رحلة ابن بطوطة - ج ٢

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ٢

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-008-7
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٢٦٨

مدينة الموصل

وهي مدينة عتيقة كثيرة الخصب ، وقلعتها المعروفة بالحدباء عظيمة الشأن شهيرة الامتناع عليها سور محكم البناء مشيّد البروج (٢٦٤) ، وتتّصل بها دور السلطان وقد فصل بينهما وبين البلد شارع متّسع مستطيل من أعلى البلد إلى أسفله وعلى البلد سوران اثنان وثيقان (٢٦٥) أبراجهما كثيرة متقاربة ، وفي باطن السور بيوت بعضها على بعض مستديرة بجداره قد تمكّن فتحها فيه لسعته ، ولم أر في اسوار البلاد مثله ، إلّا السور الذي على مدينة دهلى حضرة ملك الهند.

وللموصل ربض كبير فيه المساجد والحمّامات والفنادق والاسواق ، وبه مسجد جامع على شطّ الدجلة تدور به شبابيك حديد وتتّصل به مصاطب تشرف على دجلة ، في نهاية من الحسن والاتقان (٢٦٦) ، وأمامه مارستان وبداخل المدينة جامعان أحدهما قديم والآخر حديث (٢٦٧) ، وفي صحن الحديث منهما قبة داخلها خصّة رخام مثمّنة مرتفعة على سارية رخام يخرج منها الماء بقوّة وانزعاج ، فيرتفع مقدار القامة ثم ينعكس فيكون له مرأى حسن.

وقيساريّة الموصل مليحة (٢٦٨) لها أبواب حديد ويدور بها دكاكين ، وبيوت بعضها فوق بعض متقنة البناء.

__________________

(٢٦٤) شيدت القلعة من جديد من طرف الأتابك عماد الدين زنكي ٥٢١ ـ ٥٤١ ١١٢٧ ـ ١١٤٦ مؤسس الدولة التي خلفت السلاجقة .. واستمرت القلعة صامدة إلى أن وصل التتر عام ٥٥٤ ١٢٥٩. ولم يخربوها ... اسم الحدباء هو اسم شاعري استعمل في مقابلة الشهباء على قلعة حلب عاصمة نور الدين زنگى ابن عماد الدين ...

(٢٦٥) يتعلق الامر بالقلعة القديمة المبنية شمال القلعة التركية التي شيدت فيما بعد على حدبة ، منها أخذت اسمها منارة الحدباء ...

(٢٦٦) يذكر أن أحد الأمراء الذين حكموا المدينة ويحمل اسم مجاهد الدين بنى فيها عام ٥٧٦ ١٨٠ مسجدا أساسيا على ساحل دجلة ، لم ير مثله أبدا أناقة وروعة ، وقبالة هذا المسجد يرتفع" مارستان حفيل" بنى كذلك من قبل الامير مجاهد الدين. هكذا يقول ابن جبير ـ صفحة ١٨٨ ـ سعيد الديوه جي : بحث في تراث الموصل، ١٩٨٢.

(٢٦٧) الجامع القديم كان هو المسجد الأموي الذي وسع من قبل مروان الثاني ١٢٦ ـ ١٣٣ ٧٤٤ ـ ٧٥٠ ، والجامع الثاني بنى عام ٥٦٥ ـ ٥٦٧ ١١٧٠ ـ ١١٧٢ من طرف نور الدين وهو المعروف بالجامع الكبير وقد صلح حديثا ، وابن بطوطة هنا يصلح خطا وقع فيه ابن جبير عندما قال ان القبة والخصة كانتا في الجامع القديم ص ١٨٩ رحلة ابن جبير.

(٢٦٨) بنى نفس الأمير مجاهد الدين بمدينة الموصل وفي داخل سوقها قيسارية للتجار كأنها الخان العظيم على ما ورد في رحلة ابن جبير ...

٨١

٨٢

وبهذه المدينة مشهد جرجيس (٢٦٩) النّبي عليه‌السلام وعليه مسجد والقبر في زاوية منه عن يمين الداخل اليه وهو فيما بين الجامع الجديد وباب الجسر وقد حصلت لنا زيارته والصلاة بمسجده والحمد لله تعالى.

وهنالك تلّ يونس (٢٧٠) عليه‌السلام وعلى نحو ميل منه العين المنسوبة اليه ، يقال : إنه امر قومه بالتّطهير فيها ثم صعدوا التلّ ودعا ودعوا فكشف الله عنهم العذاب ، وبمقربة منه قرية كبيرة يقرب منها خراب ، يقال : إنه موضع المدينة المعروفة بنينوى مدينة يونس عليه‌السلام ، وأثر السور المحيط بها ظاهر ، ومواضع الأبواب التي بها متبيّنة. وفي التلّ بناء عظيم ورباط فيه بيوت كثيرة ومقاصر ومطاهر وسقّايات يضمّ الجميع باب واحد ، وفي وسط الرباط بيت عليه ستر حرير وله باب مرصّع يقال : إنه الموضع الذي به موقف يونس عليه‌السلام ، ومحراب المسجد الذي بهذا الرباط يقال إنه كان بيت متعبّده عليه‌السلام ، وأهل الموصل يخرجون في كلّ ليلة جمعة إلى هذا الرباط يتعبّدون فيه ، وأهل الموصل لهم مكارم أخلاق ولين كلام وفضيلة ومحبّة في الغريب واقبال عليه ، وكان أميرها حين قدومي عليها السيّد الشريف الفاضل علاء الدين علي بن شمس الدين محمّد الملقّب (٢٧١) بحيدر ، وهو من الكرماء الفضلاء ، أنزلني بداره وأجرى عليّ الانفاق مدّة مقامي عنده ، وله الصدقات والايثار المعروف ، وكان السلطان أبو سعيد يعظمه وفوّض اليه في هذه المدينة وما إليها ، ويركب في موكب عظيم من مماليكه وأجناده ، ووجوه أهل المدينة وكبراؤها يأتون للسلام عليه غدوّا وعشيّا، وله شجاعة ومهابة ، وولده يوجد في حين كتب هذا ، في حضرة فاس مستقرّ الغرباء (٢٧٢) ومأوى الفرق ومحطّ رحال الوفود زادها الله بسعادة أيام مولانا أمير المومنين بهجة واشراقا وحرس ارجاءها ونواحيها.

__________________

(٢٦٩) يحتفظ بهذا المشهد إلى اليوم القديس جورج في الحي الذي يحمل اسم (باب النبي) وقد عرف عند بعضهم على أنه الخضر ...

