رحلة ابن بطوطة - ج ٣

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ٣

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-009-5
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٢٥٥

يريد الانفراد بملك الهند ، وأنه قد عصى وخالف ، وبلغ هذا الخبر إلى قطب الدين فبادر بنفسه وقدم على غزنة ليلا ودخل على السلطان ولا علم عند الذين وشوا به إليه فلما كان بالغد قعد السلطان على سريره ، واقعد أيبك تحت السرير بحيث لا يظهر ، وجاء النّدماء والخواص الذين سعوا به فلما استقرّ بهم الجلوس ، وسألهم السلطان عن شأن أيبك ، فذكروا له : أنه عصى وخالف وقالوا : قد صحّ عندنا أنه ادّعى الملك لنفسه ، فضرب السلطان سريره برجله وصفق بيديه ، وقال : يا أيبك! قال : لبّيك ، وخرج عليهم وسقط في أيديهم ، وفزعوا إلى تقبيلالأرض ، فقال لهم السلطان : قد غفرت لكم هذه الزّلّة وإياكم والعودة إلى الكلام في أيبك (٧) ، وأمره أن يعود إلى بلاد الهند فعاد إليها وفتح مدينة دهلي وسواها ، واستقرّ بها الإسلام إلى هذا العهد وأقام قطب الدين بها إلى أن توفّى.

ذكر السلطان شمس الدين للمش (٨)

وضبط اسمه بفتح اللام الأولى وسكون الثانية وكسر الميم وشين معجم ، وهو أول من ولي الملك بمدينة دهلي مستقلا به ، وكان قبل تملّكه مملوكا للأمير قطب الدين أيبك وصاحب عسكره ونائبا عنه فلما مات قطب الدين أيبك استبد بالملك ، وأخذ الناس بالبيعة فأتاه الفقهاء يقدمهم قاضي القضاة إذ ذاك وجيه الدين الكاساني ، فدخلوا عليه وقعدوا بين يديه ، وقعد القاضي إلى جانبه على العادة وفهم السلطان عنهم ما أرادوا أن يكلّموه به فرفع طرف البساط الذي هو قاعد عليه وأخرج لهم عقدا يتضمن عتقه ، فقرأه القاضي والفقهاء وبايعوه جميعا واستقل بالملك ، وكانت مدّته عشرين (٩) سنة ، وكان عادلا صالحا فاضلا.

ومن مآثره أنه اشتد في رد المظالم وإنصاف المظلومين وأمر أن يلبس كلّ مظلوم ثوبا مصبوغا ، وأهل الهند جميعا يلبسون البياض ، فكان متى قعد للناس أو ركب فرأى أحدا عليه ثوب مصبوغ نظر في قضيته وإنصافه ممن ظلمه ، ثم إنه أعيا في ذلك ، فقال : إنّ بعض الناس تجري عليهم المظالم باللّيل وأريد تعجيل إنصافهم ، فجعل على باب قصره أسدين

__________________

(٧) هذه الأسطورة استأثر بها ابن بطوطة نقلا عما سمعه من العامة ولكن أيبك ، بعد غارة ناجحة في الكجرات عام ٥٩١ ـ ١١٩٥ استدعى من لدن السلطان غياث الدين محمد لياتي إلى غزنة حيث أقام هناك نحو العام ... وقد تمت هذه الزيارة قبل فتح دهلي.

(٨) الرسم الحقيقي لهذا الاسم ربّما يكون هكذا إيليتميش (ilitmish). عند وفاة أيبك بلاهور عام ٦٠٧ ـ ١٢١٠ إثر سقوطه من فرسه ، قامت حاشيته بتسمية ولده أرام شاه كسلطان على البلاد ، في الوقت الذي كانت فيه أوساط دهلي تنتخب شمس الدين إيليتميش (ilitmish) المملوك السابق لأيبك ـ وقد انهزم أرام شاه سنة ٦٠٨ ـ ١٢١١ فاختفى من السّاحة ...

(٩) كان ذلك من سنة ٦٦٨ ـ ١٢١١ إلى ٢٩ أبريل ١٢٣٦ ـ ٢٠ شعبان ٦٣٣.

١٢١

مصورين من الرخام موضوعين على برجين هنالك ، وفي أعناقهما سلسلتان من الحديد فيهما جرس كبير ، فكان المظلوم يأتي ليلا فيحرّك الجرس فيسمعه السلطان وينظر في أمره للحين وينصفه (١٠)!

ولما توفي السلطان شمس الدين خلّف من الأولاد الذّكور ثلاثة وهم : ركن الدين الوالي بعده ، ومعزّ الدين ، وناصر الدين وبنتا تسمى رضية هي شقيقة معز الدين منهم فتولى بعده ركن الدين كما ذكرناه (١١).

ذكر السلطان ركن الدين بن السلطان شمس الدين.

ولما بويع ركن الدين بعد موت أبيه افتتح أمره بالتعدّي على أخيه معزّ الدين فقتله (١٢) وكانت رضية شقيقته ، فأنكرت ذلك عليه فأراد قتلها فلما كان في بعض أيام الجمع ، فخرج ركن الدين إلى الصلاة (١٣) ، فصعدت رضية على سطح القصر القديم المجاور للجامع الأعظم ، وهو يسمى دولة خانة ولبست عليها ثياب المظلومين ، وتعرضت للناس وكلّمتهم من أعلى السطح وقالت لهم : إن أخي قتل أخاه ، وهو يريد قتلي معه ، وذكرتهم أيام أبيها وفعله الخير وإحسانه إليهم ، فثاروا عند ذلك إلى السلطان ركن الدين وهو في المسجد ، فقبضوا عليه وأتوا به إليها ، فقالت لهم : القاتل يقتل ، فقتلوه قصاصا بأخيه وكان أخوهما ناصر الدين صغيرا فاتّفق الناس على تولية رضية.

ذكر السلطانة رضية

ولما قتل ركن الدّين اجتمعت العساكر على تولية أخته رضية فولّوها الملك واستقلت فيه أربع سنين ، وكانت تركب بالقوس والترگش والقربان (١٤) كما يركب الرجال ولا تستر وجهها ،

__________________

(١٠) هذه التقاليد نسبت لعدد من الملوك ... الادريسي : النّزهة ق ١ ص ٩٨.

(١١) كان السلطان ايليتميش عيّن كخلف له على كرسي الملك ابنته رضية ، بيد أنّ الأمراء لم يستطيعوا أن يهضموا فكرة تولي امرأة على الحكم بالمملكة ، وفضلوا على رضية ابنه ركن الدين الدين فيروز الذي حكم إلى يوم ٨ ربيع الأول ٦٣٤ ـ ٩ نونبر من نفس السنة ١٢٣٦.

(١٢) لم يكن لركن الدين الوقت الكافي حتى يجهز على أخيه معز الدين! معز الدين خلفته في الحكم أخته رضية عام ٦٣٧ ـ ١٢٤٠ كما سنرى.

(١٣) كان ركن الدين خرج من دهلي ليواجه بعض الحكام الثائرين عليه عند ما شاع في البلاد عن أخبار تتحدث عن اغتيال وشيك لرضية من طرف الملكة الأم ، لقد قام سكان المدينة ضده وأجلسوا رضية على العرش ، وهكذا تخلّى الناس عن ركن الدين فالقى عليه القبض وقتل.

(١٤) دولة خانة : مقر الحكومة ـ التركش : كنانة السهام ـ القربان : الجلساء.

١٢٢

ثم إنها اتّهمت بعبد لها من الحبشة (١٥) ، فاتفق الناس على خلعها وتزويجها ، فخلعت وزوجت من بعض أقاربها وولى الملك أخوها ناصر الدين (١٦).

ذكر السلطان ناصر الدين بن السلطان شمس الدّين.

