رحلة ابن بطوطة - ج ٢

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ٢

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-008-7
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٢٦٨

٢٤١

بفتح الصاد المهمل ، واحدتها صومة (٦٩) ، وأعطت بنته أكثر منهنّ وكستي وأركبتني ، واجتمع لي من الخيل والثياب وفروات السنجاب والسّمور جملة.

ذكر سفري إلى القسطنطينية

وسافرنا في العاشر من شوّال (٧٠) في صحبة الخاتون بيلون وتحت حرمتها ، ورحل السلطان في تشييعها مرحلة ورجع هو والملكة ووليّ عهده ، وسافر سائر الخواتين في صحبتها مرحلة ثانية ، ثم رجعن ، وسافر صحبتها الأمير بيدرة في خمسة آلاف من عسكره (٧١).

وكان عسكر الخاتون نحو خمسمائة فارس منهم خدّمها من المماليك والروم نحو مائتين والباقون من التّرك ، وكان معها من الجواري نحو مائتين أكثرهنّ روميات ، وكان لها من العربات نحو أربعمائة عربة ونحو ألفي فرس لجرّها وللركوب ، ونحو ثلاثمائة من البقر ومائتين من الجمال لجرّها ، وكان معها من الفتيان الروميين عشرة ، ومن الهنديّين مثلهم ، وقائدهم الأكبر يسمّى بسنبل الهندي ، وقائد الروميين يسمى بميخائيل ، ويقول له الأتراك لؤلؤ ، وهو من الشجعان الكبار وتركت أكثر جواريها وأثقالها بمحلة السلطان إذ كانت قد توجّهت برسم الزيارة ووضع الحمل.

وتوجهنا إلى مدينة أكك (٧٢) ، وهي بضم الهمزة وفتح الكاف الأولى ، مدينة متوسطة حسنة العمارة كثيرة الخيرات شديدة البرد وبينها وبين السّرا حضرة السلطان مسيرة عشر ،

__________________

(٦٩) الصّوم ج صومة : سبائك صغيرة من الفضة كانت تساوي على ذلك العهد خمس فلورينات من الذهب ، الكلمة آتية من اللغة البلغارية القديمة التي تعني ، إلى الآن ، في التركية الشرقية الروبّلات ، وتعني في التركية الغربية النقد أو الذهب الخالص.

(٧٠) عاشر شوال من السنة ٧٣٤ يوافق ١٤ يونيه ١٣٣٤.

(٧١) تعتبر المعلومات التي قدمها ابن بطوطة هنا عن غرب البحر الأسود : منطقة الشمال الشرقي للبلقان : مولدافيا ـ رومانيا ـ دوبروجا ، بلغاريا ... إلى القسطنطينية ، تعتبر الوحيدة التي حررت بالعربية في العصر الوسيط فلا أبو حامد الغرناطي ولا الشريف الادريسي يمكن أن يوازيه ...

Alexandre Popovic : ISLAM BALKANIQUE Berlin ٦٨٩١ ـ H. T. Norris : FACT\'or fantasy in Ibn Battuta\'s Journey along The northeren shares of the Blak Sea ـ ـ ـ Colloque. Tanger ٤٩٩١.

(٧٢) أكك : لا يتعلق الأمر هنا ب (UKAK) المشهورة التي ذكرها ماركوبولو والتي تقع على نهر الفولكا جنوب سراطوف ، ولكن القصد إلى موقع جغرافي صغير يحمل اسم لوكاك (LOCAQ) على بحر أزوف.

٢٤٢

٢٤٣

وعلى مسيرة يوم من هذه المدينة جبال الرّوس وهم نصارى شقر الشعور زرق العيون قباح الصور ، أهل غدر ، وعندهم معادن الفضّة (٧٣) ، ومن بلادهم يوتي بالصّوم ، وهي سبائك الفضّة التي بها يباع ويشترى في هذه البلاد ووزن الصّومة منها خمس أواقي.

ثم وصلنا بعد عشر من هذه المدينة إلى مدينة سرداق (٧٤) وضبط اسمها بضم السين المهمل وسكون الراء وفتح الدال المهمل وآخره قاف ، وهي من مدن دشت قفجق على ساحل البحر ، ومرساها من أعظم المراسي وأحسنها ، وبخارجها البساتين والمياه وينزلها الترك وطائفة من الروم تحت ذمّتهم ، وهم أهل الصنائع ، وأكثر بيوتها خشب ، وكانت هذه المدينة كبيرة فخرب معظمها بسبب فتنة وقعت بين الروم والترك ، وكانت الغلبة للرّوم فانتصر للترك أصحابهم وقتلوا الروم شرّ قتله ونفوا أكثرهم وبقي بعضهم تحت الذمّة إلى الآن.

وكانت (٧٥) الضيافة تحمل إلى الخاتون في كلّ منزل من تلك البلاد من الخيل والغنم والبقر والدّوقي والقمزّ وألبان البقر والغنم ، والسّفر في هذه البلاد مضحى ومعشى ، وكل أمير بتلك البلاد يصحب الخاتون بعساكره إلى آخر حدّ بلاده تعظيما لها ، لا خوفا عليها ، لأن تلك البلاد آمنة.

ثم وصلنا إلى البلدة المعروفة باسم بابا سلطوق (٧٦) ، وبابا عندهم بمعناها عند البربر سواء(٧٧) ، إلّا أنّهم يفخّمون الباء وسلطوق بفتح السين المهمل واسكان اللام وضمّ الطاء

__________________

(٧٣) يلاحظ أن المعلومات التي قدمها ابن بطوطة اعتمد فيها على ما كان يسمعه فإنه توجد في المنطقة مناجم رصاص فضّي على مقربة من نهر مييوس (MIUSS) بين أزوف وأكك هذا وقد علقت مخطوطة مغربية على كلمة (غدر) بأن هذا غير معهود في الروس!!

