رحلة ابن بطوطة - ج ٣

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ٣

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-009-5
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٢٥٥

٤١

عروشها غير عامرة ، ومن رآها ظنها عامرة لإتقان بنائها وكانت ضخمة فسيحة ، ومساجدها ومدارسها باقية الرسوم حتى الآن ونقوش مبانيها مدخلة بأصبغة اللّازورد ، والناس ينسبون اللّازورد إلى خراسان ، وانما يجلب من جبال بدخشان التي ينسب إليها الياقوت البدخشى ، والعامة يقولون : البلخش (٨٦) ، وسياتي ذكرها إن شاء الله تعالى ، وخرب هذه المدينة تنكيز اللّعين وهدم من مسجدها نحو الثّلث بسبب كنز ذكر له أنه تحت سارية من سواريه ، وهو من أحسن مساجد الدنيا وأفسحها ، ومسجد رباط الفتح بالمغرب (٨٧) يشبهه في عظم سواريه ، ومسجد بلخ أجمل منه في سوي (٨٨) ذلك.

حكاية [أميرة تبني مسجدا]

ذكر لي بعض أهل التاريخ أن مسجد بلخ بنته امرأة كان زوجها أميرا بلخ لبني العباس يسمّى داود بن علي (٨٩) ، فاتفق أن الخليفة غضب مرة على أهل بلخ لحادث أحدثوه فبعث إليهم من يغرمهم مغرما فادحا ، فلما بلغ إلى بلخ أتى نساؤها وصبيانها إلى تلك المرأة

__________________

(٨٦) اللّازورد (lapas ـ lazuli) يوجد في الجانب الأعلى من نهر كوكتشاkokcha بدخشان : توجد في أقصى الشمال الشرقي لأفغانستان ، هذا وقد أشاد ماركوپولو بالأحجار الكريمة التي تشتهر بها المنطقة ...

(٨٧) عجيب أنّ ابن بطوطة لم يلفظ باسم (حسّان) الذي ذكره (القرطاس) المكتوب عام ٧٢٦ ، ويدعى المراكشي أنه لا يعلم في مساجد المغرب أكبر منه ناسيا جامع القرويين بفاس!! هذا ومما يذكر هنا أن الهندسة المغربية جرت على أن طول الصومعة يعادل خمس مرات سعتّها ولهذا نقول : لو كملت لكانت أكبر صومعة في الغرب والشرق طبعا قبل بناء صومعة جامع الحسن الثاني بالدار البيضاء!!

j. caille la ville de rabat ـ paris ٤٥٩١ ـ p. ٥٥١ ـ ٤٧١

ذ. التازي : جامع القرويين ـ بيروت ١٩٧٢ ج.i ص ٥٦.

(٨٨) حدث عام ٤٢٣ ـ ١٠٣٣ أن وصلت سفارة من بغداد إلى بلاط مسعود الغزنوي للأخبار بوفاة القادر بالله وأخذ البيعة للخليفة القائم بالله ... وكانت مناسبة ليصحب السفير ركب السلطان لأداء صلاة الجمعة في هذا المسجد الأعظم ... كان أمام السلطان أربعة آلاف من الغلمان ... ومعهم أعيان الحضرة والقضاة والفقهاء ومعهم رسول الخليفة يسير في الموكب ... ولما دخل السلطان المسجد جلس تحت المنبر وكانوا قد كسوه بالديباج الموشى بالذهب ... ، نفهم من هذا أن المسجد كان فسيحا إلى درجة أنه كان يسع ذلك العدد الحافل إضافة إلى من كان فيه من المؤمنين ...

ـ تاريخ البيهقي ، تعريب الأستاذ يحيى الخشاب ، ص ٣١٩.

(٨٩) يظهر أن الصّواب داود بن عبّاس الذي عاش هذا الحدث الطريف في النصف الأول من القرن الثالث. خليل الله خليلي : ابن بطوطة في أفغانستان ـ مطبعة الجامعة ـ بغداد ١٩٧١ ص ٢٢ ـ ٢٣ تقديم عبد الهادي التازي ency de l\'islam : balk.

٤٢

التي بنت المسجد ، وهي زوج أميرهم ، وشكوا حالهم وما لحقهم من هذا المغرم ، فبعثت إلى الأمير الذي قدم برسم تغريمهم بثوب لها مرصع بالجواهر قيمته أكثر مما أمر بتغريمه ، فقالت له : اذهب بهذا الثوب إلى الخليفة ، فقد أعطيته صدقة عن أهل بلخ لضعف حالهم. فذهب به إلى الخليفة وألقى الثوب بين يديه وقصّ عليه القصة فخجل الخليفة وقال : أتكون المرأة أكرم منا؟ وأمره برفع المغرم عن أهل بلخ ، وبالعودة إليها ليردّ للمرأة ثوبها ، واسقط عن أهل بلخ خراج سنة!

فعاد الأمير إلى بلخ وأتى منزل المرأة وقص عليها مقالة الخليفة ورد عليها الثوب ، فقالت له : أوقع بصر الخليفة على هذا الثوب؟ قال : نعم ، قالت : لا ألبس ثوبا وقع عليه بصر غير ذي محرم مني!! وأمرت ببيعه ، فبني منه المسجد والزاوية ورباط في مقابلته مبنيّ بالكذّان ، وهو عامر حتى الآن ، وفضل من الثوب مقدار ثلثه فذكر أنها أمرت بدفنه تحت بعض سواري المسجد ليكون هنالك متيسّرا إن احتيج إليه خرّج ، فأخبر تنكيز بهذه الحكاية فأمر بهدم سواري المسجد فهدم منها نحو الثلث ولم يجد شيئا فترك الباقي على حاله ، وبخارج بلخ قبر يذكر أنه قبر عكّاشة بن محصن الأسدي صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما الذي يدخل الجنة بلا حساب (٩٠) ، وعليه زاوية معظمة بها كان نزولنا ، وبخارجها بركة ماء عجيبة عليها شجرة جوز عظيمة ينزل الواردون في الصيف تحت ظلالها.

وشيخ هذه الزاوية يعرف بالحاجّ خرد ، وهو الصغير ، من الفضلاء ، وركب معنا وأرانا مزارات هذه المدينة منها قبر حزقيل (٩١) النبي عليه‌السلام وعليه قبة حسنة ، وزرنا بها أيضا قبورا كثيرة من قبور الصالحين لا أذكرها الآن ، ووقفنا على دار ابراهيم بن أدهم (٩٢) رضي‌الله‌عنه ، وهي دارضخمة مبنية بالصّخر الأبيض الذي يشبه الكذّان ، وكان زرع الزاوية مختزنا بها وقد سدّت علي ، فلم ندخلها وهي بمقربة من المسجد الجامع.

__________________

(٩٠) حضر عكاشة المشاهد كلها مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقتل في حرب الردّة بأرض نجد عام ١٢ ـ ٦٣٣ وفيه قيل الحديث الشريف الذي أصبح مضرب المثل «سبقك بها عكاشة»! جوابا لصحابي سأل رسول الله أن يمنحه مثل ما منحه لعكاشة من امتيازات ...

(٩١) عندما شاهد ابن بطوطة هذا القبر المزعوم كان لا يزال عامر البناء إلا أنه انهدم واندثر بعد ذلك ، هذا وليس هناك من سند يثبت نسبة هذا القبر إلى حزقيل (ezechiel) ، وإن الموقع الأكثر شهرة لقبر حزقيل يوجد قريبا من الحلة بيد أن ابن بطوطة لم يتحدث عنه هناك ...

(٩٢) سبق الحديث عن ابراهيم بن أدهم ، ٤٥٢ (ii ٥٨١ ـ ٦٧١ ـ ٣٧١ ـ ٧٣١ ,i).

٤٣

ثم سافرنا من مدينة بلخ فسرنا في جبال قوه استان (٩٣) سبعة أيام وهي قرى كثيرة عامرة، بها المياه الجارية والأشجار المورقة ، وأكثرها شجر التين ، وبها زوايا كثيرة فيها الصالحون المنقطعون إلى الله تعالى ، وبعد ذلك كان وصولنا إلى مدينة هرات وهي أكبر المدن العامرة بخراسان.

