رحلة ابن بطوطة - ج ٤

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ٤

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-010-9
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٣٥١

وحدثني محمد المصمودي المغربي ، وكان من الصالحين ، وسكن هذا البلد قديما ، ومات عندي بدهلي ، أنه كانت له زوجة وخادم فكان يشتري قوت ثلاثتهم في السنة بثمانية دراهم ، وأنه كان يشتري الأرز في قشره ، بحساب ثمانين رطلا دهلية (٢٩٨) بثمانية دراهم ، فإذا دقه خرج منه خمسون رطلا صافية وهي عشرة قناطير ، ورأيت البقرة تباع بها للحلب بثلاثة دنانير فضة ، وبقرهم الجواميس ، ورأيت الدّجاج السمان تباع بحساب ثمان بدرهم واحد ، وفراخ الحمام يباع خمسة عشر منها بدرهم ، ورأيت الكبش السمين يباع بدرهمين ، ورطل السكر بأربعة دراهم ، وهو رطل دهلي ، ورطل الجلّاب بثمانية دراهم ، ورطل السمن بأربعة دراهم ، ورطل السيرج بدرهمين ، ورأيت ثوب القطن الرقيق الجيّد الذي ذرعه ثلاثون ذراعا يباع بدينارين ، ورأيت الجارية المليحة للفراش تباع بدينار من الذهب واحد وهو ديناران ونصف من الذهب المغربي(٢٩٩) واشتريت بنحو هذه القيمة جارية تسمى عاشورة ، وكان لها جمال بارع واشترى بعض أصحابي غلاما صغير السن حسنا اسمه لؤلؤ بدينارين من الذّهب.

وأول مدينة دخلناها من بلاد بنجالة مدينة سدكاوان ، وضبط اسمها بضم السين وسكون الدال المهملين وفتح الكاف والواو وآخره نون وهي مدينة عظيمة على ساحل البحر الأعظم (٣٠٠) ، ويجتمع بها نهر الكنك الذي يحج إليه الهنود ونهر الجون (٣٠١) ويصبان في البحر ، ولهم في النهر مراكب كثيرة يقاتلون بها أهل بلاد اللكنوتي (٣٠٢).

__________________

(٢٩٨) إذا قمنا بمقارنة بين المحاصيل ، فسنجد أن البقرة تعادل ٦٠٠ ك. غ من الأرز ، و ١٩٢ دجاجة و ١٢ خروفا و ٤٨ ك. غ. سكر و ٤٨ ك ـ غ. سمن ، و ٩٦ ليتر زيت و ٥ ، ٢٢ ميتر من القطن ، وهكذا نلاحظ الفرق بين المنتوجات الأولية (الرز ـ اللحم ـ بالنسبة للسكر والزبد).

(٢٩٩) إذا كان الأمر يتعلق بتنكة فإنها تساوي دينارين ذهبيين في المغرب ، هذا وقد ظل ابن بطوطة يردد الحديث عن الرغبة الجنسية التي لم يكن في استطاعته أن يحمي نفسه من الاشتغال بها في غربته!! ـ د. التازي : ابن بطوطة والحاسّة الجنسية ... ضمن المحاضرة التي ألقيت بطنجة يوم ١٠ / ٤ / ١٩٨١ بدعوة من الجمعية الثقافية والاجتماعية لحوض البحر المتوسط.

(٣٠٠) هناك مدينتان تقربان من هذا الاسم : الأولى (SATGAON) على نهر هو غلي (Hooghly) في الجهة الغربية للدلتا جنوب كالكوتا (Calcutta). ميناء هندوسي إسلامي لكنه ترك في القرن السادس عشر الميلادي ، والمدينة الثانية :(Chittagong) في الجهة الشرقية للدلتا جنوب شرق داكا (DHaKA) وهناك مبررات ترجح كفة المدينة الثانية : (شيطّا غونك) فهي المدينة الوحيدة التي تقع في خليج البنغال على ساحل البحر الاعظم" (المحيط الهندي) ـ أنظر خريطة بنغلاديش الحالية.

BeckinghamIV P. ٨٦٨ ـ Note ٣.

(٣٠١) نهر الجون (Jun) : جومنا (DJUMNA) يمثل هنا (BRAHMAPuTRA). وفي الحقيقة أن التقاء مجرى الكانج والجون يتحقق أكثر في الشمال الغربي ، ولكن من أن تكون هذه النقطة قريبة من ساطگاون ـ انظر التعليق السابق.

(٣٠٢) اللكنوتي (La Khanouti) الاسم القديم لمدينة گورGaur ، عاصمة المسلمين حكّام البنغال بعد فتحها عام ٦٠٠ ـ ١٢٠٤ ، خرائبها ما تزال على مقربة من ملده Maldah هذا الاسم يرجع لأحد الأقاليم الثلاثة للبنغال يغطي المساحة بين الكانج وبين براهما بوتراBrahmaputra ـ ج.III ـ ١٧٤ ـ ٢١٠.

١٠١

١٠٢

ذكر سلطان بنجالة

وهو السلطان فخر الدين (٣٠٣) الملقب بفخرة ، بالفاء والخاء المعجم والراء ، سلطان فاضل محبّ في الغرباء وخصوصا الفقراء والمتصوفة وكانت مملكة هذه البلاد للسلطان ناصر الدين بن السلطان غياث الدين بلبن وهو الذي ولي ولده معزّ الدين الملك بدهلي ، فتوجه لقتاله والتقينا بالنّهر ، وسمّي لقاؤهما لقاء السّعدين ، وقد ذكرنا ذلك (٣٠٤) وأنه ترك الملك لولده وعاد إلى بنجالة فأقام بها إلى أن توفي.

وولى ابنه شمس الدين إلى أن توفى فولى ابنه شهاب الدين ، إلى أن غلب عليه أخوه غياث الدين بها دور فاستنصر شهاب الدين بالسلطان غياث الدين تغلق فنصره وأخذ بهادور بور أسيرا ، ثم أطلقه ابنه محمد لما ملك على أن يقاسمه ملكه ، فنكث عليه فقاتله حتى قتله ، وولّى على هذه البلاد صهرا له فقتله العسكر ، واستولى على ملكها علي شاه (٣٠٥) ، وهو إذ ذاك ببلاد اللّكنوتي ، فلما رأى فخر الدين أن الملك قد خرج عن أولاد السلطان ناصر الدين وهو مولى لهم ، خالف بسدكاوان وبلاد بنجالة واستقل بالملك واشتدت الفتنة بينه علي شاه ، فإذا كانت أيام الشتاء والوحل أغار فخر الدين على بلاد اللّكنوتي في البحر لقوته فيه ، وإذا عادت الأيام التي لا مطر فيها اغار على شاه على بنجالة في البر لقوّته فيه.

