رحلة ابن بطوطة - ج ٣

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ٣

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-009-5
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٢٥٥

بسجنه تلك الليلة ، فو الله ما بعثت له زوجته فراشا ينام عليه ، ولا سألت عنه خوفا من السلطان ، وخاف أصحابه فودعوا أموالهم!

وأردت زيارته بالسجن ، فلقيني بعض الأمراء وفهم عني أني أريد زيارته ، فقال لي : أو نسيت؟ وذكرني بقضية اتفقت لي في زيارة الشيخ شهاب الدين ابن شيخ الجام ، وكيف أراد السلطان قتلي على ذلك حسبما يقع ذكره (٧٢) فرجعت ولم أزوره! وتخلص الأمير غذا عند الظهر من سجنه ، فأظهر السلطان إهماله ، وأضرب عما كان أمر له بولايته وأراد نفيه!

وكان للسلطان صهر يسمى بمغيث ابن ملك الملوك (٧٢) ، وكانت أخت السلطان تشكوه لأخيها إلى أن ماتت ، فذكر جواريها أنها ماتت بسبب قهره لها ، وكان في نسبه مغمز، فكتب السلطان بخطه : يجلى اللقيط ، يعنيه ، ثم كتب : ويجلى موش خوار ، معناه : آكل الفئران! يعني بذلك الأمير غذا ، لأن عرب البادية يأكلون اليربوع وهو شبه الفأر (٧٣)! وأمر بإخراجهما ، فجاءه النقباء ليخرجوه ، فأراد دخول داره ووداع أهله ، فترادف النقباء في طلبه ، فخرج باكيا!

وتوجهت حين ذلك إلى دار السلطان فبتّ بها فسألني عن مبيتي بعض الأمراء ، فقلت له جئت لأتكلم في الأمير سيف الدين حتى يرد ولا ينفي ، فقال : لا يكون ذلك ، فقلت له : والله لأبيتنّ بدار السلطان ولو بلغ مبيتي مائة ليلة حتى يردّ ، فبلغ ذلك السلطان فأمر برده وأمره أن يكون في خدمة الأمير ملك قبولة اللّاهوريّ ، فأقام أربعة أعوام في خدمته يركب لركوبه ويسافر لسفره حتى تأدّب وتهذب! ثم أعاده السلطان إلى ما كان عليه أولا وأقطعه البلاد وقدمه على العساكر ورفع قدره.

ذكر تزويج السلطان بنتي وزيره لابني خذاوند

زاده ، قوام الدين الذي قدم معنا عليه.

ولما قدم خذاوند زاده أعطاه السلطان عطاءا جزلا وأحسن إليه إحسانا عظيما وبالغ في إكرامه (٧٤) ثم زوج ولديه من بنتي الوزير خواجة جهان ، وكان الوزير اذ ذاك غائبا فأتى

__________________

(٧٢) سنعرف عن المأساة الفظيعة التي عاشها شهاب الدّين ٤٩٣ ـ ٣٩٢ ,iii.

(٧٣) مثل هذا النوع من الشتيمة ، يوجد في الأصول الفارسية : «بلغ الأمر بالعربي من شرب لبن الإبل وأكل الضّباب إلى الطموح إلى تاجنا ...» الشاهنامة ، نظمها بالفارسية أبو القاسم الفردوسي وترجمها الفتح البنداري، وراجعها د. عبد الوهاب عزام ، أعيد طبعها بالأوفست في طهران ١٩٧٠ ، ص ٨٩.

(٧٤) حول خذاوند زاده يراجع ٨٤ ,iii ـ ويظهر من خلال الرحلة أن العادة كانت عندهم جارية على أن يقرأ نص عقد الزواج أمام الحاضرين على نحو ما جرى به العرف عند بعض الأسر في المغرب حيث يذكر نسب الزوج والزوجة وتذكر بعض التفاصيل عن المهر الذي يعرض أمام الحاضرين.

١٨١

السلطان إلى داره ليلا وحضر عقد النكاح كأنه نائب عن الوزير ، ووقف حتى قرأ قاضي القضاة الصداق ، والقضاة والأمراء والمشايخ قعود ، وأخذ السلطان بيده الأثواب والبدر فجعلها بين يدي القاضي وولدى خذاوند زاده ، وقام الأمراء وأبوه أن يجعل السلطان ذلك بين أيديهم بنفسه فأمرهم بالجلوس وأمر بعض كبار الأمراء أن يقوم مقامه وانصرف

حكاية في تواضع السلطان وإنصافه

ادعى عليه رجل من كبار الهنود أنه قتل أخاه من غير موجب ودعاه إلى القاضي فسلّم وخدم ، وكان قد أمر القاضي قبل ذلك أنه إذا جاءه إلى مجلسه فلا يقوم ولا يتحرك ، فصعد إلى المجلس ووقف بين يدي القاضي فحكم عليه أن يرضى خصمه عن دم أخيه فأرضاه.

حكاية مثلها

وادعى على السلطان مرة رجل من المسلمين أنّ له قبله حقا ماليا فتخاصما في ذلك عند القاضي ، فتوجه الحكم على السلطان بإعطاء المال فأعطاه.

حكاية مثلها

وادعى عليه صبي من أبناء الملوك أنه قد ضربه من غير موجب ورفعه إلى القاضي فتوجه الحكم عليه بأن يرضيه بالمال إن قبل ذلك وإلا أمكنه من القصاص ، فشاهدته يومئذ وقد عاد لمجلسه واستحضر الصبي وأعطاه عصا ، وقال له ، وحقّ رأسي لتضربنني كما ضربتك! فأخذ الصبي العصا وضربه بها إحدى وعشرين ضربة حتى رأيت الكلا قد طارت عن رأسه!!

