رحلة ابن بطوطة - ج ٣

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ٣

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-009-5
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٢٥٥

عسكر القاضي جلال شيخ يسمّى جلّول (٦٦) ، وهو أحد الشجعان فلا يزال يفتك في العساكر ويقتل ويطلب المبارزة فلا يتجاسر أحد على مبارزته ، واتّفق يوما أنّه دفع فرسه فكبا به في حفرة فسقط عنه وقتل ووجدوا عليه درعين فبعثوا برأسه إلى السلطان وصلبوا جسده بسور بلوذرة وبعثوا يديه ورجليه إلى البلاد.

ثمّ وصل السلطان بعساكره فلم يكن للقاضي جلال من ثبات ففرّ في أصحابه وتركوا أموالهم وأولادهم فنهب ذلك كلّه ، ودخلت المدينة (٦٧) واقام بها السلطان أيّاما ثمّ رحل عنها وترك بها صهره شرف الملك امير بخت الذي قدّمنا ذكره وقضيّة فراره ، وأخذه بالسند وسجنه وما جرى عليه من الذلّ ، ثمّ من العزّ ، وأمر بالبحث عمّن كان في طاعة جلال الدين ، وترك معه الفقهاء ليحكم باقوالهم فأدّى ذلك إلى قتل الشيخ عليّ الحيدريّ (٦٨) حسبما قدّمناه.

ولمّا هرب القاضي جلال لحق بناصر الدّين بن ملك ملّ بدولة آباد ودخل في جملته(٦٩)فأتى السلطان بنفسه إليهم واجتمعوا في نحو أربعين الفا من الأفغان والترك والهنود والعبيد وتحالفوا على أن لا يفرّوا وأن يقاتلوا السلطان ، وأتى السلطان لقتالهم ، ولم يرفع الشطر الذي هو علامة عليه ، فلمّا استحرّ القتال رفع الشطر فلمّا عاينوه دهشوا وانهزموا أقبح هزيمة ولجأ ابن ملك ملّ والقاضي جلال في نحو أربعمائة من خواصهما إلى قلعة الدّويقير ، وسنذكرها(٧٠) ، وهي من أمنع قلعة في الدنيا ، واستقرّ السلطان بمدينة دولة آباد ، والدّويقير هي قلعتها ، وبعث لهم أن ينزلوا على حكمه فأبوا أن ينزلوا إلّا على الأمان فأبى السلطان أن يؤمنهم وبعث لهم الأطعمة تهاونا بهم وأقام هنالك ، وعلى ذلك آخر عهدي بهم (٧١).

__________________

(٦٦) يسمّى جاه أفغان عند عصامي ، ولعلّ من المفيد أن نشير هنا إلى أن اسم (جلّول) أخذ بعض اتباع الطريقة الجيلانية يطلقونه على بعض المنتسبين للشيخ عبد القادر الجيلاني أو الجيلالي وربما انحرف الدجلّون.

(٦٧) قتل جاه اثناء طلعة لفرقة عسكريّة مخلصة لباروش (baruch) وقد شتتت جيوشه في جمادى الأولى ٧٤٦ ـ شتنبر ١٣٤٥ قبل وصول محمد ابن تغلق الذي دخل إلى كنباية (cambay) في نونبر ...

(٦٨) الحديث عن تاريخ علي الحيدري تقدم في ١١٣ ـ ٩٠٣ ,iii وقد جرى هذا اذن عام ٧٤٦ ـ ١٣٤٥.

(٦٩) من المعلوم بأن قواد المائة المنهزمين من طرف محمد بن تغلق في الجزرات فروا إلى دولة أباد وأسهموا في إعادة الثورة من هذا المكان. محمد بن تغلق غادر باروش (baruch) في محرم ٧٤٧ ـ مايه ١٣٤٦ للوصول أمام دولة أباد في أكتوبر.

(٧٠) سيتم وصف مدينة دولة أباد ... في ١٥ ـ ٦٤ ,iv.

(٧١) كان على محمد بن تغلق أنّ يعود إلى الجزرات حتى يخمد ثورة جديدة ، أمّا عن قواد المائة التابعين له والذين بقوا في المكان فقد قضى عليهم من قبل حسن الذي أعلن عن نفسه ملكا يوم ٢٤ ربيع الثاني ٧٤٨ ـ ٣ غشت ١٣٤٧. (انظر التعليق السابق ٦٤) ذهاب السلطان يؤرخ بشهر مارس ١٣٤٧ ـ ذي الحجة ٧٤٧. هذا ويلاحظ أن اخبار ابن بطوطة الذي سيودّع قاليقوط أخيرا في اتجاه الجزيرة العربية في نهاية نفس الشهر تقف قبل هذا بقليل ...

٢٢١

ذكر قتال مقبل وابن الكولمي

وكان ذلك قبل خروج القاضي جلال وخلافه ، وكان تاج الدين بن الكولميّ (٧٢) من كبار التجار فوفد على السلطان من أرض التّرك بهدايا جليلة منها المماليك والجمال والمتاع والسلاح والثياب ، فأعجب السلطان فعله وأعطاه اثنى عشر لكّا ، ويذكر أنّه لم تكن قيمة هديّته الّا لكّا واحدا ، وولّاه مدينة كنباية ، وكانت لنظر الملك مقبل نائب الوزير ، فوصل إليها وبعث المراكب إلى بلاد المليبار وجزيرة سيلان وغيرها ، وجاءته التحف والهدايا في المراكب وضخمت حاله ، ولما عزم على أن يبعث أموال تلك الجهات إلى الحضرة بعث الملك مقبل إلى ابن الكولميّ أن يبعث ما عنده من الهدايا والأموال مع هدايا تلك الجهات على العادة ، فامتنع ابن الكولمي من ذلك ، وقال : أنا أحملها بنفسي أو أبعثها مع خدّامي ولا حكم لنائب الوزير عليّ ولا للوزير ، واغترّ بما أولاه السلطان من الكرامة والعطيّة فكتب مقبل إلى الوزير بذلك فوقّع له الوزير على ظهر كتابه : إن كنت عاجزا عن بلادنا فاتركها وارجع الينا ، فلمّا بلغه الجواب تجهّز في عسكره ومماليكه والتقيا بظاهر كنباية فانهزم ابن الكولميّ ، وقتل جماعة من الفريقين واستخفى ابن الكولميّ في دار الناخوذة إلياس أحد كبراء التجار.

ودخل مقبل المدينة فضرب رقاب أمراء عسكر ابن الكولميّ وبعث له الأمان على أن ياخذ ماله المختصّ به ويترك مال السلطان وهديّته ومجبي البلد ، وبعث مقبل بذلك كلّه مع خدّامه إلى السلطان وكتب شاكيا من ابن الكولميّ ، وكتب ابن الكولميّ شاكيا منه ، فبعث السلطان ملك الحكماء ليتنصّف بينهما ، وبإثر ذلك كان خروج القاضي جلال الدين فنهب مال ابن الكولميّ ، وفرّ ابن الكولميّ في بعض مماليكه ولحق بالسلطان.

ذكر الغلاء الواقع بأرض الهند

وفي مدّة مغيب السلطان عن حضرته إذ خرج بقصد بلاد المعبر ، وقع الغلاء واشتدّ الأمر (٧٣) وانتهى المنّ إلى ستّين درهما ، ثمّ زاد على ذلك ، وضاقت الأحوال وعظم الخطب ولقد خرجت مرّة إلى لقاء الوزير فرأيت ثلاث نسوة يقطعن قطعا من جلد فرس مات منذ أشهر ويأكلنه وكانت الجلود تطبخ وتباع في الأسواق ، وكان الناس إذا ذبحت البقر أخذوا دماءها فأكلوها!

__________________

(٧٢) الحديث عن هذه الشخصية وعن تاريخها مما استأثر به الرحّالة ابن بطوطة ـ ٩٦٣ ,iii.

(٧٣) يراجع التعليق رقم ٣٩ حول المجاعة التي أصابت البلاد.

٢٢٢

وحدّثني بعض طلبة خراسان انّهم دخلوا بلدة تسمّى أكروهة (٧٤) بين حانسي وسرستي فوجدوها خالية فقصدوا بعض المنازل ليبيتوا به فوجدوا في بعض بيوته رجلا قد أضرم نارا وبيده رجل آدميّ وهو يشويها في النار ويأكل منها والعياذ بالله!