(٧٤) تقع سرداق (SURDAQ) أو (سولدايا) في جزيرة القرم وقد كانت الميناء الأساسي للتجارة في الشمال الشرقي لساحل البحر الأسود وكانت مركزا للبنادقة والجنويين ... وبما انها لم تكن على الطريق فيظهر أن زيارته لها تمت أثناء وجوده في جزيرة القرم.

(٧٥) لعل الإشارة إلى الصدام الذي أدى لاحتلال سرداق من لدن أوزبك خان عام ٧٢٢ ١٣٢٢. راجع الموسوعة الإسلامية مادة (Sughdak).

(٧٦) حسب الرواية التركية فإن ساري سلطيق كان رجلا مجاهدا احتل بواسطة جماعة من التركمان ـ دوبروجا (DOSBURDjA) بعد سنة ٦٥٨ ١٢٦٠ ، وقد أدركه أجله بها بعد سنة ٦٩٩ ١٣٠٠ ، قبره يوجد في مدينة بابا داغ شمال دوبروجا. وحيث إن ذلك الرجل الصالح على ما قيل عاش ردحا من الزمان في البراري الروسية فانه من المحتمل أن يكون المكان الذي يحمل اسمه موجودا في جنوب الروسيا على بعد ١٢٠٠ ك. م. من اصطرخان ـ تعليق ٧١.

(٧٧) نلاحظ أن ابن بطوطة وهو من قبيلة لواته المغربية لا يفتأ يقارن بين الألفاظ التي سمعها مما يجد لها علاقة بين ما هنا وهناك.

٢٤٤

المهمل وآخره قاف ، ويذكرون أن سلطوق هذا كان مكاشفا لاكن يذكر عنه أشياء ينكرها الشرع، وهذه البلدة آخر بلاد الأتراك ، وبينها وبين أوّل عمالة الرّوم ثمانية عشر يوما في بريّة غير معمورة ، منها ثمانية أيّام لا ماء بها ، يتزوّد لها الماء ، ويحمل في الرّوايا والقرب على العربات ، وكان دخولنا اليها في أيام البرد ، فلم نحتج إلى كثير من الماء (٧٨) ، والأتراك يرفعون الألبان في القرب ويخلطونها بالدّوقي المطبوخ ، ويشربونها فلا يعطشون.

وأخذنا من هذه البلدة في الاستعداد للبريّة ، واحتجت إلى زيادة أفراس فأتيت الخاتون فأعلمتها بذلك ، وكنت أسلّم عليها صباحا ومساء ومتى أتتها ضيافة تبعث إليّ بالفرسين والثلاثة وبالغنم ، فكنت أترك الخيل لا أذبحها وكان من معي من الغلمان والخدّام يأكلون من أصحابنا الأتراك فاجتمع لي نحو خمسين فرسا ، وأمرت لي الخاتون بخمسة عشر فرسا وأمرت وكيلها ساروجة الرومي (٧٩) أن يختارها سمانا من خيل المطبخ ، وقالت : لا تخف فإن احتجت إلى غيرها زدناك!!

ودخلنا البرية في منتصف ذي القعدة (٨٠) ، فكان سيرنا من يوم فارقنا السلطان إلى أول البرية تسعة عشر يوما ، وإقامتنا خمسة ، ورحلنا من هذه البريّة ثمانية عشر يوما مضحى ومعشى ، وما رأينا إلّا خيرا ، والحمد لله.

ثم وصلنا بعد ذلك إلى حصن مهتولي (٨١) ، وهو أول عمالة الروم ، وضبط اسمه بفتح

__________________

(٧٨) هنا يظهر أن ابن بطوطة يخلط بين خط سيره وهو ذاهب ، وبينه وهو عائد فإن البرية المتحدث عنها هي صحراء نوگي (NOGAI) وتوجد شمال القرم. والبرد المشار اليه ينبغي أن يتفق مع وقت عودته أواخر اكتوبر. رحلته صحبة الخاتون كانت في عز الصّيف على ما سنرى ...

ـ د. التازي : مع ابن بطوطة من البحر الأسود إلى نهر جيحون. المناهل ، مارس ١٧٧٥.

(٧٩) ساروجة : الاسم تركي ، ولكنه يعني : أشقر الشعر.

(٨٠) يوافق ١٥ ذو القعدة ٧٣٤ ١٥ يوليه ١٣٣٤ فكيف يكون هذا أيام اشتداد البرد وارتداء ثلاث فروات وسروالين وخفّين و... و... على ما سنقرأه (التعليق الآتي رقم ١١٣)!!

ـ هذا وبالنظر لما قدمه ابن بطوطة من تاريخ لابتداء الرحلة فإن المنطق يقتضي أن نقول : تسعة وعشرين يوما عوض تسعة عشر ...

(٨١) من الصعب أن يحدّد الباحث الطريق التي اتبعها ابن بطوطة في هذه الإشارة لأنه كان يقطع فضاء واسعا ، ولهذا فإن افاداته ليست واضحة ، ونعتقد أن ذاكرته كانت تخونه وهو يملي مذكراته ... لا سيما في هذه الرحلة الرسمية التي كان فيها ـ ضمن ركب الملكة ـ مسيّرا لا مخيّرا على نحو ما لاحظناه عليه وهو يصحب الأمير من بغداد إلى تبريز ... والعكس ...

وان المدينة الحدودية كانت على ذلك العهد ديامبوليس (Diampolis) أو كافولي (KAVULI) (جامبولي حاليا) جنوب نهر تونجا في بلغاريا وان عدد الأيام التي اجتازها من بابا سلطوق تشير إلى أن المسافة كانت ٨٠٠ ك. م وهي نفس المسافة بين نهر دنيبّير وجامبولي.!

٢٤٥

الميم وسكون الهاء وضم التاء المعلوّة وواو مدّ ولام مكسور وياء ، وكانت الروم قد سمعت بقدوم هذه الخاتون على بلادها فوصلها إلى هذا الحصن كفالي نقوله (٨٢) الرومي في عسكر عظيم وضيافة عظيمة وجاءت الخواتين والدايات من دار أبيها ملك القسطنطينية.