ومدن خراسان العظيمة أربع ثنتان عامرتان وهما : هرات ونيسابور (٩٤) وثنتان خربتان : وهما بلخ ومرو (٩٥) ، ومدينة هرات كبيرة عظيمة كثيرة العمارة ولأهلها صلاح وعفاف وديانة ، وهم على مذهب الامام أبي حنيفة رضي‌الله‌عنه ، وبلدهم طاهر من الفساد.

__________________

(٩٣) قوهستان : معناها أرض الجبال لا أكثر ولا أقل ولا تعني علما جغرافيا محدد المعالم ... والملاحظ حسبما يقوله زميلنا الراحل السفير الأفغاني خليلي في تحقيقه عن ابن بطوطة في أفغانستان ، ان الطريق العام الذي يمتد من بلخ إلى هرات هو الذي كانت القوافل تمر به قديما محاذية لجوزجان شبورغان ، ميمنة ، نهر مرغاب ، مرو الروذ ، بادغيس ـ هرات.

ويضيف خليلي إلى هذا أن جوزجان ترتبط بميمنة بطريقين الطريق العام المذكور ، والطريق الآخر : طريق سربل ـ اذا فرضنا أن ابن بطوطة سلك الطريق الثاني فمن الغريب أنه لم يذكر سربل ولم يذكر مشهد الامام يحيى بن زيد بن علي بن الحسن بن علي رضي‌الله‌عنهم ، وقد كانت قبة معمورة في ذلك الوقت ... وقد ذكر مستوفي طريقا من مرو الروذ إلى بلخ بشيء من الاختلاف ـ راجع التعليق الآتي رقم ١١٥.

(٩٤) تعتبر هرات رابعة قواعد إقليم خراسان الذي تشترك فيه اليوم أفغانستان وإيران ، وقد وصفت على أنها أكبر وأغنى مدينة ... وينعتها العلامة الشهير التفتازاني : في كتابه (المطول) بأنها «جنة النعيم» بلدة طيبة ومقام كريم :

لقد جمعت فيها المحاسن كلها

وأحسنها الإيمان واليمن والامن

وقد زارها ياقوت وقال رجزا في أعنابها التي كانت مضرب المثل

أدقّ من فكر اللبيب بذره

أرقّ من قلب الغريب قشره!!

وقد استغرب السفير خليلي رحمه‌الله من عدم ذكر ابن بطوطة شيئا عن جامع هرات الذي كان من المعالم الضخمة الممتازة ، وقد قال عنه ابن حوقل : وليس بخراسان وما وراء النهر وسجستان والجبال مسجد أعمر بالناس على دوام الأيام من مسجد هرات وبلخ».

ـ خليل الله خليلي : هرات ج ١ ، ص ٤٥ ، مطبعة المعارف ، بغداد ١٩٧٤.

(٩٥) كانت هناك في الواقع مدينتان تحملان هذا الاسم ، ولكي يميّز بينهما عرفت الأولى بمروالروذائي ، مرو النهر، وهي قريبة من مرو الشاهجان بينهما خمسة أيام ، وتنعث هذه بمرو العظمى وهي اشهر مدن خراسان وعاصمتها. والنسبة اليها مروزي ويعرف المغاربة صحنا فاخرا يحمل إلى اليوم اسم المروزية يقال إنهم توارثوه عمن عرفوه في مرو! في مرو شاهجان هذه عاش ياقوت لفترة طويلة قبل أن يخربها جنكير خان عام ٦١٨ ـ ١٢٢١ ويعترف أنه لو لا خرابها لفضل البقاء بها حتى الممات ، وفي هذه المدينة وقعت له المناظرة الطريفة حول ضبط العلم الجغرافي (حباشة) السوق الذي كان الرسول عليه الصلوات يتجر فيه بتهامة لحساب السيدة خديجة ... وكانت تلك المناظره كما يقول ياقوت في المقدمة باعثا له لتأليف معجم البلدان اسهاما منه في ضبط العلم الجغرافي على ما هو ... انظر معجم البلدان المقدمة ، ومادة حباشة ومادة مرو ، راجع المقدّمة.

٤٤

٤٥

ذكر سلطان هرات

وهو السلطان المعظم حسين بن السلطان غياث الدين الغوري (٩٦) صاحب الشجاعة المأثورة والتأييد والسعادة ، ظهر له من إنجاد الله تعالى وتأييده في موطنين اثنين ما يقضي منه العجب : احدهما عند ملاقاة جيشه للسلطان خليل الذي بغى عليه وكان منتهى امره حصوله أسيرا في يديه.

والموطن الثاني عند ملاقاته بنفسه لمسعود سلطان الرافضة وكان منتهى أمره تبديده وفراره وذهاب ملكه وولى السلطان حسين الملك بعد أخيه المعروف بالحافظ وولى أخوه بعد أبيه غياث الدين (٩٧).

حكاية الرافضة

كان بخراسان رجلان : أحدهما يسمى بمسعود والآخر يسمى بمحمد وكان لهما خمسة من الأصحاب ، وهم من الفتّاك ويعرفون بالعراق بالشطّار ويعرفون بخرسان بسرابدالان (٩٨) ويعرفون بالمغرب بالصّقورة ، فاتفق سبعتهم على الفساد وقطع الطرق وسلب

__________________

(٩٦) معز الدين حسين ثالث ولد للسلطان غياث الدّين وقد أدركه أجله يوم ٣ ذي القعدة ٧٧٠ ـ ١٣٧٠ وهذه الأسرة من بلاد الغور : الجبال المركزية في أفغانستان جنوب غربي افغانستان ، وقد افتتن ابن بطوطة بشجاعة هذا الملك من ملوك آل گرت ، وكان قيام هذه الأسرة في عام ٦٤٣ ـ ١٣٤٥ وانقراضها عام ٧٩١ ـ ١٣٨٩ على يد تيمور.

(٩٧) توفي السلطان غياث الدين سنة ٧٢٨ ـ ١٣٢٨ وقد خلفه أبناءه : شمس الدين الثاني ٧٢٨ ـ ٧٢٩ ـ ١٣٢٨ ـ ١٣٢٩ وحافظ ٧٢٩ ـ ٣١ ـ ١٣٢٩ ـ ١٣٣١ ومعز الدين حسين سالف الذكر ... والسلطان غياث الدين آل كرت هو الذي أتمّ بناء جامع هرات الذي رأيناه يرمّم بشكل مشرف في عهد الملك محمّد ظاهر شاه ...

(٩٨) سرابدالان ، هكذا رسمت في سائر النسخ التي بين أيدينا ، والقصد إلى السّربدار ، وقد جاء اسم (sar de dar) من أن عبذ الرزّاق مؤسس هذه الامارة التي عوضت الايلخان في غرب خراسان أراد أن يحث أنصاره على مساندته في ثورته ضد والي خراسان من لدن الإيلخان فخطب فيهم قائلا : «... إذا ما تحركتم بفتور سيكون مالنا الموت ، وانه لمن الافضل ألف مرة ، أن نرى رؤوسنا معلقة على المشنقة (sar be dar) على أن نموت جبناء!!» ، وقد كان أول رئيس للسلسلة السربدارية : عبد الرزاق ، موظفا عند أبي سعيد بهادور ، ثار عندما مات هذا الاخير عام ٧٣٥ ـ ١٣٣٥ ، وقتل من طرف أخيه وجيه الدين مسعود عام ٧٣٩ ـ ١٣٣٩ ، وقد حكم مسعود إلى عام ٧٤٤ ـ ١٣٤٤ ، أمّا محمد فيظهر أنه احد خلفائه ...

ـ د. التازي : إيران بين الأمس واليوم ص ٩٦ مصدر سابق.