(٢٧٠) مشهد نبيّ الله يونس يوجد فوق أكمة شرقيّ دجلة في المكان الذي كانت فيه نينوى (Ninive) والعين موجودة كذلك. وتنبغي العودة إلى قصص الأنبياء لنعرف عن قصة يونس والسمكة التي ابتلعته ... وقد زرت المشهد عدة مرات أثناء سفارتي بالعراق.

(٢٧١) ربما كان هو ملك على بن محمد شاه بن ملك بهلوان من الاسرة الكردية (روّادي) التي تنتسب إلى ميملان : أتابك تبرير. أنظر رسائل رشيد الدّين فضل الله ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٢٧٢) لقطة فريدة وهامّة في مذكرات ابن بطوطة تعبر عن مركز فاس عاصمة بني مرين كما تكشف عن معلومة أصيلة فيما يتصل بالتاريخ الدولي للمغرب أثناء تحرير ابن بطوطة لرحلته (فاس ملاذ للّاجئين ومأمن للخائفين.) فماذا عن مهمة الأمير المصلاوي لدى السلطان أبي عنان؟ وهل إن الأمر يتعلق ببعثة دبلوماسية من الجزيرة الفراتية إلى المملكة المغربية عام ٧٥٦ ـ ١٣٥٥ أم إن الأمر يتعلق بلجوء سياسي إلى فاس التي نعتها ابن جزي بأنها ملجأ الخائفين ...

٨٣

ثم رحلنا من الموصل ونزلنا قرية تعرف بعين (٢٧٣) الرّصد وهي على نهر عليه جسر مبنيّ ، وبها خان كبير ، ثم رحلنا ونزلنا قرية تعرف بالمويلحة (٢٧٤) ثم رحلنا منها ونزلنا جزيرة ابن عمر (٢٧٥) وهي مدينة كبيرة حسنة محيط بها الوادي ، ولذلك سميّت جزيرة ، وأكثرها خراب ، ولها سوق حسنة ومسجد عتيق مبنّى بالحجارة محكم العمل ، وسورها مبنىّ بالحجارة أيضا واهلها فضلاء لهم محبّة في الغرباء ، ويوم نزولنا بها رأينا جبل الجودى المذكور في كتاب الله عزوجل (٢٧٦) الذي استوت عليه سفينة نوح عليه‌السلام ، وهو جبل عال مستطيل.

ثم رحلنا منها مرحلتين ووصلنا إلى مدينة نصيبين (٢٧٧) ، وهي مدينة عتيقة متوسّطة قد خرب أكثرها وهي في بسيط أفيح فسيح فيه المياه الجارية ، والبساتين الملتفّة ، والأشجار المنتظمة ، والفواكه الكثيرة ، وبها يصنع ماء الورد الذي لا نظير له في العطارة والطيب ، ويدور بها نهر يعطف عليها انعطاف السوار منبعه من عيون في جبل قريب منها ، وينقسم انقساما فيتخلّل بساتينها ، ويدخل منه نهر إلى المدينة فيجرى في شوارعها ودورها ويخترق صحن مسجدها الأعظم وينصبّ في صهريجين أحدهما في وسط الصحن والآخر عند الباب الشرقي.

__________________

(٢٧٣) عين الرّصد وصفها ابن جبير (ص ١٩١) بأنه" رحل من قرية من قرى الموصل صباح السبت وأدرك القيلولة بعين الرصد" وربما كانت هي الموقع المعروف باسم كيزليك كوبروKizlek Kopru على بعد ٢٥ ميلا شمال غربي الموصل.

(٢٧٤) المويلحة ربّما كانت على مقربة من (تل عوينات) الحالي على بعد ٢٢ ميلا شمال غربي كيزليك كوبرو.

(٢٧٥) هي شزر (Cizre) التي تقع في خريطة تركيا الحالية على بعد ٩٠ ميلا شمال غربيّ الموصل ... وعوض أن يذكرها ابن جبير بهذا الاسم ذكر اسم جدال التي قال إن لها حصنا عتيقا (ص ١٩١) محطة موالية للمويلحة وعلى مسافة يوم من نصيبين ، ويذكر ابن حوقل" أن بها تجارة دائمة على مر الأوقات ، ويذكر مستوفي أنه كان بها مئات القرى ، وكانت المدينة القديمة تكوّن جزيرة على دجلة وكانت محكومة في تلك الفترة من قبل أسرة كردية متنفذة استمرت إلى عام ١٠٠٤ ١٥٩٦ ـ يراجع التعليق ٦٧.

(٢٧٦) ورد في القرآن الكريم السورة ١١ ، الآية ٤٤ : " وقيل : يأرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودى ... والجبل المذكور ذو علوّ ٦٠٠٠ قدم ... ، يوجد على أربعين كيلوميترا شرقي جزيرة ابن عمر المذكورة والموجودة اليوم كما قلنا ضمن الأراضي التركية ـ وقد زرنا هذه المنطقة حيث كنا ضيوفا على أهلها أمام الجبل الذي يحمل إلى الآن عندهم اسم الجودي ، والإقليم غني بجماله وخصبه وشهامة أهله وهم من الأكراد ، يراجع التعليق السابق.

(٢٧٧) نصيبين المعروفة عند الرومان ب (La Nisibis) توجد اليوم ضمن الأراضي التركية على بعد نحو مائة كيلوميترا غربي جزيرة ابن عمر ، ويستفاد من ابن حوقل أن نصيبين كانت أكثر أهمية من الموصل وقد زارها عام ٣٥٨ ٩٦٩ فأطنب في وصفها ... وقد حكى ياقوت عن ظروف فتحها على يد عياض بن غنم الذي فتحها صلحا على مثل فعله مع أهل الرّها والذي يعتبر من طلائع الدبلوماسية الإسلامية الناجحة.

٨٤

وبهذه المدينة مارستان ومدرستان ، وأهلها أهل صلاح ودين وصدق وأمانة ، ولقد صدق أبو نواس في قوله

طابت نصيبين لي يوما وطبت لها

يا ليت حظّي من الدنيا نصيبين!

قال ابن جزي : والناس يصفون مدينة نصيبين بفساد الماء والوخامة ، وفيها يقول بعض الشعراء.

