رحلة ابن بطوطة - ج ٣

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ٣

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-009-5
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٢٥٥

وتاريخه سنة تسع وتسعين (١٥) ، وعليه مكتوب بخط أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز : الحمد لله وحده (١٦) ، على ما أخبرني الخطيب المذكور.

ولقيت بها أيضا الشيخ المعمّر محمد البغدادي ، وهو بالزاوية التي على قبر الشيخ الصالح عثمان المرندي وذكر أن عمره يزيد على مائة وأربعين سنة ، وأنه حضر لقتل المستعصم بالله آخر خلفاء بني العباس رضي‌الله‌عنهم لما قتله الكافر هلاون بن تنكيز التّتري ، وهذا الشيخ على كبر سنه قوي الجثّة يتصرف على قدميه.

* حكاية [الجلود المصلوبة] :

كان يسكن بهذه المدينة الأمير ونار السامري الذي تقدم والأمير قيصر الرّومي ، وهما في خدمة السلطان ومعهما نحو ألف وثمانمائة فارس ، وكان يسكن بها كافر من الهنود اسمه رتن ، بفتح الراء وبفتح التاء المعلوة والنون ، وهومن الحذّاق بالحساب والكتابة ، فوفد على ملك الهند مع بعض الأمراء فاستحسنه السلطان وسماه عظيم السند ، وولاه بتلك البلاد وأقطعه سيوستان وأعمالها ، وأعطاه المراتب ، وهي الأطبال والعلامات كما يعطي كبار الأمراء.

فلما وصل إلى تلك البلاد عظم على ونار وقيصر وغيرهما تقديم الكافر عليهم فأجمعوا على قتله. فلما كان بعد أيام من قدومه أشاروا عليه بالخروج إلى أحواز المدينة ليتطلّع على أمورها فخرج معهم ، فلما جنّ الليل أقاموا ضجة بالمحلة (١٧) وزعموا أن السبع ضرب عليها ، وقصدوا مضرب الكافر ، فقتلوه وعادوا إلى المدينة ، فأخذوا ما كان بها من مال

__________________

(١٥) لم يكن غريبا علينا اهتمام عمر بن عبد العزيز بأمر المساجد سيما ونحن نعلم أنه هو الذي اشتغل على مسجد الرسول عليه الصلوات في المدينة المنورة بعد أن استجاب ملك الروم للسفارة التي بعث بها الوليد بن عبد الملك إلى بيزنطة عام ٨٨ ه‍ ـ لطلب الخبرة الفنية. المقريزي الذهب المسبوك القاهرة ١٩٥٥ ص ٣٠ ولهذا لا أرى مبررا لاستبعاد الزميل گيب أن تصدر هذه الوثيقة عام ٩٨ ه‍ من الخليفة عمر عبد العزيز حول هذا الموضوع!

(١٦) من المحتمل جدا أن علامة توقيع خلفاء الدولة الموحدية بالمغرب ، والتي هي : (والحمد لله وحده) التي كانوا يكتبونها بخط أيديهم. من المحتمل أن تكون مستوحاة من توقيع أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الذي كان يكتب بخط يده كما نرى : الحمد لله وحده ...

(١٧) يعتبر ابن بطوطة المصدر الوحيد لهذه الثورة ، ويظهر أن هناك علاقة لصعود أسرة راجبوت ساماrajput samma للحكم بإقليم السند حيث كوّنت سلسلة حكام يحملون لقب جام كان أولهم جام ونار.

القصد بهلاون هولاگو.gibb : the travels iii p.٩٩٥ ـ note ١٢ ـ houlagou

٨١

السلطان وذلك اثنا عشر لكا ، واللّك : مائة ألف دينار ، وصرف اللّك عشرة آلاف دينار من ذهب الهند ، وصرف الدينار الهندي ديناران ونصف دينار من ذهب المغرب (١٨) ، وقدّموا على أنفسهم ونار المذكور ، وسموه ملك فيروز ، وقسم الأموال على العسكر ، ثم خاف على نفسه لبعده عن قبيلته ، وقدم الباقون من العسكر على أنفسهم قيصر الرومي.

واتصل خبرهم بعماد الملك سرتيز مملوك السلطان ، وهو يومئذ أمير أمراء السند ، وسكناه بملتان ، فجمع العساكر وتجهز في البر وفي نهر السند ، وبين ملتان وسيوستان عشرة أيام ، وخرج إليه قيصر فوقع اللقاء ، وانهزم قيصر ، ومن معه أشنع هزيمة وتحصنوا بالمدينة ، فحصرهم ونصب المجانيق عليهم واشتد الحصار ، فطلبوا الأمان بعد أربعين يوما من نزوله عليهم ، فأعطاهم الأمان ، فلما نزلوا إليه غدرهم وأخذ أموالهم وأمر بقتلهم ، فكان كل يوم يضرب أعناق بعضهم ، ويوسّط بعضهم ، ويسلخ آخرين منهم ، ويملأ جلودهم تبنا ويعلقها على السور فكان معظمه عليه تلك الجلود مصلوبة ترعب من ينظر إليها ، وجمع رؤوسهم في وسط المدينة فكانت مثل التل هنالك! ونزلت بتلك المدينة إثر هذه الوقيعة بمدرسة فيها كبيرة ، وكنت أنام على سطحها فإذا استيقظت من الليل أرى تلك الجلود المصلوبة فتشمئز النفس منها ، ولم تطب نفسي بالسكنى بالمدرسة ، فانتقلت عنها ، وكان الفقيه الفاضل العادل علاء الملك الخراساني المعروف بفصيح الدين قاضي هراة في متقدم التاريخ ، قد وفد على ملك الهند فولاه مدينة لاهري وأعمالها من بلاد السند ، وحضر هذه الحركة مع عماد الملك سرتيز بمن معه من العساكر فعزمت على السفر معه إلى المدينة لاهري وكان له خمسة عشر مركبا قدم بها في نهر السند تحمل أثقاله فسافرت معه.

ذكر السفر في نهر السند وترتيب ذلك

وكان للفقيه علاء الملك في جملة مراكبه مركب يعرف بالأهورة ، بفتح الهمزة والهاء وسكون الواو وفتح الراء ، وهي نوع من الطريدة عندنا ، إلا أنها أوسع منها وأقصر (١٩) ،

__________________

(١٨) كانت العملة المستعملة من لدن مملكة دهلي تتكون على ذلك العهد بصفة أساسية من عملتين أثنتين تسميان معا تنكاtanka : واحدة ذهبية تزن تسعة گرامات ، والثانية فضية تزن ٣ ، ٩ الأولى تساوي رسميا عشر مرات قيمة الثانية ، وابن بطوطة يسمي الأولى تنكا ، والثانية يسميها دينار.

mahdi husain : muhammad b. tughluq, london ٨٣٩١ p. ٣٣٢ ـ ٨٣٢.