ذكر اشتداده في إقامة الصلاة

وكان السلطان شديدا في إقامة الصلوات آمرا بملازمتها في الجماعات يعاقب على تركها أشد العقاب ، ولقد قتل في يوم واحد تسعة نفر على تركها كان أحدهم مغنيا. وكان يبعث الرجال الموكلين بذلك إلى الأسواق فمن وجد بها عند إقامة الصلاة عوقب ، حتى انتهى إلى عقاب الستائريين (٧٥) الذين يمسكون دواب الخدام على باب المشور ، إذا ضيعوا

__________________

(٧٥) ربما كانت كلمة الستائريين آتية من (ستارة) ، ما يجعل تحت السّرج أو فوقه دوزي.

١٨٢

الصلاة ، وأمر أن يطلب الناس بعلم فرائض الوضوء والصلاة وشروط الإسلام ، فكانوا يسألون عن ذلك ، فمن لم يحسنه عوقب ، وصار الناس يتدارسون ذلك بالمشور والأسواق ويكتبونه!

ذكر اشتداده في إقامة أحكام الشرع

وكان شديدا في إقامة الشرع ، ومما فعل في ذلك أن أمر أخاه مبارك خان (٧٦) أن يكون قعوده بالمشور مع قاضي القضاة كمال الدين في قبة مرتفعة هنالك مفروشة بالبسط وللقاضي بها مرتبة تحف بها المخاد كمرتبة السلطان ويقعد أخو السلطان عن يمينه فمن كان عليه حق من كبار الأمراء وامتنع من أدائه لصاحبه يحضره رجال أخي السلطان عند القاضي لينصف منه.

ذكر رفعه للمغارم والمظالم وقعوده لإنصاف المظلومين

ولما كان في سنة إحدى وأربعين (٧٧) أمر السلطان برفع المكوس عن بلاده وأن لا يؤخذ من الناس إلا الزكاة والعشر خاصة وصار يجلس بنفسه للنظر في المظالم في كل يوم اثنين وخميس برحبة أمام المشور (٧٨). ولا يقف بين يديه في ذلك اليوم إلا أمير حاجب (٧٩) وخاص حاجب(٨٠) وسيد الحجاب وشرف الحجاب (٨١) لا غير ، ولا يمنع أحد ممن أراد الشكوى من الوقوف بين يديه.

وعين أربعة من كبار الأمراء يجلسون في الأبواب الأربعة من المشور لأخذ القصص من المشتكين ، والرابع منهم هو ابن عمه ملك فيروز ، فإن أخذ صاحب الباب الأول الرفع من

__________________

(٧٦) أنظر ٠٣٢ ,iii.

(٧٧) سنة ٧٤١ توافق ٢٧ يونيه ١٣٤٠ إلى ١٦ يونيه ١٣٤١. يظهر أن هذا الإصلاح الجبائي يرجع لنفس التاريخ الذي طلب فيه السلطان تنصيبه من لدن «الخليفة العباسي» ... وهو الإصلاح الذي كان يهدف لإرضاء طبقات الشعب المتضررة من توالي الجفاف والتي ظلت تثور طوال سبع سنوات ـ المكس (ج.

مكوس) : يعرف على أنه ضريبة لا تستند على أساس شرعي ـ تراجع مادة مكس في دائرة المعارف الإسلامية.

(٧٨) يتعلق الأمر بمحكمة خاصة مكلفة بتصحيح الأخطاء التي ترتكب من قبل الموظفين المدنيين والعسكريين عند تطبيقهم للقرارات الملكية التي قد لا ترجع للأحكام الإسلامية أو اختصاصات القاضي ـ انظر ٧١١ ,iii.

(٧٩) رئيس الحجاب كان آنئذ هو فيروز تغلق ...

(٨٠) القصد إلى حاجب الدار الملكية.

(٨١) يراجع ١٢٢ ,iii.

١٨٣

الشاكي فحسن ، وإلا أخذه الثاني أو الثالث أو الرابع ، وإن لم ياخذوه منه مضى به إلى صدر الجهان قاضي المماليك (٨٢) ، فإن أخذه منه وإلا شكا إلى السلطان ، فإن صح عنده أنه مضى به إلى أحد منهم فلم ياخذه منه أدبه ، وكلما يجتمع من القصص في سائر الأيام يطالع به السلطان بعد العشاء الآخرة.

ذكر إطعامه في الغلاء

ولما استولى القحط على بلاد الهند والسّند (٨٣) واشتد الغلاء حتى بلغ من القمح إلى ستة دنانير (٨٤) ، أمر السلطان أن يعطي لجميع أهل دهلى نفقة ستة أشهر من المخزن بحساب رطل ونصف من أرطال المغرب (٨٥) لكل إنسان في اليوم صغيرا أو كبيرا حرا أو عبدا وخرج الفقهاء والقضاء يكتبون الأزمّة بأهل الحارات ، ويحضرون الناس ويعطى لكل واحد عولة ستة أشهر يقتات بها.

ذكر فتكات هذا السلطان وما نقم من أفعاله

وكان على ما قدمنا من تواضعه وإنصافه ورفقه بالمساكين وكرمه الخارق للعادة كثير التجاسر على إراقة الدماء لا يخلو بابه عن مقتول إلا في النادر ، وكنت كثيرا ما أرى الناس يقتلون على بابه ويطرحون هنالك ، ولقد جئت يوما فنفر بي الفرس ، ونظرت إلى قطعة بيضاء في الأرض فقلت ما هذه؟ فقال بعض أصحابي : هي صدر رجل قطع ثلاث قطع!

وكان يعاقب على الصغيرة والكبيرة ولا يحترم أحدا من أهل العلم والصلاح والشرف ، وفي كل يوم يرد على المشور من المسلسلين والمغلولين والمقيدين مئون ، فمن كان للقتل أو للعذاب عذب أو للضرب ضرب ، وعادته أن يؤتى كلّ يوم بجميع من في سجنه من الناس إلى المشور ما عدا يوم الجمعة فإنهم لا يخرجون فيه وهو يوم راحتهم يتنظفون فيه ويستريحون أعاذنا الله من البلاء.

