رحلة ابن بطوطة - ج ٤

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ٤

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-010-9
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٣٥١

حكاية [الفقير الصائم]

وبينما نحن بتلك الزاوية إذ دخل علينا أحد الفقراء فسلّم وعرضنا عليه الطّعام فأبى ، وقال : إنما قصدت زيارتكم ولم يزل ليلته تلك ساجدا وراكعا ، ثم صلّينا الصبح ، واشتغلنا بالذكر ، والفقير بركن الزاوية فجاء الشيخ بالطعام ودعاه ، فلم يجبه فمضى إليه فوجده ميّتا، فصلينا عليه ودفناه رحمة الله عليه!

ثم سافرت إلى المحلة الكبيرة ثم إلى نحرارية ثم إلى أبيار ، ثم إلى دمنهور (٥٥) ، ثم إلى الإسكندرية (٥٦) فوجدت الوباء قد خف بها بعد أن بلغ عدد الموتى إلى ألف وثمانين في اليوم، ثم سافرت إلى القاهرة ، وبلغني أن عدد الموتى أيام الوباء انتهى فيها إلى أحد وعشرين ألفا في اليوم! ووجدت جميع من كان بها من المشايخ الذين أعرفهم قد ماتوا رحمهم‌الله تعالى.

ذكر سلطانها

وكان ملك ديار مصر في هذا العهد الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاون ، وبعد ذلك خلع عن الملك وولي أخوه الملك الصّالح (٥٧).

ولما وصلت القاهرة وجدت قاضي القضاة عز الدين بن قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة (٥٨) قد توجه إلى مكة في ركب عظيم يسمونه الرّجبي لسفرهم في شهر رجب ... وأخبرت أن الوباء لم يزل معهم حتى وصلوا عقبة أيلة (٥٩) فارتفع عنهم.

ثم سافرت من القاهرة ، على بلاد الصعيد ، وقد تقدم ذكرها. إلى عيذاب (٦٠) وركبت منها البحر فوصلت إلى جدة (٦١) ، ثم سافرت منها إلى مكة شرفها الله تعالى وكرمها

__________________

(٥٥) انظرI ، ٥٦ ـ ٥٤ ـ ٥٥ ـ ٤٩ حول الامكنة المذكورة.

(٥٦) حول وصف ابن بطوطة للاسكندرية يراجع الجزءI ، ٢٧ ـ ٤٧.

(٥٧) إلى هذا الملك توجه صفيّ الدين الحلي يحرضه على الحذر من المغول في قصيدة مطلعها :

لا يمتطي المجد من لم يركب الخطرا

ولا ينال العلا من قدم الحذرا

السيد أحمد الهاشمي بك : جواهران ١٣٤٧ ـ ١٩٢٨ ص ٧٤٨

(٥٨) انظر الجزءI ، ص ٨٨.

(٥٩) جزءI ، ٢٥٦.

(٦٠) حول سفرته الأولى عبر الصعيد إلى عيذاب يراجع I ص ٩٤ ـ ١١١.

١٨١

فوصلتها في الثاني والعشرين لشعبان سنة تسع وأربعين (٦٢) ونزلت في جوار إمام المالكية الصالح الوليّ الفاضل ابي عبد الله محمد بن عبد الرحمن المدعو بخليل (٦٣) ، فصمت شهر رمضان بمكة وكنت أعتمر كلّ يوم على مذهب الشافعي ، ولقيت ممّن أعهده من أشياخها شهاب الدين الحنفي (٦٤). وشهاب الدين الطبري (٦٥) ، وأبا محمد اليافعي (٦٦) ونجم الدين الأصفوني (٦٧) والحرازي (٦٨) وحججت في تلك السنة.

ثم سافرت مع الركب الشامي إلى طيبة مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزرت قبره المكرم المطيب زاده الله طيبا وتشريفا في المسجد الكريم طهره الله وزاده تعظيما ، وزرت من بالبقيع (٦٩) من أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورضي عنهم ، ولقيت من الأشياخ أبا محمد ابن فرحون (٧٠).

ثم سافرنا من المدينة إلى العلا وتبوك ، ثم إلى بيت المقدس ، ثم إلى مدينة الخليل

__________________

(٦١) حول زيارته الأولى إلى جدة يراجع الجزءII ، ١٥٦ ـ ١٥٨.

(٦٢) يوافق هذا التاريخ ١٦ نونبر ١٣٤٨.

(٦٣) حول خليل إمام الموسم يراجع الجزءI ص ٣٢٤ يراجع التعليق ١٥٥.

(٦٤) هو بالذات أحمد بن علي السجزي الحسيني إمام الحنفية بمكة وبها أدركه أجله في رمضان ٧٦٢ ـ ١٣٦١ الدرر الكامنةI ، ٢٣٦ ـ انظر الجزءI ص ٣٥٢ ـ راجع التعليق رقم ١٩٢ تعليق رقم ١٩٢.

(٦٥) شهاب الدين الطبري عوض والده في القضاء ، محمد بن محمد بن محبّ الدّين أحمد الطبري ـ ١٣٣٠ ١٢٦٠ ينتمي لأسرة الفقهاء والقضاة ـ يراجع I ، ٣٤٧ ـ ٣٤٨ التعليق ١٨٧.

(٦٦) اليافعي هو عبد الله بن سعد بن علي بن سليمان بن فلاح اليافعي الشافعي اليمني ثم المكي ... أخذ باليمن عن البصال ... ثم جاور بمكّة ولازم مشايخ للعلم ، ومن شيوخه نجم الدين الطبري ... ورحل إلى القدس ودخل دمشق ... كان كثير التصانيف ، كثير الاحسان للطلبة إلى أن مات في ٢٠ من جمادى الأخيرة عام ٧٦٨ ـ ١٣٦٢ ـ الدرر ٢ ، ص ٣٥٣ ـ ٣٥٤.

(٦٧) حول الأصفوني يراجع I ، ٣٥٦ ـ ٣٥٧ وكذلك II ، ١٥٠ ـ حيث ترجمناه في التعليق ٢٩٤.

(٦٨) الحرازي لا يخلو إما أن يكون القصد إلى أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن العمري الحرازي ولد ببلدة حراز باليمن عام ٦٧٥ وقدم مكة فسمع بها عن جماعة ... وانتهت اليه رياسة الفتوى وقد توفي بمكة عام ١٢ شوال ٧٥٥ ... واما ان يكون القصد إلى ولده محمد المولود سنة ٧٠٦ سمع عن الكثير ... ثم حدّث ودرس وأفتى ثم ولى القضاء بعد وفاة شهاب الدّين الطبري ... ثم سعى عليه أبو الفضل النويري فولى عوضه القضاء سنة ٦٣ ولزم الحرازي بيته حتى مات بمكة سنة ٧٦٥ ـ الدّرر ج l ص ١٥٠ ـ ٣ ص ٤٣٨. ـ يلاحظ أن ابن بطوطة يحج حجته السادسة والأخيرة ...

(٦٩) لا يخفى أن القصد إلى المقبرة الشهيرة بالمدينة. انظر جزءI ، ص ٢٨٧ حيث ذكر اسماء بعض من تحتضنهم تلك التربة الطاهرة.

(٧٠) حول ابن فرحون انظر ج I ص ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

١٨٢

١٨٣

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم إلى غزة (٧١) ثم إلى منازل الرّمل (٧٢) وقد تقدم ذكر ذلك كلّه ، ثم إلى القاهرة.