لنصيبين قد عجبت وما في

دارها داع إلى العلّات

يعدم الورد أحمرا في ذراها

لسقام حتّى من الوجنات (٢٧٩)

ثمّ رحلنا إلى مدينة سنجار (٢٨٠) ، وهي مدينة كبيرة كثيرة الفواكه والأشجار ، والعيون المطرّدة والأنهار ، مبنيّة في سفح جبل ، تشبّه بدمشق في كثرة أنهارها وبساتينها ، ومسجدها الجامع مشهور البركة ، يذكر أن الدعاء به مستجاب ، ويدور به نهر ماء ويشقّه ، وأهل سنجار أكراد ، ولهم شجاعة وكرم وممّن لقيته بها الشيخ الصالح العابد الزاهد عبد الله الكرديّ أحد المشايخ الكبار صاحب كرامات ، يذكر عنه أنّه لا يفطر الّا بعد أربعين يوما ، ويكون إفطاره على نصف قرص من الشّعير لقيته برابطة بأعلى جبل سنجار (٢٨١) ، ودعا لي وزوّدني بدراهم لم تزل عندي إلى أن سلبني كفّار الهنود.

__________________

(٢٧٨) أبو نواس الحسين بن هاني بن عبد الأول ، شاعر العراق في عصره ، ولد في الأهواز من بلاد خوزستان ، ونشأ بالبصرة ورحل إلى بغداد فاتصل فيها بالخلفاء من بني العباس ... فمدحهم ... ورحل لمصر فمدح أميرها الخصيب سالف الذكر وعاد إلى بغداد وهناك أدركه أجله عام ١٩٨ ٨١٤ ولا يخفى ما في البيت من تورية ...

(٢٧٩) حسب أبي الفدا فإنه لا يوجد في نصيبين الا الورد الأبيض ... وبعض المؤلفين المعاصرين يتحدثون كذلك عن مناخها الوخيم ...

(٢٨٠) سنجار التي توجد على بعد مائة وعشرين كيلو ميترا غرب الموصل هي في الواقع خارج خط سير ابن بطوطة الذي كان يتجه نحو ماردين ، ويظهر أن هناك سهوا وقع فيه ابن بطوطة الذي كان عليه أن يذكر (سنجار) كمرحلة قبل الوصول إلى نصيبين (انظر الخريطة) ..

(٢٨١) يذكر الهروي أن بمدينة سنجار مشهدا للإمام على رضي‌الله‌عنه على الجبل وقد زرتها أثناء سفارتي الثانية للتعرف على اليزيدية الذين يقال عنهم ما يقال ، وهم كما قال ابن بطوطة ذووا شجاعة واستقامة ، ويكفي أن الرحالة المغربي تتلمذ على أحد مشايخهم!

٨٥

ثم سافرنا إلى مدينة دارا (٢٨٢) وهي عتيقة كبيرة بيضاء المنظر لها قلعة مشرفة وهي الآن خراب لا عمارة بها وفي خارجها قرية معمورة بها كان نزولنا ، ثم رحلنا منها فوصلنا إلى مدينة ماردين (٢٨٣) ، وهي مدينة عظيمة في سفح جبل من أحسن مدن الإسلام وأبدعها وأتقنها وأحسنها أسواقا وبها تصنع الثياب المنسوبة اليها من الصوف المعروف بالمرعز (٢٨٤) ، ولها قلعة شمّاء من مشاهير القلاع في قنّة جبلها.

قال ابن جزي : قلعة ماردين هذه تسمّى الشهباء وايّاها عنى شاعر العراق صفّي الدين عبد العزيز بن سرايا الحلّي (٢٨٥) بقوله في سمطه :

فدع ربوع الحلّة الفيحاء

وازورّ بالعيس عن الزّوراء

ولا تقف بالموصل الحدباء

انّ شهاب القلعة الشّهباء

محرق شيطان صروف الدّهر وقلعة حلب تسمّى الشّهباء ، ايضا ، وهذه المسمّطة بديعة مدح بها الملك المنصور سلطان ماردين (٢٨٦) وكان كريما شهير الصّيت ، ولي الملك بها نحو خمسين سنة ، وأدرك أيّام قازان ملك التتر وصاهر السلطان خذا بنده بابنته دنيا خاتون.

__________________

(٢٨٢) كانت دارا من أعظم الحصون الحدودية لبيزنطة ضد الساسانيين في فارس. وقد أصاب ابن بطوطة عندما تحدث عن خرابها كلية ، انظر الهروي ... ثم يظهر أن وصف منظرها بالبياض سواء من ابن جبير وابن بطوطة ، مع وجود نصوص تتحدث عن السواد ، يحتاج إلى تاويل ... ويتحدث ابن حوقل عن دارا على أنها كثيرة الخيرات وأنها تحتوي على جميع المطاعم والمآكل ...

(٢٨٣) ماردين من أشهر القلاع في غرب آسيا من المناطق الكردية جنوب تركيا الحالية ، قاومت وتمكنت من انشاء إمارة محلية هي الدولة الأرتقية التي استمرت متماسكة من عام ٤٩٧ إلى ٨١٠ ه‍ ١١٠٤ ـ ١٤٠٧ م أكثر من ثلاثة قرون على ما سنرى في التعليق ٢٨٦.

(٢٨٤) المرعز أي شعر المعز.

(٢٨٥) صفي الدين : عبد العزيز بن سرايا بن علي الطائي الحلّي نشأ في الحلة ... تعاني الأدب فمهر فيه وتعانى التجارة فكان يرحل إلى الشام ومصر وماردين وغيرها تقرب من ملوك" الامارة الأرتقية" ومدحهم ... ومدح السلطان الناصر والملك الصالح صاحبا القاهرة ... أدركه أجله عام ٧٥٠ ١٣٤٩. ـ الدرر الكامنة ج ٢ ص ٤٧٩ ـ ٤٨٠. جواهر الأدب للهاشمي ـ الطبعة ٤ عام ١٣٤٧ ١٩٢٨ مصر.

(٢٨٦) القصد إلى غازي بن قرا أرسلان بن أرتق بن غازي : وهو الملقب الملك المنصور بن المظفر بن السعيد بن المنصور صاحب ماردين" كان سمينا لا يتحرك إلا فوق المحفّة! دامت سلطنته لماردين عشرين سنة وقد توفى في ربيع الآخر ٧١٢ ١٣١٢ فاستقر ولده الصالح بعد وفاة أخيه فدامت مملكته أربعا وخمسين سنة ، وبقتله انقرضت دولتهم بماردين وكان ابتداؤها أيام تتش أخي ملك شاه السلجوقي بعد ستة وتسعين وأربعمائة ، فكانت المدة ثلاثمائة سنة وبضع عشرة سنة! ـ الدرر ٣ ، ص ٢٩٦ENCY.ISLAM : ARTOKIDS.