حكاية [الفقير شيدا]

وانتهى حبّ الفقراء بالسلطان فخر الدين إلى أن جعل أحدهم نائبا عنده في الملك بسدكاوان ، وكان يسمى شيدا ، بفتح الشين المعجم والدال المهمل بينهما ياء أخر الحروف وخرج إلى قتال عدوّ له فخالف عليه شيدا وأراد الاستبداد بالملك ، وقتل ولدا للسلطان فخر الدين لم يكن له ولد غيره (٣٠٦)! فعلم بذلك فكّر عائدا إلى حضرته ففر شيدا ومن تبعه إلى

__________________

(٣٠٣) بعد قمع ثورة غياث الدين بهادر. ضلّ بهرام خان الغلام المتبنّى لمحمد بن تغلق كحاكم على بلاد البنغال الشرقية في سونار گاون (Sonargaon) إلى أن توفي حوالي عام ٧٣٧ ـ ١٣٣٧ وقد أعلن خلفه الاستقلال عام ٧٣٨ ـ ١٣٣٨ تحت اسم فخر الدين مبارك شاه ١٣٣٨ ـ ١٣٤٩ ـ ولده وخلفه اختيار الدين غازي أقصى عن الحكم عام ١٣٥٢ من لدن شمس الدين إلياس الذي وحّد سائر بلاد البنغال.

(٣٠٤) راجع ـ الجزءIII ، ١٧٥ ، ١٧٧ ، ١٧٨

(٣٠٥) أنظر التعليق السابق رقم ٣٠٢. في الحقيقة فخر الدين عليّ قام بالثورة على الأقل سنة قبل علاء الدين علي.

(٣٠٦) مع ذلك فإنه يظهر أنه هو ولده الذي خلفه عام ١٣٤٩ ـ ٧٥٠ ـ أنظر التعليق رقم ٣٠٣.

١٠٣

مدينة سنركاوان ، وهي منيعة (٣٠٧) ، فبعث السلطان بالعساكر إلى حصاره فخاف أهلها على أنفسهم فقبضوا على شيدا وبعثوه إلى عسكر السلطان ، فكتبوا إليه بأمره ، فأمرهم أن يبعثوا له رأسه فبعثوه ، وقتل بسببه جماعة كبيرة من الفقراء.

ولما دخلت سدكاوان ، لم أر سلطانها ولا لقيته لأنه مخالف على ملك الهند فخفت عاقبة ذلك ، فسافرت من سدكاوان بقصد جبال كامرو ، وهي بفتح الكاف والميم وضم الراء ، وبينها وبين سدكاوان مسيرة شهر (٣٠٨).

وهي جبال متسعة متصلة بالصين وتتصل أيضا ببلاد التّبّت (٣٠٩) حيث غزلان المسك.

وأهل هذا الجبل يشبهون الترك ، ولهم قوة على الخدمة ، والغلام منهم يساوي أضعاف ما يساويه الغلام من غيرهم ، وهم مشهورون بمعاناة السّحر ، والاشتغال به ، وكان قصدي بالمسير إلى هذه الجبال لقاء وليّ من الأولياء بها ، وهو الشيخ جلال الدين التّبريزي(٣١٠).

ذكر الشيخ جلال الدين.

وهذا الشيخ من كبار الأولياء وأفراد الرجال ، له الكرامات الشهيرة والمآثر العظيمة ، وهو من المعمّرين أخبرني ، رحمه‌الله ، أنه أدرك الخليفة المستعصم بالله العباسي ببغداد وكان بها حين قتله(٣١١) ، وأخبرني أصحابه بعد هذه المدة أنه مات ابن مائة وخمسين ، وأنه

__________________

(٣٠٧) سونورگاوان أو سونارگانو أو سونير گونگ ، مدينة في البنغال على بعد ١٥ ميلا جنوب داكّا كانت احدى العواصم الاسلامية وقد أعطت اسمها لأحد الأقاليم الثلاث للبنغال Satgan ، وفيها سيجد المركب الذي سيوصله إلى جاوة بعد ٤٠ يوما من السفر.

(٣٠٨) كامرو ، الكلمة من أصل سنسكري KAMARUPA ، قسم من ولاية أصّام ASSAM يقع بين بهوتان وبنغلاديش. ألحقت أصّام بمملكة الهند عام ٦٥٣ ه‍ ـ ١٢٥٦ م.

(٣٠٩) بلاد التّبّت (Tibet) تتصل فعلا بالصين تقع بينها وبين بهوتان (Bhutan) وهي كما نعرف دولة من آسيا الوسطى تحيط بها الجبال الشامخة : وهي دولة دينية عاصمتها لاسا يراجع ج III ص ٤٣٩.

(٣١٠) يظهر أن ابن بطوطة ـ وقد طال به العهد ـ خلط بين الشيخ جلال الدين التبريزي المتوفى عام ١٢٤٤ ـ ٦٤٢ ، ولم يزر أصام (ASSAM) ، وبين الشيخ شاه جلال الذي هو من أصل تركستاني وهو الذي شارك على ما ترويه الأخبار في افتتاح سيلهت (Sylhet) الواقعة في الشمال الشرقي من البنغال الحالية المحتلة عام ١٣٠٤ ، هذا الشيخ توفي عام ١٣٤٧ ـ ٧٤٧ ولم يكن ابن بطوطة وحده ممن التبست عليه الشخصيات فان البنغاليين بدورهم يقعون في هذا الخطأ ...

Ross E Dunn : The Adventur Es of IBN Battuta LOnden ٦٨٩١ ـ P. ٣٩٢ Note ٦٢.

(٣١١) يعني سنة ٦٥٦ ـ ١٢٥٨ عندما اجتاح المغول بغداد.

١٠٤

كان له نحو أربعين سنة يسرد الصوم ولا يفطر ، إلا بعد مواصلة عشر ، وكانت له بقرة يفطر على حليبها ، ويقوم الليل كله وكان نحيف الجسم طوالا خفيف العارضين ، وعلى يديه أسلم أهل تلك الجبال ولذلك أقام بينهم.

