رحلة ابن بطوطة - ج ٤

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ٤

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-010-9
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٣٥١

والعساكر والرعايا وأجرى الرزق الواسع على أولاده وأهله وإخوانه وعظّموا لأجل فعله! وأخبرني من كان حاضرا في ذلك المجلس أن الكلام الذي تكلم به كان تقريرا لمحبته في السلطان ، وأنه يقتل نفسه في حبّه كما قتل أبوه نفسه في حب أبيه ، وجدّه نفسه في حب جده!

ثم انصرفت عن المجلس وبعث إلي بضيافة ثلاثة أيام. وسافرنا في البحر فوصلنا بعد أربعة وثلاثين يوما إلى البحر الكاهل (٢٢) وهو الراكد ، وفيه حمرة زعموا أنها من تربة أرض تجاوره ، ولا ريح فيه ولا موج ولا حركة مع اتساعه ، ولأجل هذا البحر تتبع كلّ جنك من جنوك الصين ثلاثة مراكب كما ذكرناه ، تجذف به فتجرّه ، ويكون في الجنك مع ذلك نحو عشرين مجدافا كبارا كالصّواري يجتمع على المجداف منها ثلاثون رجلا أو نحوها ، ويقومون قياما صفين كل صفّ يقابل (٢٣) الآخر ، وفي المجداف حبلان عظيمان كالطوانيس (٢٤) فتجدف إحدى الطائفتين الحبل ثم تتركه وتجذف الطائفة الأخرى ، وهم يغنون عند ذلك بأصواتهم الحسان ، وأكثر ما يقولون : لعلى لعلى.

وأقمنا على ظهر هذا البحر سبعة وثلاثين يوما ، وعجبت البحريّة من التسهيل فيه ، فإنهم يقيمون فيه خمسين يوما إلى أربعين وهي أنهى ما يكون من التّيسير عليهم.

ثم وصلنا إلى بلاد طوالسي ، وهي بفتح الطاء المهمل والواو وكسر السين المهمل ، وملكها هو المسمى بطوالسي (٢٥) ، وهي بلاد عريضة ، وملكها يضاهي ملك الصين وله

__________________

(٢٢) نعت ابن بطوطة هذا البحر بالكاهل وهو نعت فارسي يعني الراكد كما قال والقصد على ما أرى إلى المحيط الهادي كما نعته الجغرافيون فيما بعد ... وقد تحدث الادريسي في هذه المنطقة عن البحر الزفتي لان ماءه كدر ...

(٢٣) يراجع IV ، ٩١ ـ ٩٢ ...

(٢٤) (الطوانيس) بالنون عوض الباء التي يستشكلها دوزى ، والطوانيس تعني الدّبابيس.

(٢٥) تحديد بلاد طوالسى (Thaoalicy) كانت وما تزال محلّ نقاش متواصل بين المهتمين بالرحلة ، وينبغي في رأي نيكولاس زافرا (N.Zafra) رئيس قسم التاريخ بجامعة الفيليبين أن تكون طواليسي بمملكة شامبّا (Champa) بالهند الصينية ، ومما يذكر في هذا الصدد أن كلمة طاوال (Taval) تعني لقبا يعطي للأمراء والنبلاء في شامبّا ، وفي الباحثين كهنري يول (H.Yule) من يرى أنها سولو (Sulu) جنوب غربي الفيليبين ، ومنهم كالاستاذ جوزي ريزال (Jose Rizal) من يرى كذلك أنها توجد في لوزون (Luzon) بالفيليبين وفي الباحثين من قال : ان (طواليسي) كانت توجد باليابان! وأذكر بهذه المناسبة ، أن الوزير الأول المغربي السيد أحمد عصمان «فوجىء» وهو يزور اليابان عام ١٩٧٦ عندما سمع الوزير الياباني السيد طاكيوميكي T.Miki يرحب به قائلا : يسعد اليابان ان تستقبل في شخصكم المغربي الثاني بعد الزيارة التاريخية التي قام بها مسيو ابن بطوطة لبلادنا.!! وأرجو بهذه المناسبة أن أشكر الزميل الفيليبيني الأخ قيصر أديب ما جول (CESAR ADIB MAJUL) من جامعة الفيليبين على مراسلته منذ تاريخ ٢ نونبر ١٩٧٦ التي لخصت لي بعض ما يمكن أن يقال في هذا الصدد ، ـ د. التازي : تاريخ دخول الاسلام للفيليبين ، محاضرة ألقيتها في مانيلا يوم الاربعاءII يونيه ١٩٨٠. وكنت أرافق في هذه الرحلة المستشار أحمد ابن سودة ...

١٢١

الجنوك الكثيرة يقاتل بها أهل الصين حتى يصالحوه على شيء. وأهل هذه البلاد عبدة أوثان، حسان الصورة ، أشبه الناس بالترك في صورهم ، والغالب على ألوانهم الحمرة ، ولهم شجاعة ونجدة ، ونساؤهم يركبن الخيل ويحسّن الرماية ويقاتلن كالرجال سواء ، وأرسينا من مراسيهم بمدينة كيلوكري ، وضبطها بكاف مفتوح وياء آخر الحروف مسكنة ولام مضموم وكاف مفتوح وراء مكسور ، وهي من أحسن مدنهم وأكبرها (٢٦) وكان يسكن بها ابن ملكهم (٢٧) ، فلما أرسينا بالمرسي جاءت عساكرهم ونزل الناخوذة إليهم ، ومعه هدية لابن الملك ، فسألهم عنه ، فأخبروه أن أباه ولّاه بلدا غيره ، وولى بنته بتلك المدينة واسمها أردجا (٢٨) بضم الهمزة وسكون الراء وضم الدال المهمل وجيم.

ذكر هذه الملكة

ولما كان اليوم الثاني من حلولنا بمرسى كيلوكري استدعت هذه الملكة الناخودة صاحب المركب ، والكراني (٢٩) وهو الكاتب ، والتجار والرؤساء ، والتّنديل وهو مقدم الرجال (٣٠) ، وسپاه سالار وهو مقدم الرماة ، لضيافة صنعتها لهم على عادتها ورغب الناخودة مني أن أخضر معه ، فأبيت لأنهم كفار لا يجوز أكل طعامهم فلما حضروا عندها ، قالت لهم : هل يقى أحد منكم لم يحضر؟ فقال لها الناخودة : لم يبق إلا رجل واحد بخشى،

__________________

(٢٦) تتبع كلام ابن بطوطة عن التنافس المستمر بين ملك طوالسى وبين ملك الصّين الذي يوحي ربّما بأنّ بلاد طواليسى تعنى بلاد اليابان الحالية ، وحديثه عن احدى مراسي طوالسى كذلك يعبّر عن وجود طائفة من المراسي يكوّن مرسى كيلوكرى (Kaylukari) إحداها ... وعلى نحو ما قلناه في التعليق السابق وجدنا أن عددا من البلاد ترشح لكي تدخل في اطار طوالسى وهكذا فعلاوة على ما ذكر قبل ، هناك سيليبس (Celebes) وطونكان والكامبودج الخ ومن حق الباحثين أن يزيدوا الموضوع دراسة وتنقيبا وان يدخلوا في الاعتبار عدد الايام والليالي التي تذكر كأمد لقطع المسافات ...