٤٦

الأموال وشاع خبرهم وسكنوا جبلا منيعا بمقربة من مدينة بيهق وتسمى أيضا مدينة سبزار(٩٩) ، وكانوا يكمنون بالنهار ويخرجون بالليل والعشى ، فيضربون على القرى ويقطعون الطرق ويأخذون الأموال ، وانثال عليهم أشباههم من أهل الشر والفساد فكثر عددهم واشتدّت شوكتهم وهابهم الناس وضربوا على مدينة بيهق فملكوها ، ثم ملكوا سواها من المدن واكتسبوا الأموال وجنّدوا الجنود ، وركبوا الخيل وتسمى مسعود بالسلطان وصار العبيد يفرّون عن مواليهم إليه ، فكلّ عبد فرّ منهم يعطيه الفرس والمال ، وان ظهرت له شجاعة أمره على جماعة ، فعظم جيشه واستفحل أمره وتمذهب جميعهم بمذهب الرفض وطمحوا إلى استيصال أهل السنة بخراسان وأن يجعلوها كلمة واحدة رافضيّة.

وكان (١٠٠) بمشهد طوس شيخ من الرافضة يسمى بحسن (١٠١) ، وهو عندهم من الصلحاء فوافقهم على ذلك وسمّوه بالخليفة ، وأمرهم بالعدل فأظهروه حتى كانت الدراهم والدّنانير تسقط في معسكرهم فلا يلتقطها أحد حتى يأتي ربّها فيأخذها! وغلبوا على نيسابور.

وبعث إليهم السلطان طغتيمور بالعساكر فهزموها ثم بعث إليهم نائبه أرغون شاه (١٠٢) فهزموه وأسروه ومنّوا عليه ، ثم غزاهم طغيتمور بنفسه في خمسين ألفا من التتر

__________________

(٩٩) سبزار القصد إلى sabzawar وتنطق بين العامة سبزور ، وحسب ياقوت فان سبزور كانت قصبة لبيهق ـ ٦٤ ميلا غرب نيسابور ، وقد احتلت من لدن السّربدار الذين انطلقوا من سبزور ايران ، عام ٧٣٧ ـ ١٣٣٧ ـ ١٣٣٨.

ـ خليلي : ابن بطوطة ، ص ٤٧ ـ د. التازي : مع ابن بطوطة في إيران ، ص ٩٦ تعليق رقم ١٣٠.

(١٠٠) ينبغي أن نلفت النظر إلى هذه الاحداث التي شهدتها خراسان مما يتعلق بالصّراع الرهيب بين المذهب السني والمذهب الشيعي في أعقاب الوفاة الطارئة على السلطان أبي سعيد بهادور. لقد كان ابن بطوطة يروي أخبارها عن شاهد عيان ، وهو يتحدث عن خراسان ، وبالرغم من أن المصادر الفارسية لم تهمل هذه الاحداث التي تمخضت ـ ولأول مرة في التاريخ ـ عن إنشاء أول إمارة شيعية الا ان تلك المصادر تظل شحيحة اذا ما قارنّاها بالتفاصيل الثرية التي قدمها الرحالة المغربي عن الأصول الأولي لهذه الامارة التي كانت تحاول فرض المذهب الشيعي بالقوة ، والتي انتهت في الأخير إلى العدول عن الفكرة.

ـ د. التازي : مع ابن بطوطة في إيران ، ص ٩٥ / ٩٦.

ـ m. mozafari : iran p. ٦٣.

(١٠١) طوس قريبة جدّا من مدينة مشهد الحالية كما ياتي والقصد بحسن إلى الزعيم الشيعي المعروف حسن جوري (djuri) الذي حرر من سجنه في نيسابور وأصبح العضد الايمن لمسعود وقد تقدم الحديث عن طغتمور. علال الفاسي : المدرسة الكلامية وآثار الشيخ الطوسي ـ ايران

(١٠٢) أرغون ابن نوروز بن أرغون كان مغوليا أميرا لخراسان ، وهو نفسه أحرز بعد سنة ٧٣٥ ـ ١٣٣٥ على إمارة تضمّ طوس ، نيسابور ، ومرو ، وقد تقدم الحديث عن والده نوروز ولما غلب أرغون من لدن السربداريين الذين احتلّوا هذه المدينة عام ٧٣٨ ـ ١٣٣٨ التجأ إلى طغتمور وقد احتفظ المنحدرون منه بالمنطقة حتى وصول تمور ...

٤٧

فهزموه وملكوا البلاد وتغلّبوا على سرخس والزاوه وطوس ، وهي من أعظم بلاد خراسان وجعلوا خليفتهم بمشهد علي بن موسى الرّضى (١٠٣) ، وتغلبوا على مدينة الجام ، ونزلوا بخارجها وهم قاصدون مدينة هرات ، وبينها وبينهم مسيرة ستّ.

فلما بلغ ذلك الملك حسينا جمع الأمراء والعساكر وأهل المدينة واستشارهم : هل يقيمون حتّى يأتي القوم أو يمضون إليهم فيناجزونهم ، فوقع إجماعهم على الخروج اليهم وهم قبيلة واحدة يسمون الغورية ، ويقال : إنهم منسوبون إلى غور الشام ، وأن أصلهم منه (١٠٤) ، فتجهزوا أجمعون واجتمعوا من أطراف البلاد وهم ساكنون بالقرى وبصحراء مرغيس (١٠٥) ، وهي مسيرة أربع لا يزال عشبها أخضر ترعى منه ماشيتهم وخيلهم ، وأكثر شجرها الفستق ومنها يحمل إلى أرض العراق ، وعضدهم أهل مدينة سمنان (١٠٦) ، ونفروا جميعا إلى الرافضة وهم مائة وعشرون ألفا ما بين رجّالة وفرسان ، ويقودهم الملك حسين ، واجتمعت الرافضة في مائة وخمسين ألفا من الفرسان ، وكانت الملاقاة بصحراء بوشنج (١٠٧) ، وصبر

__________________

(١٠٣) يوجد قبر علي الرضا الامام الشيعي الثامن المتوفي عام ١٩١ ه‍ ـ ٨١٧ بمدينة مشهد بطوس (ايران) وقد قمت بزيارته في أوائل السبعينات وأواسط التسعينات فشاهدت المتبركين به من كل حدب وصون.

(١٠٤) هذا القول خطأ فإن هناك فرقا بين الغور (بضم العين) هنا وبين الغور بفتحها في بلاد الشام ... وبناء على هذا فإن القول بأن أصل هؤلاء من اولئك محض خيال!

(١٠٥) (مرغيس) هكذا في سائر النسخ بالميم والراء والقصد إلى بادغيس بالدال ، وقد فصل القول في هذه الناحية علماء الجغرافيا العرب وغيرهم في مؤلفاتهم ، وكتب عنها الهمداني واليعقوبي وابن خرداذبة ... بشكل مختصر ، أما ابن حوقل وياقوت فقد ذكراها بشكل مفصل ... وأكثر شجر هذه المنطقة من خراسان : الفستق ، ومنها يحمل إلى الجهات الأخرى في أروبا بما فيها اليونان ... ومما يذكر ان الاسكندر ملك اليونان لما غلب بلاد فارس كان من جملة المواد التي وقع التنصيص عليها تسليم كميات من «فستق بادغيس إلى اليونان سنويا! ولم يلبثوا أن نقلوا فسائل من غابات بادغيس إلى أراضي الاغريق ...

ـ مرآة البلدان لاعتماد السلطنة.

ـ خليل الله خليلي : ابن بطوطة في أفغانيستان ص ٤٨ / ٤٩.

دانشنامه جهان إسلام ، حرف ب جزء أول تهران ١٩٩٠.

(١٠٦) سمنان التي تقع على بعد ١٠٠ ميل شرقي طهران احتلت بعد تصدع دوله إيلخان من لدن جلال الدولة اسكندر بن زيار (٧٣٤ ـ ٧٦١ ـ ١٣٣٤ ـ ١٣٦٠) سلطان مازيندران ـ السربدار مسعود قتل في معركة ضد هذا الأمير عام ٧٤٤ ـ ١٣٤٤.

