رحلة ابن بطوطة - ج ٣

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ٣

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-009-5
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٢٥٥

١٦١

ذكر ترتيبه إذا قدم من سفره

وإذا قدم السلطان من أسفاره زينت الفيلة ورفعت على ستة عشر فيلا منها ستة عشر شطرا ، منها مزركش ، ومنها مرصع ، وحملت أمامه الغاشية وهي الستارة المرصعة بالجوهر النفيس ، وتصنع قباب من الخشب مقسومة على طبقات ، وتكسى بثياب الحرير ، ويكون في كل طبقة الجواري المغنيات عليهن أجمل لباس وأحسن حلية ، ومنهن رواقص ويجعل في وسط كل قبة حوض كبير مصنوع من الجلود مملو بماء الجلّاب محلولا بالماء يشرب منه جميع الناس من وارد وصادر وبلدي أو غريب ، وكل من يشرب منه يعطي التنبول والفوفل.

ويكون ما بين القباب مفروشا بثياب الحرير يطأ عليها مركب السلطان وتزين حيطان الشارع الذي يمر به من باب المدينة إلى باب القصر بثياب الحرير ، ويمشي أمامه المشاة من عبيده وهم آلاف ، وتكون الأفواج والعساكر خلفه.

ورأيت في بعض قدماته على الحضرة وقد نصبت ثلاث أو أربع من الرعادات الصغار على الفيلة ترمي بالدنانير والدراهم على الناس فيلتقطونها من حين دخوله إلى المدينة حتى وصل إلى قصره (٣٤).

ذكر ترتيب الطعام الخاص

والطعام بدار السلطان على صنفين : طعام الخاص وطعام العام ، فأما الخاص فهو طعام السلطان الذي يأكل منه ، وعادته أن يأكل في مجلسه مع الحاضرين ، ويحضر لذلك الأمراء الخواص وأمير حاجب ابن عم السلطان ، وعماد الملك سرتيز وأمير مجلس ، ومن شاء السلطان تشريفه أو تكريمه من الأعزة أو كبار الأمراء دعاه ، فأكل معهم ، وربما أراد أيضا تشريف أحد من الحاضرين فأخذ إحدى الصحاف بيده وجعل عليها خبزة ويعطيه إياها ، فيأخذها المعطى ويجعلها على كفه اليسرى ، ويخدم بيده اليمنى إلى الأرض ، وربما بعث من ذلك الطعام إلى من هو غائب عن المجلس فيخدم كما يصنع الحاضر ويأكله مع من حضره. وقد حضرت مرات لهذا الطعام الخاص فرأيت جملة الذين يحضرون له نحو عشرين رجلا.

__________________

(٣٤) يذكر أن مثل هذا المقطع الذي يحكى عن العادة الهندية عند مقدم العاهل من سفره ونثر الدنانير والدراهم على جمهور المستقبلين له هي التي أثارت الشكوك حول مروياته من لدن الذين تناجوا بالإثم والعدوان مما ردده ابن خلدون في مقدمته على ما ذكرناه في المقدمة ... فقد هال بعض الناس أن تكون هذه عادة للناس في مكان ما من أرض الله! وعوض أن يتتبثوا في الأمر التجأوا إلى التشكيك ، ولو لا حكمة الوزير ابن ودرار لذهبت الرحلة إدراج الرياح ـ تقدم ذكر الرعادات ٨٤١ ,iii.

١٦٢

١٦٣

ذكر ترتيب الطعام العام

وأما الطعم العام فيوتى به من المطبخ وأمامه النقباء يصيحون : بسم الله ، ونقيب النقباء أمامهم بيده عمود ذهب ، ونائبه معه بيده عمود فضة ، فإذا دخلوا من الباب الرابع وسمع من بالمشور أصواتهم قاموا قياما أجمعين ولا يبقى أحد قاعدا إلا السلطان وحده ، فإذا وضع الطعام بالأرض اصطف النقباء صفا ووقف أميرهم أمامهم وتكلم بكلام يمدح فيه السلطان ويثني عليه، ثم يخدم النقباء لخدمته ، ويخدم جميع من بالمشور من كبير وصغير.

وعادتهم أنه من سمع كلام نقيب النقباء حين ذلك وقف إن كان ماشيا ولزم موقفه إن كان واقفا ولا يتحرك أحد ولا يتزحزح عن مقامه حتى يفرغ ذلك الكلام ، ثم يتكلم أيضا نائبه كلاما نحو ذلك ويخدم ويخدم النقباء وجميع الناس مرة ثانية ، وحينئذ يجلسون ويكتب كتّاب الباب معرّفين بحضور الطعام ، وإن كان السلطان قد علم بحضوره ويعطى المكتوب لصبي من أبناء الملوك موكل بذلك ، فيأتي به إلى السلطان ، فإذا قرأه عين من شاء من كبار الأمراء لترتيب الناس وإطعامهم.

وطعامهم الرقاق والشواء والأقراص ذات الجوانب المملوّة بالحلواء ، والأرز ، والدجاج والسموسك (٣٥).

وقد ذكرنا ذلك وفسرنا ترتيبه. وعادتهم أن يكون في صدر سماط الطعام القضاة والخطباء والفقهاء والشرفاء والمشايخ ، ثم أقارب السلطان ثم الأمراء الكبار ثم سائر الناس ، ولا يقعد أحد إلا في موضع معين له فلا يكون بينهم تزاحم البتة. فإذا جلسوا أتى الشّربداريّة ، وهم السقاة بأيديهم أواني الذهب والفضة والنحاس والزجاج مملوة بالنبات المحلول بالماء فيشربون ذلك قبل الطعام ، فإذا شربوا ، قال الحجاب : بسم الله ، ثم يشرعون في الأكل ويجعل أمام كل إنسان من جميع ما يحتوي عليه السماط يأكل منه وحده ، ولا يأكل أحد مع أحد في صحفة واحدة ، فإذا فرغوا من الأكل أتوا بالفقاع (٣٦) في أكواز القصدير فإذا أخذوه قال الحجاب : بسم الله ، ثم يوتى بأطباق التنبول والفوفل فيعطي كل إنسان غرفة من الفوفل المهشوم وخمس عشرة ورقة من التنبول مجموعة مربوطة بخيط حرير أحمر ، فإذا أخذ الناس التنبول قال الحجاب: بسم الله ، فيقومون جميعا ويخدم الأمير المعين للإطعام ،

__________________

(٣٥) السّموسك لعل القصد إلى السنبوسة وهي ـ على ما عرفت في العراق ، حلوى مثلثة الشكل تحشى باللوز ... وتسمى عندنا في المغرب بالبريوات تصغير براءة وقد تقدم هذا اللفظ ٣٢١ ,iii.

(٣٦) الفقّاع في الدارجة المغربية يعني الفطر ويبدو أنّه مشروب يتخذ من هذا النبات وليس القصد إلى (البيرّة) أو ماء الشعير كما عند بعض التراجمة ...