Gibb : Selections P. ٦٦٣ Beckingham ٥٨٣.

(٢٧) اختلفت الآراء كذلك حول موقع كيلوكري في الجنوب الشرقي لآسيا ، ويجعلها الاستاذ ياما موطوYamamots وكأنها نقل عربي لكلمةKlaung Garai التي لها علاقة بما شيّده ملك شامبّا مما يحمل هذا الاسم.

C. F. Beckingham : The Travels : IV P. ٥٨٨ N ٠ ٧٢.

(٢٨) تعليقا على الاميرة أوردجا يسلك المعلقون طرائق قددا ، سيما وقد ورد في أوصافها ولغة حديثها ما سنقف عليه سيما أيضا وقد مرّ هذا الاسم بنا عند ما كان ابن بطوطة يتحدث عن الملكة رقم ٤ من زوجات السلطان أوزبك خان ... ويرى بعض المعلقين أن الكلمة آتية من لقب أهل بروناي :(Urdana Raja). ونحن نعرف عن الوجود النّسوي المتميز في تلك المناطق التي لا تخلو من سلطانة أو حاكمة أو فارسة إلى الآن على ما رأيته رؤياعين وأنا ألقي محاضرتي على جمع كبر من فضليات السيدات في مانيلا يوم الأربعاء ١١ يونيه ١٩٨٠ كما قلت في التعليق Times Journal ٢١ ـ ٦ ـ ٠٨٩١.

(٢٩) الكراني ، تقدم هذا التعبير (II ، ١٩٨) وهو يؤدي إلى الآن في البنغال معنى كاتب المصالح العمومية.

(٣٠) التّنديل : ربما كان القصد إلى عريف الملاحين والنوتية لأن كلمة تنديل (Tindal) تستعمل في الهند بهذا المعنى والرّجال ج. راجل : المشاة ، عبارة سبه سلار كلمة فارسية تعني قائد الجيش.

١٢٢

وهو الفقيه بلسانهم (٣١) ، وبخشى بفتح الباء الموحدة وسكون الخاء وكسر الشين المعجمين ، وهو لا ياكل طعامكم ، فقالت : ادعوه! فجاء جنادرتها وأصحاب الناخوذة ، فقالوا : أجب الملكة! فأتيتها وهي بمجلسها الاعظم وبين يديها نسوة بأيديهن الأزمّة يعرض ذلك عليها ، وحولها النساء القواعد وهن وزيراتها وقد جلس تحت السرير على كراسي الصندل وبين يديها الرجال ومجلسها مفرش بالحرير وعليه ستور حرير وخشبه من الصندل ، وعليه صفائح الذهب وبالمجلس مساطب خشب منقوش عليها أواني ذهب كثيرة من كبار وصغار كالخوابي والقلال والبواقيل أخبرني الناخوذة أنها مملوؤة بشراب مصنوع من السكر مخلوط بالأفاويه يشربونه بعد الطعام ، وأنه عطر الرائحة حلو المطعم يفرج ويطيب النكهة ويهضم ويعين على الباءة.

فلما سلمت على الملكة قالت لي بالتركية : حسن مسن يخشي مسنّ معناه : كيف حالك كيف أنّك؟ وأجلستني على قرب منها ، وكانت تحسن الكتاب العربي ، فقالت لبعض خدامها : دواه وبتك كاتور ، معناه : الدواة والكاغد ، فأتي بذلك فكتبت : بسم الله الرحيم الرحين ، فقالت : ما هذا؟ فقلت لها تنضري نام ، وتنضري بفتح التاء المعلوة وسكون النون وفتح الضاد وراء وياء ، ونام بنون وألف وميم ومعنى ذلك : اسم الله ، فقالت خشن (٣٢) ومعناه جيّد. ثم سألتني من أي البلاد قدمت؟ فقلت لها : من بلاد الهند ، فقالت: بلاد الفلفل؟ فقلت : نعم! فسألتني عن تلك البلاد وأخبارها ، فأجبتها ، فقالت: لا بد أن أغزوها وأخذها لنفسي ، فاني يعجبني كثرة مالها وعساكرها! فقلت لها : افعلي! وأمرت لي بأثواب وحمل فيلين من الأرز وبجاموستين وعشر من الضأن وأربعة أرطال جلّاب وأربعة مرطبانات(٣٣) ، وهي أوان ضخمة مملوءة بالزنجبيل والفلفل والليمون والعنبا ، كل ذلك مملوح مما يستعد للبحر.

__________________

(٣١) بخشي (Bakshi) : إذا انطلقنا من الاصل السنسكري فإن الكلمة كانت هي الاسم الذي يعطي من لدن الترك والمغول للرهبان البوذيين ... توجد في المخطوطة المصححة عندنا كلمة الفقيه واضحة عوض القاضي في النسخة المترجمة ـ الأزمة ج زمام ، السجل ـ العبارة التي قالتها الأميرة أوردجا سبق وأن قيلت له من لدن السلطان طرمشرين III ، ٣٣.

(٣٢) كلمة تنضري محرفة غالبا من كلمة تنري (TANRI) وكلمة خشن تحريف لكلمة حوش (HOS).

(٣٣) مرطبن : أواني خزفية تصنع في بيرمانيا ، وقد ورد في كتابات باربوزا (barbosa) التعريف بهذه «المرطبانات» التي يقول عنها إنها جرار من الخزف المتين والجميل ، وان المسلمين يفضلونها ، وهم يصدرونها من هذا المكان في مقابلة بخور جاوة ...

