رحلة ابن بطوطة - ج ٢

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ٢

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-008-7
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٢٦٨

١
٢

الفصل الخامس

العراق وفارس

(عراق العرب وعراق العجم)

النّجف الأشرف

من النّجف إلى البصرة حيث يبتدئ المجلد الثاني

من البصرة إلى إصفهان

مدينة إصفهان والخروج إلى شيراز

مدينة شيراز

من شيراز إلى بغداد

مدينة بغداد

رحلة إلى تبريز عاصمة سلطنة عراق العرب والعجم

حجّة أخرى ومجاورته ثم حجّه مرة ثالثة

٣

 

٤

٥
٦

نحو مدينة البصرة

ولمّا تحصّلت لنا زيارة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، سافر الركب إلى بغداد ، وسافرت إلى البصرة صحبة رفقة كبيرة من عرب خفاجة (١٨) ، وهم أهل تلك البلاد ، ولهم شوكة عظيمة وبأس شديد ، ولا سبيل للسفر في تلك الأقطار إلّا في صحبتهم ، فاكتريت جملا على يد أمير تلك القافلة شامر بن درّاج الخفاجيّ وخرجنا من مشهد عليّ عليه‌السلام فنزلنا الخورنق موضع سكنى النعمان ابن المنذر (١٩) وابائه من ملوك بني ماء السماء ، وبه عمارة وبقايا قباب ضخمة ، في فضاء فسيح على نهر يخرج من الفرات ، ثم رحلنا عنه فنزلنا موضعا بقائم (٢٠) الواثق ، وبه أثر قرية خربة ومسجد خرب لم يبق منه إلا صومعته ، ثم رحلنا عنه اخذين مع جانب الفرات بالموضع المعروف بالعذار ، وهو غابة قصب في وسط الماء (٢١) يسكنها أعراب يعرفون بالمعادي ، وهم قطّاع الطريق، رافضيّة المذهب خرجوا على جماعة من الفقراء تأخروا عن رفقتنا فسلبوهم حتّى النّعال والكشاكيل(٢٢) ، وهم يتحصّنون بتلك الغابة ويمتنعون بها ممّن يريدهم ، والسباع بها كثيرة ، ورحلنا مع هذا العذار ثلاث مراحل ثم وصلنا مدينة واسط.

مدينة واسط

مدينة واسط وهي حسنة الأقطار ، كثيرة البساتين والأشجار ، بها أعلام يهدي الخير شاهدهم وتهدى الاعتبار مشاهدهم (٢٣) ، وأهلها من خيار أهل العراق ، بل هم خير على

__________________

(١٨) بنو خفاجة ، فرع من القبيلة الشهيرة عقيل بن كعب هاجر إلى ناحية الكوفة في أوائل القرن الخامس الهجري القرن العاشر الميلادي ، معجم قبائل العرب لكحالة.

(١٩) الخورنق كان قصرا شهيرا قبل ظهور الإسلام يقع على بعد كيلوميتر ونصف من النجف ، وكان منسوبا لملوك الحيرة وخاصة منهم النّعمان بن امرئ القيس أمير الحيرة من قبل ملك الفرس المتوفى سنة ١٩٨ ق. ه ٤٣١ ميلادية ، وهو الذي بنى أيضا قصر" السدير" وليس النعمان بن المنذر المتوفى سنة ١٥ ق. ه ـ ٦٠٨. وبعد أن استعمل كمقر إقامة للحكام العرب في الكوفة ، اختفت اثاره نهائيا ، ويظهر أن حديث ابن بطوطة هذا عن الخورنق كان اخر إشعار بوجود معالم هذا القصر الذي طبّقت شهرته الآفاق.

(٢٠) هو المكان الذي يسمى إلى الآن بالقائم ...

(٢١) إقليم يقع جنوب الجمهورية العراقية اليوم وهو مغطّى بمستنقع يتوزع فيه نهر الفرات ، في ضفة جميلة جدّا بمناظرها الرائعة المتنوّعة وتعرف تحت اسم (الجبايش) و (الأهوار) وقد زرتها على متن زورق خاص بمناسبة زيارتي لبغداد في نونبر ١٩٨١ بمناسبة مشاركتي في مؤتمر وزراء الثقافة العرب ببغداد ، وإن الذين يعرفون عن وجود واسط على بعد ١١٥ ميلا شرقي النّجف. ويقرءون مع هذا عن حديثه عن غابة القصب قبل أن يصل إلى واسط ... إن الذين يعرفون ذلك يدركون اضطراب الوصف ...

(٢٢) الكشاكل جمع كشكول : آنية للشرب يتخذها الفقراء أثناء تنقلاتهم ، ويجمعون فيها أيضا ما يجود به الناس عليهم. وما يزال التعبير معروفا بالمغرب : فلان نصب الكشكول : أي يحتاج إلى عطاء!!

(٢٣) واسط عمّرت من لدن الحجّاج بن يوسف الثقفي سنة ٨٤ ٧٠٣ عندما كان واليا على العراق ، تقع منتصف الطريق بين الكوفة والبصرة ، ومن هنا كان اسمها كذلك لأن منها إلى كل واحدة منهما خمسين فرسخا ... والحديث عن انها مركز علم وفكر متجدد ودائم ... ـ معجم البلدان

FU\'AD SAFAR : Wasit ,Baghdad ٥٤٩١

٧

٨

الإطلاق ، أكثرهم يحفظون القرآن الكريم ويجيدون تجويده بالقراءة الصحيحة واليهم ياتي أهل بلاد العراق برسم تعلّم ذالك.