(١٠٧) تقع بوشنج على الحدود الإيرانية الافغانية ، وربما عرّبت إلى فوشنج ، وقد عين الشريف الادريسي موقعها في خريطته ، ويقال : إنها أرض فرعون وهامان ، ويذكر السمعاني ان العباس ابن عبد المطلب ورد على بوشنج من أجل التجارة ... وفيها يقول أبو الفضل هاجيا :

إذا سقى الله أرض منزلة

فلا سقى الله أرض بوشنج

... الأبيات. ـ التازي : ابن بطوطة في إيران ، ص ٩٨ ، تعليق ١٣٣.

٤٨

الفريقان معا ثم كانت الدائرة على الرافضة ، وفر سلطانهم مسعود ، وثبت خليفتهم حسن في عشرين ألفا حتى قتل وقتل أكثرهم وأسر منهم نحو أربعة آلاف (١٠٨).

وذكر لي بعض من حضر هذه الوقيعة أن ابتداء القتال كان في وقت الضّحى وكانت الهزيمة عند الزوال ، ونزل الملك حسين بعد الظهر فصلى. وأتي بالطعام ، فكان هو وكبراء أصحابه يأكلون وسائرهم يضربون أعناق الأسرى ، وعاد إلى حضرته بعد هذا الفتح العظيم ، وقد نصّر الله السنّة على يديه وأطفأ نار الفتنة. وكانت هذه الوقيعة بعد خروجي من الهند عام ثمانية وأربعين (١٠٩).

ونشأ بهرات رجل من الزهاد الصلحاء الفضلاء ، واسمه نظام الدين مولانا (١١٠) وكان أهل هرات يحبونه ويرجعون إلى قوله وكان يعظهم ويذكّرهم وتوافقوا معه على تغيير المنكر وتعاقد معهم على ذلك خطيب المدينة المعروف بملك ورنا ، وهو ابن عم الملك حسين ومتزوج بزوجة والده ، وهو من أحسن الناس صورة وسيرة ، والملك يخافه على نفسه وسنذكر خبره وكانوا متى علموا بمنكر ولو كان عند الملك غيّروه.

حكاية [منكر بدار الملك]

ذكر لي أنهم تعرّفوا يوما أن بدار الملك حسين منكرا فاجتمعوا لتغييره وتحصّن منهم بداخل داره ، فاجتمعوا على الباب في ستة آلاف رجل فخاف منهم ، فاستحضر الفقيه وكبار البلد وكان قد شرب الخمر فأقاموا عليه الحدّ بداخل قصره وانصرفوا عنه!

__________________

(١٠٨) قد كنت أشعر بالحسرة وأنا أعيش مع هذه الصفحات الدامية من تاريخ هذه المرحلة وكنت أتساءل هل من فرق بين أهل السنة والشيعة في ربّهم ونبيّهم وقرآنهم وفروع دينهم ... إن كل ما عرفته من فرق بين الطائفتين أن هؤلاء ... «الرافضة» ، يتعلّقون بآل البيت ، وهذا ما فهمه الإمام الشافعي من «الرفض» عند ما قال :

إن كان رفضا حبّ آل محمد

فليشهد الثّقلان أنني رافضى!

(١٠٩) عام ٧٤٨ يوافق عام ١٣٤٧ ... والجدير بالذكر أن المصادر الفارسية تؤكد ان هذه المعارك ابتدأت يوم الخميس ١٣ صفر ٧٤٣ ـ ١٨ يوليه ١٣٤٢ ، ويعلق د. موحد قائلا ، ص ٤٣٦ ، ج ١ : حارب الأمير وحيد الدين مسعود بين ١٣ صفر ٧٤٣ وسنة ٧٤٨ ، وكان ميدان المعركة على بعد ميلين من زاره ، ويقول ظهير الدين مرعشى : ان الحرب المستعرة دامت ثلاثة أيام وثلاث ليال ... ـ د. التازي : ابن بطوطة ، ص ٩٩ ، تعليق ١٣٥.

(١١٠) يذكر خليلي (ص ٤٧) ان نظام الدين مولانا هو عبد الرحيم واشتهر بعد ذلك ب (بير تسليم) ، أي شيخ التسليم ، وسمي كذلك لانه ضحى بنفسه لإنقاذ مواطنيه ، وذكر فصيح خافي اسم أبيه فصيح الدين محمد ... وضبط استشهاده عام ٧٣٧ ـ ١٣٣٧ ويقول المؤرخ الهروي معين الدين اسفزاري إن نظام الدين استشهد على يد الغز لا على يد الغوريين الذين أشار اليهم ابن بطوطة ... ضريحه موجود بجوار ضريح فخر الدين الرازي في خيابان قرب مدينة هرات.

ـ يراجع تعليق الناشرين.d.s ج ٣ ص ٤٥٦ ـ ٤٥٧.

٤٩

حكاية هي سبب قتل الفقيه نظام الدين المذكور

كانت الأتراك المجاورون لمدينة هرات الساكنون بالصحراء وملكهم طغيتمور ، الذي مر ذكره ، وهم نحو خمسين ألفا يخافهم الملك حسين ويهدي لهم الهدايا في كلّ سنة ويداريهم وذلك قبل هزيمته للرّافضة ، وأما بعد هزيمته للرافضة فتغلب عليهم ، ومن عادة هؤلاء الأتراك التردّد إلى مدينة هرات ، وربما شربوا بها الخمر وأتاهم بعضهم وهو سكران فكان نظام الدّين يحد من وجد منهم سكرانا.

وهؤلاء الأتراك أهل نجدة وبأس ولا يزالون يضربون على بلاد الهند فيسبون ويقتلون ، وربما سبوا بعض المسلمات اللاتي يكنّ بأرض الهند ما بين الكفار ، فإذا خرجوا بهنّ إلى خراسان يطلق نظام الدين المسلمات من أيدي التّرك ، وعلامة النسوة المسلمات بأرض الهند ترك ثقب الأذن! والكافرات أذانهن مثقوبات ، فاتفق مرة أن أميرا من أمراء الترك يسمّى تمور الطي سبى امرءة وكلف بها كلفا شديدا فذكرت أنها مسلمة ، فانتزعها الفقيه من يده ، فبلغ ذلك من التركي مبلغا عظيما وركب في آلاف من أصحابه وأغار على خيل هرات وهي في مراعاها بصحراء مرغيس واحتملوها فلم يتركوا لأهل هرات ما يركبون ولا يحلبون ، وصعدوا بها إلى جبل هنالك ، فبعث إليهم رسولا يطلب منهم ردّ ما أخذوه من الماشية والخيل ويذكّرهم العهد الذي بينهم ، فأجابوا بأنهم لا يردّون ذلك حتى يمكّنوا من الفقيه نظام الدين ، فقال السلطان : لا سبيل إلى هذا!!

وكان الشيخ أبو أحمد الجشتي حفيد الشيخ مودود الجشتي (١١١) ، له بخراسان شأن عظيم وقوله معتبر لديهم ، فركب في جماعة خيل من أصحابه ومماليكه ، فقال : أنا أحمل الفقيه نظام الدين معي إلى الترك ليرضوا بذلك ، ثم أردّه ، فكأنّ الناس مالوا إلى قوله ، ورأى الفقيه نظامالدين اتّفاقهم على ذلك فركب مع الشيخ أبي أحمد ووصل إلى الترك فقام إليه الأمير تمور الطي ، وقال له : أنت أخذت امرأتي منّي ، وضربه بدبوسه فكسر دماغه فخرّ ميّتا! فسقط في أيدي الشيخ أبي أحمد وانصرف من هنالك إلى بلده وردّ الترك ما كانوا أخذوه من الخيل والماشية!!

__________________

(١١١) مودود الجشتي ٥٣٧ ـ ٦٣٣ ـ ١١٤٢ ـ ١٢٣٦ ، هو في الأصل من جشت في سجستان شرقي إيران الحالية بين هرات والغور وهو مؤسس الطريقة الجشتية ، المشهورة وخاصة بالهند ، وقد ورد ذكر أحمد الجشتي في المصادر كوسيط بين غياث الدين سلطان هرات والأمير ياسوور أثناء الحوادث التي جرت عام ٧١٩ ـ ١٣١٩.