١٢٣

وأخبرني الناخودة أن هذه الملكة لها في عسكرها نسوة وخدم وجوار يقاتلن كالرّجال وأنها تخرج في العساكر من رجال ونساء فتغير على عدوها وتشاهد القتال وتبارز الأبطال ، وأخبرني أنها وقع بينها وبين بعض أعدائها قتال شديد وقتل كثير من عسكرها وكادوا يهزمون ، فدفعت بنفسها وخرقت الجيوش حتى وصلت إلى الملك الذي كانت تقاتله فطعنته طعنة كان فيها حتفه فمات وانهزمت عساكره ، وجاءت برأسه على رمح فافتكّه أهله منها بمال كثير ، فلما عادت إلى أبيها ، ملّكها تلك المدينة التي كانت بيد أخيها. وأخبرني أن أبناء الملوك يخطبونها فتقول : لا أتزوج إلا من يبارزني فيغلبني فيتحامون مبارزتها خوف المعرة إن غلبتهم!

ثم سافرنا عن بلاد طوالسي

فوصلنا بعد سبعة عشر يوما ، والريح مساعدة لنا ، ونحن نسير بها أشد السير وأحسنه إلى بلاد الصين ، واقليم الصين متّسع كثير الخيرات والفواكه والزرع والذهب والفضة لا يضاهيه في ذلك إقليم من أقاليم الأرض ويخترقه النهر المعروف بآب حياة (٣٤) ، معنى ذلك ماء الحياة ، ويسمى أيضا نهر السّبر ، كاسم النهر الذي بالهند ، ومنبعه من جبال بقرب مدينة خان بالق تسمى كوه بوزنه معناه جبل القرود ، ويمرّ في وسط الصين مسيرة ستة أشهر إلى أن ينتهي إلى صين الصين وتكتنفه القرى والمزارع والبساتين والأسواق كنيل مصر إلا أن هذا أكثر عمارة ، وعليه النواعير الكثيرة.

__________________

(٣٤) يلاحظ أن ابن بطوطة في هذه الأخريات من رحلته لم يبق على النسق الذي عهدناه منه في معظم تنقلاته السابقة من ذكر للتواريخ وتدقيق للموقع الجغرافي ، لا ندري هل لما أخذ يحسه من رغبة في العودة إلى وكره أم لأن ذاكرة الرحالة خانته بعد تلك السنوات الطوال في زيادة هذه البلاد التي لم يعرف لسان قومه ا ولم يكن يشعر فيها بما كان يشعر به وهو في البلاد الأخرى مما يعبر عنه قوله «إن خاطره كان شديد التغيّر ... فكان يلازم بيته ولا يخرج إلا لضرورة» (IV ، ٢٨٢) أم وهذا مهم إن الأمر يتعلق بابن جزي الذي كان على ما عرفنا ـ على حال من الاستعجال يفسّره لنا أنه لم يتجاوز ثلاثة شهور في جمع الرحلة التي استمرت زهاء ثلاثين سنة! مهما يكن فقد دفع ذلك «الصنيع» من ابن بطوطة بعض المعلقين إلى القول بانه لم يضع قدمه على أرض الصّين بل ان ما حكاه عنها ربما كان يعتمد فيه على حكايات بعض التجار!! لقد لاحظوا عليه منذ البداية حديثه عن النهر الذي قال إنه يخترق اقليم الصين وقال إنه يحمل اسم آب حياة أو السرو على نحو اسم النهر الذي في الهند (II ، ٦ ـ III ٣٥٥ ، ٤٣٧) يضاف إلى هذا آن هم لا يعرفون جبلا قرب بيكين يحمل اسم جبل القرود إلى آخر ما قيل ... ومع كلّ ذاك فاننا لم نعدم وجود باحثين امثال هاميلتون گيب ممن اتسعت آفاقهم للدفاع عن ابن بطوطة! ... وكلّ الذين تحدثوا من أهل الصين عن ابن بطوطة لم يخامرهم الشك في إنه زار بلادهم ... ولعل من الطريف أن نسمع أن الرئيس شوان لاي عندما قام بزيارة المغرب أواخر ١٩٦٣ اعراب عن الرغبة في زيارة ابن بطوطة باعتباره من أبرز الشخصيات التي يرجع لها الفضل في تقديم الصين لعالم الإسلام والعروبة.

١٢٤

وببلاد الصين السكر الكثير مما يضاهي المصريّ بل يفضله! والأعناب والإجاص وكنت أظن أن الاجاص العثماني الذي بدمشق لا نظير له حتى رأيت الإجاص الذي بالصين ، وبها البطيخ العجيب ، يشبه بطّيخ خوارزم وأصفهان ، وكل ما ببلادنا من الفواكه فإن بها ما هو مثله وأحسن منه ، والقمح بها كثير جدا ولم أر قمحا أطيب منه وكذلك العدس والحمص.

ذكر الفخار الصيني

وأما الفخار الصّيني فلا يصنع منها إلا بمدينة الزيتون (٣٥) وبصين كلان (٣٦) ، وهو من تراب جبال هناك تقد فيه النار كالفحم ، وسنذكر ذلك ، ويضيفون إليه حجارة عندهم ويوقدون النار عليها ثلاثة أيام ، ثم يصبون عليها الماء فيعود الجميع ترابا ، ثم يخمرونه فالجيّد منه ما خمّر شهرا كاملا ولا يزاد على ذلك ، والدّون ما خمر عشرة أيام وهو هنالك بقيمة الفخار ببلادنا أو أرخص ثمنا ، ويحمل الى الهند وسائر الاقاليم حتى يصل إلى بلادنا بالمغرب وهو أبدع أنواع الفخار!

ذكر دجاج الصين

ودجاج الصين وديوكها ضخمة جدا أضخم من الإوز عندنا (٣٧) وبيض الدجاج عندهم أضخم من بيض الإوز عندنا ، وأما الإوز عندهم فلا ضخامة لها ، ولقد اشترينا دجاجة فأردنا طبخها فلم يسع لحمها في برمة واحدة فجعلناه في برمتين.

ويكون الدّيك بها على قدر النّعامة وربّما انتتف ريشه فيبقى بضعة حمراء ، وأول ما رأيت الديك الصيني بمدينة كولم ، فظننته نعامة وعجبت منه ، فقال لي صاحبه : إن ببلاد الصين ما هو أعظم منه ، فلما وصلت إلى الصين رأيت مصداق ما أخبرني به من ذلك.