(١٩) هكذا في النص العربي : طريدة ، وهو ما يعني نوعا من السفن المستعملة في البحر المتوسط يحمل الخيول والبضائع الثقيلة (٧٠١ ,iv). يختلف تمام الاختلاف عما ترجم به الناشران. (tartane)) d.s. (الذي يعني مركبا خفيفا له صاري واحد يسميه الهنود هورى : huri : مركب للصيد.

هنا يبتدئ ابن بطوطة رحلته النهرية ، في انتظار وصول الإذن له بدخول الهند ويخترق بلاد السند عن طريق هذا النهر الذي يحمل اسم السند ، مسافة طويلة نحو الجنوب.

٨٢

٨٣

وعلى نصفها معرّش من خشب يصعد له على درج ، وفوقه مجلس مهيأ لجلوس الأمير ويجلس أصحابه بين يديه ويقف المماليك يمنة ويسرة والرجال يقذّفون وهم نحو أربعين ، ويكون من هذه الأهورة أربعة من المراكب عن يمينها ويسارها اثنان منها فيها مراتب الأمير ، وهي العلامات والطبول والأبواق والأنفار والصّرنايات ، وهي الغيطات ، والآخران فيهما أهل الطرب ، فتضرب الطبول والأبواق نوبة ، ويغني المغنون نوبة ، ولا يزالون كذلك من أول النهار إلى وقت الغداء.

فإذا كان وقت الغداء انضمّت المراكب واتصل بعضها ببعض ووضعت بينهما الإصقالات (٢٠) وأتى أهل الطرب إلى أهورة الأمير فيغنون إلى أن يفرغ من أكله ، ثم ياكلون ، وإذا انقضى الأكل عادوا إلى مركبهم ، وشرعوا أيضا في المسير على ترتيبهم إلى الليل ، فإذا كان الليل ضربت المحلة على شاطىء النهر ونزل الأمير إلى مضاربه ، ومدّ السّماط وحضر الطعام معظم العسكر ، فإذا صلوا العشاء الأخيرة سمر السمّار بالليل نوبا ، فإذا أتم أهل النوبة من نوبتهم نادى مناد منهم بصوت عال : يا خوند ملك ، قد مضى من الليل كذا من الساعات ، ثم يسمر أهل النوبة الأخرى فإذا أتموه نادى مناديهم أيضا معلما بما مرّ من الساعات ، فإذا كان الصبح ضربت الأبواق والطبول وصليت صلاة الصبح وأتي بالطعام ، فإذا فرغ الأكل أخذوا في المسير ، فإن أراد الأمير ركوب النهر ركب على ما ذكرناه من الترتيب ، وإن أراد المسير في البرّ ضربت الأطبال والأبواق وتقدم حجابه ثم تلاهم المشّاؤون بين يديه ، ويكون بين أيدي الحجاب ستة من الفرسان عند ثلاثة منهم أطبال قد تقلدوها وعند ثلاثة صرّنايات فإذا أقبلوا على قرية أو ما هو من الأرض مرتفع ضربوا تلك الأطبال والصّرنايات ، ثم تضرب أطبال العسكر وأبواقه ، ويكون عن يمين الحجّاب ويسارهم المغنون ويغنون نوبا ، فإذا كان وقت الغداء نزلوا.

وسافرت مع علاء الملك خمسة أيام ، ووصلنا إلى موضع ولايته وهو مدينة لاهري ،

__________________

(٢٠) الاصقالات : ألواح تنصب بين المراكب للمرور عليها ، واللفظ له صلة بكلمة الصقالات ج (صقالة) : البرج ، وقد ورد ذكر هذا اللفظ في كتب التاريخ المغربي ويقصد بها شبه بروج تربط الصلة مع قطع الأسطول ... والكلمة من أصل إيطالي (scala).

ـ ابن علي الدكالي : الاتحاف الوجيز ، ص ٦٥ ، منشورات الخزانة الصبيحية ، ١٤٠٦.

٨٤

وضبط اسمها بفتح الهاء وكسر الراء ، مدينة حسنة على ساحل البحر الكبير (٢١) ، وبها يصب نهر السند في البحر فيلتقي بها بحران ، ولها مرسى عظيم يأتي إليه أهل اليمن وأهل فارس وغيرهم، وبذلك عظمت جباياتها ، وكثرت أموالها. أخبرني الأمير علاء الملك المذكور أن مجبا هذه المدينة ستون لكا في السنة ، وقد ذكرنا مقدار اللّك ، وللأمير من ذلك نم ده يك ، ومعناه نصف العشر ، وعلى ذلك يعطي السلطان البلاد لعمّاله يأخذون منها لأنفسهم نصف العشر.

ذكر غريبة رأيتها بخارج هذه المدينة.

وركبت يوما مع علاء الملك فانتهينا إلى بسيط من الأرض على مسافة سبعة أميال منها يعرف بتارنا ، فرأيت هنالك ما لا يحصره العدّ من الحجارة مثل صور الآدميين والبهائم (٢٢) ، وقد تغير كثير منها ودثرت أشكاله فيبقى منه صورة رأس أو رجل أو سواهما ، ومن الحجارة أيضا صور الحبوب من البر والحمّص والفول والعدس ، وهنالك آثار سور وجدران دور ، ثم رأينا رسم دار فيها بيت من حجارة منحوتة وفي وسطه دكانة حجارة منحوتة كأنها حجر واحد ، عليها صورة أدمي إلا أن رأسه طويل ، وفمه في جانب من وجهه ، ويداه خلف ظهره كالمكتوف.

وهنالك مياه شديدة النتن ، وكتابة على بعض الجدران بالهندي ، وأخبرني علاء الملك أن أهل التاريخ يزعمون أن هذا الموضع كانت فيه مدينة عظيمة ، أكثر أهلها الفساد فمسخوا حجارة! وأن ملكهم هو الذي على الدكانة في الدار التي ذكرناها وهي إلى الآن تسمى دار الملك وأن الكتابة التي في بعض الحيطان هنالك بالهندي هي تاريخ هلاك أهل تلك المدينة وكان ذلك منذ ألف سنة أو نحوها.