ولمّا اشتدّت الحال أمر السلطان أن يعطى لجميع أهل دهلي نفقة ستّة أشهر فكانت القضاة والكتاب والأمراء يطوفون بالأزقّة والحارات ، ويكتبون الناس ويعطون لكلّ أحد نفقة ستّة أشهر بحساب رطل ونصف من أرطال المغرب في اليوم لكلّ واحد ، وكنت في تلك المدّة أطعم الناس من الطعام الذي أصنعه بمقبرة السلطان قطب الدين (٧٥) ، حسبما يذكر ، فكان الناس ينتعشون بذلك ، والله تعالى ينفع بالقصد فيه.

واذ قد ذكرنا من أخبار السلطان وما كان في أيّامه من الحوادث ما فيه الكفاية فلنعد إلى ما يخصّنا من ذلك ونذكر كيفيّة وصولنا أوّلا إلى حضرته (٧٦) وتنقّل الحال إلى خروجنا عن الخدمة ، ثمّ خروجنا عن السلطان في الرسالة إلى الصين وعودنا منها إلى بلادنا ان شاء الله تعالى.

ذكر وصولنا إلى دار السلطان عند قدومنا وهو غائب

ولمّا دخلنا حضرة دهلي قصدنا باب السلطان ودخلنا الباب الأوّل ثمّ الثاني ثمّ الثالث ووجدنا عليه النقباء وقد تقدّم ذكرهم فلمّا وصلنا إليهم تقدّم بنا نقيبهم إلى مشور عظيم متّسع فوجدنا به الوزير خواجة جهان ينتظرنا ، فتقدّم ضياء الدين خذاوند زاده ، ثمّ تلاه أخوه قوام الدين ثمّ أخوهما عماد الدين (٧٧) ثمّ تلوتهم ثمّ تلاني أخوهم برهان الدين ، ثمّ

__________________

(٧٤) أكروهة (aqruha) تسمّى اليوم (hisar) ـ ورأيت ضبطها بضم الهمزة : أكروهة بوزن أعجوبة.

(٧٥) قطب الدين مبارك ١٣١٦ ـ ١٣٢٠ ـ ٧١٦ ـ ٧٢٠ شخصية جد محترمة من طرف محمد بن تغلق. وقد طلب إلى ابن بطوطة أن يتعهد ضريحه ويقوم بصيانته ...

(٧٦) هنا نرى ابن بطوطة يستأنف الحديث من جديد عن خط سيره الذي تركه عند بداية الحديث عن سلطنة دهلي ٦٤١ ,iii ليقوم بهذا الاستطراد الطويل حول اخبار السلطنة وملكها محمد ابن تغلق ...

(٧٧) كان ابن بطوطة قد لقي قبل هذا قوام الدين وإخوانه في ترمذ حيث كان قوام الدّين قاضيا. عائلة هذا كانت تمارس السلطة تحت سيادة المغول ـ ٨٥ ـ ٦٥ ,iii.

لقد قام الرحالة المغربي بزيارة الهند في نفس الوقت الذي قام فيه أولئك بالزيارة ، وكذلك لقيهم في ملتان وستذكر مهماتهم التشريفية ...

٢٢٣

الأمير مبارك السمرقنديّ ، ثمّ أرن بغا التركيّ (٧٨) ثمّ ملك زادة ، ابن اخت خذاوند زادة (٧٩) ، ثمّ بدر الدين الفصّال.

ولمّا دخلنا من الباب الثالث ظهر لنا المشور الكبير المسمّى هزار أسطون ومعنى ذلك ألف سارية (٨٠) ، وبه يجلس السلطان الجلوس العامّ ، فخدم الوزير عند ذلك حتّى قرب رأسه من الأرض وخدمنا نحن بالركوع ، وأوصلنا أصابعنا إلى الأرض وخدمتنا لناحية سرير السلطان ، وخدم جميع من معنا ، فلمّا فرغنا من الخدمة صاح النقباء باصوات عالية : بسم الله ، وخرجنا.

ذكر وصولنا لدار أمّ السلطان وذكر فضائلها

وامّ السلطان تدعى المخدومة جهان ، وهي من أفضل النساء ، كثيرة الصدقات عمّرت زوايا كثيرة ، وجعلت فيها الطّعام للوارد والصادر وهي مكفوفة البصر ، وسبب ذلك انّه لمّا ملك ابنها جاء اليها جميع الخواتين وبنات الملوك والأمراء في أحسن زيّ وهي على سرير الذهب المرصّع بالجوهر فخدمن بين يديها جميعا ، فذهب بصرها للحين ، وعولجت بأنواع العلاج فلم ينفع.

وولدها أشدّ الناس برورا بها ، ومن بروره أنّها سافرت معه مرّة ، فقدم السلطان قبلها بمدّة فلمّا قدمت خرج لاستقبالها وترجّل عن فرسه وقبّل رجلها وهي في المحفّة بمرأى من الناس أجمعين.

ولنعد لما قصدناه فنقول : ولمّا انصرفنا عن دار السلطان خرج الوزير ونحن معه إلى باب الصّرف وهم يسمّونه باب الحرم ، وهنالك سكنى المخدومة جهان ، فلمّا وصلنا بابها نزلنا عن الدوّاب وكلّ واحد منّا قد أتى بهديّة على قدر حاله ، ودخل معنا قاضي قضاة المماليك كمال الدّين بن البرهان ، فخدم الوزير والقاضي عند بابها ، وخدمنا كخدمتهم ، وكتب كاتب بابها هدايانا ، ثمّ خرج من الفتيان جماعة وتقدّم كبارهم إلى الوزير فكلّموه سرّا ثم

__________________

(٧٨) هاتان الشخصيتان كذلك تم الحديث عنهما في ملتان ٢٢١ ـ ١٢١ ـ ٠٢١ ,iii.

(٧٩) يتعلق الأمر ، على ما يظهر ، بشخصيتين مختلفتين الأولى التي قد سبق ذكرها في ملتان الخ (١٢١ ,iii)، وستنعت فيما بعد بالتّرمذي نسبة إلى أصله ترمذ كسائر الخذاوندزادية ، بينما ابن أخي خذاوند زاده هو المنعوت بأمير بخث الذي سيلقب بشريف الملك ، وقد ذكر عدة مرات. بعد نكبة عابرة أصبح ملازما وصهرا للسلطان ، وقد سمي في حنديري ثم كلف بتهدئة كنباية أثناء الثورة الأولى للجزرات ـ ٨٩٣ ـ ٤٩٣ ـ ٨٦٣ ـ ١٦٣ ـ ٨٥٣ ـ ٠١٣ iii ـ ٤٧ ـ ٢٧ ـ ii.

(٨٠) يعتبر هذا القصر من المعالم القليلة التي صمدت أثارها من التي شيدها محمد بن تغلق في مكان المدينة الرابعة القديمة المسماة (djahanpenah) (٧١٢ ,iii (.

٢٢٤

عادوا إلى القصر ثمّ رجعوا إلى الوزير ثمّ عادوا إلى القصر ونحن وقوف ثمّ أمرنا بالجلوس في سقيف هنالك ، ثمّ أتوا بالطعام واتو بقلال من الذهب يسمّونها السّين ، بضمّ السين والياء آخر الحروف ، وهي مثل القدور ، ولها مرافع من الذهب تجلس عليها ، يسمّونها السّبك ، بضمّ السين وبضم الباء الموحدة ، وأتوا بأقداح وطسوت وأباريق كلّها ذهب ، وجعلوا الطعام سماطين ، وعلى كلّ سماط صفّان ، ويكون في رأس الصفّ كبير القوم الواردين.

ولمّا تقدّمنا للطعام خدم الحجّاب والنقباء ، وخدمنا لخدمتهم ، ثمّ أتوا بالشربة فشربنا ، وقال الحجّاب : بسم الله ، ثمّ أكلنا واتوا بالفقّاع ثمّ بالتنبول ، ثمّ قال الحجّاب : بسم الله ، فخدمنا جميعا ، ثمّ دعينا إلى موضع هنالك فخلع علينا خلع الحرير المذهّبة ، ثمّ أتوا بنا إلى باب القصر فخدمنا عنده ، وقال الحجّاب : بسم الله ، ووقف الوزير ووقفنا معه ، ثمّ أخرج من داخل القصر تخت ثياب غير مخيطة من حرير وكتّان وقطن ، فأعطى كلّ واحد منّا نصيبه منها، ثمّ أتوا بطيفور ذهب فيه الفاكهة اليابسة ، وبطيفور مثله فيه الجلّاب وطيفور ثالث فيه التنبول.