١٦٤

١٦٥

ويخدمون لخدمته ، ثم ينصرفون ، وطعامهم مرتان في اليوم إحداهما قبل الظهر والأخرى بعد العصر.

ذكر بعض أخباره في الجود والكرم

وإنما أذكر منها ما حضرته وشاهدته وعاينته ، ويعلم الله تعالى صدق ما أقول ، وكفى به شهيدا مع أن الذي أحكيه مستفيض متواتر ، والبلاد التي تقرب من أرض الهند كاليمن وخراسان وفارس مملوة بأخباره يعلمونها حقيقة ولا سيما جوده على الغرباء فإنه يفضلهم على أهل الهند ، ويؤثرهم ويجزل لهم الإحسان ويسبغ عليهم الإنعام ويوليهم الخطط الرفيعة ويوليهم المواهب العظيمة ، ومن إحسانه إليهم أن سماهم الأعزة ومنع من أن يدعون الغرباء وقال : إن الإنسان إذا دعى غريبا انكسر خاطره وتغير حاله وسأذكر بعضا مما يحصى (٣٧) من عطاياه الجزيلة ومواهبه إن شاء الله تعالى.

ذكر عطائه لشهاب الدين الكازروني التاجر وحكايته

كان شهاب الدين هذا صديقا لملك التجار الكازروني الملقب ببرويز ، وكان السلطان قد اقطع ملك التجار مدينة كنباية ، ووعده أن يوليه الوزارة فبعث إلى صديقه شهاب الدين ليقدم عليه ، فأتاه ، وأعدّ هدية للسلطان وهي سراجة من الملفّ المقطوع المزين بورقة الذهب ، وصيوان مما يناسبها ، وخباء وتابع ، وخبا (٣٨) راحة ، كل ذلك من الملف المزين وبغال كثيرة ، فلما قدم شهاب الدين بهذه الهدية على صاحبه ملك التجار وجده آخذا في القدوم على الحضرة بما اجتمع عنده من مجابي بلاده وبهدية للسلطان.

وعلم الوزير خواجة جهان بما وعده به السلطان من ولاية الوزارة فغار من ذلك ، وقلق بسببه ، وكانت بلاد كنباية والجزرات قبل تلك المدة في ولاية الوزير ، ولأهلها تعلق بجانبه وانقطاع إليه ، وتخدّم له ، وأكثرهم كفار وبعضهم عصاة يمتنعون بالجبال ، فدس الوزير إليهم أن يضربوا على ملك التجار إذا خرج إلى الحضرة ، فلما خرج بالخزائن والأموال ومعه شهاب الدين بهديته نزلوا يوما عند الضحى على عادتهم ، وتفرقت العساكر ، ونام أكثرهم فضرب عليهم الكفار في جمع عظيم ، فقلتوا ملك التجار وسلبوا الأموال والخزائن وهدية

__________________

(٣٧) (أن يدعون) هكذا في سائر النّسخ ولا بد من التنبيه على أن كلمة (يحصى) صوابها يخصّني وهو ما في الكتاني ودوزي.

(٣٨) معنى (تابع) : مكمّلات الخيمة وتوابعها ـ راحة يعني يستراح فيها (مرحاض) ـ حول كازرون ودلالتها في التّجارة البحرية الصّينية والهندية انظر ١٩ ـ ٠٩ ,ii.

١٦٦

شهاب الدين ونجا هو بنفسه ، وكتب المخبرون إلى السلطان بذلك فأمر أن يعطي شهاب الدين من مجبي بلاد نهروالة (٣٩) ثلاثين ألف دينار ويعود إلى بلاده ، فعرض عليه ذلك ، فأبى من قبوله ، وقال : ما قصدي إلا رؤية السلطان وتقبيل الأرض بين يديه ، فكتبوا إلى السلطان بذلك ، فأعجبه قوله وأمر بوصوله إلى الحضرة مكرما.

وصادف يوم دخوله على السلطان يوم دخولنا نحن عليه ، فخلع علينا جميعا وأمر بإنزالنا وأعطى شهاب الدين عطاء جزيلا ، فلما كان بعد ذلك أمر بستة آلاف تنكه كما سنذكره ، وسأل في ذلك اليوم عن شهاب الدين : أين هو؟ فقال له بهاء الدين بن الفلكي : ياخوند عالم نميدانم معناه. ما ندري ، ثم قال له : شنيدم ، زحمت داره معناه سمعت أن به مرضا ، فقال له السلطان بروهمين زمان ، در خزانة يك لك تنكه ، زريكري وبيش أوببري تادل أو خش شود، معناه : إمش الساعة إلى الخزانة وخذ منها مائة ألف تنكه من الذهب واحملها إليه حتى يبقى خاطره طيبا ، ففعل ذلك ، فأعطاه إياها ، وأمر السلطان أن يشترى بها ما أحب من السلع الهندية ولا يشتري أحد من الناس شيئا حتى يتجهز هو ، وأمر له بثلاثة مراكب مجهزة من آلاتها ، ومن مرتّب البحرية وزادهم ليسافر فيها ، فسافر ونزل بجزيرة هرمز وبنى بها دارا عظيمة ، رايتها بعد ذلك.

ورأيت أيضا شهاب الدين وقد فنى جميع ما كان عنده وهو بشيراز يستجدي سلطانها أبا اسحاق وهكذا مال هذه البلاد الهندية! قلما يخرج أحد به منها إلا النادر ، وإذا خرج به ووصل إلى غيرها من البلاد بعث الله عليه آفة تفني ما بيده كمثل ما اتفق لشهاب الدين هذا فإنه أخذ له في الفتنة التي كانت بين ملك هرمز وابني أخيه جميع ما عنده وخرج سليبا من ماله!!

__________________

(٣٩) نهروالة (anhilwara) العاصمة القديمة للكجرات gujarat فتحت من قبل علاء الدين خلجي عام ٦٩٦ ـ ١٢٩٧. وهي حاليا باطّان (patan) بولاية (برودا) (٥٧ ٢٣ شمالا وخط ١٠ ٧٢ شرقا) وإلى نهرواله ينتسب قطب الدين صاحب كتاب البرق اليماني في الفتح العثماني الذي يعجبني من شعره :

لا تعتب الدّهر في أمر رماك به

إن استردّ فقدما طالما وهبا!

حاسب زمانك في حالي تصرّفه

تجده أعطاك أضعاف الذي سلبا!

ورأس مالك هو الرّوح قد سلمت

لا تأسفنّ لشيىء بعدها ذهبا!!

وحول شهاب الدين وفتنة هرمز انظر ٥٣٢ ,ii.

١٦٧

ذكر عطائه لشيخ الشيوخ ركن الدين

وكان السلطان قد بعث هدية إلى الخليفة بديار مصر أبي العباس ، وطلب له أن يبعث له أمر التقدمة على بلاد الهند والسند اعتقادا منه في الخلافة (٤٠) فبعث إليه الخليفة أبو العباس ما طلبه مع شيخ الشيوخ بديار مصر ركن الدين ، فلما قدم عليه بالغ إكرامه وأعطاه عطاء جزلا ، وكان يقوم له متى دخل عليه ويعظمه ، ثم صرفه وأعطاه أموالا طائلة.