ـ خليلي الله خليلي : ابن بطوطة ، ٥٣ / ٥٤ / ٥٥ ـ الناشران : d.s. صفحة ٤٥٧.

٥٠

وبعد مدة قدم ذلك التركي الذي قتل الفقيه على مدينة هرات فلقيه جماعة من أصحاب الفقيه فتقدموا إليه كأنّهم مسلمون عليه وتحت ثيابهم السيوف فقتلوه وفرّ أصحابه!!

ولما كان بعد هذا بعث الملك حسين ابن عمه ملك ورنا الذي كان رفيق الفقيه نظام الدين في تغيير المنكر رسولا إلى ملك سجستان (١١٢) فلما حصل بها بعث إليه أن يقيم هنالك ولا يعود إليه فقصد بلاد الهند ولقيته وأنا خارج منها بمدينة سيوستان من السند (١١٣).

وهو أحد الفضلاء وفي طبعه حبّ الرياسة والصيد والبزاة والخيل والمماليك والأصحاب واللباس الملوكي الفاخر ، ومن كان على هذا الترتيب فإنه لا يصلح حاله بأرض الهند ، فكان من أمره أن ملك الهند ولّاه بلدا صغيرا وقتله به بعض أهل هرات المقيمين بالهند! بسبب جارية، وقيل إن ملك الهند دس عليه من قتله بسعي الملك حسين في ذلك ولأجله خدم الملك حسين ملك الهند وأعطاه مدينة بكّار (١١٤) من بلاد السند ومجباها خمسون ألفا من دنانير الذهب في كل سنة.

ولنعد إلى ما كنا بسبيله فنقول : سافرنا من هرات إلى مدينة الجام (١١٥) ، وهي متوسطة حسنة ، ذات بساتين وأشجار وعيون كثيرة وأنهار ، وأكثر شجرها التوت ، والحرير بها كثير ، وهي تنسب إلى الولي العابد الزاهد شهاب الدين أحمد الجام (١١٦) ، وسنذكر حكايته ، وحفيده الشيخ أحمد المعروف بزاده الذي قتله ملك الهند ، والمدينة الآن لأولاده ، وهي محرّرة من قبل السلطان ، ولهم بها نعمة وثروة.

__________________

(١١٢) كانت سجستان على ذلك العهد تتوفر على إمارة محلية تخضع للمغول. وقد كان من الأمراء الحاكمين هناك على ذلك العهد قطب الدين محمد (١٣٣١ ـ ١٣٤٥) الذي عوض بولده تاج الدّين المتوفى عام ١٣٥٠ وأخيه عز الدّين ١٣٣٣ ـ ١٣٨٢.

(١١٣) سيواستان يتعلق الأمر ، على ما يبدوا بمدينة سهوان (sehwan) التي تقع على نهر السند شمال حيدر أباد حيث نجد ابن بطوطة سيأخذ طريقه ليرى السلطان ويستأذنه في الذهاب إلى الحجاز.

(١١٤) مدينة بكار (bakkar) تقع على الطريق الشمالي لنهر السند حوالي ١٢٠ ميلا شمال ملتان.

(١١٥) مدينة الجام تسمى حاليا «تربة شيخ جام ، سابقا كان تسمى بوزجان أو بوشكان الواقعة في فوهستان على حدود بادغيس ، على الطريق المستقيم من هرات إلى نيسابور وطوس ، وقد اعطى مستوفى (ص ١٧١) المسافات هكذا : ٣٠ فرسخا من هرات إلى بّوشكان ، و ٣٨ من بوشكان إلى نيسابور ... نلاحظ أن استعمالنا هنا لاسم قوهستان يعني موقعا جغرافيا يحمل هذا الاسم على عكس استعماله في التعليق السالف رقم ٩٣ من هذا الفصل التاسع فانه هناك يعني فقط ارض الجبال ...

(١١٦) احمد الجام عاش فيما بين ٤٤١ ـ ٥٣٦ ـ ١٠٤٩ و ١١٤٢ رجل صالح شهير في المنطقة لدرجة أن تيمور قصد قبره للزيارة ، وسياتي المزيد من الحديث عنه.

٥١

وذكر لي من أثق به أنّ السلطان أبا سعيد ملك العراق قدم خراسان مرة ونزل على هذه المدينة وبها زاوية الشيخ ، فأضافه ضيافة عظيمة وأعطى لكل خباء بمحلته رأس غنم ، ولكل أربعة رجال رأس غنم ، ولكل دابة بالمحلة من فرس وبغل وحمار علف ليلة فلم يبق في المحلة حيوان إلا وصلته ضيافة.

حكاية الشيخ شهاب الدين الذي تنسب إليه مدينة الجام

يذكر أنه كان صاحب راحة مكثرا من الشّرب ، وكان له من الندماء نحو ستين وكانت لهم عادة أن يجتمعوا يوما في منزل كل واحد منهم فتدور النّوبة على أحدهم بعد شهرين ، وبقوا على ذلك مدة ، ثم إنّ النوبة وصلت يوما إلى الشيخ شهاب الدين فعقد التوبة ليلة النوبة ، وعزم على إصلاح حاله مع ربّه ، وقال في نفسه : إن قلت لأصحابي إني قد تبت قبل اجتماعهم عندي ظنوا ذلك عجزا عن مؤنتهم ، فأحضر ما كان يحضر مثله قبل من مأكول ومشروب ، وجعل الخمر في الزقاق ، وحضر أصحابه فلما أرادوا الشرب فتحوا زقّا فذاقه أحدهم فوجده حلوا ، ثم فتحوا ثانيا فوجدوه كذلك ، ثم ثالثا فوجدوه كذلك ، فكلّموا الشيخ في ذلك فخرج لهم عن حقيقة أمره ، وصدقهم سنّ بكره (١١٧) ، وعرفهم بتوبته ، وقال لهم : والله ما هذا إلا الشّراب الذي كنتم تشربونه في ما تقدم! وتابوا جميعا إلى الله تعالى ، وبنوا تلك الزاوية وانقطعوا بها لعبادة الله تعالى ، وظهر لهذا الشيخ كثير من الكرامات والمكاشفات.

ثم سافرنا من الجام إلى مدينة طوس (١١٨) وهي من أكبر بلاد خراسان وأعظمها ، بلد الإمام الشهير أبي حامد الغزالي (١١٩) رضي‌الله‌عنه ، وبها قبره ، ورحلنا منها إلى مدينة مشهد الرضا(١٢٠) وهو علي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي

__________________

(١١٧) هذا تعبير جرى مجرى المثل : كشف لهم سنّ بكره أي جمله ، البكر : الفتيّ من الإبل ... صدقهم الله حول ما فعل ، وفي نسخة : سرّ فكره ، وفي اخرى بما في فكره لكن النسخة الأصلية التي اعتمدنا عليه تذكر ما قلناه : كشف لهم سنّ بكره!

(١١٨) طوس : مدينة تقع على بضعة أميال شمال مشهد الحالية ، مدينة اجتيحت من قبل جنكيز عام ٦١٧ ـ ١٢٢٠ ، وأعيد بناؤها من لدن الامير قيراط أرغون ، ظلت كإقطاعية للمنحدرين منه الذين كوّنوا امارة لهم (٧٥٥ ـ ٧٥٩ ـ ١٣٥٤ ـ ١٣٥٨) ، وبقيت تحت هيمنة هؤلاء إلى وصول تيمور ، وقد قام هذا بتحطيم طوس نهائيا ولم يعد في إمكانها أن تسترجع سحنتها وقد عوضت بمدينة مشهد انظر التعليق ١٠١.

(١١٩) يعتبر الامام الغزالي من أشهر رجال الفكر الإسلامي في العصر الوسيط وقد ولد وتوفي في طوس ٤٥٠ ـ ٥٠٤ ـ ١٠٥٨ ـ ١١١١ كان أستاذا للمدرسة النظامية في بغداد ... وقد اختفى قبره اليوم في طوس.