وبين مهتولي والقسطنطينية مسيرة اثنين وعشرين يوما إلى الخليج وستة منه إلى القسطنطيني، ولا يسافر من هذا الحصن إلا بالخيل والبغال ، وتترك العربات به لأجل الوعر والجبال ، وجاء كفالي المذكور ببغال كثيرة وبعثت إليّ الخاتون بستة منها وأوصت أمير ذلك الحصن بمن تركته من أصحابي وغلماني مع العربات والأثقال ، فأمر لهم بدار ، ورجع الأمير بيدرة بعساكره ، ولم يسافر مع الخاتون إلا ناسها ، وتركت مسجدها بهذا الحصن وارتفع حكم الآذان!!

وكان يؤتى إليها بالخمور في الضيافة فتشربها وبالخنازير ، وأخبرني بعض خواصّها أنها أكلتها ولم يبق معها من يصلّي الا بعض الأتراك كان يصلي معنا ، وتغيّرت البواطن لدخولنا في بلاد الكفر، ولاكن الخاتون أوصت الأمير كفالي بإكرامي ، ولقد ضرب مرة بعض مماليكه لما ضحك من صلاتنا! ثم وصلنا حصن مسلمة بن عبد الملك (٨٣) وهو بفسح جبل على نهر زخّار يقال له أصطفيلي ، ولم يبق من هذا الحصن إلّا آثاره ، وبخارجه قرية كبيرة ، ثم سرنا يومين ووصلنا إلى الخليج (٨٤) وعلى ساحلة قرية كبيرة فوجدنا فيه المدّ ، فأقمنا حتى كان الجزر وخضناه ، وعرضه نحو ميلين ومشينا أربعة أميال في رمال ووصلنا الخليج الثاني فخضناه وعرضه نحو ثلاثة أميال ، ثم مشينا نحو ميلين في حجارة ورمل ووصلنا الخليج الثالث ، وقد ابتدأ المدّ فتعبنا فيه وعرضه ميل واحد ، فعرض الخليج كله مائيّة ويابسة اثنا عشر ميلا ، وتصير ماء كلها في أيام المطر فلا تخاض إلّا في القوارب.

__________________

(٨٢) كفالي ترجمة للعلم الجغرافي الإغريقي Kephale معناه الرئيس والقائد ، ولفظ نقوله عند العرب يعني نيكولاص (Nicolas)

(٨٣) مسلمة ابن الخليفة عبد الملك له فتوحات مشهورة سار في مائة وعشرين ألفا لمحاصرة القسطنطينية في دولة أخيه سليمان ، سنة ٩٨ ٧١٦ ـ ٧١٧ ، وقد غزا مسلمة الترك عام ١٠٩ ٧٢٧ م ، أدركه أجله بالشام عام ١٢٠ ٧٣٨ ، هذا وتذكر التعاليق أن الحصن المتحدث عنه لم يبق له أثر وأن النهر المذكور لا تعرف عنه معلومات ، ومعنى هذا أن هذه معلومات أصيلة استأثر بها ابن بطوطة.

ـ M. Canard : les expeditions des arabes constantinopole, PARIS ٦٢٩١.

ـ فتحي عثمان : الحدود الإسلامية البيزنطية ، ٢ ، ٨٤ ، ٣ ، ٢٨٢ دار الكتاب العربي ـ القاهرة ١٩٦٦.

(٨٤) الحديث عن الخلجان بهذا الشكل يوحي بأن ابن بطوطة يتحدث عن منافذ نهر الدانوب ولو أن هذا يسلمنا إلى مشاكل حاولنا عبثا أن نتغلب عليها على ما سنرى.

٢٤٦

وعلى ساحل هذا الخليج الثالث مدينة الفنيكة (٨٥) واسمها بفاء مفتوحة ونون وياء مدّ وكاف مفتوح ، وهي صغيرة لاكنّها حسنة مانعة ، وكنائسها وديارها حسان ، والأنهار تخرقها والبساتين تحفّها ، ويدّخر بها العنب والاجّاص والتفاح والسفرجل من السنة إلى الأخرى ، وأقمنا بهذه المدينة ثلاثا والخاتون في قصر لأبيها هنالك ، ثمّ قدم أخوها شقيقها واسمه كفالي قراس (٨٦) في خمسة آلاف فارس شاكّين في السلاح ، ولما أرادوا لقاء الخاتون ركب أخوها المذكور فرسا أشهب ولبس ثيابا بيضا ، وجعل على رأسه مظلا مكلّلا بالجواهر ، وجعل عن يمينه خمسة من أبناء الملوك ، وعن يساره مثلهم لابسين البياض أيضا ، وعليهم مظلّات مزركشة بالذهب وجعل بين يديه مائة من المشّائين ، ومائة فارس قد أسبغوا الدروع على أنفسهم وخيلهم ، وكلّ واحد منهم يقود فرسا مسرجا مدرعا عليه شكّة فارس من البيضة المجوهرة والدرع والتركش والقوس والسيف وبيده رمح في طرف رأسه راية واكثر تلك الرماح مكسوّة بصفائح الذهب والفضة ، وتلك الخيل المقودة هي مراكب ابن السلطان ، وقسّم فرسانه على أفواج ، كلّ فوج فارس ، ولهم أمير قد قدّم أمامه عشرة من الفرسان شاكّين في السلاح ، وكل واحد منهم يقود فرسا وخلفه عشرة من العلامات ملوّنة بأيدي عشرة من الفرسان ، وعشرة أطبال يتقلدها عشرة من الفرسان ومعهم ستة يضربون الأبواق والأنفار والصّرنايات وهي الغيطات.

وركبت (٨٧) الخاتون في مماليكها وجواريها وفتيانها وخدامها وهم نحو خمسمائة عليهم ثياب الحرير المزركشة بالذهب المرصّعة وعلى الخاتون حلّة يقال لها النّخ ، ويقال لها أيضا النسيج ، مرصّعة بالجوهر وعلى رأسها تاج مرصع ، وفرسها مجلّل بجل حرير ، مزركش بالذهب ، وفي يديه ورجليه خلاخل الذّهب ، وفي عنقه قلائد مرصّعة وعظم السرج مسكوّ ذهبا مكلّل جوهرا.

