رحلة ابن بطوطة - ج ٢

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ٢

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-008-7
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٢٦٨

وقد تكرّر لي لقاء القاضي مجد الدين ثانية حين خروجي من الهند ، قصدته من هرمز متبركا بلقائه ، وذلك سنة ثمان وأربعين ، وبين (١٣٧) هرمز وشيراز مسيرة خمسة وثلاثين يوما ، فدخلت عليه وهو قد ضعف عن الحركة فسلّمت عليه فعرفني ، وقام إليّ فعانقني ووقعت يدي على مرفقه ، وجلده لاصق بالعظم لا لحم بينهما ، وأنزلني بالمدرسة حيث أنزلني أول مرة وزرته يوما فوجدت ملك شيراز السلطان أبا اسحاق ، وسيقع ذكره ، قاعدا بين يديه ممسكا بأذن نفسه ، وذلك هو غاية الادب عندهم ، ويفعله الناس إذا قعدوا بين يدي الملك ، وأتيته مرة أخرى إلى المدرسة فوجدت بابها مسدودا ، فسألت عن سبب ذلك فأخبرت أن أمّ السلطان واخته نشأت بينهما خصومة في ميراث فصرفهما إلى القاضي مجد الدين فوصلتا اليه إلى المدرسة وتحاكمتا عنده ، وفصل بينهما بواجب الشرع.

وأهل شيراز لايدعونه بالقاضي ، وانما يقولون له مولانا أعظم وكذلك يكتبون في التسجيلات والعقود التي تفتقر إلى ذكر اسمه فيها ، وكان آخر عهدي به في شهر ربيع الثاني من عام ثمانية وأربعين ولا حت عليّ أنواره وظهرت لي بركاته نفع الله به وبامثاله.

ذكر سلطان شيراز

وسلطان شيراز في عهد قدومي عليها الملك الفاضل أبو اسحاق بن محمد شاه ينجو (١٣٨) سمّاه أبوه باسم الشيخ أبي اسحاق الكازروني (١٣٩) ، نفع الله به ، وهو من خيار السلاطين ، حسن الصورة والسيرة والهيئة ، كريم النفس ، جميل الأخلاق ومتواضع ، صاحب قوّة ، وملك كبير، وعسكره ينيف على خمسين ألفا من الترك والأعاجم وبطانته الأدنون إليه أهل إصفهان ، وهو لايأتمن أهل شيراز على نفسه ولا يستخدمهم ولا يقرّبهم ولا يبيح لأحد منهم حمل السلاح لأنهم أهل نجدة وبأس شديد وجرءة على الملوك ومن وجد بيده السلاح منهم عوقب.

__________________

(١٣٧) هذا العام الهجري ٧٤٨ يبتدئ في ١٣ أبريل ١٣٤٧ ، اللقاء يؤرخ بشهر يوليه (ربيع الثاني ٧٤٨) كما سيدققه ابن بطوطة.

(١٣٨) لقب ينجو (إينجو) يعني بالمغولية مدير الأملاك ، هذا وتتضافر الدلائل على أن المعلومات المقدمة هنا كانت مما يتعلق بزيارة ابن بطوطة الخامسة إلى إيران عام ١٣٤٧ ، ذاك أن أبا إسحاق محمود محمد شاه انما أصبح واليا على شيراز ابتداء عام ٧٤٣ ١٣٤٣.

Gibb, TraveL T. ٢ P. ٦٠٣ Note ٨١١.

(١٣٩) هو إبراهيم الكازروني المتوفى سنة ٤٢٦ ١٠٣٥ مؤسس طريقة تدعوا للإسلام ، قام بدور نشيط في الأناضول إلى جنوب الهند ، وفي الصين كذلك ، قبره يوجد إلى الآن في كازرون ، ـ تراجع مقدمة كتاب مختصر التاريخ لظهير الدين ابن الكازروني ـ بغداد ، ١٩٧٠.

٤١

ولقد شاهدت مرّة رجلا تجرّه الجنادرة وهم الشّرط إلى الحاكم وقد ربطوه في عنقه ، فسألت عن شأنه فأخبرت أنه وجدت في يده قوس بالليل فذهب السلطان المذكور إلى قهر أهل شيراز وتفضيل الأصفهانيّين عليهم لأنه يخافهم على نفسه وكان أبوه محمد شاه ينجوا واليا على شيراز من قبل ملك العراق ، وكان حسن السيرة محبّبا إلى أهلها فلما توفّى ولّى السلطان أبو سعيد مكانه الشيخ حسينا ، وهو ابن الجوبان أمير الأمراء ، وسياتي ذكره ، وبعث معه العساكر الكثيرة فوصل إلى شيراز وملكها وضبط مجابيها ، وهي من أعظم بلاد الله مجبى.

ذكر لي الحاج قوام الدين الطّمغجي (١٤٠) ، وهو والي المجبى بها ، أنه ضمنها بعشرة آلاف دينار دراهم في كلّ يوم ، وصرفها من ذهب المغرب الفا وخمسمائة دينار ذهبا ، واقام بها الأمير حسين مدّة ، ثم أراد القدوم على ملك العراق فقبض على أبي اسحاق بن محمد شاه ينجوا وعلى أخويه ركن الدين ومسعود بك وعلى والدته طاش خاتون (١٤١) ، وأراد حملهم إلى العراق ليطلبوا بأموال أبيهم ، فلما توسّطوا السوق بشيراز كشفت طاش خاتون وجهها وكانت متبرقعة حياء أن ترى في تلك الحال فإنّ عادة نساء الأتراك ألّا يغطين وجوههن ، واستغاثت باهل شيراز وقالت : أهكذا يا أهل شيراز أخرج من بينكم وأنا فلانة زوجة فلان؟ فقام رجل من النّجارين يسمى بهلوان محمود قد رأيته بالسوق حين قدومي على شيراز فقال : لا نتركها تخرج من بلدنا ولا نرضى بذلك فتابعه الناس على قوله وثارت عامّتهم ودخلوا في السلاح ، وقتلوا كثيرا من العسكر وأخذوا الأموال وخلّصوا المرأة وأولادها ، وفرّ الأمير حسين ومن معه وقدم على السلطان أبي سعيد مهزوما فأعطاه العساكر الكثيفة وأمره بالعود إلى شيراز والتحكّم في أهلها بما شاء.

فلما بلغ أهلها ذلك علموا أنهم لا طاقة لهم به فقصدوا القاضي مجد الدين ، وطلبوا منه أن يحقن دماء الفريقين ، ويقع الصلح ، فخرج إلى الأمير حسين فترجّل له الامير عن فرسه وسلم عليه ووقع الصلح ونزل الامير حسين ذلك اليوم خارج المدينة.

__________________

(١٤٠) أسهم الحاج قوام الدّين كثيرا في أن يتبوأ أبو إسحاق ، الحكم ، كان كاتب سرّ ووزير للسلطان ... ولقب الطمغجي لقب سياسي يعني صاحب الطابع (الطّمغة) وقد أدركه أجله عام ٧٥٣ ١٣٥٣ ، وكان الشاعر حافظ هو الذي كتب شاهد قبره ـ يقدر مستوفى كدخل لشيراز ٠٠٠ ، ٤٥٠ دينار كما كان دخل بغداد ٠٠٠ ، ٨٠٠ ـ والقصد بالحسين إلى ابن الحسن بن الجوبان.

(١٤١) اشتهرت هذه السيدة باهدائها نسخة رفيعة من المصحف إلى شيراز. هذا وإن الحجاب بالنسبة للسيدة المسلمة لم يكن في وقت من الأوقات شاملا ومن المعلوم أنه شرع لعلة ذكرها القرآن الكريم ، وللمالكية رأيي يعبر عنه ابن أبي زيد القيرواني : " ولا يلبس النّساء من رقيق الثياب ما يصفهن اذا خرجن" د. التازي المرأة في تاريخ الغرب الإسلامي ، نشر الفنك الدار البيضاء ، ١٩٩٢.