وفي جملة ما أعطاه جملة من صفائح الخيل ومساميرها ، كل ذلك من الذهب الخاص ، وقال له : إذا نزلت من البحر فأنعل أفراسك بها ، فتوجه إلى كنباية ليركب البحر منها إلى بلاد اليمن فوقعت قضية خروج القاضي جلال الدين وأخذه مال ابن الكولمي فأخذ أيضا ما كان لشيخ الشيوخ ، وفر بنفسه مع ابن الكولميّ إلى السلطان ، فلما رءاه السلطان قال له مما زحا : آمدي كزر بري بادكري صنم خري زرنبري وسرنهي : معناه جئت لتحمل الذهب تاكله مع الصور الحسان ، فلا تحمل ذهبا ، ورأسك تخليه هاهنا ، قال له ذلك على معنى الانبساط ، ثم قال له : اجمع خاطرك فيها أنا سائر إلى المخالفين ، وأعطيك أضعاف ما أخذوه لك.

وبلغني بعد انفصالي عن بلاد الهند أنه وفّى له بما وعده وأخلف له جميع ما ضاع منه وأنه وصل بذلك إلى ديار مصر.

ذكر عطائه للواعظ الترمذي ناصر الدين

وكان هذا الفقيه الواعظ قدم على السلطان وأقام تحت إحسانه مدة عام ثم أحب الرجوع إلى وطنه فأذن له في ذلك ، ولم يكن سمع كلامه ووعظه ، فلما خرج السلطان يقصد بلاد المعبر (٤١) أحب سماعه قبل انصرافه فأمر أن يهيّأ له منبر من الصندل الأبيض

__________________

(٤٠) لما شعر محمد بن تغلق بارتجاج الأرض من حواليه بسبب الثورات المتوالية لعماله على الأقاليم ، وكذلك بسبب الموقف العدائي الذي اتخذه العلماء إزاءه أخذ يبحث عن طريقة لتقوية سلطانه ، وهكذا اتجه نحو مصر ليطلب تنصيبه من قبل الخليفة العباسي الذي أمسى مقيما في مصر عند دولة المماليك.

يلاحظ أن ابن بطوطة كان كسائر الكتاب المغاربة الآخرين من أمثال ابن خلدون يؤمن بأن الخلافة في مصر لا تقوم على أساس! لذلك كان تعبيره هكذا : اعتقادا منه!! هذا ويرسم البروفيسور كيب الكلمات الفارسية الواردة في المتن هكذا ـ amadi kazar bari ba digiri sanam kharizar na bari wasar nihi

حول الشيخ السفير ، ركن الدّين انظر ٩٦٣ ,i ـ حول قضية تمرّد جلال الدّين ، انظر ٣٦٣ ـ ٢٦٣ ,iv.

(٤١) كانت الحركة ضد مادورا (madura) عام ٧٣٥ ـ ١٣٣٥ على ما سيأتي ٨٢٣ ,iii.

١٦٨

المقاصريّ (٤٢) وجعلت مساميره وصفائحه من الذهب وألصق بأعلاه حجر ياقوت عظيم ، وخلع على ناصر الدين خلعة عباسية سوداء (٤٣) مذهبة مرصعة بالجوهر وعمامة مثلها ونصب له المنبر بداخل السراجة وهي أفراج ، وقعد السلطان على سريره والخواص عن يمينه ويساره وأخذ القضاة والفقهاء والأمراء مجالسهم ، فخطب خطبة بليغة ووعظ وذكّر ، ولم يكن فيما فعله طائل! لاكن سعادته ساعدته! فلما نزل عن المنبر قام السلطان إليه وعانقه وأركبه على فيل وأمر جميع من حضر أن يمشوا بين يديه ، وكنت في جملتهم ، إلى سراجة ضربت له مقابلة سراجة السلطان ، جميعها من الحرير الملون وصيوانها من الحرير ، وخباؤها أيضا كذلك فجلس وجلسنا معه (٤٤).

وكان بجانب من السراجة أواني الذهب التي أعطاه السلطان إياها ، وذلك تنّور كبير بحيث يسع في جوفه الرجل القاعد ، وقدران اثنان وصحاف لا أذكر عددها ، وجملة أكواز وركوة وتميسندة ، ومائدة لها أربعة أرجل ، ومحمل للكتب ، كل ذلك من ذهب خالص ، ورفع عماد الدين السّمنانّي (٤٥) وتدين من أوتاد السراجة أحدهما نحاس والآخر مقصدر يوهم بذلك أنهما من ذهب وفضة ، ولم يكونا إلا كما ذكرنا! وقد كان أعطاه حين قدومه مائة ألف دينار دراهم ومئين من العبيد سرّح بعضهم وحمل بعضهم.

ذكر عطائه لعبد العزيز الأردويلي.

وكان عبد العزيز هذا فقيها محدّثا قرأ بدمشق على تقي الدين بن تيمية وبرهان الدين بن البركح وجمال الدين المزي ، وشمس الدين الذهبي (٤٦) وغيرهم ، ثم قدم على السلطان فأحسن إليه وأكرمه.

واتفق يوما أنه سرد عليه أحاديث في فضل العباس وابنه رضى الله عنهما ، وشيئا من مآثر الخلفاء أولادهما ، فأعجب ذلك السلطان لحبه في بني العباس وقبل قدمي الفقيه

__________________

(٤٢) المقاصريّ نسبة إلى ما كاصّار (macassar) في جزيرة (celebres) gibb p.٥٧٦ n ٠٨

(٤٣) السواد هو اللون الذي اتخذته الدولة العباسية شعارا لها كما نعرف.

(٤٤) لمعرفة أكثر حول الموضوع تقدّم ـ iii ص ٤١٤ ـ ٤١٥.

(٤٥) سنرى ٦٧٢ ,iii نعث السّمناني هذا بملك الملوك ...

(٤٦) تقدم لابن بطوطة الحديث عن قصة الأردويلي ببعض اختلاف ٦٧ ـ ٥٧ ,iii ـ حول الدراسة في دمشق انظر ٦١٢ ـ ٥١٢ ,i وما يليهما ـ شمس الدّين الذهبي ، من عيون المؤرخين ... توفي ٣ ذي القعدة ٧٤٨ ـ ١٣٤٨ ـ الدرر الكامنة ٣ ، ٤٢٦ ـ ٤٢٧.

١٦٩

وأمر أن يوتي بصينية ذهب فيها ألفا تنكه فصبها عليه بيده ، وقال : هي لك مع الصينية ، وقد ذكرنا هذه الحكاية فيما تقدم.