وكان التقاؤهما في بسيط من الأرض على نحو ميل من البلد ، وترجل لها أخوها لأنه أصغر سنّا منها وقبّل ركابها ، وقبّلت رأسه ، وترجل الأمراء وأولاد الملوك وقبّلوا جميعا ركابها ، وانصرفت مع أخيها.

__________________

(٨٥) أمام الشكوك التي تحوم حول خط سير ابن بطوطة والتي تفضي إلى الإرباك والارتباك وخاصة عند ما يتعلق الأمر بتحديد الأعلام الجغرافية ، أمام ذلك ـ نجد انفسنا ـ تبعا لمن سبقونا أمام الافتراضات : وهكذا فإن مدينة الفنيكة يمكن أن تكون هي أگاطونيك AGATHONIK حيث توجد الطريق الرئيسية من ديامبوليس مخترقة نهر تونخا (Tunja) (Tontzos) على مقربة من كيزيل أگاش.Kizil Agach

(٨٦) قراس ، يلاحظ أن هذا الاسم ليس علما يونانيا وأن استعمال اسم هيفالي استعمال خاصّ كذلك ...

(٨٧) القصد إلى مزامير القرب (جمع قربة) التي ما تزال المنطقة تحتفظ بها كفولكلور على ما نعلم.

٢٤٧

وفي غد ذلك اليوم وصلنا إلى مدينة كبيرة على ساحل البحر لا أثبت الآن اسمها (٨٨) ذات أنهار وأشجار ، نزلنا بخارجها ، ووصل أخو الخاتون وليّ العهد في ترتيب عظيم وعسكر ضخم من عشرة آلاف مدرع ، وعلى رأسه تاج وعن يمينه نحو عشرين من أبناء الملوك ، وعن يساره مثلهم وقد رتّب فرسانه على ترتيب أخيه سواء إلّا أنّ الحفل أعظم والجمع أكثر ، وتلاقت معه أخته في مثل زيّها الأول وترجّلا جميعا وأوتي بخباء حرير فدخلا فيه ، فلا أعلم كيفية سلامهما! ونزلنا على عشرة أميال من القسطنطينية.

فلما كان بالغد خرج أهلها من رجال ونساء وصبيان ركبانا ومشاة في أحسن زيّ وأجمل لباس وضربت عند الصبح الأطبال والأبواق والأنفار ، وركبت العساكر ، وخرج السلطان وزوجته أمّ هذه الخاتون وأرباب الدولة والخوّاص وعلى رأس الملك رواق يحمله جملة من الفرسان ورجال بأيديهم عصّي طوال في أعلى كل عصي شبه كرة من جلد يرفعون بها الرّواق ، وفي وسط الرواق مثل القبّة يرفعها الفرسان بالعصيّ.

ولما أقبل السلطان اختلطت العساكر وكثر العجاج ، ولم أقدر على الدخول فيما بينهم ، فلزمت أثقال الخاتون وأصحابها خوفا على نفسي ، وذكر لي أنّها لمّا قربت من أبويها ترجلت وقبلت الأرض بين أيديهما ثم قبلت حافري فرسيهما! وفعل كبار أصحابها مثل فعلها في ذلك.

وكان دخولنا (٨٩) عند الزوال أو بعده إلى القسطنطينية العظمى ، وقد ضربوا نواقيسهم حتى ارتجّت الآفاق لاختلاط أصواتها ، ولما وصلنا الباب الأول من أبواب قصر الملك وجدنا به نحو مائة رجل معهم قائد لهم فوق دكّانة ، وسمعتهم يقولون : سراكنو!

__________________

(٨٨) إذا كان الأمر يتعلّق بموقع قريب من القسطنطينية ، فإنه من المحتمل أن يكون سليمبريه (SELYMBRIA) وهي مدينة سيلقيري SILIVIRI الحالية التي تقع على ساحل بحر مارمارا وتبعد عن القسطنطينية بنحو ٧٠ ك. م. هذا ومن خلال اعتراف ابن بطوطة بأنه لا يتذكر اسم المدينة نقف على حالة أخرى تؤكد ما عرفناه عنه من صدق وأمانة ...

(٨٩) على نحو ما قدّمه (التعليق ٨٨) من تحفظه حول عدم تذكره اسم المدينة التي نزل بها ركب الأميرة نجده هنا أيضا يتحفظ حول الوقت الذي دخل فيه للعاصمة فهو لا يتذكر هل عند الزوال أو بعده ... وهذا يؤكد الأمانة التي عرف بها عند أداء الاخبار. حول القسطنطينية أنظر الادريسي ج ٧ ص ٨٠١.

٢٤٨

سراكنو (٩٠) ومعناه : المسلمون ، ومنعونا من الدخول ، فقال لهم أصحاب الخاتون إنهم من جهتنا، فقالوا : لا يدخلون إلا بالإذن! فأقمنا بالباب وذهب بعض أصحاب الخاتون فبعث من أعلمها بذلك ، وهي بين يدي والدها ، فذكرت له شأننا ، فأمر بدخولنا وعيّن لنا دارا بمقربة من دار الخاتون ، وكتب لنا امرا بأن لا نعترض حيث نذهب من المدينة ، ونودي بذلك في الأسواق وأقمنا بالدار ثلاثا تبعث إلينا الضيافة من الدقيق والخبز والغنم والدجاج والسّمن والفاكهة والحوت والدراهم والفرش وفي اليوم الرابع دخلنا على السلطان.

