رحلة ابن بطوطة - ج ٣

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ٣

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-009-5
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٢٥٥

وفتح الطاء المهمل وياء آخر الحروف مسكّن وهاء ، وأحسن إليّ وأكرمني.

وكتب إلى نوابه بمدينة غزنة في إكرامي ، وقد تقدم ذكره وذكر ما أعطي من البسطة في الجسم ، وكان عنده جماعة من المشايخ والفقراء أهل الزوايا.

ثم سافرنا إلى قرية الجرخ ، وضبط اسمها بفتح الجيم المعقود وإسكان الراء وخاء معجم ، وهي كبيرة لها بساتين كثيرة ، وفواكهها طيبة (١٤٧) قدمناها في أيام الصيف ووجدنا بها جماعة من الفقراء والطلبة ، وصلّينا بها الجمعة وأضافنا أميرها محمد الجرخي ، ولقيته بعد ذلك بالهند ثم سافرنا إلى مدينة غزنة (١٤٨) ، وهي بلد السلطان المجاهد محمود بن سبكتكين الشهير الاسم ، وكان من كبار السلاطين يلقب يمين الدولة ، وكان كثير الغزو إلى بلاد الهند وفتح بها المدائن والحصون ، وقبره بهذه المدينة ، عليه زاوية ، وقد خرب معظم هذه البلدة ولم يبق منها إلا يسير، وكانت كبيرة وهي شديدة البرد ، والساكنون بها يخرجون عنها أيام البرد إلى مدينة القندهار(١٤٩). وهي كبيرة مخصبة ولم أدخلها وبينهما مسيرة ثلاث.

__________________

(١٤٧) الجرخ ، القصد إلى شاركار على عشرة أميال جنوب بروان ، ويلاحظ خليلي أن ابن بطوطة سافر إلى جرخ عبر طريق لا يعرف اليوم ، ... وجرخ إحدى قصبات محافظة (لوكر) وكان منها الشيخ سررزي الذي ذكر حكايته مولانا جلال الدين الرومي في (مثنوي) وكذلك كان يعقوب الجرخي الذي كان من خلفاء بهاء الدين نقشبند من جرخ ... وفي جرخ مسجد جامع لا شك أن ابن بطوطة صلى فيه الجمعة ...

(١٤٨) غزنة (ghazna) تنطق بالفارسية غزني ٧٥ ميلا جنوب غربي كابل ، كانت عاصمة للغزذويين من ٣٨١ إلى ٥٨٢ ـ ٩٦٢ ـ ١١٨٦ ، وهم الأتراك الذين مهدوا وبصفة فعالة للفتح الاسلامي للهند. وقد كان الملك الأكثر أهمية في الدولة هو محمود ابن سبكتكين ٣٨٩ ـ ٤٢١ ـ ٩٩٩ ـ ١٠٣٠ الذي اشتهر بحملاته الهندية ولذلك لقب بيمين الدولة من لدن الخليفة العباسي القادر.

وبعد وفاته انهارت المملكة في حروبها ضد الغوريين الذين ينتسبون لبلاد الغور في شرق هرات الأمر الذي أدى إلى خراب غزنة ، وقد سجل التاريخ تبادل طائفة من السفراء بين غزنة وبغداد وذكرت مراسيمها وأدابها مما يحتاج لدراسة مشتركة بين مؤرخي بغداد وأفغانستان إن لم يكن بين المؤرخين على العموم ... ويكفي أن نسمع عن وجود أكثر من أربعمائة شاعر كانوا في بلاط محمود.!!

وقد ادعى بعض المؤرخين أن جنكيز خان أحرق ضريح السلطان محمود ، وها نحن نرى ابن بطوطة يؤكد أنه زار قبره. أضف إلى هذا أن الحفريات التي اجرتها الحكومة الافغانية مؤخرا أثبتت أنه لم تجر أية تجاوزات على قبر السلطان محمود ... خليل الله خليلي ص ٧١.