وهنالك تعرفنا أن مولانا أمير المومنين وناصر الدين المتوكّل على رب العالمين أبا عنان أيده الله تعالى قد ضمّ الله به نشر الدولة المرينية (٧٣) وشفى ببركته بعد إشفائها البلاد المغربية، وأفاض الإحسان على الخاص والعام وغمر جميع الناس بسابغ الإنعام فتشوفت النّفوس إلى المثول ببابه وأمّلت لثم ركابه ، فعند ذلك قصدت القدوم على حضرته العلية مع ما شاقني من تذكار الأوطان والحنين إلى الأهل والخلان والمحبة في بلادي التي لها الفضل عندي على البلدان.

بلاد بها نيطت عليّ تمائمي

وأول أرض مسّ جلدي ترابها!

فركبت البحر في قرقورة لبعض التونسيين صغيرة ، وذلك في صفر سنة خمسين (٧٤) ، وسرت حتى نزلت بجربة ، وسافر المركب المذكور إلى تونس فاستولى العدوّ عليه (٧٥).

ثم سافرت في مركب صغير إلى قابس فنزلت في ضيافة الأخوين الفاضلين أبي مروان ، وأبي العباس ابني مكّي (٧٦) أميري جربة وقابس ، وحضرت عندهما مولد رسول الله

__________________

(٧١) حول زيارته الأولى لهذه الاماكن ووصفه لها يراجع ج I ، ص ١١٤ (غزة) صفحة ١١٥ ـ ١٢١ (الخليل) ص ١٢١ ـ ١٢٤ القدس ص ٢٥٨ تبوك ـ ٢٦١ (العلا).

(٧٢) يقصد بمنازل الرمل المنطقة الصحراوية التي تفصل بين غزّة والقاهرة جنوب شرقي بلبيس ...

(٧٣) نذكر أن السلطان أبا الحسن والد السلطان أبي عنان ، بعد أن استرجع تلمسان عام ٧٣٧ ـ ١٣٣٧ ، استرجع كذلك تونس عام ٧٤٧ ـ ١٣٤٧ موحدا بذلك بلاد المغرب ، على ما سنقرأه في التعليق اللاحق رقم ٧٩ ـ يلاحظ سكوت ابن بطوطة عن زيارة الأميرة المغربية مريم لمصر ٧٣٨ وقد تحدث الناس بها دهرا كما يقول ابن خلدون. التازي : التاريخ الدبلوماسي للمغرب ج ٧ ص ٢٠٤ ـ بدائع الزهور ٤٧٢

(٧٤) أبريل ـ مايه ١٣٤٩.

(٧٥) أبو مروان أحمد بن مكي أصبح أميرا على جزيرة جربة بعد إجلاء الصقليين الغزاة عام ٧٣٥ ـ ١٣٣٥ وامتد حكمه فيما بعد إلى صفاقس ـ أخوه أبو العباس عبد الملك كان حاكما مستقلا لقابس ... كانا معا حليفين للعاهل المغربي أبي الحسن قبل أن يخذلاه في أعقاب فشله ويتحالفا مع أحد الأمراء الحفصيين ...

(٧٦) يشير ابن بطوطة هنا للقرصنة التي كانت رائجة على ذلك العهد في المنطقة ، ويذكر السّير هاميلتون گيب أن الأمر يتعلق بصقلية التي احتل أميرها روجي دوريا (Roger doria) جربة عام ٦٨٨ ه‍ ١٢٨٩ م حيث بقيت الى عام ٧٣٥ ه‍ ١٣٣٥ م عندما استردها المسلمون. ولا بد أن لا ننسى أن لحكام جزيرة سردانية كذلك حسابا قديما مع أهل تونس الذين كانوا قد استولوا على عدد من أهل هذه الجزيرة ، وأقاموهم على مقربة من جلولا التي لا تبعد عن القيروان إلا بأربعة وعشرين ميلا في موقع ما يزال إلى اليوم يحمل اسم سردانية ، وقد وقفت عليه ... وإني لأغتنم هذه الفرصة لأجدد الشكر للذين يسرّوا لي تلك الزيارة. التازي : الحضور العربي في جزيرة سردانية ، بحث قدم لمجمع اللغة العربية ، القاهرة مجلة المجمع ج ٧٤ مايه ١٩٩٤.

١٨٤

١٨٥

صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٧٧) ، ثم ركب في مركب إلى سفاقس ، ثم توجهت في البحر الى بليانة ، ومنها سرت في البر مع العرب ، فوصلت بعد مشقّات إلى مدينة تونس والعرب محاصرون لها.

ذكر سلطانها

وكانت تونس في إيالة مولانا أمير المسلمين وناصر الدين ، المجاهد في سبيل رب العالمين، علم الأعلام وأوحد الملوك الكرام ، أسد الآساد ، وجواد الأجواد القانت الأواب ، الخاشع العادل أبي الحسن (٧٩) بن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين ناصر دين الاسلام الذي سارت الأمثال بجوده ، وشاع في الأقطار أثر كرمه وفضله ، ذي المناقب والمفاخر والفضائل والمآثر الملك العادل الفاضل ابي سعيد بن مولانا أمير المسلمين وناصر الدين ، المجاهد في سبيل رب العالمين ، علم الأعلام وأوحد الملوك الكرام ، أسد الآساد ، وجواد القانت الأواب ، الخاشع العادل أبي الحسن بن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين ناصر دين الاسلام الذي سارت الأمثال بجوده ، وشاع في الأقطار أثر كرمه وفضله ، ذي المناقب والمفاخر والفضائل والمآثر الملك العادل الفاضل أبي سعيد بن مولانا أمير المسلمين وناصر الدين المجاهد في سبيل رب العالمين قاهر الكفار ومبيدها ومبدي آثار الجهاد ومعيدها ناصر الايمان الشديد السطوة في ذات الرحمن العابد الزاهد الراكع الساجد الخاشع أبي يوسف بن عبد الحق رضي‌الله‌عنهم أجمعين وابقى الملك في عقبهم إلى يوم الدين.

__________________

(٧٧) حديث ابن بطوطة عن حفلات عيد المولد النبوي بالديار المغربية حديث له دلالته فإن المملكة المغربية قررت بمقتضى مرسوم ملكي (ظهير) أن تجعل من هذا اليوم عيدا تقام فيه الاحتفالات في سائر المدن والقرى.

د. التازي : لماذا عيد المولد في الغرب الإسلامي؟ دعوة الحق العدد ٢٧٧ جمادى الأولى عام ١٤١٠ دجنبر ١٩٨٩ ـ وقد ترجم هذا البحث إلى اللغة البوسنوية من قبل الاستاذ الشهيد نياز شكريج ، ونشر في مجلةIslamoska Misao Maj ٠٩٩١.

(٧٨) بليانة توجد على مقربة من سفاقس كما يقول برونشفيگ Brunschvig وكان گيب يعتقد أن القصد إلى نابل Nabeul ميناء صغير على بعد ٣٠ ميلا جنوب شرقي تونس ...Selections P.٥٧٣ ٤١.

(٧٩) بويع ابو الحسن يوم ٢٥ ذي القعدة ٧٣١ وكان مما حدث أثناء وجوده في تونس أن تمردت القيروان عليه وأشيعت وفاته فبايع الناس ابنه أبا عنان ... وانتهى المطاف بأبي الحسن إلى هنتانة جنوب المغرب حيث قدم عليه محمد بن أبي عمرو التميمي حاجب ولده الذي طلب الرضا ، فرضى عنه وكتب له بولاية العهد ... وقد اعتل السلطان خلال ذلك فافتصد لاخراج الدم ثم باشر الماء بعضوه للطهارة فتورّم وهلك رحمه‌الله يوم ٢٧ ربيع الأول ٧٥٢. ونقل ابنه أبو عنان شلوه إلى شالة بالرباط وكان ابن بطوطة صحبة الركب. ابن الأحمر : روضة النسرين ـ الزركشي تاريخ الدولتين ... راجع التعليق ٧٣.