ذكر سلطان القسطنطينية

واسمه تكفور (٩١) بفتح التاء المثناة وسكون الكاف وضم الفاء وواو وراء ، ابن السلطان جرجيس وأبوه السلطان جرجيس بقيد الحياة لكنّه تزهّد وترهّب وانقطع للعبادة في الكنائس وترك الملك لولده ، وسنذكره. وفي اليوم الرابع من وصولنا إلى القسطنطينية بعثت إليّ الخاتون الفتى سنبل الهندي فأخذ بيدي وأدخلني إلى القصر (٩٢) فجزنا أربعة أبواب في كل باب سقائف ، بها رجال وأسلحتهم وقائدهم على دكانة مفروشة ، فلما وصلنا إلى الباب الخامس تركني الفتى سنبل ، ودخل، ثم أتى ومعه أربعة من الفتيان الروميين ففتّشوني لئلّا يكون معي سكّين! وقال لي القائد : تلك عادة لهم لا بدّ من تفتيش كل من يدخل على الملك من خاصّ أو عامّ غريب أو بلديّ وكذلك الفعل بأرض الهند.

__________________

(٩٠) كان من أوائل الذين نبهوا لاستعمال هذا الكلمة في حق العرب والمسلمين المسعودي (توفي ٣٤٦ ٩٥٦) في كتاب التنبيه والاشراف عندما قال : إن الروم إلى وقتنا هذا تسمى العرب ساراقينوس ، وتفسير ذلك ، طعنا منهم في هاجر وابنها اسماعيل ، أنّهم أي المسلمين كانوا أبناء أمة سارة! ... وذكر ابن الأثير أن الروم تسمي العرب سارقنوس يعني عبيد سارة ...

وقد كان ابن بطوطة ثالث من سجل عنهم استعمال هذا اللفظ وهو يزور القسطنطينية العظمى ...

وقد قرأت في قاموس التاريخ العالمي لمؤلفه ميشيل مورM.Mourre ما يفيد أن اللفظ يعني قبيلة بشمال الجزيرة العربية قاومت الامبراطورية البيزنطية بضراوة وكانت من أوائل القبائل التي اعتنقت الإسلام (السراجين) (معجم قبائل العرب لكحالة ١ ، ٢٥٢ ـ ٥٠٦) انظر الموسوعة الإسلامية ، وانظر كذلك بحثا لزهير أحمد القيسى حول السراجين مجلة (المورد) البغدادية عام ١٩٩٤.

(٩١) تقدم الحديث عن القصد من تكفور وقد كان اسمه الحقيقي في هذه الفترة أندرونيكوس الثالث (ANDRONICUS) ٧٢٨ ـ ٧٤١ ١٣٢٨ ـ ١٣٤١ ، والذي كان حفيدا لسلفه اندرونيكوس الثاني المتنازل عن العرش عام ٧٢٨ ١٣٢٨ بعد حرب أهلية طويلة غلب أندرونيكوس في إثرها فأصبح راهبا ، وقد توفي بتاريخ ٢٤ محرم ٧٣٢ يبراير ١٣٣٢ قبل وصول ابن بطوطة ـ أنظر التعليق رقم ٤٦.

(٩٢) كان قصر باليولوجي (PALAEULOGI) هو بلاشيرنا (Blacherna) على مقربة من زاوية الشمال الغربي للمدينة وتعرف إلى اليوم باسم تكفور سراي.

٢٤٩

ثم لما فتّشوني قام الموكّل بالباب فأخد بيدي وفتح الباب وأحاط بي أربعة من الرجال : أمسك اثنان بكمّي واثنان من ورائي فدخلوا بي إلى مشور كبير حيطانه بالفسيفساء قد نقش فيها صوّر المخلوقات من الحيوانات والجماد ، وفي وسطه ساقية ماء ومن جهتها الأشجار والناس واقفون يمينا ويسارا ، سكوتا لا يتكلم أحد منهم ، وفي وسط المشور ثلاثة رجال وقوف أسلمني أولئك الأربعة إليهم فأمسكوا بثيابي كما فعل الآخرون وأشار اليهم رجل فتقدّموا بى وكان أحدهم يهوديّا ، فقال لي بالعربي : لا تخف فهكذا عادتهم أن يفعلوا بالوارد ، وأنا التّرجمان ، وأصلي من بلاد الشام فسألته : كيف أسلّم؟ فقال : قل السلام عليكم.

ثم وصلت إلى قبّة عظيمة والسلطان على سريره وزوجته أمّ هذه الخاتون (٩٣) بين يديه ، وأسفل السرير الخاتون وإخوتها وعن يمينه ستّة رجال ، وعن يساره أربعة وعلى رأسه أربعة ، وكلّهم بالسلاح ، فأشار إليّ قبل السلام والوصول إليه بالجلوس هنيهة ليسكن روعي! ففعلت ذلك ، ثم وصلت إليه فسلّمت عليه وأشار إليّ أن أجلس فلم أفعل! وسألني عن بيت المقدس وعن الصخرة المقدّسة وعن القمامة (٩٤) وعن مهد عيسى ، وعن بيت لحم وعن مدينة الخليل عليه‌السلام ثم عن دمشق ومصر والعراق وبلاد الروم ، فأجبته عن ذلك كلّه ، واليهوديّ يترجم بيني وبينه ، فأعجبه كلامي ، وقال لأولاده : أكرموا هذا الرجل وامّنوه ، ثمّ خلع عليّ خلعة ، وأمر لي بفرس مسرج ملجم ومظلّة من التي يجعلها الملك فوق رأسه ، وهي علامة الأمان ، وطلبت منه أن يعيّن من يركب معي بالمدينة في كلّ يوم حتى أشاهد عجائبها وغرائبها وأذكرها في بلادي ، فعيّن لي ذلك.

ومن العوائد عندهم أن الذي يلبس خلعة الملك ويركب فرسه يطاف به في أسواق المدينة بالأبواق والإنفار والأطبال ليراه الناس ، وأكثر ما يفعل ذلك بالأتراك الذين يأتون من بلاد السلطان أوزبك لئلا يؤذون فطافوا بي في الأسواق.