(١٤٩) قندهار ، تقع على ٢٠٠ ميل نحو الجنوب الغربي ، علوها عن سطح يبلغ ١٠٤٠ متر (انظر الخريطة) بينما علوّ غزنة عن سطح البحر يبلغ ٢٢٠. ٢ ميتر ، درجة الحرارة في يناير ٧. ٦ بينما هي في قندهار ٦ ـ ٥ وقبل أن تتخذ كابل عاصمة من جديد منذ مائتي سنة كانت عاصمة البلاد حينا بلخ وحينا هرات أو سجستان أو غزنة أو الغور أو قندهار ... وعندما اتسعت الامبراطورية الأفغانية في عهد أحمد شاه الدراني ... ولكي يتمكن تيمور شاه ابن احمد شاه من ادارة المملكة (التي كانت تمتد من دلهي حتى بخارى وإلى القرب من مشهد) نقل العاصمة قندهار إلى كابل وجعلها مركز للامبراطورية ... خليلي.

٦١

٦٢

ونزلنا بخارج غزنة في قرية هنالك على نهر ماء تحت قلعتها وأكرمنا أميرها مرذك أغا(١٥٠)، ومرذك بفتح الميم وسكون الراء وفتح الذال المعجم ومعناه الصغير ، وأغا بفتح الهمزة والغين المعجم ومعناه الكبير الأصل ، ثم سافرنا (١٥١) إلى كابل وكانت فيما سلف مدينة عظيمة(١٥٢) ، وبها الآن قرية يسكنها طائفة من الأعاجم يقال لهم الأفغان ، ولهم جبال وشعا ، وشوكة قوية، وأكثرهم قطّاع الطريق ، وجبلهم الكبير يسمى كوه سليمان (١٥٣) ، ويذكر أن نبي الله سليمانعليه‌السلام صعد ذلك الجبل ، فنظر إلى أرض الهند وهي مظلمة فرجع ولم يدخلها فسمي الجبل به ، وفيه يسكن ملك الأفغان.

وبكابل زاوية الشيخ إسماعيل الأفغاني (١٥٤) تلميذ الشيخ عبّاس من كبار الأولياء ، ومنها رحلنا إلى كرماش (١٥٥) ، وهي حصين بين جبلين تقطع به الأفغان ، وكنا حين جوازنا عليه ، نقاتلهم وهم بسفح الجبل ونرميهم بالنّشاب فيفرون ، وكانت رفقتنا مخفّة ، ومعهم نحو أربعةآلاف فرس ، وكانت لي جمال انقطعت عن القافلة لأجلها ، ومعي جماعة بعضهم من الأفغان ، وطرحنا بعض الزاد ، وتركنا أحمال الجمال التي أعيت بالطريق ، وعادت إليها خيلنا بالغد فاحتملتها.

__________________

(١٥٠) مرذك أغا ، لم نجد في المصادر ما يساعد على معرفته وهو في الأغلب من الولاة غير معروف ، هكذا يقول خليلي

(١٥١) من الصعب أن يتصوّر المرء كيف أن ابن بطوطة قام بزيارة غزنة من بّروان الواقعة شمال كابل ٤٥ ميلا دون أن يعرج على كابل ، ولهذا فمن الممكن جدّا أن تكون الفقرة المتعلقة بكابل تقدمت على الفقرة الخاصة بغزنة ...

(١٥٢) حديث ابن بطوطة عن أهمية كابل في القديم أمر تؤكده أثار الجدران القديمة والقلاع والأبراج التي تشاهد في أعالي الجبلين المشرفين عليها ... وقد تحدث عنها الادريسي على أنها مدينة كبيرة ... لها أسوار ومنعة ، ولها في داخلها قصبة حصينة ، وملوك الشاهية لا تتم لهم الولاية الا لمن عقدت له بالملك في كابل وان كان منها على بعد فلا بدّ له من المسير إليها حتى تعقد له الشاهية بالملك ...»!!