__________________

(٣٥) الزيتون كان هذا الموقع في صدر الأعلام الجغرافية التي استنجدت فيها بزملائي أعضاء الوفد الصيني في المؤتمر العالمي لتنميط الأعلام الجغرافية (نيويورك) وقد بعث إلى البروفيسور دوكسيانگمينك Du Xiangming مدير معهد البحث الطوبّوغرافي في بيكين بالمعلومات التالية : الزيتون : التي عرفت عند بعض المعلقين تحت اسم تسوتونك (Tseu ـ Thoung) هي التي تحمل اليوم اسم : قانزهوQuanz ـ hou ، وقد ترجم الاسم الذي استعمله المعلقون المشار اليهم في كلمة صينية يمكن تهجيتها هكذاCitong الذي هو الاسم المنتحل لقانز هو ... انظر ملحق المراسلات

(٣٦) كلمة صين كلان ـ وهي بالذات صين الصين : كان جواب الأستاذ المذكور عنها بما يلي : صين كلان مرادف لكلمةGuangzhou وهي كانطون Canton ... هذا واذكر أن سليمان التاجر يسمى هذا العلم الجغرافي باسم (خانفو) الذي كان يترجم إلى كانطون. اخبار الصين والهند جمعت سنة ٢٣٧ باريز ١٩٤٨.

(٣٧) معلومات يعززها ما سجله أودوريك أوف بوردينون (Odoric of Prodenone) معاصر ابن بطوطةBeckingham IV P.٩٨٨ ـ Not ٥.

١٢٥

١٢٦

ذكر بعض من أحوال أهل الصين.

وأهل الصين كفار يعبدون الاصنام ويحرقون موتاهم كما تفعل الهنود (٣٨) ، وملك الصين تتري من ذرية تنكيزخان (٣٩) ، وفي كلّ مدينة من مدن الصين مدينة للمسلمين ينفردون بسكناهم ، ولهم فيها المساجد لإقامة الجمعات وسواها ، وهم معظّمون محترمون ، وكفار الصين يأكلون لحوم الخنازير والكلاب ويبيعونها في أسواقهم ، وهم أهل رفاهية وسعة عيش إلا أنهم لا يحتفلون في مطعم ولا ملبس ، وترى التاجر الكبير منهم الذي لا تحصى أمواله كثرة وعليه جبة قطن خشنة.

وجميع (٤٠) أهل الصّين إنما يحتفلون في أواني الذهب والفضة ، ولكل واحد منهم عكاز يعتمد عليه في المشي ، ويقولون : هو الرّجل الثالثة!!

والحرير عندهم كثير جدا لان الدود تتعلق بالثمار وتأكل منها فلا تحتاج إلى كثير مؤنة ولذلك كثر وهو لباس الفقراء والمساكين بها ، ولو لا التّجار لما كانت له قيمة ، ويباع الثوب الواحد من القطن عندهم بالاثواب الكثيرة من الحرير.

وعادتهم أن يسبك التاجر ما يكون عنده من الذهب والفضة قطعا تكون القطعة منها من قنطار فما فوقه وما دونه ، ويجعل ذلك على باب داره ، ومن كان له خمس قطع منها جعل في أصبعه خاتما ، ومن كانت له عشر جعل خاتمين ، ومن كان له خمس عشرة سمّوه : السّتي ، بفتح السين المهمل وكسر التاء المعلوة ، وهو بمعنى الكارمي بمصر (٤١) ، ويسمون

__________________

(٣٨) في الفصلة التي تحمل عنوان (أخبار الصّين والهند التي أشرت إليها في التعليق ٣٦) والتي ترجمها وعلق عليها جان سوفاجي باريز ١٩٤٨ ، حديث عن أن أهل الصين يدفنون في اليوم الذي ماتوا في مثله من قابل إلى آخر ما ذكروه ولم يتحدث عن عادة الإحراق التي تحدث عنها ماركوبولو في منطقة هانكز هو : الخنساء عند ابن بطوطة ...

(٣٩) كان الامبراطور الذي يحكم الصين على ذك العهد يحمل اسم طوغون تيمورToghon Temur الذي تملك من عام ٧٣٣ ـ ١٣٣٣ ـ ٧٧١ ـ ١٣٧٠ ، وهو الامبراطور الأخير من الدولة المغولية (Yuan) كان هو الثامن من المنحدرين من جنكيزخان وقد أقصى عن الصين بتاريخ ١٣٦٨ ـ بدر الدّين : العلاقات بين العرب والصين طبعة أولى ١٩٥٠ القاهرة ص ٢٠٧. جامع التواريخ لرشيد الدّين.

Beckingham : The Travels ـ ـ ـ P. ٩٨٨ N ٠ ٧.

(٤٠) يبدو أن ابن بطوطة كان يتحدث عن محيط معيّن من الصين والافقد عرف أهل الصين بمطبخهم الثريّ الرفيع ... كما عرفوا بأناقتهم في اللباس وتميزهم ...

Jacques Gernet : la vie quotidienne en Chine a la veille de l\'invasion mongole ٩٥٩١ ـ P. ٨٣١ ـ ٢٥.

(٤١) الاسم ستي من أصل هندي (Chetty) وتعني أحد أعضاء طبقة اجتماعية تهتم بالتجارة جنوب الهند وحول الاكارم انظر تعليقنا ج.IV ، ٤٩.

١٢٧

١٢٨

القطعة الواحدة منها بركالة (٤٢) ، بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وفتح الكاف واللام.

ذكر دراهم الكاغد التي بها يبيعون ويشترون

وأهل الصين لا يتبايعون بدينار ولا درهم ، وجميع ما يتحصل ببلادهم من ذلك يسبكونه قطعا كما ذكرناه وانما يبيعهم وشراءهم بقطع كاغد ، كل قطعة منها قدر الكف مطبوعة بطابع السلطان وتسمى الخمس والعشرون قطعة منها بالشت (٤٣) ، بباء موحدة وألف ولام مكسور وشين معجم مسكن وتاء معلوة ، وهو يمعنى الدينار عندنا (٤٤) وإذا تمزقت تلك الكواغد في يد إنسان حملها إلى دار كدار السكّة عندنا فأخذ عوضها جددا ودفع تلك ، ولا يعطي على ذلك أجرة ولا سواها (٤٥) ، لأن الذين يتولون عملها لهم الأرزاق الجارية من قبل السلطان ، وقد وكل بتلك الدار أمير من كبار الامراء ، وإذا مضى الانسان إلى السوق بدرهم فضة أو دينار يريد شراء شيء لم يؤخذ منه ولا يلتفت إليه حتى يصرفه بالبالشت ويشتري به ما أراد.

ذكر التراب الذي يوقدونه مكان الفحم

وجميع أهل الصين (٤٦) والخطا (٤٧) إنما فحمهم تراب عندهم منعقد كالطّفل عندنا

__________________

(٤٢) الكلمة من أصل فارسي (PARGALA) وتعني القطعة والجزء ...