١٨٦

ولما وصلت تونس قصدت الحاج أبا الحسن الناميسى (٨٠) لما بيني وبينه من مواتّ القرابة والبلدية ، فأنزلني بداره وتوجه معي إلى المشور فدخلت المشور الكريم وقبّلت يد مولانا أبي الحسن رضي‌الله‌عنه ، وأمرني بالقعود فقعدت ، وسألني عن الحجاز الشريف وسلطان مصر فأجبته وسألني عن ابن تيفراجين (٨١) فأخبرته بما فعلت المغاربة معه ، وإرادتهم قتله بالاسكندرية وما لقى من إذايتهم انتصارا منهم مولانا أبي الحسن رضي‌الله‌عنه.

وكان في مجلسه من الفقهاء الإمام أبو عبد الله السّطي (٨٢) ، والامام ابو عبد الله محمد ابن الصبّاغ (٨٣) ومن أهل تونس قاضيها أبو علي عمر بن عبد الرفيع (٨٤) وأبو عبد

__________________

(٨٠) الحاج أبو الحسن على بن الفقيه الصالح أبي زيد الناميسى كان من المكرمين عند أبي الحسن المريني ، وهو من أسرة صنهاجية ظهر منها أعلام في العهدين : الموحدي والمريني ، ومنهم أبو محمد عبد الله الناميسي الذي ولى قضاء شريش ، وغرب من بلده طنجة إلى تونس سنة ٦٤١ ه‍ ثم سرح سنة ٦٤٧ ه‍. انظر التكملة لابن الآبار : ٥٢٥ ـ وجذوة الاقتباس ٤٣٠ طبعة دار المنصور الرباط ـ والمسند الصحيح الحسن ٢٩٥.

(٨١) يعتبر ابن تيفراجين قطّب الدائرة في الأحداث التي شاهدناها بالمنطقة ، وهو من شيوخ الموحدين ، حاجب لأبي يحيى أبي بكر ، وهو الّذي حثّ في عهد خلف هذا الاخير ، ابي العباس أحمد ١٣٤٦ ـ ١٣٤٧ ـ ٧٤٧ ه‍ حث السلطان المريني أبا الحسن على استرجاع افريقية وأصبح وزيرا له وهو الذي سعا لخطبة الأميرة الحفصية لأبي الحسن وبعد نكسة القيروان غيّر الموقف! وأصبح مكلفا من لدن الجانب الحفصي بحصار تونس ، ولما فشل في مهمته ، فرّ إلى الاسكندرية ، ولكنه عاد عام ١٣٥٠ ـ ٧٥١ ليقوم بعزل الفضل السلطان الجديد للحفصيين ويعوضه بأحد اخوة هذا الاخير أبي اسحاق ، وقد توفي عام ٧٦٦ ـ ١٣٦٤ ـ ١٣٦٥.

(٨٢) محمد بن سليمان السطي (نيل الابتهاج لأحمد بابا طبعة فاس ٢٤٢) اختاره السلطان أبو الحسن لصحبته لتونس، وعند العودة غرق عام ٧٥٠ في الحادثة الشهيرة مع ابن الصباغ والزواوي مقرئ السلطان (نيل الابتهاج ٤٥ ـ ١٤٦ وليس صحيحا أن عدد الغرقى من العلماء ٤٠٠ وعدد المراكب الضائعة ٦٠٠! كما قاله المقرى في الباب الخامس من القسم الثاني من النّفح ، وتبعه بعضهم ، منهم أنا في تاريخ القرويين ج.II ص ٤٩٠ فقد عثرت على مراسلات دبلوماسية بين السلطان أبي الحسن وبين الملك بيدرو الرابع ملك أراغون من جهة وبين سلطان غرناطة من جهة أخرى تتحدث عن ضياع خمسة مراكب. الريحانة ج. ٠٣٥ ـ ١٢٤I وثائق أراغون رقم ٩٩. ذ. التازي : تجربتي في تحقيق الوثائق الدبلوماسية المتعلّقة بالمغرب والأندلس ، ندوة تحقيق التراث المغربي الأندلسي ـ كلية الآداب وجدة ـ ll ٩ نونبر ١٩٩٥ ـ أحمد عزّاوي : الغرب الإسلامي من خلال رسائله ـ اطروحة كلية الآداب الرباط السنة الجامعية ١٩٩٥ ـ ١٩٩٦.

(٨٣) هو محمد بن الصباغ الخزرجي الاندلسي ... اختاره السلطان فاستدعاه ولم يزل معه حتى هلك غريقا في حادثة الاسطول سالفة الذكر (نيل الابتهاج : ص ٢٢٣).

(٨٤) يقال إن ابن عبد الرفيع رمى بنفسه على ابن تاسكرت ـ وكان مكينا في الدولة المرينية ـ وقال له : إن توسطت لي في خطة القضاء فاني أوليك عدلا بتونس ، فلم يزل الآخر يتمثل إلى أن وقع الشرط ومشروطه ، وقد توفي ابن عبد الرفيع سنة ٧٦٦ ـ الزركشي : تاريخ الدولتين تحقيق محمد ماضور ـ المكتبة العتيقة تونس ١٩٦٦ ص ٨٨ ـ ١٠٢ الأبي : الاكمال ، اطروحة عبد الرحمن عون ص ٤٩. تونس

١٨٧

١٨٨

الله بن هارون (٨٥) ، وانصرفت عن المجلس الكريم ، فلما كان بعد العصر استدعاني مولانا أبو الحسن وهو ببرج يشرف على موضع القتال ومعه الشيوخ الجلة أبو عمر عثمان بن عبد الواحد التّنالفتي (٨٦) وأبو حسون زيان بن امديون العلوي (٨٧) ، وأبو زكرياء يحيى بن سليمان العسكري(٨٨) والحاج أبو الحسن الناميسي ، فسألني عن ملك الهند؟ فأجبته عما سأل ، ولم أزل اتردد إلى مجلسه الكريم أيام إقامتي بتونس وكانت ستة وثلاثين يوما.

ولقيت بتونس إذا ذاك الشيخ الامام خاتمة العلماء أبا عبد الله الآبلي (٨٩) وكان في فراش المرض وباحثني عن كثير من أمور رحلتي.

__________________

(٨٥) كان محمد ابن هرون الكناني من رجال الفتوى في عهد السلطان أبي الحسن بتونس ... وهكذا فبعد وفاة قاضي الجماعة محمد بن عبد السلام بن يوسف الهواري ذكر لقضاء الجماعة الشيخ الفقيه المفتي أبو عبد الله محمد بن محمد بن هارون الكناني ... وحين لقب ابن هارون بالفتيا بقى مفتيا إلى أن مات بالوباء في عام خمسين وسبعمائة هو وزوجه في يوم واحد! فحفر لهما قبران متدانيان وحضر لدفنهما السلطان أبو الحسن المريني. الزركشي : تاريخ الدولتين ص ٨٨ نيل الابتهاج ص ٢٤٠ ـ ٢٤١

(٨٦) كان التنالفي نسبة إلى تنالفت ، من جلساء السلطان أبي الحسن وخواصه ووزرائه ... وقد ورد ذكره في المسند لابن مرزوق الذي كناه أبا سعيد ، ذكره في الباب ٣٥ ص ١٧٤ ـ ٣٦٩ من المسند تصحيح د. فيگيرا.