(١٢٠) (مشهد) الحالية القرية القديمة التي كانت تحمل اسم سناباد حيث دفن الإمام الرضى ٢٠٣ ـ ٨١٨ على ما ياتي.

٥٢

٥٣

٥٤

زين العابدين بن الحسين الشهيد بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (١٢١) رضي‌الله‌عنهم ، وهي أيضا مدينة كبيرة ضخمة كثيرة الفواكه والمياه والأرحاء الطاحنة ، وكان بها الطاهر محمد شاه والطاهر عندهم بمعنى النقيب عند أهل مصر والشام والعراق ، وأهل الهند والسند وتركستان يقولون : السيد الأجل (١٢٢).

وكان أيضا بهذا المشهد القاضي الشريف جلال الدين لقيته بأرض الهند والشريف عليّ ، وولداه أمير هندو ودولة شاه (١٢٣) وصحبوني من التّرمذ إلى بلاد الهند وكانوا من الفضلاء.

والمشهد المكرم عليه قبّة عظيمة في داخل زاوية وتجاورها مدرسة ومسجد ، وجميعها مليح البناء مصنوع الحيطان بالقاشاني ، وعلى القبر دكانة خشب ملبّسة بصفائح الفضة ، وعليه قناديل فضة معلقة ، وعتبة باب القبة فضة وعلى بابها ستر حرير مذهب ، وهي مبسوطة بأنواع البسط وإزاء هذا القبر قبر هارون الرشيد أمير المؤمنين (١٢٤) رضي‌الله‌عنه وعليه دكانة يضعون عليها الشمعدانات ، التي يعرفها أهل المغرب بالحسك ، والمنائر ، وإذا دخل الرافضي للزيارة ضرب قبر الرشيد برجله وسلّم على الرضا!!

ثم سافرنا رى مدينة سرخس (١٢٥) وإليها ينسب الشيخ الصالح لقمان السرخسي(١٢٦)رضي‌الله‌عنه.

__________________

(١٢١) على الرضا بن موسى الكاظم الامام الثامن عند الشيعة ١٨٣ ـ ٢٠٢ ـ ٧٩٩ ـ ٨١٨ كان أسود اللون ، أمه حبشية أحبّه المامون العباسي فعهد اليه بالخلافة من بعده وزوجه ابنته وضرب اسمه على الدينار والدرهم وغير من أجله الزيّ العباسي من السواد إلى الخضرة ... قبره على التّراب الإيراني مات في حياة المامون بطوس فدفنه إلى جانب أبيه الرشيد ولكن لم تتم له الخلافة وعاد المامون إلى السواد!!! ـ أصبح قبره بسرعة مزارة للناس وسائر جهات الدنيا كما قلنا سابقا ... بيد أنّ الاهتمام بالمشهد تطور وتكاثر بعد تنصيب الصفويين في بداية القرن العاشر الهجري السادس عشر. ـ وقد كانت آخر زيارة لي لمتحفه ومكتبته العظيمة يوم ٤ / ٦ / ١٩٩٦ صحبة ولدي يسر.

(١٢٢) الطاهر نقيب الأشراف هو رئيس السادة المنحدرين من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بواسطة الامام علي كرم الله وجهه.

(١٢٣) سنقف فيما بعد على شريف يحمل اسم علي ولكنه ليس ملقّبا بجلال الدين.

(١٢٤) هارون الرشيد كان أعظم خلفاء بني العباس توفي بطوس عام ١٩٣ ـ ٨٠٩ أثناء حركة له في خراسان وبأمر من ولده المأمون دفن بطوس كما أسلفنا ...

(١٢٥) تقع سرخس شرق طوس ومشهد على الحدود بين إيران وبين الروسيا على الطريق الذاهب من مشهد الإيرانية إلى مرو الأفغانية ...

(١٢٦) ذكر هذا الشيخ عند الجامي في (نفحات الأنس) ولكنا لا نتوفر على معلومات عن تاريخ ميلاده ووفاته ...

٥٥

ثم سافرنا منها إلى مدينة زاوة (١٢٧) ، وهي مدينة الشيخ الصالح قطب الدين حيدر(١٢٨)، وإليه تنتسب طائفة الحيدرية من الفقراء ، وهم الذين يجعلون حلق الحديد في أيديهم وأعناقهم وآذانهم ويجعلونها أيضا في ذكورهم حتى لا يتأتى لهم النكاح!!

ثم رحلنا منها فوصلنا إلى مدينة نيسابور (١٢٩) ، وهي إحدى المدن الأربع التي هي قواعد خراسان ويقال لها دمشق الصغيرة لكثرة فواكهها وبساتينها ومياهها وحسنها وتخترقها أربعة من الأنهار ، وأسواقها حسنة متّسعة ومسجدها بديع وهو في وسط السوق ويليه أربع من المدارس يجري بها الماء الغزير ، وفيها من الطلبة خلق كثير يقرءون القرآن والفقه وهي من حسان مدارس تلك البلاد.

ومدارس خراسان والعراقين ودمشق وبغداد ومصر ، وإن بلغت الغاية من الإتقان والحسن فكلها تقصر عن المدرسة التي عمّرها مولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله المجاهد في سبيل الله عالم الملوك وواسطة عقد الخلفاء العادلين أبو عنان وصل الله سعده ونصر

__________________

(١٢٧) زاوه هي : تربة حيدرية الحالية تقع جنوب غربي مشهد ، وهكذا فإن خط سير ابن بطوطة كان ذا تعرجات ، وبهذا يرتفع إشكال أنه ربما كان لا يضبط تحديد الاتجاهات في رحلته ...

ـ د. التازي : ابن بطوطة في إيران ، ص ١٠٦ ، تعليق ١٣٧.

(١٢٨) قطب الدين حيدر المتوفى عام ٦١٨ ـ ١٢٢١ كان تلميذا لجمال الدين الصاوي مؤسس الطريقة الصوفية الملامتية (القلندرية) ، أسس هو كذلك الطريقة الحيدرية التي انتشرت في آسيا الصغرى وفي الهند ، وربما كان هو الذي أدخل استعمال الحشيش كوسيلة للوصول إلى التخلّص من التفكير على ما سلف.

وفضيلة النوم الخروج بأهله

من عالم هو بالأذى مجبول!!

وتذكّرني حالة الحيدرية فيما ورد عن أحد الملامتية : (مولاي اسنانو) الذي قلع أسنانه حتى لا يلتذ بالدّنيا!! الكتاني : سلوة الأنفاس i ص ٢١٨.

(١٢٩) خربت نيسابور من قبل المغول عام ٦١٨ ـ ١٢٢١ ثم بسبب زلزال ضربها عام ٦٧٩ ـ ١٢٨٠ ومع ذلك كانت عاصمة لمملكة جاني قرباني في عام ٧٣٨ ـ ١٣٣٨ عندما احتلت من قبل السربدار مسعود ...

حوالي أواخر القرن أصبحت تحت هيمنة آل گرت بهرات قبل أن تفتح من قبل تيمور. ونحن نعلم أن نيسابور كانت في القرن الخامس الهجري مركزا من المراكز الثقافية الكبرى في شرق العالم الإسلامي لتعدّد مدارسها وطلبتها على نحو ما كانت عليه تونس وفاس والقاهرة بفضل جامع الزيتونة والقرويين والأزهر ...

٥٦

جنده وهي التي عند القصبة من حضرة فاس حرسها الله تعالى فإنها لا نظير لها سعة وارتفاعا ، ونقش الجص بها لا قدرة لأهل المشرق عليه (١٣٠)

ويصنع بنيسابور ثياب (١٣١) الحرير من النخ والكمخاء وغيرها ، وتحمل منها إلى الهند ، وفي هذه المدينة زاوية الشيخ الإمام العالم القطب العابد قطب الدين النيسابوري أحد الوعاظ العلماء الصالحين ، نزلت عنده فأحسن القرى وأكرم ، ورأيت له البراهين والكرامات العجيبة.