٨٦

ذكر سلطان ماردين في عهد دخولي اليها

وهو الملك الصالح (٢٨٧) ابن الملك المنصور الذي ذكرناه آنفا ورث الملك عن أبيه وله المكارم الشهيرة ، وليس بأرض العراق والشام ومصر أكرم منه ، يقصده الشعراء والفقراء فيجزل لهم العطايا جريا على سنن أبيه ، قصده أبو عبد الله محمد بن جابر الاندلسيّ المرويّ الكفيف مادحا فأعطاه عشرين ألف درهم ، وله الصدقات والمدارس والزوايا لإطعام الطعام ، وله وزير كبير القدر وهو الإمام العالم وحيد الدهر ، وفريد العصر ، جمال الدين السّنجاريّ قرأ بمدينة تبريز ، وأدرك العلماء الكبار ، وقاضي قضاته الإمام الكامل برهان الدّين الموصليّ ، وهو ينتسب إلى الشيخ الوليّ فتح الموصليّ ، وهذا القاضي من أهل الدين والورع والفضل يلبس الخشن من ثياب الصوف الذي لا تبلغ قيمته عشرة دراهم ويعتمّ بنحو ذلك ، وكثيرا ما يجلس للأحكام بصحن مسجد خارج المدرسة كان يتعبّد فيه ، فإذا رءاه من لا يعرفه ظنّه بعض خدّام القاضي واعوانه!

حكاية [صلح بين زوجين]

ذكر لي أنّ امرأة أتت هذا القاضي وهو خارج من المسجد ولم تكن تعرفه ، فقالت له يا شيخ أين يجلس القاضي؟ فقال لها : وما تريدين منه؟ فقالت له : إنّ زوجي ضربني ، وله زوجة ثانية وهو لا يعدل بيننا في القسم ، وقد دعوته إلى القاضي فأبى وأنا فقيرة ليس عندي ما أعطيه لرجال القاضي حتّى يحضروه بمجلسه ، فقال لها : وأين منزل زوجك؟ فقالت بقرية الملّاحين خارج المدينة ، فقال لها : أنا أذهب معك إليه : فقالت : والله ما عندي شيء أعطيك ايّاه ، فقال لها : وأنا لا اخذ منك شيئا.

ثم قال لها : اذهبي إلى القرية وانتظريني خارجها فإني على إثرك ، فذهبت كما أمرها وانتظرته فوصل إليها وليس معه أحد ، وكانت عادته أن لا يدع أحدا يتبعه ، فجاءت به إلى منزل زوجها ، فلمّا رءاه قال لها : ما هذا الشيخ النّحس الذي معك؟ فقال له : نعم والله أنا كذالك ، ولا كن أرض زوجتك!

فلمّا طال الكلام جاء الناس فعرفوا القاضي وسلّموا عليه ، وخاف ذالك الرجل وخجل ، فقال له القاضي : لا عليك أصلح ما بينك وبين زوجتك ، فأرضاها الرجل من نفسه وأعطاهما القاضي نفقة ذلك اليوم ، وانصرف.

__________________

(٢٨٧) الملك الصالح شمس الدين الخلف الثاني للملك المنصور ٧١٢ ـ ٧٦٣ ١٣١٢ ـ ١٣٦٢.

٨٧

ولقيت هذا القاضي وأضافني بداره ثمّ رحلت عائدا إلى بغداد فوصلت إلى مدينة الموصل التي ذكرناها ، فوجدت ركبها بخارجها متوجّهين إلى بغداد ، وفيهم امرأة صالحة عابدة تسمّى بالسّت زاهدة وهي من ذرّيّة الخلفاء ، حجّت مرارا وهي ملازمة الصوم سلّمت عليها ، وكنت في جوارها ، ومعها جملة من الفقراء يخدمونها ، وفي هذه الوجهة توفّيت رحمة الله عليها وكانت وفاتها بزرود ، ودفنت هنالك.

ثمّ وصلنا إلى مدينة بغداد فوجدت الحاجّ في أهبة الرحيل فقصدت أميرها معروف خواجه فطلبت منه ما أمر لي به السلطان فعيّن لي شقّة محارة (٢٨٨) وزاد أربعة من الرجال وماءهم ، وكتب لي بذالك ، ووجّه عن أمير الركب وهو البهلوان محمد الحويح (٢٨٩) فأوصاه بي وكانت المعرفة بيني وبينه متقدّمة فزادها تأكيد ولم أزل في جواره وهو يحسن إلىّ ويزيد لي على ما أمر لي به.

وأصابني عند خروجنا من الكوفة إسهال فكانوا ينزلونني من أعلى المحمل مرّات كثيرة في اليوم ، والأمير يتفقّد حالي ويوصي بي ، ولم أزل مريضا حتّى وصلت مكّة حرم الله تعالى زادها الله شرفا وتعظيما ، وطفت بالبيت الحرام كرّمه الله تعالى طواف القدوم ، وكنت ضعيفا بحيت أؤدّي المكتوبة قاعدا فطفت وسعيت بين الصّفا والمروة راكبا على فرس الأمير الحويح المذكور.

ووقفنا تلك السنة يوم الاثنين (٢٩٠) ، فلمّا نزلنا منى أخذت في الراحة والاستقلال من مرضى ، ولمّا انقضى الحجّ أقمت مجاورا بمكّة تلك السّنة وكان بها الأمير علاء الدين بن هلال مشيّد الدّواوين مقيما لعمارة دار الوضوء بظاهر العطّارين من باب بني شيبة ، وجاور في تلك السنة من المصريّين جماعة من كبراء كبرائهم منهم تاج الدّين بن الكويك (٢٩١) ، ونور الدين القاضي (٢٩٢) ، وزين الدين بن الاصيل ، وابن الخليليّ (٢٩٣) ، وناصر الدين الأسيوطيّ ،

__________________

(٢٨٨) المحارة تعني الهودج ، وشقة المحارة يقصد بها جانبا منها وهذا من التعابير الغريبة التي وردت في الرحلة ... راجع التعليق ٢٣٨ ج I ص ٤٠٤.

(٢٨٩) كان البهلوان الحويح هذا أميرا للركب عند العودة من مكة في شهر ذي الحجة ٧٢٥ نونبر ١٣٢٦.

(٢٩٠) يوافق ٢٦ أكتوبر ١٣٢٧.

(٢٩١) لعل لتاج الدين هذا صلة بسراج الدّين عبد اللطيف بن أحمد التكريتي (ج ٤ ، ص ٤٣١ تعليق ١٠٤) والمتوفى في بلاد التكرور في جمادى الأولى ٧٣٤ ـ ١٣٣٤ ـ ابن حجر : الدرر ٣ ، ١٨ ـ ١٩.