(٨٧) زيان بن آمديون ، هذا صهر للسلطان أبي الحسن وزوج أخته ، كان من أقرب المقربين اليه ، وكان يبعثه لتفقد المتشكين والمتظلمين في الأقطار البعيدة انظر الحديث عنه في المسند لابن مرزوق وخاصة في الباب الخامس والثلاثين في جلسائه ... هذا ويقرأ الناشران الاثنان d.s. أمريون بالراء عوض الدّال الذي يوجد في باقي المخطوطات. بما فيها مخطوطات المسند لابن مرزوق ص ١٧٤ ـ ٢٥٤ ـ ٣٥٤.

(٨٨) ابن سليمان هذا كان مكلفا بالدفاع عن تونس ضد ابن تيفراجين عندما كان أبو الحسن نفسه محاصرا.

(٨٩) يلاحظ أن الناشرين الفرنسيين الأولين قرا : الأبلي بضم الهمزة والباء (أبلة العراق) عوض ابلة (AVILLA) بالأندلس ومن ثمت تبعهما سائر الناشرين بمن فيهم العرب ...! ويعتبر الآبلي هذا من كبار الشخصيات المغربية والاسلامية وقد ترجم له أكثر من تاليف ، وهو محمد بن ابراهيم بن احمد العبدري التلمساني المعروف بالآبلي ... انتقل أبوه وعمه من الاندلس فخدما يغمراسن صاحب تلمسان ... ونشأ محمد بن ابراهيم بتلمسان ومال إلى محبة (التعاليم) يعني الرياضيات ... ولما أخذ يوسف بن يعقوب تلمسان استخدمه ولما عادت تلمسان لأبي حمو أراد أن يكرهه على الوظيف ففر إلى فاس واختفى هناك عند خلوف اليهودي شيخ التعاليم فتبحّر فيها ... ثم دخل مراكش (٧١٠ ه‍) فنزل على ابن البنّاء شيخ المعقول والمنقول ... وقد ضمه السلطان أبو الحسن لمجلسه العلمي ... ويذكر ابن خلدون انه لازمه وأخذ عنه إلى أن توفى بفاس عام ٧٥٧ وكان من غريب ما حكاه ابن خلدون عنه في المقدمة : أنه أي الآبلي حضر عند قاضي فاس أيام السلطان أبي سعيد وهو الفقيه أبو الحسن المليلى وقد عرض عليه أن يختار من بين المداخيل المخزنية لجرايته. فأجاب : من مكس الخمر!! فاستضحك الحاضرين من أصحابه وعجبوا وسألوه عن حكمة ذلك فقال : إذا كانت الجبايات كلّها حراما فإني اختار منها ما لا تتابعه نفس معطيه! والخمر قل أن يبذل فيها احد ماله الا وهو طروب مسرور!! خصص له صاحب الابتهاج ترجمة حافلة فلتراجع ص ٢٤٤ ـ ٢٤٥.

١٨٩

ثم سافرت من تونس في البحر مع القطلانيين فوصلنا إلى جزيرة سردانية (٩٠) من جزائر الروم ، ولها مرسى عجيب ، عليه خشب كبار دائرة به ، وله مدخل كأنه باب لا يفتح إلا بإذن منهم وفيها حصون دخلنا أحدها وبه أسواق كثيرة ، ونذرت لله تعالى إن خلّصنا الله منها صوم شهرين متتابعين لأننا تعرفنا أنّ أهلها عازمون على إتباعنا اذا خرجنا عنها ليأسرونا(٩١)! ثمّ خرجنا عنها ، بعد عشر إلى مدينة تنس (٩٢) ، ثم إلى مازونة (٩٣) ، ثم إلى مستغانم ، ثم إلى تلمسان فقصدت العباد (٩٥) وزرت الشيخ أبا مدين رضي‌الله‌عنه ونفع (٩٦) به، ثم خرجت عنها على طريق ندرومة (٩٧) ، وسلكت طريق أخندقان (٩٨) وبت بزاوية الشيخ إبراهيم.

__________________

(٩٠) نزل ابن بطوطة في ميناء كاگلياري Cagliari ، ويلاحظ أن الوصف الذي قدمه الرحالة المغربي للميناء المذكور يتفق مع الوصف الوارد في المرشد البحري الذي الفه ريتزوRIZZO وهو ما تأكد لديّ من خلال شهادات اساتذة الجامعة هناك عند زيارتي للجزيرة ... ـ د. التازي الحضور العربي في جزيرة سردانية مجلة مجمع اللغة العربية ـ القاهرة ج ٧٤ ذو الحجة ١٤١٤ ـ مايه ١٩٩٤.

(٩١) ينبغي أن نعيد إلى الذاكرة أن المملكة المغربية كانت قد أبرمت مع بعض قادة أوربا الجنوبية بمن فيهم حكّام سردانية التي كانت تابعة انئد لأرغون بتاريخ ٥ شوال ٧٣٩ ـ ١٥ أبريل ١٣٣٧ ، اتفاقية للسلام والتعاون ، وقعها السلطان أبو الحسن ـ وهو مقيم بتلمسان ـ لفترة عشرة سنوات شمسية على حد تعبير الاتّفاقية ، ومن هنا يظهر أن تخوف ابن بطوطة كان في محله سيما والفترة انتهت سيما ايضا وقد سبق له وهو بجربة ان أشار لاستيلاء العدوّ على مركب ... ـ د. التازي: التاريخ الدبلوماسي للمغرب ج l ، ص ٣٠٢ / ٣٠٣ ، ج ٧ ص ١٩٤ / ١٩٥.

(٩٢) تنس بفتحتين والسين المهملة ، أما النطق العامي بالجزائر ، فهو بتاء ساكنة تتبعها نون مفتوحة ثم سين ساكنة ، وهي من أقدم مدن المغرب الأوسط وتقع على ساحل البحر المتوسط على بعد ٢٠٤ ك. م. غربي العاصمة الجزائرية و ١٦١ ك. م شرقي مدينة مستنغانم. المذكورة. ـ وقد أسس المدينة عام ٢٧٢ ـ ٨٧٥ م. بعض البحارة من مسلمي الأندلس ... وقد تبعت لعدة دول عبر تاريخها ...

(٩٣) مازونة مدينة صغيرة على بعد ٥٦٠ م غربي مدينة الأصنام اشتهرت في العصور السابقة بنشاط ثقافي كبير ، وكانت مقرا لبايات الولاية الغربية في فترة العهد العثماني.

(٩٤) مستغانم ، مدينة قديمة تكرر ذكرها عند المؤرخين والرحالة القدامى من أمثال ابن بطوطة ، وهي واقعة على شاطىء البحر على بعد ٩٠ ك. م. شرقي وهران وتعتبر من أهم مدن القطر الجزائري ...

(٩٥) العبّاد : قرية تقع شرقي تلمسان على مقربة منها وغالبا ما تدعى سيدي بو مدين.

(٩٦) هو أبو مدين شعيب بن الحسين أبو الحسن ، ولد على مقربة من اشبيلية وتوفي بتلمسان سنة ٥٩٣ ـ ١١٩٦ ـ أخذ بفاس عن أمثال ابن حرزهم كما أخذ بالمشرق عن أمثال الشيخ عبد القادر الكيلاني. تخرج عليه جماعة من أمثال الشيخ عبد السلام بن مشيش ، تعرض للأسر من قبل الروم أثناء جهاده ، بنى ضريحه من قبل السلطان أبى الحسن المريني عام ١٣٣٩ ـ ٧٣٩ ، وكانت المقبرة تحتضن عددا من الرجال الموموقين وقد تحدث ج. مارسي عن المقبرة في كتابه عن الفن المعماري في الغرب الاسلامي ١٩٥٤. يراجع التعليق ٥٢ من هذا الفصل ...

(٩٧) ندرومة : مدينة واقعة في الشمال الغربي من تلمسان في أحد الطرق الواصلة بين هنين وتلمسان وتبعد عنها ب ٦٠ ك. م.