ولما خلعت رضية ولّي ناصر الدين أخوها الأصغر ، واستقلّ بالملك مدة ، ثم إن رضية وزوجها خالفا عليه (١٧) ، وركبا في مماليكهما ومن تبعهما من أهل الفساد وتهيأ لقتاله ، وخرج ناصر الدين ومعه مملوكه النائب عنه غياث الدين بلبن متولّى الملك بعده فوقع اللقاء وانهزم عسكر رضية وفرت بنفسها فأدركها الجوع وأجهدها الإعياء ، فقصدت حرّاثا رأته يحرث الأرض، فطلبت منه ما تأكله فأعطاها كسرة خبز فأكلتها وغلب عليها النوم ، وكانت في زي الرّجال ، فلما نامت نظر إليها الحراث وهي نائمة فرأى تحت ثيابها قباء مرصّعا ، فعلم أنها امرأة فقتلها ، وسلبها وطرد فرسها ودفنها في فدّانه ، وأخذ بعض ثيابها فذهب إلى السوق يبيعها ، فأنكر أهل السوق شأنه وأتوا به الشّحنة (١٨) ، وهو الحاكم ، فضربه ، فأقرّ بقتلها ، ودلّهم على مدفنها فاستخرجوها وغسلوها وكفّنوها ، ودفنت هنالك ، وبنيّ عليها قبّة ، وقبرها الآن يزار ويتبرك به وهو على شاطئ النهر الكبير المعروف بنهر الجون (١٩) على مسافة فرسخ واحد من المدينة.

واستقل ناصر الدّين بالملك بعدها واستقام له الأمر عشرين سنة وكان ملكا صالحا ،

__________________

(١٥) الوضع السياسي في دهلي تحكّم فيه ، عند تلك الفترة ، مجلس «الأربعين» عائلة التي تنتمي للأمراء الأتراك الذين كانوا يعارضون منذ البداية إمارة رضية ، فلأجل أن تحتفظ رضية بالتوازن الذي يضمن لها البقاء شجعت دخول مقدم الاصطبلات الافريقي الحبشي جلال الدين ياقوت للميدان السياسي ، الأمر الذي احدث هو الآخر شرخا جديدا أدى إلى خلع الامبراطورة رضية.

(١٦) ينبغي أن نقرأ عوض ناصر الدين معزّ الدين بهرام (٦٣٧ ـ ٦٤٠ ـ ١٢٤٠ ـ ١٢٤٢). سيخلف أحد أبناء ركن الدين ، علاء الدين مسعود (٦٤٠ ـ ٦٦٤ ـ ١٢٤٢ ـ ١٢٦٦) أما ناصر الدين محمود فإنه سوف لا يأتي إلا بعد تاريخ ٦٤٤ ـ ٦٦٤ ـ ١٢٤٦ ـ ١٢٦٦.

(١٧) الثورة ضد رضية أشعلت من طرف حاكم يسمى اختيار الدين التّونيا الذي أصبح فيما بعد المكلف بحراسة السلطانة السابقة بسجنها ، وبعد ذلك وجدنا ان اختيار الدين ـ وقد وجد نفسه مبعدا عن السلطة الجديدة التي قامت في دهلي ـ يقدم على تحرير الملكة من السجن ، ويتزوجها ليحصل على الشرعية وهكذا أخذ طريقه نحو دهلي. لكن جيشه انهزم يوم ٢٣ ربيع الأول ٦٣٨ ـ ١٣ أكتوبر ١٢٤٠ وقد اغتيلت رضية في اليوم الموالي ...

(١٨) الشّحنة تعني على العموم الحاكم العسكري للمدينة ، حيث يكون هو أيضا على رأس الشرطة.

(١٩) نهر الجون هو (la yamouna) وقد وصف هذا القبر وموقعه كذلك من مهدي حسين في كتابه عن محمد بن تغلق ـ لندن ١٩٣٨ ص ٣٥ ت تعليق ٤.

١٢٣

ينسخ نسخا من الكتاب العزيز ، ويبيعها فيقتات بثمنها (٢٠)! وقد وقفني القاضي كمال الدين على مصحف بخطه متقن محكم الكتابة ، ثم إن نائبه غياث الدين بلبن قتله وملك بعده (٢١) ، ولبلبن هذا خبر ظريف نذكره.

ذكر السلطان غياث الدين بلبن

وضبط اسمه بباءين موحدتين بينهما لام والجميع مفتوحات وآخره نون ، ولما قتل بلبن مولاه السلطان ناصر الدين استقل بالملك بعده عشرين سنة ، وقد كان قبلها نائبا له عشرين سنة أخرى ، وكان من خيار السلاطين عادلا حليما (٢٢) فاضلا ومن مكارمه أنه بنى دارا وسمّاها دار الآمن. فمن دخلها من أهل الديون قضي دينه ، ومن دخلها خائفا أمن ومن دخلها وقد قتل أحدا أرضى عنه أولياء المقتول ، ومن دخلها من ذوي الجنايات أرضى أيضا من يطلبه ، وبتلك الدار دفن لما مات وقد زرت قبره (٢٣).

حكايته الغريبة :

يذكر أن أحد الفقراء ببخارى رأى بها بلبن هذا وكان قصيرا حقيرا ذميما ، فقال له : يا تركك! وهي لفظة تعرب عن الاحتقار ، فقال له لبّيك يا خوند! فأعجبه كلامه ، فقال له : أشتر لي من هذا الرّمان ، وأشار إلى رمان يباع بالسوق ، فقال له : نعم ، وأخرج فليسات لم يكن عنده سواها ، واشترى له من ذلك الرمان ، فلما أخذها الفقير ، قال له : وهبناك ملك الهند ، فقبّل بلبن يد نفسه وقال : قبلت ورضيت! واستقرّ ذلك في ضميره.

واتّفق أن بعث السلطان شمس الدين للمش تاجرا يشتري له المماليك بسمرقند

__________________

(٢٠) كان ناصر الدين ملكا عاقلا نبيلا علاوة على خطه الجميل الامر الذي كان وراء الأساطير والحكايات التي تروى عنه والتي نجد لها أصداء في مختلف المصادر ... وعن الملوك الذين نسخوا القرآن بخطوطهم لا ننسى ذكر ملوك دولة بني مرين وخاصة السلطان أبا الحسن وابنه السلطان أبا عنان ... د. التازي التاريخ الدبلوماسي للمغرب ، ج ٧ ص ٢١٧ ـ ٢١٨ ... مطبعة فضالة ١٩٨٨.

(٢١) غياث الدين بلبن (balaban) ، اشتراه عام ٦٣٠ ـ ١٢٣٣ إيلتميش ، تم أصبح حاجبا لناصر الدين منذ ابتداء حكمه عام ٦٤٤ ـ ١٢٤٦ وأمسى السيد الحقيقي للمملكة ، إلا أن ناصر الدين مات على ما يظهر موتا طبيعيا يوم ١٠ جمادى الأولى ٦٦٥ ـ ١٨ يبراير ١٢٦٦ فخلفه بلبن وحكم إلى أن توفاه الله عام ٦٨٥ ـ ١٢٨٧.

(٢٢) فيما يتصل بحلم بلبن لا يظهر أنه نعت مؤكد في المصادر الأخرى سيما وقد تناقلت الأخبار عن الطريقة التي قمع بها ثورة البنغال (bengal) عام ٦٧٩ ـ ١٢٨٠.

(٢٣) يوجد ضريح بلبن إلى الآن جنوب شرق المدينة القديمة على مقربة من جامع جمالي ، وبجانبه قبر ابنه شهيد خان آتي الذكر.٤٧١ ,iii

١٢٤

وبخارى وترمذ ، فاشترى مائة مملوك كان من جملتهم بلبن ، فلما دخل بالمماليك على السلطان أعجبه جميعهم إلا بلبن لما ذكرناه من ذمامته ، فقال : لا أقبل هذا ، فقال له بلبن : يا خوند عالم ، لمن اشتريت هؤلاء المماليك؟ فضحك منه ، وقال : اشتريتهم لنفسي ، فقال له : اشترني أنا لله عزوجل! فقال : نعم وقبله وجعله في جملة المماليك فاحتقر شأنه وجعل في السقّائين ، وكان أهل المعرفة بعلم النجوم يقولون للسلطان شمس الدين : إن أحد مماليكك يأخذ الملك من يد ابنك ، ويستولي عليه. ولا يزالون يلقون له ذلك ، وهو لا يلتفت إلى أقوالهم لصلاحه وعدله إلى أن ذكروا ذلك للخاتون الكبرى أمّ أولاده ، فذكرت له ذلك ، وأثّر في نفسه ، وبعث عن المنجّمين ، فقال : أتعرفون المملوك الذي يأخذ ملك ابني إذا رأيتموه؟ فقالوا له نعم ، عندنا علامة نعرفه بها ، فأمر السلطان بعرض مماليكه وجلس لذلك ، فعرضوا بين يديه طبقة طبقة والمنجّمون ينظرون إليهم ، ويقولون : لم نره بعد ، وحان وقت الزوال فقال السقّاءون بعضهم لبعض : إنا قد جعنا فلنجمع شيئا من الدراهم ونبعث أحدنا إلى السوق ليشتري لنا ما نأكله ، فجمعوا الدراهم وبعثوا بها بلبن إذ لم يكن فيهم أحقر منه ، فلم يجد بالسوق ما أرادوه ، فتوجه إلى سوق أخرى وأبطأ ، وجاءت نوبة السقّائين في العرض ، وهو لم يأت بعد ، فأخذوا زقّه وماعونه وجعلوهما على كاهل صبيّ وعرضوه على أنه بلبن ، فلما نودي باسمه جاز الصبي بين أيديهم ، وانقضى العرض ولم ير المنجمون الصّورة التي طلبوبها ، وجاء بلبن بعد تمام العرض لما أراد الله من إنفاذ قضائه (٢٤) ، ثم إنه ظهرت نجابته فجعل أمين السقائين ثم صار من جملة الأجناد ثم من الأمراء.