وكان في القافلة التي وصلنا فيها جماعة من الناس أتوا برسم تجويد القرآن على من بها من الشيوخ ، وبها مدرسة عظيمة حافلة فيها نحو ثلاث مائة خلوة ينزلها الغرباء القادمون لتعلّم القرآن ، عمّرها الشيخ تقيّ الدين بن عبد المحسن الواسطيّ (٢٤) ، وهو من كبار أهلها وفقهائها ويعطي لكلّ متعلّم بها كسوة في السنة ويجرى له نفقته في كلّ يوم ويقعد هو واخوانه وأصحابه لتعليم القرآن بالمدرسة ، وقد لقيته وأضافني وزوّدني تمرا ودراهم ، ولمّا نزلنا مدينة واسط أقامت القافلة ثلاثا بخارجها للتجارة فسنح لي زيارة قبر الوليّ أبي العباس أحمد الرفاعيّ (٢٥) ، وهو بقرية تعرف بأم عبيدة (٢٦) على مسيرة يوم من واسط ، فطلبت من الشيخ تقي الدين أن يبعث معي من يوصلني إليها فبعث معي ثلاثة من عرب بني أسد (٢٧) ، وهم قطّان تلك الجهة ، وأركبني فرسا له وخرجت ظهرا فبتّ تلك الليلة بحوش بني أسد ، ووصلنا في ظهر اليوم الثاني إلى الرّواق ، وهو رباط عظيم فيه آلاف من الفقراء وصادفنا به قدوم الشيخ أحمد كوجك حفيد (٢٨) وليّ الله أبي العبّاس الرفاعي الذي قصدنا زيارته ، وقد قدم من موضع سكناه من بلاد الروم برسم زيارة قبر جدّه واليه انتهت الشياخة بالرّواق ، ولمّا انقضت صلاة العصر ضربت الطبول والدفوف وأخذ الفقراء في الرقص ثم صلّوا المغرب وقدّموا السّماط ، وهو خبز الأرز والسمك والتمر فأكل النّاس ثم صلّوا العشاء الآخرة وأخذوا في الذكر والشيخ أحمد قاعد على سجّادة جدّه المذكور ، ثم أخذوا في السماع وقد أعدّوا احمالا من الحطب فأجّجوها نارا ودخلوا في وسطها يرقصون ، ومنهم من يتمرّغ فيها ، ومنهم من يأكلها بفمه حتّى أطفأوها جميعا وهذا دأبهم وهذه الطايفة الأحمديّة (٢٩)

__________________

(٢٤) هو عبد الرحمن بن عبد المحسن المتوفى سنة ٧٤٣ ـ ٧٤٤ ١٣٤٣ ـ ١٣٤٤ وهو مؤلف ترجمة الشيخ الرفاعي.Gibb : The Travel TII ,P ٢٧٢ Note ٧

(٢٥) سلفت ترجمة الشيخ أحمد بن علي الرّفاعي المتوفى ٥٧٨ ١١٨٢ ج I ، ٢٢٣ تعليق ٢٤٨.

(٢٦) أم عبيدة أو عبيدة تقع على بعد خمسين ميلا جنوبا شرقي واسط ، وتسمّى في الخرائط اليوم الرفاعي.

(٢٧) بنو أسد من أشهر القبائل العربية التي أقامت بالعراق منذ الفتح الإسلامي للمنطقة.

(٢٨) كوجك (KOUCHUK) وتعني بالفارسية أو التركية الصّغير ، وهو ابن تاج الدين الذي يذكر على أنه أحد حفدة الشيخ أحمد لكن الذي عليه معظم المؤرخين من أمثال ابن خلّكان أن الشيخ الرفاعي لم يخلّف وان العقب لأخيه ... رقم ٢٤٨ ج I ص ٢٢٣.

(٢٩) كان اسم (الأحمدية) يطلق على هذه الطريقة بيد أنه ترك فيما بعد حتى لا يلتبس مع طريقة أخرى توجد بمصر تنسب للشيخ أحمد بدوي تحمل نفس الاسم.

٩

مخصوصة بهذا ، وفيهم من يأخذ الحيّة العظيمة فيعضّ بأسنانه على رأسها حتى يقطعه

حكاية [الرقص في النار]

كنت مرّة بموضع يقال له أفقانبور (٣٠) من عمالة هزار أمروها وبينها وبين دهلي : حضرة الهند مسيرة خمس ، وقد نزلنا بها على نهر يعرف بنهر السّرو (٣١) ، وذلك في أوان الشّكال (٣٢) ، والشكال : عندهم هو المطر ، وينزل في ابّان القيظ ، وكان السّيل ينحدر في هذا النهر من جبال قراجيل (٣٣) ، فكلّ من يشرب منه من إنسان أو بهيمة يموت لنزول المطر على الحشائش المسمومة، فأقمنا على النهر أربعة أيام لا يقربه أحد ، ووصل إليّ هنالك جماعة من الفقراء في أعناقهم أطواق الحديد وفي أيديهم ، وكبيرهم رجل أسود حالك اللون ، وهم من الطايفة المعروفة بالحيدريّة(٣٤) ، فباتوا عندنا ليلة وطلب منّي كبيرهم أن اتيه بالحطب ليوقده عند رقصهم ، فكلّفت والي تلك الجهة وهو عزيز المعروف بالخمّار ، وسياتي ذكره ، أن يأتي بالحطب فوجّه منه نحو عشرة أحمال ، فأضرموا فيه النار بعد صلاة العشاء الآخرة حتّى صارت جمرا وأخذوا في السماع ثمّ دخلوا في تلك النار فما زالوا يرقصون ويتمرغون فيها ، وطلب منّي كبيرهم قميصا فأعطيته قميصا في النهاية من الرقّة فلبسه وجعل يتمرّغ به في النار ويضربها بأكمامه حتّى طفئت تلك النار وخمدت وجاء إليّ بالقميص والنّار لم تؤثر فيه شيئا البتّة ، فطال عجبي منه!

__________________

(٣٠) أفقانبور تحمل اليوم اسم أغوابور (AGHWAPUR) على بعد خمسة أميال ونصف جنوب شرقي تغلق أبادTughiuqabad ، احدى المدن الأربعة لدهلى ، يمكن أن تكون هي الموقع المتحدث عنه الآن ، وسيتحدث ابن بطوطة في السفر الثاني عن عمالة (امروها) التي نفذ له الوزير فيها باقي الغلة المامور بها للزاوية كما سنرى في ج III ص ٤٣٧.

(٣١) يتعلق الأمر بالمجرى العالي لنهر الكانج على ما سياتي ، ونهر السّرو هو المعروف اليوم بسرجوSarju هذا وينبغي التنبيه على أن النسخة المطبوعة بباريز ترسم خطا (السرور) عوض السرو الموجود في كل النسخ المعتمدة، وعلى العادة فإن معظم الذين اعتمدوا على النسخة الباريزية اثبتوا السرور عوض السرو ...!