(٩٨) لم نصل إلى تحديد طريق اخندقان وزاوية سيدي ابراهيم رغم استعانتنا بخريطة ٢٠٠٠٠٠ / ١ ولكن هذه الخريطة أفادتنا من ناحية أخرى وجود موقعين يحملان اسم سيدي ابراهيم : الموقع الاول جنوب ـ غربي ندرومة ، والثاني ابعد منها غربيّها أقرب إلى الشمال غير بعيد عن الجزر الجعفرية المغربية.

١٩٠

١٩١

ثم سافرنا منها فبينما نحن بقرب أزغنغان (٩٩) خرج علينا خمسون راجلا وفارسان ، وكان معي الحاج بن قريعات الطنجي وأخوه محمد المستشهد بعد ذلك في البحر (١٠٠) ، فعزمنا على قتالهم ورفعنا علما ثمّ سالمونا وسالمناهم ، والحمد لله.

ووصلت إلى مدينة تازى (١٠١) وبها تعرفت خبر موت والدتي بالوباء رحمها الله تعالى.

ثم سافرت عن تازى فوصلت يوم الجمعة في أواخر شهر شعبان المكرم من عام خمسين وسبعمائة إلى حضرة فاس فمثلت بين يدي مولانا الاعظم الامام الاكرم أمير المومنين المتوكل على رب العالمين أبي عنان (١٠٢) وصل الله علوّه وكبت عدوه ، فأنستني هيبته هيبة سلطان العراق ، وحسنه حسن ملك الهند ، وحسن اخلاقه حسن خلق ملك اليمن ، وشجاعته شجاعة ملك التّرك ، وحلمه حلم ملك الروم ، وديانته ديانة ملك تركستان ، وعلمه علم ملك الجاوة.

وكان بين يديه وزيره الفاضل ذو المكارم الشهيرة والمآثر أبو زيان ابن ودرار (١٠٣) ، فسألني عن الديار المصرية ، إذ كان قد وصل اليها ، فأجبته عما سأل ، وغمرني من إحسان مولانا أيده الله تعالى ما أعجزني شكره ، والله وليّ مكافأته.

__________________

(٩٩) أزغنغان : ورد في (وصف افريقيا) لابن الوزّان ان آيت أزغنغان قبيلة بربرية استقرت قريبا من الشاطئ بين مليلية ونهر ملوية. يلاحظ أن ابن بطوطة لم يحرك كلمة أزغنغان على ما جرت به عادته ... تقع على بعد ١٥ ك. م. جنوب مليلية. ذ التازي : نصيب الأعلام الجغرافية المغربية في رحلة ابن بطوطة ، بحث ألقيته في ندوة تاريخ الرباط ، نونبر ١٩٩٥.

(١٠٠) لم أقف على تعريف لهذين الشخصين اللذين ينتميان إلى أسرة ابن قريعات ... ولم ندر عمّا يقصده بالاستشهاد في البحر.

(١٠١) تازة أو تازى مدينة شرقي فاس على بعد نحو من ١٢٨ ك. م يصلها بالبحر المتوسط طريق معبد يخترق جبال گزنّاية ... مدينة من تاسيس المغاربة في القديم ، كانت قاعدة مكناسة الشهيرة ... وقد اتخذ الفاتحون المسلمون منها حصنا يحمي ظهرهم وينطلقون منه لأداء مهمتهم. كانت ولايتها من نصيب الامام داود بن ادريس عند تقسيم المملكة بين بني ادريس. وكانت محل تنافس بين الدول المتعاقبة على الحكم بالمنطقة. وقد نالت أيام بني مرين عناية فائقة فبنيت بها دار للامارة ، وتعتبر تالثة مدينة في المغرب تستحق أن تكون عاصمة كما يقول ابن الوزان ولما ظهرت الدولة العلوية بالمغرب استقر بها السلطان مولاي الرشيد في أيامه الأولى وبها عقد اول اتفاقية له مع فرنسا ... وقد انتسب لهذه المدينة عدد من رجالات المغرب منهم القضاة والعلماء والأطباء والأدباء والسفراء ، والوزراء والأولياء ... التازي : رسائل مخزنية ١٩٧٩.

(١٠٢) يلاحظ أن ابن بطوطة بمجرد ما وصل لفاس (٦ نونبر ١٩٤٩) وهي تحتفل بشعبانة مثل بين يدي السلطات أبي عنان : (وصلت فمثلت) الذي كان آنذاك قد استقر بمدينة فاس ، بينما كان والده أبو الحسن ما يزال موجودا بتونس ...

(١٠٣) فارس بن ميمون ابن ودرار الحشمي ـ وليس ابن وردار ـ شخصية سياسية هامة على العهد المريني ، وقد تقدم التعريف به في المقدمة كشخصية يرجع لها الفضل في إنقاذ الرحلة من الضياع. ابن الأحمر : روضة النسرين المطبعية الملكية ١٩٩١ ص ٣٩.

١٩٢

أنا الثريا التي تازا بيّ افتخرت

على البلاد فما مثلى الزمان يرا

في عام أربعة تسعون تتبعها

من بعد ستّ من المئين قد سطرا

١٩٣

اسألوا التّاريخ عن أيامها

كم عظيم شاد من بنياتها

وغدا يرجو رضاها راكعا

يرتجي الحكمة من أعلامها!

من شعر د. التازي في جامعة القرويين بمناسبة عيدها المائة بعد الألف

١٩٤

وألقيت عصى التّسيار ببلاده الشريفة بعد أن تحققت بفضل الإنصاف أنها أحسن البلدان لان الفواكه بها متيسرة والمياه والاقوات غير متعذّرة ، وقل إقليم يجمع ذلك كله ، ولقد أحسن من قال :

الغرب أحسن أرض

ولي دليل عليه

البدر يرقب منه

والشمس تسعى إليه!

ودراهم الغرب صغيرة ، وفوائدها كثيرة ، وإذا تأملت أسعاره مع أسعار ديار مصر والشام ظهر لك الحقّ في ذلك ، ولاح فضل بلاد المغرب ، فأقول : إن لحوم الاغنام بديار مصر تباع بحساب ثمان عشرة أوقية بدرهم (١٠٤) نقرة ، والدرهم النقرة ستة دراهم من دراهم المغرب ، وبالمغرب يباع اللّحم إذا غلا سعره ثمان عشرة أوقية بدرهمين ، وهما ثلث النقرة ، وأما السّمن فلا يوجد بمصر في أكثر الأوقات والذي يستعمله أهل مصر من أنواع الإدام لا يلتفت إليه بالمغرب(١٠٥) ، ولأن أكثر ذلك العدس والحمص يطبخونه في قدور راسيات ، ويجعلون عليه السّيرج والبسلّا (١٠٦) ، وهو صنف من الجلبان يطبخونه ويجعلون عليه الزيت ، والقرع يطبخونه ويخلطونه باللبن ، والبقلة الحمقاء يطبخونها كذلك ، وأعين أغصان اللوز يطبخونها ويجعلون عليها اللّبن ، والقلقاس (١٠٧) يطبخونه ، وهذا كله متيسّر بالمغرب لكن أغنى الله عنه بكثرة اللحم والسمن والزبد والعسل وسوى ذلك ، وأما الخضر فهي أقلّ الأشياء ببلاد مصر ، وأما الفواكه فأكثرها مجلوبة من الشام ، وأما العنب فإذا كان رخيصا بيع عندهم بثلاثة أرطال من أرطالهم بدرهم نقرة ، ورطلهم اثنتا عشر أوقية.

