارق عصمة الجماعة ، وأظهر النفاق وجمح في الغدران والشقاق ، وتعاطى ما ليس من رجاله ، وعمى عن مبدأ حاله السيئ ومآله ، وتوهّم الناس أن ذلك مبدأ فتنة تنفق على إطفائها كرائم الأموال ، ويستعد لاتقائها بالفرسان والرجال ، فحكمت سعادة مولانا أيده الله ببطلان هذا التوهم ، وقضى صدق يقينه بانخراق العادة في هذه الفتنة ، فلم تكن إلا أيام يسيرة ، وراجع أهل الجبل بصائرهم ، وثاروا على الثائر ، وخالفوا الشقيّ المخالف ، وأقاموا بالواجب من الطاعة ، وقبضوا عليه وعلى ولده المساعد له في النفاق، وأتي بهما مصفّدين إلى الحضرة العلية فنفذ فيهما حكم الله في المحاربين وأراح الله من شرّهما.

ولما خمدت نار الفتنة أظهر مولانا أيده الله من العناية ببلاد الاندلس ما لم يكن في حساب أهلها وبعث إلى جبل الفتح ولده الاسعد المبارك الأرشد أبا بكر المدعوّ من السمات

__________________

(١٢) رسم هذا اللفظ في بعض النسخ هكذا (القاهرة) وفي بعضها (المأثرة) وقد رسمتها نسخة الأمير مولاي العباس هكذا : القلهرّة أي القلعة الحرة أي (Calahorra) على نحو الاسم الموجود في قرطبة اليوم ، ويفهم من بروفنصال الميل إلى هذا الاختيار الذي ربّما وجده أيضا في مخطوطة الكتاني!

(١٣) تذكر بعض التعاليق أن فيرديناند الرابع بنى دار صناعة أخرى على أسس دار الصناعة القديمة التي كانت من إنشاءات أبي الحسن لتحصين الجبل بعد سقوط الجزيرة الخضراء.

ويرى نوريس Norris أنّ معظم البناء في السور من دار الصناعة إلى الساحة ، كان فيما بعد عام ٧٣٣ ـ ١٣٣٣. هذا وما يزال اسم القلعة الحرة (Calahorra) رائجا إلى الآن في الجبل.

(١٤) آخر يوم من عام ٧٥٦ كان ١٤ دجنبر ١٣٥٥.

(١٥) كان ابن أبي منديل حاكما على جبل طارق منذ أن اكمل أبو الحسن بناء الجبل ... وقد وقف إلى جانب السلطان أبي الحسن ضدّ ولده أبي عنان ، وكان من كبار مستشاري بني مرين ، لكنه لم يلبث أن انضم إلى أبي عنان بعد أن فقد الأمل ، القصة المروية هنا من قبل ابن جزي حول «انتقاض عيسى» تتوافق مع التي حكاها ابن خلدون بتفصيل أكثر مع فارق أن هذا الأخير (ابن خلدون) يظهر منه أنه كان يتعاطف مع عيسى ... ـ تاريخ ابن خلدون ج ٧ ص ٦١٢ ـ ٦١٣. طبعة دار الكتاب اللبناني ١٩٨٣.

٢١٤

السلطانية بالسعيد أسعده الله تعالى ، وبعث معه أنجاد الفرسان ووجوه القبائل وكفاة الرجال وأدرّ عليهم الارزاق ووسع لهم الإقطاع ، وحرر بلادهم من المغارم ، وبذل لهم جزيل الإحسان.

وبلغ من اهتمامه بأمور الجبل أن أمر ـ أيده الله ـ ببناء شكل يشبه شكل الجبل المذكور فمثّل أشكال أسواره وأبراجه وحصنه وأبوابه ودار صنعته ، ومساجده ومخازن عدده وأهرية زرعه ، وصورة الجبل وما اتصل به من التربة الحمراء فصنع ذلك بالمشور السعيد فكان شكلا عجيبا أتقنه إتقانا يعرف قدره من شاهد الجبل وشاهد هذا المثال ، وما ذلك إلا لتشوقه أيده الله إلى استطلاع أحواله وتهمّمه بتحصينه وإعداده ، والله تعالى يجعل نصر الإسلام بالجزيرة الغربية على يديه ، ويحقق ما يؤمله في فتح بلاد الكفار وشتّ شمل عبّاد الصليب ، وتذكرت حين هذا التقييد قول الأديب البليغ المفلق أبي عبد الله محمد بن غالب الرّصافي البلنسي (١٦) ، رحمه‌الله ، في وصف هذا الجبل المبارك ، من قصيدته الشهيرة في مدح عبد المؤمن بن علي (١٧) التي أولها