ذكر عطائه لشمس الدين الأندكانيّ

وكان الفقيه شمس الدين الأندكانيّ حكيما شاعرا مطبوعا فمدح السلطان بقصيدة باللسان الفارسي وكان عدد أبياتها سبعة وعشرين بيتا فأعطاه لكل بيت منها ألف دينار دراهم وهذا أعظم مما يحكى عن المتقدمين الدين كانوا يعطون على بيت شعر ألف درهم وهو عشر عطاء السلطان!

ذكر عطائه لعضد الدين الشّونكاري

وكان عضد الدين فقيها إماما فاضلا كبير القدر عظيم الصيت شهير الذكر ببلاده ، فبلغت السلطان أخباره وسمع بمآثره فبعث إليه إلى بلده شونكارة (٤٧) عشرة آلاف دينار دراهم ، ولم يره قط ولا وفد عليه.

ذكر عطائه للقاضي مجد الدين

ولما بلغه أيضا خبر القاضي العالم الصالح ذي الكرامة الشهيرة مجد الدين قاضي شيراز الذي سطرنا أخباره في السفر الأول (٤٨) ، وسيمر بعض خبره بعد هذا أيضا بعث إليه إلى مدينة شيراز صحبة الشيخ زاده الدمشقي عشرة آلاف دينار دراهم.

ذكر عطائه لبرهان الدين الصاغرجي

وكان برهان الدين أحد الوعاظ الأئمة ، كثير الإيثار باذلا لما يملكه حتى إنه كثيرا ما ياخذ الديون ويؤثر على الناس ، فبلغ خبره إلى السلطان فبعث إليه أربعين ألف دينار ، وطلب منه أن يصل إلى حضرته فقبل الدنانير وقضى دينه ، وتوجه إلى بلاد الخطا وأبى أن يصل

__________________

(٤٧) شونكارة (shabankara) منطقة صغيرة جنوب شرق إقليم فارس fars سمي هكذا اعتبارا لقبيلة كردية تحمل هذا الاسم أقامت فيه في القرن السادس الهجري ـ الثاني عشر الميلادي.

(٤٨) حول مجد الدّين اسماعيل بن خذاداد هذا يراجع ٤٥ ,ii ـ صاغرج تقع على بعد ١٥ ميلا شمال غرب سمرقند ـ حول الخطا ـ انظر ٣٢ ,iii.

١٧٠

١٧١

إليه وقال : لا أمضي إلى سلطان يقف العلماء بين يديه (٤٩)

ذكر عطائه لحاجي كاون وحكايته

وكان حاجي كاون ابن عم السلطان أبي سعيد ملك العراق وكان أخوه موسى ملكا ببعض بلاد العراق (٥٠) ، فوفد حاجي كاون على السلطان فأكرم مثواه وأعطاه العطاء الجزل ، ورأيته يوما وقد أتى الوزير خواجه جهان بهديته وكان منها ثلاث صينيات إحداها مملوة يواقيت، والأخرى مملوة زمردا والأخرى مملوة جوهرا ، وكان حاجي كاون حاضرا فأعطاه من ذلك حظا جزيلا ثم إنه أعطاه أيضا مالا عريضا ، ومضى يريد العراق فوجد أخاه قد توفى. وولى مكانه سليمان (٥١) خان ، فطلب إرث أخيه وادّعى الملك وبايعته العساكر وقصد بلاد فارس ونزل بمدينة شونكارة التي بها الإمام عضد الدين الذي تقدم ذكره آنفا ، فلما نزل بخارجها تأخر شيوخها عن الخروج إليه ساعة ثم خرجوا ، فقال لهم : ما منعكم عن تعجيل الخروج إلى مبايعتنا، فاعتذروا له ، فلم يقبل منهم ، وقال لأهل سلاحه : قلج تخار معناه جردوا السيوف ، فجردوها وضربوا أعناقهم ، وكانوا جماعة كبيرة ، فسمع من يجاور هذه المدينة من الأمراء بما فعله، فغضبوا لذلك وكتبوا إلى شمس الدين السّمناني (٥٢) ، وهو من الأمراء الفقهاء الكبار فأعلموه بما جرى على أهل شونكارة ، وطلبوا منه الإعانة على قتاله فتجرد في عساكره واجتمع أهل البلاد طالبين بثأر من قتله حاجي كاون من المشايخ ، وضربوا على عسكره ليلا فهزموه وكان هو بقصر المدينة (٥٣) ، فأحاطوا به فاختفى في بيت الطهارة فعثروا عليه وقطعوا رأسه وبعثوا به إلى سليمان خان وفرقوا أعضاءه على البلاد تشفيا منه!

__________________

(٤٩) يذكّر هذا في هذين البيتين :

قل للأمير نصيحة

لأتركننّ إلى فقيه!

إنّ الفقيه إذا أتى

أبوابكم لأخير فيه!!

(٥٠) موسى خان بن علي اعترف به لمدة قصيرة كخلف للسلطان أبي سعيد ، من لدن بعض الرؤساء بشمال العراق بيد أنه لم يلبث أن قتل من لدن الشيخ حسن في ذي الحجة ٧٣٧ ـ يوليه ١٣٣٧ لقب (كاون) لقب تشريفيّ يعادل لقب (خان) بالتركية ـ يراجع ٣٢١ ,iii.

(٥١) سليمان خان بن يوسف شاه أحد المنحدرين من أبقا. تزوج بالأميرة ساطي بك واستطاع أن يقاوم ضد الشيخ حسن في أذربيجان من عام ٧٣٩ ـ ١٣٣٩ إلى عام ٧٤٤ ـ ١٣٤٤ ـ ٩١١ ,ii.

(٥٢) احتل شمس الدين مكانة هامة عند بعض المصادر التاريخية في الأحداث التي جرت بفارس fars بيد أنها لم تردد صدى لمحاولة انقلاب حاجي كاون ٨٨ ,ii.

(٥٣) من المحتمل أن يكون القصد إلى مدينة (ig) التي كانت عاصمة الناحية.

١٧٢

ذكر قدوم ابن الخليفة عليه وأخباره

وكان الأمير غياث الدين محمد بن عبد القاهر بن يوسف بن عبد العزيز بن الخليفة المستنصر بالله العباسي البغدادي (٥٤) قد وفد على السلطان علاء الدين طرمشيرين ملك ما وراء النهر فأكرمه ، وأعطاه الزاوية التي على قبر قثم بن العباس رضي‌الله‌عنهما (٥٥) واستوطن بها أعواما ، ثم لما سمع بمحبة السلطان في بني العباس وقيامه بدعوتهم أحب القدوم عليه ، وبعث له برسولين، أحدهما صاحبه القديم محمد بن أبي الشّرفي الحرباوي ، والثاني محمد الهمداني الصوفي فقدما على السلطان ، وكان ناصر الدين الترمذي ، الذي تقدم ذكره ، قد لقى غياث الدين ببغداد وشهد لديه البغداديون بصحة نسبه ، فشهد هو عند السلطان بذلك فلما وصل رسولاه إلى السلطان أعطاهما خمسة آلاف دينار وبعث معهما ثلاثين ألف دينار إلى غياث الدين ليتزورد بها إليه وكتب له كتابا بخط يده يعظمه فيه ويسأل منه القدوم عليه.