٤٢

فلما كان من الغد برز أهلها للقائه في أجمل ترتيب وزيّنوا البلد ، وأوقدوا الشمع الكثير ودخل الأمير حسين في أبّهة وحفل عظيم ، وسار فيهم بأحسن سيرة ، فلما مات السلطان أبو سعيد وانقرض عقبه وتغلّب كل أمير على ما بيده خافهم الامير حسين على نفسه وخرج عنهم ، وتغلّب السلطان أبو اسحاق عليها ، وعلى إصفهان وبلاد فارس وذلك مسيرة شهر ونصف شهر ، واشتدّت شوكته وطمحت همّته إلى تملك ما يليه من البلاد فبدأ بالأقرب منها وهي مدينة يزد ، مدينة حسنة نظيفة عجيبة الأسواق ذات أنهار مطّردة وأشجار نضيرة ، وأهلها تجار شافعيّة المذهب فحاصرها وتغلب عليها وتحصن الأمير مظفّر شاه ابن الامير محمد شاه بن مظفر بقلعة على ستة أميال منها منيعة تحدق بها الرمال فحاصره بها.

فظهر (١٤٢) من الأمير مظفّر من الشجاعة ما خرق المعتاد ولم يسمع بمثله فكان يضرب على عسكر السلطان أبي إسحاق ليلا ويقتل ما شاء ويخرق المضارب والفساطيط ويعود إلى قلعته فلا يقدر على النيل منه ، وضرب ليلة على دوّار السلطان ، وقتل هنالك جماعة ، وأخذ من عتاق خيله عشرة وعاد إلى قلعته ، فأمر السلطان أن تركب في كل ليلة خمسة آلاف فارس ويصنعون له الكمائين ، ففعلوا ذلك وخرج على عادته في مائة من أصحابه فضرب على العسكر واحاطت به الكمائن وتلاحقت العساكر فقاتلهم وخلص إلى قلعته ولم يصب من أصحابه إلا واحد أوتى به إلى السلطان أبي إسحاق فخلع عليه وأطلقه وبعث معه امانا لمظفر لينزل اليه فأبى ذلك.

ثم وقعت بينهما المراسلة ووقعت له محبّة في قلب السلطان أبي إسحاق لما رأى من شجا عنه ، فقال أريد أن أراه فإذا رأيته انصرفت عنه فوقف السلطان في خارج القلعة ووقف هو ببابها وسلّم عليه ، فقال له السلطان انزل على الأمان ، فقال له مظفر : إني عاهدت الله ألا أنزل إليك حتى تدخل انت قلعتي ، وحينئذ أنزل اليك فقال له : أفعل ذلك ، فدخل اليه السلطان في عشرة من أصحابه الخوّاص ، فلما وصل باب القلعة ترجّل مظفر وقبّل ركابه ، ومشى بين يديه مترجّلا ، فأدخله داره وأكل من طعامه ونزل معه إلى المحلّة راكبا فاجلسه السلطان إلى جانبه وخلع عليه ثيابه وأعطاه مالا عظيما ووقع الاتّفاق بينهما أن تكون الخطبة باسم السلطان أبي إسحاق (١٤٣) ، وتكون البلاد لمظفر وأبيه وعاد السلطان إلى بلاده

__________________

(١٤٢) مبارز الدين محمد ٧١٤ ـ ٧٥٨ ١٣١٤ ـ ١٣٥٨ ابن مظفر مؤسس الدولة المظفرية ، استولى على يزد سنة ٧١٨ ١٣١٨ وعلى كرمان عام ٧٤٠ ١٣٤٠. أبو إسحاق أغار في ثلاث مرات عام ٧٤٧ ١٣٤٧ و ٧٥٠ ١٣٥٠ و ٧٥٢ ١٣٥٢ ضد كرمان ويزد ولكنه غلب. وقد رأينا كذلك مبرز الدين محمد يهاجم شيراز عام ٧٥٤ ١٣٥٣ ويستولي على المدينة وبعد ثلاث سنوات من هذا التاريخ وجدنا أبا إسحاق يستسلم في إصبهان ويلقى حتفه وهكذا انتهت دولة ينجوا ...

(١٤٣) ذكر اسم السلطان على منبر يعني الاعتراف بالسيادة له كما هو معروف ...

٤٣

٤٤

وكان السلطان أبو إسحاق طمح ذات مرّة إلى بناء ايوان كإيوان كسرى (١٤٤) ، وأمر اهل شيراز أن يتولّوا حفر أساسه فأخذوا في ذلك وكان أهل كلّ صناعة يباهون كلّ من عداهم فانتهوا في المباهاة إلى أن صنعوا القفاف لنقل التراب من الجلد ، وكسوها ثياب الحرير المزركش وفعلوا نحو ذلك في برادع الدوّاب وأخراجها وصنع بعضهم الفؤوس من الفضّة ، وأوقدوا الشمع الكثير وكانوا حين الحفر يلبسون أجمل ثيابهم ويربطون فوط الحرير على أوساطهم ، والسلطان يشاهد أفعالهم في منظرة له ، وقد شاهدت هذا المبنى وقد ارتفع عن الأرض نحو ثلاثة أذرع ، ولمّا بني أساسه رفع عن أهل المدينة التخديم فيه وصارت الفعلة تخدم فيه بالأجرة ، ويحشر لذلك آلاف منهم وسمعت والي المدينة يقول : إن معظم مجباها ينفق في ذلك البناء ، وقد كان الموكّل به الأمير جلال الدين بن الفلكي التّوريزي ، وهو من الكبار ، كان أبوه نائبا عن وزير السلطان أبي سعيد المسمّى علي شاه جيلان (١٤٥) ، ولهذا الأمير جلال الدين الفلكي أخ فاضل اسمه هبة الله ويلقّب بهاء الملك ، وفد على ملك الهند حين وفودي عليه ، ووفد معنا شرف الملك أمير بخت فخلع ملك الهند علينا جميعا، وقدّم كل واحد في شغل يليق به ، وعيّن لنا المرتّب والاحسان ، وسندكر ذلك ، وهذا السلطان أبو اسحاق يريد التشبّه بملك الهند المذكور في الإيثار واجزال العطايا ، ولكن اين الثريّا من الثرى! واعظم ما تعرّفناه من عطيّات أبي اسحاق أنه اعطى الشيخ زادة الخراساني الذي أتاه رسولا عن ملك هرات سبعين الف دينار وأمّا ملك الهند فلم يزل يعطي أضعاف ذلك لمن لا يحصى كثرة من أهل خراسان وغيرهم.

حكاية [ملك الهند وكرمه]

ومن عجيب فعل ملك الهند مع الخراسانيّين أنّه قدم عليه رجل من فقهاء خراسان هروى الدار من سكّان خوارزم يسمّى بالأمير عبد الله بعثته الخاتون ترابك زوج الامير قطلو دمور صاحب خوارزم بهدية إلى ملك الهند (١٤٦) المذكور فقبلها وكافى عنها بأضعافها وبعث

__________________

(١٤٤) إيوان كسرى اسم يطلق اليوم على أطلال سلمان باك التي توجد على مقربة من بغداد وقد كان هناك القصر العظيم الذي بناه الساسانيون في سطسيفون CTESIPHON وهذه معلومات في منتهى الطرافة والأهمية يقدمها لنا الرحالة المغربي عن ذلك المشروع العملاق الذي لو تمّ إنجازه لأصبح في عداد عجائب الدنيا ...

(١٤٥) التّوريزي : نسبة إلى توريز ، وهو التعبير الشعبي الذي يطلق على مدينة تبريز التي سيؤدى ابن بطوطة وصفا ممتعا لها ولأسواقها التي استمتعت بزيارتها عام ١٩٩٦ ـ الهروي : كتاب الزيارات ، ص ٧٥ / ٧٩ هذا وينبغي أن نقف هنا مع تعبير" الشيخ زاده" الذي يعني" ولد الشيخ".

(١٤٦) سيأتي الحديث عن قطلو دمور وزوجته ترابك في آخر هذا السفر الأول ...