كرامة له

أخبرني بعض أصحابه أنه استدعاهم قبل موته بيوم واحد وأوصاهم بتقوى الله وقال لهم : إني أسافر عنكم غدا إن شاء الله وخليفتي عليكم الله الذي لا إله إلا هو ، فلما صلّى الظهر من الغد قبضه الله في آخر سجدة منها ، ووجدوا في جانب الغار الذي كان يسكنه قبرا محفورا عليه الكفن والحنوط ، فغسلوه وكفنوه وصلّوا عليه ودفنوه به رحمه‌الله.

كرامة له أيضا

ولما قصدت زيارة هذا الشيخ لقيني أربعة من أصحابه على مسيرة يومين من موضع سكناه ، فأخبروني أن الشيخ قال للفقراء الذين معه : قد جاءكم سائح المغرب فاستقبلوه ، وأنهم أتوا لذلك بأمر الشيخ ولم يكن عنده علم بشيء من أمري ، وإنما كوشف به.

وسرت معهم إلى الشيخ فوصلت إلى زاويته خارج الغار ولا عمارة عندها ، وأهل تلك البلاد من مسلم وكافر يقصدون زيارته ، ويأتون بالهدايا والتّحف فيأكل منها الفقراء والواردون ، وأما الشيخ فقد اقتصر على بقرة يفطر على حليبها بعد عشر كما قدمناه ، ولمّا دخلت عليه قام إلي وعانقني وسألني عن بلادي وأسفاري ، فأخبرته ، فقال لي : أنت مسافر العرب! فقال له من حضر من أصحابه : والعجم يا سيدنا! فقال : والعجم ، فأكرموه فاحتملوني إلى الزاوية وأضافوني ثلاثة أيام (٣١٢).

حكاية عجيبة في ضمنها كرامات له.

ولما كان يوم دخولي إلى الشيخ رأيت عليه فرجية مرعز ، فأعجبتني وقلت في نفسي: ليت الشيخ أعطانيها ، فلما دخلت عليه للوداع ، قام إلى جانب الغار وجرّد الفرجية وألبسنيها مع طاقية من رأسه ولبس مرقعة ، فأخبرني الفقراء أن الشيخ لم تكن عادته أن يلبس تلك الفرجية وإنما لبسها عند قدومي ، وأنه قال لهم : هذه الفرجية يطلبها المغربي ، ويأخذها منه سلطان كافر ويعطيها لأخينا برهان الدين الصّاغرجي ، وهي له وبرسمه كانت ، فلما أخبرني

__________________

(٣١٢) يلاحظ شعور ابن بطوطة بالاعتزاز والفخر ـ حول الشيخ الصاغرجي يراجع ج III ص ٢٢٠.

١٠٥

الفقراء بذلك ، قلت لهم : قد حصلت لي بركة الشيخ بأن كساني لباسه وأنا لا أدخل بهذه الفرجية على سلطان كافر ولا مسلم ، وانصرفت عن الشيخ.

فاتّفق لي بعد مدة طويلة أني دخلت بلاد الصين وانتهيت إلى مدينة الخنسا فافترق مني أصحابي لكثرة الزحام ، وكانت الفرجية عليّ فبينا أنا في بعض الطرق إذا بالوزير في موكب عظيم فوقع بصره علي فاستدعاني ، وأخذ بيدي ، وسألني عن مقدمي ولم يفارقني حتى وصلت إلى دار السلطان معه ، فأردت الانفصال ، فمنعني وأدخلني على السلطان فسألني عن سلاطين الإسلام فأجبته ونظر إلى الفرجية فاستحسنها ، فقال لي الوزير : جرّدها! فلم يمكنني خلاف ذلك ، فأخذها وأمر لي بعشر خلع وفرس مجهز ونفقة ، وتغيّر خاطري لذلك ، ثم تذكرت قول الشيخ : إنه يأخذها سلطان كافر ، فطال عجبي من ذلك!

ولما كان في السنة الأخرى دخلت دار ملك الصين بخان بالق ، فقصدت زاوية الشيخ برهان الدين الصاغرجى فوجدته يقرأ والفرجية عليه بعينها فعجبت من ذلك وقلّبتها بيدي ، فقال لي : لم تقلّبها وأنت تعرفها؟ فقلت له : نعم هي التي أخذها لي سلطان الخنسا ، فقال لي : هذه الفرجية صنعها أخي جلال الدين برسمي ، وكتب إليّ أن الفرجية تصلك على يد فلان ، ثم أخرج ليّ الكتاب ، فقرأته وعجبت من صدق يقين الشيخ ، وأعلمته بأول الحكاية ، فقال لي : أخي جلال الدّين أكبر من ذلك كلّه ، هو يتصرف في الكون ، وقد انتقل إلى رحمة الله ، ثم قال لي : بلغني أنه كان يصلي الصبح كلّ يوم بمكة وأنه يحج كلّ عام لانه كان يغيب عن الناس يومي عرفة والعيد فلا يعرف أين ذهب.

ولما وادعت الشيخ جلال الدين سافرت إلى مدينة حبنق (٣١٣) ، وضبط اسمها بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة وسكون النّون وقاف ، وهي أكبر المدن وأحسنها يشقها النّهر الذي ينزل من جبال كامرو ، ويسمى النهر الأزرق (٣١٤) ويسافر فيه إلى بنجالة وبلاد اللّكنوتي ، وعليه النواعير والبساتين والقرى يمنة ويسرة ـ كما هي على نيل مصر وأهلها كفار تحت الذمة يوخذ منهم نصف ما يزدرعون ووظائف سوى ذلك.

وسافرنا في هذا النهر خمسة عشر يوما بين القرى والبساتين فكأنما نمشي في سوق من الأسواق وفيه من المراكب ما لا يحصى كثرة ، وفي كلّ مركب منها طبل فإذا التقى

__________________

(٣١٣) حبنق هي التي تسمى اليوم هافانك تيلا (Havang Tila) وقد خربت ، تقع على بعد عشرة أميال تقريبا جنوب (Habiganj) في سيلهت (Sylhet).

(٣١٤) النهر الأزرق يظهر أنه نهر مغنا :(Maghna) الذي يمرّ على مقربة من داكّا ... انظر الخريطة هذا وكلمة النول الآتية من المفردات الحضارية التي استعملها ابن بطوطة بمعنى (حق المرور) Nolis.

١٠٦

المركبان ضرب كلّ واحد طبله وسلّم بعضهم على بعض ، وأمر السلطان فخر الدين المذكور أن لا يوخذ بذلك النهر من الفقراء نول ، وأن يعطي الزاد لمن لا زاد له منهم وإذا وصل الفقير إلى مدينة أعطى نصف دينار.