لو جئت نار الهدى من جانب الطّور

قبست ما شئت من علم ومن نور!!

__________________

(١٦) أبو عبد الله محمد بن غالب الرصافي أصله من رصافة بلنسية وإليها نسبته تحدث عنه غير مصدر من مصادر التاريخ الأندلسي ، ويلقّب بالرفّاء لأنه كان يرفأ الثياب ترفعا عن التكسب بشعره وعرفه المراكشي صاحب كتاب المعجب بالوزير الكاتب ، أدركه أجله بمالقة يوم الثلاثاء ١٩ رمضان عام ٥٧٢ ـ ١١٧٧ ابن صاحب الصلاة : تاريخ المن بالإمامة طبعة ثالثة ١٩٨٧ ص ١١٠ تعليق ٢ ـ الاحاطةII ص ٥٠٥ ـ ٥٠٦ ـ ٥٠٧ ـ ٥١٥.

(١٧) عبد المؤمن بن علي هو مؤسس الدولة الموحدية ، وهو في الواقع الذي جعل من جبل طارق شيئا يذكر وسمّاه جبل الفتح وحكم المغرب من حدود مصر إلى المحيط الاطلسي بما في ذلك الاندلس ... ولا بد من العودة إلى تاريخ ابن صاحب الصلاة : المن بالامامة لنقرأ عن رحى الرّيح التي أنشأها هناك وعن أنواع الفواكه والثمار التي أصبح الجبل يتوفر عليها على ما أسلفنا تعليق ٨ ـ توفي عبد المومن عام ٥٥٨ ـ ١١٦٢ ...

٢١٥

وفيها يقول في وصف الجبل ، وهو من البديع الذي لم يسبق اليه ، بعد وصفه السّفن وجوازها (١٨).

حتى رمت جبل الفتحين من جبل (١٩)

معظّم القدر في الأجيال مذكور

من شامخ الأنف في سحنائه طلس

له من الغيم جيب غير مزرور

تمسي النجوم على إكليل مفرقه

في الجو حائمة مثل الدنانير!

__________________

(١٨) هذه الإشارة هامة لما ورد في وصف الأسطول الموحّدي من القصيدة المذكورة ومنها قوله :

تسنّم الفلك من شطّ المجاز وقد

نودين : يا خير أفلاك العلا سيري!

فسرن يحملن أمر الله من ملك

بالله منتصر ، في الله منصور!

لما تسابقن في بحر الزقاق به

تركن شطّيه في شك وتحيير

ذي المنشآت الجواري في أجرّتها

شكل الغدائر في سدل وتضفير

نجالها بين ايد من مجاذفها

يغرقن في مثل ماء الورد مبخور!

كانما عبرت تختال عائمة

في زاخر من ندى يمناه معصور

المراكشي : المعجب في تلخيص أخبار المغرب ، هذا وقد كان العلّامة دوزي الهولاندي أول من اهتم بالمعجب منذ أواسط القرن التاسع عشر ثم اهتم به فانيان وقد نشره محمد الفاسي ، مطبعة الثقافة سلا المغرب ص ١٢٩ ـ ١٣٥٧ ـ ١٩٣٨ ، ثم سعيد العريان والعربي العلمي ـ البيضاء ـ دار الكتاب ١٩٥٠ د. التازي : حضور الشعر في تاريخ الزقاق

La Presencia de la Poesia en la la Historia del Estrecho de gibraltar) Bah al ـ Znqaq (P. ٦٦١ Historia del Paso del estrechode gibraltar) SeCEgSA (٥٩٩١.