٤٥

ذلك إليها واختار رسولها المذكور الإقامة عنده فصيّره في ندمائه ، فلما كان ذات يوم قال له ادخل إلى الخزانة فارفع منها قدر ما تستطيع أن تحمله من الذهب فذهب إلى داره فأتى بثلاث عشرة خريطة ، وجعل في كل خريطة قدر ما وسعته وربط كل خريطة بعضو من اعضائه ، وكان صاحب قوة وقام بها فلما خرج عن الخزانة وقع ولم يستطع النهوض! فأمر السلطان بوزن ما خرج به فكان جملته ثلاثة عشر منّا بمنّ دهلى (١٤٧) والمنّ الواحد منها خمسة وعشرون رطلا مصرية ، فأمره أن ياخذ جميع ذلك فأخذه وذهب به!!.

حكاية تناسبها

اشتكى مرة أمير بخت الملقّب بشرف الملك الخراساني وهو الذي تقدم ذكره آنفا بحضرة ملك الهند فأتاه الملك عائدا ولما دخل عليه أراد القيام فحلف له الملك أن لا ينزل عن كتّه والكتّ هو السرير ، ووضع للسلطان متّكّأة يسمّونها المورة فقعد عليها ثم عاد بالذهب والميزان فجيئ بذلك وأمر المريض أن يقعد في احدى كفّتي الميزان فقال يا خوند عالم ، لو علمت أنّك تفعل هذا للبست عليّ ثيابا كثيرة ، فقال له البس الآن جميع ما عندك من الثياب ، فلبس ثيابه المعدّة للبرد المحشوّة بالقطن ، وقعد في كفّة الميزان ووضع الذهب في الكفّة الاخرى حتى رجحه الذهب ، وقال له خذ هذا فتصدّق به عن رأسك ، وخرج عنه!

حكاية تناسبهما

وفد عليه الفقيه عبد العزيز الأردويلي ، وكان قد قرأ علم الحديث بدمشق وتفقّه فيه فجعل مرتّبه مائة دينار دراهم في اليوم ، وصرف ذلك خمسة وعشرون دينار ذهبا ، وحضر مجلسه يوما فسأله السلطان عن حديث فسرد له أحاديث كثيرة في ذلك المعنى فأعجبه حفظه وحلف له براسه إنه لا يزول من مجلسه حتّى يفعل معه ما يراه ، ثم نزل الملك عن مجلسه فقبّل قدميه وأمر باحضار صينيّة ذهب وهي مثل الطيفور الصغير وأمر أن يلقى فيها الف دينار من الذهب واخذها السلطان بيده فصبّها عليه وقال هي لك مع الصينيّة.

ووفد عليه مرة رجل خراساني يعرف بابن الشيخ عبد الرحمن الاسفراينى (١٤٨) وكان

__________________

(١٤٧) الرطل المصري يتراوح بين ٤٥٠ و ٥٠٠ گرام وحيث إن المن الهندي يقدر ب ٢٨٤ و ١٥ كيلو گرام فإن ابن بطوطة يعني التقدير الأخير أي أن المنّ يعادل ٢٥ رطلا فيكون مجموع المحمول : ١٦٢ كيلو تقريبا وليس على تقدير أن المنّ يعادل ٢٨٤ ، ١٥ والا فيكون المحمول حوالي الفي كيلو وهذا غير ممكن!

(١٤٨) هذا الشيخ هو الذي كان السبب في اعتناق أول عاهل إيلخاني للإسلام (تكودار الذي سمى نفسه أحمد) ٦٨٠ ١٢٨٢ ، وقد كتب السلطان أحمد بذلك لسائر الاقطار ، وبعث بالشيخ الاسفرايني إلى مصر ليحيطهم علما بذلك ، بيد أنه لما وصل إلى دمشق القى عليه القبض إلى أن توفي عام ٦٨٤ ١٢٨٥ ـ ابن العماد : شذرات الذهب ، القاهرة ج ٥ ص ٣٨١. ٣٤N ٣٣٣.P , ٢Gibb ـ Travel.

٤٦

أبوه نزل بغداد فاعطاه خمسين الف دينار دراهم وخيلا وعبيدا وخلعا.

وسنذكر كثيرا من أخبار هذا الملك عند ذكر بلاد الهند ، وانما ذكرنا هذا لما قدّمناه من أن السلطان أبا اسحاق يريد التشبّه به في العطايا ، وهو وان كان كريما فاضلا فلا يلحق بطبقة ملك الهند في الكرم والسخاء.

ذكر بعض المشاهد بشيراز

فمنها مشهد أحمد بن موسى أخي الرضا على بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبى طالب رضي الله (١٤٩) عنهم ، وهو مشهد معظم عند أهل شيراز يتبركون به ويتوسلون إلى الله بفضله.

وبنت عليه طاش خاتون أم السلطان أبى اسحاق مدرسة كبيرة وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر والقراء يقرءون القرآن على التربة دائما.

ومن عادة الخاتون أنها تاتي إلى هذا المشهد في كل ليلة اثنين ويجتمع في تلك الليلة القضاة والفقهاء والشرفاء وشيراز من أكثر بلاد الله شرفاء سمعت من الثقات أن الذين لهم بها المرتّبات من الشرفاء ألف واربعمائة ونيف بين صغير وكبير ، ونقيبهم عضد الدين الحسيني فإذا حضر القوم بالمشهد المبارك المذكور ختموا القرآن قراءة في المصاحف ، وقرأ القراء بالأصوات الحسنة وأوتى بالطعام والفواكه والحلواء فإذا أكل القوم وعظ الواعظ ويكون ذلك كلّه من بعد صلاة الظهر إلى العشى ، والخاتون في غرفة مطلّة على المسجد لها شباك ، ثم تضرب الطبول والأنفار والبوقات على باب التربة كما يفعل عند أبواب الملوك.

ومن المشاهد بها مشهد الامام القطب الولي أبي عبد الله ابن خفيف المعروف عندهم بالشيخ (١٥٠) وهو قدوة بلاد فارس كلها ومشهده معظم عندهم ياتون اليه بكرة وعشيا فيتمسّحون به ، وقد رأيت القاضي مجد الدين أتاه زائرا واستلمه ، وتأتى الخاتون إلى هذا المسجد في كل ليلة جمعة ، وعليه زاوية ومدرسة ويجتمع به القضاة والفقهاء ويفعلون به

__________________

(١٤٩) أحمد بن موسى هو أخ للامام الثامن من الائمة الاثنى عشر ، المدفون في مدينة مشهد وقد شيد قبر احمد هذا ومسجده عام ٧٤٤ ١٣٤٣ وأعيد بناؤه عام ٩١٢ ١٥٠٦ ثم في سنة ١٢٥٩ ١٨٤٣ ، وهو معروف تحت اسم شاه جراغ (Shah Tcheragh) بيد أن المدرسة والزاوية المتحدث عنهما ذهب أثرهما ... ـ د. التازي : إيران بين الأمس واليوم ... مصدر سابق.

(١٥٠) ولد هذا الشيخ ابن خفيف عام ٢٦٨ ٨٨٢ ، وهو ابن" لضابط عسكري كان تحت قيادة عمرو بن ليث الامير الصفّار وهو الذي أسس الطريقة الصوفية السنية بشيراز وقد توفي سنة ٣٧٢ ٩٨٢ ...

٤٧

كفعلهم في مشهد أحمد بن موسى ، وقد حضرت الموضعين جميعا ، وتربة الامير محمد شاه ينجوا والد السلطان أبي اسحاق متّصلة بهذه التربة والشيخ أبو عبد الله بن خفيف كبير القدر في الأولياء شهير الذكر ، وهو الذي أظهر طريق جبل سرنديب بجزيرة سيلان من أرض الهند (١٥١).