وبعد خمسة عشر يوما من سفرنا في النّهر كما ذكرناه وصلنا إلى مدينة سنركاوان(٣١٥)، وسنر بضم السين المهمل والنون وسكون الراء ، وهي المدينة التي قبض أهلها على الفقير شيدا عندما لجأ إليها ، ولما وصلناها وجدنا بها جنكا يريد السّفر إلى بلاد الجاوة(٣١٦)،وبينهما أربعون ويوما ، فركبنا فيه ، ووصلنا بعد خمسة عشر يوما إلى بلاد البرهنكار (٣١٧)، الذين أفواههم كأفواه الكلاب ، وضبطها بفتح الباء الموحدة والراء والنون والكاف وسكون الهاء ، وهذه الطائفة من الهمج لا يرجعون إلى دين الهنود ولا إلى غيره ، وسكناهم في بيوت قصب مسقّفة بحشيش الأرض على شاطىء البحر ، وعندهم من أشجار الموز والفوفل والتنبول كثير.

ورجالهم على مثل صوّرنا الا أن أفواههم كأفواه الكلاب! وأما نساؤهم فلسن كذلك ولهن جمال بارع ورجالهم عرايا لا يستترون إلا أن الواحد منهم يجعل ذكره وأنثييه في جعبة من القصب منقوشة معلقة من بطنه ، ويستتر نساؤهم بأوراق الشجر ، ومعهم جماعة من المسلمين من أهل بنجالة ، والجاوة ساكنون في حارة على حدة ، أخبرونا أنهم يتناكحون كالبهائم لا يستترون بذلك ، ويكون للرجل منهم ثلاثون امرأة فما دون ذلك أو فوقه (٣١٨) ، وأنهم لا يزنون وإذا زنا أحد منهم فحدّ الرجل أن يصلب حتى يموت! أو ياتي صاحبه أو عبده فيصلب عوضا منه ويسرح هو ، وحدّ المرأة أن يامر السلطان جميع خدامه فينكحونها واحدا بعد واحد بحضرته، حتى تموت ويرمون بها في البحر! ولأجل ذلك لا يتركون أحدا

__________________

(٣١٥) حول سنركاوان أنظر التعليق السابق رقم ٣٠٧.

(٣١٦) ليس القصد إلى جاوة ولكن إلى سومطرة كما هو الغالب في الاستعمال الجغرافي العربي أما جاوة فهي التي عبّر عنها بمل جاوة ـ Beckingham IVP.٣٧٨ N ٨١٠.

(٣١٧) البره نكار (Barah Nakar) من الجائز أن يكون القصد إلى جزر أندامان (Andaman) نيكوبارNicobar فهاته الجزر هي الرئيسية في أراكان (ARAKAN) التابعة لبورما على مقربة من أو جزيرة نيگري Negarais بيدان كلام ابن بطوطة يفهم منه أن البره نكار اسم لشعب وليس اسما لموقع جغرافي كما يعتقده كثير من المعلقين.

GIbb Selec ٧٦٣ ـ Becknham p : ٤٧٨ Not ١.

(٣١٨) في حديثه عن المنطقة قال الادريسي (ق ١ ص ٧٨) «... واذا أراد الرجل أن يتزوج امرأة لم يزوجها له أهلها حتى يقتل رجلا وياتي يقحف رأسه ...! ولو قتل خمسين رجلا زوج خمسين امرأة وشهد له أهل بلده بالبأس والنجدة ... وهم عراة لا يستترون ... وكذلك نساؤهم ... وهم لا يستترون في النكاح بل ياتونه جهارا ولا يرون بذلك بأسا وهؤلاء قوم مناكير الوجوه ... مشوهون جدّا ...

١٠٧

من أهل المراكب ينزل إليهم إلا إن كان من المقيمين عندهم ، وانما يبايعون الناس ويشارونهم على الساحل ويسوقون إليهم الماء على الفيلة لانه بعيد من الساحل ولا يتركونهم لاستقائه خوفا على نسائهم لانّهنّ يطمحن إلى الرجال الحسان! والفيلة كثيرة عندهم ، ولا يبيعها أحد غير سلطانهم ثم تشتري منه بالأثواب ، ولهم كلام غريب لا يفقهه إلّا من ساكنهم وأكثر التردد اليهم، ولما وصلنا إلى ساحلهم أتو إلينا في قوارب صغار ، كل قارب من خشبة واحدة منحوتة، وجاءوا بالموز والتنبول والفوفل والسمك.

ذكر سلطانهم

وأتى الينا سلطانهم راكبا على فيل عليه شبه بردعة من الجلود ، ولباس السلطان ثوب من جلود المعزى ، وقد جعل الوبر إلى خارج ، وفوق رأسه ثلاث عصائب من الحرير ملونات ، وفي يده حربة من القصب ومعه نحو عشرين من أقاربه على الفيلة ، فبعثنا إليه هدية من الفلفل والزنجبيل والقرفة والحوت الذي يكون بجزائر ذيبة المهل وأثوابا بنجالية وهم لا يلبسونها ، إنما يكسونها الفيلة في أيام عيدهم!

ولهذا السلطان على كل مركب ينزل ببلاده جارية ومملوك وثياب لكسوة الفيل وحلي ذهب تجعله زوجته في محزمها وأصابع رجليها ، ومن لم يعط هذه الوظيفة صنعوا له سحرا يهيج به البحر فيهلك أو يقارب الهلاك!

حكاية [كيف يعاقب الزناة]

واتفق في ليلة من ليالي إقامتنا بمرساهم أن غلاما لصاحب المركب ممن تردد إلى هؤلاء الطائفة نزل من المركب ليلا وتواعد مع امرأة أحد كبرائهم إلى موضع شبه الغار على الساحل ، وعلم بذلك زوجها فجاء في جمع من أصحابه إلى الغار فوجدهما به ، فحملا إلى سلطانهم فأمر بالغلام فقطعت انثياه وصلب! وأمر بالمرأة فجامعها الناس حتى ماتت! ثم جاء السلطان إلى الساحل فاعتذر عما جرى ، وقال : إنا لا نجد بدّا من إمضاء أحكامنا ، ووهب لصاحب المركب غلاما عوض الغلام المصلوب.