كرامة له

كنت قد اشتريت بنيسابور غلاما تركيّا فرآه معي ، فقال لي : هذا الغلام لا يصلح لك فبعه ، فقلت له : نعم ، وبعث الغلام في غد ذلك اليوم ، واشتراه بعض التجار ، ووادعت الشيخ وانصرفت ، فلما حللت بمدينة بسطام كتب إلي بعض أصحابي من نيسابور وذكر أنّ الغلام المذكور قتل بعض أولاد الأتراك وقتل به! وهذه كرامة واضحة لهذا الشيخ رضي‌الله‌عنه (١٣٢).

وسافرت من نيسابور إلى مدينة بسطام (١٣٣) التي ينسب إليها الشيخ العارف أبو

__________________

(١٣٠) علّق أبو القاسم الزّياني في «الترجمانة الكبرى» على إطراء ابن بطوطة لمدرسة السلطان أبي عنان بأن «هذا من التّغالي في الكذب ... فإن في كل إقليم من أقاليم بلاد العرب كمصر والشام والعراق التي شاهدناها ... ما هو مثلها وأعلى منها ضخامة وتأنقا وحسنا ، واما بلاد العجم والترك فحدث عن البحر ولا حرج ... وقد عقب عبد الحي الكتاني على الزياني متهما إياه بالجهل والغرض وعدم الإنصاف ... هذا ونذكّر هنا بأن المدرسة البوعنانية «المذكورة هنا هي غير «الزاوية البوعنانية» سالفة الذّكر ... والتي التبست على التراجمة بالمدرسة ، كما نذكّر بأن (القصبة) هنا علم جغرافي لموقع بمدينة فاس قريب من المدرسة البوعنانية يعرف حتّى الآن بالقصبة حيث كان الجيش يعسكر لحماية الأمن ... وقد تطلق عبارة (القصبة) على العاصمة ...

(١٣١) يذكر ابن حوقل ان نيسابور تعرف بأبرشهر ، وفيها يقول أبو تمام

أيا سهري بليلة أبرشهر

ذممت إليّ نوما في سواها!

وتحدث عن فنادق البزّازين فيها : «ويرتفع منها من أصناف البز وفاخر القطن والقز ما ينقل إلى بلاد الاسلام وبعض بلدان الشرق لكثرته وجودته ولإيثار الملوك والرؤساء لكسوته ...».

(١٣٢) لا أدري بماذا نعلل عدم اهتمام ابن بطوطة بزيارة ضريح عمر الخيام ـ وهو من هو في العلم والادب والتاريخ ـ قال القفطى في نعته : إنه إمام خرسان وعلامة الزمان يعلم علم يونان ويحث على طلب الواحد الديّان ... أدركه أجله ٥١٥ ـ ١١٢١.

(١٣٣) بسطام تقع على منتصف الطريق الذي يربط طهران بمشهد. كانت مدينة زاهرة على عهد ياقوت الحموي ...

٥٧

يزيد البسطامي (١٣٤) الشهير رضي‌الله‌عنه ، وبهذه المدينة قبره ومعه في قبة واحدة أحد أولاد جعفر الصادق (١٣٥) رضي‌الله‌عنه ، وببسطام أيضا قبر الشيخ الصالح الولي أبي الحسن الخرقاني.

وكان (١٣٦) نزولي من هذه المدينة بزاوية الشيخ أبي زيد البسطامي ، رضي‌الله‌عنه ثم سافرت من هذه المدينة على طريق هند خير (١٣٧) إلى قندوس (١٣٨) وبغلان (١٣٩) ، وهي

__________________

(١٣٤) يعرف البسطامي تحت اسم بايزيد ، وهو من أشهر رحال التصوّف في الإسلام يوجد على رأس لائحة الملامتية وقد توفي في سنة ٢٦٠ ـ ٨٧٤ ، ضريحه مشهور ومقصود ، وهو الذي سئل : أيعصي العارف؟ فأجاب : وكان أمر الله قدرا مقدروا! يعني أن معصيتهم بحكم القدر النافذ فيهم!! ابن عربي : الفتوحات المكية ج III ص ٤١٠ طبع الهيأة المصرية العامة للكتاب ١٩٧٤. تصدير د. ابراهيم مدكور.

(١٣٥) هذا مما استأثر بذكره الرحالة المغربي بيد أن عددا من أضرحة أبناء الأئمة التي تحمل اسم إمام زاده توجد متناثرة في إيران ، ومن بينها ضريح محمد ابن جعفر الصادق الامام السادس الذي يوجد في جرجان شمال بسطام.

(١٣٦) يعتبر أبو الحسن الخرقاني گوارث روحي للشيخ البسطامي ، وقد أدركه أجله سنة ٤٢٥ ـ ١٠٣٤.

(١٣٧) يعقّب على ابن بطوطة هنا أنه أولا كأنما قام بأخذ طائرة مروحية من بسطام ، ليجد نفسه في قندوس وبغلان!! انظر الخريطة ... وهكذا يلاحظ السفير خليلي في : كتابه (ابن بطوطة في أفغانستان) أولا من بسطام إلى قندوس مسافة جد طويلة ، هناك عدة مدن وقصبات في عرض الطريق لم يذكر شيئا ولو مختصرا عنها ...

ثانيا : يقول ابن بطوطة أنه وصل بغلان وقندوس عن طريق (هند خير) وهي طريق لم تكن معروفة ، وإذا ما صحت إشارة بعض المستشرقين إلى أن (هندخير) هي مدينة أندخوذ (المذكورة عند ابن حوقل ص ٣٢٣ ـ ليدن ١٨٨٢) المعروفة اليوم أندخوى : مائة ميل غرب بلخ فإننا مع ذلك نتسائل : لماذا لم يذكر ابن بطوطة شيئا عن المدن التي كانت قي طريقه غير أندخد ، وفي ظني ـ يقول خليلي ـ أن عددا من الصحائف قد سقطت من النسخ المطبوعة ..! وأقول : إن النسخ المخطوطة التي اتوفر عليها سواء منها المغربية أو الأوربية تختلف بين رسم الكلمة هند خير أو مندخى (مندخان؟) أما مختصر الرحلة للأزهري و «منتقاها» للبيلوني فقد تجنبا عبارة (على طريق هند خير)!

وفي الختام أذكّر ـ تأكيدا لما قاله خليلي من سقوط بعض الصفحات ـ بأن ابن جزي قال في آخر الرحلة «انتهى ما لخصته من تقييد الشيخ ولهذا فقد يكون نقص الصفحات من صنيع ابن جزي الذي لم يتجاوز ثلاثة شهور في اختصار ما سجله ابن بطوطة قرابة ثلاثين سنة!!

ـ خليل الله خليلي : ابن بطوطة في أفغانستان ، مطبعة الجامعة ، بغداد ١٩٧١. يراجع تعليق الناشرين.d.s ... ـ د. التازي : مع ابن بطوطة في إيران.

(١٣٨) قندوس من مدن طخارستان شمال أفغانستان ، والبلدانيون القدامى لم يذكروا اسم هذه المدينة ... وكلمة قندوس مخففة أو معربة من كهندر وتعني القلعة القديمة ... مدينة تجارية ، جعلت منها زراعة القطن مدينة ذات ثروة كبيرة ، واليها تنسب الثياب القندسية التي ورد ذكرها في رحلة أبي حامد الغرناطي. ص ١١٨ يراجع التعليق ٥٦ ج ٢ ص ١٨٦.

(١٣٩) بغلان من مدن طخارستان ، والمسافة بين بغلان وقندوس هي أكثر من ثلاثين ميلا ، وقد شاهدهما الرحالة المغربي بعد تدمير جنكيز حيث وجدهما أقرب إلى القريتين منهما إلى المدينتين! ولقد اكتشفت آثار المدنيات القديمة فيها نتيجة التحريات والحفريات ...