__________________

(٨٢) لا يظهر أن القصد إلى الشخصية التي كان ابن بطوطة يعتمد عليها في معلوماته ٣٤١ ,iii.

(٨٣) استمرت المجاعة طوال سبع سنوات ابتداء من عام ٧٣٦ ـ ١٣٣٦ ، وكانت تصادف إذن مقام الرحالة المغربي في الهند ، وإن هذه المجاعة لم تكن ناتجة فقط عن أسباب طبيعية ، ولكن كذلك عن الأسباب السياسية والحالة المأساوية التي كان يعيش فيها محمد تغلق ...

(٨٤) المنّ يزن تقريبا ٢٥. ١٥ كرام ...

(٨٥) الرطل في دهلي يوازي نصف المنّ ـ الرطل المغربي يساوي تقريبا الباوند الانجليزي ، وفي فقرة لاحقة ٠١٢ ,iv ـ قارن ابن بطوطة رطل دهلي بعشرين رطلا مغربيا ـ الحارة : الحومة من الحومات التي تتألّف منها المدينة ـ العولة استعمال مغربي يعني المؤنة الغذائية ...

١٨٤

ذكر قتله لأخيه

وكان له أخ اسمه مسعود خان وأمه بنت السلطان علاء الدين ، وكان من أجمل صورة رأيتها في الدنيا ، فاتّهمه بالقيام عليه (٨٦) ، وسأله عن ذلك فأقر خوفا من العذاب فإنه من أنكر ما يدعيه عليه السلطان من مثل ذلك يعذب! فيرى الناس أن القتل أهون عليهم من العذاب فأمر به فضربت عنقه ، في وسط السوق وبقى مطروحا هنالك ثلاثة أيام على عادتهم ، وكانت أم هذا المقتول قد رجمت في ذلك الموضع قبل ذلك بسنتين لاعترافها بالزّنا فرجمها القاضي كمال الدين.

ذكر قتله لثلاثماية وخمسين رجلا في ساعة واحدة!

وكان مرة عيّن حصّة من العسكر تتوجه مع الملك يوسف بغرة (٨٧) إلى قتال الكفار ببعض الجبال المتصلة بحوز دهلى فخرج يوسف وخرج معه معظم العسكر وتخلف قوم منهم ، فكتب يوسف إلى السلطان يعلمه بذلك ، فأمر أن يطاف بالمدينة ويقبض على من وجد من أولئك المتخلفين ففعل ذلك وقبض على ثلاثماية وخمسين منهم فأمر بقتلهم أجمعين فقتلوا!

ذكر تعذيبه للشيخ شهاب الدين وقتله

وكان الشيخ شهاب الدين ابن شيخ الجام الخراساني الذي تنسب مدينة الجام بخراسان إلى جده حسبما قصصنا ذلك ، من كبار المشايخ الصلحاء الفضلاء (٨٨) ، وكان يواصل أربعة عشر يوما ، وكان السلطانان قطب الدين وتغلق يعظمانه ويزورانه ويتبركان به ، فلما ولى السلطان محمد أراد أن يخدم الشيخ في بعض خدمته ، فإن عادته أن يخدم الفقهاء والصلحاء محتجا أن الصدر الأول ، رضي‌الله‌عنهم ، لم يكونوا يستعملون إلا أهل العلم والصلاح ، فامتنع الشيخ شهاب الدين من الخدمة ، وشافهه السلطان بذلك في مجلسه العامّ

__________________

(٨٦) يذكرني مثل هذه القضايا فيما نقله ابن الخطيب في (أعمال الإعلام) عن الأمير عبد الله حفيد ابن معاوية الذي ـ خوفا على الحكم أن يضيع منه ـ احتال على أخيه فسمّه ، والتفت إلى ولديه فقتلهما ... واجهز على أخيه القاسم ... لقد اشفق ابن الخطيب على القارئ وهو يسمع بهذه المذابح فختم بهذا التعبير الذي ينم عن الراحة التي يشعر بها وقد ترك السياسة! قال : وسوق الملك لا ينكر فيها أمثال هذه البضائع ومن عوفى فليحمد الله ...» تحقيق بروفنصال بيروت ١٩٥٦ ص ٢٦ ـ د. التازي : التاريخ الدبلوماسي للمغرب ج i ص ٢٤١ ـ حادثة الأمير مسعود استأثر بذكرها ابن بطوطة ...

(٨٧) تقدم ذكره ٥٣٢ ,iii.

(٨٨) ينحدر الشيخ شهاب الدين من الشيخ الجامي سالف الذكر. وكان كما عرفنا ممن يتمتعون بالاحترام الكبير من لدن سلطان الهند لكن الأمور لم تلبث أن تغيرت إلى المأساة التي نقرأ عنها ...

١٨٥

فأظهر الإباءة والامتناع! (٨٩) فغضب السلطان من ذلك ، وأمر الشيخ الفقيه المعظم ضياء الدين السمناني أن ينتف لحيته! فأبى ضياء الدين من ذلك ، وقال : لا أفعل هذا ، فأمر السلطان بنتف لحية كل واحد منهما! فنتفت! ونفي ضياء الدين إلى بلاد التّلنك ، ثم ولاه بعد مدة قضاء ورنكل (٩٠) فمات بها.

ونفى شهاب الدين إلى دولة آباد ، فأقام بها سبعة أعوام ثم بعث عنه فأكرمه وعظّمه وجعله على ديوان المستخرج (٩١) ، وهو ديوان بقايا العمّال يستخرجها منهم بالضرب والتنكيل ، ثم زاد في تعظيمه وأمر الأمراء أن يأتوا للسلام عليه ويمتثلوا أقواله ، ولم يكن أحد في دار السلطان فوقه ، ولما انتقل السلطان إلى السكنى على نهر الكنك ، وبنى هنالك القصر المعروف بسرك دوار ، معناه شبيه الجنة (٩٢) ، وأمر الناس بالبناء هنالك ، طلب منه الشيخ شهاب الدين أن يأذن له في الإقامة بالحضرة ، فأذن له إلى أرض موات مسافة ستة أميال من دهلى فحفر بها كهفا كبيرا صنع في جوفه البيوت والمخازن والفرن والحمّام وجلب الماء من نهرجون ، وعمر تلك الأرض وجمع مالا كثيرا من مستغلها لأنها كانت السنون قاحطة ، وأقام هنالك عامين ونصف عام مدة مغيب السلطان.