__________________

(٩٣) هي جان ، ابنة أميدي (AMEDEE) الخامس صاحب صافوا (SAVOIE) : زوجته الثانية ، كانا قد تزوجا عام ٧٢٦ ١٣٢٦.

(٩٤) القصد إلى كنيسة (l\'Eglise du saint Sepulcre).

٢٥٠

ذكر المدينة [القسطنطينية]

وهي متناهية في الكبر منقسمة بقسمين بينهما نهر عظيم فيه المدّ والجزر على شكل وادي سلا من بلاد المغرب ، وكانت عليه فيما تقدم قنطرة مبنيّة ، فخربت ، وهو الآن يعبر في القوارب ، واسم هذا النهر أبسمي (٩٥) بفتح الهمزة واسكان الباء الموحدة وضمّ السين المهمل وكسر الميم وياء مدّ ، وأحد القسمين من المدينة يسمى إصطنبول (٩٦) بفتح الهمزة واسكان الصاد وفتح الطاء المهملتين وسكون النون وضمّ الباء الموحدة وواو مدّ ولام ، وهو بالعدوة الشرقيّة من النّهر ، وفيه سكنى السّلطان وأرباب دولته ، وسائر الناس وأسواقه وشوارعه مفروشة بالصفاح ، متّسعة ، وأهل كلّ صناعة على حدة لا يشاركهم سواهم ، وعلى كلّ سوق أبواب تسدّ عليه بالليل ، وأكثر الصنّاع والباعة بها النساء.

والمدينة في سفح جبل داخل في البحر نحو تسعة أميال وعرضه مثل ذلك أو أكثر وفي أعلاه قلعة صغيرة وقصر السلطان ، والسور يحيط بهذا الجبل ، وهو مانع لا سبيل لأحد إليه من جهة البحر وفيه نحو ثلاث عشرة قرية عامرة ، والكنيسة العظمى هي في وسط هذا القسم من المدينة وأمّا القسم الثاني منها فيسمى الغلطة (٩٧) ، بغين معجمة ولام وطاء مهمل مفتوحات ، وهو بالعدوة الغربيّة من النهر ، شبيه برباط الفتح في قربه من النهر ، وهذا القسم خاصّ بنصارى الافرنج يسكنونه ، وهم أصناف فمنهم الجنويّون ، والبنادقة وأهل رومة ، وأهل افرانسه ، وحكمهم إلى ملك القسطنطينية يقدّم عليهم منهم من يرتضونه ، ويسمّونه القمص (٩٨) ، وعليهم وظيفة في كلّ عام لملك القسطنطينية ، وربّما استعصوا عليه فيحاربهم حتى يصلح بينهم البابة ، وجميعهم أهل تجارة ، ومرساهم من أعظم المراسي ، رأيت به نحو مائة

__________________

(٩٥) وادي سلا يسمى عند المراكشي : وادي الرمّان انظر ابن صاحب الصلاة ، الطبعة الثالثة ص ٣٦٠ ـ أبسمي :(BSUMI) لعله تحريف للكلمة الإغريقيةPotamose.

(٩٦) استعمل لفظ (إصطنبول) من قبل ياقوت الذي قال : إنه اسم لمدينة القسطنطينية ، وكذا قال أبو الفداء عند بيانه للخليج القسطنطيني حتى تصل إلى القسطنطينية ، وهي اصطنول ، يظهر من خلال المصادر أنه اسم استعمل من لدن التجار الطليان وقد تناول الباحثون أصل هذه الكلمة ـ انظر دائرة المعارف الإسلامية.

. D. J. Georgacas : The Names of constantinopole ٧٤٩١.

(٩٧) الغلطة : المدينة الجنوية الواقعة في العدوة الغربية وقد كان حديثه عن جنسيات المقيمين بالمدينة حديثا موضوعيا ولو أن المصادر تذكر أن الجنويين كانوا أكثر عددا من غيرهم. وقد قارنها برباط الفتح الامر الذي يدل على أنه يعرف الرباط وأنه على تذكر دائم لعاصمة بني عبد المؤمن التي يقول عنها إنها قريبة إلى الوادي يعني عكس مدينة سلا التي تبتعد عن واديها الذي أصبح يحمل اسم بورقراق ...

(٩٨) القمص (COMES) يعني الكونط ، وقد كان الكونط الجنوي يسمى بوديسطاط (PODESTAT) ومع هذا يظهر أن قصد ابن بطوطة بكلمة القمص : إلى القنصل ...

٢٥١

٢٥٢

٢٥٣

جفن من القراقر وسواها من الكبار ، وامّا الصغار فلا تحصى كثرة ، وأسواق هذا القسم حسنة الّا أنّ الأقذار غالبة عليها ويشقّها نهر صغير قذر نجس وكنائسهم قذرة لا خير فيها!

ذكر الكنيسة العظمى.

وانما نذكر خارجها ، وامّا داخلها فلم أشاهده (٩٩) ، وهي تسمى عندهم أياصوفيا بفتح الهمزة والياء آخر الحروف والف وصاد مضموم وواو ومدّ وفاء مكسورة وياء كالأولى والف ، ويذكر أنها من بناء آصف بن برخياء ، وهو ابن خالة سليمان (١٠٠) عليه‌السلام ، وهي من أعظم كنائس الروم وعليها سور يطيف بها ، فكأنّها مدينة ، وأبوابها ثلاثة عشر بابا ، ولها حرم ميل عليه باب كبير ولا يمنع أحد من دخوله ، وقد دخلته مع والد الملك الذي يقع ذكره ، وهو شبه مشور مسطّح بالرخام، وتشقّه ساقية تخرج من الكنيسة لها حائطان مرتفعان نحو ذراع ، مصنوعان بالرّخام المجزّع المنقوش بأحسن صنعة ، والأشجار منتظمة عن جهتي الساقية.