١٠٨

الفصل الخامس عشر

آسيا ـ الجنوب الشرقي ـ والصين

من بلاد البرهنكار إلى الجاوة

في بلاد الصين

من الزيتون إلى الخنسا

مدينة الخنسا

بلاد الخطا ومصرع القان واختيار قراقرم عاصمة

العودة على بلاد طوالسي

الحديث عن الرّخ حضوره إعراس ولد الملك الظاهر

١٠٩
١١٠

١١١
١١٢

ثم سافرنا عن هؤلاء ، وبعد خمسة وعشرين يوما وصلنا إلى جزيرة الجاوة (١) ، بالجيم ، وهي التي ينسب إليها اللّبان الجاوي (٢) ، رأيناها على مسيرة نصف يوم وهي خضرة نضرة ، وأكثر أشجارها النارجيل (٣) والفوفل والقرنفل والعود الهندي (٤) والشّكي والبركي (٥) والعنبة والجمون (٦) والنارنج الحلو ، وقصب الكافور ، وبيع أهلها وشراءهم بقطع قصدير ، وبالذهب الصيني التّبر غير المسبوك ، والكثير من أفاويه الطيب التي بها إنما هو ببلاد الكفار منها وأما ببلاد المسلمين فهو أقل من ذلك.

ولما وصلنا المرسى خرج إلينا أهلها في مراكب صغار ومعهم جوز النارجيل والموز والعنبة والسمك ، وعادتهم أن يهدوا ذلك للتّجار فيكافئهم كلّ إنسان على قدره ، وصعد إلينا أيضا نائب صاحب البحر (٧) وشاهد من معنا من التّجار وأذن لنا في النزول إلى البرّ فنزلنا إلى البندر، وهي قرية كبيرة على ساحل البحر بها دور يسمّونها السّرحى (٨) بفتح السين المهمل وسكون الراء وفتح الحاء المهمل ، وبينها وبين البلد أربعة أميال.

ثم كتب بهروز نائب صاحب البحر إلى السلطان فعرفه بقدومي ، فأمر الأمير دولسة بلقائي والقاضي الشريف أمير سيد الشيرازي وتاج الدين الأصبهاني وسواهم من الفقهاء ، فخرجوا لذلك ، وجاءوا بفرس من مراكب السلطان وأفراس سواه ، فركبت وركب أصحابي ودخلنا إلى حضرة السلطان وهي مدينة سمطرة بضم السين المهمل والميم وسكون الطاء وفتح الراء مدينة حسنة كبيرة عليها سور خشب وأبراج خشب.

__________________

(١) يطلق اسم الجاوة عموما على أرخبيل الملايو ، وهناك الجاوة الصغرى التي هي سمطرة المحاذية للجاوة الكبرى أو الجاوة بدون نعت ، يبدو أن ابن بطوطة وصل هذه الناحية في يناير ١٣٤٦ ـ د. وان حسين عزمي ، د. هارون : الدعوة الاسلامية في ماليزيا ، ١٤٠٥ ـ ١٩٨٥ ـ د. التازي : ت. د. م ٧ ، ٣١١.

(٢) سياتي الحديث عن اللّبان : IV ص ٢٤٠.

(٣) يبرع السّمطريون في استعمال لبّ نواة النارجيل على ما نقرأه عند ويليام مارسدن (W.Marsedn) في كتابه (Histoire de Sumatra).

(٤) حول القرنفل ترقّب IV ، ٢٤٠ وحول العود الهندي أيضا ترقب كذلك ١٤٢ ,IV.

(٥) ورد ذكر الشّكي والبركي عند الإدريسي في النزهة (ق ، ٨٤) وقد تقدم الحديث عنهاIII ، ١٢٦ ـ ١٢٧.

(٦) يعرفها گيب هكذاEugenia Jambolana : فاكهة صغيرة الحجم حلوة المذاق وقد انتقد ترجمة الناشرين الفرنسيين ...

(٧) يعلق فيرّان على أن القصد من نائب البحر إلى شاه بندر المكلف بالميناء والذي يتوصل بالواجبات ويقدم الواردين إلى الحاكم

Relations de voyages et textes gographiques arabes, persans et turcs relatifs a l\'Extreme ـ orient, II p. ٩٣٤, ٤١٩١.

(٨) لم نتمكن من تحديد معنى اللفظ وبذكر گيب انه ربما كان هناك تحريف لان حرف الحاء لا يوجد في الملايا ـ معلوم أن دولة الاسلام استقرت في شمال سمطرة قبل نهاية القرن السابع الهجري ، حيث كانت تحتوي على مدينة فاساي PASAI وسمطرة ، وقد تغلب الاسم الثاني وأعطى أخيرا إلى الجزيرة بكاملها.

١١٣

ذكر سلطان الجاوة

وهو السلطان الملك الظاهر (٩) ، من فضلاء الملوك وكرمائهم ، شافعي المذهب ، محبّ في الفقهاء ، يحضرون مجلسه للقراءة والمذاكرة ، وهو كثير الجهاد والغزو ، ومتواضع يأتي إلى صلاة الجمعة ماشيا على قدميه ، وأهل بلاده شافعية محبون في الجهاد ، يخرجون معه تطوعا ، وهم غالبون على من يليهم من الكفار ، والكفار يعطونهم الجزية على الصلح.

ذكر دخولنا إلى داره وأحسانه إلينا

ولما قصدنا إلى دار السلطان وجدنا بالقرب منه رماحا مركوزة عن جانبي الطريق هي علامة على نزول الناس فلا يتجاوزها من كان راكبا ، فنزلنا عندها ودخلنا المشور فوجدنا نائب السلطان وهو يسمّى عمدة الملك ، فقام الينا وسلّم علينا وسلامهم بالمصافحة ، وقعدنا معه ، وكتب بطاقة إلى السلطان يعلمه بذلك وختمها ودفعها لبعض الفتيان ، فأتاه الجواب على ظهرها ، ثم جاء أحد الفتيان ببقشة ، والبقشة : بضم الباء الموحدة وسكون القاف وفتح الشين المعجم ، هي السّبنية ، فأخذها النائب بيده وأخذ بيدي وأدخلني دويرة يسمونها فردخانة على وزن زردخانة (١٠) ، إلا أن أولها فاء وهي موضع راحته بالنهار ، فان العادة أن ياتي نائب السلطان إلى المشور بعد الصبح ولا ينصرف إلا بعد العشاء الآخرة ، وكذلك

__________________

(٩) السلطان المسلم الأول لسمطرة هو الملك الصالح الذي توفى عام ٦٩٦ ـ ١٢٩٧ ، وابتداء من هذا التاريخ، وفي أثناء القرن الرابع عشر تولّى عدد من الأمراء الذين خلفوا الملك الصالح ... ومن ابرز هؤلاء يوجد الملك الظاهر ملك سمطره الذي أقام عنده الرحالة المغربي سنة ١٣٤٥ أو ١٣٤٦ والذي اقتبس لقبه على ما يظهر من الملك الظاهر بيبرس.