__________________

(٢١) العاصمة لاهري (lahari) هذه المدينة المعروفة تحت اسم لارّ بندرlarrybunder توجد على بعد ٢٨ ميلا ، جنوب شرقي كراتشي حيث يصب نهر السند في بحر العرب (أنظر الخريطة) ، وبمرور الأيام عوضتها (أي لاهري) حوالي سنة ١٨٠٠ شهبندر ، ثم كراتشي أقصى الجنوب عند مصب نهر السند في بحر العرب ولم تلبث أن تحولت العاصمة إلى أقصى الشمال تحت اسم اسلام أباد غرب المنطقة المتنازع عليها مع الهند : كاشمير ... هذا وكلّ المخطوطات التي نتوفر عليها تحمل بوضوح تام هذه العبارة (نم ده يك) على نحو ما يوجد في المخطوطات الباريزية ، ويرى الأستاذان الناشران d.s. أن يكون هكذا : (ده يك) التي تعني العشر ... ويستدلان على هذا الاجتهاد منهما بما ورد في بعض المصادر الفارسية التي تتحدث عن ده يك iii ، (٤٥٩ تعليق ١١٢ من.d.s).

(٢٢) حول تارنا : التعريف الوحيد الممكن هو أن نقول إن القصد إلى الأطلال المسماة : موراماري (mora) (mari) التي تقع على بعد ثمانية أميال شمال شرق لاهري.

٨٥

٨٦

وأقمت بهذه المدينة مع علاء الملك خمسة أيام ثم أحسن في الزاد وانصرفت عنه إلى مدينة بكار (٢٣) ، بفتح الباء الموحدة ، وهي مدينة حسنة يشقها خليج من نهر السند ، وفي وسط ذلك الخليج زاوية حسنة فيها الطعام للوارد والصادر عمّرها كشلوخان أيام ولايته على بلاد السند ، وسيقع ذكره.

ولقيت بهذه المدينة الفقيه الإمام صدر الدين الحنفي ، ولقيت بها قاضيها المسمى بأبي حنيفة ، ولقيت بها الشيخ العابد الزاهد شمس الدين محمد الشيرازي وهو من المعمّرين : ذكر لي أن سنه يزيد على مائة وعشرين عاما.

ثم سافرت من مدينة بكار فوصلت إلى مدينة أوجه (٢٤) ، وضبط اسمها بضم الهمزة وفتح الجيم ، وهي مدينة كبيرة على نهر السند ، لها أسواق حسنة وعمارة جيدة ، وكان الأمير بها إذ ذاك الملك الفاضل الشريف جلال الدين الكيجي أحد الشجعان الكرماء ، وبهذه المدينة توفي بعد سقطة سقطها عن فرسه.

مكرمة لهذا الملك

ونشأت بيني وبين هذا الملك الشريف جلال الدين مودة ، وتأكدت بيننا الصحبة والمحبة، واجتمعنا بحضرة دهلي ، فلما سافر السلطان إلى دولة أباد ، كما سنذكره ، وأمرني بالإقامة بالحضرة ، قال لي جلال الدين ، إنك تحتاج إلى نفقة كبيرة ، والسلطان تطول غيبته فخذ قريتي واستغلها حتى أعود ، ففعلت ذلك واستغللت منها نحو خمسة آلاف دينار جزاه الله أحسن جزائه.

ولقيت بمدينة أوجه الشيخ العابد الزاهد الشريف قطب الدين حيدر العلوي (٢٥) ، وألبسني الخرقة ، وهو من كبار الصالحين ولم يزل الثوب الذي ألبسنيه معي إلى أن سلبني كفار الهنود في البحر (٢٦).

__________________

(٢٣) بكار القصد إلى جزيرة ـ بهاخار (bhakhar) جزيرة محصنة على نهر السند تقع بين مدينة سكورsukkur ومدينة روهري rohri على بعد ١١٠ أميال ، من سيبوستان (sehwan) سالفة الذكر.

(٢٤) أوجه (uch) على طريق ملتان جنوبها وفي غرب ولاية بها ولبور (أنظر الخريطة)(bahawalpur) كانت على ذلك العهد مركزا إسلاميا هاما تحتضن ، فيمن تحتضنه الشيخ جلال الدّين البخاري (١٢٩٩ ـ ١٢٩١) وهو من عيون السّهروردية ...

(٢٥) لم نقف على ترجمة حيدر العلوي ، كما ولا نعرف إلى أي طريقة صوفية ينتسب ولو أننا نعرف أن مدينة (أوجه) كان مركزا للسّهروردية ، والنسبة إلى الإمام على كرم الله وجهه لا تعني بالضرورة إنه منحدر من فاطمة الزهراء بنت الرسول عليه الصلوات فقد كان للإمام عليّ زوجات أخر ...

(٢٦) يتحدث هنا عن سلبه في البحر بينما يتحدث في (٠١ ,iv) عن سلّبه في الغاب ...

٨٧

ثم سافرت من مدينة أوجة إلى مدينة ملتان (٢٧) ، وضبط اسمها بضم الميم وتاء معلوة ، وهي قاعدة بلاد لسند ومسكن أمير أمرائه ،

وفي الطريق إليها على مسافة عشرة أميال منها الوادي المعروف بخسروآباد ، وهو من الأودية الكبار لا يجاز إلا في المركب (٢٨) ، وبه يبحث عن أمتعة المجتازين أشد البحث ، وتفتش رحالهم ، وكانت عادتهم في حين وصولنا إليها أن يأخذوا الرّبع من كل ما يجلبه التجار ويأخذوا على كل فرس سبعة دنانير مغرما ، ثم بعد وصولنا للهند بسنتين رفع السلطان تلك المغارم (٢٩) ، وأمر أن لا يوخذ من الناس إلا الزكاة والعشر لما بايع للخليفة أبي العباس العباسي.

ولما أخذنا في إجازة هذا الوادي وفتشت الرحال عظم عليّ تفتيش رحلي لأنه لم يكن فيه طائل ، وكان يظهر في أعين الناس كبيرا فكنت أكره أن يطّلع عليه ، ومن لطف الله تعالى أن وصل أحد كبار الأجناد من جهة قطب الملك صاحب ملتان ، فأمر أن لا يعرض لي ببحث ولا تفتيش فكان كذلك ، فحمدت الله على ما هيأه لي من لطائفه.

وبتنا تلك الليلة على شاطىء الوادي ، وقدم علينا في صبيحتها ملك البريد واسمه دهقان وهو سمرقندي الأصل ، وهو الذي يكتب للسلطان بأخبار تلك المدينة وعمالتها وما يحدث بها ومن يصل إليها ، فتعرفت به ، ودخلت في صحبته إلى أمير ملتان.

ذكر أمير ملتان وترتيب حاله

وأمير ملتان هو قطب الملك من كبار الأمراء وفضلائهم ، ولما دخلت عليه قام إليّ وصافحني وأجلسني إلى جانبه ، وأهديت له مملوكا وفرسا وشيئا من الزّبيب واللوز وهو من أعظم ما يهدى إليهم لأنه ليس ببلادهم ، وإنما يجلب من خراسان.