(٣٢) الكلمة من أصل سنسكريتي (Varchakala) : فصل الريح ، وردت عند البيروتي تحت اسم برشكال الموسمية (Moussons).

(٣٣) جبال قراجيل KARA ـ JIL هو الذي يطلق من قبل العرب والفرس على جبال الهيمالايا (Himalaya)

(٣٤) طائفة صوفية تنسب للمؤسس قطب الدين حيدر ، وهي قريبة من الطريقة القلندرية ، ينتسب قطب الدّين لمدينة زاوة اتية الذكر (ج III ، ٧٩) ويقال في النسبة اليها الزاوهي ، انظر في معجم البلدان اسماء بعض العلماء الذين ينتسبون اليها.

١٠

ولمّا حصلت لي زيارة الشيخ أبى العباس الرفاعي نفع الله به عدت إلى مدينة واسط فوجدت الرفقة التي كنت فيها قد رحلت فلحقتها في الطريق ونزلنا ماء يعرف بالهضيب ، ثم رحلنا ونزلنا بوادي الكراع وليس به ماء ثم رحلنا ونزلنا موضعا يعرف بالمشيرب (٣٥) ، ثم رحلنا منه ونزلنا بالقرب من البصرة ثم رحلنا فدخلنا ضحوة النهار إلى مدينة البصرة (٣٦).

مدينة البصرة

فنزلنا بها رباط مالك بن دينار (٣٧) ، وكنت رأيت عند قدومي عليها على نحو ميلين منها بناء عالّما مثل الحصن ، فسألت عنه فقيل لي هو مسجد علي بن أبي طالب (٣٨) رضي‌الله‌عنه ، وكانت البصرة من اتّساع الخطّة ، وانفساح الساحة ، بحيث كان هذا المسجد في وسطها ، وبينه الآن وبينها ميلان ، وكذلك بينه وبين السور الأول المحيط بها نحو ذلك فهو متوسّط بينهما.

ومدينة البصرة إحدى امّهات العراق ، الشهيرة الذكر في الآفاق ، الفسيحة الأرجاء ، المؤنقة الأفناء ، ذات البساتين الكثيرة والفواكه الأثيرة ، توفّر قسمها من النضارة والخصب ، لما كانت مجمع البحرين : الأجاج والعذب (٣٩) ، وليس في الدنيا أكثر نخلا منها فيباع التمر في

__________________

(٣٥) لم نقف على تحديد لهذه المراحل الثلاثة : الهضيب ، وادي الكراع ، المشيرب ... وقد حاولنا عبثا أن نجد لها أثرا في الخرائط التي نتوفر عليها ... وقد قدم لنا مستوفي اسم المحطات العادية بين واسط والبصرة.

(٣٦) موقع مدينة البصرة التي انشئت عام ١٧ ٦٣٩ أيام الخليفة عمر ابن الخطاب ترك في القرن السادس الهجري الثاني عشر الميلادي ، وتمّ الاتجاه نحو موقع آخر يوجد على بعد خمس كيلوميترات في الغرب ، وفي مكان البصرة القديمة توجد اليوم مدينة الزّبير وقد قام البروفيسور ماسينيبون بدراسة لموقع البصرةL. Massignon : Explication du Plan de BASRA, Wiesbaden ٦٥٩١ : ٤٥٩١

(٣٧) مالك بن دينار يعتبر من أصحاب الحسن البصري يكنى أبا يحيى كان مثلا في الورع ، يأكل من كسبه ويكتب المصاحف بالأجرة ، قال عنه فريد الدين العطار إنه أمير الرجال ... وإنه رحالة في طرق الحقيقة ... أدركه أجله عام ١٧٣ ٧٤٨. ومن المفيد أن أنبّه هنا إلى الخطأ الذي وقع فيه الشيخ أحمد عز الدّين المعبري المليباري في كتابه (تحفة المجاهدين في احوال البرتغاليين) عندما خلط بين مالك بن دينار هذا وبين دينار مالك القائد الغزى المتوفى سنة ٥٩١ ه‍ ١١٩٥ والذي بنى عدة مساجد بالهند ...

تحفة المجاهدين تحقيق محمد سعيد الطريحى ، دائرة المعارف الهندية مؤسسة الوفاء ـ بيروت ـ لبنان ١٤٠٥ ١٩٨٥ ـ د. التازي : رسالة إلى الطّريحي ، مجلّة الموسم العدد ١٦ ـ ١٩٩٣ ص ٣٦٨ ـ

Ency.Islam (DINAR MALIK)

(٣٨) ينسب المؤرخون العرب المسجد الكبير الذي يوجد في البصرة إلى زياد بن أبيه حاكم البصرة في عهد الخليفة معاوية ، وحسبما يوجد في كتاب الاشارات للهروي فإن منارته ، كما قيل ـ وقبلته من عمارة علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ... الاشارات ، دمشق ١٩٥٣ تحقيق جانين سورديل ـ طومين ... هذا وتوجد هذه الأطلال شرقي المدينة العتيقة الزبير.

(٣٩) الإشارة إلى السورة ٢٥ ، الآية ٥٣.

١١

سوقها بحساب أربعة عشر رطلا عراقية بدرهم ، ودرهمهم ثلث النقرة ، ولقد بعث إليّ قاضيها حجّة الدين بقوصرة تمر يحملها الرجل على تكلّف ، فاردت بيعها فبيعت بتسعة دراهم أخذ الحمّال منها ثلثها عن أجرة حملها من المنزل إلى السوق! ويصنع بها من التمر عسل يسمّى السّيلان (٤٠) ، وهو طيّب كانّه الجلاب ، والبصرة ثلاث محلّات إحداها : محلّة هذيل ، وكبيرها الشيخ الفاضل علاء الدين بن الأثير من الكرماء الفضلاء ، أضافني وبعث اليّ بثياب ودراهم ، والمحلّة الثانية : محلّة بني حرام كبيرها السيّد الشريف مجد الدين موسى الحسنى ذو مكارم وفواضل أضافني وبعث اليّ التمر والسّيلان والدراهم ، والمحلّة الثالثة : محلّة العجم كبيرها جمال الدين بن اللّوكيّ (٤١).