Sumatra, Histoire des Rois de Pasey, Traduite du Malay et annotee par Aristide Marre, PARIS, ٤٧٩١, p. ٨ ـ ٩.

Rapporten van den oudheidkun diger drenst in Mederlandsch ـ Indie. ٣١٩١. Beckingham vol ٤ p. ٧٧٨.

وأشكر بهذه المناسبة زميلي المستشرق الهولاندي فان كونينكسفيلد (Van Koningsveld) على مساعدته حول ما كتبه الهولانديون الذين كانوا بتلك الجهات ...

ـ الإسلام في أرخبيل الملايو ، تأليف د. رؤوف شلبي ١٣٩٥ ـ ١٩٧٥ صفحة ٩٢.

(١٠) البقشة : كلمة تركية ، والسّبنية نسبة إلى سبن محلة ببغداد تصنع فيها الثياب انظر ج.IV ، ٤٠٤.

تعليق ٢٢٧ وفردخانه : كلمة فارسية ، فسرّها ابن بطوطة أما عن زردخانة فستاتي ٤٠٤ ,IV.

١١٤

الوزراء والأمراء الكبار وأخرج من البقشة ثلاث فوط إحداها من خالص الحرير والأخرى حرير وقطن والأخرى حرير وكتان ، وأخرج ثلاثة أثواب يسمّونها التّحتانيات من جنس الفوط ، وأخرج ثلاثة من الثياب مختلفة الاجناس تسمى الوسطانيات ، وأخرج ثلاثة أثواب من الآرمك أحدها أبيض ، وأخرج ثلاث عمائم فلبست فوطة منها عوض السراويل على عادتهم ، وثوبا من كل جنس ، وأخذ أصحابي ما بقى منها.

ثم جاءوا بالطعام أكثره الأرز ، ثم أتو بنوع من الفقاع ، ثم أتوا بالتنبول وهو علامة الانصراف ، فأخذناه وقمنا ، وقام النائب لقيامنا ، وخرجنا عن المشور فركبنا وركب النائب معنا وأتوا بنا إلى بستان عليه حائط خشب وفي وسطه دار بناؤها بالخشب ، مفروشة بقطائف قطن يسمّونها المخملات ، بالميم والخاء المعجم ، ومنها مصبوغ وغير مصبوغ ، وفي البيت أسرّة من الخيزران ، فوقها مضرّبات من الحرير ، ولحف خفاف ومخاد يسمونها البوالشت ، فجلسنا بالدار ومعنا النائب ، ثم جاء الأمير دولسة بجاريتين وخادمين ، وقال لي: يقول لك السلطان : هذه على قدرنا لا على قدر السلطان محمد (١٢)! ثم خرج النائب وبقى الأمير دولسة عندي وكانت بيني وبينه معرفة لأنه كان ورد رسولا على السلطان بدهلي ، فقلت له : متى تكون رؤية السلطان؟ فقال لي : إن العادة عندنا أن لا يسلم القادم على السلطان إلا بعد ثلاث ليذهب عنه تعب السفر ، ويثوب اليه ذهنه ، فأقمنا ثلاثة أيام يأتي إلينا الطعام ثلاث مرات في اليوم وتأتينا الفواكه والطرف مساء وصباحا ، فلما كان اليوم الرابع وهو يوم الجمعة أتاني الأمير دولسة ، فقال لي : يكون سلامك على السلطان بمقصورة الجامع بعد الصّلاة فأتيت المسجد ، وصليت به الجمعة مع حاجبه قيران ، بفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف وفتح الراء.

ثم دخلت إلى السلطان فوجدت القاضي أمير سيّد والطلبة عن يمينه وشماله ، فصافحني وسلّمت عليه ، وأجلسني عن يساره ، وسألني عن السلطان محمد ، وعن أسفاري فأجبته ، وعاد إلى المذاكرة في الفقه على مذهب الشافعي ، ولم يزل كذلك إلى صلاة العصر ، فلما صلاها دخل بيتا هنالك فنزع الثياب التي كانت عليه ، وهي ثياب الفقهاء وبها يأتي المسجد يوم الجمعة ماشيا ثم لبس ثياب الملك وهي الأقبية من الحرير والقطن.

ذكر انصرافه إلى داره وترتيب السلام عليه

ولما خرج من المسجد وجد الفيلة والخيل على بابه ، والعادة عندهم أنه إذا ركب

__________________

(١١) المخملات : تعني على ما يبدو نوعا من الزرابي الوثيرة ـ بالشت كلمة فارسية تعني الوسادة وسيمرّ بنا استعمال كلمة بالشت بمعنى ٢٥ قطعة نقدية ترقب ج.IV ، ٢٦٠ تعليق ٤٣.

(١٢) القصد إلى العاهل الهندي محمد شاه ابن تغلق سلطان دهلي سالف الذكر ...

١١٥

السلطان الفيل ركب من معه الخيل وإذا ركب الفرس ركبوا الفيلة ، ويكون أهل العلم عن يمينه ، فركب ذلك اليوم على الفيل وركبنا الخيل وسرنا معه إلى المشور ، فنزلنا حيث العادة ودخل السلطان راكبا وقد اصطف في المشور الوزراء والأمراء والكتاب وأرباب الدولة ووجوه العسكر صفوفا ، فأول الصفوف صف الوزراء والكتاب ، ووزراؤه أربعة فسلموا عليه وانصرفوا إلى موضع وقوفهم ، ثم صفّ الأمراء فسلموا ومضوا إلى مواقفهم ، وكذلك تفعل كل طائفة ، ثم صفّ الشرفاء والفقهاء ، ثم صفا لندماء والحكماء والشعراء ، ثم صف وجوه العسكر ثم صف الفتيان والمماليك ، ووقف السلطان على فيله إزاء قبة الجلوس ، ورفع فوق رأسه شطر مرصّع ، وجعل عن يمينه خمسون فيلا مزينة ، وعن شماله مثلها وعن يمينه أيضا مائة فرس وعن شماله مثلها ، وهي خيل النوبة ، ووقف بين يديه خواص الحجاب ، ثم أتى أهل الطرب من الرّجال ، فغنّوا بين يديه وأتي بخيل مجلّلة بالحرير لها خلاخيل ذهب وأرسان حرير مزركشة فرقصت الخيل بين يديه! فعجبت من شأنها ، وكنت رأيت مثل ذلك عند ملك الهند ، ولما كان عند الغروب دخل السلطان إلى داره وانصرف النّاس إلى منازلهم.