__________________

(٢٧) ملتان (multan) أعتنقت منذ الفتوحات الأولى دين الإسلام عام ٩٤ ه‍ ـ ٧١٣ م وقد أصبحت أحد المراكز الإسلامية في السند ـ كانت عاصمة للسند أيام ابن بطوطة ، وتقع ضمن البنجاب.

(٢٨) وادي خسرو آباد يقصد به وادي (راوي ravi) أحد الأودية الخمس لنهر الهند يمر على مقربة من لاهور منطقة البنجاب ولم نعرف معنى الاسم الغريب الذي أورده ابن بطوطة للوادي : خسرو أباد.

(٢٩) يلاحظ المعلقون أن هذا المرسوم أو الظهير إنما صدر بتاريخ ٧٤١ ـ ١٣٤١ وليس سنتين بعد وصول ابن بطوطة للهند ، على أن «الخليفة العباسي» المشار إليه إنما عين خليفة في الأيام الأخيرة لهذه السنة صيف ١٣٤١. هذا وينبغي التنبيه إلى أن عبارة (سنتين) ، تقتضي تعويضها بكلمة (سنين) فإن لم تكن هفوة من الناسخ فهي سهو من ابن بطوطة!

٨٨

٨٩

وكان جلوس هذا الأمير على دكانة كبيرة ، عليها البسط وعلى مقربة منه القاضي ، ويسمى سالار ، والخطيب ولا أذكر اسمه ، وعن يمينه ويساره أمراء الأجناد وأهل السلاح وقوف على رأسه والعساكر تعرض بين يديه.

وهنالك قسيّ كثيرة ، فإذا أتى من يريد أن يثبت في العسكر راميا أعطى قوسا من تلك القسي ينزع فيها ، وهي متفاوتة في الشدة فعلى قدر نزعه يكون مرتّبه ، ومن أراد أن يثبّت فارسا فهنالك طبلة منصوبة فيجري فرسه ويرميها برمحه ، وهنالك أيضا خاتم معلّق من حائط صغير فيجري فرسه حتى يحاذيه ، فإن رفعه برمحه فهو الجيّد عندهم ، ومن أراد أن يثبّت راميا فارسا فهنالك كرة موضوعة في الأرض فيجري فرسه ويرميها ، وعلى قدر ما يظهر من الإنسان في ذلك من الإصابة يكون مرتّبه.

ولما دخلنا على هذا الأمير وسلّمنا عليه كما ذكرناه أمر بإنزالنا في دار خارج المدينة هي لأصحاب الشيخ العابد ركن الدين الذي تقدم ذكره ، وعادتهم أن لا يضيفوا أحدا حتى يأتي أمر السلطان بتضييفه.

ذكر من اجتمعت به في هذه المدينة من الغرباء الوافدين على حضرة ملك الهند.

فمنهم خذاوند زاده قوام الدين قاضي ترمذ ، قدم بأهله وولده ، ثم ورد عليه بها إخوته عماد الدين وضياء الدين وبرهان الدين ، ومنهم مبارك شاه أحد كبار سمرقند ، ومنهم أرن بغا أحد كبار بخارى ، ومنهم ملك زاده ابن أخت خذاوند زاده ، ومنهم بدر الدين الفصّال ، وكل واحد من هؤلاء معه أصحابه وخدّامه واتباعه.

ولما مضى من وصولنا إلى ملتان شهران وصل أحد حجّاب السلطان وهو شمس الدين البوشنجي والملك محمد الهروي الكتوال (٣٠) ، بعثهما السلطان لاستقبال خذاوند زاده وقدم معهم ثلاثة من الفتيان بعثتهم المخدومة جهان ، وهي أم السلطان ، لاستقبال زوجة خذاوند زاده المذكور وأتوا بالخلع لهما ولأولادهما ولتجهيز من قدم من الوفود ، وأتوا جميعا إليّ وسألوني : لماذا قدمت؟ فأخبرتهم أني قدمت للإقامة في خدمة خوند عالم وهو السلطان وبهذا يدعى في بلاده.

__________________

(٣٠) حول ركن الدين انظرIII ، ١٠١ ـ حول برهان الدّين أنظرIII ، ٥٨ ـ الكتوال تعبير أردو يعني رئيس الشرطة.

٩٠

وكان أمر أن لا يترك أحد ممن يأتي من خراسان يدخل بلاد الهند إلا إن كان برسم الإقامة ، فلما أعلمتهم أني قدمت للإقامة استدعوا القاضي والعدول وكتبوا عقدا عليّ وعلى من أراد الإقامة من أصحابي وأبى بعضهم من ذلك.

وتجهّزنا للسفر إلى الحضرة ، وبين ملتان وبينها مسيرة أربعين يوما في عمارة متصلة وأخرج الحاجب وصاحبه الذي بعث معه ما يحتاج إليه في ضيافة قوام الدين واستصحبوا من ملتان نحو عشرين طبّاخا وكان الحاجب يتقدم ليلا إلى كل منزل ، فيجهّز الطعام وسواه فما يصل خذاوند زاده حتى يكون الطّعام متيسّرا ، وينزل كل واحد ممن ذكرناهم من الوفود على حدة بمضاربه وأصحابه ، وربّما حضروا الطعام الذي يصنع لخذاوند زاده ، ولم أحضره أنا إلا مرة واحدة.

وترتيب ذلك الطعام أنهم يجعلون الخبز ، وخبزهم الرّقاق ، وهو شبه الجراديق ، ويقطعون اللّحم المشوي قطعا كبارا بحيث تكون الشاة أربع قطع أو ستّا ، ويجعلون أمام كل رجل قطعة ويجعلون أقراصا مصنوعة بالسّمن تشبه الخبز المشرّك (٣١) ببلادنا ، ويجعلون في وسطها الحلواء الصّابونية (٣٢) ، ويغطون كل قرص منها برغيف حلواء يسمونه الخشتي ومعناه الأجري ، مصنوع من الدقيق والسكر والسمن ، ثم يجعلون اللحم المطبوخ بالسمن والبصل والزنجبيل الأخضر في صحاف صينية ، ثم يجعلون شيئا يسمونه سموسك (٣٣) ، وهو لحم مهروس مطبوخ باللوز والجوز والفستق والبصل والأبازير ، موضوع في جوف رقاقة مقلوّة بالسمن ، يضعون أمام كل إنسان خمس قطع من ذلك أو أربعا ، ثم يجعلون الأرز المطبوخ بالسمن وعليه الدجاج ، ثم يجعلون لقيمات القاضي ويسمونها الهاشمي ثم يجعلون القاهرية.