ومن عادتهم انّ الذي يخرج له ذلك يأخذ الطيفور بيده ويجعله على كاهله ثمّ يخدم بيده الأخرى إلى الأرض ، فأخذ الوزير الطيفور بيده قصد أن يعلمني كيف أفعل إيناسا منه وتواضعا ومبرّة ، جزاه الله خيرا ، ففعلت كفعله ، ثمّ انصرفنا إلى الدار المعدّة لنزولنا بمدينة دهلي ، وبمقربة من دروازة بالم منها (٨١) ، وبعثت لنا الضيافة.

ذكر الضيافة

ولمّا وصلت إلى الدار التي أعدّت لنزولي وجدت فيها ما يحتلج إليه من فرش وبسط وحصر واوان وسرير الرّقاد ، وأسرّتهم بالهند خفيفة الحمل ، يحمل السرير منها الرجل الواحد ، ولا بدّ لكلّ احد أن يستصحب السرير في السفر يحمله غلامه على رأسه وهو أربع قوائم مخروطة ، يعرض عليها أربعة أعواد ، وتنسج عليها ضفائر من الحرير أو القطن ، فإذا نام الانسان عليه لم يحتج إلى ما يرطّبه به لأنّه يعطي الرطوبة من ذاته.

وجاءوا مع السرير بمضرّبتين ومخدّتين ولحاف ، كلّ ذلك من الحرير وعادتهم أن يجعلوا للمضرّبات واللّحوف وجوها تغشيها من كتّان أو قطن بيضا ، فمتى توسّخت غسلوا الوجوه المذكورة وبقى ما في داخلها مصونا.

__________________

(٨١) تقع هذه الدّار جنوب غربي المدينة ـ ٩٤١ ,iii.

٢٢٥

وأتوا تلك الليلة برجلين أحدهما الطاحوني وسمونه الخرّاص والآخر الجزّار ويسمّونه القصّاب ، فقالوا لنا : خذوا من هذا كذا وكذا من الدقيق ، ومن هذا كذا وكذا من اللحم ، لأوزان لا أذكرها الآن.

وعادتهم أن يكون اللحم الذي يعطون بقدر وزن الدقيق ، وهذا الذي ذكرناه ضيافة أمّ السلطان ، وبعد ذلك وصلتنا ضيافة السلطان ، وسنذكرها ، ولمّا كان من غد ذلك اليوم ركبنا إلى دار السلطان وسلّمنا على الوزير فأعطاني بدرتين : كلّ بدرة من ألف دينار دراهم ، وقال لي هذه سرششتي (٨٢) ومعناه لغسل رأسك وأعطاني خلعة من المرعزّ ، وكتب جميع أصحابي وخدّامي وغلماني فجعلوا أربعة أصناف ، فالصنف الأول منها أعطى كلّ واحد منهم مائتي دينار ، والصنف الثاني أعطى كلّ واحد منهم مائة وخمسين دينارا ، والصنف الثالث اعطى كلّ واحد مائة دينار ، والصنف الرابع اعطى كلّ واحد خمسة وسبعين دينارا ، وكانوا نحو أربعين ، وكان جملة ما أعطوه اربعة آلاف دينار ونيفا.

وبعد ذلك عيّنت ضيافة السلطان ، وهي ألف رطل هنديّة من الدقيق ، ثلثها من الميرا ، وهو الدّرمك ، وثلثاها من الخشكار وهو المدهون ، وألف رطل من اللحم ، ومن السكّر والسمن والسليف (٨٣) والفوفل أرطال كثيرة لا أذكر عددها ، والألف من ورق التنبول ، والرطل الهنديّ عشرون رطلا من أرطال المغرب ، وخمسة وعشرون من أرطال مصر ، وكانت ضيافة خذا وندزادة أربعة آلاف رطل من الدقيق ومثلها من اللحم مع ما يناسبها مما ذكرناه.

ذكر وفاة بنتي وما فعلوا في ذلك.

ولمّا كان بعد شهر ونصف من مقدمنا توفّيت بنت لي سنّها دون السنة (٨٤) ، فاتّصل خبر وفاتها بالوزير فأمر أن تدفن في زاوية بناها خارج دروازة بالم بقرب مقبرة هنالك لشيخنا ابراهيم القونويّ ، فدفنّاها بها ، وكتب بخبرها إلى السلطان فأتاه الجواب في عشّى اليوم الثاني ، وكان بين متصيّد السلطان وبين الحضرة مسيرة عشرة ايّام.

وعادتهم أن يخرجوا إلى قبر الميت صبيحة الثالث من دفنه ويفرشون جوانب القبر بالبسط وثياب الحرير ويجعلون على القبر الأزاهير ، وهي لا تنقطع هنالك في فصل من

__________________

(٨٢) يعني لأجل الوضوء والقصد في المصطلح إلى الاكرامية ... راجع ٦٢٢ ,iii.

(٨٣) سائر النسخ التي بين أيدينا تكتب السليف بالفاء وربما كان هناك تحريف عن كلمة السليب (بالباء) (باللغة الهندية) وهو نوع من الشراب السخن الخاثر : مصنوع من مواد نباتية غنية بالمواد الغذائية.

(٨٤) يتعلق الامر بالبنت التي ولدت في اليوم الذي وصل فيه إلى معسكر طرمشيرين في منتصف مارس ١٣٣٣ ـ رجب ٧٣٣ الامر الذي يجعل وصوله إلى دهلي في شهر يناير ١٣٣٤.

٢٢٦

الفصول كالياسمين وقل شبه (٨٥) ، وهي زهر أصفر ، وريبول وهو ابيض ، والنسرين وهو على صنفين أبيض واصفر ، ويجعلون أغصان النارنج والليمون بثمارها ، وان لم يكن فيها ثمار علّقوا منها حبّات بالخيوط ، ويصبّون على القبر الفواكه اليابسة ، وجوز النارجيل ، ويجتمع الناس ويؤتى بالمصاحف فيقرءون القرآن فإذا ختموه أتوا بماء الجلّاب فسقوه الناس ، ثمّ يصبّ عليهم ماء الورد صبّا ويعطون التنبول وينصرفون.

ولمّا كان صبيحة الثالث من دفن البنت خرجت عند الصبح على العادة وأعددت ما تيسّر من ذلك كلّه ، فوجدت الوزير قد أمر بترتيب ذلك ، وأمر بسراجة فضربت على القبر ، وجاء الحاجب شمس الدين الفوشنجيّ الذي تلقّانا بالسند ، والقاضي نظام الدين الكرواني ، وجملة من كبار اهل المدينة ولم آت إلّا والقوم المذكورون قد اخذوا مجالسهم والحاجب بين أيديهم وهم يقرءون القرآن ، فقعدت مع أصحابي بمقربة من القبر فلمّا فرغوا من القراءة ، قرأ القراء بأصوات حسان ثمّ قام القاضي فقرأ رثاء في البنت المتوفّاة وثناء على السلطان ، وعند ذكر اسمه قام الناس جميعا قياما فخدموا ثمّ جلسوا ودعا القاضي دعاء حسنا.

ثمّ اخذ الحاجب واصحابه براميل ماء الورد فصبّوه على الناس ثمّ داروا عليهم بأقداح شربة النّبات ثمّ فرقوا عليهم التنبول ، ثمّ أتي بإحدى عشرة خلعة لي ولأصحابي ، ثمّ ركب الحاجب وركبنا معه إلى دار السلطان فخدمنا للسّرير على العادة وانصرفت إلى منزلي ، فما وصلت الّا وقد جاء الطعام من دار المخدومة جهان ما ملأ الدار ودور أصحابي وأكلوا جميعا وأكل المساكين وفضلت الأقراص والحلواء والنبات فأقامت بقاياها إيّاما ، وكان فعل ذلك كلّه بامر السلطان.