وكان عبيده يخدمون تلك الأرض نهارا ويدخلون الغار ليلا ويسدّونه على أنفسهم وأنعامهم خوف سرّاق الكفار لأنهم في جبل منيع هنالك ، ولما عاد السلطان إلى حضرته استقبله الشيخ ولقيه على سبعة أميال منها فعظّمه السلطان وعانقه عند لقائه ، وعاد إلى غاره، ثم بعث عنه بعد أيام فامتنع من إتيانه ، فبعث إليه مخلص الملك النّذرباري (٩٣) ، وكان من كبراء الملوك فتلطف له في القول وحذره بطش السلطان فقال له : لا أخدم ظالما أبدا! فعاد مخلص الملك إلى السلطان فأخبره بذلك فأمر أن ياتي به ، فأتى به فقال له : أنت القائل : إني ظالم؟ فقال : نعم أنت ظالم ، ومن ظلمك كذا وكذا ، وعدّد أمورا ، منها تخريبه لمدينة

__________________

(٨٩) نلاحظ تدهور علاقات السلطان محمد بن تغلق مع العلماء الذين كان لهم نفوذ كبير في الهند وكانوا لا يرضون أن يقوموا بخدمة لا ترضي ضمائرهم أو تمسّ بكرامتهم أو تنال من سمعتهم ...

(٩٠) ورنكل (ouarangal) عاصمة بلاد التّلنك ٨٠٢ ,iii.

(٩١) القصد إلى الأموال المتحصلة من الابتزاز والنهب.

(٩٢) يذكر أنه أثناء الجفاف القاسي الذي أشرنا إليه فيما سبق قام السلطان بنقل مقر حكمه عام ٧٣٨ ـ ١٣٣٨ إلى مقربة من كانوج (kanauj) على بعد ٢٠٠ ميل جنوب شرق دهلي ، على نهر (الكنك) ، كان قصره يدعى (سرگدواري) sargadwari وهو يعني باب الفردوس.

(٩٣) النذرباري ، نسبة على ما يبدو إلى مدينة نذربار الآتية الذكر (١٥ ,iv) وسيقول عنها إنها مدينة صغيرة يسكنها المرهته وهم أهل الاتقان في الصنائع والأطباء والمنجمون ... ذكرها ابن بطوطة كمحطة من المحطات التي مرت بها السّفارة الهنديّة في طريقها إلى الصّين ـ عن تخريب دهلي انظر ٥١٣ ـ ٤١٣ iii ـ عن الدويدارية ـ انظر ٥٨ ,i ـ عن نكبية انظر ٥٣٢ ـ ١٣٢ ,iii وما ياتي ص ٣٢٥ ـ ٣٢٧.

١٨٦

دهلى وإخراجه أهلها ، فأخذ السلطان سيفه ودفعه لصدر الجهان ، وقال : يثبت هذا أني ظالم واقطع عنقي بهذا السيف! فقال له شهاب الدين : ومن يريد أن يشهد بذلك فيقتل ، ولكن أنت تعرف ظلم نفسك! وأمر بتسليمه للملك نكبية راس الدويداريّة ، فقيّده بأربعة قيود وغلّ يديه وأقام كذلك أربعة عشر يوما مواصلا لا ياكل ولا يشرب! وفي كل يوم منها يؤتى به إلى المشور ويجمع الفقهاء والمشايخ ، ويقولون له ارجع عن قولك ، فيقول : لا أرجع عنه وأريد أن أكون في زمرة الشهداء! فلما كان اليوم الرابع عشر بعث إليه السلطان بطعام مع مخلص الملك، فأبى أن يأكل ، وقال : قد رفع رزقي من الأرض! ارجع بطعامك إليه! فلما أخبر بذلك السلطان أمر عند ذلك أن يطعم الشيخ خمسة إستار (٩٤) من العذرة! وهي رطلان ونصف من أرطال المغرب ، فأخذ ذلك الموكلون بمثل هذه الأمور ، وهم طائفة من كفار الهنود ، فمدّوه على ظهره وفتحوا فمه بالكلبتين وحلّوا العذرة بالماء ، وسقوه ذلك ، وفي اليوم بعده أتي به إلى دار القاضي صدر الجهان وجمع الفقهاء والمشايخ ووجوه الأعزة فوعظوه وطلبوا منه أن يرجع عن قوله فأبى ذلك فضربت عنقه ، رحمه‌الله تعالى

ذكر قتله للفقيه المدرس عفيف الدين الكاساني (٩٥) وفقيهين معه

وكان السّلطان في سنين القحط قد أمر بحفر آبار خارج دار الملك ، وأن يزرع هنالك(٩٦) زرع وأعطى الناس البذر وما يلزم على الزراعة من النفقة وكلفهم زرع ذلك للمخرن ، فبلغ ذلك الفقيه عفيف الدين ، فقال : هذا الزرع لا يحصل المراد منه! فوشى به إلى السلطان فسجنه وقال : له لأي شيء تدخل نفسك في أمور الملك؟ ثم إنه سرّحه بعد مدة فذهب إلى داره.