وأهل البصرة لهم مكارم أخلاق وايناس للغريب وقيام بحقّه فلا يستوحش فيما بينهم غريب ، وهم يصلّون الجمعة في مسجد أمير المومنين علي رضي‌الله‌عنه الذي ذكرته ، ثم يسدّ فلا يأتونه إلا في الجمعة.

وهذا المسجد من أحسن المساجد ، وصحنه متناهي الانفساح مفروش بالحصباء الحمراء التي يوتي بها من وادي السباع (٤٢) ، وفيه المصحف الكريم الذي كان عثمان رضي‌الله‌عنه يقرأ فيه لمّا قتل(٤٣) ، وأثر تغيّر الدم في الورقة التي فيها قوله تعالى فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (٤٤).

__________________

(٤٠) استعمال كلمة السّيلان (أو السّيلان) بمعنى عسل التمر لم نجد له أصلا ، هذا وتعتبر المنطقة من أغنى المناطق في انتاج التمور ، كانت تعطى قديما زهاء ١٨٠ نوعا واليوم نحو ٩٨. وقد عشت ردحا من الزّمان مع أنواعها المتعددة والمتنوّعة وأنا بالعراق ـ القوصرة : وعاء من قصب يجعل فيه التمر ونحوه ...

(٤١) يتحدث ابن حوقل عن أنهار البصرة فيذكر أنها عدّت أيام بلال بن أبي بردة (ت ١٢٦ ٧٤٤) فزادت على مائة الف نهر وعشرين الف نهر ، تجري فيها الزوارق وكنت أنكر ما ذكر ... حتى رأيت كثيرا من تلك البقاع فرأيت في مقدار رمية سهم عدة من الأنهار صغارا تجري في جميعها المسماريّات (المخيطة بالمسامير ـ ذات ألواح ودسر) ، ولكل نهر اسم ينسب به إلى صاحبه الذي احتفره أو إلى الناحية التي ينصب منها أو ينصبّ ماؤه إليها ...! وفي تعليق لا حق عن المدينة قال المعلق : دخلتها سنة ٥٣٧ ١١٤٢ وقد خربت ولم يبق من آثارها إلا الأقل ، وطمست محالها فلم يبق منها إلا محالّ معلومة كالنحّاسين والقساميل وهذيل والمربد وقبر طلحة ، وقد بقى من محلة بيوت معدودة ، وباقي بيوتها إما خراب ، وأما غير مسكونة ، وجامعها باق في وسط الخراب كأنه سفينة في وسط بحر لجيّ ... وسورها القديم قد خرب ، وبينه وبين ما قد بقى من العمارة مسافة بعيدة ... وسبب خرابها ظلم الولاة والجور ..." وقد تميزت مخطوطة تونس بذكر اللّولي بدل اللوكي ، وقد يكون معنى اللولي المشتغل باللؤلؤ ... هذا وقد حفلت المخطوطة التونسية لابن بطوطة بطرّة مستقاة من شراح مقامات الحريري ومن الخريدة ...

(٤٢) وادي السباع قريب يقع شمال الزبير على بعد ستة أميال منه غير بعيد عن محطة شعيبة.

(٤٣) من المعلوم أن سيدنا عثمان قتل بالمدينة وهو يتلو القرآن عام ٣٥ ٦٥٦ ، هذا وتوجد عدة نسخ من مصاحف في ديار الإسلام تنسب لسيدنا عثمان على ما نعرف.

(٤٤) السورة ٢ ، الآية ١٣٧.

١٢

حكاية اعتبار

شهدت مرة بهذا المسجد صلاة الجمعة فلما قام الخطيب به إلى الخطبة وسردها لحن فيها لحنا كثيرا جليا فعجبت من أمره وذكرت ذلك للقاضي حجّة الدين فقال لي : إن هذا البلد لم يبق به من يعرف شيئا من علم النحو! وهذه عبرة لمن تفكّر فيها ، سبحان مغيّر الأشياء ومقلّب الأمور. هذه البصرة التي إلى أهلها انتهت رياسة النحو ، وفيها أصله وفرعه ، ومن أهلها إمامه (٤٥) الذي لا ينكر سبقه لا يقيم خطيبها خطبة الجمعة على دؤبه عليها.

ولهذا المسجد سبع صوامع إحداها الصومعة التي تتحرّك ، بزعمهم عند ذكر عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، صعدت إليها من أعلى سطح المسجد ومعي بعض أهل البصرة فوجدت في ركن من أركانها مقبض خشب مسمّرا فيها كأنه مقبض مملّسة البنّاء ، فجعل الرجل الذي كان معي يده في ذلك المقبض وقال : بحقّ رأس أمير المومنين عليّ رضي‌الله‌عنه ، تحرّكي! وهزّ المقبض ، فتحركت الصومعة ، فجعلت أنا يدي في المقبض وقلت له : وأنا أقول : بحقّ رأس أبي بكر خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تحرّكى! وهززت المقبض فتحركت الصومعة (٤٦)! فعجبوا من ذلك! وأهل البصرة على مذهب السنّة والجماعة ، ولا يخاف من يفعل مثل فعلي عندهم ، ولو جرى مثل هذا بمشهد عليّ أو مشهد الحسين أو بالحلّة أو بالبحرين أو قم أو قاشان أو ساوة أو آوه أو طوس لهلك فاعله! لأنّهم رافضة غالية.

قال ابن جزي : قد عاينت بمدينة برشانة (٤٧) من وادي المنصورة من بلاد الأندلس حاطها الله ، صومعة تهتزّ من غير أن يذكر لها أحد من الخلفاء أو سواهم ، وهي صومعة المسجد الأعظم بها ، وبناؤها ليس بالقديم ، وهي كأحسن ما أنت راء من الصوامع ، حسن

__________________

(٤٥) الحديث عن مدرسة البصرة وإمامها في النحو العلامة الفارسي سيبويه حديث سارت به الركبان منذ القرن الثاني للهجرة ، وهكذا فإن البصرة كانت قاعدة اللغة العربية (د. المختار ولد باه : تاريخ النحو ـ إيسيسكو ١٩٩٦ ، ص ٢٠٥) ومع ذلك فإن ما حكاه ابن بطوطة يتكرر عبر السنين والأحقاب ، قال في التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربية تعليقا على ملاحظة ابن بطوطة للحن خطيب الجمعة : وفي ذلك يقول الشيخ عثمان بن سند المالكي الشهير آخر فضلاء البصريين

قد كانت البصرة الفيحاء من قدم

مجرى لأبحر نحو تقذف الدررا

فأصبحت وهي صفراء الوشاح فلا

نحوى فيها سوى نزر وهم فقرا!!