وبعد ايّام جاء الفتيان من دار المخدومة جهان بالدولة (٨٦) وهي المحفّة التي يحمل فيها النساء ويركبها الرجال أيضا وهي شبه السرير سطحها من ضفائر الحرير أو القطن وعليها عود شبه الذي على البوجات عندنا معوّج من القصب الهندي المغلوق ، ويحملها ثمانية رجال في نوبتين : يستريح أربعة ويحمل أربعة ، وهذه الدّول بالهند كالحمير بديار مصر ، عليها يتصرّف أكثر الناس ، فمن كان له عبيد حملوه ومن لم يكن له عبيد اكترى رجالا يحملونه ، وبالبلد منهم جماعة يسيرة يقفون في الأسواق ، وعند باب السلطان وعند ابواب الناس للكراء وتكون دول النساء مغشاة بغشاء حرير ، وكذلك كانت هذه الدولة التي اتى الفتيان بها من دار امّ السلطان فحملوا فيها جاريتي التي هي امّ البنت المتوفّاة ، وبعثت أنا معها عن هديّة جارية تركيّة ، فأقامت الجارية امّ البنت عندهم ليلة وجاءت في اليوم الثاني وقد

__________________

(٨٥) انظر (ـ ـ ـ ٠٥١ ,iii ٣٠٤.

٢٢٧

اعطوها الف دينار دراهم وأساور ذهب مرصّعة وتهليلا (٨٧) من الذهب مرصّعا أيضا وقميص كتّان مزركشا بالذهب وخلعة حرير مذهّبة وتختا بأثواب ، ولمّا جاءت بذلك كلّه أعطيته لأصحابي ، وللتجار الذين لهم عليّ الدّين محافظة على نفسي وصونا لعرضي لأنّ المخبرين يكتبون إلى السلطان بجميع أحوالي.

ذكر إحسان السلطان والوزير إلىّ في ايّام غيبة السلطان عن الحضرة

وفي أثناء مقامي أمر السلطان أن يعيّن لي من القرى ما يكون فائدة خمسة آلاف دينار في السنة ، فعيّنها لي الوزير وأهل الديوان وخرجت إليها فمنها قرية تسمّى بدلي ، بفتح الباء الموحدة وفتح الدال المهملة وكسر اللام ، وقرية تسمّى بسهي ، بفتح الباء الموحدة والسين المهمل وكسر الهاء ، ونصف قرية تسمّى بلرة (٨٨) ، بفتح الباء الموحدة واللام والراء ، وهذه القرى على مسافة ستّة عشر كروها وهو الميل بصدي ، يعرف بصدي هندبت ، والصّدي عندهم مجموع مائة قرية ، وأحواز المدينة مقسومة أصداء ، كلّ صدي له جوطري (٨٩) وهو شيخ من كفار تلك البلاد ، ومتصرف ، وهو الذي يضمّ مجابيها.

وكان قد وصل في ذلك الوقت سبى من الكفار فبعث الوزير اليّ عشر جوار منه فأعطيت للذي جاء بهنّ واحدة منهنّ ، فما رضي بذلك! وأخذ أصحابي ثلاثا صغارا منهن ، وباقيهنّ لا أعرف ما اتّفق لهنّ ، والسبى هنالك رخيص الثمن لانّهن قذرات لا يعرفن مصالح الحضر والمعلّمات رخيصات الأثمان ، فلا يفتقر أحد إلى شراء السبى.

والكفار ببلاد الهند في برّ متّصل وبلاد متّصلة مع المسلمين ، والمسلمون غالبون عليهم ، وانّما يمتنع الكفار بالجبال والأوعار ، ولهم غيضات من القصب ، وقصبهم غير مجوف ، ويعظم، والتفّ بعضه على بعضه على بعض ولا تؤثر فيه النّار ، وله قوّة عظيمة فيسكنون تلك الغياض ، وهي لهم مثل السور وبداخلها تكون مواشيهم وزروعهم ، ولهم فيها المياه مما يجتمع من ماء المطر فلا يقدر عليهم إلّا بالعساكر القوية من الرجال الذين يدخلون تلك الغياض ويقطعون تلك القصب بالات معدّة لذلك.

__________________

(٨٧) (التهليل) في الاصطلاح المغربي ظرف صغير يكون من جلد أو من معدن تجعل فيه الأغراض الثمينة كالمصحف أو نحوه ، وكان مما يهدي من المغرب إلى رؤساء الدول في العصور القديمة ... التاريخ الدبلوماسي للمغرب تأليف د. التازي ... ج ٢ ـ ص ٨٩.

(٨٨) هذه القرى توجد دائما في الشمال والشمال الشرقي للمدينة وتكوّن جميعها الضواحي الكبرى لدهلي الجديدة ـ صدي : تعني مائة.

(٨٩) جيوطري (tchoudhri) حسب ما يستفاد من براني (barani) فإنه شخصية تمثل أهل البادية مكلفة بإخبار الادارة بظروفهم ومطالبهم.

٢٢٨

ذكر العيد الذي شهدته أيام غيبة السلطان

وأظلّ عيد الفطر (٩٠) والسلطان لم يعد بعد إلى الحضرة فلمّا كان يوم العيد ركب الخطيب على الفيل وقد مهّد له على ظهره شبه السرير وركزت أربعة أعلام في أركانه الأربعة ولبس الخطيب ثياب السّواد وركب المؤذنون على الفيلة يكبّرون أمامه وركب فقهاء المدينة وقضاتها وكلّ واحد منهم يستصحب صدقة يتصدّق بها حين الخروج إلى المصلّى ، ونصب على المصلّى صيوان قطن وفرش ببسط ، واجتمع الناس ذاكرين لله ، تعالى ، ثمّ صلّى بهم الخطيب وخطب وانصرف الناس إلى منازلهم وانصرفنا إلى دار السلطان ، وجعل الطعام ، فحضره الملوك والأمراء والأعزّة وهم الغرباء وأكلوا وانصرفوا.

ذكر قدوم السلطان ولقائنا له

ولما كان في رابع شوّال نزل السلطان (٩١) بقصر يسمّى تلبت (٩٢) ، بكسر التاء المعلوّة الأولى وسكون اللام وفتح الباء الموحدة ثمّ تاء كالأولى ، وهي على مسافة سبعة أميال من الحضرة ، فأمرنا الوزير بالخروج إليه فخرجنا ، ومع كلّ إنسان هديّة من الخيل والجمال والفواكه الخراسانيّة والسيوف المصريّة والمماليك ، والغنم المجلوبة من بلاد الأتراك ، فوصلنا إلى باب القصر وقد اجتمع جميع القادمين فكانوا يدخلون إلى السلطان على قدر مراتبهم ويخلع عليهم ثياب الكتّان المزركشة بالذهب.

ولمّا وصلت النوبة إليّ دخلت فوجدت السلطان قاعدا على كرسيّ فظننته أحد الحجّاب حتّى رأيت معه ملك النّدماء ناصر الدين الكافيّ الهرويّ ، وكنت عرفته ايّام غيبة السلطان ، فخدم الحاجب فخدمت ، واستقبلني أمير حاجب وهو ابن عمّ السلطان المسمّى بفيروز ، وخدمت ثانية لخدمته ، ثمّ قال لي ملك النّدماء : بسم الله ، مولانا بدر الدين ، وكانوا يدعونني بأرض الهند بدر الدين وكلّ من كان من أهل الطلب إنّما يقال له مولانا ، فقربت من السلطان حتّى أخذ بيدي وصافحني وامسك يدي وجعل يخاطبني بأحسن خطاب ، ويقول لي باللسان

__________________

(٩٠) يوافق ٤ يونيه ١٣٣٤.

(٩١) رابع شوال يوافق ٨ يونيه ١٣٣٤ ـ تزايد الضرائب في دواب (doab) تسبّب في قيام ثورة بدون شك حوالي سنة ٧٣٣ ـ ١٣٣٣. محمد بن تغلق الذي كان في تلك الفترة أنشأ عاصمته في دولة أباد وقام هناك بحملة تأديبية أدّت إلى دمار الأقاليم التي تقع في الجنوب الشرقي لدهلي من بولاند شهر (bulandshahr) إلى كانودج (kannoudj).

(٩٢) تلبت : ذكر هذا العلم الجغرافي كذلك من قبل المصادر كمكان ميعاد للصيد لعلاء الدين الخلجي حيث كان الأخير على وشك أن يغتال فيه من لدن ابن أخيه (٣٨١ ,iii) وهو يقع شرق دهلي بيد أن قدر المسافة يختلف من مصدر إلى آخر.