ولقيه في طريقه إليها صاحبان له من الفقهاء ، فقالا له : الحمد لله على خلاصك ، فقال الفقيه : الحمد لله الذي نجّانا من القوم الظالمين (٩٧) ، وتفرقوا فلم يصلوا إلى دورهم حتى بلغ ذلك السلطان ، فأمر بهم فأحضر ثلاثتهم بين يديه ، فقال : اذهبوا بهذا ، يعني عفيف

__________________

(٩٤) إستار : الكلمة الهندية سر (sir) ، وتعادل تقريبا أربعمائة كرام ، هذا وإن مشاعر المرء لتصاب بالذهول وهو يسمع عن مثل هذه الحماقات التي تعتبر من البضاعات الرائجة في سوق السياسة!! على حد تعبير ابن الخطيب في الإعمال يراجع التعليق ٨٦.

(٩٥) ينتسب إلى كاسان مدينة كبيرة في أول بلاد تركستان وراء نهر سيحون ، معجم البلدان.

(٩٦) بلغ الناس من الضعف حالة لم يتمكنوا معها من القدرة على حفر الآبار ، وبلغوا من الجوع كذلك حالة لم يتمكنوا معها من القدرة على الاحتفاظ بالحبوب فأكلوها ، وهو الأمر الذي أدّى إلى موجة جديدة من القمع ـ كلمة المخزن هنا تعنى مدلولها في المغرب : الدّولة والحكومة.

(٩٧) القرآن الكريم ، السورة ٢٣ ، الآية ٢٨.

١٨٧

الدين ، فاضربوا عنقه حمائل ، وهو أن يقطع الرأس مع الذراع وبعض الصدر ، واضربوا أعناق الآخرين ، فقالا له : أما هو فيستحق العقاب بقوله ، وأما نحن فبأي جريمة تقتلنا؟ فقال لهما : إنكما سمعتما كلامه فلم تنكراه فكأنكما وافقتما عليه! فقتلوا جميعا رحمهم‌الله تعالى!.

ذكر قتله أيضا للفقيهين من أهل السند كانا في خدمته

وأمر السلطان هذين الفقيهين السنديّين أن يمضيا مع أمير عيّنه إلى بعض البلاد وقال لهما انّما سلّمت احوال البلاد والرعيّة لكما ويكون هذا الأمير معكما يتصرّف بما تأمرانه به فقالا له : إنّما نكون كالشاهدين عليه ونبين له وجه الحقّ ليتبعه ، فقال لهما : إنّما قصدكما أن تاكلا أموالي وتضيّعاها وتنسبا ذلك إلى هذا التركيّ الذي لا معرفة له ، فقالا له ، حاشا لله ياخوند عالم! ما قصدنا هذا ، فقال لهما : لم تقصدا غير هذا! اذهبوا بهما إلى الشيخ زاده النّهاونديّ ، وهو الموكّل بالعذاب ، فذهب بهما إليه فقال لهما : السلطان يريد قتلكما ، فأقرّا بما قوّلكما ايّاه ولا تعذّبا انفسكما! فقالا : والله ما قصدنا الّا ما ذكرنا ، فقال لزبانيّته : ذوّقوهما بعض شيء ، يعني من العذاب ، فبطحا على أقفائهما وجعل على صدر كلّ واحد منهما صفيحة حديد محماة ، ثمّ قلعت بعد هنيهة ، فذهبت بلحم صدورهما ، ثمّ أخذ البول والرماد فجعل على تلك الجراحات ، فأقرّا على أنفسهما انّهما لم يقصدا الّا ما قاله السلطان وانّهما مجرمان مستحقّان للقتل! فلا حقّ لهما ولا دعوى في دمائهما دنيا ولا أخرى ، وكتبا خطّهما بذلك واعترفا به عند القاضي! فسجّل على العقد وكتب فيه أن اعترافهما كان عن غير اكراه ولا إجبار ، ولو قالا : أكرهنا لعذّبا أشدّ العذاب! ورأيا أن تعجيل ضرب العنق خير لهما من الموت بالعذاب الأليم فقتلا رحمهما‌الله تعالى!

ذكر قتله للشيخ هود

وكان الشيخ زاده المسمى بهود حفيد الشيخ الصالح الوليّ ركن الدين بن بهاء الدين بن أبي زكرياء الملتاني للبنت (٩٨) ، وجدّه الشيخ ركن الدين معظم عند السلطان ، وكذلك أخوه عماد الدين الذي كان شبيها بالسلطان ، وقتل يوم وقيعة كشلوخان وسنذكره (٩٩) ، ولما قتل عماد الدين أعطى السلطان لأخيه ركن الدين مائة قرية ليأكل منها ويطعم الصادر

__________________

(٩٨) ليس أبا زكرياء ولكن فقط زكريا الملتاني ، (٢٠١ ,iii) ـ كلمة (للبنت) محذوفة في بعض النسخ.

(٩٩) ٢٢٣ ,iii ـ كلمة الدولة الآتية في صفحة ٣٠٤ تعني المحفة ٣٧ ,iv حول السماط ٢٤٢ ,iii ـ الإجلاس على السجادة في الصفحة ٣٠٥ يشير للخلافة.

١٨٨

والوارد بزاويته ، فتوفى الشيخ ركن الدين وأوصى بمكانه من الزاوية لحفيده الشيخ هود ، ونازعه في ذلك ابن أخي الشيخ ركن الدين ، وقال : أنا أحق بميراث عمي ، فقدما على السلطان وهو بدولة آباد ، وبينها وبين ملتان ثمانون يوما فأعطى السلطان المشيخة لهود حسبما أوصى له الشيخ ، وكان كهلا وكان ابن أخي الشيخ فتى ، وأكرمه السلطان وأمر بتضييفه في كل منزل يحله وأن يخرج إلى لقائه أهل كل بلد يمر به إلى ملتان وتصنع له فيه دعوة.