(٤٦) وجد المهتمون بآثار إصفهان في عدم نص ابن بطوطة على المئذنة المتحركة (منار جنبان) دليلا على أنه أي المنار لم يكن موجودا أيام زيارة الرحالة المغربي للمدينة عام ٧٢٧ ١٣٢٧ سيما وأن ابن بطوطة لم يهمل الحديث عن المنار المتحرك في البصرة كما نرى ...

ـ د. التازي : إيران بين الأمس واليوم ، ص ٥٣ ، ١٩٨٤.

(٤٧) برشانة (Purchena) تقع بوادي المنصورة على بعد ٥٨ ك. م. شمال مدينة ألمرية. هذا ويلاحظ استعمال (الجامور) من لدن ابن جزي وقد سبق أن ج I ، ٣٠ تعليق ٧.

١٣

منظر واعتدالا وارتفاعا ، لا ميل فيها ولا زيغ صعدت اليها مرّة ومعي جماعة من الناس فأخذ بعض من كان معي بجوانب جامورها وهزّوها فاهتزّت حتّى أشرت اليهم أن يكفوا فكفوا عن هزّها! رجع.

ذكر المشاهد المباركة بالبصرة

فمنها مشهد طلحة بن عبيد الله أحد العشرة ، رضي‌الله‌عنهم ، وهو بداخل المدينة وعليه قبّة ومسجد وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر وأهل البصرة يعظّمونه تعظيما شديدا وحقّ له ، ومنها مشهد الزبير بن العوّام حوارّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وابن عمّته رضي‌الله‌عنهما وهو بخارج البصرة ولا قبّة عليه وله مسجد وزاوية فيها الطعام لابناء السبيل.

ومنها (٤٨) قبر حليمة السعديّة أمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الرّضاعة رضي‌الله‌عنها وإلى جانبها قبر ابنها رضيع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤٩) ، ومنها قبر أبي بكرة (٥٠) صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليه قبّة. وعلى ستّة أميال منها بقرب وادي السباع قبر آنس ابن مالك (٥١) خادم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا سبيل لزيارته إلا في جمع كثيف لكثرة السباع وعدم العمران.

ومنها قبر الحسن بن أبي الحسن البصريّ سيّد التابعين رضي‌الله‌عنه (٥٢) ومنها

__________________

(٤٨) طلحة والزبير كلاهما من صحابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد لقيا مصرعهما في (وقعة الجمل) التي جابهتهما ضد الإمام علي ، القبران يوجدان إلى الآن : فيما يتصل بطلحة فإنه قريب من المسجد ، وفيما يتصل بالزبير فإنه يوجد بالمربد على مقربة من المدينة التي تحمل اسم الزبير والتي تعرضت أثناء حرب الخليج (١٩٩١) إلى عمليات قصف متوالية ...

(٤٩) هذه معلومة يستأثر بها ابن بطوطة ، هذا وقد تعرض الهروي لمن توجد مقابرهم في الرقة من الأخوال التسعة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إخوة حليمة السعدية.

(٥٠) أبو بكرة هو نفيع بن الحارث بن كلدة الثقفي ، من أهل الطائف من أصل حبشي أدركه أجله عام ٥٢ ٦٧٢.

(٥١) أنس بن مالك بن النضر النّجاري الخزرجي الأنصاري ، مولده بالمدينة وأسلم صغيرا وخدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... ثم رحل إلى دمشق ومنها إلى البصرة فتوفى بها عام ٩٣ ٧١٢ ، وما يزال قبره معروفا هناك ...

(٥٢) الحسن بن يسار البصري أبو سعيد ... له مع الحجّاج بن يوسف الثقفي مواقف ... من كلماته السائرة : " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزعه بالقرآن ..." وليس بحديث شريف ، ولما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إليه : إني قد ابتليت بهذا الامر فانظر لي أعوانا يعينوني عليه ، فأجابه الحسن : أما أبناء الدنيا فلا تريدهم وأما أبناء الآخرة فلا يريدونك فاستعن بالله!! أدركه أجله بالبصرة عام ١١٠ ٧٢٨.

١٤

قبر محمد بن سيرين (٥٣) ، رضي‌الله‌عنه ، ومنها قبر محمد بن واسع (٥٤) رضي‌الله‌عنه ، ومنها قبر عتبة الغلام(٥٥)، رضي‌الله‌عنه ، ومنها قبر مالك بن دينار رضي‌الله‌عنه (٥٦) ، ومنها قبر حبيب العجميّ (٥٧) ، رضي‌الله‌عنه ، ومنها قبر سهل بن عبد الله التّستريّ (٥٨) رضي‌الله‌عنه.

وعلى كل قبر منها قبريّة مكتوب فيها اسم صاحب القبر ووفاته ، وذالك كله داخل السور القديم ، وهي اليوم بينها وبين البلد نحو ثلاثة أميال ، وبها سوى ذلك قبور الجمّ الغفير من الصحابة والتابعين المستشهدين يوم الجمل. وكان أمير البصرة حين ورودي عليها يسمّى بركن الدين العجمي التّوريزيّ (٥٩) أضافني فأحسن إلي.

والبصرة على ساحل الفرات والدجلة وبها المدّ والجزر كمثل ما هو بوادي سلا (٦٠) من بلاد المغرب وسواه ، والخليج المالح الخارج من بحر فارس (٦١) على عشرة أميال منها

__________________

(٥٣) ابن سيرين كان إمام وقته في علوم الدين من أشراف الكتاب وهو مؤسس فنّ" تعبير الرؤيا" في دنيا الاسلام وله ينسب كتاب (تعبير الرؤيا) أدركه أجله بالبصرة سنة ١١٠ ٧٢٩.

(٥٤) ابن واسع بن جابر الأزدي من تلامذة الحسن البصري ، عرض عليه قضاء البصرة فأبى! أدركه أجله عام ١٢٣ ٧٤١.