(١٥٣) سلسلة جبال سليمان التي تشرف على وادي الهندوس توجد نحو جنوب المدينة عندكطا (quetta) في الباكستان الحالية ... على نقطة فيه تصل إلى ٢٩٥ ، ١١ قدم وتسمى تخت سليمان أي عرش سليمان ...

(١٥٤) يتعلق الامر ـ على ما يبدو ـ بجابر الانصاري ابن شاعر وفيلسوف هرات أبو اسماعيل عبد الله الأنصاري المتوفى ٤٨١ ـ ١٠٨٩ مؤلف كتاب (منازل السائرين) الخ وهو الذي كان هو نفسه تلميذا لأبي الحسن الخرقاني سالف الذكر ...

ـ خليل الله خليلي : هرات ج ١ ، ص ٦٦ / ٦٧ ـ ابن بطوطة في افغانستان ص ٤١.

(١٥٥) كرماش بقعة جبلية نحو جنوب شرقي gardiz التي تبعد ٣٥ ميلا شرق غزنة هذا ويوجد عوض حصن كلمة حصين بالتصغير في مخطوطة الخزانة الملكية.

٦٣

٦٤

ووصلنا إلى القافلة بعد العشاء الآخرة فبتنا بمنزل ششنغار (١٥٦) ، وهي آخر العمارة مما يلي بلاد الترك.

ومن هنالك دخلنا البرية الكبرى وهي مسيرة خمس عشرة (١٥٧) ، لا تدخل إلّا في فصل واحد وهو بعد نزول المطر بأرض السند والهند وذلك في أوائل شهر يوليه ، وتهب في هذه البرية ريح السموم القاتلة التي تعفّن الجسوم حتى أن الرجل إذا مات تفسخ أعضاؤه ، وقد ذكرنا أن هذه الريح تهبّ أيضا في البرية بين هرمز وشيراز. (١٥٨)

وكانت تقدمت أمامنا رفقة كبيرة فيها خذاوند زاده قاضي التّرمذ فمات لهم جمال وخيل كثيرة ، ووصلت رفقتنا سالمة بحمد الله تعالى إلى بنج آب (١٥٩) ، وهو ماء السند ، وبنج بفتح الباء الموحدة وسكون النون والجيم ومعناه الماء ، فمعنى ذلك الأودية الخمسة ، وهي تصبّ في النهر الأعظم وتسقي تلك النواحي وسنذكرها إن شاء الله تعالى.

وكان وصولنا لهذا النهر سلخ ذي الحجة ، واستهل علينا تلك الليلة هلال المحرم من عام أربعة وثلاثين وسبعمائة ، ومن هنالك كتب المخبرون بخبرنا إلى أرض الهند وعرّفوا ملكها بكيفية أحوالنا.

وهاهنا ينتهي بنا الكلام في هذا السفر والحمد لله رب العالمين.

* * *

__________________

(١٥٦) ششنغار : حدّد هذا العلم باقليم هاشتنگر (hashtnagar) الذي يقع على بعد ١٦ ميلا شمال شرق بشاور (peshawar) غربي كاشمير بيد أن هذا لا يتوافق مع التحديد الذي أعطيناه لگرماش كما لا يتناسب مع الحكاية التي سيسوقها ...

(١٥٧) هذا المقطع من حديث ابن بطوطة يفيد أن الوسيلة الوحيدة لتحديد الطريق التي سلكها هي أنه غادر غزنة في اتجاه الجنوب عبر غرب سلسلة جبال سليمان سالفة الذكر ثم نحو سهل بلاد السند ووصل نهر الهندوس عند بعض المحطات في اقليم الاركانا ... مجموع الاميال التي قطعة ٣٥٠ ابتداء من النقطة المشار اليها هنا.