ثم تزوج السلطان ناصر الدين بنته قبل أن يلي الملك ، فلما ولي الملك جعله نائبا عنه مدة عشرين سنة ثم قتله بلبن واستولى على ملكه عشرين سنة أخرى كما تقدم ذكر ذلك!

وكان للسلطان بلبن ولدان : أحدهما الخان الشهيد ولي عهده ، وكان واليا لأبيه ببلاد السند ساكنا بمدينة ملتان وقتل في حرب له مع التتر (٢٥) وترك ولدين كى قباد ، وكى خسرو (٢٦)، وولد السلطان بلبن الثاني يسمى ناصر الدين وكان واليا لأبيه ببلاد اللكنوتي (٢٧)

__________________

(٢٤) بالنظر لما ورد في المصادر التاريخية لهذا المرحلة فإن هذه الجملة ـ على ما يظهر ـ هي المعلومة الهامة في هذه القصة. بلبن كان فعلا قد اشترى في بغداد ، وأصبح الغلام المفضل وكأنه أحد أفراد عائلة السلطان.

(٢٥) هذا الولد الأول الذي يحمل اسم محمود والذي وصف على أنه نصير للعلماء والأدباء قتل أثناء غارة مغولية يوم ٢٨ ذي الحجة ٦٨٣ ـ ٧ مارس ١٢٨٥. قبره يوجد إلى جانب قبر والده على ما أشرنا له تعليق ٢٣.

(٢٦) كي خسرو (kay khusru) الوحيد الذي كان ولدا لمحمد. معز الدين كي قباد (kay qubad) كان ولدا لناصر الدين الولد الثاني لبلبن وقد خلفه هذا الأخير.

(٢٧) بلاد اللّكنوتي (laknawti) عاصمة البنغال على ذلك العهد ، تتطابق مع الموقع الخرب : غور (gaur) في منطقة راجشاهي (rajshahi) تقع على الحدود الغربية للهند مع البانغلاديش أنظر الخريطة. ناصر الدين سمي حاكما من طرف والده بعد قمع ثورة البنغال عام ٦٧٩ ـ ١٢٨٠.

١٢٥

وبنجالة ، فلما استشهد الخان الشهيد جعل السلطان بلبن العهد إلى ولده كي خسرو وعدل به عن ابن نفسه ناصر الدين ، وكان لناصر الدين أيضا ولد ساكن بحضرة دهلي مع جده غياث الدين يسمّى معز الدين وهو الذي تولّى الملك بعد جده في خبر عجيب نذكره ، وأبوه إذ ذاك حيّ كما ذكرناه.

ذكر السلطان معز الدين بن ناصر الدين بن السلطان غياث الدين بلبن :

ولما توفي السلطان غياث الدين ليلا ، وابنه ناصر الدين غائب ببلاد اللكنوتي ، وجعل العهد لابن ابنه الشهيد كي خسرو حسبما قصصناه كان ملك الأمراء نائب السلطان غياث الدين (٢٨) عدوّا لكي خسرو فأدار عليه حيلة تمت له ، وهي أنه كتب بيعة دلّس فيها على خطوط الأمراء الكبار بأنهم بايعوا معز الدين حفيد السلطان بلبن ودخل على كي خسرو كالمتنصّح له فقال له : إن الأمراء قد بايعوا ابن عمك وأخاف عليك منهم فقال له : كي خسرو : فما الحيلة؟ قال أنج بنفسك هاربا إلى بلاد السند ، فقال : وكيف الخروج والأبواب مسدودة؟ فقال له : إن المفاتيح بيدي وأنا أفتح لك ، فشكره على ذلك وقبّل يده ، فقال له: اركب الآن ، فركب في خاصته ومماليكه وفتح له الباب وأخرجه ، وسدّ في أثره ، واستأذن (٢٩) على معز الدين فبايعه ، فقال : كيف لي بذلك وولاية العهد لابن عمّي؟ فأعلمه بما أدار عليه من الحيلة وبإخراجه فشكره على ذلك ، ومضى به إلى دار الملك وبعث عن الأمراء والخواص فبايعوه ليلا ، فلما أصبح بايعه سائر الناس ، واستقام له الملك.

وكان أبوه حيا ببلاد بنجالة واللّكنوتي ، فاتصل به الخبر ، فقال : أنا وارث الملك ، وكيف يلي ابني الملك ويستقلّ به وأنا بقيد الحياة؟ فتجهز في جيوشه قاصدا حضرة دهلي وتجهز ولده في جيوشه أيضا قاصدا لمدافعته عنها فتوافيا معا بمدينة كرا (٣٠) ، وهي على ساحل نهر الكنك الذي تحج الهنود إليه ، فنزل ناصر الدين على شاطئه مما يلي كرا ونزل ولده السلطان معزّ الدين مما يلي الجهة الأخرى والنّهر بينهما وعزما على القتال ، ثم إن الله تعالى أراد حقن دماء المسلمين فالقى في قلب ناصر الدين الرحمة لابنه ، وقال : إذا ملك ولدي فذلك شرف لي وأنا أحقّ أن أرغب في ذلك ، وألقى في قلب السلطان معز الدين الضّراعة لأبيه

__________________

(٢٨) يتعلق الأمر بفخر الدين كتوال (kotual) (رئيس الشرطة) في دهلي.

(٢٩) كي خسرو كان قد غادر دهلي ليعوّض والده ، وعند وفاة بلبن وجد نفسه في ملتان عاصمة بلاد السند.

(٣٠) ناصر الدين لا يظهر أنه تعرّض لامتحانات المملكة ، بيد أنه أمام الفتن التي شنت في دهلي بعد تنصيب معز الدين كيقباد اعتقد أن من واجبه أن يتدخل ، وكان اللقاء أوائل صفر ٦٨٧ ـ أواسط شهر مارس ١٢٨٨ على سواحل وادي (كاغرا) من روافد نهر الكانج في منطقة (الله أباد) ببنغلادش.

١٢٦

فركب كل واحد منهما في مركب منفردا عن جيوشه والتقيا في وسط النهر فقبّل السّلطان رجل أبيه ، واعتذر له فقال له أبوه : قد وهبتك ملكي ووليتك ، وبايعه وأراد الرجوع لبلاده ، فقال له ابنه : لا بدّ لك من الوصول إلى بلادي فمضى معه إلى دهلي (٣١) ، ودخل القصر وأقعده أبوه على سرير الملك ، ووقف بين يديه وسمّي ذلك اللّقاء الذي كان بينهما بالنّهر لقاء السعدين ، لما كان فيه من حقن الدماء وتواهب الملك والتجافي عن المنازعة ، وأكثرت الشعراء في ذلك ، وعاد ناصر الدين إلى بلاده. فمات بها بعد سنين وترك بها ذرية منهم غياث الدين بها دور (٣٢) الذي أسره السلطان تغلق ، وأطلقه ابنه محمد بعد وفاته ، واستقام الملك لمعز الدين أربعة أعوام بعد ذلك كانت كالأعياد (٣٣). رأيت بعض من أدركها يصف خيراتها ورخص أسعارها وجود معز الدين وكرمه ، وهو الذي بنى الصّومعة بالصحن الشمالي من جامع دهلي ، ولا نظير لها في البلاد.

وحكى لي بعض أهل الهند أن معز الدين كان يكثر النكاح والشرب فاعترته علّة أعجز الأطباء دواؤها ويبس أحد شقّيه ، فقام عليه نائبه جلال الدين فيروز شاه الخلجي (٣٤) ، بفتح الخاء المعجم واللام والجيم.