(٤٣) بالشت كلمة فارسية وتعني في الأصل الوسادة أو الكيس وقد استعملت للقطعة الذهبية أو الفضية ، ويلاحظ من الآن انتشار اللغة الفارسية في الامبراطورية الصينية وفي البلاط كذلك ، وقد خصص ماركو بولو فصلا للحديث عن العملة.

(٤٤) البالشت ـ كنت مضطرا إلى أن ألتجئ بتاريخ ١٢١٢٧ / ٦ / ١٩٩٥ لسفارتنا في بكين بعد أن استنفذت كل الوسائل وقد قام صديقنا الأستاذ السفير عبد الرحيم بن عبد الجليل باستشارة المتخصصين من أمثال الأستاذ الجامعي تشوكاي Zhu kai. ويذكر التقرير الذي توصلت به شاكرا أن العملة الورقية الوحيدة التي كانت متداولة في الفترة التي قضاها الرحالة المغربي في الصين أي في عهد دولة يوان (Yuan) نوعان : BAOCHAO وJIAOCHAO ... وقد تكون كلمة بالشت تحريفا لBAO CHAO التي تعني النقد النفيس (يذكر أن البالشت في اصطلاح المغول قطعة ذهبية معينة المقدار كما في (فرهنك آنندراج).

ويقول التقرير : أن الاسم الكامل لهذه العملةZHI YUAN TONG XING BAO CHAO بمعنى نقد نفيس متداول في عهد الامبراطور. تراجع الملاحق وقد زودنا السفير بأحسن صورة لهذه العملة عن كتاب حول تاريخ النقود بالصين ...

(٤٥) نفس المعلومات يرددها ماركوپولو بإضافة أن تكلفة التبديل تقتضي دفع ثلاثة في المائة.

(٤٦) يقصد بالصين هنا القسم الجنوبي من البلاد في مقابلة القسم الشمالي الذي يحمل اسم بلاد الخطا ... وهكذا فكلما ذكر الصين مجردة فإن قصده إلى الجنوب ...

(٤٧) كلمة الخطا (Cathay) التي تعطي للصين الشمالي كما قلنا ـ كلمة مستعملة من لدن الأوربيين في القرن الثالث عشر إلى السادس عشر الميلادي ، ربما كانت آتية من إمارة بروطو مونغول ـ (Proto mongole) المنتمين إلى (ki ـ an) التي حكمت من عام ٩٠٧ إلى عام ١١٢٢ ، وفي الروسيا نجد أن الصين تسمّى دائما قطاي (Kitay).

١٢٩

١٣٠

١٣١

ولونه لون الطّفل ، تأتي الفيلة بالأحمال منه فيقطعونه قطعا على قدر قطع الفحم عندنا ويشعلون النار فيه فيقد كالفحم وهو أشد حرارة من نار الفحم ، وإذا صار رمادا عجنوه بالماء ويبسوه وطبخوا به ثانية ، ولا يزالون يفعلون به كذلك إلى أن يتلاشى ، ومن هذا التّراب يصنعون أواني الفخار الصيني ويضيفون إليه حجارة سواه كما ذكرناه (٤٨).

ذكر ما خصوا به من إحكام الصناعات

وأهل الصين أعظم الأمم إحكاما للصناعات ، وأشدهم إتقانا فيها (٤٩) ، وذلك مشهور من حالهم ، قد وصفه الناس في تصانيفهم فأطنبوا فيه ، وأما التصوير فلا يجاريهم أحد في إحكامه من الروم ولا من سواهم. فان لهم فيه اقتدارا عظيما ، ومن عجيب ما شاهدت لهم من ذلك أني ما دخلت قطّ مدينة من مدنهم ثم عدت إليها إلا ورأيت صورتي وصور أصحابي منقوشة في الحيطان والكواغد موضوعة في الأسواق!

ولقد دخلت إلى مدينة السلطان فمررت على سوق النّقاشين ووصلت إلى قصر السلطان مع أصحابي ، ونحن على زيّ العراقيين فلما عدت من القصر عشيا مررت بالسوق المذكورة فرأيت صورتي وصور أصحابي منقوشة في كاغد قد ألصقوه بالحائط ، فجعل كل واحد منا ينظر إلى صورة صاحبه لا تخطىء شيئا من شبهه ، وذكر لي أن السلطان أمرهم بذلك وأنهم أتوا إلى القصر ونحن به فجعلوا ينظرون إلينا ويصورون صورنا ونحن لم نشعر بذلك ، وتلك عادة لهم في تصوير كل من يمر بهم وتنتهي حالهم في ذلك إلى أن الغريب إذا فعل ما يوجب فراره عنهم بعثوا صورته إلى البلاد وبحث عنه فحيثما وجد شبه تلك الصورة أخذ.

قال ابن جزي : هذا مثل ما حكاه أهل التاريخ من قضية ساپور ذي الاكتاف ملك الفرس ، حين دخل إلى بلاد الروم متنكّرا ، وحضر وليمة صنعها ملكهم وكانت صورته على بعض الأواني فنظر إليها بعض خدّام قيصر فانطبعت على صورة سابور ، فقال لملكه : إن

__________________

(٤٨) يخلط ابن بطوطة هنا بين تراب الفحم وبين الصلصال الذي يصنع منه البورسلين ، والحقيقة ـ على ما يلاحظ ـ ان المادتين تمتزجان حتى تصنع منهما المادة التي تصمد للاحتراق ...

(٤٩) وردت مثل هذه الشهادة لدى تاجر عربي من أهل القرن الرابع الهجري ـ العاشر الميلادي. اقرأ الاستطراد الذي ذكره ياقوت في معجم البلدان (مادة الصين) عن رحلة أبي دلف مسعر بن مهلهل الخزرجي (ت ٣٩٠ ـ ١٠٠٠ م) لبلاد الترك والصّين والهند.

معجم البلدان تحقيق فريد عبد العزيز الجندي ... دار الكتب العلمية بيروت ١٤١٠ ه‍ ١٩٩٠ م

١٣٢

هذه الصورة تخبرني أن كسرى معنا في هذا المجلس ، فكان الأمر على ما قاله ، وجرى فيه ما هو مسطور في الكتب (٥٠).