٢٢٩

الفارسيّ : حلّت البركة ، قدومك مبارك أجمع خاطرك ، أعمل معك من المراحم وأعطيك من الإنعام ما يسمع به أهل بلادك فياتون إليك. ثم سألني عن بلادي فقلت له : بلاد المغرب ، فقال لي : بلاد عبد المؤمن (٩٣)؟ فقلت له : نعم. وكان كلّما قال لي كلاما جيّدا قبّلت يده حتّى قبّلتها سبع مرّات ، وخلع عليّ وانصرفت.

واجتمع الواردون فمدّ لهم سماط ووقف على رؤوسهم قاضي القضاة صدر الجهان ناصر الدين الخوارزميّ ، وكان من كبار الفقهاء ، وقاضي قضاة المماليك صدر الجهان كمال الدين الغزنويّ ، وعماد الملك عرض المماليك ، والملك جلال الدين الكيجيّ (٩٤) ، وجماعة من الحجّاب والأمراء ، وحضر لذلك خذاوند زادة غياث الدين ابن عمّ خذاوندزادة قوام الدين قاضي التّرمذ الذي قدم معنا ، وكان السلطان يعظّمه ويخاطبه بالأخ وتردّد إليه مرارا من بلاده.

والواردون الذين خلع عليهم في ذلك هم خذا وندزادة قوام الدين وإخوته ضياء الدّين ، وعماد الدين ، وبرهان الدين وابن اخته أمير بخت ابن السيّد تاج الدين ، وكان جدّه وجيه الدين وزير خرسان ، وكان خاله علاء الدين أمير الهند ووزيرا أيضا ، والأمير هبة الله بن الفلكيّ التبريزيّ ، وكان ابوه نائب الوزير بالعراق ، وهو الذي بنى المدرسة الفلكيّة بتبريز (٩٥) ، وملك كراي من أولاد بهرام جور (٩٦) صاحب كسرى ، وهو من أهل جبل بذخشان (٩٧) الذي منه يجلب الياقوت البلخش واللازورد ، والأمير مبارك شاه السّمرقندي وأرون بغا البخاريّ وملك زادة الترمذيّ وشهاب الدين الكازروني (٩٧) التاجر الذي قدم من تبريز بالهديّة إلى السلطان فسلب في طريقه.

__________________

(٩٣) عبد المومن بن علي الكومي : أبو محمد أمير المؤمنين مؤسس دولة الموحدين المؤمنية حج والتقى بابن تومرت ... وانتهى الأمر ـ بعد وفاة ابن تومرت ـ إلى مبايعته البيعة العامة عام ٥٢٤ ـ ١١٢٩ وجاءته بيعة أهل الاندلس فخضعت له المغارب ، وأنشأ الأساطيل وضرب الخراج على قبائل المغرب ، أدركه أجله في رباط سلا عام ٥٥٨ ـ ١١٦٣ ونقل إلى تينملّل جنوب المغرب فدفن فيها إلى جانب قبر ابن تومرت ابن صاحب الصلاة : تاريخ المن بالإمامة ...hopkins : ibn sahib al salat ,ency.n.e ...

(٩٤) جلال الدين حاكم أوجه كما تقدم ٩٥٣ ـ ٦١١ ـ ٥١١ ,iii.

(٩٥) المدرسة الفلكية توجد في الحقيقة بمراغة التي لا تبعد عن مدينة تبريز سوى بنحو ١٥٠ ك. م. على ما أخبرنا به رفاقنا ونحن في تبريز يوم ٥ / ٦ / ١٩٩٦.

(٩٦) بهرام گور الساساني بطل الشاهنامه : الملحمة الفارسية نظم أبي القاسم الفردوسي ترجمة الفتح البنداري ، تصحيح وتعليق د. عبد الوهاب عزّام ـ مكتبة الأسدي ـ طهران ١٩٧٠.

(٩٧) حول بدخشان انظر ٦٨ ـ ٩٥ iii.

(٩٨) حول تاريخ هذه الشخصية ، انظر ٨٤٢ ـ ٤٤٢ iii.

٢٣٠

٢٣١

ذكر دخول السلطان إلى حضرته وما أمر لنا به من المراكب

وفي الغد من يوم خروجنا إلى السلطان أعطى كلّ واحد منّا فرسا من مراكب السلطان عليه سرج ولجام محلّيان ، وركب السلطان لدخول حضرته وركبنا في مقدّمته مع صدر الجهان وزيّنت الفيلة أمام السلطان وجعلت عليها الأعلام ورفعت عليها ستّة عشر شطرا ، منها مزركشة ومنها مرصّعة ورفع فوق رأس السلطان شطر منها وحملت أمامه الغاشية ، وهي ستارة مرصّعة ، وجعل على بعض الفيلة رعّادات صغار ، فلمّا وصل السلطان إلى قرب المدينة رمى في تلك الرّعادات بالدّنانير والدراهم مختلطة ، والمشاة بين يدي السلطان وسواهم ممّن حضر يلتقطون ذلك ، ولم يزالوا ينثرونها إلى أن وصلوا إلى القصر (٩٩) وكان بين يديه آلاف من المشاة على الأقدام وصنعت قباب الخشب المكسوّة بثياب الحرير وفيها المغنّيات حسبما ذكرنا ذلك.

ذكر دخولنا إليه وما أنعم به من الإحسان والولاية

ولمّا كان يوم الجمعة ثاني يوم دخول السلطان أتينا باب المشور فجلسنا في سقائف الباب الثالث ، ولم يكن الإذن حصل لنا بالدخول وخرج الحاجب شمس الدين الفوشنجيّ فأمر الكتّاب أن يكتبوا اسماءنا وأذن لهم في دخولنا ودخول بعض أصحابنا وعيّن للدخول معي ثمانية، فدخلنا ودخلوا معنا ثمّ جاءوا بالبدر والقبّان ، وهو الميزان ، وقعد قاضي القضاة والكتّاب ودعوا من بالباب من الأعزّة ، وهم الغرباء ، فعيّنوا لكلّ إنسان نصيبه من تلك البدر فحصل لي منها خمسة آلاف دينار ، وكان مبلغ المال مائة ألف دينار تصدّقت به امّ السلطان لمّا قدم ابنها، وانصرفنا ذلك اليوم.

وكان السلطان بعد ذلك يستدعينا للطّعام بين يديه ويسأل عن أحوالنا ويخاطبنا بأجمل كلام ، ولقد قال لنا في بعض الأيام : انتم شرّفتمونا بقدومكم فما نقدر على مكافأتكم ، فالكبير منكم مقام والدي والكهل مقام أخي والصغير مقام ولدي ، وما في ملكي أعظم من مدينتي هذه أعطيكم إيّاها! فشكرناه ، ودعونا له ، ثمّ بعد ذلك أمر لنا بالمرتّبات فعيّن لي اثنى عشر ألف دينار في السنة وزادني قريتين على الثلاث التي أمر لي بها قبل ، إحداهما قرية جوزة والثانية قرية ملك بور.

وفي بعض الأيّام بعث لنا خذاوندزاده غياث الدين وقطب الملك صاحب السند فقالا لنا : إن خوند عالم يقول لكم : من كان منكم يصلح للوزارة أو الكتابة أو الامارة أو القضاء

__________________

(٩٩) كان مثل هذه المعلومات الطريفة مما لم تتسع له صدور خصوم الرحالة المغربي!!

٢٣٢

أو التدريس أو المشيخة أعطيته ذلك! فسكت الجميع لأنّهم كانوا يريدون تحصيل الأموال والانصراف إلى بلادهم! وتكلّم أمير بخت ابن السيّد تاج الدين الذي تقدّم ذكره ، فقال : أمّا الوزارة فميراثي ، وأمّا الكتابة فشغلي ، وغير ذلك لا أعرفه ، وتكلّم هبة الله ابن الفلكيّ فقال مثل ذلك ، وقال لي خذاوندزادة بالعربيّ : ما تقول أنت يا سيّدي؟ وأهل تلك البلاد لا يدعون العربيّ الّا بالتّسويد ، وبذلك يخاطبه السلطان تعظيما للعرب ، فقلت له : أمّا الوزارة والكتابة فليست شغلي ، وأمّا القضاء والمشيخة فشغلي وشغل آبائي ، وامّا الامارة فتعلمون أن الأعاجم ما أسلمت إلّا بأسياف العرب! فلما بلغ ذلك إلى السلطان أعجبه كلامي. وكان السلطان بهزار أسطون يأكل الطعام فبعث عنّا فأكلنا بين يديه وهو يأكل ، ثم انصرفنا إلى خارج هزار اسطون وقعد أصحابي ، وانصرفت بسبب دمّل كان يمنعني الجلوس فاستدعانا السلطان ثانية فحضر أصحابي واعتذروا عنّي ، وجئت بعد صلاة العصر فصلّيت بالمشور المغرب والعشاء الآخرة.