كرامة لهذا الشيخ

يحكى أنه قصد مرة جبل سرنديب ومعه نحو ثلاثين من الفقراء فأصابتهم مجاعة في طريق الجبل حيث لا عمارة وتاهوا عن الطريق وطلبوا من الشيخ أن ياذن لهم في القبض على بعض الفيلة الصغار ، وهي في ذلك المحلّ كثيرة جدّا ، ومنه تحمل إلى حضرة ملك الهند فنهاهم الشيخ عن ذلك فغلب عليهم الجوع فتعدّوا قول الشيخ وقبضوا على فيل صغير منها وذكّوه وأكلوا لحمه (١٥٢)، وامتنع الشيخ من أكله فلما ناموا تلك الليلة اجتمعت الفيلة من كل ناحية وأتت اليهم فكانت تشمّ الرجل منهم وتقتله حتى أتت على جميعهم وشمّت الشيخ ولم تتعرّض له ، وأخذه فيل منها ولفّ عليه خرطومه ورمى به على ظهره وأتى به الموضع الذي فيه العمارة فلما رءاه اهل تلك الناحية عجبوا منه واستقبلوه ليتعرّفوا أمره ، فلما قرب منهم أمسكه الفيل بخرطومه ووضعه عن ظهره إلى الأرض بحيث يرونه فجاءوا اليه وتمسّحوا به وذهبوا به إلى ملكهم فعرّفوه خبره وهم كفّار ، وأقام عندهم أيّاما.

وذلك الموضع على خوريسمّى خور الخيزران (١٥٣) ، والخور هو النّهر ، وبذلك الموضع مغاص الجوهر ، ويذكر أن الشيخ غاص في بعض تلك الأيام بمحضر ملكهم وخرج وقد ضمّ يديه معا ، وقال للملك : اختر ما في احداهما فاختار ما في اليمنى فرمى إليه بما فيها ، وكانت ثلاثة أحجار من الياقوت لا مثل لها وهي عند ملوكهم في التاج يتوارثونها.

وقد دخلت جزيرة سيلان هذه ، وهم مقيمون على الكفر إلا أنّهم يعظمون فقراء المسلمين ويؤوونهم إلى دورهم ويطعمونهم الطعام ويكونون في بيوتهم بين أهليهم واولادهم خلافا لساير كفار الهند فانهم لا يقربون المسلمين ولا يطعمونهم في آنيتهم ولا يسقونهم فيها ، مع أنهم لا يؤذونهم ولا يهجونهم ، ولقد كنّا نضطرّ إلى أن يطبخ لنا بعضهم اللحم فياتون به

__________________

(١٥١) لم نجد لهذه للأسطورة التالية مسندا في جهة أخرى وربما كانت من حكايات البحارة الفرس في الخليج على ما يفترضه گيب الذي يتحدث عن نقيشة وجدت في سيلان تحمل تاريخ ٣٣٧ ه‍ ـ (٩٤٩) تردد صدى شخصية مجهولة : باسم خالد برابي ثعلبة ... ـ أنظرII ص ٣١٤ التعليق ١٣٨ گيب ...

(١٥٣) خور الخيزران هو نهر بامبوس؟ (Bambus) وسيأتي مرة أخرى في السفر الثاني.

٤٨

في قدورهم ويقعدون على بعد منّا ويأتون باوراق الموز فيجعلون عليها الارز وهو طعامهم ويصبّون عليه الكوشان (١٥٤) وهو الإدام ويذهبون فنأكل منه وما فضل علينا تاكله الكلاب والطير ، وان اكل منه الولد الصغير الذي لا يعقل ضربوه واطعموه روث البقر ، وهو الذي يطهّر ذلك في زعمهم!

ومن المشاهد بها مشهد الشيخ الصالح القطب روزجهان البقلى (١٥٥) من كبار الأولياء ، وقبره في مسجد جامع يخطب فيه ، وبذلك المسجد يصلّي القاضي مجد الدين الذي تقدم ذكره،رضي‌الله‌عنه ، وبهذا المسجد سمعت عليه كتاب مسند الإمام أبي عبد الله محمد بن ادريس الشافعي، قال: أخبرتنا به وزيرة بنت عمر بن المنجا ، قالت اخبرنا أبو عبد الله الحسين بن أبى بكر بن المبارك الزبيدى ، قال : اخبرنا أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدّسى ، قال أخبرنا أبو الحسن المكّي بن محمد بن منصور بن علال العرضي ، قال : أخبرنا القاضي أبو بكر احمد بن الحسن الحرشي ، عن ابى العباس ابن يعقوب الأصم عن الربيع بن سليمان المرادي عن الامام ابى بعد الله الشافعي ، وسمعت أيضا عن القاضي مجد الدين بهذا المسجد المذكور كتاب (مشارق الأنوار) للإمام رضي الدين أبى الفضائل الحسن بن محمد بن الحسن الصغانى بحقّ سماعه له من الشيخ جلال الدين أبى هاشم محمد بن محمد بن أحمد الهاشمي الكوفى بروايته عن الامام نظام الدين محمود بن محمد بن عمر الهروي عن المصنّف.

ومن المشاهد بها مشهد الشيخ الصالح زركوب (١٥٦) وعليه زاوية لإطعام الطعام ، وهاذه المشاهد كلها بداخل المدينة وكذلك معظم قبور أهلها فإن الرجل منهم يموت ولده أو زوجته فيتّخذ له تربة من بعض بيوت داره ويدفنه هناك ويفرش البيت بالحصر والبسط ويجعل الشمع الكثير عند رأس الميت ورجليه ويصنع للبيت بابا إلى ناحية الزقاق وشباك حديد

__________________

(١٥٤) تقابله كلمة كاري (Kurry) المستعملة اليوم في منطقة الخليج ... وأتساءل عن صلة كلمة كوشان بالكوشري الاكلة الشعبية المحبّبة لنا عندما نزور القاهرة ونصل إلى منطقة الأزهر الشريف!

(١٥٥) وقع تحريف في سائر النسخ المخطوطة حيث رسمت المغلى أو القبلي عوض البقلي الذي هو الصحيح ، ويتعلق الامر بروزبهان بن أبي نصر البقلي (٥٢٢ ـ ٦٠٦ ١١٢٨ ـ ١٢٠٩) صوفي مشهور بتجلّياته ، خلف ترجمة بقلمه ، وقد اختفى قبره ولكنه اكتشف علم ١٣٤٧ ١٩٢٨.

Luis Massignon : La vie et les oeuvres de Rusbehan Baqli, copenhaque ٣٥٩١.

(١٥٦) زركوب هذا تلميذ من تلامذة الشيخ الرفاعي وروز جهان البقلى ، وهو عز الدين مودود ابن محمد الذهبي ... ويلقب بزركوب : لفظ فارسي يعني صائغ الذهب وقد أدركه أجله عام ٦٦٣ ١٢٦٥ ...

٤٩

فيدخل منه القرّاء يقرءون بالأصوات الحسان وليس في معمور الارض أحسن أصواتا بالقرآن من أهل شيراز ويقوم أهل الدار بالتّربة ويفرشونها ويوقدون السّرج بها فكأنّ الميت لم يبرح ، وذكر لي أنهم يطبخون في كلّ يوم نصيب الميت من الطعام ويتصدّقون به عنه.

حكاية [الفقيه الجواد]

مررت يوما ببعض أسواق مدينة شيراز ، فرأيت بها مسجدا متقن البناء جميل الفرش ، وفيه مصاحف موضوعة في خرايط حرير موضوعة فوق كرسي ، وفي الجهة الشمالية من المسجد زاوية فيها شباك مفتّح إلى جهة السوق ، وهنالك شيخ جميل الهيئة واللّباس ، وبين يديه مصحف يقرأ فيه ، فسلمت عليه وجلست إليه فسألني عن مقدمي ، فاخبرته ، وسألته عن شأن هذا المسجد ، فأخبرني أنه هو الذي عمّره ووقف عليه أوقافا كثيرة للقرّاء وسواهم وان تلك الزاوية التي جلست إليه فيها هي موضع قبره إن قضى الله موته بتلك المدينة ، ثم رفع بساطا كان تحته والقبر مغطّى عليه الواح خشب ، وأراني صندوقا كان بازائه ، فقال : في هذا الصندوق كفني وحنوطي ودراهم كنت استاجرت بها نفسي في حفر بئر لرجل صالح فدفع لي هذه الدراهم فتركتها لتكون نفقة مواراتي ، وما فضل منها يتصدّق بها ، فعجبت من شانه وأردت الانصراف فحلف عليّ وأضافني بذلك الموضع.