ذكر عادتهم في تقييد ما في المراكب

وعادة أهل الصين إذا أراد جنك من جنوكهم السّفر صعد اليه صاحب البحر وكتّابه وكتبوا من يسافر فيه من الرماة والخدام والبحرية ، وحينئذ يباح لهم السفر فإذا عاد الجنك إلى الصين صعدوا إليه أيضا وقابلوا ما كتبوه بأشخاص الناس فإن فقدوا أحدا ممن قيدوه طلبوا صاحب الجنك به ، فإما أن ياتي ببرهان على موته أو فراره أو غير ذلك مما يحدث عليه ، وإلّا أخذ فيه ، فإذا فرغوا من ذلك أمروا صاحب المركب أن يملي عليهم تفسيرا بجميع ما فيه من السلع قليلها وكثيرها ثم ينزل من فيه ، ويجلس حفّاظ الديوان لمشاهدة ما عندهم ، فإن عثروا على سلعة قد كتمت عنهم عاد الجنك بجميع ما فيه مالا للمخزن (٥١) ، وذلك نوع من الظلم ما رأيته ببلاد من بلاد الكفار ولا المسلمين إلا بالصين اللهم إلا أنه كان بالهند ما يقرب منه ، وهو أن من عثر على سلعة له قد غاب على مغرمها أغرم أحد عشر مغرما ، ثم رفع السلطان ذلك لما رفع المغارم.

ذكر عادتهم في منع التجار عن الفساد.

وإذا قدم التاجر المسلم على بلد من بلاد الصين خيّر في النزول عند تاجر من المسلمين المتوطنين معيّن ، أو في الفندق ، فإن أحب النزول عند التاجر حصر ماله وضمّنه التاجر المستوطن ، وأنفق عليه منه بالمعروف ، فإذا أراد السفر بحث عن ماله ، فان وجد شيء منه قد ضاع أغرمه التاجر المستوطن الذي ضمّنه ، وإن أراد النزول بالفندق سلم ماله لصاحب الفندق وضمنه ، وهو يشتري له ما أحب ويحاسبه ، فإن أراد التّسري اشترى له جارية وأسكنه بدار يكون بابها في الفندق ، وانفق عليهما.

__________________

(٥٠) يتعلق الامر بالعاهل الساساني شابور الثاني SHAPUR II (٣٠٩ ـ ٣٧٩ م) المعروف بصراعاته ضد ملوك الرّومان أصحاب القسطنطينية. الحكاية التي رواها ابن بطوطة توجد في تاريخ الساسانيين الذي ألفه المؤرخ الفارسي ميرخوند. وتتمة الحكاية هي أن شابور خيط إلى جلد حمار وأودع في السجن! وقد لقب بذي الاكتاف لأنه كان يثقب أكثاف معارضيه ويعلقهم منها بحبل حتّى لا يعود أحد للمعارضة.!!

(٥١) يقدم لنا أودوريك دوبوردونون (O.DE PRODENONE) إشارات مماثلة هذا ويلاحظ استعمال كلمة (المخزن) بمعنى الدولة والحكومة على ما هو المصطلح المغربي ...

١٣٣

والجواري رخيصات الأثمان إلا أن أهل الصين أجمعين يبيعون أولادهم وبناتهم وليس ذلك عيبا عندهم ، غير أنهم لا يجبرون على السفر مع مشتريهم ولا يمنعون أيضا منه إن اختاروه ، وكذلك إن أراد التزوّج تزوّج ، وأما إنفاق ماله في الفساد فشيء لا سبيل له إليه! ويقولون : لا نريد أن يسمع في بلاد المسلمين أنهم يخسرون أموالهم في بلادنا فانّها أرض فساد وحسن فائت!!

ذكر حفظهم للمسافرين في الطرق

وبلاد الصين آمن البلاد وأحسنها حالا للمسافر ، فإن الانسان يسافر منفردا مسيرة تسعة اشهر وتكون معه الأموال الطائلة فلا يخاف عليها ، وترتيب ذلك أن لهم في كل منزل ببلادهم فندقا عليه حاكم يسكن به في جماعة من الفرسان والرجال ، فإذا كان بعد المغرب أو العشاء الآخرة جاء الحاكم إلى الفندق ومعه كاتبه فكتب أسماء جميع من يبيت به من المسلمين وختم عليها ، وأقفل باب الفندق عليهم فإذا كان بعد الصبح ، جاء ومعه كاتبه فدعا كل انسان باسمه ، وكتب بها تفسيرا ، وبعث معهم من يوصّلهم إلى المنزل الثاني له وياتيه ببراءة من حاكمه أن الجميع قد وصلوا إليه ، وإن لم يفعل طلبه بهم ، وهكذا العمل في كل منزل ببلادهم من صين الصين إلى خان بالق.

وفي هذه الفنادق جميع ما يحتاج إليه المسافر من الأزواد وخصوصا الدجاج والإوز ، وأما الغنم فهي قليلة عندهم.

ولنعد إلى ذكر سفرنا فنقول : لما قطعنا البحر كانت أول مدينة وصلنا اليها مدينة الزّيتون (٥٢) ، وهذه المدينة ليس بها زيتون ولا بجميع بلاد أهل الصين والهند ، ولكنه اسم وضع عليها ، وهي مدينة عظيمة كبيرة تصنع بها ثياب الكمخا ، والأطلس (٥٣) ، وتعرف بالنسبة إليها ، وتفضل على الثياب الخنساوية والخنبالقية ، ومرساها من أعظم مراسي الدنيا

__________________

(٥٢) نلاحظ أن ابن بطوطة على نحو الاسلوب الذي اتبعه عندما قدم بلاد الهند ، قبل أن يفصل حركته فيها قام هنا بتقديم للصين قبل أن تنزل مراكبه بها ... وهكذا فقد تحرك من طوالسى وسار سبعة عشر يوما في اتجاه الجنوب الشرقي للصين حيث وجدناه ينزل ميناء مدينة الزيتون (Quanzhou) حاليّا في اقليم (fujian) بمضيق طايوان على الخط ٥٣ ، ٠ ٢٤ شمالا والخط ١٣ ، ١١٨ شرقا مقابلة لهذه الجزيرة ومن المعلوم أن هذه المدينة تعتبر نقطة الانطلاق التجاري البحري مع المحيط الهادىء ـ تعليق ٣٥ (ملاحق)

(٥٣) يذكر يول أن كلمة ساطان Satin واردة أصلا من زيتون ، من خلال الكلمة الإيطالية القديمةZETTANI.

(٥٤) يلخص ابن بطوطة المسالك المائية الصينية كلّها في النهر الأعظم الذي هو مزيج «متخيل» بين النهر الأصفرYellow River وبين القناة الكبرى التي تربط بيكين مع الخنساء : Hangzhou أمّا نهر جينكيانك (Jinjiang) ، فهو قليل الأهمية ومصبّه عند مدينة (Quanshow) يراجع التعليق السابق رقم ٣٤.