ذكر السلطان جلال الدين

ولما اعترى السلطان معز الدين ما ذكرناه من يبس أحد شقّيه ، خالف عليه نائبه جلال الدين ما ذكرناه من يبس أحد شيّه خالف عليه نائبه جلال الدين وخرج إلى ظاهر المدينة فوقف على تلّ هنالك بجانب قبّة تعرف بقبة الجيشاني ، فبعث معز الدين الأمراء لقتاله ، فكان كل من يبعثه منهم يبايع جلال الدين ، ويدخل في جملته ، ثم دخل المدينة وحصره في القصر ثلاثة أيام.

وحدّثني من شاهد ذلك أن السلطان معز الدين أصابه الجوع في تلك الأيام ، فلم يجد ما يأكله ، فبعث إليه أحد الشرفاء من جيرانه ما أقام أوده ، ودخل عليه قصر فقتل ، وولى بعده

__________________

(٣١) قصة تذكر في عدد من نظائرها مع الفارق ، مثلا أبو الحسن المريني مع ابنه أبي عنان عندما رضي الوالد عن ولده وكتب له بولاية عهده ـ الزركشي : تاريخ الدولتين ـ ص : ٩٠.

(٣٢) تملك تحت اسم ناصر تحت اسم شاه بوغره ، وكان مستقلا إلى غاية ٦٩٠ ـ ١٢٩١ وقد خلّفه أولاده.

غياث الدين بها دور الذي سنقرأ تاريخه فيما بعد ، iii ٢١٠ ـ ٢١٦ الخ.

(٣٣) يتحدث المؤرخون عن الانغماس في الملذّات والإسراف في الانفاق ...

(٣٤) جلال الدين فيروز ينتسب لقبيلة الخلج ، من أصل تركي ، بيد أنه أقام كثيرا بأفغانستان في غزنة بالذات فأمسى ـ نتيجة لذلك ـ يشعر بأنه أفغاني ، ولهذا فإن وصول جلال الدين للحكم لم ينظر اليه كشيء جميل لا من جانب الأرستقراطية التركية ولا من جانب سكان دهلي.

١٢٧

١٢٨

جلال الدين وكان حليما فاضلا ، وحلمه أدّاه إلى القتل ، كما سنذكره ، واستقام له الملك سنين (٣٥) ، وبني القصر المعروف باسمه (٣٦) ، وهو الّذي أعطاه السلطان محمد لصهره الأمير غدا بن مهنّى لما زوّجه بأخته ، وسيذكر ذلك ، فكان للسلطان جلال الدين ولد اسمه ركن الدين ، وابن أخ اسمه علاء الدين زوّجه بابنته ، وولّاه مدينة كرا ومانكبور ونواحيها (٣٧) ، وهي من أخصب بلاد الهند ، كثيرة القمح والأرز والسكّر ، وتصنع بها الثياب الرفيعة ، ومنها تجلب إلى دهلي وبينهما مسيرة ثمانية عشر يوما.

وكانت زوجة علاء الدين تؤذيه فلا يزال يشكوها إلى عمه السلطان جلال الدين حتى وقعت الوحشة بينهما بسببها ، وكان علاء الدين شهما شجاعا مظفرا منصورا ، وحبّ الملك ثابت في نفسه إلّا أنّه لم يكن له مال إلّا ما يستفيده بسيفه من غنائم الكفّار ، فاتفق أنّه ذهب مرّة إلى الغزو ببلاد الدّويقير (٣٨) ، وتسمى بلاد الكتكة أيضا ، وسنذكرها ، وهي كرسيّ بلاد المالوة والمرهتة (٣٩) ، وكان سلطانها أكبر سلاطين الكفار فعثرت بعلاء الدين في تلك الغزوة دابّة له عند حجر ، فسمع له طنينا ، فأمر بالحفر هنالك فوجد تحته كنزا عظيما (٤٠) ،

__________________

(٣٥) يعني من ٦٨٩ إلى ٦٩٥ (١٢٩٠ ـ ١٢٩٦) هذا ولم يفت بعض المعلقين التأكيد على أن لفظ (القبة) من الكلمات التي دخلت اللغات الأوربية (alcove) ... كوبا ...؟

(٣٦) سيتم التعريف بهذا القصر فيما بعد ج iii ص ٢٧١ على أنه القصر الأحمر (كوشك لعل)(kushki ـ la\'l) الذي يقع في المدينة العتيقة لدهلي ، وعليه فإن هذا القصر بني من قبل بلبن. أما القصر المبني من لدن جلال الدين فيروز فإنه يسمى القصر الأخضر وهو يكوّن امتدادا للذي شيد من قبل معز الدين كيقباد في كيلوخري (kilokhri) على بعد نحو ١٠ ك. م شمال شرق المدينة القديمة على ساحل نهر يامونا (yamuna).

(٣٧) يوجد في أغلب الأحيان اسم هذين المدينتين الموجودتين في الشمال الغربي لمدينة الله أباد (al ـ lahabad) على نهر الكانج ، هذا الاسم يعني اقطاعية كرا ـ منكبّور ـ عند تنصيب جلال الدين فيروز كان المستلم لهذه الاقطاعية تشاتجو (tchadju) خان ابن أخي بلبن الذي احتفظ بها إلى ثورته في السنة اللاحقة ، عندئذ أخذت منه وأعطيت لعلاء الدين ابن أخي جلال الدين وخلفه في المستقبل ...

(٣٨) الدّويقير (deoghir) تغير هذا الاسم إلى (دولة أباد) من لدن محمد بن تغلق ، تقع في الشمال الغربي في أرنجاباد (aurungubad) الحالية في دكّان (deccan). وقد وقفت على معالم أورانگاباد (أبريل ١٩٧٥) كتكه (catacah) : (باللغة السنسكرية : المعسكر الملكي) قدم كإسم لجزء من أورانجاباد ...

(٣٩) المرهتة (maharashtra) أوبلاد مهرات ـ منطقة مالوة (malua) تقع في الشمال أكثر شرقي كوجرات.

(٤٠) علاء الدين قام بحملة جريئة في ديوغير (deoghir) في سرّيّة وبجيوشه الخاصة. العاهل الهندي راما شاندرا (ramachandra) حاول بمفرده وبمساعدة جيوش ولده أن يقاوم الزحف لكنه استسلم ـ إذا كان الحديث عن الكنز المدفون يثير بعض الأساطير ، فإن الغنائم التي حصل عليه جيش علاء الدين كانت عظيمة ، وقد مكنت علاء الدين من أن يصل إلى العرش ...

١٢٩

ففرّقه في أصحابه ووصل إلى الدّويقير فأذعن له سلطانها بالطاعة ومكّنه من المدينة من غير حرب ، وأهدى له هدايا عظيمة فرجع إلى مدينة كرا ، ولم يبعث إلى عمّه شيئا من الغنائم فأغرى النّاس عمّه به ، فبعث عنه فامتنع من الوصول اليه ، فقال السلطان جلال الدين : أنا أذهب إليه واتي به فإنه محلّ ولدي ، فتجهّز في عساكره وطوى المراحل حتى حلّ بساحل مدينة كرا حيث نزل السلطان معز الدين لما خرج إلى لقاء أبيه ناصر الدين ، وركب النهر برسم الوصول إلى ابن أخيه وركب ابن أخيه أيضا في مركب ثان عازما على الفتك به وقال لأصحابه: إذا أنا عانقته فاقتلوه ، فلما التقيا وسط النهر عانقه ابن أخيه ، وقتله أصحابه كما وعدهم واحتوى على ملكه وعساكره (٤١).

ذكر السلطان علاء الدين محمد شاه الخلجي.

ولما قتل عمّه استقلّ بالملك وفرّ إليه أكثر عساكر عمه وعاد بعضهم إلى دهلي واجتمعوا على ركن الدين (٤٢) وخرج إلى دفاعه فهربوا جميعا إلى السلطان علاء الدين وفرّ ركن الدين إلى السند ودخل علاء الدين دار الملك واستقام له الأمر عشرين سنة ، وكان من خيار السلاطين ، وأهل الهند يثنون عليه كثيرا ، وكان يتفقّد أمور الرعيّة بنفسه ويسئل عن أسعارهم ، ويحضر المحتسب (٤٣) ، وهم يسمونه الرئيس في كلّ يوم برسم ذلك ، ويذكر أنه سأله يوما عن سبب غلاء اللّحم ، فأخبره أن ذلك لكثرة المغرم على البقر في الرّتب ، فأمر برفع ذلك وأمر باحضار التّجار وأعطاهم الأموال ، وقال لهم : اشتروا بها البقر والغنم وبيعوها ويرتفع ثمنها لبيت المال ، ويكون لكم أجرة على بيعها ، ففعلوا ذلك ، وفعل مثل هذا في الأثواب التي يوتي بها من دولة أباد.