(١٩) وقع هنا بعض الخلط لابن جزي في رواية الأبيات وقد وردت هكذا في المعجب للمرّاكشي وفي أعمال الأعلام لابن الخطيب :

حتى رمت جبل الفتحين من كثب

بساطع من سناه غير مبهور

لله ما جبل الفتحين من جبل

معظم القدر في الاجيال مذكور!

٢١٦

وربّما مسحته من ذوآئبها

بكلّ فضل على فوديه مجرور

وأدرد من ثناياه بما أخذت

منه مقاحم أعواد الدّهارير

محنّك حلب الأيام أشطرها

وساقها سوق حادي العير للعير

مقيّد الخطو جوّال الخواطر ، في

عجيب أمريه من ماض ومنظور

قد واصل الصّمت والإطراق مفتكرا

بادي السّكينة مغبّر الأسارير (٢٠)

كأنّه مكمد مما تعبّده

خوف الوعيدين من دكّ وتسيير

أخلق به! وجبال الارض راجفة

أن يطمئنّ غدا من كلّ محذور!!

ثم استمر في قصيدته على مدح عبد المومن بن علي.

قال ابن جزي : ولنعد إلى كلام الشيخ أبي عبد الله ، قال : ثم خرجت من جبل الفتح إلى مدينة رندة وهي من أمنع معاقل المسلمين وأجملها وضعا (٢١) ، وكان قائدها إذا ذاك الشيخ أبو الربيع سليمان ابن داود العسكري (٢٢) ، وقاضيها ابن عمي الفقيه أبو القاسم

__________________

(٢٠) في بعض النسخ المطبوعة للمعجب يوجد مغفر عوض مغبّر ... هذا وتنبغي العودة إلى (تاريخ المنّ بالامامة) لابن صاحب الصلاة لاستيعاب ما قيل من الشعر في جبل طارق من لدن عدد من الشعراء ، من أمثال ابن المنخل في بائيته وابن سيد الاشبيلي في لاميته وبائيته كذلك والقرشى الطليق في بائيته أيضا ومحمد بن صاحب الصلاة في قافيته .. وأغتنم هذه الفرصة لأنوه بترجمة هذه القصيدة البديعة الصعبة في نفس الوقت إلى اللغات الأروبية ...

(٢١) ينبغي أن نذكّر هنا ـ ونحن نتنقل مع ابن بطوطة من جبل طارق شمالا إلى رندة ثم النزول جنوبا من رندة إلى مربلة ... ينبغي أن نذكر باتفاق ابرم بين ملك غرناطة وبين ملك فاس على أن يتنازل الأول للثاني على رندة ومربلة وجبل طارق ... وهكذا فإن ابن بطوطة يتجول لحد الآن في أراض مغربية! ويلاحظ على الرحالة المغربي أنه لم يعط لمسجد رندة ما يستحقه من الوصف ، وقد كانت رندة عاصمة لهذه الأقاليم المغربية.

(٢٢) أبو الربيع سليمان يعد من وزراء السلطان أبي عنان وقد كان في صدر المقاتلين ضد الحفصيين عام ٧٥٦ ـ ١٣٥٥ ـ ابن الأحمر : روضة النّسرين المطبعة الملكية الرباط ١٤١١ ـ ١٩٩١.

٢١٧

محمد ابن يحيى بن بطوطة ، ولقيت بها الفقيه القاضي الاديب أبا الحجاج يوسف المنتشاقري(٢٣)، وأضافني بمنزله ، ولقيت بها أيضا خطيبها الصالح الحاج الفاضل أبا إسحاق ابراهيم المعروف بالشندرخ المتوفّى بعد ذلك بمدينة سلا من بلاد المغرب ، ولقيت بها جماعة من الصالحين منهم عبد الله الصفار (٢٤) وسواه.