ثمّ خرج الحاجب فاستدعانا فدخل خذاوند زادة ضياء الدين ، وهو أكبر الإخوة المذكورين فجعله السلطان أمير داد (١٠٠) ، وهو من الأمراء الكبار فجلس بمجلس القاضي ، فمن كان له حق على أمير أو كبير أحضره بين يديه ، وجعل مرتّبه على هذه الخطّة خمسين ألف دينار في السنة ، عيّن له مجاشر (١٠١) فائدها ذلك المقدار ، فأمر له بخمسين ألفا عن يد ، وخلع عليه خلعة حرير مزركشة تسمّى صورة الشير ، ومعناه صورة السبع لأنّه يكون في صدرها وظهرها صورة سبع ، وقد خيط في باطن الخلعة بطاقة بمقدار مازركش فيها من الذّهب ، وأمر له بفرس من الجنس الأوّل ، والخيل عندهم أربعة اجناس ، وسروجهم كسروج أهل مصر ، ويكسون أعظمها بالفضّة المذهّبة.

ثمّ دخل أمير بخت فأمره أن يجلس مع الوزير في مسنده ، ويقف على محاسبات الدّواوين، وعيّن له مرتّبا أربعين الف دينار في السنة ، أعطى مجاشر فائدها بمقدار ذلك ، وأعطى أربعين ألفا عن يد ، وأعطى فرسا مجهّزا ، وخلع عليه كخلعة الذي قبله ، ولقّب شرف الملك.

ثمّ دخل هبة الله ابن الفلكي فجعله رسول دار (١٠٢) ، ومعناه حاجب الأرسال وعيّن له مرتبا أربعة وعشرين الف دينار في السنة ، أعطي مجاشر يكون فائدها بمقدار ذلك ، وأعطى

__________________

(١٠٠) حاكم التحقيق القضائي مكلف كذلك بتطبيق العقوبات.

(١٠١) المجاشر ج مجشر تستعمل في بلاد المغرب بمعنى القرية الصغيرة ، وربما اختصر مجشر إلى كلمة دشر ... يقال فلان من دشر قبيلة كذا وقد خفى المصطلح على بعض المعلقين الأجانب ...

(١٠٢) رسول دار : تعني ما يشبه وزير الخارجية ويعني بالأرسال : السفراء ، وقد وردت صيغة هذا الجمع على هذا النحو عند كثير من المؤرخين بمن فيهم ابن خلدون ، ويظهر أنه جمع الجمع : رسل (جمع رسول) على وزن قفل ، ج أرسال كأقفال ... وفي بعض المخطوطات (صاحب) عوض حاجب.

٢٣٣

اربعة وعشرين الفا عن يد ، وأعطى فرسا مجهّزا ، وخلعة ، وجعل لقبه بهاء الملك ، ثمّ دخلت فوجدت السلطان على سطح القصر مستندا إلى السرير والوزير خواجة جهان بين يديه والملك الكبير قبولة واقف بين يديه فلمّا سلّمت عليه ، قال لي الملك الكبير : اخدم ، فقد جعلك خوند عالم قاضي دار الملك : دهلي ، وجعل مرتّبك اثنى عشر الف دينار في السنة ، وعيّن لك مجاشر بمقدارها وامر لك باثنى عشر الفا نقدا تاخذها من الخزانة غدا إن شاء الله واعطاك فرسا بسرجه ولجامه ، وأمر لك بخلعة محاريبيّ وهي التي يكون في صدرها وظهرها شكل محراب ، فخدمت وأخذ بيدي فتقدّم بي إلى السلطان فقال لي السلطان لا تحسب قضاء دهلي من أصغر الأشغال ، وهو اكبر الأشغال عندنا ، وكنت أفهم قوله ولا أحسن الجواب عنه وكان السلطان يفهم العربي ولا يحسن الجواب عنه ، فقلت له : يا مولانا على مذهب مالك وهؤلاء حنفيّة ، وأنا لا أعرف اللّسان ، فقال لي : قد عيّنت بهاء الدين الملتانيّ وكمال الدين البجنوريّ ينوبان عنك ويشاورانك وتكون أنت تسجّل على العقود ، وأنت عندنا بمقام الولد ، فقلت له: بل عبدكم وخديمكم ، فقال لي باللسان العربيّ : بل أنت سيّدنا ومخدومنا ، تواضعا منه وفضلا وإيناسا ، ثمّ قال لشرف الملك أمير بخت ، وإن كان الذي رتّبت له لا يكفيه لانّه كثير الانفاق فأنا أعطيه زاوية إن قدر على اقامة حال الفقراء وقال : قل له هذا بالعربيّ ، وكان يظنّ أنّه يحسن العربيّ ، ولم يكن كذلك ، وفهم السلطان ذلك ، فقال له بروويكجا بخصبي وآن حكايه بر او بگوي وتفهيم كني تا فردا إن شاء الله بيش من بيايي جواب أو بگوي (١٠٣) ، معناه امشوا الليلة فارقدوا في موضع واحد ، وفهّمه هذه الحكاية فإذا كان بالغد إن شاء الله تجيء اليّ وتعلّمني بكلامه.

فانصرفنا وذلك في ثلث الليل ، وقد ضربت النوبة ، والعادة عندهم إذا ضربت لا يخرج أحد فانتظرنا الوزير حتّى خرج وخرجنا معه ، ووجدنا أبواب دهلي مسدودة فبتنا عند السيّد أبى الحسن العبّادي العراقي بزقاق يعرف سرابور خان ، وكان هذا الشيخ يتّجر بمال السلطان ويشتري له الأسلحة والأمتعة بالعراق وخراسان.

ولمّا كان بالغد بعث عنّا فقبضنا الأموال والخيل والخلع وأخذ كلّ واحد منّا البدرة بالمال فجعلها على كاهله ، ودخلنا كذلك على السّلطان فخدمنا ، وأتينا بالأفراس فقبّلنا حوافرها بعد أن جعلت عليها الخرق ، وقدناها بأنفسنا إلى باب دار السلطان فركبناها ، وذلك كلّه عادة عندهم ثمّ انصرفنا وأمر السلطان لأصحابي بألفي دينار وعشر خلع ولم يعط.

__________________

(١٠٣) نقتبس من البروفيسور گيب هذه العبارة الفارسية الواردة في النص :

biray wa ـ yakja bikhusbi wa ـ an hikayah bar u bigu\'i wa ـ tafhim kuni ta farda in sha\'allah pish man biya\'i jawabi u bigu\'i ـ iii p. ٨٤٧.

٢٣٤

لأصحاب أحد سواي شيئا ، وكان أصحابي لهم رواء ومنظر فأعجبوا السلطان وخدموا بين يديه وشكرهم.

ذكر عطاء ثان أمر لي به وتوقّفه مدّة

وكنت يوما بالمشور بعد أيّام من توليتي القضاء والاحسان اليّ وأنا قاعد تحت شجرة هنالك ، وإلى جانبي مولانا ناصر الدين الترمذيّ (١٠٤) العالم الواعظ فأتى بعض الحجّاب فدعا مولانا ناصر الدين فدخل إلى السلطان فخلع عليه وأعطاه مصحفا مكلّلا بالجوهر.