ومن باب الكنيسة إلى باب هذا المشور معرّش من الخشب مرتفع ، عليه دوالي العنب وفي أسفله الياسمين والرّياحين ، وخارج باب هذه المشور قبّة خشب كبيرة فيها طبلات خشب يجلس عليها خدّام ذلك الباب ، وعن يمين القبّة مصاطب وحوانيت أكثرها من الخشب يجلس بها قضاتهم وكتّاب دواوينهم (١٠١) ، وفي وسط تلك الحوانيت قبّة خشب يصعد إليها على درج خشب ، وفيها كرسي كبير مطبق بالملفّ يجلس فوقه قاضيهم ، وسنذكره ، وعن يسار القبة التي على باب هذا المشور سوق العطّارين.

__________________

(٩٩) نرى ابن بطوطة يقول هنا بكل صدق وأمانة إنه لم يشاهد داخل الكنيسة ... والغريب أن ابن الخطيب نقلا عن شيخه أبي البركات ابن الحاج يروي أن ابن بطوطة أخبرهم بأنه دخل الكنيسة بالقسطنطينية العظمى وأن فيها اثنا عشر ألف أسقف! كما نرى ابن حجر يعبّر بالزّعم بدل" الإخبار" والواقع أن ابن بطوطة إنما زار حرم الكنيسة وليس الكنيسة!! ـ راجع التعليق ٨٨ ـ ٨٩ ـ ابن الخطيب : الاحاطة في أخبار غرناطة ج ٣ ص ٢٧٣ ج ٤ ص ١٠٠ طبعة القاهرة ١٣٦٦ ١٩٧٣ ـ ابن حجر : الدرر الكامنة ج ٤ ص ١٠٠ ـ تراجع مقدمتنا لهذه الرحلة ...

(١٠٠) أصف بن برخياء كان حسب الرواية الإسرائيلية والاسلامية وزيرا لسليمان بيد أن مصادر هذه الإفادات تظلّ هي رحلة ابن بطوطة.

(١٠١) مباني البطريكية على طول الطرف الجنوبي وقاعتها للكنيسة وقاعتها المركزية ، وتحتوي على بقاع أكثر من أن تكون مكانا للسوق أو رواقا للقضاة أو باسيليكا الخ.Gibb II p.٩٠٥ N ٦٣٣.

٢٥٤

والساقية التي ذكرناها تنقسم قسمين : أحدهما يمرّ بسوق العطارين ، والآخر يمر بالسوق حيث القضاة والكتّاب ، وعلى باب الكنيسة سقائف يجلس بها خدامها ، الذين يقمّون طرقها ، ويوقدون سرجها ، ويغلقون أبوابها ، ولا يدعون أحدا يدخلها حتى يسجد للصليب الأعظم عندهم الذي يزعمون أنه بقية من الخشبة التي صلّب عليها شبيه عيسى عليه‌السلام وهو على باب الكنيسة مجعول في جعبة ذهب طولها نحو عشرة أذرع وقد عرّضوا عليها جعبة ذهب مثلها حتى صارت صليبا.

وهذا الباب مصفّح بصفائح الفضة والذهب وحلقتاه من الذهب الخالص ، وذكر لي أن عدد من بهذه الكنيسة من الرهبان والقسيسين ينتهي إلى آلاف (١٠٢) ، وأنّ بعضهم من ذريّة الحواريّين ، وأن بداخلها كنيسة مختصّة بالنساء فيها من الابكار المنقطعات للعبادة أزيد من ألف ، وأما القواعد من النساء فاكثر من ذلك كلّه.

ومن عادة الملك وأرباب دولته وسائر الناس أن يأتوا كلّ يوم صباحا إلى زيارة هذه الكنيسة، وياتي إليها البابة مرة في السنة ، وإذا كان على مسيرة أربعة أميال (١٠٣) من البلد يخرج الملك إلى لقائه ويترجل له وعند دخوله المدينة يمشي بين يديه على قدميه ويأتيه صباحا ومساء للسلام عليه طول مقامه بالقسطنطينية حتى ينصرف.

ذكر المانستارات بقسطنطينية

والمانستار (١٠٤) على مثل لفظ المارستان إلا أن نونه متقدّمة وراءه متأخرة ، وهو عندهم شبه الزاوية عند المسلمين ، وهذه المانستارات بها كثيرة ، فمنها مانستار عمّره الملك جرجيس والد ملك القسطنطينية ، وسنذكره ، وهو بخارج إصطنبول مقابل الغلطة ، ومنها مانستاران خارج الكنيسة العظمى عن يمين الداخل إليها ، وهما في داخل بستان يشقهما نهر ماء وأحدهما للرجال والآخر للنساء وفي كلّ واحد منهما كنيسة ويدور بهما البيوت

__________________

(١٠٢) هكذا يقول ابن بطوطة : آلاف بدون أن يحدد عددا أو رقما ، وفي إطار حملة التشكيك التي قام بها لسان الدين ابن الخطيب نقلا عن شيخه أبي البركات نجد أنه أي ابن الخطيب ينقل أن العدد المنقول عن ابن بطوطة هو اثنا عشر الفا بالتمام والكمال! راجع التعليق ٩٩

(١٠٣) النسخة الملكية تذكر هكذا أربعة أميال على نحو النسخة الباريزية رقم ٩٠٨ ١٢٩٠ بينما تقتصر معظم النسخ على كلمة اربع ...

(١٠٤) القصد على ما يبدوا إلى البطريقية والدّير وإلى الكنيسة المعروفة تحت اسم أور سافيور (Our Saviour) وكذا إلى المارستان ...

٢٥٥

للمتعبدين والمتعبدات ، وقد حبس على كل واحد منهما أحباس لكسوة المتعبدين ونفقتهم ، بناهما أحد الملوك.

ومنها مانستاران عن يسار الداخل إلى الكنيسة العظمى على مثل هاذين الآخرين (١٠٥) ، ويطيف بهما بيوت وأحدهما يسكنه العميان ، والثاني يسكنه الشيوخ الذين لا يستطيعون الخدمة ممّن بلغ الستين (١٠٦) أو نحوها ، ولكل واحد منهم كسوته ونفقته من أوقاف معيّنة لذلك.