ومن المشاهد بخارج شيراز قبر الشيخ الصالح المعروف بالسعدي (١٥٧) وكان أشعر أهل زمانه باللسان الفارسي ، وربّما ألمع في كلامه بالعربي ، وله زاوية كان قد عمرها بذلك الموضع حسنة ، بداخلها بستان مليح ، وهي بقرب رأس النهر الكبير المعروف بركن آباد ، وقد صنع الشيخ هنالك أحواضا صغارا من المرمر لغسل الثياب ، فيخرج الناس من المدينة لزيارته ويأكلون من سماطه ويغسلون ثيابهم بذلك النهر وينصرفون ، وكذلك فعلت عنده رحمه‌الله ، وبمقربة من هذه الزاوية زاوية أخرى تتّصل بها مدرسة مبنيتان على قبر شمس الدين السّمناني (١٥٨) وكان من الامراء الفقهاء ، ودفن هنالك بوصيّة منه بذلك.

__________________

(١٥٧) ولد سعدي حوالي سنة ٥٨٠ ١١٨٤ ، وقد توفي عن سن يجاوز المائة ٦٩١ ١٢٩٢ ، وقد فقد أباه في سن مبكرة كما تدل على ذلك قصيدة يقول فيها من جملة ما يقول :

" إذا رأيت يتيما قد خفض رأسه في ذلة وانكسار فحذار أن تقبّل أمامه واحدا من أولادك الصغار فلقد كانت رأسي يعلوها تاج ذهبى عندما كنت أعيش هانئا في كنف أبي وكانت إذا حطّت ذبابة واحدة على جسدي إضطربت أذهان جملة من الناس خوفا من غضبي ...! " وهو صاحب الشّعر الآتي IV ، ٢٩٠ ـ أدوارد براون: تاريخ الادب في إيران ، تعريب : د. ابراهيم الشواربي ، مصر ، ص ٦٦٩ سنة ١٩٥٤.

(١٥٨) هو محمد بن الحسن بن عبد الكريم قاضي سمنان في خراسان ، رسائل رشيد الدين ٢٧ ـ ٢٩.

٥٠

٥١

وبمدينة شيراز من كبار الفقهاء الشريف مجيد الدين وأمره في الكرم عجيب ، وربّما جاد بكلّ ما عنده وبالثياب التي كانت عليه ويلبس مرقّعة له ، فيدخل عليه كبراء المدينة فيجدونه على تلك الحال فيكسونه ، مرتّبه في كل يوم من السلطان خمسون دينارا دراهم.

ثم كان خروجي من شيراز برسم زيارة قبر الشيخ الصالح أبي اسحاق الكازروني بكازرون وهي على مسيرة يومين من شيراز (١٥٩) ، فنزلنا أول يوم ببلاد الشّول ، وهم طائفة من الاعاجم يسكنون البريّة وفيهم الصالحون.

كرامة لبعضهم.

كنت يوما ببعض المساجد بشيراز وقد قعدت أتلو كتاب الله عزوجل إثر صلاة الظهر فخطر بخاطري أنه لو كان لي مصحف كريم لتلوت فيه ، فدخل عليّ في أثناء ذلك شابّ وقال لي بكلام قوّي : خذ! فرفعت رأسي إليه فألقى في حجري مصحفا كريما ، وذهب عنّي فختمته ذلك اليوم قراءة ، وانتظرته لا ردّه له فلم يعد إليّ ، فسألت عنه ، فقيل لي : ذلك بهلول الشّولى ولم أره بعد.

ووصلنا في عشىّ اليوم الثاني إلى كازرون فقصدنا زاوية الشيخ أبي اسحاق ، (١٦٠) نفع الله به ، وبتنا بها تلك الليلة ، ومن عادتهم أن يطعموا الوارد كائنا من كان الهريسة (١٦١) المصنوعة من اللحم والقمح والسمن وتؤكل بالرقاق ولا يتركون الوارد عليهم للسّفر حتى يقيم في الضيافة ثلاثة أيام ، ويعرض على الشيخ الذي بالزاوية حوائجه ويذكرها الشيخ للفقراء الملازمين للزاوية ، وهم يزيدون على مائة منهم المتزوّجون ، ومنهم الأعزب المتجرّدون ، فيختمون القرآن ويذكرون الذكر ، ويدعون له عند ضريح الشيخ أبي إسحاق فتقضى حاجته بإذن الله.

__________________

(١٥٩) تقع كازرون على بعد ٥٥ ميلا (٢٠ فزسخا) غربي شيراز ، أما بلاد الشول فهي شولستان ، وهي التي وردت في مذكرات ماركو بولو تحت اسم (Cielstan) كواحدة من" إمارات" فارس ، وتقع شمال غربي شيراز ، وعمرت في القرن السادس الهجري ، الثاني عشر الميلادي من طرف قبائل من أصل كردي أبعدت من لورستان ... يحتفظ بهذا الاسم اليوم في المدينة الصغيرة التي تحمل اسم شول. وتقع على بعد ٣٣ ميلا شمال غربيّ شيراز ومنطقة شولستان.

(١٦٠) هو أبو اسحاق ابراهيم بن شهريار الكازروني المولود سنة ٣٥٢ ٩٦٣ والمتوفى عام ٤٢٦ ١٠٣٥ وهو من تلامذة ابن خفيف سالف الذكر (التعليق (١٥٠) وهو مؤسس الطريقة التي تنسب اليه والمنتشرة من انطاكية إلى الهند والصين ، وقبره ما يزال موجودا في كازارون.

(١٦١) الهريسة في بلاد المشرق تتألف من خليط من الحنطة بإضافة اللحم المفرم ، طعام يتناوله الصوفية ، وهي غير الهريسة في تونس التي تعني معجون الفلفل الحار ، وهي غير الدشيشة : الصحن الذي كان يقدّمه نبيّ الله ابراهيم إلى ضيوفه!! وتتألف كذلك من القمح المدعوس ، يراجع سفر نامه لخسرو علوي ص ٨٧ ت. ١. د. التازي : القدس والخليل عند الرحالة المغاربة ـ عمان ١٩٩٦.

٥٢

وهذا الشيخ أبو اسحاق معظم عند أهل الهند والصين ، ومن عادة ركّاب بحر الصين أنهم إذا تغيّر عليهم الهواء وخافوا اللّصوص نذروا لأبي اسحاق نذورا وكتب كل منهم على نفسه ما نذره فإذا وصلوا برّ السلامة صعد خدّام الزاوية إلى المركب واخذوا الزمام وقبضوا من كل ناذر نذره ، وما من مركب ياتي من الصين أو الهند إلا وفيه آلاف من الدّنانير فياتي الوكلاء من جهة خادم الزاوية فيقبضون ذلك ، ومن الفقراء من ياتي طالبا صدقة الشيخ فيكتب له أمر بها ، وفيه علامة الشيخ منقوشة في قالب من الفضّة ، فيضعون القالب في صبغ أحمر ويلصقونه بالأمر فيبقى أثر الطابع فيه ويكون مضمّنه أنه من عنده نذر للشيخ أبي إسحاق فليعط منه لفلان ، فيكون الأمر بالألف والمائة وما بين ذلك ودونه على قدر الفقير ، فإذا وجد من عنده شيء من النذر قبض منه وكتب له رسما في ظهر الأمر بما قبضه.

ولقد نذر ملك الهند مرّة للشيخ أبي اسحاق بعشرة آلاف دينار فبلغ خبرها إلى فقراء الزاوية فأتى أحدهم إلى الهند وقبضها وانصرف بها إلى الزاوية.