ويقف الحاجب على السّماط قبل الأكل ويخدم إلى الجهة التي فيها السلطان ، ويخدم جميع من حضر لخدمته ، والخدمة عندهم حطّ الرأس نحو الركوع ، فإذا فعلوا ذلك جلسوا

__________________

(٣١) الجرادق ج. جردق وجردقة : الرغيف ، والقصد بالخبز المشرّك : المقسوم إلى شطرين ويحشى بالسمن ونحوه من عسل وخليع ...

(٣٢) الصابونية نوع من الحلوى المصرية تركيبها من اللوز والفستق والنشاء والعسل وزيت السمسم. ويظهر أن من هذه التركيبة اقتبس أهل فارس حلواهم المعروفة في القديم تحت اسم (الفالوذج) ، وقد ورد ذكرها عند تفسير الإمام النسفي للآية الشريفة : [يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيبات ما أحلّ الله لكم] سورة المائدة ٨٨ د. التازي : الماء والغذاء والإنسان في التراث الإسلامي ، أكاديمية المملكة المغربية ـ ١٩٨٢ ١٤٠٢.

(٣٣) من أصل فارسي :(sanbusa) وهي على شكل مثلث على نحو ما نسمّيه في المغرب (البريوات) جمع بريوة : تصغير براءة : الرسالة الصغيرة أطلق عليها تشبيها لأنها تطوى على وافي داخلها من لوز ونحوه.

٩١

٩٢

للأكل ، ويوتى بأقداح الذهب والفضة والزجاج مملوءة بماء النبات ، وهو الجلّاب محلولا في الماء، ويسمون ذلك الشّربة ، ويشربونه قبل الطعام ، ثم يقول الحاجب بسم الله فعند ذلك يشرعون في الأكل فإذا أكلوا أتوا بأكواز الفقّاع (٣٤) ، فإذا شربوه أتوا بالتّنبول والفوفل ، وقد تقدم ذكرهما ، فإذا أخذوا التنبول والفوفل قال الحاجب : بسم الله فيقومون ويخدمون مثل خدمتهم أولا وينصرفون.

وسافرنا من مدينة ملتان ، وهم يجرون هذا الترتيب على حسب ما سطّرناه إلى أن وصلنا إلى بلاد الهند ، وكان أول بلد دخلناه مدينة أبوهر (٣٥) ، بفتح الهاء ، وهي أول تلك البلاد الهندية ، صغيرة حسنة كثيرة العمارة ، ذات أنهار وأشجار.

وليس هنالك من أشجار بلادنا شيء ما عدا النّبق (٣٦) ، لكنه عندهم عظيم الجرم ، وتكون الحبة منه بمقدار حبة العفص ، شديد الحلاوة ، ولهم أشجار كثيرة ليس يوجد منها شيء ببلادنا ولا بسواها!

ذكر أشجار بلاد الهند وفواكهها.

فمنها العنبة (٣٦) ، بفتح العين وسكون النون وفتح الباء الموحدة ، وهي شجرة تشبه أشجار النارنج إلا أنها أعظم أجراما وأكثر أوراقا وظلها أكثر الظلال غير أنه ثقيل ، فمن نام تحته وعك ، وثمرها على قدر الإجاص الكبير ، فإذا كان أخضر قبل تمام نضجه أخذوا ما سقط منه وجعلوا عليه الملح وصيّروه كما يصيّر اللّيم (٣٧) والليمون ببلادنا ، وكذلك يصيّرون

__________________

(٣٤) الفقّاع عند المغاربة ـ هو الفطر أو الكمأة فيبدوا هنا أنّه شراب يتخذ من هذا النبات ، وقد جهل بعض التراجمة معنى الفقاع عندنا فأخذوا يفترضون أنه نبيذ الشعير : الجعةla biere! الأمر الذي يتنافى والحقيقة ، ونحن نعلم عن رأى أهل الهند في الملوك الذين يشربون الخمر وأنهم غير جديرين بالملك! أخبار الصين والهند ٢٣٧ ص ٢٣٢.

(٣٥) أبوهر (abuhar) على مقربة من الحدود الهندية الباكستانية اليوم في إقليم فيروزبورferozepur في البنجاب جنوب مدينة لاهور (انظر الخريطة) ... يوخذ على ابن بطوطة أنه ارتكب خطأ بذكر هذه المدينة قبل مدينة أجودهن آتية الذكر. د. التازي مع ابن بطوطة في بلاد الهند والسند. دعوة الحق عدد ٢٨٧ ـ ٢٩٣ مصدر سابق.

(٣٦) يشرع ابن بطوطة هنا في تقديم معلومات عن النبات في الهند ، ابتدأها بالنبق الذي هو ثمر السدرة الشائكة المعروفة بقصرها. وهو يصغر في الحجم ما يوجد في الهند مما يعرف عندنا باسم الزفزف (jubjub) ، وإلى جانب النبق ذكر العنبة أخذا من التعبير الهندى amb وتعرف في اللغة الأنجليزية تحت اسم مانكو محرفة عن الاسم بلغة التاميل مانكاي (mankay) إلى آخر اللائحة.

(٣٧) ما يسمى بالمغرب بالليمون الدق أي الدقيق الحجم ، وتصبيره ـ أو «تصييره» كما نقول في المغرب ـ ضروري لدى بعض العائلات وهذا اللّيمون يعرف في بلاد الخليج : (نومي بصرة) انظر سليم النعيمي ...

٩٣

أيضا الزنجبيل الأخضر ، وعناقيد الفلفل ويأكلون ذلك مع الطعام يأخذون بإثر كل لقمة يسيرا من هذه المملوحات ، فإذا نضجت العنبة في أوان الخريف ، إصفرّت حباتها فأكلوها كالتفاح ، فبعضهم يقطعها بالسكّين ، وبعضهم يمصها مصّا ، وهي حلوة يمازج حلاوتها يسير حموضة ، ولها نواة كبيرة يزرعونها فتنبت منها الأشجار كما تزرع نوى النارنج وغيرها.

ومنها الشّكي والبركي (٣٨) ، بفتح الشين المعجم وكسر الكاف ، وفتح الباء الموحدة وكسر الكاف أيضا ، وهي أشجار عادية أوراقها كأوراق الجوز ، وثمرها يخرج من أصل الشجرة فما اتصل منه بالأرض فهو البركي وحلاوته أشد ومطعمه أطيب ، وما كان فوق ذلك فهو الشكّي ، وثمره يشبه القرع الكبار ، وجلوده تشبه جلود البقر ، فإذا اصفرّ في أوان الخريف ، قطعوه وشقّوه فيكون في داخل كلّ حبّة المائة والمائتان فما بين ذلك من حبات تشبه الخيار ، بين كل حبة وحبة صفاق أصفر اللون ، ولكل حبة نواة تشبه الفول الكبير ، وإذا شويت تلك النواة أو طبخت يكون طعمها كطعم الفول ، إذ ليس يوجد هنالك ، ويدخرون هذه النّوى في التراب الأحمر فتبقى إلى سنة أخرى ، وهذا الشّكي والبركي هو خير فاكهة ببلاد الهند.