(١٥٨) انظر

richard. r. burton : personal narrative ـ ـ ـ , i, ٥٦٢ ـ ٧٣٢, ii

(١٥٩) بنج بالفارسية (panj) ، ويظهر من ابن بطوطة منذ بداية هذا السفر الاول انه لا يميز بصفة واضحة بين نهر الهندوس كعلم جغرافي وبين الأودية الخمسة : بنج اب» ـ عبارة : ماء السند من المحتمل أن تكون استعمالا فارسيا.

(١٦٠) يوافق هذا التاريخ ١٢ شتنبر ١٣٣٣.

٦٥
٦٦

الفصل العاشر

الطريق إلى دهلي

الوصول إلى بنج آب

من بنج آب إلى سيوستان

مدينة سيوستان

من سيوستان إلى ملتان

من ملتان إلى أبوهر

الزراعة في الهند

من أبوهر إلى أجودهن

من أجودهن إلى دهلي

٦٧
٦٨

      

٦٩
٧٠

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه

قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن ابراهيم

اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة رحمه‌الله (١) :

ولما كان بتاريخ الغرّة من شهر الله المحرم مفتتح عام أربعة وثلاثين وسبعمائة وصلنا إلى وادي السند المعروف ببنج آب (٢) ، ومعنى ذلك : المياه الخمسة ، وهذا الوادي من أعظم أودية الدنيا وهو يفيض في أوان الحرّ فيزرع أهل تلك البلاد على فيضه كما يفعل أهل الديار المصرية في فيض النيل ، وهذا الوادي هو أول عمالة السلطان المعظّم محمد شاه ملك الهند والسند ، ولما وصلنا إلى هذا النهر جاء إلينا أصحاب الأخبار الموكّلون بذلك وكتبوا بخبرنا إلى قطب الملك أمير مدينة ملتان وكان أمير أمراء السند على هذا العهد مملوك السلطان يسمى سرتيز ، وهو عرض المماليك ، وبين يديه تعرض عساكر السلطان ، ومعنى اسمه : الحادّ الرأس ، لأن سر بفتح السين المهملة وسكون الراء وهو الرأس ، وتيز بتاء معلوة وياء مدّ وزاي معناه : الحادّ ، وكان في حين قدومنا بمدينة سيوستان من السند ، وبينها وبين ملتان مسيرة

__________________

(١) تظل المعلومات التي قدمها ابن بطوطة عن الهند عمدة للذين تحدثوا عن تلك القارة حتى يومنا هذا ، ومن العجب أن نرى أبا القاسم الزاياني يتحدث عن أنّه أخذ معه عام ١١٦٩ ـ ١٧٥٦ رحلة ابن بطوطة إلى مكة وسردها على بعض العلماء الهنود فأنكروا ما جاء فيها من أخبار ملوكهم وأبطلوا بالكلية قضاء ابن بطوطة بالهند ومصاهرته لسلطانهم ، وقالوا : هذا غير ممكن ...» نقول من العجب ذلك ، لأنه أي الزاياني آمن بأقوال قوم غائبين أتوا بعد نحو من خمسة قرون من إفادات ابن بطوطة الذي عاش الأحداث وخبرها ... ولم يفت الشيخ عبد الحي الكتاني أن يبدى استغرابه من «امتداد حقد الزاياني إلى من كان قبله بدهور وأجيال ... ـ الزاياني : الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برا أو بحرا.

تحقيق وتعليق : عبد الكريم الفيلالي ١٣١٧ ـ ١٩٦٧ نشر وزارة الأنباء ص ٢٤٤ ـ ٥٨١ ـ مخطوط للكتّاني عن القرويين بفاس رقم ٢٩٢٩.

د. التازي مع ابن بطوطة في بلاد الهند والسند دعوة الحق عدد ٢٨٧. ٢ يبراير ١٩٩٢ ـ وعدد ٢٩٣ أكتوبر ١٩٩٢.