ثم سافرنا من كازرون إلى مدينة الزّيدين (١٦٢) ، وسمّيت بذلك لان فيها قبر زيد بن ثابت وقبر زيد بن أرقم الانصاريّين صاحبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما ، ورضى الله عنهما ، وهي مدينة حسنة كثيرة البساتين والمياه مليحة الاسواق عجيبة المساجد ولأهلها صلاح وأمانة وديانة ، ومن أهلها القاضي نور الدين الزيداني ، وكان ورد على أهل الهند ، فولى القضاء منها بذيبة المهل (١٦٣)، وهي جزائر كثيرة ملكها جلال الدين بن صلاح الدين صالح ، وتزوج باخت هذا الملك ، وسياتي ذكره ، وذكر بنته خديجة التي تولت الملك بعده بهذه الجزائر ، وبها توفى القاضي نور الدين المذكور.

ثم سافرنا منها إلى الحويزاء بالزاي (١٦٤) ، وهي مدينة صغيرة يسكنها العجم ، بينها وبين البصرة مسيرة أربع ، وبينها وبين الكوفة مسيرة خمس ، ومن أهلها الشيخ الصالح

__________________

(١٦٢) زيدان مدينة تقع بين أرّجان وبين دروق ، مسافة مسيرة من دورق ، وأقل من ثلاثة أيام من أرّجان.

وحديث ابن بطوطة عن دلالة تثنية زيد خطأ لأن زيد بن ثابت توفى بالمدينة عام ٤٨ ٦٦٨ وبها دفن كما يقول الهروي ، وكذلك فإن زيد بن الارقم توفي بالكوفة عام ٦٣ ٦٨٣ ... والذي يظهر أن حرفي (ان) استعمال خليجي ذكره ياقوت في معجم البلدان في مادة (البصرة) عند ما قال : وفي اصطلاح أهل البصرة أن يزيدو في اسم الرجل الذي تنسب اليه القرية ألفا ونونا نحو قولهم طلحتان وخيرتان وعبد الرحمانان ...

(١٦٣) القصد إلى مالديف وسيأتي الحديث عنها في السفر الثاني مفصّلا.

(١٦٤) الحويزة تصغير الحوزة : قرية تقع على بعد ٧٠ ميلا من المحمّرة شمالها ، نشأ بها عدد من المحدثين والعلماء. وقد يغير اسمها في الفارسية إلى (هويزة) بالهاء ، (الأهواز) واليها ينتسب الشيخ عبد علي الحويزي الذي فسّر القرآن بعنوان (نور الثقلين) ، وهو تفسير للقرآن بالأحاديث ، كان يقيم بها الناس من مختلف الأجناس ، ـ نعمة الله الجزائري : زهر الربيع ، ص ٥٩ ،

٥٣

العابد جمال الدين الحويزاي شيخ خانقاه سعيد السعداء بالقاهرة.

ثم سافرنا منها قاصدين الكوفة في برّيّة لا ماء بها إلّا في موضع واحد يسمى الطرفاوي (١٦٥) وردناه في اليوم الثالث من سفرنا ، ثم وصلنا بعد اليوم الثاني من ورودنا عليه إلى مدينة الكوفة(١٦٦).

مدينة الكوفة

وهي إحدى أمّهات البلاد العراقيّة ، المتميّزة فيها بفضل المزيّة ، مثوى الصحابة والتابعين ، ومنزل العلماء والصالحين ، وحضرة عليّ بن أبي طالب أمير المومنين ، الّا أن الخراب قد استولى عليها بسبب أيدي العدوان التي امتدّت اليها وفسادها من عرب خفاجة المجاورين لها ، فانّهم يقطعون طريقها ، ولا سور عليها ، وبناؤها بالآجر ، واسواقها حسان وأكثر ما يباع فيها التمر والسمك ، وجامعها الأعظم جامع كبير شريف ، بلاطاته سبعة قائمة على سواري حجارة ضخمة منحوتة ، قد صنعت قطعا ، ووضع بعضها على بعض وافرغت بالرصاص وهي مفرطة الطول. وبهذا المسجد آثار كريمة فمنها بيت إزاء المحراب عن يمين مستقبل القبلة ، يقال : إن الخليل ، صلوات الله عليه ، كان له مصلّى بذلك الموضع ، وعلى مقربة منه محراب محلّق عليه بأعواد الساج مرتفع وهو محراب عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، وهنالك ضربه الشّقي ابن ملجم (١٦٧) والناس يقصدون الصلاة به ، وفي الزاوية من آخر هذا البلاط مسجد صغير محلّق عليه ايضا بأعواد الساج يذكر أنه الموضع الذي فار منه التنّور حين طوفان نوح عليه‌السلام (١٦٨) ، وفي ظهره خارج المسجد بيت يزعمون أنّه بيت

__________________

(١٦٥) كان على ابن بطوطة أن يقطع نهر دجلة في بعض النقاط الواقعة بين الحويزاء ، وبين الكوفة وعن الاسم (الطرفاوي) لم يكن في الاستطاعة تحديده ...

(١٦٦) أسست مدينة الكوفة كحامية عام ١٧ ٦٣٨ من قبل العرب بعد فتح العراق ، كما هو الامر بالنسبة للبصرة ، وقد اختارها الامام علي كعاصمة للخلافة عوض المدينة ٣٥ ٦٥٦ ، وفيها اغتيل عام ٤١ ٦٦١ وقد بني سورها من لدن المنصور العباسي ، كانت المنطقة تنتج القطن والحبوب ، وسكانها كانوا حسب مستوفي ، شيعة ... وإن معظم ما ورد في وصفها من قبل الرحالة المغربي مستمد من ابن جبير الذي زارها عام ٥٨٠ ١١٨٤ ...

(١٦٧) كان الامام علي رضي‌الله‌عنه قضى في النهروان عام ٣٨ ٦٥٨ على عدد كبير من الخوارج الذين امتنعوا عن مناصرته في الصراع الذي دار بينه وبين معاوية والذي سيصبح أصل الخلاف بين السنة والشيعة ، ومن هنا وجدنا أحد الخوارج : ابن ملجم يغتال عليّا في جامع الكوفة سنة ٤٠ ٦٦١. الذي يقول ابن جبير (ص ١٦٨) " إن عدد أبلطته في الجانب القبلي خمسة وفي سائر الجوانب بلاطان ويضيف ابن جبير : " إن الناس يصلون فيه باكين داعين" ...

(١٦٨) القرآن الكريم ، السورة ١١ ، الآية ٤٠ : حتى إذا جاء أمرنا وفار التنّور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك.

٥٤

نوح عليه‌السلام (١٦٩) ، وازاءه بيت يزعمون انه متعبّد إدريس عليه‌السلام ، ويتّصل بذلك فضاء متّصل بالجدار القبليّ من المسجد يقال : إنّه موضع إنشاء سفينة نوح عليه‌السلام.

وفي آخر هذا الفضاء دار عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه والبيت الذي غسل فيه ، ويتّصل به بيت يقال أيضا : إنه بيت نوح عليه‌السلام ، والله أعلم بصحّة ذلك كلّه.

وفي الجهة الشرقيّة من الجامع بيت مرتفع يصعد إليه ، فيه قبر مسلم بن عقيل بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه (١٧٠) ، وبمقربة منه خارج المسجد قبر عاتكة (١٧١) ، وسكينة (١٧٢) بنتي الحسين عليه‌السلام. وامّا قصر الإمارة بالكوفة الذي بناه سعد بن أبي وقّاص رضي‌الله‌عنه فلم يبق إلا أساسه!

والفرات من الكوفة على مسافة نصف فرسخ في الجانب الشرقيّ منها ، وهو منتظم بحدائق النّخل الملتفة المتّصل بعضها ببعض ، ورأيت بغربيّ جبّانة الكوفة موضعا مسودا شديد السواد في بسيط أبيض فأخبرت انّه قبر الشقيّ ابن ملجم ، وان أهل الكوفة يأتون في كلّ سنة بالحطب الكثير فيوقدون النار على موضع قبره سبعة أيّام (١٧٣) وعلى قرب منه قبّة أخبرت أنها على قبر المختار بن أبي عبيد.