(٢٩٢) القاضي نور الدين هو علي بن عبد النّاصر بن علي بن عبد الخالق السخاوي حج عددا من المرات ... دخل دمشق وناب فيها عن القاضي فخر الدين أحمد بن سلامة ثم دخل القاهرة في آخر عمره وولى القضاء ... أدركه أجله عام ٧٥٦ ١٣٥٥. ـ الدرر الكامنة ج ٣ ، ص ١٥٠ / ١٥١.

(٢٩٣) القصد إلى عبد الله بن محمد بن أبي بكر عبد الله بن خليل ... المكي نزيل القاهرة سمع من ستّ الوزراء ... حسن المذاكرة ... وقد توفي سنة ثالث جمادى الأولى ٧٧٧ ١٣٧٥ ـ الدرر الكامنة ٢ ، ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

٨٨

وسكنت تلك السنة بالمدرسة المظفّريّة ، وعافاني الله من مرضي فكنت في أنعم عيش وتفرّغت للطواف والعبادة والاعتمار.

وأتى في أثناء تلك السنة حجّاج الصعيد وقدم معهم الشيخ الصالح نجم الدين الأصفوني(٢٩٤) ، وهي أوّل حجّة حجّها ، والاخوان علاء الدين عليّ ، وسراج الدين عمر ابنا القاضي الصالح نجم الدين البالسيّ قاضي (٢٩٥) مصر ، وجماعة غيرهم وفي منتصف ذي القعدة وصل الامير سيف الدين يلملك ، وهو من الفضلاء ، ووصل في صحبته جماعة من أهل طنجة بلدي حرسها الله ، منهم الفقيه أبو عبد الله محمد ابن القاضي أبي العبّاس ابن القاضي الخطيب أبي القاسم الجراويّ ، والفقيه أبو عبد الله بن عطاء الله ، والفقيه أبو محمد عبد الله الحضريّ ، والفقيه أبو عبد الله المرسى ، وأبو العبّاس ابن الفقيه أبي عليّ البلنسيّ ، وأبو محمد بن القابلة وأبو الحسن البياريّ وأبو العبّاس ابن تافوت وأبو الصبر أيّوب الفخّار ، وأحمد ابن حكّامة ، ومن أهل قصر المجاز (٢٩٦) الفقيه أبو زيد عبد الرحمن بن القاضي أبي العبّاس ابن خلوف ، ومن أهل القصر الكبير (٢٩٧) الفقيه أبو محمد بن مسلم وأبو اسحاق ابراهيم بن يحيى وولده.

ووصل في تلك السنة الامير سيف الدين تقزدمور من الخاصّكية (٢٩٨) ، والأمير

__________________

(٢٩٤) نجم الدين عبد الرحمن بن يوسف بن ابراهيم بن علي تفقه على البهاء القفطى وبرع في الفقه حج مرارا وجاور واتّفق أنه مات بمنى في ١٣ ذي الحجة سنة ٧٥٠ ١٣٥٠.

(٢٩٥) هو محمد بن عقيل بن أبي الحسن البالسى المصري ولد ٦٦٠ ـ ١٢٦٢ وتوفي ٧٢٩ ١٣٢٩ سمع من ابن دقيق العيد وكان نائبا لقاضي الجماعة بالقاهرة انتفع به طلبة مصر ، أما ولده عمر الذي توفي سنة ٧٣١ ١٣٣١ فقد كان أستاذا باحدى المدارس وأخوه علي هو الذي عوضه في هذا الوظيف ... الدرر ٤ ، ص ١٦٩.

(٢٩٦) قصر المجاز هو قصر مصمودة لا يبعد عن طنجة ، تقابله جزيرة طريف من الأندلس ، أسسه أمير مصمودة أيام ولاية طارق بن زياد ومنه كان الجواز عام تسعين ، ومنه كان يتم غالبا عبور الجيش المغربي إلى الأندلس ، باعتباره أقرب نقطة ، وهو المسمى أيضا بالقصر الصغير. ـ ابن صاحب الصلاة : المن بالامامة ، تحقيق د. التازي ، طبعة ثالثة ، بيروت ١٩٨٧ ص ١٢٨ ـ تعليق رقم ١.

(٢٩٧) القصر الكبير يقع جنوب طنجة وربما سمي قصر كتامة أو قصر صنهاجة أو قصر عبد الكريم المن بالإمامة ـ المصدر السابق : ص ٢٣٢ تعليق ١.

(٢٩٨) تقزدمور يرسمها ابن حجر في الدرر هكذا : (طقزتمر) قدّمه الناصر وأمّره وزوج ابنتيه لولديه المنصور والصالح .. وقد أكدت أخبار حج هذا الأمير عام ٧٢٨ ١٣٢٨ من قبل المصادر المصرية ، وقد جاءت هذه الحجة بعد ثلاث سنوات من إرسال جماعة من البنائين إلى مكة بأمر من سلطان مصر حيث أجريت بها عين ماء وهي المعروفة بعين بازان أدركه أجله بمصر في جمادى الأخيرة ٧٤٦ ١٣٤٨. ـ ابن إياس : بدائع الزهور ، ص ٤٥٧ ـ الدرر الكامنة ٢ ، ٣٢٦.

٨٩

موسى بن قرمان (٢٩٩) ، والقاضي فخر الدين ناظر (٣٠٠) الجيش كاتب المماليك ، والتاج اسحاق ، والسّت حدق مربية (٣٠١) الملك الناصر ، وكانت لهم صدقات عميمة بالحرم الشريف واكثرهم صدقة القاضي فخر الدين.

وكانت وقفتنا في تلك السنة في يوم الجمعة من عام ثمانية وعشرين (٣٠٢) ، وفي هذه السنة وصل أحمد بن الأمير رميثة (٣٠٣) ومبارك بن الأمير عطيفة (٣٠٤) من العراق صحبة الأمير محمد الحويح والشيخ زاده الحرباويّ ، والشيخ دانيال (٣٠٥) ، وأتوا بصدقات عظيمة للمجاورين وأهل مكّة، من قبل السلطان أبي سعيد ملك العراق ، وفي تلك السنة ذكر اسمه في الخطبة بعد ذكر الملك الناصر ودعوا له بأعلى قبّة زمزم وذكروا بعده سلطان اليمن الملك المجاهد نور الدين (٣٠٦) ، ولم يوافق الامير عطيفة على ذلك ، وبعث شقيقه منصورا ليعلم الملك الناصر بذلك ، فأمر رميثة بردّه فردّ ، فبعثه ثانية على طريق جدّة حتى أعلم الملك الناصر بذلك ، ووقفنا تلك السنة وهي سنة تسع وعشرين يوم الثلاثاء (٣٠٧).