فلما وصله الكتاب رحل إليه ، فلما وصل إلى بلاد السند ، وكتب المخبرون بقدومه بعث السلطان من يستقبله على العادة ، ثم وصل إلى سرستي بعث أيضا لاستقباله صدر الجهان قاضي القضاة كمال الدين الغزنوي وجماعة من الفقهاء ثم بعث الأمراء لاستقباله فلما نزل بمسعود آباد خارج الحضرة خرج السلطان بنفسه لاستقباله فلما التقيا ترجّل غياث الدين فترجل له السلطان وخدم ، فخدم له السلطان ، وكان قد استصحب هدية في جملتها ثياب ، فأخذ السلطان آحد الأثواب وجعله على كتفه ، وخدم كما يفعل الناس معه. ثم قدمت الخيل، فأخذ السلطان أحدها بيده وقدمه له ، وحلف أن يركب وامسك بركابه حتى ركب ثم ركبالسلطان وسايره والشطر يظلهما معا. وأخذ التنبول بيده وأعطاه إياه ، وهذا أعظم ما أكرمه به ، فإنه لا يفعله مع واحد ، وقال له : لو لا أني بايعت الخليفة أبا العباس (٥٥) لبايعتك!

فقال له غياث الدين وأنا أيضا على تلك البيعة ، وقال له غياث الدين : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما : من أحيي أرضا مواتا فهي له ، وأنت احييتنا ، فجاوبه السلطان بألطف جواب وأبره.

__________________

(٥٤) كان وصول هذا الأمير إلى الهند ـ على ما يحتمل ـ عام ٧٤٠ ـ ١٣٤٠ ـ ١٣٤١ وربما كان ذلك يتزامن مع مصلحة لمحمد بن تغلق كانت تقتضي هذه الزيارة ... بالرغم مما نعلمه سلفا عن مدى قوة هذه «الخلافة» التي استقرت بمصر (تعليق ٤٠) k.a.nizami : safir ـ ency.islam.n.e ـ ـ ـ

(٥٥) حول قبر قثم بن العباس خارج سمرقند ـ انظر ٢٥ ,iii ـ حول الحديث عن مدينة مسعود أباد ـ انظر ٣٤١ ,iii ـ حول تاريخ هذا الحدث الذي يتّصل بالتاريخ الدّولي للأمة الاسلامية فإنه يصعب تحديده لأن السلطان محمد ضرب عملة باسم الخليفة في مصر المستكفي بالله في عام ٧٤١ إلى ٧٤٣ بالرغم من أن هذا كان توفي عام ٧٤١! ولا يوجد ما يثبت صلة السلطان بالخليفة الحاكم الثاني أبى العباس إلى أن وصل التقليد : الخلعة والمرسوم (٤٦٣ ـ ٣٦٣ ,i) عندما كان السلطان غياث يقيم فعلا في دهلي. ـ انظر عن المستكفي بالله وخلفه «المستعطي بالله» بدائع الزهور لابن إياس ص ٤٧٤

١٧٣

ولما وصلا إلى السراجة المعدة لنزول السلطان أنزله فيها ، وضرب للسلطان غيرها ، وباتا تلك الليلة بخارج الحضرة ، فلما كان بالغد دخلا إلى دار الملك وأنزله بالمدينة المعروفة بسيري ، وبدار الخلافة أيضا في القصر الذي بناه علاء الدين الخلجي وابنه قطب الدين ، وأمر السلطان جميع الأمراء أن يمضوا معه إليه وأعد له فيه جميع ما يحتاج إليه من أواني الذهب والفضة حتى كان من جملتها مغتسل يغتسل فيه من ذهب ، وبعث له أربعمائة ألف دينار غسل الرأس على العادة ، وبعث له جملة من الفتيان والخدم والجواري ، وعين له عن نفقته في كل يوم ثلاثمائة دينار ، وبعث له زيادة إليها عددا من الموائد بالطعام الخاص ، وأعطاه جميع مدينة سيري إقطاعا وجميع ما احتوت عليه من الدور وما يتصل بها من بساتين المخزن وأرضه وأعطاه مائة قرية وأعطاه حكم البلاد الشرقية المضافة لدهلى وأعطاه ثلاثين بغلة بالسروج المذهبة ويكون علفها من المخزن ، وأمره أن لا ينزل عن دابته إذا أتى دار السلطان إلا في موضع خاص لا يدخله أحد راكبا سوى السلطان وأمر الناس جميعا من كبير وصغير أن يخدموا له كما يخدمون للسلطان!

وإذا دخل على السلطان ينزل له عن سريره ، وإن كان على الكرسي قام قائما وخدم كل واحد منهما لصاحبه ، ويجلس مع السلطان على بساط واحد ، وإذا قام قام السلطان لقيامه وخدم كل واحد منهما ، وإذا انصرف إلى خارج المجلس جعل له بساط يقعد عليه ما شاء ، ثم ينصرف ، يفعل هذا مرتين في اليوم.

حكاية من تعظيمه إياه

وفي أثناء مقامه بدهلى قدم الوزير من بلاد بنجالة فأمر السلطان كبار الأمراء أن يخرجوا إلى استقباله ثم خرج بنفسه إلى استقباله وعظمه تعظيما كثيرا وصنعت القباب بالمدينة كما تصنع للسلطان إذا قدم وخرج ابن الخليفة للقائه أيضا والفقهاء والقضاة والأعيان ، فلما عاد السلطان لقصره قال للوزير : امض إلى دار المخدوم زاده ، وبذلك يدعوه ، ومعنى ذلك ابن المخدوم ، فسار الوزير إليه ، وأهدى له ألفي تنكة من الذهب وأثوابا كثيرة وحضر الأمير قبولة وغيره من كبار الأمراء وحضرت أنا لذلك.

حكاية نحوها [عن لطف السلطان وكرمه]

وفد على السلطان ملك غزنة المسمّى ببهرام (٥٦) وكان بينه وبين ابن الخليفة عداوة

__________________

(٥٦) حول سيرى كدار خلافة انظر ٦٤١ ,iii ـ وحول عادة «غسل الرأس» يراجع iii ص ١٨٣ ـ ١٦٢ ـ ٦٢٢ لم يعرف شيء عن بهرام هنا ، نظرا لكون غزنة كانت تابعة لهرات فإن «ملكها» على ما يبدو كان واليا من قبل معز الدّين حسين.

١٧٤

قديمة فأمر السلطان بإنزاله ببعض دور مدينة سيري التي لابن الخليفة ، وأمر أن تبنى له بها دار ، فبلغ ذلك ابن الخليفة فغضب منه ومضى إلى دار السلطان فجلس على البساط الذي عادته الجلوس عليه ، وبعث عن الوزير فقال له : سلم على خوند عالم ، وقل له إن جميع ما أعطانيه هو بمنزلي لم أتصرف في شيء منه بل زاد عندي ونما وأنا أقيم معكم ، وقام وانصرف!