فلما وصل الأمر للحضرة خرج الفقهاء والقضاة والمشايخ والأعيان للقائه ، وكنت فيمن خرج إليه ، فلقيناه وهو راكب في دولة يحملها الرجال وخيله مجنوبة ، فسلمنا عليه وأنكرت أنا ما كان من فعله في ركوبه الدولة ، وقلت : إنما كان ينبغي له أن يركب الفرس ويساير من خرج للقائه من القضاة والمشايخ ، فبلغه كلامي ، فركب الفرس واعتذر بأن فعله أولا كان بسبب ألم منعه عن ركوب الفرس ، ودخل الحضرة وصنعت له بها دعوة أنفق فيها من مال السلطان عدد كثير وحضر القضاة والمشايخ والفقهاء والأعزة ومدّ السماط وأتوا بالطعام على العادة. ثم أعطيت الدراهم لكل من حضر على قدر استحقاقه فأعطى قاضي القضاة خمسمائة دينار ، وأعطيت أنا مائتين وخمسين دينارا ، وهذه عادة لهم في الدعوة لسلطانية ثم انصرف الشيخ هود إلى بلده ومعه الشيخ نور الدين الشيرازي بعثه السلطان ليجلسه على سجادة جده بزاويته ، ويصنع له الدعوة من مال السلطان هنالك ، واستقر بزاويته وأقام بها أعواما ثم إن عماد الملك أمير بلاد السند كتب إلى السلطان يذكر أن الشيخ وقرابته يشتغلون بجمع الأموال وإنفاقها في الشهوات ولا يطعمون أحدا بالزاوية ، فنفذ الأمر بمطالبتهم بالأموال ، فطلبهم عماد الملك بها ، وسجن بعضهم وضرب بعضا وصار يأخذ منهم كل يوم عشرين ألف دينار مدة أيام حتى استخلص ما كان عندهم ووجد لهم كثير من الأموال والذخائر من جملتها نعلان مرصعان بالجوهر والياقوت بيعا بسبعة الاف دينار قيل : إنهما كانا لبنت الشيخ هود ، وقيل لسرّيّة له ، فلما اشتدت الحال على الشيخ هرب يريد بلاد الأتراك ، فقبض عليه ، وكتب عماد الملك بذلك إلى السلطان فأمره أن يبعثه مبعث الذي قبض عليه كلاهما في حكم الثقاف ، فلما وصلا إليه سرح الذي قبض عليه ، وقال الشيخ هود : أين أردت أن تفر؟ فاعتذر بعذر ، فقال له السلطان إنما أردت أن تذهب إلى الاتراك فتقول : أنا ابن الشيخ بهاء الدين زكرياء. وقد فعل السلطان معي كذا وتأتي لقتالنا ، اضربوا عنقه ، فضربت عنقه رحمه‌الله تعالى!

١٨٩

١٩٠

ذكر سجنه لابن تاج العارفين وقتله لأولاده

وكان الشيخ الصالح شمس الدين ابن تاج العارفين ساكنا بمدينة كول (١٠٠) منقطعا للعبادة ، كبير القدر ، ودخل السلطان إلى مدينة كول ، فبعث عنه فلم يأته ، فذهب السلطان إليه ، ثم لما قارب منزله انصرف ، ولم يره.

واتفق بعد ذلك أن أميرا من الأمراء خالف على السلطان ببعض الجهات وبايعه الناس فنقل للسلطان أنه وقع ذكر هذا الأمير بمجلس الشيخ شمس الدين فأثنى عليه وقال : إنه يصلح للملك ، فبعث السلطان بعض الأمراء إلي الشيخ فقيّده وقيد أولاده وقيد قاضي كول ومحتسبها(١٠١) لأنه ذكر انّهما كانا حاضرين للمجلس الذي وقع فيه ثناء الشيخ على الأمير المخالف ، وأمر بهم فسجنوا جميعا بعد أن سمل عيني القاضي وعيني المحتسب! ومات الشيخ بالسجن!

وكان القاضي والمحتسب يخرجان مع بعض السجانين ، فيسألان الناس ، ثم يردان إلى السجن ، وكان قد بلغ السلطان أن أولاد الشيخ كانوا يخالطون كفار الهنود وعصاتهم ويصحبونهم ، فلما مات أبوهم أخرجهم من السجن ، وقال لهم : لا تعود إلى ما كنتم تفعلون! فقالوا له : وما فعلنا؟ فاغتاظ من ذلك ، وأمر بقتلهم جميعا! فقتلوا ثم استحضر القاضي المذكور ، فقال : أخبرني بمن كان يرى رأى هؤلاء الذين قتلوا ويفعل مثل أفعالهم! فأملى أسماء رجال كثيرين من كبار البلد ، فلما عرض ما أملاه على السلطان ، قال : هذا يحب أن يخرّب البلد! اضربوا عنقه! فضربت عنقه ، رحمه‌الله تعالى (١٠٢).

ذكر قتله للشيخ الحيدري

وكان الشيخ علي الحيدري ساكنا بمدينة كنباية من ساحل الهند ، وهو عظيم القدر شهير الذكر ، بعيد الصيت ، ينذر له التجار بالبحر النذور الكثيرة ، وإذا قدموا بدءوا بالسلام عليه ، وكان يكاشف بأحوالهم ، وربما نذر أحدهم النذر وندم عليه ، فإذا أتى الشيخ للسلام عليه أعلمه بما نذر له وأمر بالوفاء به ، واتفق له ذلك مرات واشتهر به.

__________________

(١٠٠) كول coul ,coel ,couil هي المدينة الحالية (aligarh) ، على بعد ٧٥ ميلا جنوب شرق دهلي ... وقد زرت جامعتها وحضرت مجلس الأساتذة بها في أبريل ١٩٧٥.

(١٠١) حول المحتسب ـ يراجع ٤٨١ ,iii.

(١٠٢) يراجع التعليق ٨٦.