ثم أتاني بعض الحجّاب فقال : أعطني شيئا وآخذ خطّ خرد باثنى عشر الفا أمر لك بها خوند عالم ، فلم أصدقه وظننته يريد الحيلة عليّ ، وهو مجدّ في كلامه ، فقال بعض الأصحاب أنا أعطيه ، فأعطاه دينارين أو ثلاثة وجاء بخطّ خرد ، ومعناه الخط الأصغر مكتوبا بتعريف الحاجب ، ومعناه : أمر خوند عالم أن يعطى من الخزانة الموفورة كذا لفلان بتبليغ فلان أي بتعريفه ، ويكتب المبلّغ اسمه ثمّ يكتب على تلك البراءة ثلاثة من الأمراء وهم الخان الأعظم قطلوخان معلّم السلطان ، والخريطة دار ، وهو صاحب خريطة الكاغد والاقلام ، والأمير نكبية الدّوادار صاحب الدّواة ، فإذا كتب كلّ واحد منهم خطّه يذهب بالبراءة إلى ديوان الوزارة فينسخها كتّاب الديوان عندهم ثمّ تثبت في ديوان الأشراف ، ثمّ تثبت في ديوان النظر ثمّ تكتب البروانة ، وهي الحكم من الوزير للخازن بالعطاء ، ثمّ يثبتها الخازن في ديوانه ، ويكتب تلخيصا في كلّ يوم بمبلغ ما أمر به السلطان ذلك اليوم من المال ويعرضه عليه ، فمن أراد التعجيل بعطائه أمر بتعجيله ومن أراد التوقيف وقّف له ، ولاكن لا بدّ من عطاء ذلك ، ولو طالت المدّة فقد توقّفت هذه الاثنا عشر ألفا ستّة أشهر ، ثمّ أخذتها مع غيرها حسبما يأتي.

وعادتهم إذا أمر السلطان باحسان لحد يحطّ منه العشر ، فمن أمر له مثلا بمائة ألف أعطى تسعين ألفا أو بعشرة آلاف أعطى تسعة آلاف!

ذكر طلب الغرماء مالهم قبلي ومدحي للسلطان

وأمره بخلاص ديني وتوقّف ذلك مدّة.

وكنت حسبما ذكرته ، قد استدنت من التّجار مالا انفقته في طريقي وما صنعت به الهدية للسلطان ، وما انفقته في إقامتي فلمّا أرادوا السفر إلى بلادهم ألحّوا عليّ في طلب ديونهم فمدحت السلطان بقصيدة طويلة أولها :

__________________

(١٠٤) ورد ذكر هذه الشخصية الذي ستغادر دهلي آخر عام ١٣٣٤ وبداية ١٣٣٥ ج iii ٢٥٠ ـ ٢٥٢ في الفصل الذي خصّصه ٢٥٩.

٢٣٥

إليك أمير المؤمنين المبجّلا

أتينا نجدّ السير نحوك في الفلا

فجئت محلا من علائك زائرا

ومغناك كهف للزيارة أهّلا

فلو انّ فوق الشّمس للمجد رتبة

لكنت لأعلاها إماما مؤهّلا

فانت الإمام الماجد الا وحد الذي

سجاياه حتما أن يقول ويفعلا!

ولي حاجة من فيض جودك أرتجي

قضاها ، وقصدي عند مجدك سهّلا

أأذكرها أم قد كفاني حياؤكم

فانّ حياكم ذكره كان أجملا!

فعجّل لمن وافى محلّك زائرا

قضا دينه ، إنّ الغريم تعجّلا!!

فقدّمتها بين يديه ، وهو قاعد على كرسيّ ، فجعلها على ركبته ، وأمسك طرفها بيده وطرفها الثاني بيدي وكنت إذا أكملت بيتا منها أقول لقاضي القضاة كمال الدين الغزنويّ : بيّن معناه لخوند عالم! فيبيّنه ويعجب السلطان ، وهم يحبّون الشعر العربيّ ، فلمّا بلغت إلى قولي : فعجّل لمن وافى ، البيت قال : مرحمة ، ومعناه ترحّمت عليك ، فأخذ الحجّاب حينئذ بيدي ليذهبوا بي إلى موقفهم ، وأخدم على العادة ، فقال السلطان : اتركوه حتّى يكملها ، فاكملتها وخدمت وهنّأني الناس بذلك واقمت مدّة وكتبت رفعا ، وهم يسمونه عرض داشت ، فدفعته إلى قطب الملك صاحب السّند ، فدفعه للسلطان ، فقال له : امض إلى خواجة جهان ، فقل له يعطي دينه ، فمضى إليه وأعلمه ، فقال : نعم ، وأبطأ ذلك أيّاما ، وأمره السلطان في خلالها بالسفر إلى دولة آباد ، وفي أثناء ذلك خرج السلطان إلى الصيد وسافر الوزير فلم آخذ شيئا منها الّا بعد مدة ، والسبب الذي توقّف به عطاؤها أذكره مستوفى وهو انّه لمّا عزم الذين كان لهم عليّ الدين على السفر ، قلت لهم : إذا أنا أتيت دار السلطان فدرهوني على العادة في تلك البلاد ، لعلمي أن السلطان متى يعلم بذلك خلّصهم ، وعادتهم أنّه متى كان لأحد دين على رجل من ذوي العناية وأعوزه خلاصه وقف له بباب دار السلطان ، فإذا أراد الدّخول قال له : دروهي السلطان (١٠٥) ، وحقّ رأس السلطان ، ما تدخل حتّى تخلّصني ، فلا يمكنه أن يبرح من مكانه حتّى يخلّصه أو يرغب إليه في تأخيره!

فاتّفق يوما أن خرج السلطان إلى زيارة قبر أبيه ونزل بقصر هنالك ، فقلت لهم : هذا وقتكم ، فلمّا اردت الدخول وقفوا لي بباب القصر ، فقالوا لي : دروهي السلطان ، ما تدخل حتّى تخلّصنا! وكتب كتّاب الباب بذلك إلى السلطان فخرج حاجب قصّة ، شمس الدين وكان من كبار الفقهاء فسألهم : لأي شيء درهتموه؟ فقالوا : لنا عليه الدين ، فرجع إلى السلطان فأعلمه بذلك ، فقال له : اسألهم كم مبلغ الدين؟ فسألهم ، فقالوا له خمسة وخمسون ألف

__________________

(١٠٥) الكلمة تعني التوسل للسّلطان حتى ينصف المظلوم ، دروهاي تعني العدل ...

٢٣٦

دينار ، فعاد إليه فأعلمه فامره أن يعود إليهم ، ويقول لهم : إن خوند عالم يقول لكم : المال عندي وأنا أنصفكم منه فلا تطلبوه به!

وأمر عماد الدين السمنانيّ وخذاوند زادة غياث الدين أن يقعدوا بهزار أسطون ، ويأتي أهل الدّين بعقودهم وينظروا إليها ويتحقّقوها ، ففعلا ذلك ، وأتى الغرماء بعقودهم ، فدخلا إلى السلطان وأعلماه بثبوت العقود فضحك ، وقال ممازحا : أنا أعلم أنّه قاض جهّز شغله فيها! ثم أمر خذاوند زادة أن يعطيني ذلك من الخزانة فطمع في الرشوة على ذلك وامتنع أن يكتب خطّ خرد ، فبعثت إليه مائتي تنكة ، فردّها ولم يأخذها ، وقال لي عنه بعض خدّامه : إنه طلب خمسمائة تنكة فامتنعت من ذلك ، وأعلمت عميد الملك بن عماد الدين السمنانيّ بذلك ، فأعلم به أباه وعلمه الوزير وكانت بينه وبين خذاوند زادة عداوة ، فأعلم السلطان بذلك وذكر له كثيرا من أفعال خذاوند زادة فغيّر خاطر السلطان عليه ، فأمر بحبسه في المدينة وقال : لأي شيء أعطاه فلان ما أعطاه ، ووقّفوا ذلك حتّى يعلم هل يعطي خذاوند زادة شيئا اذا منعته أو يمنعه إذا أعطيته؟! فبهذا السبب توقّف عطاء ديني.

ذكر خروج السلطان إلى الصيد وخروجي معه وما صنعت في ذلك

ولمّا خرج السلطان إلى الصيد خرجت معه من غير تربّص وكنت قد أعددت ما يحتاج إليه وعملت ترتيب أهل الهند فاشتريت سراجة وهي أفراج ، وضربها هنالك مباح ولا بدّ منها لكبار الناس وتمتاز سراجة السلطان بكونها حمراء وسواها بيضا ، منقوشة بالأزرق ، واشتريت الصيوان ، وهو الذي يظلّل به داخل السراجة ، ويرفع على عمودين كبيرين ويحمل ذلك الرجال على أعناقهم ، ويقال لهم : الكيوانيّة.