وأما بلاد الشام فالفواكه بها كثيرة إلا أنها ببلاد المغرب أرخص منها ثمنا فإن العنب يباع بها بحساب رطل من أرطالهم بدرهم نقرة ورطلهم ثلاثة أرطال مغربية ، وإذا رخص ثمنه بيع بحساب رطلين بدرهم نقرة ، والإجاص يباع بحساب عشر أواقي بدرهم نقرة ، وأما الرمان والسفرجل فتباع الحبة منه بثمانية فلوس وهي درهم من دراهم المغرب وأما الخضر فيباع بالدرهم النقرة منها أقل مما يباع في بلادنا بالدرهم الصغير ، وأما اللحم فيباع فيها

__________________

(١٠٤) يعني أن الدراهم حسنة جيّدة قوية ـ ١٨ أوقية تعادل تقريبا نصف كيلو و ١٢٠ درهم ، دينار واحد ذهبي من ٦ ، ٤ كرام ، وكل هذه المعلومات تؤيدها افادات العمري في مسالك الأبصار ...Gibb ,Selex. P. ٥٧٣ Note ٨١.

(١٠٥) حديث طريف عن صحون مصر وقدورها الراسيات بما تحتوي عليه من عدس وحمص وجلبان وقرع وبقل وسيرج وزيت ... أخّر كل هذا عن محله لأجل المقارنة.

(١٠٦) البسلّا : الكلمة من أصل إيطالي (Piselli) ولعل الاشارة إلى الطعمية والمدمّس.

(١٠٧) القلقاس : تقدمت له كتابته بالصاد القلقاص IV ، ٨٤.

١٩٥

الرطل منه أرطالهم بدرهمين ونصف درهم نقرة. فإذا تأملت ذلك تبين لك أن بلاد المغرب أرخص البلاد أسعارا وأكثرها خيرات وأعظمها مرافق فوائد.

ولقد زاد الله بلاد المغرب شرفا إلى شرفها وفضلا إلى فضلها بإمامة مولانا أمير المومنين(١٠٨) الذي مد ظلال الأمن في أقطارها وأطلع شمس العدل في أرجائها وأفاض سحاب الإحسان في باديتها وحاضرتها وطهّرها من المفسدين وأقام بها رسوم الدنيا والدين وأنا أذكر ما عاينته وتحققته من عدله وحلمه وشجاعته واشتغاله بالعلم ، وتفقهه وصدقته الجارية ورفع المظالم.

ذكر بعض فضائل مولانا أيده الله

أما عدله فأشهر من أن يسطر في كتاب ، فمن ذلك جلوسه للمشتكين من رعيته وتخصيصه يوم الجمعة للمساكين منهم ، وتقسيمه ذلك اليوم بين الرجال والنساء ، وتقديمه النساء لضعفهن فتقرأ قصصهنّ بعد صلاة الجمعة إلى العصر ومن وصلت نوبتها نودي باسمها ووقفت بين يديه الكريمتين يكلمها دون واسطة ، فإن كانت متظلمة عجل إنصافها أو طالبة إحسان وقع إسعافها ، ثم إذا صليت العصر قرئت قصص الرجال وفعل مثل ذلك فيها.

ويحضر المجلس الفقهاء والقضاة فيرد اليهم ما تعلق بالاحكام الشرعية ، وهذا شيء لم أر في الملوك من يفعله على هذا التّمام ويظهر فيه مثل هذا العدل ، فان ملك الهند عيّن بعض أمرائه لأخذ القصص من الناس وتلخيصها ورفعها إليه دون حضور أربابها بين يديه! وأما حلمه فقد شاهدت منه العجائب فإنه أيده الله عفا عن الكثير ممن تعرض لقتال عساكره والمخالفة عليه ، وعن أهل الجرائم الكبار التي لا يعفو عن جرائمهم إلا من وثق بربه وعلم علم اليقين معنى قوله تعالى : والعافين عن الناس (١٠٩).

قال ابن جزي : من أعجب ما شاهدته من حلم مولانا أيده الله أني منذ قدومي على بابه الكريم في آخر عام ثلاثة وخمسين (١١٠) إلى هذا العهد وهو أوائل عام سبعة وخمسين

__________________

(١٠٨) يراجع I ، ٥ تعليق ٥.

(١٠٩) القرآن : السورة ٣ ، الآية ١٣٣ ـ ١٣٤.

(١١٠) آخر عام ٧٥٣ يوافق ٥ يبراير ١٣٥٣ ـ وهذه لقطة هامة في حياة ابن جزي سجّلها بنفسه ولم يعتمد فيها على أحد غيره ، إن ما تعرض له من إهانة من قبل ملكه في الأندلس كان اثناء عام ٧٥٣ حيث نجده يتمكن من الالتحاق بالمغرب أواخر العام بعد أن تعرف سلفا على ابن بطوطة لما زار هذا الاخير الديار الأندلسية ...

١٩٦

(١١١) ، لم أشاهد أحدا أمر بقتله إلا من قتله الشرع في حدّ من حدود الله تعالى : قصاص أو حرابة ، هذا على اتساع المملكة وانفساح البلاد واختلاف الطوائف (١١٢) ، ولم يسمع بمثل ذلك فيما تقدم من الأعصار ، ولا فيما تباعد من الأقطار.

وأما شجاعته فقد علم ما كان منه في المواطن الكريمة من الثبات والإقدام مثل يوم قتال بني عبد الوادي (١٠٣) وغيرهم ، لقد سمعت خبر ذلك اليوم ببلاد السودان وذكر ذلك عند سلطانهم ، فقال : هكذا وإلا فلا! قال ابن جزي ، لم يزل الملوك الأقدمون تتفاخر بقتل الآساد وهزائم الاعادي ، ومولانا أيده الله كان قتل الأسد عليه أهون من قتل الشاة على الاسد ، فإنه لما خرج الأسد على الجيش بوادي النّجارين من المعمورة (١٠٤) حوز سلا وتحامته الأبطال وفرت أمامه الفرسان والرجال برز إليه مولانا أيده الله غير محتفل به ولا متهيّب منه فطعنه بالرمح ما بين عينيه طعنة خرّ بها صريعا لليدين والفم (١٠٥) ، وأما هزائم الأعادي فإنما اتفقت للملوك بثبوت جيوشهم وإقدام فرسانهم فيكون حظ الملوك الثبوت والتحريض على القتال ، وأما مولانا أيده الله فإنه أقدم على عدوه منفردا بنفسه الكريمة بعد علمه بفرار الناس وتحققه أنه لم يبق معه من يقاتل فعند ذلك وقع الرّعب في قلوب الأعداء وانهزموا أمامه فكان من العجائب فرار الامم أمام واحد! وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء (١٠٦) ، والعاقبة للمتقين ، وما هو إلا ثمرة ما يمتنّ به ، أعلى الله مقامه ، من التوكل على الله والتفويض اليه.

__________________

(١١١) أول محرم ٧٥٧ كان يصادف ٥ يناير ١٣٥٦ وهو التاريخ الذي أوشكت الرحلة فيه على نهاية تحريرها ...

(١١٢) لم يكن استعمال كلمة «انفساح البلاد واختلاف الطوائف» عبثا من أبن بطوطة فإن المغرب امبراطورية فعلا وهو نتيجة لذلك ، يحتضن عددا من الأمم وتلتقى عنده شتى الحضارات ، وان القائد الذي يمكنه أن يحظى فعلا بوفاق الكل لهو فعلا قائد يستحق التنويه!!