ومنها التّندو ، بفتح التاء المثناة وسكون النون وضم الدال ، وهو ثمر شجر الآبنوس ، وحباته في قدر حبات المشمش ولونها ، شديد الحلاوة.

ومنها الجمون (٣٩) ، بضم الجيم المعقودة ، وأشجاره عادية ، ويشبه ثمره الزيتون وهو أسود اللّون ونواه واحدة كالزيتون.

ومنها النارنج الحلو ، وهو عندهم كثير ، وأما النّارنج الحامض فعزيز الوجود ، ومنه صنف ثالث يكون بين الحلو والحامض وثمره على قدر اللّيم وهو طيب جدا وكنت يعجبني أكله!.

ومنها المهوا (٤٠) ، بفتح الميم والواو ، وأشجاره عادية وأوراقه كأوراق الجوز إلا أن فيها حمرة وصفرة ، وثمره مثل الإجاص الصغير ، شديد الحلاوة ، وفي أعلى كل حبة منه حبة صغيرة بمقدار حبة العنب مجوفة وطعمها كطعم العنب ، إلا أن الإكثار من أكلها يحدث في الرأس صداعا.

__________________

(٣٨) شكي : جنس شجرle jacquier من فصيلة الخبزيات يشبه القرع ويبلغ وزن الحبة من ٢٥ أو ٣٠ رطل تكفي الواحدة منه لغذاء أربعة أو خمسة أشخاص أما البركى فيشبه البطيخ ، الواحدة منه تزن من ثلاثة إلى أربعة أرطال ...

(٣٩) ربّما كان ثمر الآبنوس هو ما يسمّى اليوم تشيكو ـ حول الجمون ـ انظر ج ii ص ١٩١.

(٤٠) المهوا (bassia latifolia) يتخذ منه نوع من المشروبات ...

٩٤

ومن العجب أن هذه الحبوب إذا يبست في الشمس كان مطعمها كمطعم التين ، وكنت آكلها عوضا من التين إذ لا يوجد ببلاد الهند ، وهم يسمون هذه الحبة الأنكور ، بفتح الهمزة وسكون النون وضم الكاف المعقودة والواو والراء ، وتفسيره بلسانهم : العنب.

والعنب بأرض الهند عزيز جدا ولا يكون بها إلا في مواضع بحضرة دهلي وببلاد. (٤١) ويثمر مرتين في السنة ، ونوى هذا الثمر يصنعون منه الزيت ويستصبحون به.

ومن فواكههم فاكهة يسمونها كسيرا (٤٢) ، بفتح الكاف وكسر السين المهمل وياء مدّ وراء ، يحفرون عليها الأرض وهي شديدة الحلاوة تشبه القسطل.

وببلاد الهند من فواكه بلادنا الرّمان ، ويثمر مرتين في السنة ورأيته ببلاد جزائر ذيبة المهل لا ينقطع له ثمر ، وهم يسمونه أنار ، بفتح الهمزة والنون ، وأظن هو الأصل في تسمية الجلّنار فإن جل بالفارسية الزهر ، وأنار : الرمان.

ذكر الحبوب التي يزرعها أهل الهند ويقتاتون بها

وأهل الهند يزدرعون مرتين في السنة ، فإذا نزل المطر عندهم في أوان القيظ زرعوا الزرع الخريفي وحصدوه بعد ستين يوما من زراعته ، ومن هذه الحبوب الخريفية عندهم الكذرو (٤٣) ، بضم الكاف وسكون الذال المعجم وضم الراء وبعدها واو ، وهو نوع من الدّخن ، وهذا الكذرو هو أكثر الحبوب عندهم. ومنها القال ، بالقاف ، وهو شبه أنلي.

ومنها الشاماخ ، بالشين والخاء المعجمين ، وهو أصغر حبّا من القال ، وربما نبت هذا الشاماخ من غير زراعة ، وهو طعام الصالحين وأهل الورع والفقراء والمساكين ، يخرجون

__________________

(٤١) يظهر ان ابن بطوطة طلب إلى ابن جزى أن يترك هنا فراغا على أمل أن يتذكر المكان الآخر الذي يوجد فيه العنب ، بعض النسخ كتبت عوض الفراغ حرف الضاد إشارة للبياض أما البيلوني الذي اختصر الرحلة فقد ملأ المكان بقوله : «وبعض أماكن». هذا ويلاحظ أن العنب يوجد بكثرة في الهند كيف وهو أي ابن بطوطة يتحدث كما ياتي عن أن دولة أباد تشهد موسمين اثنين للعنب مع العلم أن العمري ـ وهو معاصر لابن بطوطة يتحدث في مسالك الابصار عن وجود العنب بالهند ـ كلمة (أنكور) من أصل فارسي ...

(٤٢) كسيرا ، يجعل گيب أمامه الاسم المحلي والعلمي على هذا النحو : kaseru ;seripus kysoor ويردد وصف ابن بطوطة لها بأنها فاكهة أرضية ، هذا وكلمة جلنار ، كما نرى ، كلمة فارسية ...

(٤٣) الكذرو : يطلق على ما يعرف عندنا بالمغرب أنلي أوإيلان (millet) ، يكثر بجنوب المغرب وبوصف لتقوية العظام وهو قريب من الدّخن ومن القال ... اما الشاماخ فقد قال عنه ابن بطوطة أنه قد ينبت من غير زراعة ، ولذلك كان طعام الصالحين!

٩٥

لجمع ما نبت منه من غير زراعة ، فيمسك أحدهم قفة كبيرة بيساره وتكون بيمناه مقرعة يضرب بها الزرع فيسقط في القفة ، فيجمعون منه ما يقتاتون به جميع السنة.

وحب هذا الشاماخ صغير جدا ، وإذا جمع جعل في الشمس ثم يدق في مهاريس الخشب فيطير قشره ، ويبقى لبّه أبيض ويصنعون منه عصيدة يطبخونها بحليب الجواميس ، وهي أطيب من خبزه ، وكنت آكلها كثيرا ببلاد الهند وتعجبني. ومنها الماش (٤٤) وهو نوع من الجلبان.

ومنها المنج (٤٥) ، بميم مضموم ونون وجيم ، وهو نوع من الماش إلا أن حبوبه مستطيلة ، ولونه صافي الخضرة ، ويطبخون المنج مع الأرز ويأكلونه بالسمن ، ويسمونه كشري بالكاف والشين المعجم والراء (٤٦) ، وعليه يفطرون في كل يوم وهو عندهم كالحريرة ببلاد المغرب (٤٧) ، ومنها اللوبيا (٤٨) وهي نوع من الفول.