٥٨

قرى فيها مشايخ وصالحون ، وبها البساتين والأنهار فنزلنا بقندوس على نهر ماء به زاوية لأحد شيوخ الفقراء من أهل مصر ، يسمّى بشير سيّاه ومعنى ذلك الأسد الأسود ، وأضافنا بها والي تلك الأرض ، وهو من أهل الموصل ، وسكناه ببستان عظيم هنالك ، وأقمنا بخارج هذه القرية نحو أربعين يوما لرعي الجمال والخيل ، وبها مراعي طيبة وأعشاب كثيرة ، والأمن بها شامل بسبب شدة أحكام الامير بزنطيه (١٤٠) ، وقد قدمنا أن أحكام الترك في من سرق فرسا أن يعطي معه تسعة مثله ، فإن لم يجد ذلك أخذ فيها أولاده ، فإن لم يكن له أولاده ذبح ذبح الشاة! والناس يتركون دوابّهم مهملة دون راع بعد أن يسم كلّ واحد دوابه في أفخاذها ، وكذلك فعلنا في هذه البلاد!

واتفق أن تفقدنا خيلنا بعد عشر من نزولنا بها ، ففقدنا منها ثلاثة أفراس ، ولما كان بعض نصف شهر جاءنا التتر بها إلى منزلنا ، خوفا على أنفسهم من الأحكام.

وكنا نربط في كل ليلة إزاء أخبيتنا فرسين لما عسى أن يقع بالليل ، ففقدنا الفرسين ذات ليلة ، وسافرنا من هنالك ، وبعد اثنتين وعشرين ليلة جاءوا بهما إلينا في أثناء طريقنا.

وكان أيضا من أسباب إقامتنا خوف الثلج ، فإن بأثناء الطريق جبلا يقال له هندوكوش(١٤١) ومعناه قاتل الهنود ، لأنّ العبيد والجواري الذين يوتي بهم من بلاد الهند يموت هنالك الكثير منهم لشدّة البرد وكثرة الثلج ، وهو مسيرة يوم كامل ، وأقمنا حتى تمكّن دخول الحرّ (١٤٢) ، وقطعنا ذلك الجبل من آخر الليل وسلكنا به جميع نهارنا إلى الغروب ، وكنا نضع اللبود بين أيدي الجمال وتطأ عليها لئلا تغرق في الثلج!

ثم سافرنا إلى موضع يعرف بأندر (١٤٣) ، وكانت هنالك فيما تقدم مدينة عفى رسمها ،

__________________

(١٤٠) برنطية أو برنتيه لم نستطع ـ كما أسلفنا ـ أن نقف على ذكر له حتى في المصادر الأفغانية ـ حول عقوبة سرقة الخيول انظر الفصل ٣.

(١٤١) تعدّ سلسلة جبال (هندوكش)(hindu kush) بمنزلة العمود الفقري لافغانستان وأن الجبال التي تقع في الشمال والجنوب من أفغانستان هي فروع لهندوكش ، وورد في كتاب الابستاق اسم هذا الجبل بما يمكن ترجمته هكذا : «أعلى من طيران العقاب» ، وتبلغ قمته أكثر من ٧٠٠٠ متر ، ولقد أقام الرحالة المغربي في بغلان حوالي أربعين يوما حتى يساعد الطقس لعبور قمم هندوكوش ، «وياليت ابن بطوطة ، يقول خليلي : كان حيا اليوم ليرى كيف استطاع الانسان بعلمه اختراق هندوكوش في ساعة واحدة!! خليلي ٦٢.

(١٤٢) هذه الاشارة التي نقلتنا إلى فصل الربيع لسنة ٧٣٥ ـ ١٣٣٥ أو (٧٣٣ ـ ١٣٣٣) تشهد بأن التنقلات كانت صعبة في خراسان ...

(١٤٣) أوردها ابن بطوطة هكذا (اندر) وهي (اندراب) مدينة صغيرة شمال هندوكوش ، وهي يقول خليلي ـ غير مدينة أندراب (andarab) التي تقع في أردبيل وغير اندرابه التي في مرو وشاهنجان ، وهي النقطة الأولى في شمال هندوكوش التي توقف فيها الاسكندر ، وكانت الفضّة التي تستخرج من مناجم تذوّب في أندراب ... ـ خليلي : ابن بطوطة في أفغانستان ص ٦٠ ـ ٦١.

٥٩

ونزلنا عنده وأكرمنا ، وكان متى غسلنا أيدينا من الطعام يشرب الماء الذي غسلناها به لحسن اعتقاده وفضله ، وسافر معنا إلى أن صعدنا جبل هندوكوش المذكور ووجدنا بهذا الجبل عين ماء حارة فغسلنا منها وجوهنا فتقشرت وتألّمنا لذلك!

ثم نزلنا بموضع يعرف ببنج هير (١٤٤) ، ومعنى بنج خمسة ، وهير الجبل ، فمعناه خمسة جبال ، وكانت هنالك مدينة حسنة كثيرة العمارة على نهر عظيم أزرق كأنه بحر ينزل من جبال بدخشان ، وبهذه الجبال يوجد الياقوت الذي يعرفه الناس بالبلخش ، وخرب هذه البلاد تنكيز ملك التتر فلم تعمر بعد ، وبهذه المدينة مزار الشيخ سعيد المكي وهو معظّم عندهم.

ووصلنا إلى جبل بشاي (١٤٥) ، وضبطه بفتح الباء المعقودة والشين المعجم وألف وباء ساكنة ، وبه زاوية الشيخ الصالح أطا أولياء ، وأطا بفتح الهمزة معناه بالتركية الاب ، وأولياء باللسان العربي ، فمعناه أبو الأولياء ، ويسمّى أيضا سيصد صاله. وسيصد بسين مهمل مكسورة وياء مد وصاد مهمل مفتوح ودال مهمل ومعناه بالفارسية ثلاثمائة ، وصاله بفتح الصاد المهمل واللام معناه عام ، وهم يذكرون أن عمره ثلاثمائة وخمسون عاما ولهم فيه اعتقاد حسن وياتون لزيارته من البلاد والقرى ويقصده السلاطين والخواتين ، وأكرمنا وأضافنا ، ونزلنا على نهر عند زاويته ، ودخلنا إليه فسلّمت عليه وعانقني وجسمه رطب لم أر ألين منه ، ويظنّ رائيه أن عمره خمسون سنة ، وذكر لي أنه في كلّ مايه سنة ينبت له الشعر والأسنان ، وأنه رأى أبارهم الذي قبره بملتان من السند وسألته عن رواية حديث ، فأخبرني بحكايات وشككت في حاله والله أعلم بصدقه.

ثم سافرنا إلى برون (١٤٦) ، وضبطها بفتح الباء المعقودة وسكون الراء وفتح الواو وآخرها نون ، وفيها لقيت الأمير برنطيه ، وضبط اسمه بضم الباء وضم الراء وسكون النون

__________________

(١٤٤) جبال بنج هير ذكرها الاصطخرى وابن حوقل ... وأشارا إلى أن من معادنها الفضة واللازورد ، وكان في بنجهر دار لضرب العملة من الفضة المذابة في اندراب ، وتحمل اسماء الخلفاء العباسيين وسلاطين البلاد. وعين الماء الحار لا تزال موجودة حتى اليوم ، أما مقبرة المكي التي ذكرها فلم يعثر على أثرها ... ـ خليلي : ص ٦٤ ـ ٦٥.

(١٤٥) يظن الأستاذ خليلي أن (جبل بشاي) يعني (الجبل الصغير) وهو يقع بالقرب من كلبهار ويسميه الأهالي بهذا الاسم ... وكان فيه من قديم الزمان ضريح سماه الناس الشيخ العارف ، وربما كان هذا المرقد مرقد الشيخ أتا الذي تلاقى معه ابن بطوطة ، ويذكر أن من جملة اسماء المنطقة في القديم كافرستان لوجود الكفار بها ، وهي تسمى اليوم نور استان في وادي بنج هير ...

(١٤٦) بروان : تقع عند ملتقى بنج هيروگوربان ، ٤٥ ميلا شمال كابل ، ويعتقد بعض المستشرقين أن قلعة الاسكندرية التي بناها الاسكندر كانت بالقرب من بروان وقد ورد الاسم في خريطة الادريسي.

٦٠