ذكر خلاف ابن أخيه وسبب ذلك.

وكان له ابن أخ متزوج ببنته فولّاه بعض البلاد ، وكان الفتى يتعشق بنتا لبعض الأمراء ويريد تزوجها ، والعادة هنالك أنه إذا كانت لرجل من الناس : أمير أو سوقى أو سواه ، بنت قد بلغت مبلغ النكاح فلا بد أن يستأمر السلطان في شأنها ، ويبعث السلطان من النساء من تنظر إليها فان أعجبته صفتها تزوجها وإلا تركها يزوجها أولياؤها ممن يشاءون. والناس هنالك يرغبون في تزوج السلطان بناتهم لما يحوزون به من الجاه والشرف ، ولما استامر والد البنت التي تعشقها ابن أخي السلطان بعث السلطان من نظر اليها وتزوّجها واشتد شغف الفتى بها ، ولم يجد سبيلا إليها.

ثم إن السلطان خرج إلى الغزو وبينه وبين الكفار مسيرة شهر فخالفه ابن أخيه إلى سمطرة ودخلها اذ لم يكن عليها سور حينئذ وادّعى الملك وبايعه بعض الناس وامتنع آخرون ، وعلم عمّه بذلك فقفل عائدا إليها فأخذ ابن أخيه ما قدر عليه من الأموال والذخائر وأخذ الجارية التي تعشّقها وقصد بلاد الكفار بمل جاوة ، ولهذا بنى عمّه السور على سمطرة ، وكانت (١٣) إقامتي عنده بسمطرة خمسة عشر يوما ثم طلبت منه السفر

__________________

(١٣) قد يكون من المفيد أن يقوم المرء بمقارنة هذا النص مع الذي ورد في كرونيك ملوك فاساي (PASAI) الذي حسب ما ورد فيه ، نجد أن السلطان أحمد قتل ، بدافع الغيرة اثنين من أولاده كانا يتنافسان على التزوج من أميرة جاوة! في أعقاب هذا الحادث انتحرت الاميرة المذكورة ، وقام والدها بتخريب العاصمة سمطرة ... وحول (مل جاوة) انظر التعليق آتي رقم ١٥.

١١٦

إذ كان أوانه (١٤) ، ولا يتهيّأ السفر إلى الصين في كل وقت ، فجهّز لنا جنكا وزوّدنا وأحسن وأجمل جزاءه الله خيرا ، وبعث معنا من أصحابه من يأتي لنا بالضيافة إلى الجنك ، وسافرنا بطول بلاده إحدى وعشرين ليلة.

ثم وصلنا إلى مل جاوة (١٥) بضم الميم ، وهي بلاد الكفار وطولها مسيرة شهرين وبها الأفاويه العطرة ، والعود الطيب القاقلي (١٦) والقماري ، وقاقلة ، وقمارة من بعض بلادها ، وليس ببلاد السلطان الظاهر بالجاوة إلا اللّبان والكافور وشيء من القرنفل وشيء من العود الهندي وانما معظم ذلك بمل جاوة ولنذكر ما شاهدناه منها ووقفنا على أعيانه وحققناه.

ذكر اللّبان

وشجرة اللّبان صغيرة تكون بقدر قامة الإنسان إلى ما دون ذلك وأغصانها كأغصان الخرشف وأوراقها صغار رقاق ، وربّما سقطت فبقيت الشجرة منها دون ورقة ، واللّبان صمغية تكون في أغصانها ، وهي في بلاد المسلمين أكثر منها في بلاد الكفار (١٨).

ذكر الكافور

وأما شجر الكافور فهي قصب كقصب بلادنا إلا أن الأنابيب منها أطول وأغلظ ، ويكون الكافور في داخل الأنابيب ، فإذا كسرت القصبة وجد في داخل الأنبوب مثل شكله من الكافور ، والسرّ العجيب فيه أنه لا يتكون في تلك القصب حتى يذبح عند أصولها شيء من الحيوان وإلا لم يتكون شيء منه!!

والطيّب المتناهي في البرودة الذي يقتل منه وزن الدرهم بتجميد الروح ، وهو المسمى

__________________

(١٤) الاشارة إلى الريح الموسمية التي لها وقت خاص ينبغي التحرك فيه.

(١٥) (مل جاوة) استوقف هذا العلم الجغرافي معظم المهتمين بخط سير ابن بطوطة ... ويرى يول ان مل جاوة تعني شبه جزيرة مالاي MALAY (ماليزيا) لكن تيبّيط دحض هذا الرأي

Tibbetts : Astudy of. Arabc Text, Leiden and London ٩٧٩١.

(١٦) قاقلة ورد ذكر هذا الموقع عند الجغرافيين العرب ويرى مصدر صيني انها تقع في ساحل إقليم Tenasserim. المفترض أن ابن بطوطة زاره وهو في طريقه إلى سمطرة ...

(١٧) قمارة (خمير) تعنى في الغالب كامبوديا ، تاريخها في هذا العهد غير معروف كما ينبغي ، ولهذا فانه من المتعذر القول : هل انها تابعة لجاوة أو جزيرة ملاي ، ويرى تيبّيط أن الحكم الجاوي على اقليم تيناسيريم (Tenasserim) وكامبوديا هو تخيّل ـ كما يحتمل ـ من البلاد الجاوي وقد تصادف سفر ابن بطوطة مع هذا الامتداد الجاوي في المنطقة ـ نذكر أخيرا اننا في المغرب نعيش مع ترديد اسم (قمار) كلما بخّرنا بالعود القماري!.

(١٨) انظر التعليق ٩٨ ، II ٢١٤

١١٧

عندهم بالحرداله ... (١٩) هو الذي يذبح عند قصبه الآدمي ، ويقوم مقام الآدمي في ذلك الفيلة الصغار.

ذكر العود الهندي

وأما العود الهندي فشجره يشبه شجر البلوط إلا أن قشره رقيق وأوراقه كأوراق البلوط سواء ، ولا ثمر له وشجرته لا تعظم كلّ العظم وعروقه طويلة ممتدة وفيها الرائحة العطرة ، وأما عيدان شجرته وورقها فلا عطرية فيها ، وكل ما ببلاد المسلمين من شجره فهو متملّك وأما الذي في بلاد الكفار فأكثره غير متملك ، والمتملك منه ما كان بقاقلة وهو أطيب العود ، وكذلك القماري هو أطيب أنواع العود ويبيعونه لأهل الجاوة بالأثواب ، ومن القماري صنف يطبع عليه كالشمع ، وأما العطاس فإنه يقطع العرق منه ويدفن في التراب أشهرا فتبقى فيه قوته وهو من أعجب أنواعه.