(٢) على نحو ما علقنا به في ج؟؟؟ فإن ابن بطوطة يبدو أنه لا يفرق بين نهر الهندوس (وادي السند) وبين الأنهار الخمسة ـ الحديث عن السلطان محمد سياتي مستوعبا في الفصل الثاني عشر ... ـ فتحت بلاد السند في أواخر القرن الأول الهجري عام ٩٤ ـ ٧١٢ بينما دخل الإسلام بلاد الهند في بداية القرن الخامس الهجري أيام السلطان محمود صاحب غزنة ... تكوّن السند اليوم رابع أقاليم الباكستان الحالية بالوشيستان n.w.f.p. البنجاب ويحتل إقليم السند مركزا في مجال الاقتصاد الوطني ، من مدنه كراتشي حيدرأباد ... يلاحظ أن عاصمة السند كانت أيام ابن بطوطة هي ملتان التي توجد في اقليم البنجاب ـ نجدد الشكر لسفارة الباكستان بالرباط لتزويدها لنا بالمساعدات المطلوبة.

٧١

عشرة أيام ، وبين بلاد السند وحضرة السلطان مدينة دهلي مسيرة خمسين يوما ، وإذا كتب المخبرون إلى السلطان من بلاد السند يصل الكتاب إليه في خمسة أيام بسبب البريد

ذكر البريد

والبريد ببلاد الهند صنفان : فأما بريد الخيل فيسمون الولاق (٣) بضم الواو وآخره قاف ، وهو خيل تكون للسلطان في كل مسافة أربعة أميال ، وأما بريد الرجّالة فيكون في مسافة الميل الواحد منه ثلاث رتب ، ويسمونها الدّاوة (٤) بالدال المهمل والواو ، والدّاوة هي ثلث ميل ، والميل عندهم يسمى الكروه (٥) بضم الكاف والراء ، وترتيب ذلك أن يكون في كلّ ثلث ميل قرية معمورة ، ويكون بخارجها ثلاث قباب ، يقعد فيها الرجال مستعدّين للحركة قد شدّوا أوساطهم ، وعند كلّ واحد منهم مقرعة مقدار ذراعين بأعلاها جلاجل نحاس ، فإذا خرج البريد من المدينة أخذ الكتاب بأعلى يده ، والمقرعة ذات الجلاجل باليد الأخرى ، وخرج يشتد بمنتهى جهده فإذا سمع الرجال الذين بالقباب صوت الجلاجل تأهبوا له ، فإذا وصلهم أخذ أحدهم الكتاب من يده ومر بأقصى جهده وهو يحرك المقرعة حتى يصل إلى الدّاوة الأخرى ولا يزالون كذلك حتى يصل الكتاب إلى حيث يراد منه.

وهذا البريد أسرع من بريد الخيل ، وربما حملوا على هذا البريد الفواكه المستطرفة بالهند ، من فواكه خراسان ، يجعلونها في الأطباق ويشتدون بها حتى تصل إلى السلطان ، وكذلك يحملون أيضا الكبار من ذوي الجنايات ، يجعلون الرجل منهم على سرير ويرفعونه فوق رؤوسهم ويسيرون به شدا ، وكذلك يحملون الماء لشرب السلطان إذا كان بدولة أباد ، يحملونه من نهر الكنك الذي تحجّ الهنود إليه.

وهو على مسيرة أربعين يوما منها ، وإذا كتب المخبرون إلى السلطان بخبر من يصل إلى بلاده ، استوعبوا الكتاب وأمعنوا في ذلك وعرّفوه أنه ورد رجل صورته كذا ، ولباسه كذا ، وكتبوا عدد أصحابه وغلمانه وخدامه ودوابه وترتيب حاله في حركته وسكونه ، وجميع تصرفاته لا يغادرون من ذلك كلّه شيئا ، فإذا وصل الوارد إلى مدينة ملتان وهي قاعدة بلاد

__________________

(٣) الولاق : لفظ تركي يستعمل حتى اليوم ، والبريد كلمة عربية من أصل لاتيني (veredus) على ما يلاحظه الپروفيسور گيب ومعلوم أن البريد كان من مهام الدولة وليس للخواص حق مباشرته ، هذا ويلاحظ أنه ـ على نحو ما قرأناه عن الهند ، فإن البريد بالمغرب تميز طوال التاريخ بنظام محكم ، وكان فيه البريد العادي والبريد السريع ـ د. التازي : التاريخ الدبلوماسي للمغرب ج. ٢ ، ٢٢٧ ـ ٢٣٢.