ثمّ رحلنا (١٧٤) ونزلنا بئر ملّاحة (١٧٥) ، وهي بلدة حسنة بين حدائق نخل ونزلت

__________________

(١٦٩) يقول ابن جبير" بيت لابنة نوح ، ويقول الهروي : " وبالجامع دار نوح ورحى ذكر أهل الكوفة أنها كانت لابنة نوح تطحن بها ..." ص ٧٨.

(١٧٠) هذا تابعي من ذوي الرأي والشجاعة كان مقيما بمكة وانتدبه الحسن (السّبط) بن علي ليتعرف له على أحوال أهل الكوفة حين وردت عليه كتبهم يدعونه ويبايعون له ... فشعر به عبيد الله بن زياد أمير الكوفة فطلبه ... وتفرق الناس عنه ، فأوى إلى دار امرأة ولم يلبث أن اكتشف الأمير مكانه فقتله عام ٦٠ ٦٨٠.

(١٧١) عاتكة بنت الحسين ... معلومات ينفرد بها ابن بطوطة عن عاتكة ،

(١٧٢) سلف الحديث حول قبر السيدة سكينة عندما كان ابن بطوطة في دمشق ...

(١٧٣) تتم عملية إيقاد النيران أيام عاشوراء على ما أخبرت به عند زياراتي المتعددة للكوفة ، وبالمناسبة نذكر أن المغاربة اعتادوا في كل عاشوراء أن يوقدوا نارا ليتفرجوا عليها ، وأغلب الناس لا يعرفون أن لهذه العادة صلة بتعلق الناس بالامام علي رضي‌الله‌عنه ...

(١٧٤) المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي من زعماء الثائرين علي بني أمية بالكوفة عام ٦٥ ه‍ ٦٨٥ ، وقد أدركه أجله أثناء معركة ضد قوات عبد الله ابن الزبير سنة ٦٧ ٦٨٧ ...

(١٧٥) ملّاحة هي (الكفل) حاليا وتقع بين الكوفة والحلّة ... ويقول الهروي : " وبها لليهود من الزيارات هناك قبر ذي الكفل وهو النّبي حزقيل عليه‌السلام في موضع يقال له بئر ملاحة ... وقد ذكر مستوفي أن الأمير الايلخاني أو لجايتو هو الذي سحب حراسة هذا القبر ، وكانت من اختصاص اليهود ، وأسندها للمسلمين وبنى هناك مسجدا ...

٥٥

بخارجها وكرهت دخولها لأن أهلها روافض ، ورحلنا منها الصبح ، فنزلنا مدينة الحلّة (١٧٦) وهي مدينة كبيرة مستطيلة مع الفرات وهو بشرقيّها ، ولها أسواق حسنة جامعة للمرافق والصناعات وهي كثيرة العمارة ، وحدائق النخل منتظمة بها داخلا وخارجا ، ودورها بين الحدائق ، ولها جسر عظيم معقود على مراكب متّصلة منتظمة فيما بين الشطّين تحفّ بها من جانبيها سلاسل من حديد مربوطة في كلا الشطّين إلى خشبة عظيمة مثبتة بالساحل.

وأهل هذه المدينة كلّها إماميّة اثنا عشريّة ، وهم طائفتان إحداهما تعرف بالأكراد والأخرى تعرف بأهل الجامعين ، والفتنة بينهم متّصلة ، والقتال قائم أبدا.

وبمقربة من السوق الأعظم بهذه المدينة مسجد على بابه ستر حرير مسدول وهم يسمّونه مشهد صاحب الزمان (١٧٧) ، ومن عادتهم أنّه يخرج في كلّ ليلة مائة رجل من أهل المدينة عليهم السلاح وبأيديهم السيوف مشهورة فيأتون أمير المدينة بعد صلاة العصر فيأخذون منه فرسا مسرّجا ملجما أو بغلة كذلك ويضربون الطبول والأنفار والبوقات أمام تلك الدابّة ويتقدّمها خمسون منهم ويتبعها مثلهم ، ويمشي آخرون عن يمينها وشمالها وياتون مشهد صاحب الزمان فيقفون بالباب ويقولون : باسم الله يا صاحب الزمان باسم الله أخرج قد ظهر الفساد وكثر الظلم ، وهذا أوان خروجك ليفرق الله بك بين الحق والباطل (١٧٨). ولا يزالون كذلك وهم يضربون الأبواق والأطبال والأنفار إلى صلاة المغرب ، وهم يقولون ، إن محمد بن الحسن العسكري دخل ذلك المسجد وغاب فيه وأنّه سيخرج : وهو الإمام المنتظر عندهم.

وقد كان غلب على مدينة الحلّة بعد موت السلطان أبي سعيد الامير أحمد بن رميثة بن أبي نمى أمير مكّة (١٧٩) وحكمها أعواما وكان حسن السيرة يحمده أهل العراق إلى أن غلب

__________________

(١٧٦) الحلة أسست عام ٤٩٦ ١١٠٢ من لدن شيخ عربي شيعي : صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي كمقر لامارة عربية صغيرة ، وقد أصبحت أفخر بلاد العراق ، وبفضل جسرها أصبحت محطة هامة في الطريق المؤدية من بغداد إلى الحجاز.

(١٧٧) هو الامام الثاني عشر من أئمة الشيعة : المهدي المنتظر.

(١٧٨) ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذين عملوا لعلهم يرجعون : السورة ٣٠ ، الآية ٤١. هذا وتوجد عوض (ليفرق) كلمة (ليعرف) في النسخ المنشورة تقليدا لما في الطبعة الباريسية.

(١٧٩) أحمد بن رميثة أمير مكة سمى حوالي سنة ٧٣٠ ١٣٣٠ من لدن العاهل المغولي الايلخان أبي سعيد أميرا للعرب بالعراق ، واغتناما لفرصة تفجير المملكة الإيلخانية عام ٧٣٦ ١٣٣٦ أعلن الأمير أحمد استقلاله واحتل مدينة الكوفة بيد أنه غلب على أمره وقتل عام ٧٣٩ ١٣٣٩ من لدن الشيخ حسن مؤسس دولة الجلايريين في بغداد ...

٥٦

عليه الشيخ حسن سلطان العراق فعذّبه وقتله ، وأخذ الاموال والذخاير التي كانت عنده.

ثمّ سافرنا منها إلى مدينة كربلاء مشهد الحسين بن عليّ عليهما‌السلام وهي مدينة صغيرة تحفّها حدائق النخل ويسقيها ماء الفرات. والروضة المقدّسة داخلها ، وعليها مدرسة عظيمة ، وزاوية كريمة ، فيها الطعام للوارد والصادر ، وعلى باب الروضة الحجّاب والقومة لا يدخل أحد إلّا عن إذنهم فيقبّل العتبة الشريفة وهي من الفضّة وعلى الضريح المقدّس قناديل الذهب والفضّة وعلى الأبواب أستار الحرير وأهل هذه المدينة طائفتان : أولاد رخيك وأولاد فايز ، وبينهما القتال أبدا ، وهم جميعا إماميّة يرجعون إلى أب واحد (١٨٠) ولأجل فتنهم تخرّبت هذه المدينة. ثم سافرنا منها إلى بغداد.

مدينة بغداد

مدينة دار السلام (١٨١) ، وحضرة الاسلام ، ذات القدر الشريف ، والفضل المنيف ، مثوى الخلفاء ، ومقرّ العلماء ، قال أبو الحسين بن جبير رضي‌الله‌عنه ، وهاذه المدينة العتيقة وان لم تزل حضرة الخلافة العبّاسية ، ومثابة الدعوة الإماميّة القرشيّة ، فقد ذهب رسمها ، ولم يبق الّا اسمها ، وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها ، والتفات أعين النوائب إليها ، كالطلل الدارس ، أو تمثال الخيال الشاخص ، فلا حسن فيها يستوقف البصر ، ويستدعى من المستوفز الغفلة والنظر ، إلّا دجلتها التي هي بين شرقيّها وغربيّها كالمرآة المجلوّة بين صفحتين ، أو العقد المنتظم بين لبّتين ، فهي تردها ولا تظمأ ، وتتطلّع منها في مرآة صقيلة لا تصدأ ، والحسن الحريمي بين هوائها ومائها ينشأ.