__________________

(٢٩٩) بهاء الدين موسى أخو بدر الدين محمود ، سلطان إمارة قرمان ٧٠٠ ـ ٧٠٨ ١٣٠٠ ـ ١٣٠٨ الذي عوض في وسط آسيا الصغرى سلاجقة أنطاكية.

(٣٠٠) هو عبد الله بن محمد بن عبد العظيم بن علي ، فخر الدين أبو محمد بن السقطي ابن أخي القاضي جمال الدين ، كان شاهدا بالخزانة وتشهد على العمارة بمكة عام ٧٢٨. أدركه أجله بالقاهرة يوم ١٨ رمضان سنة ٧٣٣ ١٣٣٣ الدرر ٢ ، ٤٠١.

(٣٠١) ظل حج الست حدق القهرمانية الناصرية حديث المجالس ومثلا يروي ردحا من الزمان بسبب العطاءات التي أغدقت بها على الناس في البقاع المقدسة ، وقد عمرت جامعا بظاهر القاهرة وتوفيت وهي بكر عذراء. صودرت مرة أيام الصالح صالح بن التنكزية ثم أفرج لها عن موجودها وكان شيئا كثيرا .. ـ ابن حجر : الدرر الكامنة ٢ ص ٨٧ ـ ٨٨.

(٣٠٢) كان ذلك يوافق الجمعة ١٤ أكتوبر ١٣٢٨.

(٣٠٣) الأمير رميثة بن أبي نمى محمد بن أبي سعد حسن بن علي بن قتادة الحسني ولي أمرة مكة مع أخيه حميضة، توفي بمكة عام ٧٤٦ ١٣٤٦ ... ـ الدرر ٢ ، ٢٠٤.

(٣٠٤) الأمير عطيفة بن محمد بن حسن بن علي بن قتاده الحسني توفي بالإسكندرية عام ٧٤٣ ١٣٤٢ حيث كان مع ولده مبارك وللأميرين الشريفين أخبار مع الملك الناصر تراجع في مظانّها ـ الدرر الكامنة ج ٣ ، ص ٧٠.

(٣٠٥) دانيال بن علي بن يحيى اللوريستاني كان من ابرز شيوخ أهل فارس بمكة وكان أميرا على البعثة التي عهد اليها الجوبان بترميم واصلاح مجاري الماء التي كانت السيدة زبيدة قد انشأتها بمكة المكرمة ... أما عن الأمير محمد الحويح فقد تقدّم أنه البهلوان الذي رافقه ابن بطوطة أثناء سفره من مكة ج I ، ٤٠٤.

(٣٠٦) يلاحظ التنافس بين قادة المنطقة على أن تذكر أسماؤهم على منابر المسجد الحرام ، وهكذا نجد ذكر ملك مصر وملك العراق وملك اليمن في حين اختفى فيه اسم شريف مكة! الأمر الذي لم يوافق عليه عطيفة الذي وجدناه يقرر ارسال أخيه إلى الملك الناصر ليرفع الأمر أمامه لكن أخاه رميثة أمر برد الرسول بيد أن عطيفة أصرّ على ابلاغ الحادث إلى الملك الناصر عن طريق جدّة ... هذا ومن الطريف أن نقرأ أن حجاج اليمن هذا العام عادوا يتحدثون بأن الوقفة كانت الجمعة! الخزرجي : العقود اللؤلؤية ج ٢ ، ص ٢١.

(٣٠٧) كان ذلك يوافق ثالث أكتوبر ١٣٢٩.

٩٠

ولمّا انقضى الحجّ أقمت مجاورا بمكّة حرسها الله سنة ثلاثين ، وفي موسمها وقعت الفتنة بين أمير مكّة عطيفة وبين ايدمور أمير جندار الناصريّ (٣٠٨) وسبب ذلك أنّ تجارا من أهل اليمن سرقوا ، فتشكّوا إلى أيد مور بذلك ، فقال ايدمور أمير لمبارك بن الامير عطيفة أيت بهؤلاء السرّاق! فقال : لا أعرفهم فكيف نأتي بهم؟ وبعد فأهل اليمن تحت حكمنا ، ولا حكم عليهم لك ، إن سرق لأهل مصر والشام شيء فاطلبني به ، فشتمه أيدمور وقال له : يا قوّاد! تقول لي هكذا! وضربه على صدره ، فسقط ووقعت عمامته عن رأسه ، وغضب له عبيده ، وركب أيدمور يريد عسكره ، فلحقه مبارك وعبيده فقتلوه وقتلوا ولده ، ووقعت الفتنة بالحرم ، وكان به أمير أحمد ابن عمّ الملك الناصر.

ورمى الترك بالنشّاب فقتلوا امرأة قيل إنها كانت تحرّض أهل مكّة على القتال ، وركب من بالركب من الأتراك واميرهم خاصّ ترك ، فخرج إليهم القاضي والأئمة والمجاورون وفوق رؤوسهم المصاحف وحاولوا الصلح ودخل الحجّاج مكّة فأخذوا مالهم بها ، وانصرفوا إلى مصر.

وبلغ الخبر إلى الملك الناصر فشقّ عليه وبعث العساكر إلى مكّة ففرّ الأمير عطيفة وابنه مبارك وخرج أخوه رميثة وأولاده إلى وادي نخلة فلما وصل العسكر إلى مكّة بعث الامير رميثة أحد أولاده يطلب له الأمان ولولده فأمنوا وأتى رميثة وكفنه في يده إلى الامير فخلع عليه ، وسلّمت إليه مكّة وعاد العسكر إلى مصر. وكان الملك الناصر رحمه‌الله حليما فاضلا.

__________________

(٣٠٨) هذا هو سيف الدّين الذي يرسم عند ابن حجر هكذا الدّمر ، أحد الأمراء بالقاهرة في أيام الناصر وكان أمير جندارا وحج بالناس كما يؤكد ابن حجر فشارت بمنى فتنة قتل فيها هو وولده خليل في يوم عيد النحر ٧٣٠. ومن العجب أن الناس تحدثوا في القاهرة بما جرى له يوم العيد ، وحسب المقريزي فإن أصل الخلاف يكمن في الأوامر التي اعطيت سرا من الملك الناصر إلى الأمير عطيفة والتي تقتضي تصفية رئيس القافلة العراقية الذي ينتسب لتبريز ويسمّى المثمن محمد الحجيج الذي يعتقد گيب أنه هو نفسه الذي يحمل عند ابن بطوطة اسم محمد الحويح والذي تردد ذكره. راجع التعليق السابق رقم ٣٠٥.