ومنها الموت (٤٩) ، بضم الميم وهو مثل الكذرو المذكور إلا أن حبوبه أصفر وهو من علف الدوابّ عندهم ، وتسمن الدواب بأكله.

والشعير عندهم لا قوة له ، وإنما علف الدواب من هذا الموت أو الحمص يجرشونه ويبلّونه بالماء ويطعمونه الدواب ، ويطعمونها عوضا من القصيل أوراق الماش بعد أن تسقى الدابة السمن عشرة أيام في كل ليلة ثلاثة أرطال أو أربعة ولا تركب في تلك الأيام ، وبعد ذلك يطعمونها أوراق الماش كما ذكرنا شهرا أو نحوه.

__________________

(٤٤) يحكون في بغداد أن العشاء بالماش يسبب أحلاما لذيذة وقد جرب فصحّ!! وهو ضرب من الفاصوليا (phaseolus nadiatus).

(٤٥) المنج نوع آخر من الفاصوليا (mungo).

(٤٦) تحتفظ بعض المخطوطات وخاصة رقم ٢٣٩٩ ك ببياض قبل حرف الكاف والشين والراء أملا في شكله ويصنعونه عادة من العدس والأرز ... صحن شعبي بمصر من أغنى الصحون وأوسعها انتشارا ...

(٤٧) الحريرة نوع من الحساء يمتاز بثرائه في المواد التي يتكون منها ، وهي مشهورة عند المغاربة وخاصة عند الإفطار أيام رمضان ، وتكوّن الحريرة مع الكسكس الصّحن الأساس في الديار المغربية ...

ومما قاله الشيخ أحمد بن المامون البلغيثي مازحا متفكها :

أحبّ الحريرة والكسكسا

وحبّهما في الفؤاد رسا

فأمّا الحريرة فالحر منها! وثاني الأخير محلّي النسا!!

(٤٨) اللوبيا : اسم فارسي للفاصوليا الصغيرة (vigna cattiang).

(٤٩) الموت القصد إلى :(cyperus rotundus) وهو نوع كما قال من (الكذرو)

٩٦

وهذا الحبوب التي ذكرناها هي الخريفية ، وإذا حصدوها بعد ستين يوما من زراعتها ازدرعوا الحبوب الربيعية وهي القمح والشعير والحمص والعدس وتكون زراعتها في الأرض التي كانت الحبوب الخريفية مزدرعة فيها وبلادهم كريمة ، طيبة التربة.

وأما الأرز فإنهم يزدرعونه ثلاث مرات في السنة ، وهو من أكثر الحبوب عندهم ، ويزدرعون السمسم ، وقصب السكر مع الحبوب الخريفية التي تقدم ذكرها.

ولنعد إلى ما كنا بسبيله فأقول سافرنا من مدينة أبوهر في صحراء مسيرة يوم في أطرافها جبال منيعة يسكنها كفار الهنود وربما قطعوا الطريق ، وأهل بلاد الهند أكثرهم كفار ، فمنهم رعية تحت ذمة المسلمين يسكنون القرى ويكون عليهم حاكم من المسلمين يقدمه العامل أو الخديم (٥٠) الذي تكون القرية في إقطاعه.

ومنهم عصاة محاربون يمتنعون بالجبال ويقطعون الطريق.

ذكر غزوة لنا بهذا الطريق وهي أول غزوة شهدتها ببلاد الهند

ولما أردنا السفر من مدينة أبوهر خرج الناس منها أول النهار وأقمت بها إلى نصف النهار في لمّة من أصحابي ، ثم خرجنا ونحن اثنان وعشرون فارسا منهم عرب ومنهم أعاجم ، فخرج علينا في تلك الصحراء ثمانون رجلا من الكفار وفارسان ، وكان أصحابي ذوي نجدة وغناء ، فقاتلناهم أشد القتال ، فقتلنا أحد الفارسين منهم وغنمنا فرسه ، وقتلنا من رجالهم نحو اثنى عشر رجلا ، وأصابتني نشّابة ، وأصابت فرسي نشابة ثانية ، ومنّ الله بالسلامة منها ، لأن نشّابهم لا قوة لها ، وجرح لأحد أصحابنا فرس عوّضناه له بفرس الكافر وذبحنا فرسه المجروح ، فأكله الترك من أصحابنا ، وأوصلنا تلك الرءوس إلى حصن أبي بكهر (٥١) فعلّقناها على سوره ووصلنا في نصف الليل إلى حصن أبي بكهر المذكور وضبط اسمه بفتح الباء الموحدة وسكون الكاف وفتح الهاء وآخره راء.

__________________

(٥٠) لابد أن نقف عند هذه الألقاب الثلاثة : الحاكم الذي يعني شخصا يمارس السلطة ، والعامل الذي قد يعني الوالي أو الذي يشرف على جمع أموال الزكاة ، والخديم الذي يعني الموظف الذي يعمل تحت إشراف مسئول كبير من وظيفة أو إقطاع وما تزال هذه الألفاظ مستعملة في الوثائق المغربية.

(٥١) لم نعثر على هذا العلم الجغرافي في غير هذه الفقره ، ولكنه وجد في قطعة ذكرها مهدي حسين على أنه مكان يحتوي على نزل المسافرين على بعد ٢٠ ميلا من مدينة اجودهن الآتية مباشرة ...

٩٧

٩٨

وسافرنا منه فوصلنا بعد يومين إلى مدينة أجودهن (٥٢) ، وضبط اسمها بفتح الهمزة وضم الجيم وفتح الدال المهمل والهاء وآخره نون ، مدينة صغيرة هي للشيخ الصالح فريد الدين البذاوني(٥٣) الذي أخبرني الشيخ الصالح الولي برهان الدين الأعرج بالاسكندرية أني سألقاه ، فلقيته والحمد لله ، وهو شيخ ملك الهند وأنعم عليه بهذه المدينة.

وهذا الشيخ مبتلى بالوسواس ، والعياذ بالله ، فلا يصافح أحدا ولا يدنو منه ، وإذا ألصق ثوبه بثوب أحد غسل ثوبه! دخلت زاويته ولقيته وأبلغته سلام الشيخ برهان الدين فعجب ، وقال : أنا دون ذلك ، ولقيت ولديه الفاضلين معز الدين (٥٤) وهو أكبرهما ، ولما مات أبوه تولى الشياخة بعده. وعلم الدين (٥٥) ، وزرت قبر جده القطب الصالح فريد الدين البذاوني منسوبا إلى مدينة بذاون بلد السّنبل (٥٦) ، وهي بفتح الباء الموحدة والذال المعجم وضم الواو وآخرها نون ، ولما أردت الانصراف عن هذه المدينة قال لي علم الدين ، لا بدّ لك من رؤية والدي ، فرأيته ، وهو في أعلى سطح له ، وعليه ثياب بيض وعمامة لها ذوابة ، وهي مائلة إلى جانب ودعا لي وبعث إليّ بسكر ونبات.