فسأل الوزير بعض أصحابه عن سبب هذا ، فاعلمه أن سببه أمر السلطان ببناء الدار لملك غزنة في مدينة سيري ، فدخل الوزير على السلطان فأعلمه بذلك فركب من حينه في عشرة من ناسه وأتى منزل ابن الخليفة فاستأذن عليه ونزل عن فرسه خارج القصر حيث ينزل الناس فتلقاه واعتذر له ، فقبل عذره. وقال له السلطان : والله ما أعلم أنك راض عني حتى تضع قدمك على عنقي! فقال له : هذا ما لا أفعله ولو قتلت ، فقال له السلطان وحق رأسي لا بد لك من ذلك! ثم وضع رأسه في الأرض وأخذ الملك الكبير قبولة رجل ابن الخليفة بيده فوضعها على عنق السلطان ثم قام وقال : الآن علمت أنك راض عني وطاب قلبي!

وهذه حكاية غريبة لم يسمع بمثلها عن ملك ، ولقد حضرته يوم عيد وقد جاءه الملك الكبير بثلاث خلع من عند السلطان مفرّجة ، قد جعل مكان عقد الحرير التي تغلق بها حبات جوهر في قدر البندق الكبير ، وأقام الملك الكبير ببابه حتى نزل من قصره ، فكساه إياها والذي أعطاه هو مالا يحصره العد ولا يحيط به الحد ، وابن الخليفة مع ذلك كلّه أبخل خلق الله تعالى! وله في البخل أخبار عجيبة يعجب منها سامعها وكأنه كان من البخل بمنزلة السلطان من الكرم ولنذكر بعض أخباره في ذلك.

حكايات من بخل ابن الخليفة

وكانت بيني وبينه مودة ، وكنت كثير التردد إلى منزله ، وعنده تركت ولدا لي سميته أحمد لما سافرت ، ولا أدري ما فعل الله به (٥٧) ، فقلت له يوما : لم تأكل وحدك ولا تجمع أصحابك على الطعام؟ فقال لي : لا أستطيع أن أنظر إليهم على كثرتهم وهم ياكلون طعامي! فكان يأكل وحده ويعطي صاحبه محمد بن أبي الشرفي من الطعام لمن أحب ويتصرف في باقيه!!

__________________

(٥٧) حسب النّسخ التي اعتمدناها يوجد (به) ويعتمد الناشران الفرنسيان على النسخة رقم ٢٢٩١ وفيها (بهما) ... وعلى كلّ فإن هذا الكلام يدل على أن ابن بطوطة ترك ولدا يحمل اسم احمد عند هذا الأمير العباسي ... فماذا عن مصير أحمد وعقبه في تلك الجهات؟!

١٧٥

وكنت أتردد إليه فأرى دهليز قصره الذي يسكن به مظلما لا سراج به. ورأيته مرارا يجمع الاعواد الصغار من الحطب بداخل بستانه ، وقد ملأ منها مخازن ، فكلمته في ذلك ، فقال لي: يحتاج إليها.

وكان يخدم أصحابه ومماليكه وفتيانه في خدمة البستان وبنائه ويقول : لا أرضى أن ياكلوا طعامي وهم لا يخدمون. وكان عليّ مرة دين ، فطلبت به فقال لي في بعض الأيام : والله قد هممت أن أؤدى عنك دينك فلم تسمح نفسي بذلك ولا ساعدتني عليه!!

حكاية [عن شحه]

حدّثني مرة قال : خرجت من بغداد وأنا رابع أربعة : أحدهم محمد بن أبي الشرفي صاحبه ، ونحن على أقدامنا ولا زاد عندنا ، فنزلنا على عين ماء ببعض القرى فوجد أحدنا في العين درهما ، فقلنا : وما نصنع بدرهم؟ فاتفقنا على أن نشتري به خبزا فبعثنا أحدنا لشرائه ، فأبى الخباز بتلك القرية أن يبيع الخبز وحده وإنما يبيع خبزا بقيراط وتبنا بقيراط ، فاشترى منه الخبز والتبن فطرحنا التّبن إذ لا دابة لنا تأكله ، وقسمنا الخبز لقمة لقمة! وقد انتهى حالي اليوم إلى ما تراه ، فقلت له : ينبغي أن تحمد الله على ما أولاك وتؤثر على الفقراء والمساكين وتتصدق ، فقال : لا أستطيع ذلك! ولم أره قط يجود بشيء ولا يفعل معروفا ، ونعوذ بالله من الشح!

حكاية

كنت يوما ببغداد بعد عودتي من بلاد الهند وأنا قاعد على باب المدرسة المستنصرية التي بناها جده أمير المؤمنين المستنصر (٥٨) ، رضي‌الله‌عنه ، فرأيت شابا. ضعيف الحال يشتد خلف رجل خارج عن المدرسة ، فقال لي بعض الطلبة : هذا الشاب الذي تراه هو ابن الأمير محمد حفيد الخليفة المستنصر الذي ببلاد الهند ، فدعوته ، فقلت له ، إني قدمت من بلاد الهند وأني أعرفك بخبر أبيك!

! فقال : قد جاءني خبره في هذه الأيام ، ومضى يشتد خلف الرجل ، فسألت عن الرجل فقيل لي : هو الناظر في الحبس ، وهذا الشاب هو إمام ببعض المساجد ، وله على ذلك أجرة درهم واحد في اليوم ، وهو يطلب أجرته من الرجل ، فطال عجبي منه ، والله لو بعث إليه جوهرة من الجواهر التي في الخلع الواصلة إليه من السلطان لأغناه بها ، ونعوذ بالله من مثل هذه الحال.

__________________

(٥٨) انظر ٩٠١ ـ ٨٠١ ,ii.

١٧٦

ذكر ما أعطاه السلطان للأمير سيف الدين

غدا بن هبة الله بن مهنّى أمير عرب الشام.

ولما قدم هذا الأمير (٥٩) على السلطان أكرم مثواه وأنزله بقصر السلطان جلال الدين داخل مدينة دهلى ، ويعرف بكشك لعل ، ومعناه القصر الأحمر ، وهو قصر عظيم فيه مشور كبير جدا ودهليز هائل ، على بابه قبة (٦٠) تشرف على هذا المشور ، وعلى المشور الثاني الذي يدخل منه إلى القصر ، وكان السلطان جلال الدين يقعد بها وتلعب الكرة بين يديه في هذا المشور ، وقد دخلت هذا القصر عند نزوله به فرأيته مملوا أثاثا وفرشا وبسطا وغيرها ، وذلك كله متمزق ، لا منتفع فيه ، فإن عادتهم بالهند أن يتركوا قصر السلطان إذا مات بجميع ما فيه لا يعرضون له ويبنى المتولي بعده قصرا لنفسه ، ولما دخلته طفت به وصعدت إلى أعلاه ، فكانت لي فيه عبرة نشأت عنها عبرة وكان معي الفقيه الطيب الأديب جمال الدين المغربي الغرناطي الأصل البجائي المولد ، مستوطن بلاد الهند قدمها مع أبيه ، وله بها أولاد ، فانشدني عند ما عايناه ،

سلاطينهم سل الطّين عنهم

فالرؤوس العظام صارت عظاما! (٦١)

وبهذا القصر كانت وليمة عرسه كما نذكره ، وكان السلطان شديد المحبة في العرب مؤثرا لهم معترفا بفضائلهم فلما وصله الأمير أجزل له العطاء وأحسن إليه إحسانا عظيما ، وأعطاه مرة ، وقد قدمت عليه ، هدية أعظم ملك البايزيدي (٦٢) من بلاد مانكبور أحد عشر فرسا من عتاق الخيل وأعطاه مرة أخرى عشرة من الخيل مسرجة بالسروج المذهبة عليها اللجم المذهّبة ثم زوجه بعد ذلك بأخته فيروز خوندة.