وكان إذا غلا ثمن الزّرع فتح المخازن وباع الزّرع حتّى يرخص السعر ، ويذكر أنّ السعر ارتفع ذات مرة فأمر ببيع الزرع بثمن عيّنه فامتنع الناس من بيعه بذلك الثمن فأمر أن

__________________

(٤١) مرويات ابن بطوطة تتفق تماما مع المصادر الأخرى ، واغتيال جلال الدين فيروز تمت يوم ١٧ شعبان ٧٢٦ ـ ١٩ يوليه ١٣٢٦ بواسطة الأسلوب المذكور : قبلة الخيانة (le baiser de judas)

(٤٢) إن الوارث المعين لجلال الدين كان هو ولده أرحلى خان (arhali khan) الذي كان يوجد في ملتان كحاكم هناك ، أثناء هذه الأحداث. وعندئذ نادت أرملة جلال الدين بابنها الثاني قادر خان كسلطان على البلاد تحت اسم ركن الدين إبراهيم. هذا الأخير هرب عند اقتراب علاء الدين الذي دخل إلى دهلي يوم ٢٤ ذي القعدة ٧٢٦ ـ ٢٢ أكتوبر ١٣٢٦.

(٤٣) المحتسب وظيفة حضارية ما تزال حية بالمغرب الأقصى ، تعني المشرف على ضبط الأسعار في السوق على نحو ما تعني مراقبة البضائع وضبط سلوك الناس ... وقد الّفت فيها عدة كتب ... واللفظ موجود في قاموس اللغة الإسبانية (motacen) ، و (almotacen) ـ يراجع ج i ٣٥٣ التعليق ١٩٤.

١٣٠

١٣١

لا يبيع أحد زرعا غير زرع المخزن ، وباع للناس ستّة أشهر فخاف المحتكرون فساد زرعهم بالسوس فرغبوا أن يؤذن لهم في البيع فأذن لهم على أن باعوه بأقلّ من القيمة الأولى التي امتنعوا من بيعه (٤٤) بها.

وكان لا يركب لجمعة ولا عيد ولا سواهما ، وسبب ذلك أنه كان له ابن أخ يسمّى سليمان شاه (٤٥) ، وكان يحبّه ويعظّمه ، فركب يوما إلى الصيد وهو معه وأضمر في نفسه أن يفعل به ما فعل هو بعمّه جلال الدين من الفتك ، فلما نزل للغداء رماه بنشّابة فصرعه وغطّاه بعض عبيده بترس وأتى ابن أخيه ليجهز عليه فقال له العبيد : إنه قد مات فصدّقهم ، وركب فدخل القصر على الحرم ، وأفاق السلطان علاء الدين من غشيته وركب واجتمعت العساكر عليه ، وفرّ ابن أخيه فأدرك وأوتي به إليه فقتله ، وكان بعد ذلك لا يركب.

وكان له من الأولاد خضر خان ، وشادي خان ، وأبو بكر خان ، ومبارك خان ، وهو قطب الدين الذي ولى الملك وشهاب الدين ، وكان قطب الدين مهتضما عنده ، ناقص الحظّ، قليل الحظوة. وأعطى جميع إخوته المراتب وهي الأعلام والأطبال ، ولم يعطه شيئا وقال له يوما: لا بدّ أن أعطيك مثل ما أعطيت إخوتك ، فقال له : الله هو الذي يعطيني! فهال أباه هذا الكلام ، وفزع منه.

ثم إنّ السلطان أصابه المرض الذي مات منه ، وكانت زوجته أم ولده خضر خان ، وتسمى ماه حق ، والماه القمر بلسانهم (٤٦) ، لها أخ يسمى سنجر ، فعاهدت أخاها على تمليك ولدها خضر خان (٤٧) ، وعلم بذلك ملك نائب أكبر أمراء السلطان وكان

__________________

(٤٤) بعد الحملات المتوالية للمغول في السنوات الأولى من القرن الثامن الهجري ـ الرابع عشر الميلادي أحس علاء الدين بالحاجة إلى جيش قوي تؤدّي له الأجرة أحسن أداء. لكنه عوض أن يزيد في الأجور اختار أن يخفض من ثمن المواد الغذائية التي كانت مرتفعة بسبب التضخم المالي الناتج عن كثرة الذّهب الوارد من الجنوب بسبب الغارات ولأجل هذا فإنه أنشأ احتكارا في الشراء بأثمان محدودة وسجّل سائر التجار ، وحدد لهم سعرا معينا للفائدة ، وكان على الفلاحين أيضا أن يجبروا على بيع منتوجاتهم للتجار بأثمان كذلك محدودة. بسبب هذا وفي إطار هذه السياسة أنشأت الحكومة كذلك مخازن كبرى للمواد الغذائية التي وجدها ابن بطوطة ، بعد ثلاثين سنة وتحدث عنها ...

(٤٥) ولد الأخ هذا يسمى أقط (akat) خان في المصادر الهندية.

(٤٦) ماه : بدون ألف كلمة فارسية تعني الشهر ومنه يأتي التعبير في البلاد التي كانت محكومة من قبل الأتراك عن الواجب الشهري : بماهية فلان يعني أجرته الشهرية.

(٤٧) اسم الملكة كان هو ماهرو (mahru) ، ولقبها هو ملكة جهان ، كانت أختا لملك سنجار الذي ، لأجل أنه قتل جلال الدين فيروز بيده ، أعطى لقب ألب خان وأصبح نتيجة لذلك من المرافقين الرئيسيين لعلاء الدين. ابنته تزوجت بتاريخ ٧١٢ ـ ١٣١٢ بخضر خان ، وأخذت العائلة تستعد حقيقة لكي يتبوأ العرش خضر خان هذا ...

١٣٢

يسمّى الألفي (٤٨) ، لأن السلطان اشتراه بألف تنكة ، وهي ألفان وخمسمائة من دنانير المغرب(٤٩) ، فوشى إلى السلطان بما اتّفقوا عليه ، فقال لخواصّه : إذا دخل عليّ سنجر فإنّي معطيه ثوبا ، فإذا لبسه فأمسكوا بأكمامه واضربوا به الأرض وأذبحوه ، فلما دخل عليه فعلوا ذلك وقتلوه!

وكان خضر خان غائبا بموضع يقال له سندبت (٥٠) على مسيرة يوم من دهلي ، توجّه لزيارة شهداء مدفونين به لنذر كان عليه أن يمشي تلك المسافة راجلا ويدعو لوالده بالراحة ، فلما بلغه أنّ أباه قتل خاله حزن عليه حزنا شديدا ومزّق جيبه ، وتلك عادة لأهل الهند يفعلونها إذا مات لهم من يعزّ عليهم ، فبلغ والده ما فعله ، فكره ذلك فلما دخل عليه عنّفه ولامه ، وأمر به فقيّدت يداه ورجلاه وسلّمه لملك نايب المذكور ، وأمره أن يذهب به إلى حصن كاليور (٥١) ، وضبطه بفتح الكاف المعقودة وكسر اللام وضم الياء آخر الحروف وآخر راء ، ويقال له أيضا كيالير بزيادة ياء ثانية ، وهو حصن منقطع بين كفّار الهنود منيع على مسيرة عشر من دهلى ، وقد سكنته أنا مدّة فلما أوصله إلى هذا الحصن سلّمه للكتوال وهو أمير الحصن ، وللمفردين (٥٢) وهم الزّماميّون (٥٣) وقال لهم : لا تقولوا : هذا ابن السلطان فتكرموه ، إنّما هو أعدى عدوّ له فاحفظوه كما يحفظ العدوّ! ثمّ إنّ المرض اشتدّ بالسلطان ، فقال لملك نايب ابعث من ياتي بابني خضر خان لأولّيه العهد ، فقال له : نعم وماطله بذلك ، فمتى سأله عنه ، قال هو ذا يصل إلى أن توفى السلطان ، رحمه‌الله.