(٣٠٩) حسب مصادر تاريخ المماليك فإن هذه التجريدة العسكرية غادرت القاهرة في منتصف صفر ٧٣١ أواخر نونبر ١٣٣٠ ، وهكذا فإنها وصلت إلى مكة بعد ذهاب ابن بطوطة ... ـ الدرر ١ ، ٤٥٢ ـ ٤٥٣.

٩١
٩٢

الفصل السادس

بين المحيط الهندي

والخليج الفارسي

مغادرة جدّة في اتجاه اليمن

من جزيرة سواكن إلى مدينة حلي

في زبيد عاصمة الجمال والكمال

التقاليد بين الهند واليمن

صهاريج عدن التاريخية

إلى زيلع ومقدشو ـ جزيرة منبسي ـ كلوا

حضر موت ـ وشبه سكان المنطقة بصنهاجة المغاربة

عمان الكبرى ـ بين قلهات وهرمز ...

مغاصات اللؤلؤ وبلاد البحرين

من البحرين إلى القطيف

أداؤه مناسك الحج لعام ٧٣٢

٩٣
٩٤

٩٥
٩٦

[جنوب الجزيرة ـ شرق افريقيا ـ الخليج]

فخرجت في تلك الأيّام من مكّة شرفها الله تعالى قاصدا بلاد اليمن فوصلت إلى حدّة (١) ، بالحاء المهمل المفتوح ، وهي نصف الطريف ما بين مكّة وجدّة بالجيم المضموم ، ثمّ وصلت إلى جدّة (٢) وهي بلدة قديمة على ساحل البحر يقال إنها من عمارة (٣) الفرس وبخارجها مصانع قديمة وبها جباب للماء منقورة في الحجر الصلد ، يتّصل بعضها ببعض تفوت الإحصاء كثرة (٤) وكانت هذه السنة قليلة المطر وكان الماء يجلب إلى جدّة على مسيرة يوم وكان الحجّاج يسألون الماء من أصحاب البيوت.

حكاية [الأعمى والخاتم]

ومن غريب ما اتّفق لي بجدّة انّه وقف على بابي سائل أعمى يطلب الماء يقوده غلام فسلّم عليّ وسمّاني باسمي وأخذ بيدي ولم أكن عرفته قطّ ولا عرفني ، فعجبت من شأنه ثم أمسك إصبعي بيده ، وقال اين الفتخة؟ وهي الخاتم ، وكنت حين خروجي من مكّة قد لقيني بعض الفقراء وسألني ، ولم يكن عندي في ذلك الحين شيء ، فدفعت له خاتمي ، فلما سألني عنه

__________________

(١) حدة أو حدّاء كما يقول ياقوت : واد فيه حصن ونخل بين مكة وجدة على بعد ١٨ ميلا غرب مكة ، ما يسمى اليوم بوادي فاطمة. ويذكر ابن المجاور أنها إنما عرفت حدة بهذا الاسم لأنها اخر حدود وادي نخلة ... كانت تحت ملك الأشراف إلى عام ٦٢٢ حيث ملك الأمير طنبغا الملك الكامل ولاية الحجاز وملك نخل الأشراف ... وكان الأمير يوقف في الموضع رتبة خيل يجيزون القوافل في الطرق وكان لهم على كلّ حمل دينار علوية ... ـ ابن المجاور : صفة اليمن ومكة وبعض الحجاز المسمّاة تاريخ المستبصر. تصحيح أوسكار لوفكرين O.Lofgren الطبعة الثانية ١٤٠٧ ـ ١٩٨٦ ص ٤٢ منشورات المدينة.

(٢) يقول ناصر خسرو علوي عن جدّة التي زارها في جمادى الثانية ٤٤٢ أكتوبر ١٠٥٠ : إنها مدينة كبيرة لها سور حصين وبها خمسة آلاف رجل ، وليس بخارجها عمارات أبدا عدا مسجدها الجامع المعروف بمسجد رسول الله ، ولها بابان أحدهما شرقي يؤدي لمكة والثاني غربي يؤدي للبحر ... وليس بجدة شجر ولا زرع وبينها وبين مكة اثنا عشر فرسخا ، وأمير جدة تابع لأمير مكة تاج المعالي ابن أبي الفتوح الذي هو أمير المدينة أيضا ، وقد كتب إلى أمير مكة يقول عن خسرو : هذا رجل عالم لا يجوز أن يوخذ منه شيء ..."!

ويروي الهروي (ت ٦١١) في كتابه (الإشارات) أن حواء هبطت بجدة ..." ويصفها ابن جبير بأنها قرية وأنها تحتوي على أثار تدل على أنها مدينة قديمة ، ويذكر ياقوت (ت ٦٢٦) أنها على ساحل بحر اليمن وأنها فرضة مكة ، ويؤدى عنها ابن المجاور وصفا جيّدا وتاريخا حافلا ص ٤٣ ـ ٤٥ راويا أنه لما خربت سيراف انتقل أهلها إلى سواحل البحر فسكنوا جدة واداروا عليها السور ...

(٣) يتحدث المؤرخ يوسف ابن المجاور (ت ٦٩٠ ١٢٩١) في مؤلفه" تاريخ المستبصر" عن احتلال جدة من قبل الفرس بعد خراب سيراف عام ٦٣٣ ٩٧٧ في أعقاب زلزال ـ راجع التعليق السابق.

(٤) ابن بطوطة يقتبس هنا كذلك من رحلة ابن جبير الذي يتحدث عن" الجباب المنقورة في الحجر الصّلد ..." ويقدم لنا ابن المجاور هنا لائحة بأعداد الجباب.

٩٧

هذا الأعمى قلت له أعطيته لفقير ، فقال : ارجع في طلبه فإنّ فيه أسماء مكتوبة فيها سرّ من الأسرار ، فطال تعجّبي منه ومن معرفته بذلك كلّه ، والله أعلم بحاله.

وبجدّه جامع يعرف بجامع الآبنوس (٥) معروف البركة يستجاب فيه الدعاء ، وكان الامير بها أبا يعقوب بن عبد الرزّاق وقاضيها وخطيبها الفقيه عبد الله من أهل مكّة شافعيّ المذهب ، وإذا كان يوم الجمعة واجتمع الناس للصلاة أتى المؤذّن وعدّ أهل جدّة المقيمين بها ، فإن كملوا أربعين خطب وصلّى بهم الجمعة وان لم يبلغ عددهم أربعين صلّى ظهرا أربعا ، ولا يعتبر من ليس من أهلها وان كانوا عددا كثيرا (٦).