والعادة هنالك أن يكتري المسافر الكيوانيّة ، وقد ذكرناهم ، ويكتري من يسوق له العشب لعلف الدوابّ لأنّهم لا يطعمونها التّبن ، ويكتري الكهارين (١٠٦) وهم الذين يحملون أواني المطبخ ، ويكتري من يحمله في الدولة ، وقد ذكرناها ، ويحملها فارغة ، ويكتري الفرّاشين وهم الذين يضربون السراجة ويفرشونها ويرفعون الأحمال على الجمال ، ويكتري الدّوادويّة وهم الذين يمشون بين يديه ويحملون المشاعل بالليل فاكتريت أنا جميع من احتجت له منهم ، واظهرت القوّة والهمّة! وخرجت يوم خروج السلطان ، وغيري أقام بعده اليومين والثلاثة.

فلمّا كان بعد العصر من يوم خروجه ركب الفيل ، وقصده أن يتطلّع على أحوال الناس

__________________

(١٠٦) الكهّارين ج كهار (kahars) : حاملوا الماء ، ما نسميه في المغرب الكرّاب نسبة إلى القربة ـ انظر ٩٦٣ ـ ٤٤ ,iii حول افراج والكيوانية ص ٤٢٧.

٢٣٧

٢٣٨

ويعرف من تسارع إلى الخروج ومن أبطأ! وجلس خارج السراجة على كرسيّ فجئت وسلّمت ووقفت في موقفي بالميمنة ، فبعث إليّ الملك الكبير قبولة سرجامدار (١٠٧) وهو الذي يشرّد الذباب عنه ، فأمرني بالجلوس عناية بي ولم يجلس في ذلك اليوم سواي ثمّ أتي بالفيل وألصق به سلّم ، فركب ورفع الشطر فوق رأسه ، وركب معه الخواصّ وجال ساعة ثمّ عاد إلى السّراجة.

وعادته إذا ركب أن يركب الأمراء أفواجا ، كلّ أمير بفوجه وعلاماته وطبوله وأنفاره وصرّنا ياته ، ويسمّون ذلك المراتب ، ولا يركب أمام السلطان إلّا الحجّاب وأهل الطرب والطبّالة الذين يتقلّدون الأطبال الصغار والذين يضربون الصّرنايات ، ويكون عن يمين السلطان نحو خمسة عشر رجلا ، وعن يساره مثل ذلك ، منهم قضاة القضاة والوزير وبعض الأمراء الكبار وبعض الأعزّة ، وكنت أنا من أهل ميمنته ، ويكون بين يديه المشّاؤون والأدلّاء ، ويكون خلفه علاماته وهي من الحرير المذهّب ، والأطبال على الجمال ، وخلف ذلك مماليكه وأهل دخلته ، وخلفهم الأمراء وجميع الناس ، ولا يعلم أحد أين يكون النزول ، فإذا مرّ السلطان بمكان يعجبه النزول به أمر بالنزول ، ولا تضرب سراجة أحد حتّى تضرب سراجته ، ثمّ ياتي الموكّلون بالنزول فينزّلون كلّ أحد في منزله!

وفي خلال ذلك ينزل السلطان على نهر أو بين أشجار ، وتقدّم بين يديه لحوم الأغنام والدجاج المسمّنة والكراكيّ وغيرها من أنواع الصيد ، ويحضر أبناء الملوك ، وفي يد كلّ واحد منهم سفّود ، ويوقدون النار ويشتوون ذلك ، ويوتي بسراجة صغيرة فتضرب للسلطان ويجلس من معه من الخواصّ خارجها ، ويؤتى بالطعام ويستدعى من شاء فيأكل معه. وكان في بعض تلك الأيّام ، وهو بداخل السراجة ، يسأل عمّن بخارجها ، فقال له السيّد ناصر الدين مطهّر الأوهرّي ، أحد ندمائه : ثمّ فلان المغربي ، وهو متغيّر! فقال : لماذا؟ فقال : بسبب الدّين الذي عليه وغرماؤه يحلّون في الطلب ، وكان خوند عالم قد أمر الوزير باعطائه فسافر قبل ذلك ، فإن أمر مولانا أن يصبّر أهل الدّين حتّى يقدم الوزير أوامر بإنصافهم؟ وحضر لهذا الملك دولة شاه ، وكان السلطان يخاطبه بالعمّ ، فقال : ياخوند عالم! كلّ يوم هو يكلّمني بالعربية ولا أدري ما يقول. يا سيدي ناصر الدين : ما ذا؟ وقصد أن يكرّر ذلك الكلام ، فقال : يتكلّم لأجل الدّين الذي عليه ، فقال السلطان : إذا دخلنا دار الملك فامض أنت يا أومار ، ومعناه : يا عمّ إلى الخزانة فأعطه ذلك المال ، وكان خذاوند زادة حاضرا فقال : ياخوند عالم ، إنه كثير الإنفاق وقد رأيته ببلادنا عند السلطان طرمشيرين.

__________________

(١٠٧) السرجامدارsar ـ jamadar المشرف على دولاب ملابس السلطان ونرى أنه هنا بمعنى الذي يطرد الذباب عن السلطان ، ويصحب هذا الموظف منديل أبيض ويتقدم الرّكب الملكي وهو يلوّح بين الفينة والأخرى بمنديله في الهواء لطرد الذباب وتلطيف المناخ ...

٢٣٩

وبعد هذا الكلام استحضرني السلطان للطعام ولا علم عندي بما جرى ، فلمّا خرجت قال لي السيّد ناصر الدين : اشكر للملك دولة شاه ، وقال لي الملك دولة شاه : أشكر لخذاوند زادة!

وفي بعض تلك الأيّام ، ونحن مع السلطان في الصيد ركب في المحلّة وكان طريقه على منزلي وأنا معه في الميمنة وأصحابي في الساقة ، وكان لي خباء عند السرّاجة فوقف أصحابي عندها وسلّموا على السلطان ، فبعث عماد الملك وملك دولة شاه ليسألا : لمن تلك الأخبية والسراجة؟ فقيل لهما : لفلان ، فأخبراه بذلك ، فتبسّم ، فلما كان الغد نفذ الأمر أنّ أعود أنا وناصر الدين مطهّر الأوهري (١٠٨) وابن قاضي مصر وملك صبيح إلى البلد فخلع علينا وعدنا إلى الحضرة.

ذكر الجمل الذي أهديته للسلطان

وكان السلطان في تلك الأيّام سألني عن الملك الناصر ، هل يركب الجمل فقلت له : نعم يركب المهاري في أيّام الحجّ ، فيسير إلى مكة من مصر في عشرة أيّام ، ولكن تلك الجمال ليست كجمال هذه البلاد ، وأخبرته أن عندي جملا منها فلمّا عدت إلى الحضرة بعثت عن بعض عرب مصر ، فصوّر لي صورة الكور الذي تركب المهاري به ، من القير ، وأريتها بعض النجّارين ، فعمل الكور واتقنه وكسوته بالملفّ ، وصنعت له ركبا وجعلت على الجمل عباة حسنة وجعلت له خطام حرير.

وكان عندي رجل من أهل اليمن يحسن عمل الحلواء فصنع منها ما يشبه التمر وغيره ، وبعثت الجمل والحلواء إلى السلطان وأمرت الذي حملها أن يدفعها على يد ملك دولة شاه ، وبعثت له بفرس وجملين ، فلمّا وصله ذلك دخل على السلطان ، وقال : ياخوند عالم ، رأيت العجب قال : وما ذلك؟ قال : فلان بعث جملا عليه سرج! فقال : ائتوا به! فأدخل الجمل داخل السراجة ، وأعجب به السلطان ، وقال لراجلي : اركبه ، فركبه ومشّاه بين يديه ، وأمر له بمائتي دينار دراهم وخلعة ، وعاد الرجل إليّ فأعلمني فسرّني ذلك ، وأهديت له جملين بعد عودته إلى الحضرة.

__________________

(١٠٨) حول ناصر الدّين هذا انظرI ، ٤٢٠ ـ iii ١٤٥ ـ ٣٤٥ ـ ٣٤٨ ـ ٣١٨ ـ ٤١٨ ـ ٤١٩ ـ ٤٤١.

٢٤٠