ذكر القرنفل

وأما أشجار القرنفل فهي عادية ضخمة وهي ببلاد الكفار أكثر منها ببلاد الإسلام ، وليست بمتملكة لكثرتها! والمجلوب إلى بلادنا منها هو العيدان ، والذي يسمّيه أهل بلادنا نوّار القرنفل هو الذي يسقط من زهره ، وهو شبيه بزهر النّارنج ، وثمر القرنفل هو جوزبوا المعروفة في بلادنا بجوزة الطيب ، والزهر المتكون فيها هو البسباسة ، رأيت ذلك كله وشاهدته (٢٠).

__________________

(١٩) هنا في معظم النسخ بياض بعد كلمة الحردالة تاتي بعده جملة تبتدىء هكذا : هو الذي يذبح ... وقد حذفت هذه الجملة من بعض النسخ الأخرى ـ الحردالة من أصل هندي HARTAL وتعني الرهج الأصفر.

هذا وقد ورد تعليق علمي كتبه مارسدن (MARSDEN) يصحح المعلومات التي أتى بها ابن بطوطة، ويتخلص التعليق في أن الشجرة التي تنتج الكافور (CAMPHOR) ، تعادل في طولها وعظمها أكبر الاشجار ... بما أن الكافور له طبيعة يابسة ، فإنه لا يخرج من الشجرة على نحو ما يخرج الصمغ ، وان العلماء بخبرتهم الطويلة يعرفون عن إمكانية احتواء الشجرة لمادة الكافور بضربها بعصي ، وفي حالة ما إذا وجدوا أنها تتوفر على المادة ، شقوها قطعا صغيرة بنحو إسفين واستخرجوا الكافور من بين الفجوات والفرج ... هذا وفي طريقي من كوالا لامبور إلى ملاكا ١٥ مارس ١٩٨٨ وقفت عند غابة كثيرة لأشجار الكافور حيث استمتعت بما تحدث به ابن بطوطة عن الكافور في هذه المناطق.

(٢٠) معلومات ابن بطوطة تحتاج إلى مراجعة في نظر بعض المعلقين وهكذا فإن الاعتقاد الشعبي في الهند الشمالية ينسب القرفة ونوار القرنفل وجوز الطيب ـ ونذكر هذا أولا بأول ـ إلى القشرة ، والى الزهرة ، والى الثمر لنفس الشجرة الواحدة ، فالبسباسة إذن ليست هي الزهر ولكنها غشاء الجوزة ـ هذا وهناك قشر لشجرة قريبة من شجرة القرنفل تدعى قرفة لان لها رائحة قريبة من القرنفل تستعمل أيضا كتابل من التوابل ... تذكرني هذه التعقيبات في مقدمة منتقي البيلوني وهي تقول : وبعض ما نقله قد يخالف ما ذكره غيره كما في وصفه بعض ما شاهده من عقاقير الهند فان بعضه مخالف لما ذكره الأطباء في وصفها والظن بالشيخ الصّدق"

١١٨

ووصلنا إلى مرسى قاقله فوجدنا به جملة من الجنوك معدة للسرقة ، ولمن يستعصى عليهم من الجنوك ، فإن لهم على كلّ جنك وظيفة ، ثم نزلنا من الجنك إلى مدينة قاقلة وهي بقافين أخرهما مضموم ولامها مفتوح ، وهي مدينة حسنة عليها سور من حجارة منحوتة ، عرضه بحيث تسير فيه ثلاثة من الفيلة! وأول ما رأيت بخارجها الفيلة عليها الأحمال من العود الهندي يوقدونه في بيوتهم ، وهو بقيمة الحطب عندنا ، أو أرخص ثمنا ، هذا اذا ابتاعوا فيما بينهم ، وأما للتجار فيبيعون الحمل منه بثوب من ثياب القطن ، وهي أغلى عندهم من ثياب الحرير.

والفيلة بها كثيرة جدا ، عليها يركبون ويحملون ، وكلّ إنسان يربط فيلته على بابه وكلّ صاحب حانوت يربط فيله عنده ، ويركبه إلى داره وتحمل ، وكذلك جميع أهل الصين والخطا على مثل هذا الترتيب (٢١).

ذكر سلطان مل جاوة

وهو كافر رأيته خارج قصره جالسا على قبة ليس بينه وبين الأرض بساط ، ومعه أرباب دولته والعساكر يعرضون عليه مشاة ، ولا خيل إلا عند السلطان ، وانما يركبون الفيلة ، وعليها يقاتلون ، فعرف شأني ، فاستدعاني فجئت وقلت : السلام على من اتبع الهدى ، فلم يفقهوا إلا لفظ السلام! فرحّب بي ، وأمر أن يفرش لي ثوب أقعد عليه ، فقلت للترجمان : كيف أجلس على الثوب والسلطان قاعد على الأرض؟ فقال : هكذا عادته يقعد على الأرض تواضعا ، وأنت ضيف ، وجئت من سلطان كبير ، فيجب إكرامك ، فجلست وسألني عن السلطان ، فأوجز في سؤاله ، وقال لي : تقيم عندنا في الضيافة ثلاثة أيام ، وحينئذ يكون انصرافك.

ذكرى عجيبة رأيتها بمجلسه

ورأيت في مجلس هذا السلطان رجلا بيده سكين شبه سكين المسفّر قد وضعه على رقبة نفسه ، فوقع رأسه لحدة السكين وشدّة امساكه بالارض ، فعجبت من شأنه ، وقال لي السلطان : أيفعل أحد هذا عندكم؟ فقلت له : ما رأيت هذا قط! فضحك ، وقال : هؤلاء عبيدنا يقتلون أنفسهم في محبّتنا!! وأمر به فرفع وأحرق ، وخرج لإحراقه النواب وأرباب الدولة

__________________

(٢١) حديث ابن بطوطة عن استعمال أهل الصين والخطا للفيل على نحو ما هو في الهند ، حرك بعض المعلقين الذين قالوا: ان الفيل انما يستعمله المغول (الحكام في الصين) للأغراض الحربية واحيانا في بعض الجهات الجنوبية ، بلاد الخطا (Cathey) التي تعني شمال الصين لم تكن تابعة لحكم دولة سونك الى أن اتم قوبيلاي Qubilai فتحه للبلاد كلها ـ السّرقة هنا تعني القرصنة.

١١٩

١٢٠