(٤) الدّاوة : الكلمة من أصل فارسي (daw) الركض والجري.

(٥) الكروه الكلمة من الأوردو (kuroh) ، يعني ثلث الفرسخ وإن المعادلة بين هذه المقاييس وبين الميل والكيلوميتر تبقى تقريبية.

٧٢

٧٣

٧٤

السند أقام بها حتى ينفذ أمر السلطان بقدومه ، وما يجرى له من الضيافة وإنما يكرم الإنسان على قدر ما يظهر من أفعاله وتصرفاته وهمته إذ لا يعرف هنالك ، ما حسبه ولا آباؤه.

ومن عادة ملك الهند السلطان أبي المجاهد محمد شاه إكرام الغرباء ومحبتهم وتخصيصهم بالولايات والمراتب الرفيعة ، ومعظم خواصه وحجابه ووزرائه وقضاته وأصهاره غرباء ، ونفّذ أمره بأن يسمى الغرباء في بلاده بالأعزّة (٦) ، فصار لهم ذلك اسما علما ، ولا بدّ لكّل قادم على هذا الملك من هدية يهديها إليه ، ويقدمها وسيلة بين يديه ، فيكافيه السلطان عليها بأضعاف مضاعفة ، وسيمرّ من ذكر هدايا الغرباء إليه كثير.

ولما تعوّد الناس ذلك منه صار التجار الذين ببلاد السند والهند يعطون لكل قادم على السلطان الآلاف من الدنانير دينا ، ويجهّزونه بما يريد أن يهديه إليه أو يتصرف فيه لنفسه من الدوابّ للركوب والجمال والأمتعة ويخدمونه بأموالهم وأنفسهم ، ويقفون بين يديه كالحشم ، فإذا وصل السلطان أعطاه العطاء الجزيل فقضى ديونهم ، ووفاهم حقوقهم ، فنفقت تجارتهم ، وكثرت أرباحهم ، وصار لهم ذلك عادة مستمرة.

ولما وصلت إلى بلاد السند سلكت ذلك المنهج واشتريت من التجار الخيل والجمال والمماليك وغير ذلك ، ولقد اشتريت من تاجر عراقي من أهل تكريت يعرف بمحمد الدوري بمدينة غزنة نحو ثلاثين فرسا وجملا عليه حمل من النّشاب فإنه مما يهدى إلى السلطان ، وذهب التاجر المذكور إلى خراسان ، ثم عاد إلى الهند ، وهنالك تقاضى مني ماله واستفاد بسببي فائدة عظيمة وعاد من كبار التجار ، ولقيته بمدينة حلب بعد سنين كثيرة وقد سلبني الكفار مما كان بيدي فلم ألق منه خيرا.

ذكر الكركدّن

ولما أجزنا نهر السند المعروف ببنج آب دخلنا غيضة قصب لسلوك الطريق ، لأنه في وسطها ، فخرج علينا الكركدن ، وصورته أنه حيوان أسود اللون ، عظيم الجرم رأسه كبير ،

__________________

(٦) الأعزة جمع عزيز يعتبر هذا اللفظ من الكلمات الحضارية التي ينبغي أن نقف عندها ونحن نقرأ عن بلاد السند فقد ظل الغريب محل توصية من لدن سائر الذين كتبوا عن معاملة الناس حتى ولو كانوا غير مسلمين ... ونحن نعلم أن ابن السبيل من الأصناف التي تصرف لهم الزكاة ... والطريف الجميل تشجيع الغرباء على استثمار أموالهم بل إنّ السلطان يمكنهم بما يساعدهم على نفاق تجارتهم وربحهم ... ومن هنا أخذ التجار في السند والهند يقرضون لكل قادم آلاف الدنانير إلى آخر ما ذكره ...