١٩١

فلما خالف القاضي جلال الأفغاني وقبيلته بتلك الجهات (١٠٣) بلغ السلطان أن الشيخ الحيدري دعا للقاضي جلال وأعطاه شاشيته من رأسه (١٠٤) وذكر أيضا أنه بايعه ، فلما خرج السلطان إليهم بنفسه وانهزم القاضي جلال خلّف السلطان شرف الملك أمير بخت أحد الوافدين معنا عليه ، بكنباية ، وأمره بالبحث عن أهل الخلاف ، وجعل معه فقهاء يحكم بقولهم، فأحضر الشيخ علي الحيدري بين يديه وثبت أنه أعطى للقائم شاشيته ، ودعا له فحكموا بقتله ، فلما ضربه السياف لم يفعل شيئا وعجب الناس لذلك ، وظنوا أنه يعفى عنه بسبب ذلك فأمر سيافا آخر بضرب عنقه فضربها ، رحمه‌الله تعالى!

ذكر قتله لطوغان وأخيه

وكان طوغان الفرغاني وأخوه من كبار أهل مدينة فرغانة (١٠٥) فوفدا على السلطان فأحسن إليهما وأعطاهما عطاءا جزيلا ، وأقاما عنده مدة ، فلما طال مقامهما أراد الرجوع إلى بلادهما وحاولا الفرار ، فوشى بهما أحد أصحابهما إلى السلطان فأمر بتوسيطهما فوسّطا! وأعطى للذي وشى بهما جميع مالهما ، وكذلك عادتهم بتلك البلاد إذا وشى أحد بأحد وثبت ما وشى به فقتل أعطى ماله

ذكر قلته لابن ملك التجار

وكان ابن التجار شابا صغيرا لانبات بعارضيه ، فلما وقع خلاف عين الملك وقيامه وقتاله للسلطان ، كما سنذكره (١٠٦) ، غلب على ابن ملك التجار هذا ، فكان في جملته مقهورا فلما هزم عين الملك وقبض عليه وعلى أصحابه كان من جملتهم ابن ملك التجار وصهره ابن قطب الملك فأمر بهما فعلّقا من أيديهما في خشب ، وأمر أبناء الملوك فرموهما بالنّشاب حتى ماتا! ولما ماتا قال الحاجب خواجة أمير علي التّبريزيّ لقاضي القضاة كمال الدين : ذلك الشابّ لم يجب عليه القتل ، فبلغ ذلك السلطان ، فقال : هلا قلت هذا قبل موته؟ وأمر به فضرب مائتي مقرعة أو نحوها! وسجن وأعطى جميع ماله لأمير السيافين ، فرأيته في ثاني ذلك اليوم قد لبس ثيابه وجعل قلنسوته على رأسه وركب فرسه فظننت أنه هو!

وأقام بالسجن شهورا ثم سرحه ورده إلى ما كان عليه ثم غضب عليه ثانية ونفاه إلى خراسان فاستقر بهراة ، وكتب إليه يستعطفه فوقّع له على ظهر كتابه : أكرباز امدي باز (آى): معناه إن كنت تبت فارجع ، فرجع إليه.

__________________

(١٠٣) تقدّم إلى ٣٦٣ ـ ٢٦٣ ,iii.

(١٠٤) يراجع ٨٤ ,ii.

(١٠٥) كلمة (فرغانة) التي تردد ذكرها في كتب الفقه والأدب : (من غانة (بأفريقيا) إلى فرغانة (بآسيا) هذا الموقع الجغرافي يعني مدينة واسعة فيما وراء النّهر (la transoxiane) متاخمة لبلاد تركستان ...

(١٠٦) تقدم إلى ٣٥٣ ـ ٠٤٣ ,iii.

١٩٢

ذكر ضربه لخطيب الخطباء حتى مات

وكان قد ولّي خطيب الخطباء بدهلى النظر في خزانة الجواهر في السفر فاتفق أن جاء سراق الكفار ليلا فضربوا على تلك الخزانة وذهبوا بشيء منها فأمر بضرب الخطيب حتى ماترحمه‌الله تعالى!.

ذكر تخريبه لدهلى ونفي أهلها وقتل الأعمى والمقعد

ومن أعظم ما كان ينقم على السلطان إجلاؤه لأهل دهلى (١٠٧) عنها ، وسبب ذلك أنهم كانوا يكتبون بطائق فيها شتمه وسبّه ويختمون عليها ويكتبون عليه : وحق رأس خوند عالم ما يقرأها غيره! ويرمونها بالمشور ليلا فإذا فضها وجد فيها شتمه وسبه ، فعزم على تخريب دهلى ، واشترى من أهلها جميعا دورهم ومنازلهم ودفع لهم ثمنها ، وأمرهم بالانتقال عنها إلى دولة آباد ، فأبوا ذلك فنادى مناديه أن لا يبقى بها أحد بعد ثلاث ، فانتقل معظمهم واختفى بعضهم في الدور ، فأمر بالبحث عمن بقي بها فوجد عبيده بأزقتها رجلين أحدهما مقعد والآخر أعمى ، فأتى بهما ، فأمر بالمقعد فرمى به في المنجنيق ، وأمر أن يجر الأعمى من دهلي إلى دولة آباد مسيرة أربعين يوما ، فتمزق في الطريق ووصل منه رجله!

ولما فعل ذلك خرج أهلها جميعا وتركوا أثقالهم وأمتعتهم وبقيت المدينة خاوية على عروشها (١٠٨) ، فحدثني من أثق به ، قال : صعد السلطان ليلة إلى سطح قصره فنظر إلى دهلي ، وليس بها نار ولا دخان ولا سراج ، فقال : الآن طاب قلبي ، وتهدّن خاطري! ثم كتب إلى أهل البلاد أن ينتقلوا إلى دهلي ليعمروها فخربت بلادهم ولم تعمر دهلي لاتساعها وضخامتها ، وهي من أعظم مدن الدنيا وكذلك وجدناها لما دخلنا إليها خالية ليس بها إلّا قليل عمارة.

وقد ذكرنا كثيرا من مآثر هذا السلطان ، ومما نقم عليه أيضا فلنذكر جملا من الوقائع والحوادث الكائنة في أيامه.