ذكر ابنه السلطان شهاب الدين

ولما توفي السلطان علاء الدين أقعد ملك نايب ابنه الأصغر شهاب الدين على سرير

__________________

(٤٨) (ملك نائب) تعني في الاصطلاح الفارسي نائب ملك ، وهو هنا كافور أحد الهندوس ، اشترى عام ٦٧٦ ـ ١٢٧٧ عند الأحداث التي نهب فيها ميناء كامباي (cambay) في الكوجرات ، اشترى بمبلغ الف دينار وعرف منذ ذلك الوقت بهذا اللقب الفارسي هزار ديناري (mezardinari) ، وهو اللقب الذي ترجمه ابن بطوطة بالألفي. هذه الشخصية التي أصبحت قوية جدا في أواخر دولة علاء الدين هي التي دبرت مخطط نسف سائر العائلة الملكية مبتدئة بطغمة ألب خان ولكن بدون رضى علاء الدين.

(٤٩) تنكة (tanga) ذهبية تساوي ٠١٠. ٩ كرام ، والدينار بالمغرب يساوي ٧٢٢. ٤ كرام ويتعلق الأمر إذن بمبلغ أقلّ قليلا من ٢٠٠٠ دينار.

(٥٠) سندبت هي sonepat أوsonpat الحالية على بعد ٢٨ ميلا شمال دهلي.

(٥١) گاليور يقصد (gawalior) في جنوب أگرا التي ستصبح بعد ذلك سجنا للدولة ، وسيزورها ابن بطوطة على ما سنرى.

(٥٢) المفرد يظهر انه تعبير يعني هيأة خاصة دون تعريف بوظيفتها.

(٥٣) القصد إلى جنود مسجلين على اللائحة : زمام الجيش.

١٣٣

(٥٤) الملك ، وبايعه الناس وتغلب ملك نايب عليه ، وسمل أعين أبي بكر خان وشادي خان ، وبعث بهما إلى كاليور ، وأمر بسمل عيني أخيهما خضر خان المسجون هنالك ، وسجنوا وسجن قطب الدين لاكنّه لم يسمل عينيه ، وكان للسلطان علاء الدين مملوكان من خواصّه ، يسمّى أحدهما ببشير ، والآخر بمبشّر ، فبعثت عنهما الخاتون الكبرى زوجة علاء الدين ، وهي بنت السلطان معز الدين (٥٥) فذكرتهما بنعمة مولاهما وقالت : إنّ هذا الفتى نايب ملك قد فعل في أولادي ما تعلمانه ، وإنه يريد أن يقتل قطب الدين ، فقالا لها : سترين ما نفعل ، وكانت عادتهما أنّ يبيتا عند نايب ملك ، ويدخلا عليه بالسلاح ، فدخلا عليه تلك الليلة ، وهو في بيت من الخشب مكسوّ بالملف يسمونه الخرمقة (٥٦) ينام فيه أيام المطر فوق سطح القصر ، فاتّفق أنه أخذ السيف من يد أحدهما فقلّبه وردّه إليه فضربه به المملوك ، وثنّى عليه صاحبه واحتزّا رأسه وأتيا به إلى محبس قطب الدين فرمياه بين يديه وأخرجاه فدخل على أخيه شهاب الدين وأقام بين يديه أياما كأنّه نايب له ثم عزم على خلعه فخلعه (٥٧).

ذكر السلطان قطب الدين ابن السلطان علاء الدين

وخلع قطب الدين أخاه شهاب الدين وقطع إصبعه وبعث به إلى كاليور فحبس مع إخوته ، واستقام الملك لقطب الدين ، ثمّ إنّه بعد ذلك خرج من حضرة دهلي إلى دولة أباد ، وهي على مسيرة أربعين يوما منها والطريق بينهما تكنفه الأشجار من الصفصاف وسواه فكأنّ الماشي به في بستان ، وفي كلّ ميل منه ثلاث داوات ، وهي البريد ، وقد ذكرنا ترتيبه ، وفي كلّ داوة جميع ما يحتاج المسافر إليه فكأنّه يمشي في سوق مسيرة الأربعين يوما ، وكذلك يتّصل الطريق إلى بلاد التّلنك (٥٨) والمعبر (٥٩) مسيرة ستّة أشهر ، وفي كل منزلة قصر

__________________

(٥٤) مات علاء الدين يوم ٨ شوال ٧١٥ ـ ٥ يناير ١٣١٦ ، وقد سمّى كافور مكان السلطان الراحل أصغر أولاده وكان من خمس أو ست سنين تحت اسم شهاب الدين عمر.

(٥٥) أرملة علاء الدين التي كانت تشعر بالآلام أثناء هذه الفترة من جراء مطامع كافور ، كانت هي أمّ شهاب الدين عمر ، وكانت ابنة راما شاندرا صاحب ديوجير (deogir). وكذلك فإنه حسب المصادر الأخرى فإن قطب الدين مبارك نفسه أقنع بشير ومبشر اللذين أتيا لقتله ، أقنعهما بأن ينقلبا ضدّ كافور ، هذا الأخير أغتيل يوم ٩ ذي القعدة ٧١٥ ـ ٤ يبراير ١٣١٦.

(٥٦) الخرّمقة (khurramgah) بيت الملذات والمتعة.

(٥٧) شهاب الدين خلع عن العرش وسملت عيناه من لدن أخيه الذي عوّضه يوم ٢٥ محرم ٧١٦ ـ ١٩ أبريل ١٣١٦.

(٥٨) التلنك : القصد إلى تلنگانا (telingana) إمارة هندية بين گودا فاري ونهر كريشنا عاصمتها وارانگال warangal

(٥٩) محطة المعبر اسم عربي لساحل كورومانديل (coromandel) ساحل شرقي لنهاية شبه الجزيرة التي زارها ابن بطوطة فيما بعد ، وسيأتي الحديث عنها ،

Gibb : ibn battuta travels in asia and africa ٥٢٣١ ـ ٤٥٣١ pub ـ by routledge and kegan paul p. ١٦٢ ـ ٥ ـ travels ـ ـ ـ iii, ٤٤٦ n. ٨٩.

١٣٤

١٣٥

للسلطان وزاوية للوارد والصادر. فلا يفتقر الفقير إلى حمل زاد في ذلك الطريق!

ولما خرج السلطان قطب الدين في هذه الحركة (٦٠) اتّفق بعض الأمراء على الخلاف عليه وتولية ولد أخيه خضر خان المسجون (٦١) ، وسنّه نحو عشرة أعوام ، وكان مع السلطان ، فبلغ السلطان ذلك ، فأخذ ابن أخيه المذكور ، وأمسك برجليه ، وضرب برأسه إلى الحجارة حتّى نثر دماغه ، وبعث أحد الأمراء ويسمى ملك شاه إلى كاليور حيث أبو هذا الولد وأعمامه وأمره بقتلهم جميعا!

فحدّثني القاضي زين الدين مبارك قاضي هذا الحصن ، قال : قدم علينا ملك شاه ضحوة يوم وكنت عند خضر خان بمحبسه ، فلما سمع بقدومه خاف وتغيّر لونه ، ودخل عليه الأمير فقال له : فيما جئت؟ قال : في حاجة خوند عالم ، فقال له : نفسي سالمة؟ فقال : نعم ، وخرج عنه واستحضر الكتوال ، وهو صاحب الحصن والمفردين وهم الزماميّون ، وكانوا ثلاثمائة رجل وبعث عنّي وعن العدول واستظهر بأمر السلطان فقرأوه وأتوا إلى شهاب الدّين المخلوع فضربوا عنقه وهو متثبّت غير جزع ، ثم ضربوا عنق أبي بكر خان وشادي خان ، ولما أتوا ليضربوا عنق خضر خان فزع وذهل ، وكانت أمّه معه فسدّوا الباب دونها وقتلوه ، وسحبوهم جميعا في حفرة دون تكفين ولا غسل ، وأخرجوا بعد سنين فدفنوا بمقابر آبائهم ، وعاشت أمّ خضر خان مدّة ورأيتها بمكة سنة ثمان وعشرين.

وحصن كاليور (٦٢) هذا في رأس شاهق كأنّه منحوت من الصخر لا يحاذيه جبل ، وبداخله جباب الماء ونحو عشرين بئرا ، عليها الأسوار مضافة إلى الحصن ، منصوبا عليها المجانيق والرّعادات ، ويصعد إلى الحصن في طريق متّسعة يصعدها الفيل والفرس ، وعند باب الحصن صورة فيل منحوت من الحجر ، وعليه صورة فيّال ، وإذا رءاه الإنسان على البعد لم يشكّ أنّه فيل حقيقة ، وأسفل الحصن مدينة حسنة مبنية كلّها بالحجارة البيض المنحوتة مساجدها ودورها ، ولا خشب فيها ما عدا الأبواب ، وكذلك دار الملك بها ، والقباب والمجالس

__________________

(٦٠) كانت ضد هربّا لادوفا (hurapaladeva) صهر رامشاندرا (ramachondra) الذي أعلن استقلاله عند وفاة علاء الدين. الحركة المتحدث عنها كانت عام ٧١٨ ـ ١٣١٨.