وأقمت بها خمسة أيام ، ثم سافرت منها إلى مدينة مربلة (٢٥) والطريق بينهما صعب شديد الوعورة ، ومربلة بليدة حسنة خصبة ، ووجدت بها جماعة من الفرسان متوجهين إلى مالقة ، فأردت التوجه في صحبتهم ، ثم إن الله تعالى عصمني ، بفضله ، فتوجهوا قبلي فأسروا في الطريق ، كما سنذكره ، وخرجت في إثرهم فلما جاوزت حوز مربلة ، ودخلت في حوز سهيل (٢٦) مررت بفرس ميت في بعض الخنادق ، ثم مررت بقفة حوت مطروحة بالأرض ، فرابني ذلك! وكان أمامي برج الناظور ، فقلت في نفسي : لو ظهر هاهنا عدوّ لأنذر به صاحب البرج ، ثم تقدمت إلى دار هنالك فوجدت عليها (٢٧) فرسا مقتولا ، فبينما أنا هنالك سمعت الصياح من خلفي ، كنت قد تقدمت أصحابي فعدتّ إليهم فوجدت معهم قائد حصن سهيل ، فأعلمني أن أربعة أجفان للعدو ظهرت هنالك ونزل بعض عمارتها إلى البر ، ولم يكن الناظور بالبرج ، فمر بهم الفرسان الخارجون من مربلة ، وكانوا اثنى عشر ، فقتل النصارى أحدهم وفر واحد وأسر العشرة ، وقتل معهم رجل حوّلت ، وهو الذي وجدت قفته مطروحة بالأرض ، وأشار عليّ ذلك القائد بالمبيت معه في موضعه ليوصّلني منه إلى مالقة ، فبتّ عنده بحصن الرابطة المنسوبة إلى سهيل ، والأجفان المذكورة مرساة عليه ، وركب معي بالغد فوصلنا إلى مدينة مالقة (٢٨) ، إحدى قواعد الاندلس وبلادها الحسان ، جامعة بين مرافق البر والبحر ،

__________________

(٢٣) نسبة إلى منتشاقرةMontejicar شمال غرناطة ، شاعر ورد ذكره في المؤلفات المعاصرة ويعرف أيضا باسم الجذامي والرندي ـ المقري : نفح الطيب ٥ ، ٦٠٥ ـ ٦ ، ١٣٥ ـ ١٣٨ ـ ١٣٩ ـ ١٤٥ ، ٧ ، ٥١٢. ابن الخطيب الاحاطة ج ٤ ص ٣٧٧ ـ الدرر ٥ ، ٢٥٤.

(٢٤) يظهر من هذا الوصف أن الرجل أوا أحد آبائه كان يتعاطى لحرفة الصفارين ...

(٢٥) مربلة (MARBALAT) تقع في الجنوب الشرقي من رنذه على الساحل في منتصف الطريق بين جبل طارق ومالقه.

(٢٦) سهيل اسم الكوكب المعروف في اللغة اللاتينية نجم Canopus وحسب ياقوت في معجم البلدان فإنه لا يرى سهيل في عمل من أعمال الاندلس إلا منه وهو ما في النفح (٤٦١ ,I) ومن هنا أخذ هذا الاسم ... وهنا وادي سهيل أيضا الذي ينتسب لأحد قراه الإمام عبد الرحمن بن عبد الله السّهيلي مصنف شرح السيرة المسمّى بالرّوض الأنف ... كان حصن سهيل يقع فيما يعرف اليوم ب (فوين خير الله ـ Fuen) (girola بين مربلة ومالقة ، ويعتبر اليوم من المصطافات المقصودة ـ أشكر زميلي ذ. عبد الجليل فنجيرو على معلوماته القيمة ...

(٢٧) معظم النسخ ترسم عليه بدل عليها اما مخطوطة دوزي فقد حذفت فيها كلمة (عليه أو عليها)

(٢٨) كانت مالقة على ذلك العهد هي ميناء مملكة غرناطة فهي منفذها على العالم الخارجي ... وهكذا فقد انتقل ابن بطوطة من منطقة بني مرين إلى منطقة بني نصر ...

٢١٨

كثيرة الخيرات والفواكه ، رأيت العنب يباع في أسواقها بحساب ثمانية أرطال بدرهم صغير ، ورمّانها المرسى الياقوتي لا نظير له في الدنيا ، وأما التين واللّوز فيجلبان منها ومن أحوازها إلى بلاد المشرق والمغرب (٢٩).