(١٠٣) الاشارة دون شك إلى معركة انگاد (بسيط وجدة) التي جرت في آخر ربيع الثاني من عام ٧٥٣ ـ ١٥ يونيه ١٣٥٣ ، وقد فصّل ابن خلدون في عدد من المقاطع (ج ، ٧ ـ ٢٥٢ ـ ٥٩٨ ـ ٦٢٦) الحديث عن هذه المعركة التي كانت السبب في انقراض امر بني عبد الواد ثانية على حدّ تعبيره وقد جلس أبو عنان لاستقبال الوفود الواردة سواء من تونس أو الأندلس ... ونذكر أنه بهذه المناسبة جرى حديث ابن الخطيب مع أبي عنان حول واجب المصارحة التي ينبغي أن يتحلّى بها السفير. د. التازي : التاريخ الدبلوماسي للمغرب ج I ص ٢٣٥ ـ ٧ ص ١٤ ـ ١٥ ـ ابن الخطيب : ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب ، تحقيق محمد عبد الله عنان ج ٦١٢ I

(١٠٤) غابة المعمورة تقع شمال مدينة سلا. وعن وادي النّجارين يتساءل هل له صلة بوادي سلا أو وادي الرّمان كما يسميه المراكشي في المعجب راجع II ، ٤٣١.

(١٠٥) مثل عربي ، وقد ورد ضمن شعر : «فخرّ صريعا لليدين وللفم» مثل يضرب في الشماتة بالعدو الذي يتمنى أن يقع على فمه وعلى يديه!.

(١٠٦) القرآن : السورة ٥ ، الآية ٦٤ ـ ١٠٧ القرآن LY II الآيةLX II ـ ١٢ الآية ٤.

١٩٧

وأما اشتغاله بالعلم فها هو أيده الله تعالى يعقد مجالس العلم في كلّ يوم بعد صلاة الصبح ، ويحضر لذلك أعلام الفقهاء ونجباء الطلبة بمسجد قصره الكريم ، (١٠٧) فيقرأ بين يديه تفسير القرآن العظيم وحديث المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفروع مذهب مالك رضي‌الله‌عنه ، وكتب المتصوّفة وفي كل علم منها له القدح المعلى ، يجلو مشكلاته بنور فهمه ويلقي نكته الرائقة من حفظه ، وهذا شأن الائمة المهتدين والخلفاء الراشدين ، ولم أر من ملوك الدنيا من بلغت عنايته بالعلم إلى هذه النهاية ، فقد رأيت ملك الهند يتذاكر بين يديه بعد صلاة الصبح في العلوم المعقولات خاصة ، ورأيت ملك الجاوة يتذاكر بين يديه بعد صلاة الجمعة في الفروع على مذهب الشافعي خاصة ، وكنت أعجب من ملازمة ملك تركستان لصلاتي العشاء الآخرة والصبح في الجماعة ، حتّى رأيت ملازمة مولانا ـ أيده الله ـ في العلوم كلّها في الجماعة ، ولقيام رمضان والله يختص برحمته من يشاء ١٠٨).

قال ابن جزي : لو أن عالما ليس له شغل إلا بالعلم ليلا ونهارا لم يكن يصل إلى أدنى مراتب مولانا أيده الله في العلوم مع اشتغاله بأمور الأئمة وتدبيره لسياسة الأقاليم النائية ومباشرته من حال ملكه ما لم يباشره أحد من الملوك ونظره بنفسه في شكايات المظلومين ، ومع ذلك كله فلا تقع بمجلسه الكريم مسألة علم في أيّ علم كان ، إلا جلا مشكلها ، وباحث في دقائقها ، واستخرج غوامضها واستدرك على علماء مجلسه ما فاتهم من مغلقاتها ، ثم سما ـ أيده الله ـ إلى العلم الشريف التصوفي ففهم إشارات القوم وتخلق بأخلاقهم ، وظهرت آثار ذلك في تواضعه مع رفعته ، وشفقته على رعيته ورفقه في أمره كله ، وأعطى للآداب حظا جزيلا من نفسه فاستعمل أبدعها منزعا وأعظمها موقعا ، وصارت عنه الرسالة الكريمة والقصيدة اللتان بعثهما إلى الروضة الشريفة المقدسة الطاهرة : روضة سيد المرسلين وشفيع المذنبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتبهما بخط يده الذي يخجل الرّوض حسنا ، وذلك شيء لم يتعاط أحد من ملوك الزمان إنشاءه ولا رام إدراكه (١٠٩).

__________________

(١٠٧) القصد بمسجد القصر إلى المسجد الكبير الذي بناه يعقوب المريني عام ٦٧٧ ـ ٢٧٩ بفاس الجديدة والذي ظل إلى الآن يتوفر على الكراسي العلمية المشار إليها : التفسير الحديث ـ الفقه ، التصوف ، التازي : جامع القرويين ـ طبعة بيروت ١٩٧٢ ج.II ٣٩٩ وج.III ـ ٦٤٨ ـ ٦٩٧

(١٠٨) القرآن : السورة ٢ ، الآية ١٠٥ والسورة ٣ ، الآية ٧٤.

(١٠٩) كان ابن جزي يحكي عن حقائق شاهدها فقد بعث السلطان أبو عنان سنة ٧٥٦ ـ ١٣٥٥ أي قبيل الفراغ من كتابة الرحلة سنة واحدة بعث بهذه الرسالة والقصيدة اللتين كانتا من إنشاء سفيره أبي القاسم محمد بن يحيى الغساني البرجي الغرناطي ... وأعتقد أن أبا عنان استعرض في الرسالة أحوال البلاد وتحدث عن جهاده معتذرا بذلك عن عدم الوصول إلى تلك البقاع على نحو ما وقفنا عليه في رسائل مماثلة ـ ابن الخطيب : ريحانة الكتاب وقد جرت العادة كما قال ابن مليح في رحلته بقراءتها داخل الروضة ... ابن الخطيب : ريحانة الكتاب ـ الاحاطة د. التازي التاريخ الدبلوماسي للمغرب ٧ ، ٢١٩.

١٩٨

ومن تأمل التّوقيعات الصادرة عنه (١١٠) أيده الله تعالى وأحاط علما بمحصولها ، لاح له فضل ما وهب الله لمولانا من البلاغة التي فطره عليها ، وجمع له بين الطبيعي والمكتسب منها.

وأما صدقاته الجارية وما أمر به من عمارة الزوايا بجميع بلاده لإطعام الطعام للوارد والصادر فذلك ما لم يفعله احد من الملوك غير السلطان أتابك أحمد (١١١) ، وقد زاد عليه مولانا أيده الله بالتصدق على المساكين بالطعام كل يوم والتصدق بالزرع على المتستّرين من أهل البيوت!

قال ابن جزي : اخترع مولانا أيده اله في الكرم والصدقات أمورا لم تخطر في الأوهام ولا اهتدت اليها السلاطين ، فمنها إجراء الصدقة على المساكين بكل بلد من بلاده على الدّوام ، ومنها تعيين الصدقة الوافرة للمسجونين في جميع البلاد أيضا ، ومنها كون تلك الصدقات خبزا مخبوزا متيسرا للانتفاع به ، ومنها كسوة المساكين والضعفاء والعجائز والمشايخ والملازمين للمساجد بجميع بلاده ، ومنها تعيين الضحايا لهؤلاء الأصناف في عيد الأضحى ، ومنها التصدق بما يجتمع في مجابي أبواب بلاده يوم سبعة وعشرين من رمضان إكراما لذلك اليوم ، وقياما بحقه ، ومنها إطعام الناس في جميع البلاد ليلة المولد الكريم (١١٢) واجتماعهم لاقامة رسمه ، ومنها إعذار اليتامى من الصبيان وكسوتهم يوم عاشوراء (١١٣) ، ومنها صدقته على الزّمنى والضعفاء بأزواج الحرث (١١٤) : يقيمون بها

__________________

(١١٠) حول التوقيعات والعلامات يراجع المجلد الأول من التاريخ الدبلوماسي للمغرب ص ٣٠٢.