__________________

(١٠٧) محاولة نقل العاصمة من دهلي إلى دولة أباد (dawlatabad) تكررت مرتين ، أول مرة عام ٧٢٧ ـ ١٣٢٧ بعد ثورة كوشتشب (cushtashb) عندما فضّل محمد بن تغلق الإقامة في عاصمة تتمتع بموقع أكثر تمركزا ، أعطى أمره لرجال القصر ولعلية الموظفين وكبار الولاة الإقليميين لكي ينتقلوا إليها أو يسكنوا أهاليهم بها ، أما المرة الثانية فقد كانت عام ٧٣٠ ـ ١٣٢٩ عندما أعطى الحاكم ـ وقد أقلقته شكاوي الناس في دهلي ـ أمره بالهجرة الجماعية حيث بنى مدينة جديدة : جهان بّاناه (٧٤١ ,iii).

(١٠٨) ورد وصف هذه الظروف ومضاعفاتها من لدن مهدي حسين في كتابه عن محمد بن تغلق : the rise and fall of muhammad bin tughluq ـ london ٨١٩١ p. ٨٠١ ـ ٣٢.

١٩٣
١٩٤

الفصل الثالث عشر

تاريخ مملكة محمد ابن تغلق

١٩٥
١٩٦

تاريخ مملكة محمد ابن تغلق

استضافة السلطان محمد شاه ووالدته لابن بطوطة

وفاة بنت ابن بطوطة

احسان السلطان في غيابه لابن بطوطة

عطاءات السلطان لابن بطوطة

خروج السلطان إلى الصيد وهدايا ابن بطوطة له

خروج السلطان وأمره لابن بطوطة بالبقاء في دهلي

خروج ابن بطوطة إلى هزار وأمروها

رجوع السلطان وإرسال ابن بطوطة للصين.

١٩٧
١٩٨

ذكر ما افتتح به أمره أوّل ولايته من منّه على بهادور بوره

ولمّا ولي السّلطان الملك بعد أبيه وبايعه الناس أحضر السلطان غياث الدين بهادور بوره(١) الذي كان أسره السلطان تغلق ، فمنّ عليه وفكّ قيوده وأجزل له العطاء من الأموال والخيل والفيلة وصرفه إلى مملكته (٢) ، وبعث معه ابن أخيه بهرام (٣) خان ، وعاهده على أن تكون تلك المملكة مشاطرة بينهما ، وتكتب أسماؤهما معا في السكّة ، ويخطب لهما ، وعلى أن يصرف غياث الدّين ابنه محمّدا المعروف ببرباط يكون رهينة عند السلطان (٤) فانصرف غياث الدين إلى مملكته والتزم ما شرط عليه الّا أنّه لم يبعث ابنه وادّعى انّه امتنع وأساء الأدب في كلامه فبعث السلطان العساكر إلى ابن أخيه ابراهيم خان ، وأميرهم دلجي التتريّ (٥) ، فقاتلوا غياث الدين فقتلوه وسلخوا جلده وحشى بالتبن وطيف به على البلاد.

ذكر ثورة ابن عمّته وما اتّصل بذلك

وكان للسلطان تغلق ابن اخت يسمّى بهاء الدين كشت اسب ، بضمّ الكاف وسكون الشين المعجم وتاء معلوّة واسب بالسين المهمل والباء الموحدة مسكّنين ، فجعله أميرا ببعض النواحي (٦) ، فلمّا مات خاله امتنع من بيعة ابنه وكان شجاعا بطلا فبعث السلطان إليه العساكر فيهم الأمراء الكبار مثل الملك مجير والوزير خواجة جهان (٧) أمير على الجميع ، فالتقى الفرسان واشتدّ القتال ، وصبر كلا العسكرين ، ثمّ كانت الكرّة لعسكر السلطان ، ففرّ

__________________

(١) للتّذكير في غياث الدين بها دور ، والحملة العسكرية لعام ٧٢٤ ـ ١٣٢٤ يراجع ج iii ١٧٩ ـ ٢١٠.

(٢) سمي غياث الدين بها دور ملكا على البنغال الشرقية ، وعاصمتها صونارگاون (sonargaon) ـ أخو غياث الدين ناصر الدين ابراهيم احتفظ بالبنغال الغربية وعاصمتها لاخنوتي (lakhnawti) إلى عام ٧٢٦ ـ ١٣٢٦ ، أما البنغال الجنوبية فقد كانت مدارة بصفة مباشرة من ساطگاون (satgaon) من لدن بعض الحكام منذ بداية سلطنة محمد ابن تغلق ...

(٣) في مطبوع الناشرين الفرنسيين يوجد ابراهيم اعتمادا على مخطوطة خاطئة ، وقد اقتفى اثرهما سائر الناشرين اللاحقين! ومن المعلوم أن المخطوطات الأخرى بما فيها المغربية رقم ٢٣٩٩ يوجد فيها بهرام وهو الصحيح ـ انظر ٠٣٢ ,iii.

(٤) هذا الاسم محمد برباط مما استأثر بذكره ابن بطوطة.

(٥) يذكر مهدي حسين أن محمد ابن تغلق يدعوه دلجلي تتاري ، معروف بها أكثر من (تترخان) ويؤرخ هذه الارسالية العسكرية سنة ٧٣٠ ـ ١٣٣٠ ـ ٣١.

(٦) بهاء الدين گشتشب كان حاكما لساكار (sagar) في إقليم گولبا رگا (gulbarga) شمال المنطقة الحالية كارناطاكا (karnataka).

(٧) من أجل الملك مجير بن ذي الرجاء انظر ٨٨١ ـ ٦ ـ ٥ ,iv ـ ٠٣٢ iii ولأجل خواجه جهان انظر احمد بن اياس ٤٨٢ ـ ٥٤٢ ـ ٧٢٢ ـ ٤١٢ ـ ٢١٢ ـ ٤٤١ ـ ٨٥ ـ ٥٤ iii ـ ٦٢٤ ,i.

١٩٩

٢٠٠