١٣٤

أو هو أعظمها ، رأيت به نحو مائة جنك كبار ، وأما الصغار فلا تحصى كثرة ، وهو خور كبير من البحر يدخل في البر حتى يختلط بالنّهر الأعظم.

وهذه (٥٤) المدينة وجميع بلاد الصين يكون للإنسان بها البستان والأرض ، وداره في وسطها كمثل ما هي بلدة سجلماسة ببلادنا (٥٥)! وبهذا عظمت بلادهم ، والمسلمون ساكنون بمدينة على حدة. وفي يوم وصولي إليها رأيت بها الامير الذي توجه إلى الهند رسولا بالهدية ، ومضى في صحبتنا وغرق به الجنك ، فسلّم علي وعرف صاحب الديوان بي (٥٦) فأنزلني في منزل حسن ، وجاء إليّ قاضي المسلمين تاج الدين الأردويلي وهو من الأفاضل الكرماء وشيخ الاسلام كمال الدين عبد الله الأصفهاني ، وهو من الصلحاء وجاء إليّ كبار التجار فيهم شرف الدين التبريزي أحد التجار الذين استدنت منهم حين قدومي على الهند وأحسنهم معاملة ، حافظ القرآن مكثر للتلاوة.

وهؤلاء التّجار لسكناهم في بلاد الكفار إذا قدم عليهم المسلم فرحوا به أشد الفرح ، وقالوا : جاء من أرض الإسلام ، وله يعطون زكوات أموالهم فيعود غنيا كواحد منهم.

وكان بها من المشايخ الفضلاء برهان الدين الكازروني ، له زاوية خارج البلد (٥٧) ، وإليه يدفع التجار النذور التي ينذرونها للشيخ أبي إسحاق الكازروني (٥٨) ، ولما عرف صاحب

__________________

(٥٥) الحديث عن المقارنة بين نظام (الفيلات) في الصين وسجلماسة حيث الدار وسط الحديقة يدعونا إلى الالتفات للعلاقات المغربية الصينية ، وهو الموضوع الذي عالجته الندوة التي حضرناها في بيكين في يونيه ١٩٨٨. ذ. رضوان ليولين روى : (جامعة بيكين) العلاقات الصينية المغربية في العصور القديمة ، ـ د. التازي : في العلاقات المغربية الصينية ، هل كانت زيارة ابن بطوطة لبيكين ردا على زيارة وانغ دايوان لطنجة؟ جريدة العلم المغربية ، ٧ غشت ١٩٨٨. ـ التاريخ الدبلوماسي للمغرب ٦ ص ٦٤٧.

(٥٦) نلاحظ أن ابن بطوطة هنا أخذ يستعيد ذكرياته ويتفقد أصحابه فيما يتصل بالمهمة التي عهد بها اليه سلطان الهند لدى ملك الصين ، ويتجلى واضحا أن مدينة الزيتون كانت بالفعل ملتقى دوليا على مضيق طايوان هذا وإن مجموع الشخصيات التي ذكرها ابن بطوطة هنا في مدينة الزيتون (Quanzhou) من أصل فارسي ، هذا وما تزال إلى الآن قرية بضواحي المدينة تحمل اسم قرية الفرس. ونعلم من خلال المصادر التاريخية الصينية بأن المدينة كانت تتوفر على جالية فارسية قوية ، ولذلك فإن اللغة الفارسية بالصين على ذلك العهد كانت سائدة على ما قلناه ، ولا بد أن تستوقفنا هنا كلمة «الديوان» المستعملة في المغرب وخاصة عند الموانىء المفتوحة في وجه المراكب التجارية الأجنبية ـ الكلمة يقال إنها من أصل إيطالي Dogane أو فرنسي Douane ، ويقصد بها مكتب الجمارك (ومن هنا جاءت التوصّية بابن بطوطة!) وقد تحدتثا عن هذه المصطلحات في التاريخ الدبلوماسي للمغرب.

(٥٧) لا بد أن نذكّر هنا بما ورد في (I ، ٣٧ ـ ٣٨) من أن برهان الدين الأعرج قال لابن بطوطة وهو ما يزال بالاسكندرية : أراك تحب السياحة ، فقال نعم ولم يكن حينئذ خطر بخاطره زيارة الهند والصين ، فقال له برهان الدين : لا بد لك ان شاء الله من زيارة أخي فريد الدّين بالهند وآخى ركن الدين زكرياء بالسند وأخي برهان الدين بالصين وإذا بلغتهم فسلم عليهم ... ولم أزل أجول ، يقول ابن بطوطة ، حتى لقيت الثلاثة ...

(٥٨) يعتبر هذا الشيخ عند العامة ممن يتوسل بهم عند الخوف من أخطار البحار كما سلف في الجزءII ، ٩٠ ... على نحو الشيخ اليابري بمدينة الرباط ـ د. التازي مؤتمر يابرة (البرتغال) ١٩٨٢.

١٣٥

١٣٦

الديوان أخباري كتب إلي القان ، وهو ملكهم الأعظم (٥٩) ، يخبره بقدومي من جهة ملك الهند فطلبت منه أن يبعث معي من يوصلني إلى بلاد الصين وهم يسمونها صين (٦٠) كلان ، لأشاهد تلك البلاد ، وهي في عمالته بخلال ما يعود جواب القان ، فأجاب إلى ذلك ، وبعث معي من أصحابه من يوصلني.

وركبت في النّهر في مركب يشبه أجفان بلادنا الغزوية إلّا أن الجذّافين يجذفون فيه قياما ، ومعهم ، في وسط المركب الركاب في المقدم والمؤخر ، ويظلّلون على المركب بثياب تصنع من نبات ببلادهم يشبه الكتان ، وليس به ، وهو أرقّ من القنب.

وسافرنا في هذا النهر سبعة وعشرين يوما (٦١) وفي كل يوم ترسو عند الزوال بقرية نشتري بها ما نحتاج إليه ونصلّي الظهر ثم ننزل بالعشي إلى أخرى وهكذا إلى أن وصلنا إلى مدينة صين كلان بفتح الكاف ، وهي مدينة صين الصّين ، وبها يصنع الفخار ، وبالزيتون أيضا ، وهنالك يصب نهر آب حياة في البحر ، ويسمونه مجمع البحرين (٦٢) ، وهي من أكبر المدن وأحسنها أسواقا ، ومن أعظم أسواقها سوق الفخار ، ومنها يحمل إلى سائر بلاد الصين ، وإلى الهند واليمن ، وفي وسط هذه المدينة كنيسة عظيمة لها تسعة أبواب داخل كل باب أسطوان ومصاطب يقعد عليها الساكنون بها ، وبين البابين الثاني والثالث منها موضع فيه بيوت يسكنها العميان وأهل الزّمانات ولكل واحد منهم نفقته وكسوته من أوقاف الكنيسة ، وكذلك فيما بين الأبواب كلّها وفي داخلها المارستان للمرضى والمطبخة لطبخ الاغذية وفيها الاطباء والخدام.