قال ابن جزي : وإلى ذلك أشار أبو محمد عبد الوهاب بن علي المالقي في قوله وهو من مليح التّجنيس :

مالقة حييت ياتينها

فالفلك من أجلك ياتينها

نها طبيبي عنك في علة

ما لطبيبي عن حياتي نها؟!

وذيّلها قاضي الجماعة أبو عبد الله ابن عبد الملك (٣٠) بقوله في قصد المجانسة

وحمص لا تنس لهاتينها

واذكر مع التّين زياتينها!

رجع ، وبمالقة يصنع الفخار المذهب العجيب ، ويجلب منها ، إلى أقاصي البلاد ، ومسجدها كبير الساحة ، شهير البركة وصحنه لا نظير له في الحسن ، فيه أشجار النارنج البعيدة.

ولما دخلت مالقة وجدت قاضيها الخطيب الفاضل أبا عبد الله بن خطيبها الفاضل أبي

__________________

(٢٩) إشارة طريفة لبعض المواد : (التين واللوز والفخار المذهّب الآتي الذكر) التي كانت تجلب من الغرب الاسلامي (مالقة) إلى أقصى بلاد المشرق ، مما يكشف عما كان يربط بين الجناحين على الصعيد التجاري ، وقد ورد في نفح الطيب للمقري : أن تين مالقة يضرب المثل بحسنه وانه يجلب حتى للهند والصين ، وقيل إنه ليس في الدنيا مثله. نفح الطيب l ، ص ١٥١ ـ ١٥٢.

(٣٠) لاحظ المقري في نفح الطيب l ـ ١٥٢ أن ابن جزي في ترتيبه لرحلة ابن بطوطة نسب البيتين الأولين للخطيب أبى محمد عبد الوهاب بن علي المالقي كما نسب التذييل لقاضي الجماعة أبي عبد الله بن عبد الملك (يعني صاحب الذيل والتكملة) ، وكانت هذه الملاحظة بعد أن نسب المقري البيتين المذكورين لأبي الحجاج يوسف ابن الشيخ البلوي المالقي كما نسب تذييلهما للامام الخطيب أبي محمد عبد الوهاب المنشئ قال وفي بعض النسخ :

لا تنس لإشبيلية تينها

واذكر مع التين زياتينها!

وهو نحو الأول لأنّ حمص هي إشبيلية لنزول أهل حمص من المشرق بها ... وجاء في (الروض) أن الطلبة خرجوا للقاء أبى محمد عبد الله بن سليمان بن حوط الله الانصاري لما ولى القضاء بمالقة ، فأنشدهم هذين البيتين ، ولا بدّ لنا بعد هذا أن نشير لما ورد عند الشقندي حول تين مالقة الذي كان يباع في بغداد على جهة الاستطراف ... وكان المسلمون والنصارى يسفّرون منه في المراكب البحرية ما لا يمكن حصره! لقد أخذ الشقندى مرة طريق الساحل من سهيل إلى بلش قدر ثلاثة أيام وتعجب فيما حوته هذه المسافة من تين ... ـ المقري : نفح الطيب ، تحقيق : د. إحسان عباس ، دار صادر ـ ج l ص ١٥١. ج ٣ ، ٢١٩.

٢١٩

جعفر بن خطيبها وليّ الله تعالى أبا عبد الله الطنجالي (٣١) قاعدا بالجامع الأعظم ، ومعه الفقهاء ووجوه الناس يجمعون مالا برسم فداء الأساري الذين تقدم ذكرهم ، فقلت له : الحمد لله الذي عافاني ولم يجعلني منهم! وأخبرته بما اتفق لي بعدهم ، فعجب من ذلك ، وبعث إلي بالضيافة رحمه‌الله وأضافني أيضا خطيبها أبو عبد الله الساحلي المعروف بالمعمّم (٣١).

ثم سافرت منها إلى مدينة بلش (٣٣) وبينهما أربعة وعشرون ميلا ، وهي مدينة حسنة بها مسجد عجيب ، وفيها العناب والفواكه والتين كمثل ما بمالقة ، ثم سافرنا منها (٣٤) إلى الحمّة وهي بلدة صغيرة لها مسجد بديع الوضع عجيب البناء وبها العين الحارة على ضفة واديها ، وبينها وبين البلد ميل أو نحوه ، وهنالك بيت لاستحمام الرجال وبيت لاستحمام النساء.