__________________

(٥٢) أجودهن : ابن بطوطة هنا يعكس خط سيره ، فإن (أجودهن) تقع بين ملتان وأبوهر ، مكان عبور وادي سوتلج (sutledj) الأكثر شرقا للبنجاب ، وقد سميت المدينة من قبل الامبراطور أكبر بّاكبطّان (pakpattan) تكريما للشيخ فريد الدين الذي تقصد مزارته من لدن عارفيه ... يراجع التعليق ٣٥.

(٥٣) فريد الدين مسعود الملقب بشكركنج (مخزن السكر) ، المتوفى عام ٦٦٩ ـ ٧٠ ـ ١٢٧١ كان تلميذا لقطب الدين بختيار الكاكي. وكان هو الذي خلفه وأسس الطريقة الشيشتية في مدينة أجودهن.

وقد خلفه ولده بدر الدين سليمان المتوفى عام ٦٧٧ ـ ٦٨٠ ـ ١٢٨١ ، وخلف هذا ولده علم الدين موج دارياmawj ـ darya المتوفى عام ٧٣٤ ـ ١٣٣٤ ، وهذه الشخصية الأخيرة هي التي يمكن أن يكون ابن بطوطة التقى بها إذا ما احتفظنا بتاريخ ٧٣٣ ـ ١٣٣٣ كتاريخ لوصوله للهند ، وهكذا فقد وقع لابن بطوطة خلط بين فريد الدين الجد وبين علم الدين الحفيد الذي كان من جهة أخرى المربي الروحي للسلطان محمد بن تغلق. هذا وإن نسبته إلى بذاون فيا خلط بينه وبين خلفه في الطريقة نظام الدين أولياء ، فقد ولد هو في غوتفال ghutval قريبا من ملتان. وليس في بذاون شرقي دهلي. وبالنسبة لبرهان الدين الأعرج ، أنظر ج ٢٠١ iii ,٨٣ ـ ٧٣ ـ i.

(٥٤) معز الدين هذا عين فيما بعد من لدن محمد بن تغلق ، حاكما على كوجرات (gujerat) ، ثم قتل أثناء ثورة عام ٧٤٨ ـ ١٣٤٨.

(٥٥) علم الدين تسمى شيخا للإسلام وكبير رجال الفتوى في دهلي ...

(٥٦) إقليم السّنبل (sumbal) في منطقة أطّار بّراديش (uttar pradesh) في شرق دهلي.

٩٩

ذكر أهل الهند الذين يحرقون أنفسهم بالنار

ولما انصرفت عن هذا الشيخ رأيت الناس يهرعون من عسكرنا ومعهم بعض أصحابنا ، فسألتهم : ما الخبر؟ فأخبروا أن كافرا من الهنود مات وأججت النار لحرقه ، وامرأته تحرق نفسها معه ، ولما احترقا جاء أصحابي وأخبروا أنها عانقت الميت حتى احترقت معه ، وبعد ذلك كنت في تلك البلاد أرى المرأة من كفار الهنود متزينة راكبة والناس يتبعونها من مسلم وكافر، والأطبال والأبواق بين يديها ومعها البراهمة وهم كبراء الهنود ، وإذا كان ذلك ببلاد السلطان استأذنوا السلطان في إحراقها فيأذن لهم فيحرقونها (٥٧).

ثم اتفق بعد مدة أني كنت بمدينة أكثر سكانها الكفار تعرف بأمجرى (٥٨) ، وأميرها مسلم من سامرة السّند ، وعلى مقربة منها الكفار العصاة ، فقطعوا الطريق يوما وخرج الأمير المسلم لقتالهم وخرجت معه رعيته من المسلمين والكفار ، ووقع بينهم قتال شديد مات فيه من رعية الكفار سبعة نفر ، وكان لثلاثة منهم ثلاث زوجات فاتفقن على إحراق أنفسهن ، وإحراق المرأة بعد زوجها عندهم أمر مندوب إليه ، غير واجب ، لكن من أحرقت نفسها بعد زوجها أحرز أهل بيتها شرفا بذلك ونسبوا إلى الوفاء ، ومن لم تحرق نفسها لبست خشن الثياب ، وأقامت عند أهلها بائسة ممتهنة لعدم وفائها ، ولكنها لا تكره على إحراق نفسها ، ولما تعاهدت النسوة الثلاث اللاتي ذكرناهن على إحراق أنفسهن أقمن قبل ذلك ثلاثة أيام في غناء وطرب وأكل وشرب كأنهن يودعن الدنيا ، ويأتي إليهن النساء من كل جهة ، وفي صبيحة اليوم الرابع أتيت كل واحدة منهن بفرس ، فركبته وهي متزينة متعطرة وفي يمناها جوزة نارجيل تلعب بها ، وفي يسراها مرآة تنظر فيها وجهها ، والبراهمة يحفون بها وأقاربها معها وبين يديها الأطبال والأبواق والأنفار ، وكل إنسان من الكفار يقول لها : أبلغي السلام إلى أبي أو أخي أو أمي أو صاحبي! وهي تقول : نعم ، وتضحك إليهم ، وركبت مع أصحابي لأرى كيفية صنعهن في الاحتراق ، فسرنا معهن نحو ثلاثة أميال وانتهينا إلى موضع مظلم كثير المياه والأشجار متكاثف الظلال ، وبين أشجاره أربع قباب في كل قبة صنم من الحجارة ، وبين القباب صهريج ماء قد تكاثفت عليه الظلال وتزاحمت الأشجار ، فلا تتخلّلها الشمس فكأن ذلك الموضع بقعة من بقع جهنم ، أعاذنا الله منها ، ولما وصلنا إلى تلك القباب ، نزلن إلى

__________________

(٥٧) هذه العادة المشهورة تحدث عنها كذلك مؤلف أخبار الصّين والهند ص ٢٢ وتحدث عنها ماركوپولو ، ونذكر أنه صدر قانون عام ١٨٢٩ يمنع حرق الزوجات لأنفسهن وفاء لعهد الزوج».

(٥٨) أمجري : القصد إلى (amjhera) على بعد ١٢ ميلا في غرب ظهار (dhar) في جنوب غرب منطقة ماذيا ـ بّراديش (mdhya pradesh).

١٠٠