وذكر لي أن الشيوخ الذين لا قدرة لهم على التكسّب لهم نفقتهم وكسوتهم بهذه الكنيسة، وكذلك الأيتام والأرامل ممن لا حال له ، وعمّر هذه الكنيسة بعض ملوكهم وجعل هذه المدينة وما اليها من القرى والبساتين وقفا عليها ، وصورة ذلك الملك مصورة بالكنيسة المذكورة ، وهم يعبدونها.

__________________

(٥٩) كان الحاكم الاعظم في ذلك العهد طوگون تيمور (Togon Timur) انظر التعليق ٣٩ هذا وكلمة القان تؤدي في التركية معنى لقب (الخاقان) ...

(٦٠) صين كلان وصين الصين Guangzhou كانطون انظر ملحق المراسلات

(٦١) يلاحظ بعض المعلقين على سفر ابن بطوطة من مدينة الزيتون التي تقع كما قلنا على مضيق طايوان ، إلى مدينة صين كلان (كانطون) فيذكرون بان المحطات التي ذكرها على ذلك النهر لفترة ٢٧ يوما غير صحيحة ، القناة الكبرى غير موجودة في المنطقة فهل هناك فوالت من مذكراته؟ أو تساهل في تلخيصها؟ يراجع التعليق ٣٤.

(٦٢) الواقع أن الأمر لا يتعلق بالنهر الأصفر ، ولكن يتعلق بنهر بي جيانك Bei Jiang راجع التعليق رقم ٣٤.

١٣٧

١٣٨

وفي بعض جهات هذه المدينة (٦٣) بلدة المسلمين ، لهم بها المسجد الجامع والزاوية والسوق ولهم قاض وشيخ ، ولا بد في كل بلد من بلاد الصين من شيخ الإسلام تكون أمور المسلمين كلّها راجعة اليه ، وقاض يقضي بينهم. وكان نزولي عند أوحد الدين السنجاري ، وهو أحد الفضلاء الأكابر ذوي الاموال الطائلة ، وأقمت عنده أربعة عشر يوما ، وتحف القاضي وسائر المسلمين تتوالى عليّ ، وكلّ يوم يصنعون دعوة جديدة ويأتون اليها بالعشّارين(٦٤) الحسان والمغنين. وليس وراء هذه المدينة مدينة لا للكفار ولا للمسلمين ، وبينها وبين سدّ ياجوج وماجوج (٦٥) ستون يوما فيما ذكر لي ، يسكنها كفار رحّالة يأكلون بني آدم إذا ظفروا بهم (٦٦) ولذلك لا تسلك بلادهم ولا يسافر إليها. ولم أر بتلك البلاد من رأى السد ولا من رأى من رآه.

حكاية عجيبة

ولما كنت بصين كلان سمعت أن بها شيخا كبيرا قد أناف على مائتي سنة ، وأنه لا يأكل ولا يشرب ، ولا يحدث ، ولا يباشر النساء مع قوته التامة ، وأنه ساكن في غار بخارجها

__________________

(٦٣) تعرضت (كانطون) لعدة تغييرات ولذا فانه لا يوجد أثر لهذه الكنيسة التي تحدث عنها ابن بطوطة.

(٦٤) السنجاري نسبة إلى سنجار التي تقع ضمن الجزيرة الفراتية ، وقد كانت عاصمة لفرع من أسرة أتابك زنكى من عام ١١٧٠ إلى ١٢٢٠ م ـ انظرIII ، ٢٤١ ـ ٤٢ أما العشارون فهم القراء الذي يوزعون تلاوة القرآن على عشرة أقساط كما أسلفنا التعليق ٢٨٨ الفصل الرابع عشر ولا أرى وجها لتعسّف التراجمة!

(٦٥) تذكر الرواية أن سدّ ياجوج وماجوج شيد من لدن ذي القرنين ليحمي العالم المتمدن من هجمات الشمال ويقع هذا السد حسب مدركات المعاصرين اليوم على مقربة من الدربندDERBENT التي تقع على الخط ٠٣ ، ٤٢ شمالا والخط ١٨ ، ٤٨ شرقا غرب بحر قزوين ، وقد سمعنا عنه ونحن نقوم عام ١٩٧٤ بزيارة لباكو التي تقع جنوبا. ويحكى ابن خرداذبة في المسالك والممالك أن الخليفة الواثق بالله بعث سفيره سلام الترجمان ليقف على حقيقة هذا السد وانه أي السفير عاد ـ بعد أن ساعده صاحب السرير بتقرير إلى الخليفة حول الموضوع ، ومن المهم أن نذكر هنا أن هذا السد التبس على كثير من الناس ومنهم ابن بطوطة بسور الصين العظيم (La grande Muraille) الذي بناه تسين شي هوانگ تي مؤسس الامبراطورية الصينية عام ٢٢١ ـ ٢١١ قبل الميلاد ، وقد زرناه في صيف ١٩٨٨ ... ومن تمام الفائدة أن نحيل على تفسير (التحرير والتنوير) للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (تونس ١٩٨٤) وحسب إفادة زميلنا في أكاديمية المملكة المغربية نيل أرمسترونغ الذي صعد القمر فإن سور الصين هو الشيء الوحيد من صنع الإنسان الذي ظهر لهم من القمر!!

(٦٦) يتحدث ماركوبولو عن أن شعب مملكة فوجوFuju ياكل لحم البشر وينسب هذا غالبا إلى القبائل البدائية بيد أن هذا لا يعدوا أن يكون زعما بالنسبة لأهل الصين والمغول والثّبت ... ولا بد مع هذا أن نلاحظ أن نمط المطبخ الصيني الذي يحتوي على بعض المواد الغذائية التي لا يستسيغها الذوق الأوربي والتي قد تكون محرمة على المسلمين في بعض الأحيان من شأن كل ذلك أن يسهل نسبة بعض أهل الصين في الماضي إلى أكلة لحوم البشر! انظر ج.VI ، ٤٢٨ حول أكل البشر في افريقيا ...

١٣٩

١٤٠