ثم سافرت منها إلى مدينة غرناطة قاعدة بلاد الاندلس ، وعروس مدنها ، وخارجها لا نظير له في بلاد الدنيا ، وهو مسيرة أربعين ميلا يخترقه نهر شنيل (٣٥) وسواه من الأنهار الكثيرة والبساتين والجنّات والرياضات والقصور والكروم محدقة بها من كل جهة ، ومن عجيب مواضعها عين (٣٦) الدمع وهو جبل فيه الرياضات والبساتين ، لا مثل له بسواها.

__________________

(٣١) الطّنجالي والقصد إلى أحمد بن عبد الله بن أحمد بن يوسف ... الهاشمي الطنجالي من أهل مالقة ... أخذ عن أبيه وعن مالك بن المرحل واجاز له جده أبو جعفر ... كان قديم العدالة كثير الحياء ، أدركه أجله في شوال ٧٦٤ ـ ١٣٦٣ ـ الدرر ٢٩١,l.

(٣٢) الساحلي أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن ابراهيم الانصاري الساحلي ... كان طبقة من طبقات الكفاة ظرفا ورواء وعارضة وترتيبا تجلّل بفضل شهرة أبيه الذي كان سفيرا في بعض الظروف ، وبعض المخطوطات تنعته بالمعمّر بدل المعمم وهو غير صواب أدركه أجله بمالقة ليلة النصف من شعبان ٥٤ ـ ٧ ـ ١٣٥٣ الاحاطة ج ٣ ص ١٩١ ـ ١٩٢.

(٣٣) بلّش Velez ، القصد إلى بلّش مالقة ، ويقع في شرقها على بعد ٢٤ ميلا.

(٣٤) ورد ذكر هذه الحمّة كثيرا في المصادر التي تحدثت عن المنطقة ، وخاصة منها نزهة الإدريسي ومسالك الأبصار للعمري معاصر ابن بطوطة الذي أدى عنها وصفا دقيقا ... ومن تلك المصادر مخطوطة (الروض الباسم) في حوادث العمر والتراجم تأليف الشيخ عبد الباسط بن خليل الحنفي الملطي القاهري المتوفى ٩٢٠ ـ ١٥١٤ ورقة ١١٢ ب وقفت عليها في حاضرة الفاتيكان رقم ٧٢٩arabe وكتب عنها المستشرق روبير برونشفيك ٦٣٩١ (larose editeurs).

(٣٥) أطنب محمد بن عبد الوهاب الغسّاني سفير السلطان مولاي اسماعيل لدى الملك گارلوص الثاني ١١٠٢ ـ ١٦٩٠ في وصف شنيل ... وقد ذكّره سحر هذا النهر الذي ينحدر من وادي آش فيما قالته حمدة الشاعرة الأندلسية الوادي آشية:

أباح الدمع أسراري بواد

له في الحسن" آثار" بوادي!

(٣٦) عين الدّمع بقعة من ضواحي غرناطة كانت منتزها بديعا اذ كانت تغص بالمروج والحدائق الغنّاء ، وقد استمرت تحتفظ ببقية من سحرها القديم ... ويشغل موقعها سطح تلال البيازين التي تطل على المرج وكانت تسمى عين الدّمعة ويقال إن آخر ملوك غرناطة ذرفت دموعه وهو يودعها! وقد تحرف هذا الاسم عند الاسبان إلى (Dinamar) ، وقد ورد ذكر (عين الدمع) في شعر كثير نذكر منه قول أبي البركات ابن الحاج البلفيقي وهو من شيوخ ابن الخطيب :

الأقل لعين الدمع يهمي بمقلتي+ لفرقة عين الدمع وقفا على الدّم!

وقد ظهرت عين الدمع في خريطة بني نصر بغرناطة انظر الصورة ٣ من كتاب

Rachel Arie : l\'Espagne musulmane au Paris ٣٩٩١ Temps de Nasrides.

٢٢٠