(٥٥) عتبة بن أبان من تلامذة الحسن البصري أيضا لقب بالغلام لاجتهاده في العبادة ، استشهد في معركة جرت ضد الروم على مقربة من المصيصة. الأصفهاني : حلية الأولياء ـ القاهرة ١٩٣٦ ج ٦ ص ٢٣٨ ـ ٢٢٦.

(٥٦) راجع التعليق رقم ٣٧ في هذا الفصل.

(٥٧) حبيب العجمي الفارسي كان رجلا ثريا ومرابيا كذلك ، أي إنه يقرض الناس بفائدة ربوية فاحشة ثم تحوّل إلى رجل صالح تحت تأثير الحسن البصري ،

AL ـ HUJWIRI : KASHF ALMAHJOUB

Trans NICHOLSON ـ London ١٩٩١, P. ٨٨ ـ ٩٨

(٥٨) توفي سهل بن عبد الله التسترى عام ٢٧٣ ٨٨٦ وهو أحد الائمة المؤسسين للمدرسة الصوفية له كتاب في" تفسير القرآن" و" رقائق المحبّين" ـ الوفيات ١ ، ٢١٨.

(٥٩) لم نستطع الوصول إلى التعرف بركن الدين العجمي التوريزي المنسوب إلى توريز أي تبريز وفي بعض المخطوطات : التوزيري بتقديم الزاي ، هذا وقد ذكر الهروي أنه تعرف في البصرة على رجل شريف اسمه عمران بن سالم ، قال عنه : إنه استخراج من حرف الكاف حروف الكتابة جميعها وهي ٢٩ حرفا ، كل حرف منها قائم بذاته وزاد عليها ثمانية أحرف ...

(٥٩) لم نستطع الوصول إلى التعرف بركن الدين العجمي التوريزي المنسوب إلى توريز أي تبريز وفي بعض المخطوطات : التوزيري بتقديم الزاي ، هذا وقد ذكر الهروي أنه تعرف في البصرة على رجل شريف اسمه عمران بن سالم ، قال عنه : إنه استخراج من حرف الكاف حروف الكتابة جميعها وهي ٢٩ حرفا ، كل حرف منها قائم بذاته وزاد عليها ثمانية أحرف ...

(٦٠) وادي سلا بذلك سماه بن حوقل ولو أن الفزازي سماه وادي أسمير والمراكشي سماه وادي الرمان ويسمى اليوم بورگراگ ... ابن صاحب الصلاة : المن بالامامة ، تحقيق د. التازي ، الطبعة الثالثة ـ طبعة دار المغرب الاسلامي ، بيروت ١٩٨٧.

(٦١) يظهر من ابن بطوطة في هذا المقطع أنه يعتبر شط العرب أو نهر العرب ـ وهو الاسم الذي يطلق على نهر دجلة والفرات مجتمعين ـ خليجا خارجا من بحر فارس ... وسنراه قريبا يتحدث عن" خليج" آخر يخرج من بلاد فارس ترجمه الاثنان.D.S ـ ومعهما الحق ـ بالمحيط الهندي ، وينبغي أن نذكر هنا أن الجغرافي المغربي المعروف بالشريف الادريسي ينعت الخليج الذي يتشعب من البحر الصيني بالخليج الأخضر ويقول : إنه بحر فارس والأبلة وفيها ينتهي على مقربة من عبادان ...

١٥

فإذا كان المدّ غلب الماء المالح على العذب وإذا كان الجزر غلب الماء الحلو على المالح فيستسقى أهل البصرة الماء لدورهم ، ولذلك يقال : إن ماءهم زعاق.

قال ابن جزي : وبسبب ذلك كان هواء البصرة غير جيّد والوان أهلها مصفرّة كاسفة حتّى ضرب بهم المثل وقال بعض الشعراء وقد أحضرت (٦٢) بين يدي الصاحب أترجّة

لله أترجّ غدا بيننا

معبّرا عن حال دي عبرة

كما كسى الله ثياب الضنّا

أهل الهوى وساكني البصرة!!

رجع ، ثم ركبت من ساحل البصرة في صنبوق (٦٣) وهو قارب صغير إلى الأبلة (٦٤) ، وبينها وبين البصرة عشرة أميال في بساتين متّصلة ، ونخيل مضلّلة ، عن اليمين واليسار ، والباعة في ظلال الأشجار ، يبيعون الخبز والسمك واللبن والفواكه.

وفيما بين البصرة والأبلّة متعبّد سهل بن عبد الله التّسترى فإذا حاذاه الناس بالسفن تراهم يشربون الماء ممّا يحاذيه من الوادي ويدعون عند ذلك تبرّكا بهذا الواليّ ، رضي‌الله‌عنه ، والنواتية يجدفون في هذه البلاد وهم قيام :

__________________

(٦٢) القصد إلى الوزير الصاحب إسماعيل بن عباد بن العباس الطالقاني ، كان من نوادر الزمان علما وفضلا وتدبيرا وجودة رأي ، أستوزره مؤيد الدولة ابن بويّه الديلمي أمير فارس الغربية ... ولقب بالصاحب لصحبته مؤيّد الدولة من صباه ، ولد في الطالقان (من أعمال قزوين) وتوفي سنة ٣٨٥ ٩٩٥ بالري ، ونقل إلى إصفهان فدفن بها ، له تصانيف جليلة ... هذا ومن المهم التنبيه على أن الترجمة الفرنسية التي قدمها الاثنان.D.S تضبط التاء في أحضرت بالضم : تاء المتكلم ، فيتر جمانها نتيجة لذلك بما يقتضي أن ابن جزي هو الذي أحضر الأترجه! مع أن الحقيقة التي تتوافق مع تاريخ ومكان الصاحب تقتضي أن تكون التاء ضميرا للغائب يعود على الأترجه ، وقد تنبه لهذا السّير هاميلتون گيب في ترجمته الانجليزية ...

(٦٣) الصنبوق مركب له جؤجؤ (قيدوم) Proue ناتئ ، مزود بقلاع مثلث الزوايا كان شائع الاستعمال في الحوض المتوسط والبحر الأحمر ـ حسن صالح شهاب : المراكب العربية نشر مؤسسة الكويت للتقدم العلمي ١٩٨٧ ص ٤٩.