قال ابن جزي : وكأن أبا تمّام حبيب بن أوس (١٨٢) اطّلع على ما آل إليه أمرها حين قال فيها:

__________________

(١٨٠) كربلاء الموقع الذي جرت فيه المعركة التي استشهد فيها الإمام الحسين رضي‌الله‌عنه ... هذا ولا يوجد مصدر غير ابن بطوطة حول هاتين الطائفتين على نحو ما لا يوجد مصدر للطائفتين سالفتي الذكر عند الكلام على الحلة ...

(١٨١) يستوحي ابن بطوطة كذلك من وصف ابن جبير لبغداد ، ولكن من غير أن يماشيه كثيرا لان هناك بين تاريخ الرحالتين حدثا بارزا يعرفه التاريخ وهو اجتياح بغداد من قبل المغول عام ٦٥٦ ١٢٥٨ ، علاوة على انتهاء عصر الخلافة الذي غيّر من معالم المدينة ...

(١٨٢) هو حبيب بن أوس الطائي ، أبو تمام ... استقدمه المعتصم إلى بغداد فأجازه وقدمه على شعراء وقته ، ثم ولى بريد الموصل وبها توفي ، ويحفظ أربعة عشر الف أرجوزة من أراجيز العرب غير القصائد والمقاطع ... من كتبه المشهورة ديوان الحماسة ، أدركه أجله عام ٢٣١ ٨٤٦.

٥٧

٥٨

لقد أقام على بغداد ناعيها

فليبكها لخراب الدّهر باكيها!

كانت على مائها والحرب موقدة

والنّار تطفا حسنا في نواحيها

ترجى لها عودة في الدّهر صالحة

فالآن أضمر منها اليأس راجيها

مثل العجوز التي ولّت شبيبتها

وبان عنها جمال كان يحظيها!!

وقد نظم الناس في مدحها وذكر محاسنها فأطنبوا ، ووجدوا مكان القول ذا سعة فاطالوا وأطابوا وفيها قال الإمام القاضي أبو محمد عبد الوهّاب بن علي بن نصر المالكي البغدادي (١٨٣) ، وأنشدنيه والدي ، رحمه‌الله ، مرّات

طيب الهواء ببغداد يشوّقني

قربا إليها وان عاقت مقادير

وكيف أرحل عنها اليوم اذ جمعت

طيب الهوائين ممدود ومقصور

وفيها يقول أيضا رحمه‌الله تعالى ورضي عنه :

سلام على بغداد في كلّ موطن

وحقّ لها منّى السّلام المضاعف

فو الله ما فارقتها عن قلى لها

وانّي بشطّي جانبيها لعارف

ولا كنّها ضاقت عليّ برحبها

ولم تكن الأقدار فيها تساعف

وكانت كخلّ كنت أهوى دنوّه

وأخلاقه تنأى به وتخالف!

وفيها يقول أيضا مغاضبا لها ، وأنشدنيه والدي رحمه‌الله غير ما مرّة :

بغداد دار لأهل المال واسعة

وللصّعاليك دار الضّنك والضيق

ظللت أمشي مضاعا في أزقّتها

كأنّني مصحف في بيت زنديق (١٨٤)!!

__________________

(١٨٣) هذا هو القاضي عبد الوهاب ، ولد ببغداد ٣٦٢ ٩٧٣ ... ورحل إلى الشام فاجتمع بأبي العلاء ، وتوجه إلى مصر فعلت شهرته وبها توفي عام ٤٢٢ ١٠٣١ ، له عدد من المؤلفات في الفقه ...

(١٨٤) اشتهر البيتان على ألسنة الناس ببعض تغيير : عوض واسعة طيبة ، وعوض الصعاليك : المفاليس ، وعوض أمشي مضاعا : حيران أمشي ... غير أن كل الروايات اتفقت على : " كأنني مصحف في بيت زنديق"!!

٥٩

وفيها يقول القاضي أبو الحسن عليّ بن النبيه من (١٨٥) قصيدة :

انست بالعراق بدرا منيرا

فطوت غيهبا ، وخاضت هجيرا

واستطابت ريّا نسائم بغدا

د فكادت لو لا البرى أن تطيرا

ذكرت من مسارح الكرخ روضا

لم يزل ناضرا وماء نميرا

واجتنت من ربى المحوّل نورا

واجتلت من مطالع التّاج نورا

ولبعض نساء بغداد في ذكرها (١٨٦) :

آها على بغدادها وعراقها

وظبائها والسّحر في أحداقها

ومجالها عند الفرات بأوجه

تبدو أهلّتها على أطواقها

متبخترات في النعيم كانّما

خلق الهوى العذريّ من أخلاقها

نفسي الفداء لها ، فأي محاسن

في الدّهر تشرق من سنا إشراقها

رجع ، ولبغداد جسران اثنان (١٨٧) معقودان على نحو الصّفة التي ذكرناها في جسر مدينة الحلّة ، والناس يعبرونهما ليلا ونهارا رجالا ونساء ، فهم في ذلك في نزهة متّصلة (١٨٨) ، وببغداد من المساجد التي يخطب فيها وتقام فيها الجمعة أحد عشر مسجدا ، منها بالجانب الغربيّ ثمانية وبالجانب الشرقيّ ثلاثة والمساجد سواها كثيرة جدّا وكذلك المدارس إلا أنها

__________________

(١٨٥) علي بن محمد بن النبيه شاعر منشئ من أهل مصر مدح الايوبيين وتولى ديوان الانشاء الذي يعني وزارة الخارجية (وليس ديوان القضاء كما عند ابن بطوطة) للملك الأشرف موسى ، ورحل إلى نصيبين فسكنها وتوفي بها عام ٦١٩ ١٢٢٢ ـ الأبيات تصف رحلة ناقته. والبرى ج برة : حلقة توضع في أنف الناقة ، يقول : لو لا أنها ناقة لطارت إلى بغداد من شوقها إليها ...! والكرخ : الحي الرئيسي ببغداد يقع على الشط الغربي ، والمحوّل : اسم مكان كان ناديا للهو في ضواحي بغداد غربيّها. والتاج اسم لقصر من قصور الخلفاء على الشط الشرقي ...

(١٨٦) من إسهام ابن بطوطة في التعريف بالآدب النسوي في بغداد على ذلك العهد ، ويلاحظ أن معظم النسخ تحرّك حرف اللّام من كلمة (خلق) بالكسرة بينما بعضها يضبط اللام بالضم : خلق.

(١٨٧) الجسران اللذان يتحدث عنهما على ذلك العهد هما اللذان كانا يقعان على التوالي : الأول في الطرف الشمالي لسوق الثلاثاء ، والثاني في جوار قصر التاج إلى ضاحية القرية. هذا وينبغي إن نرجع إلى الجزء الأول من تاريخ بغداد للخطيب البغدادي لنعرف عن عدد الجسور في بغداد ، وقد كان أولها جسر أبي جعفر عام ١٥٧ ٧٧٤ ، وفد كان هناك جسر خاص بالنساء ...

(١٨٨) ينبغي أن نقف قليلا مع هذا التعبير الجميل الذي اقتبسه ابن بطوطة من سابقه ابن جبير (صفحة ١٨٠) ، هذا التعبير هو : .." في نزهة متصلة" أي أن الناس في تحركاتهم عبر الزوارق على تقدير ابن جبيرا وعبر الجسور في تقدير ابن بطوطة كانما هم في (نزهة متصلة) الأمر الذي كنا نشعر به طوال مقامنا السعيد الرغيد في عاصمة الرافدين!!

٦٠