(١١١) حول أتابك أحمد الذي كان سلطان بلاد اللور والذي عمّر أربعمائة وستين زاوية والذي نحت الطرق في الجبال والصخور وسوّاها انظر ج II ، ٣١ ـ ٣٢.

(١١٢) نذكّر بأن المملكة المغربية اتخذت من هذه المناسبة : مناسبة للاحتفال بعيد المولد منذ عهد بني مرين ، وقد أصبح هذا العيد ضمن الأعياد الرسمية للمغرب ، وإلى يوسف بن يعقوب بن عبد الحق يرجع تاريخ الظهير الذي صدر إلى سائر عمال المغرب باقرار الاحتفال بعيد مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أواخر القرن السابع الهجري. د. التازي : لماذا عبد المولد في الغرب الإسلامي ، يراجع التعليق ٧٧.

د. التازي : الإلمام بمن وافق حكمه للمغرب استهلال المائة عام. دعوة الحق العدد ٢٢٣ شوال ١٤٠٢ ـ يوليه ١٩٨٢ ، راجع التعليق ٧٧.

(١١٣) يلاحظ أن عاشوراء تكتسي في المغرب صبغة ادخال السرور على الأهلين ، وكأنّ ذلك يرمز إلى تنسيتهم النكبة التي حلت بحفدة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كربلاء ، وقد اعتاد الشيعة في المشرق أن يقوموا في هذه المناسبة بتظاهرات من شكل آخر تهدف إلى تحسيس الناس بتلك المناسبة الحزينة ، ولكن الوسيلة تختلف ، ففي المغرب يفرحون الأطفال لتنسيتهم ، وفي المشرق «يحرمونهم» من الوسائل الترفيهية لتذكيرهم أيضا!!

(١١٤) كل الذين تحدثوا عن أزواج الحرث عربا وعجما أخطأوا في معرفة القصد من هذا التعبير المغربي الأصيل ، فتعبير (حرث زوجين) يعني مساحة من الأرض على نحو الفدّان ، وبعضهم قدرها بنحو ١٥ هكتار ، والزوجان هنا ليس الذكر والأنثى كما فهم بعض التراجمة!! ولكن القصد بها الثوران أو البغلان اللذان يجران المحراث ... فكان العاهل يعطي قطعا أرضية : مقدار حرث زوجين لكل فرد مع اعفاء الأرض الممنوحة من اللوازم الجبائية وقد يكون العطاء أزواجا كثيرة وقد ورد هذا الاستعمال عند ابن مرزوق في المسند الصحيح الحسن ، وأورد دوزي نموذجا : «وهو يقف على أزواج له تحرث بفحص البلوط في ضيعته» أمر أن يجعل صاحب الخراج على كل زوج يحرث ثمانية دنانير أصاب أم لم يصب ـ وكان قد جعل على كل زوج يحرث ثمانية دنانير وخفف عن الناس وأسقط عنهم ما وضع على الأزواج ... وهكذا فترجمة التعبير ترجمة صحيحة : Paires de boeufs Pour labourer la erre

١٩٩

أودهم ، ومنها صدقته على المساكين بحضرته بالطّنافس الوثيرة والقطائف الجياد يفترشونها عند رقادهم ، وتلك مكرمة لا يعلم لها نظير ، ومنها بناء المارستانات في كل بلد من بلاده ، وتعيين الأوقاف الكثيرة لمؤن المرضى وتعيين الأطباء لمعالجتهم والتصرف في طبّهم (١١٥) ، إلى غير ذلك مما أبدع فيه من أنواع المكارم وضروب المآثر كافى الله أياديه وشكر نعمه.

وأما رفعه للمظالم عن الرعية فمنها الرتب التي كانت توخذ بالطرقات ، أمر أيده الله بمحو رسمها وكان لها مجبى عظيم فلم يلتفت إليه ، وما عند الله خير وأبقى (١١٦) ، وأما كفه أيدي الظلام فأمر مشهور ، وقد سمعته أيده الله ـ يقول لعماله : لا تظلموا الرعية! ويؤكد عليهم في ذلك الوصية.

قال ابن جزي : ولو لم يكن من رفق مولانا أيده الله برعيته إلا رفعه التّضييف الذي كانت عمّال الزكاة وولاة البلاد تأخذه من الرّعايا ، لكفى ذلك أثرا في العدل ظاهرا ، ونورا في الرفق باهرا ، فكيف وقد رفع من المظالم وبسط من المرافق ما لا يحيط به الحصر.

وقد صدر في أيام تصنيف هذا من أمره الكريم في الرفق بالمسجونين ورفع الوظائف الثّقيلة التي كانت توخذ منهم ما هو اللائق بإحسانهم والمعهود من رأفته ، وشمل الأمر بذلك جميع الاقطار ، وكذلك صدر من التنكيل بمن ثبت جوره من القضاة والحكام ما فيه زاجر الظّلمة وردع المعتدين!

وأما فعله في معاونة أهل الاندلس على الجهاد ومحافظته على إمداد الثغور بالاموال والاقوات والسلاح وفتّه في عضد العدو بإعداد العدد وإظهار القوة فذلك أمر شهير لم يغب علمه عن أهل المغرب والمشرق ولا سبق إليه أحد من الملوك (١١٧).

__________________

(١١٥) لعل من هذه المارستانات المنتشرة في المغرب ، ما ذكره ابن الخطيب في كتابه (نفاضة الجراب ...) أنه حين دخل مدينة أسفي عام ٧٦١ ـ ١٣٦٠ وجد بها المارستان الذي كان ناظره الشيخ أبو الضياء الجزيري أما مارستان فاس الذي كان بسوق الحنّاء بجوار العطارين وكان يحمل اسم سيدي فرج (هدم مع الاسف) فقد كان ناظره أبا فارس عبد العزيز القروي المتوفى ٧٥٠ ـ ١٣٥٠ وقد ذكره الشيخ بناني في حواشي الزرقاني عند قول الشيخ خليل في فصل غسل الميّت عند قوله (أو نسي معه مال) .. وقد تحدث ابن الوزان عن عدة مارستانات بفاس كانت في غابة الرونق والاتقان ... عن مخطوطة حول الملاجئ الخيرية الاسلامية في الدولة الموحدية والمرينية للشيخ عبد الحي الكتاني انظر د. التازي المنشآت الصحية بالمغرب ، مجلة مجمع اللغة العربية بعمان دجنبر ١٩٨١.

(١١٦) القرآن الكريم ـ سورة ٢٨ الآية ٦٠ وكذا سورة الشورى ٤٢ الآية ٣٦.

(١١٧) حول المساعدة اللامشروطة التي كان يقدمها السلطان أبو عنان لأخيه أبي الحجاج ملك غرناطة يكفي أن نرجع لهذه الملفات الثقيلة من المراسلات المتبادلة التي كانت تجمع على أن مكاسب السلطان أبى عنان بالمغرب الكبير هي مكسب للقضية الأندلسية برمتها وكان الشاهد في كل هذا لسان الدين ابن الخطيب ... وسنقف في هذا الصدد على المشاورات التي كانت قائمة ودائمة بين غرناطة وفاس من أجل توحيد الموقف ازاء قشتالة ، ومن الطريف أن نقرأ في لائحة الهدايا المتبادلة اسرابا من الخيول المغربية الذاهبة إلى الأندلس وأسرابا كذلك من انواع الصقور المهداة لأبي عنان الذي كان من أكبر هواة القنص بالصقر ابن الخطيب : ريحانة الكتاب مصدر سالف الذكر ـ د. التاريخ الدبلوماسي للمغرب ج ٧ ، ٩٠ ـ ٩٦ ...

٢٠٠