(٦٤) يقول ابن حوقل عن نهر الأبلة الذي يعتبر من أنهار البصرة : إن طوله أربعة فراسخ ... وعلى جانبي هذا النهر بساتين وقصور متصلة كأنها بستان واحد قد مدت على خيط ... وكأن نخيلها غرست ليوم واحد ...! وكان على ركن الأبلة في دجلة بين يدي نهرها خور عظيم الخطر وماء جسيم دائم الضرر ـ فكانت السفن تغرق فيه ـ فاحتالت له بعض نساء بني العباس بمراكب على مقدار معيّن محدد فانسدّ وزال الضرر ... هذا والأبلّة هي المدينة الرومانية القديمة التي كانت تحمل اسم (APOLOGOS) وكانت تحتل موقع حي أعشار للمدينة الحالية : البصرة.

١٦

وكانت الابلّة مدينة عظيمة يقصدها تجار الهند وفارس فخربت وهي الآن قرية بها آثار قصور وغيرها دالّة على عظمها ، ثم ركبنا في الخليج من بحر فارس في مركب صغير لرجل من أهل الأبلّة يسمّى بمغامس وذلك فيما بعد المغرب فصبحنا عبّادان (٦٥) ، وهي قرية كبيرة في سبخة لا عمارة بها ، وفيها مساجد كثيرة ومتعبّدات ورباطات للصالحين وبينها وبين الساحل ثلاثة أميال.

قال ابن جزي : عبّادان كانت بلدا فيما تقدّم وهي مجدبة لا زرع بها وانّما بجلب اليها ، والماء أيضا بها قليل وقد قال فيها بعض الشعراء ،

من مبلغ أندلسا أنّني

حللت عبّادان أقصى الثّرى

أوحش ما أبصرت لا كنّني

قصدت فيها ذكرها في الوارى

الخبز فيها يتهادونه

وشربة الماء بها تشترى!!

رجع ، وعلى ساحل البحر منها رابطة تعرف بالنسبة إلى الخضر وإلياس عليهما‌السلام ، وبازايها زاوية يسكنها أربعة من الفقراء بأولادهم يخدمون الرابطة والزاوية ، ويتعيّشون من فتوحات الناس وكلّ من يمرّ بهم يتصدّق عليهم ، وذكر لي أهل هذه الزاوية أنّ بعبّادان عابدا كبير القدر ، ولا أنيس له ، ياتي هذا البحر مرّة في الشهر فيصطاد فيه ما يقوته شهرا ثم لا يرى إلا بعد تمام شهر ، وهو على ذلك منذ أعوام ، فلمّا وصلنا عبّادان لم يكن لي شأن إلا طلبه ، فاشتغل من كان معي بالصلاة في المساجد والمتعبّدات ، وانطلقت طالبا له فجئت مسجدا خربا فوجدته يصلّي فيه فجلست إلى جانبه ، فأوجز في صلاته ، ولمّا سلّم أخذ بيدي ، وقال لي : بلّغك الله مرادك في الدنيا والآخرة! فقد بلغت بحمد الله مرادي في الدنيا وهو السيّاحة في الأرض وبلغت من ذلك ما لم يبلغه غيري فيما أعلمه ، وبقيت الأخرى والرجا قوّى في رحمة الله وتجاوزه وبلوغ المراد من دخول الجنّة.

ولمّا أتيت أصحابي أخبرتهم خبر الرجل واعلمتهم بموضعه فذهبوا اليه فلم يجدوه ولا وقعوا له على خبر فعجبوا من شأنه! وعدنا بالعشى إلى الزاوية فبتنا بها ودخل علينا أحد الفقراء الأربعة بعد صلاة العشاء الآخرة ، ومن عادة ذلك الفقير أن يأتي عبّادان كلّ ليلة فيسرج السرج بمساجدها ثم يعود إلى زاويته ، فلما وصل إلى عبّادان وجد الرجل العابد فأعطاه سمكة طريّة ، وقال له أوصل هاذه إلى الضيف الذي قدم اليوم ، فقال لنا الفقير عند

__________________

(٦٥) ورد في ملاحق ابن حوقل أن عبّادان جزيرة وسط الدجلة وماء الفرات عند مصبّهما في البحر ... وفيها رباط يسكنه جماعة الصوفية والزهاد وأهل الجهاد وليس بينهم امرأة البتّة .. وقد ذكر الهروي مشهد الخضر عليه‌السلام كما تحدث عن ربط عبّادان ... هذا ويلاحظ هنا أن ابن بطوطة حقق امنيته في السياحة.

١٧

دخوله علينا : من رأى منكم الشيخ اليوم؟ فقلت له : أنا رأيته! فقال : يقول لك هذه ضيافتك، فشكرت الله على ذلك ، وطبخ لنا الفقير تلك السمكة فاكلنا منها أجمعون ، وما أكلت قطّ سمكّا أطيب منها ، وهجس في خاطري الإقامة بقيّة العمر في خدمة ذلك الشيخ ، ثمّ صرفتني النّفس اللجوج عن ذلك.

ثم ركبنا البحر عند الصبح بقصد بلدة ماجول (٦٦) ، ومن عادتي في سفري أن لا أعود على طريق سلكتها ما أمكنني ذلك ، وكنت أحبّ قصد بغداد العراق فأشار عليّ بعض أهل البصرة بالسفر إلى أرض اللّور ثم إلى عراق العجم ، ثم إلى عراق العرب ، فعملت بمقتضى إشارته ، ووصلنا بعد أربعة أيام إلى بلدة (ماجول) على وزن فاعول ، وجيمها معقودة ، وهي صغيرة على ساحل هذا الخليج الذي ذكرنا أنه يخرج من بحر فارس وأرضها سبخة لا شجر فيها ولا نبات ولها سوق عظيمة من أكبر الأسواق وأقمت بها يوما واحدا ، ثم اكتريت دابّة لركوبي من الذين يجلبون الحبوب من (رامز) إلى (ماجول) ، وسرنا ثلاثا في صحراء يسكنها الأكراد في بيوت الشعر ، ويقال إن أصلهم من العرب (٦٧) ، ثم وصلنا إلى مدينة رامز (٦٨) وأول حروفها راء وآخرها زاي وميمها مكسورة ، وهي مدينة حسنة ذات فواكه وأنهار ونزلنا بها عند القاضي حسام الدين محمود ، ولقيت عنده رجلا من أهل العلم والدين والورع هنديّ الأصل ، يدعى بهاء الدين ، ويسمى إسماعيل ، وهو من أولاد الشيخ بهاء الدين أبي زكرياء الملتاني (٦٩) وقرأ على مشايخ توريز وغيرها.