ذكر تزوج الأمير سيف الدين بأخت السلطان

ولما أمر السلطان بتزويج أخته للأمير غدا عيّن للقيام بشأن الوليمة ونفقاتها الملك فتح

__________________

(٥٩) ورد اسم غدا (٢٦٣ ـ ١٦٣ ,i) ـ التعليق ١٩٧ كما ورد ٥٥١ ,iii وكما قلنا لم نجد أثرا لذكر هذا الأمير العربي في غير رحلة ابن بطوطة ولعلّ اللّفظ عذا اختصار لعوذة التي لها في المشرق دلالتها ... د.

مصطفى الحياري : الإمارة الطائية في بلاد الشام ، عمان وزارة الشباب ١٩٧٧ ص ٧١. ـ أحمد وصفي زكريا ، عشائر الشام ـ معرض الكتاب بالقاهرة ١٩٩٥.

(٦٠) يراجع الجزء٠٨١ ,ii.

(٦١) ينبغي أن نقف قليلا مع هذا البيت بما يحتويه من تلاعب جميل بالكلمات مرتين حيث جمع بين (سلاطين) وهم الملوك وبين (سل الطين) يعني اسأله أي الصلصال ، والطفل والوحل ، ثم جمع بين (العظام) جمع عظيم وبين (العظام) جمع عظم!!

(٦٢) سيذكر البايزيدي (٧٦٣ ـ ٦٦٣ ,iii) منعوتا بمصاهرته للسلطان ـ مانكبور تقدمت ١٨١ ,iii.

١٧٧

الله المعروف بشونويس ، بشين معجم مفتوح وواوين أولهما مسكن والآخر مسكور بينهما نون وآخره سين مهمل ، وعيّنني لملازمة الأمير غذا والكون معه في تلك الأيام ، فأتى الملك فتح الله بالصّيوانات فظلل بها المشورين بالقصر الأحمر المذكور ، وضرب في كل واحد منهما قبة ضخمة جدا وفرش ذلك بالفرش الحسان ، وأتى شمس الدين التبريزي أمير المطربين ومعه الرجال المغنون والنساء المغنيات والرواقص وكلهن مماليك السلطان ، وأحضر الطباخين والخبازين والشوائين والحلوانّيين والشّربدارية والتنبول داران ، وذبحت الأنعام والطيور ، وأقاموا يطعمون الناس خمسة عشر يوما ويحضر الأمراء الكبار والأعزة ليلا ونهارا.

فلما كان قبل ليلة الزفاف بليلتين جاء الخواتين من دار السلطان ليلا إلى هذا القصر فزينه وفرّشنه بأحسن الفرش واستحضرن الأمير سيف الدين وكان عربيا غريبا لا قرابة له فحففن به ، وأجلسنه على مرتبة معينة له ، وكان السلطان قد أمر أن تكون ربيبته أم أخيه مبارك خان مقام أم الأمير غدا ، وأن تكون امرأة أخرى من الخواتين مقام أخته وأخرى مقام عمته وأخرى مقام خالته حتى يكون كأنه بين أهله (٦٣)!!

ولما أجلسنه على المرتبة جعلن له الحناء في يديه ورجليه (٦٤) ، وقام باقيهن على رأسه يغنّين ويرقصن ، وانصرفن إلى قصر الزفاف وأقام هو مع خواص أصحابه ، وعين السلطان جماعة من الأمراء يكونون من جهته وجماعة يكونون من جهة الزوجة ، وعادتهم أن تقف الجماعة التي من جهة الزوجة على باب الموضع الذي تكون به جلوتها على زوجها ، وياتي الزوج بجماعته فلا يدخلون إلا إن غلبوا أصحاب الزوجة أو يعطونهم الآلاف من الدنانير إن لم يقدروا عليهم!!

ولما كان بعد المغرب أتي إليه بخلعة حرير زرقاء مزركشة مرصعة قد غلبت الجواهر عليها فلا يظهر لونها مما عليها من الجوهر ، وبشاشية مثل ذلك ، ولم أر قط مثل ذلك ، ولم

__________________

(٦٣) شونويس :(shaw ـ nawvis) بالفارسية تعني كاتب عقد الزواج ، العدل أو المأذون ، هذا ونرى أنّ من أطرف التقاليد التي عرفتها المنطقة على ذلك العهد فيما يتصل بمجاملة (الغريب) ، ما نراه هنا نموذجا لتطبيق الفكرة حيث «يخلق» للأعزة أهل له حتى لا يشعر بالغربة. وقد عشت أثناء ممارستي للعمل الدبلوماسي مع حالات ذكرتني بهذه العادات عندما يطرأ سفير غريب على البلاد المعتمد فيها فنجد نوعا من هذا «التئاخي» للأقارب والأحباب.

(٦٤) ممارسة الحناء معروفة على العموم للنساء أكثر مما هي معروفة عند الرجال ومن المهم أن نلاحظ انتشار هذه العادة في العالم الإسلامي كله حتّى لاعتبرت الحنا ، الركيزة الأساس في تقاليد الأعراس ، وللمغاربة تاريخ طويل مع هذا النّبات ، فهم يغرسونه في الأقاليم الجنوبية ، ولهم في كل مدينة سوق خاص بها ... وهناك مهنة «الحنّايات» اللاتي ينقشن الحناء على أطراف المحتفى بها ... د. التّازي : أعراس فاس ، مطبعة فضالة ١٩٦١ ص ٧ ـ ١٣ ـ جريدة الشرق الأوسط عدد ٨ ـ ٩ ـ ١١ شتنبر ١٩٩٤.

١٧٨

أر قط خلعة أجمل من هذه الخلعة ، وقد رأيت ما خلعه السلطان على سائر أصهاره مثل ابن ملك الملوك عماد الدين السّمناني ، وابن ملك العلماء وابن شيخ الإسلام وابن صدر جهان البخاري ، فلم يكن فيها مثل هذه.