ثم ركبنا من جدّة في مركب يسمّونه الجلبة (٧) وكان لرشيد الدين الألفي اليمنيّ الحبشيّ الأصل ، وركب الشريف منصور بن أبى نمّى (٨) في جلبة أخرى ورغب منّي أن أكون معه فلم أفعل لكونه كان معه في جلبته الجمال فخفت من ذلك ، ولم أكن ركبت البحر قبلها وكان هنالك جملة من أهل اليمن قد جعلوا ازوادهم وامتعتهم في الجلب وهم متأهبون للسفر.

حكاية [الدّراهم المخبوءة بالعديلة]

ولمّا ركبنا البحر أمر الشريف منصور أحد غلمانه أن يأتيه بعديلة دقيق ، وهي نصف حمل ، وبطّة سمن يأخذهما من جلب أهل اليمن ، فأخذهما وأتى بهما إليه فأتاني التّجار باكين ، وذكروا لي أن في جوف تلك العديلة عشرة الاف درهم نقرة ، ورغبوا منّي أن أكلّمه في ردّها وأن يأخذ سواها ، فأتيته وكلّمته في ذلك وقلت له : إنّ للتجار في جوف هذه العديلة شيئا ، فقال : إن كان سكرا فلا أردّه اليهم ، وان كان سوى ذلك فهو لهم ، ففتحوها فوجدوا

__________________

(٥) يقول ابن جبير : " وفيها مسجد مبارك منسوب إلى عمر ابن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، ومسجد آخر له ساريتان من خشب الآبنوس ينسب أيضا إليه ومنهم من ينسبه إلى هرون الرشيد." الرحلة ص ٤٧.

(٦) حسب المذهب الشافعي نجد أن صلاة الجمعة لا تتم إلا إذا حضرها أربعون شخصا على الأقل ويفهم من هذا أن سكان جدة كانوا قلّة على ذلك العهد.

(٧) الجلبة تجمع على جلب ، نوع من المراكب وقد عرّف بها ابن جبير فذكر" أنها ملفقة الإنشاء لا يستعمل فيها مسمار البتة ، وانما هي مخيطة بأمراس من القنبار وهو قشر جوز النارجيل يدرسونه إلى أن يتخيّط ويفتلون منه أمراسا يخيطون بها المراكب ويخللونها بدسر من عيدان النخل ... ومن أعجب أمر هذه الجلاب أن شرعها منسوجة من خوص المقل فمجموعها متناسب في اختلال البنية ووهنها"!! تراجع (المراكب العربية) لحسن صالح شهاب (مصدر سابق).

(٨) حول أسرة أبى نمى المنحدرة من الأشراف القتاديين الذي كانوا يحكمون مكة منذ ٢٧ رجب ٥٩٨ ٢٣ أبريل ١٢٠٢ ، أنظر تعليقنا عند الزيارة الأولى لابن بطوطة للحرم الشريف. ج I ص ٣٤٤.

٩٨

٩٩

الدراهم فردّها عليهم ، وقال لي : لو كان عجلان ما ردّها ، وعجلان هو ابن أخيه رميثة ، وكان قد دخل في تلك الأيام دار تاجر من أهل دمشق قاصدا لليمن فذهب بمعظم ما كان فيها ، وعجلان هو أمير مكّة على هذا العهد ، وقد صلح حاله واظهر العدل والفضل.

ثم سافرنا في هذا البحر بالرّيح الطّيبة يومين وتغيّرت الرّيح بعد ذالك وصدّتنا عن السبيل التي قصدناها ودخلت أمواج البحر معنا في المركب واشتدّ الميد بالناس ولم نزل في أهوال حتى خرجنا في مرسى يعرف برأس دوائر ، فيما بين عيذاب وسواكن (٩) ، فنزلنا به ووجدانا بساحله عريش قصب على هيئة مسجد ، وفيه كثير من قشور بيض النّعام مملوّة ماء فشربنا منه وطبخنا.

ورأيت بذلك المرسى عجبا وهو خور مثل الوادي يخرج من البحر ، فكان الناس يأخذون الثوب ويمسكون بأطرافه ويخرجون به وقد امتلأ سمكا. كلّ سمكة منها قدر الذراع ويعرفونه بالبوريّ، فطبخ منه الناس كثيرا واشتووا وقصدت إلينا طائفة من البجاة ، وهم سكّان تلك الأرض سود الألوان لباسهم الملاحف الصفر ويشدّون على رءوسهم عصائب حمرا في عرض الإصبع (١٠) ، وهم أهل نجدة وشجاعة وسلاحهم الرّماح والسيوف ولهم جمال يسمونها الصّهب يركبونها بالسروج ، فاكترينا منهم الجمال وسافرنا معهم في برّيّة كثيرة الغزلان ، والبجاة لا يأكلونها فهي تأنس بالآدميّ ولا تنفر منه.

وبعد يومين من مسيرنا وصلنا إلى حيّ من العرب يعرفون بأولاد كاهل مختلطين بالبجاة عارفين بلسانهم ، وفي ذلك اليوم وصلنا إلى جزيرة سواكن وهي على نحو ستّة اميال من البرّ (١١) ولا ماء بها ولا زرع ولا شجر ، والماء يجلب اليها في القوارب ، وفيها صهاريج يجتمع بها ماء المطر وهي جزيرة كبيرة وبها لحوم النّعام والغزلان وحمر الوحش ، والمعزى

__________________

(٩) حيث إن هذا الموقع : (رأس دوائر) كان فقط على بعد مسافة يومين فمن الممكن أن يكون هو مرسى درور (DARUR) على خط ٥٠ ، ١٩ شمالا ، على بعد ٤٣ ميلا من سواكن ، هكذا يقول گيب ويرى موني وجماعته أن رأس دوائر اليوم هو رأس أبو شگرة ...

R. MAUNY ـ V. Monteil, DJENIDI, Robert, et Devisse : Textes et Documents relatifs a l\'histoire de l\'AFRIQUE, Extraits tires des voyages d\'LBN Battuta ـ Universite de DAKAR ٦٦٩١ p. ٠٢ Note ٣.

(١٠) يكرّر ابن بطوطة هنا ما قاله بالحرف عن البجاة سابقا ـ وانظر حولهم كذلك : سفرنامه تأليف خسرو : صفحة ١٣٤ ـ الكواهل يقولون : إنهم أبناء كاهل ابن أسد بن خزيمة بن مدركة ... ابن عدنان ...

(١١) يوجد هذا الميناء (سواكن) جنوب عيذاب ، وقد اكتسب أهميته بعد أن خربت عيذاب في القرن التاسع الهجري وقد كانت المنطقة محكومة من قبل الحدربي كما سلف له القول ...

أنظر التعليق ٩ ـ Leon l\'Africain : Descrip ـ ـ de l\'Afrique II, P ٤٨٤ ـ MAUNY : Textes

١٠٠