(٦١) هذه المعلومة مما استأثر به ابن بطوطة ، فليست معروفة ، حسب علمنا ، بيد أن هناك نقودا عثر عليها مضروبة في دهلي عام ٧١٨ ـ ١٣١٨ ـ ١٣١٩ باسم أحد من يسمى شمس الدين محمود شاه ، الذي لم نعرف عنه شيئا مع ذلك.

(٦٢) حصن گاليور (gwalior) ، حصن قديم يقع على قمة جبل يبلغ علوه ٣٠٠ قدم على الهضبة وعلى طول ٤ / ٣ / ١ وعلى ٦٥ ميلا جنوب اگرا ، كان يستعمل كمحطة للسجن من قبل الحكام المسلمين ...

١٣٦

وأكثر سوقتها كفّار ، وفيها ستّماية فارس من جيش السلطان لا يزالون في جهاد لأنّها بين الكفّار.

ولما قتل قطب الدين اخوته واستقل بالملك فلم يبق من ينازعه ولا من يخالف عليه ، بعث الله تعالى عليه خاصّته الحظيّ لديه أكبر أمرائه وأعظمهم منزلة عنده ناصر الدين خسرو خان ففتك به وقتله واستقلّ بملكه الّا أنّ مدّته لم تطل في الملك فبعث الله عليه أيضا من قتله بعد خلعه وهو السلطان تغلق ، حسبما يشرح ذلك كلّه مستوفى إن شاء الله تعالى إثر هذا ونسطره.

ذكر السلطان خسرو خان ناصر الدين

وكان خسرو خان من أكبر أمراء قطب الدين (٦٣) ، وهو شجاع حسن الصورة وكان فتح بلاد جند يري (٦٤) وبلاد المعبر ، وهي من أخصب بلاد الهند ، وبينهما وبين دهلي مسيرة ستّة أشهر ، وكان قطب الدين يحبّه حبّا شديدا ويؤثره ، فجّر ذلك حتفه على يديه ، وكان لقطب الدين معلّم يسمى قاضي خان صدر الجهان (٦٥) ، وهو أكبر أمرائه ، وكليت دار وهو صاحب مفاتيح القصر ، وعادته أن يبيت كلّ ليلة على باب السلطان ومعه أهل النوبة وهم ألف رجل يبيتون مناوبة بين أربع ليال ويكونون صفّين فيما بين أبواب القصر وسلاح كل واحد منهم بين يديه فلا يدخل أحد إلّا فيما بين سماطيهم ، وإذا تمّ الليل أتى أهل نوبة النهار.

ولأهل النّوبة امراء وكتّاب يتطوّفون عليهم ويكتبون من غاب منهم أو حضر ، وكان معلم السلطان قاضي خان يكره أفعال خسرو خان ويسؤه ما يراه من إيثاره لكفّار الهنود وميله إليهم. وأصله منهم ، ولا يزال يلقي ذلك إلى السلطان فلا يسمع منه ، ويقول له : دعه وما يريد ، لما أراد الله من قتله على يديه ، فلما كان في بعض الأيام قال خسرو خان للسلطان : إنّ جماعة من الهنود يريدون أن يسلموا ، ومن عادتهم بتلك البلاد أنّ الهندي إذا أراد الإسلام

__________________

(٦٣) خسرو هندي الولادة ، وقد تعرض للسجن عند اجتياح مالوى (malwa) في شرق كوجارات عام ٧٠٤ ـ ١٣٠٥. اعتنق الإسلام تحت اسم الحسن ، وعين وزيرا من قبل قطب الدين مبارك عند ارتقائه منصة الحكم.

(٦٤) جنديري (chanderi) كانت حصنا في إقليم مالوى (ولاية نروار) ، تابعة ، في تلك الفترة ـ لسلطنة دهلي ـ غارة خسرو كانت موجهة ضد وارا نگال (warangal) عاصمة تلينكانا سالفة الذكر ، وضد سلاطين بانديا (pandya) في كورومانديل (coromandel) ، إذا كان القسم الأول من الغارة باعثا على السّرور فإن القسم الثاني كان أقلّ حظا وقد دعى خسرو إلى دهلي ...

(٦٥) هناك مصادر أخرى تدعوه ضياء الدين ، وما تزال كلمة كيليده دار مستعملة في العراق والأماكن المجاورة لمعنى حامل مفاتيح الروضة أو المشهد ... كليد بالفارسية المفتاح من اليونانيّة (kleis).

١٣٧

أدخل إلى السلطان فيكسوه كسوة حسنة ويعطيه قلادة وأساور من ذهب على قدره ، فقال له السلطان : ائتني بهم! فقال : إنهم يستحيون أن يدخلوا إليك نهارا لأجل أقربائهم وأهل ملّتهم، فقال له : ائتني بهم ليلا! فجمع خسرو خان جماعة من شجعان الهنود وكبرائهم فيهم أخوه خان خانان (٦٦) ، وذلك أوان الحرّ ، والسلطان ينام فوق سطح القصر ، ولا يكون عنده في ذلك الوقت إلّا بعض الفتيان ، فلما دخلوا الأبواب الأربعة ، وهم شاكّون في السلاح ، ووصلوا إلى الباب الخامس وعليه قاضي خان ، أنكر شأنهم وأحسّ بالشر فمنعهم من الدخول ، وقال: لا بدّ أن أسمع من خوند عالم بنفسي الإذن في دخولهم ، وحينئذ يدخلون ، فلما منعهم من الدخول هجموا عليه فقتلوه ، وعلت الضجّة بالباب فقال السلطان : ما هذا؟ فقال خسرو خان : هم الهنود الذين أتوا ليسلموا ، فمنعهم قاضي خان من الدخول ، وزاد الضّجيج فخاف السلطان ، وقام يريد الدّخول إلى القصر وكان بابه مسدودا والفتيان عنده ، فقرع الباب واحتضنه خسرو خان من خلفه ، وكان السلطان أقوى منه فصرعه ، ودخل الهنود ، فقال لهم خسرو خان : هوذا فوقي فاقتلوه! فقتلوه وقطعوا رأسه ورموا به من سطح القصر إلى صحنه(٦٧).

وبعث خسرو خان من حينه عن الأمراء والملوك ، وهم لا يعلمون بما اتّفق ، فكلّما دخلت طائفة وجدوه على سرير الملك ، فبايعوه ، ولما أصبح أعلن بأمره وكتب المراسم وهي الأوامر إلى جميع البلاد ، وبعث لكلّ أمير خلعة فطاعوا له جميعا واذعنوا إلا تغلق شاه والد السلطان محمد شاه ، وكان اذ ذاك أميرا بدبّال بور (٦٨) من بلاد السند ، فلما وصلته خلعة خسرو خان طرحها بالأرض وجلس فوقها وبعث إليه أخاه خان خانان فهزمه ، ثم آل أمره إلى أن قتله كما سنشرحه في أخبار تغلق.

ولما ملك خسرو خان آثر الهنود (٦٩) وأظهر أمورا منكرة منها النهى عن ذبح البقر

__________________

(٦٦) قد يكون خسرو صحب معه من كوجارات (gujarat) أربعين ألف شخص للحساب الخاص لعصبته: باروار (barwar) الذين كانوا هندوسا ، وذلك لتكوين جيش خاصّ به ـ خان خانان كان لقبأ ـ أخو خسرو كان يسمّى حسام الدين ، وكان قد ثار في كوجارات ضد قطب الدين مبارك ...

(٦٧) تمّ هذا الحدث في شهر أبريل ١٣٢٠ صفر ـ ربيع الأول ٧٢٠.

(٦٨) دبّال بور (dipalpur) في باكستان الحالية جنوب لاهور على بعد ٨٠ ميلا منها.