ثم ركب الأمير سيف الدين في أصحابه وعبيده ، وفي يد كلّ واحد منهم عصى قد أعدها ، وصنعوا شبه إكليل من الياسمين والنّسرين وريبول (٦٥) ، وله رفرف (٦٦) يغطي وجه المتكلل به وصدره ، وأتوا به الأمير ليجعله على رأسه ، فأبى من ذلك ، وكان من عرب البادية، لا عهد له بأمور الملك والحضر! فحاولته وحلفت عليه حتى جعله على رأسه وأتى باب الصّرف ويسمونه باب الحرم (٦٧) ، وعليه جماعة الزوجة فحمل عليهم بأصحابه حملة عربية وصرعوا كل من عارضهم فغلبوا عليهم ، ولم يكن لجماعة الزوجة من ثبات! وبلغ ذلك السلطان فأعجبه فعله ، ودخل إلى المشور وقد جعلت العروس فوق منبر عال مزين بالديباج مرصع بالجوهر والمشور ملآن بالنساء والمطربات قد أحضرن أنواع الآلات المطربة وكلهنّ وقوف على قدم إجلالا له وتعظيما ، فدخل بفرسه حتى قرب من المنبر فنزل وخدم عند أول درجة منه، وقامت العروس قائمة حتى صعد فأعطته التنبول بيدها فأخذه وجلس تحت الدرجة التي وقفت بها ، ونثرت دنانير الذهب على رؤوس الحاضرين من أصحابه ، ولقطتها النساء والمغنيات يغنين حينئذ ، والأطبال والأبواق والأنفار تضرب خارج الباب.

ثم قام الأمير وأخذ بيد زوجته ونزل وهي تتبعه ، فركب فرسه يطأ به الفرش والبسط ، ونثرت (٦٨) الدنانير عليه وعلى أصحابه ، وجعلت العروس في محفة وحملها العبيد على أعناقهم إلى قصره ، والخواتين بين يديها راكبات وغيرهن من النساء ماشيات ، وإذا مرّوا بدار أمير أو كبير خرج إليهم ونثر عليهم الدنانير والدراهم على قدر همته حتى أوصلوها إلى قصرها.

__________________

(٦٥) عن السّمناني يراجع ٢٥٢ ,iii وعن البخاري ٤٥ ,iii وعن الريبول اعتقد أنها الفلّ ـ انظر ٠٥١ ,iii.

(٦٦) تلاحظ قوة ذاكرة الرحالة الذي لم ينس مثل هذه الدقائق التي ينساها المرء عادة ... وينبغي الوقوف مع المفرد الحضاري الذي ذكره فعلاوة على الإكليل من الزهور المتنوعة هناك (الرفرف) أي الحجاب الشفاف الذي يغطي به وجه العروس أو العريس إمعانا في لفت الأنظار إليها أو إليه! وتلك كلها كما قرأنا عادات كانت سائدة في الهند.

(٦٧) باب الحرم يؤدي إلى منطقة معزولة عن باقي الناس خاصة بالحريم ...

(٦٨) نثار أو نثر الدراهم على العريس عادة معروفة ، وتسمى في المغرب (الغرامة)! يقال مثلا : أصدقاء العريس يغرمون عليه : ينثرونه بالدنانير والأوراق النقدية ، ويستغرب المرء لهذه العادات التي تتشابه مع عادات بعض الجهات الإسلامية ، عادات تقصد إلى مساعدة العريسين في بداية حياتهما الزوجية ...

١٧٩

ولما كان بالغد بعثت العروس إلى جميع أصحاب زوجها الثياب والدنانير والدراهم ، وأعطى السلطان لكل واحد منهم فرسا مسرجا ملجما وبدرة دراهم من ألف دينار إلى مائتي دينار ، وأعطى الملك فتح الله للخواتين ثياب الحرير المنوعة والبدر ، وكذلك لأهل الطرب ، وعادتهم ببلاد الهند أن لا يعطي أحد شيئا لأهل الطرب ، إنما يعطيهم صاحب العرس ، وأطعم الناس جميعا ذلك اليوم ، وانقضى العرس ، وأمر السلطان أن يعطي الأمير غذا بلاد المالوة والجزرات وكنباية ونهروالة (٦٩) ، وجعل فتح الله المذكور نائبا عنه عليها ، وعظّمه تعظيما شديدا، وكان عربيا جافيا ، فلم يقدّر ذلك وغلب عليه جفاء البادية فأداه ذلك إلى النكبة بعد عشرين ليلة من زفافه!!

ذكر سجن الأمير غدا

ولما كان بعد عشرين يوما من زفافه اتفق أنه وصل إلى دار السلطان فأراد الدخول فمنعه أمير البرد داريّه (٧٠) ، وهم الخواص من البوابين ، فلم يسمع منه وأراد التقحّم فامسك البواب بدبّوقته ، وهي الضّفيرة ، ورده ، فضربه الأمير بعصى كانت هنالك حتى أدماه!

وكان هذا المضروب من كبار الأمراء يعرف أبوه بقاضي غزنة ، وهو من ذرية السلطان محمود بن سبكتكين ، والسلطان يخاطبه بالأب ويخاطب ابنه هذا بالأخ ، فدخل على السلطان والدم على ثيابه ، فأخبره بما صنع الأمير غذا ففكر السلطان هنيهة ، ثم قال له : القاضي يفصل بينكما ، وتلك جريمة لا يغفرها السلطان لأحد من ناسه ، ولا بد من الموت عليها ، وإنما احتملته لغربته!!

وكان القاضي كمال الدين بالمشور ، فأمر السلطان الملك تترأن (٧١) يقف معهما عند القاضي ، وكان تتر حاجّا مجاورا يحسن العربية ، فحضر معهما ، وقال للأمير : أنت ضربته أو قل لا! قصد أن يعلّمه الحجّة ، وكان سيف الدين جاهلا مغترا ، فقال : نعم أنا ضربته ، وأتى والد المضروب فرام الإصلاح بينهما ، فلم يقبل سيف الدين ، فأمر القاضي

__________________

(٦٩) حول مالوة ٥٤٢ ,iii ـ حول كنباية ٤٤٢ iii ـ ٧٧١ ,ii ٧٦٣ ـ ٤٦٣ ,i ـ نهروالة ٦٤٢ ,iii ...

(٧٠) يبدو أن العبارة فارسية الأصل باردا دارparda ـ dar وتعني حارس الأبواب الداخلية ، بيد أن هذا التفسير لا يتناسب مع الحال هنا ، فإن عبارة (خواص) تعني ـ كما نعرف ـ صنفا خاصا من الموظفين الكبار. ويمكن أن يكون هناك خلط وقع في رسم الكلمة أو التباس في التعبير مع لفظ آخر مقارب وهو بارداد (bardad) بالدال عوض الراء يعني الضابط المسموح له وحده بأن يكون صلة الوصل لدى السلطان.

(٧١) الملك تترخان هو اسم آخر لبهرام خان الذي سمّي خطأ ابراهيم يراجع iii ص ٢٣٠ ثم ٣١٧.

١٨٠