٧٥

٧٦

متفاوت الضخامة ، ولذلك يضرب به المثل فيقال : الكركدن ، رأس بلا بدن ، وهو دون الفيل، ورأسه أكبر من رأس الفيل بأضعاف ، وله قرن واحد ، بين عينيه ، طوله نحو ثلاثة أذرع، وعرضه نحو شبر ، ولما خرج علينا عارضه بعض الفرسان في طريقه ، فضرب الفرس الذي كان تحته بقرنه فأنفذ فخذه وصرعه ، وعاد إلى الغيضة ، فلم نقدر عليه!

وقد رأيت الكركدن مرة ثانية في هذه الطريق بعد صلاة العصر وهو يرعى نبات الأرض، فلما قصدناه هرب منا ، ورأيته مرة أخرى ونحن مع ملك الهند ، دخلنا غيضة قصب ، وركب السلطان على الفيل وركبنا معه الفيلة ، ودخلت الرّجالة والفرسان فأثاروه وقتلوه واستاقوا رأسه إلى المحلة.

وسرنا من نهر السّند يومين ، ووصلنا إلى مدينة جناني (٧) ، وضبط اسمها بفتح الجيم والنون الأولى وكسر الثانية ، مدينة كبيرة حسنة على ساحل نهر السند لها أسواق مليحة ، وسكانها طائفة يقال لهم : السّامرة (٨) ، استوطنوها قديما واستقر بها أسلافهم ، حين فتحها على أيام الحجاج بن يوسف حسبما أثبت المؤرخون في فتح السند ، وأخبرني الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد العابد ركن الدين بن الشيخ الفقيه الصالح شمس الدين بن الشيخ الإمام العابد الزاهد بهاء الدّين زكرياء (٩) القرشي ، وهو أحد الثلاثة الذين أخبرني الشيخ الولي الصالح برهان الدين الأعرج بمدينة الإسكندرية أني سألقاهم في رحلتي فلقيتهم ، والحمد لله أن جدّه الأعلى كان يسمى بمحمد بن قاسم القرشي (١٠) ، وشهد فتح السند في العسكر الذي بعثه لذلك الحجاج بن يوسف أيام إمارته على العراق وأقام بها وتكاثرت ذرّيته.

__________________

(٧) لم نقف على أثر لهذا المدينة : (جناني) ويظهر حسب الوصف الذي قدمه أنّها تقع شمال مدينة سيوستان وأن تحديدها بمدينة هلاني (halani) من قبل بعض الباحثين أمر مريب.

(٨) يتعلّق الأمر بسومرا (sumra) : قبيلة راجبوت rajput التي يظهر أنها بسطت نفوذها في بلاد السّند بعد إنهزام السلطان مسعود بن السلطان محمود صاحب غزنة ، أمام السلجوقيين عام ـ ١٠٤٠ ٤٣١ وهم هندوس اعتنقوا الإسلام في آخر المطاف وإن التطورات المروية هنا ليست بغريبة عندما يتغير الحكم من دولة إلى أخرى ...

(٩) بهاء الدين زكريا ٥٧٩ ـ ٦٦٥ ـ ١١٨٣ ـ ١٢٦٧ هو الرسول والسفير الذي بعثه شهاب الدين أبو حفص عمر السّهروردي إلى الهند ، وهو مؤسس الطريقة السّهروردية بالهند ، ولده صدر الدين (وليس شمس الدين ، المتوفى عام ٦٨٤ ـ ١٢٨٥ ، وحفيده ركن الدين المتوفى عام ٧٧٥ ـ ١٣٣٥ ، كوّنوا جميعهم السلسلة الوارثة للطريقة في ملتان ج II ، ٤٨ ـ ابن بطوطة أهمل القول حول ما إذا كان لقى هذا الشيخ في جناني أو في ملتان كما يظهر ...