(٦٩) معظم المؤرخين المسلمين من الذين كتبوا حول أيام آل تغلق يوجهون هذه التهمة ضد خسرو بيد أنه لا يظهر أن هذا السلطان كانت له نية في التنكّر للإسلام ، وإنما كان يتوفر على فكرة متساهلة إزاء ديانة الهندوس الذين يكوّنون فصائله العسكرية بيد أنه كان أول عاهل في السلطنة من أصل هندوسي وليس بتركي وقد ساعد شعار «الدين في خطر» على لمّ شمل المعارضة حول غياث الدين تغلق. وهكذا فإن الاحتكاكات بين المسلمين والهندوس ليست وليدة العصور الحاضرة ولكنها متجذرة في التاريخ ...

١٣٨

على قاعدة كفّار الهنود فإنهم لا يجيزون ذبحها ، وجزاء من ذبحها عندهم أن يخاط في جلدها ويحرق! وهم يعظمون البقر ويشربون أبوالها للبركة والاستشفاء إذا مرضوا ، ويلطخون بيوتهم وحيطانهم بأرواثها ، وكان ذلك ممّا بغّض خسرو خان إلى المسلمين وأمالهم عنه إلى تغلق ، فلم تطل مدة ولايته ، ولا امتدّت ايام ملكه ، كما سنذكره.

ذكر السلطان غياث الدين تغلق شاه

وضبط اسمه بضم التاء المعلوة وسكون الغين المعجم وضم اللام وآخره قاف ، حدّثني الشيخ الامام الصالح العالم العامل العابد ركن الدين ابن الشيخ الصالح شمس الدين أبي عبد الله بن الولي الإمام العالم العابد بهاء الدين زكرياء القرشي الملتاني ، بزاويته منها ، أنّ السلطان تغلق كان من الأتراك المعروفين بالقرونة (٧٠) ، بفتح القاف والراء وسكون الواو وفتح النون ، وهم قاطنون بالجبال التي بين بلاد السند والترك ، وكان ضعيف الحال ، فقدم بلاد السند في خدمة بعض التّجار. وكان كلوانيا له ، والكلواني ، بضم الكاف المعقودة هو راعي الخيل ، وذلك على أيام السلطان علاء الدين ، وأمير السند إذ ذاك أخوه أولو خان (٧١) ، بضم الهمزة واللام ، فخدمه تغلق وتعلّق بجانبه فرتّبه في البيادة (٧٢) ، بكسر الباء الموحدة وفتح الياء آخر الحروف ، وهم الرّجالة ، ثم ظهرت نجابته فأثبت في الفرسان ، ثم كان من الامراء الصّغار وجعله أولو خان أمير خيله ، ثم كان بعد من الأمراء الكبار وسمّى بالملك الغازي.

ورأيت مكتوبا على مقصورة الجامع بملتان ، وهو الذي أمر بعملها : إنّي قاتلت التتر تسعا وعشرين مرة فهزمتهم فحينئذ سمّيت بالملك الغازي (٧٣).

ولما ولى قطب الدين ولّاه مدينة دبال بور وعمالتها ، وهي بكسر الدال المهمل وفتح الباء الموحدة ، وجعل ولده الذي هو الآن سلطان الهند أمير خيله ، وكان يسمى جونة ، بفتح الجيم

__________________

(٧٠) القرونة (qaraunas) حسب ما رواه ماركوپولو ـ بل وحسب المرويات الهندية هم المتنسّلون من أب تركي أو مغولي وأم هندية ... ومن المعلوم أن أصول تغلق تركية. هذا وقد اشتهر في بلاد المغرب اطلاق كلمة الكرغلي (ج كراغلة) على الذين تنسّلوا من أب تركي وأمّ مغربية ، حول ركن الدين انظرiii ، ١٠١.

(٧١) يتعلق الأمر بألماس بك المعروف ب ألوغ خان بعد أن دخل أخوه الحكم عام ٦٩٥ ـ ١٢٩٦ ، وسمى مباشرة حاكما للسند ، بعد فتح رانثمبور (ranthambhor) في راجستان عام ٧٠٠ ـ ١٣٠١ ، وقد نقل إلى هذه المدينة وتوفي في السنة اللاحقة.

(٧٢) البيادة : لفظ من أصل فارسي (piyada) جندي من المشاة ...

(٧٣) ظهر غياث الدين تغلق لأول مرة أثناء هجوم المغول عام ٧٠٤ ـ ١٣٠٤ وأحرز على لقب (الغازي) بعد أن تمكن من رد هجوم مغولي ثان على أعقابه عام ٧٠٦ ـ ١٣٠٦.

dr. ahmad nabi khan : development of mosque archtecture in pakistan, islamabad, ٦٨٩١ p. ٦٣ ـ ٣٥.

١٣٩

والنون ، ولما ملك تسمّى بمحمد شاه ، ثم لمّا قتل قطب الدين وولى خسرو خان أبقاه على امارة الخيل ، فلما أراد تغلق الخلاف كان له ثلاثمائة من أصحابه الذين يعتمد عليهم في القتال، وكتب إلى كشلو خان (٧٤) ، وهو يومئذ بملتان وبينها وبين دبال بور ثلاثة أيام يطلب منهالقيام بنصرته ويذكّره نعمة قطب الدين ويحرّضه على طلب ثاره.

وكان ولد كشلو خان بدهلي فكتب إلى تغلق أنّه لو كان ولدي عندي لأعنتك على ما تريد ، فكتب تغلق إلى ولده محمد شاه يعلمه بما عزم عليه ، ويأمره أن يفرّ إليه ، ويستصحب معه ولد كشلو خان ، فأراد ولده الحيلة على خسرو خان وتمّت له كما أراد ، فقال له : إنّ الخيل قد سمنت وتبدّنت وهي تحتاج اليراق (٧٥) ، وهو التّضمير ، فإذن له في تضميرها ، فكان يركب كلّ يوم في أصحابه فيسير بها الساعة والساعتين والثلاث ، واستمر إلى أربع ساعات إلى أن غاب يوما إلى وقت الزوال ، وذلك وقت طعامهم فأمر السلطان بالركوب في طلبه ، فلم يوجد له خبر ولحق بأبيه واستصحب معه ولد كشلو خان ، وحينئذ أظهر تغلق الخلاف وجمع العساكر وخرج معه كشلو خان في أصحابه وبعث السلطان أخاه خان خانان لقتالهما فهزماه شرّ هزيمة ، وفرّ عسكره إليهما ورجع خان خانان إلى أخيه وقتل أصحابه ، وأخذت خزاينه وأمواله.

وقصد تغلق حضرة دهلي وخرج إليه خسرو خان في عساكره ونزل بخارج دهلي بموضع يعرف بآصياأباد (٧٦) ومعنى ذلك رحى الرّيح ، وأمر بالخزائن ففتحت وأعطى الأموال بالبدر ، لا بوزن ولا عدد ، ووقع اللقاء بينه وبين تغلق وقاتلت الهنود أشدّ قتال ، وانهزمت عساكر تغلق ونهبت محلّته وانفرد في أصحابه الأقدمين الثلاثمائة فقال لهم : إلى أين الفرار؟ حيثما أدركنا قتلنا، واشتغلت عساكر خسرو خان بالنّهب وتفرّقوا عنه ، ولم يبق معه إلا قليل فقصد تغلق وأصحابه موقفه ، والسلطان هنالك يعرف بالشّطر الذي يرفع فوق رأسه وهو الذي يسمى بديار مصر القبّة والطّير ، ويرفع بها في الأعياد ، وأما بالهند والصين

__________________

(٧٤) هذه الشخصية كانت تسمى في ذلك العهد بهرام أيبا ، وكان حاكم أوش (uch) ، وهو الأول الذي التحق بتغلق ، وقد أحرز في إثر هذا اسم كشلو خان (kishlu) وحكم السند ، واحتفظ بهذه الوظيفة إلى أن ثار عام ٧٢٨ ـ ١٣٢٨.

(٧٥) اليراق كلمة تركية تعني الرشاقة وخفة الوزن : ما عبّر عنه ابن بطوطة بالتضمير ثم انتقلت للفارسية قبل أن تشيع في اللّغة العربية ...

(٧٦) أصياأباد (asya ـ badd) يوجد هذا الموضع في سهل لهراوات (lahrawat) على بعد ميلين أو ثلاثة شمال غرب (سيري)(siri). هذا وكلمة الشطر فيما بعد تعني (المظلة) وهي من أصل سنسكريتي. (Chatr) شطر الفارسية ، وتعتبر المظلة شعارا من شعار الملك في المشرق والمغرب منذ الوقت المبكر ، وقد خصّصنا لها حديثا في التاريخ الدپلوماسي للمغرب ج ١ ص ٨٣ ـ ٨٤ إلخ ...

١٤٠