وأقمت بمدينة رامز ليلة واحدة ، ثم رحلنا منها ثلاثا في بسيط فيه قرى يسكنها الأكراد ، وفي كل مرحلة منها زاوية فيها للوراد الخبز واللحم والحلواء ، وحلواءهم من ربّ

__________________

(٦٦) ما جول هو اليوم بندر ماه شهر (MAH SHAR) على رأس خور موسى ، وليس على نفس مجرى شط العرب ، هذا وتلاحظ هنا ومن الآن هواية ابن بطوطة في أن لا يعود من نفس الطريق التي سلكها أولا ـ د. التازي : إيران بين الأمس واليوم ، قراءة جديدة لرحلة ابن بطوطة ١٤٠٤ ١٩٨٤ ، ص ٣٠ وما بعدها.

(٦٧) بالرغم من الوحدة الجنسية التي تربط بين الأكراد إلا أن وقوع إقليمهم كردستان بين عدد من الأمم الكبرى أدّى إلى تقسيمهم ... وقد أنجبوا عددا من الأبطال والقادة والرجال الأفذاذ عبر التاريخ ...

(٦٨) رامز مختصر رامهرمز (Ram (a) Murmuz) وقد أسست من لدن الملك الساساني هرمز في القرن الثالث الميلادي ، وهي مشهورة بمصانع الدمقس والحرير في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي ... وقد كانت مركزا مزدهرا في القرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي ، تقع على نحو ٩٠ ميلا شرقي بندر ماه شهر.

ـ عبيد طويرش : الصراع حول هرمز ـ منشورات اتحاد. كتاب وأدباء الامارات ١٩٩٠.

(٦٩) أبو زكرياء صوابه زكرياء بهاء الدين (٥٧٩ ـ ٦٦٥ ١١٨٣ ـ ١٢٦٧) خراساني الأصل الممثل الأساس للزاوية السّهروردية بالهند على ما سنرى في بداية السفر الثاني.

١٨

١٩

العنب ، مخلوطا بالدقيق والسمن ، وفي كل زاوية الشيخ والامام والمؤذن والخادم للفقراء ، والعبيد والخدم يطبخون الطعام. ثم وصلت إلى مدينة تستر (٧٠) وهي آخر البسيط من بلاد أتابك (٧١) وأول الجبال ، مدينة كبيرة ، رايقة نضيرة ، وبها البساتين الشريفة ، والرياض المنيفة ، ولها المحاسن البارعة ، والأسواق الجامعة ، وهي قديمة البناء افتتحها خالد بن الوليد ، ووليّ هذه المدينة ينسب إلى سهل بن عبد الله ويحيط بها النهر المعروف بالأزرق (٧٢) وهو عجيب في نهاية من الصفاء شديد البرودة في أيام الحرّ ، ولم أر كزرقته إلا نهر بلخشان (٧٣) ، ولها باب واحد للمسافرين يسمّى دروازة دسبول (٧٤) ، والدّروازة عندهم الباب ، ولها أبواب غيره شارعة إلى النهر وعلى جانبي النّهر البساتين والدّواليب (٧٥) ، والنهر عميق ، وعلى باب المسافرين منه جسر على القوارب (٧٦) كجسر بغداد والحلة.

قال ابن جزي : وفي النهر يقول بعضهم

انظر لشاذروان تستر واعتجب

من جمعه ماء لريّ بلاده

كمليك قوم جمّعت أمواله

فغدا يفرّقها على أجناده

__________________

(٧٠) بالفارسية تحمل اسم (Shushtar) وقد خصص اعتماد السلطنة في كتابه (مرآة البلدان ج I حرف التاء) فصلا ممتازا لتقديم هذه المدينة الجليلة القدر التي ظلت منذ أن افتتحها العرب بقيادة أبى موسى الأشعري حوالي سنة ٤٢ ٦٦٢ ملاذا للعلماء ورجال الفضل وحملة الأقلام ... ومن أشهر المنتسبين إليها السادة النّورية وفي مقدمتهم نعمة الله الموسوي الحسيني صاحب كتاب (زهر الربيع) ، هذا وقد استهوت المعلومات التي قدمها ابن بطوطة اعتماد السلطنة فنقلها بحذا فيرها ، يلاحظ أن ابن بطوطة اختار له طريقا ذا منعطفات ومنعرجات.

(٧١) (أتابك)(Atabak) وتعني الأب الكبير لقب أعطي من لدن السلاطين السلاجقة للأمراء الذين يبعثون بهم ولاة على الأقاليم ، وكثير من هؤلاء الأتابكة اغتنموا فرصة سقوط الامبراطورية السلجوقية للاستقلال بالحكم!

(٧٢) النهر الأزرق هو ما يعرف بنهر كارون (Le fleuve karun) ويعرف في العصر الوسيط باسم نهر دجيل.

(٧٣) هذا النهر يقع في أفغانستان وهو يسمى اليوم كوكشا (Kokcha) من روافده نهر جيحون (OXUS) يسمى عند الجغرافيين في العصر الوسيط بسم درغم Dirhgam.

(٧٤) يحمل كذلك اسم دزفول ... ويتحدث مستوفي عن أربعة أبواب ...

(٧٥) يروي نعمة الله الموسوي الحسيني في كتابه زهر الربيع أن أبا نواس قال في الدواليب التي تعمل في مدينة تستر لرفع الماء من قراره إلى البساتين المرتفعة ، وهو من أجمل ما قيل :

ودولاب روض بعدما كان أغصنا

تميس ، فلمّا مزقته يد الدهر

تذكّر عهدا بالرياض فكلها

عيون على أيام عصر الصّبا تجري!

(٧٦) يتحدث المقدسي (ت ٣٨٠ ٩٩٠) من رجال القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي عن الجسر المحمول على المراكب ، وقد تحول هذا الجسر المحمول فيما بعد إلى جسر مبنى على سد.

٢٠