(١٠) عماد الدين محمد بن قاسم ، ابن عمّ للحجاج ، فتح بلاد السند عام ٩٤ ـ ٧١٢ ، ولكن بهاء الدين أرسل إلى خراسان بالهند من لدن السّهروردي حسبما ورد عند الذين ترجموه ...

٧٧

٧٨

وهؤلاء الطائفة المعروفون بالسامرة لا يأكلون مع أحد ولا ينظر إليهم أحد حين يأكلون ولا يصاهرون أحدا من غيرهم ولا يصاهر إليهم أحد وكان لهم في هذا العهد أمير يسمى ونار بضم الواو وفتح النون ، وسنذكر خبره.

ثم سافرنا من مدينة جناني إلى أن وصلنا إلى مدينة سيوستان (١١) ، وضبط اسمها بكسر السين الأول المهمل وياء مد وواو مفتوح وسين مكسور وتاء معلوة وآخره نون ، وهي مدينة كبيرة وخارجها صحراء ورمال ، ولا شجر بها إلا شجر أم غيلان ، ولا يزرع على نهرها شيء ما عدا البطيخ ، وطعامهم الذرة والجلبّان ، ويسمونه المشنك (١٢) ، بميم وشين معجم مضمومين ونون مسكن ، ومنه يصنعون الخبز ، وهي كثيرة السمك والألبان الجاموسية ، وأهلها يأكلون السّقنقور وهي دوبيّة شبيهة بأم جبين التي يسميها المغاربة حنيشة الجنّة إلا أنها لا ذنب لها ، ورأيتهم يحفرون الرمل ويستخرجونها منه ، ويشقون بطنها ويرمون بما فيه ، ويحشونه بالكركم ، وهم يسمونه زردشوبة (١٣) ، ومعناه العود الأصفر ، وهو عندهم ، عوض الزعفران ، ولما رأيت تلك الدّويبة ، وهم يأكلونها ، استقذرتها فلم آكلها!

ودخلنا هذه المدينة في احتدام القيظ ، وحرّها شديد (١٤) ، فكان أصحابي يقعدون عريانين ، يجعل أحدهم فوطة على وسطه ، وفوطة على كتفيه مبلولة بالماء فما يمضي اليسير من الزمان حتى تيبس تلك الفوطة فيبلها مرة أخرى ، وهكذا أبدا.

ولقيت بهذه المدينة خطيبها المعروف بالشيباني وأراني كتاب أمير المؤمنين الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي‌الله‌عنه لجدّه الأعلى بخطابة هذه المدينة ، وهم يتوارثونها من ذلك العهد إلى الآن ونص الكتاب : هذا ما أمر به عبد الله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز لفلان

__________________

(١١) سيوستان (sehwan) مدينة صغيرة على بعده ١٢ ميلا شمال كراتشي على بضع مسافة من نهر الهندوس (السند).

(١٢) المشك كلمة فارسية الأصل (mushang) نوع من الحبوب ـ القصد بالذّرة ليس إلى الإمريكية ولكن إلى الذّرة التي تنعت في المغرب بالبيضاء ، وهناك ذرة دكناء هي : أنلي.

(١٣) باللغة الفارسية (zard tchuba) ـ أم جبّين : صنّفت على أنها الوزغ (lezard) أو ذكر الحرباء (chameleon) وحنيشة الجنة : تطلق فعلا على الوزغ الذي يعلق بالجدران. وقد قيل عن السقنقور أنه ضرب الزحافات يشبه الجردون

(١٤) المفروض أنّ وصول ابن بطوطة إلى سيوستان يوم ١٢ شتنبر فهل صادف مثل هذا الحر الشديد؟ هذه الأسئلة يضعها بعض المعلقين ...

٧٩

٨٠