وفي داخل كل ما نستار منها دويرة لتعبّد الملك الذي بناه ، وأكثر هؤلاء الملوك إذا بلغ الستين أو السبعين بنى مانستار ولبس المسوح ، وهي ثياب الشّعر وقلّد ولده الملك واشتغل بالعبادة حتّى يموت.

وهم يختفلون في بناء هذه المانستارات ويعملونها بالرخام والفسيفساء وهي كثيرة بهذه المدينة.

ودخلت مع الرومي الذي عيّنه الملك للركوب معي إلى ما نستار يشقّه نهر وفيه كنيسة فيها نحو خمسماية بكر ، عليهن المسموح ، ورءوسهنّ محلوقة فيها قلانيس اللّبد ، ولهنّ جمال فائق وعليهن أثر العبادة! وقد قعد صبيّ على منبر يقرأ لهن الإنجيل بصوت لم أسمع قط أحسن منه ، وحوله ثمانية من الصبيان على منابر ومعهم قسّيسهم ، فلما قرأ هذا الصبيّ قرأ صبيّ آخر. وقال لي الرّومي : إن هؤلاء البنات من بنات الملوك ووهبن أنفسهنّ لخدمة هذه الكنيسة ، وكذلك الصبيان القرّاء ، ولهم كنيسة أخرى خارج تلك الكنيسة.

ودخلت معه أيضا إلى كنيسة في بستان فوجدنا بها نحو خمسمائة بكر أو أزيد ، وصبيّ يقرأ لهنّ على منبر ، وجماعة صبيان معه على منابر مثل الأوّلين ، فقال لي الرومي : هؤلاء بنات الوزراء والأمراء يتعبدن بهذه الكنيسة.

ودخلت معه إلى كنائس فيها أبكار من وجوه أهل البلد ، وإلى كنائس فيها العجائز والقواعد من النساء وإلى كنائس فيها الرهبان يكون في الكنيسة منها مائة رجل وأكثر وأقلّ.

__________________

(١٠٥) هناك عدد من الافتراضات لتعيين مواقع هذه الأديرة ...

(١٠٦) الإشارة إلى ما يعرف اليوم باسم قانون التقاعد ...

IZZEDIN, M. : IBN Battouta et la Toppographie byzantine actes du VI. COngres internationale des Etudes Byzantines Paris ١٥٩١.

٢٥٦

وأكثر أهل هذه المدينة رهبان ومتعبدون وقسّيسون وكنائسها لا تحصى كثرة وأهل المدينة من جنديّ وغيره صغير وكبير يجعلون على رؤوسهم المظلّات الكبار شتاء وصيفا والنساء لهنّ عمائم كبار.

ذكر الملك المترهّب جرجيس

وهذا الملك ولّى الملك لابنه وانقطع للعبادة ، وبنى مانستارا كما ذكرناه خارج المدينة على ساحلها ، وكنت يوما مع الرومي المعيّن للركوب معي فإذا بهذا الملك ماشيا على قدميه وعليه المسوح وعلى رأسه قلنسوة لبد وله لحية بيضاء طويلة ووجه حسن عليه أثر العبادة وخلفه وامامه جماعة من الرهبان ، وبيده عكاز ، وفي عنقه سبحة فلما رءاه الرومي نزل ، وقال لي : انزل! فهذا والد الملك ، (١٠٧) فلمّا سلّم عليه الرومي سأله عنّي ، ثم وقف وبعث عنّي فجئت إليه فأخذ بيدي، وقال لذلك الرومي ، وكان يعرف اللسان العربي : قل لهذا السراكنو (١٠٨) ، يعني المسلم ، أنا أصافح اليد التي دخلت بيت المقدّس والرّجل التي مشت داخل الصخرة والكنيسة العظمى التي تسمّى قمامة وبيت لحم ، وجعل يده على قدمي ومسح بها وجهه فعجبت من اعتقادهم فيمن دخل تلك المواضع من غير ملّتهم!

ثم أخذ بيدي ومشيت معه فسألني عن بيت المقدس ومن فيه من النصارى ، وأطال السؤال، ودخلت معه إلى حرم الكنيسة الذي وصفناه آنفا ولمّا قارب الباب الأعظم خرجت جماعة من القسيسين والرهبان للسلام عليه ، وهو من كبارهم في الرهبانيّة ، ولما رءاهم أرسل يدي ، فقلت له : أريد الدخول معك إلى الكنيسة ، فقال للترجمان : قل له لابد لداخلها من السجود للصّليب الأعظم فإنّ هذا ممّا سنّته الأوائل ولا يمكن خلافه! فتركته ودخل وحده ولم أره بعدها.

ذكر قاضي القسطنطينية.

ولمّا فارقت الملك المترهب المذكور دخلت سوق الكتّاب فرءاني القاضي فبعث إليّ أحد

__________________

(١٠٧) يلاحظ بعض المعلقين على أن اجتماع ابن بطوطة بوالد الملك حتى على احتمال تقديم زيارة ابن بطوطة سنتين قبل هذا التاريخ ـ فانه لم يكن من الممكن للرحالة المغربي أن يجتمع بأندرونيكوس الثاني (ANDRONICUS II) المتوفي يوم ٢٤ محرم ٧٣٢ ١٢ يبراير ١٣٣٢ ، يضاف إلى هذا اللّقب الدّيري الذي كان يحمله المترهب هوAntonius وليس جيرجيس (DJIRDJIS) كما يسميه ابن بطوطة غير أن أولئك المعلقين لم يفتهم الاعتذار عن ابن بطوطة بأنّه ذهب ضحية التراجمة والمبلغين يراجع التعليق ٤.

(١٠٨) راجع التعليق رقم ٩٠.

٢٥٧

أعوانه ، فسأل الرومي الذي معي ، فقال له : إنه من طلبة المسلمين ، فلما عاد إليه وأخبره بذلك، بعث إليّ أحد أصحابه ، وهم يسمون القاضي النّجشي كفالي ، فقال لي : النّجشي كفالي(١٠٩) يدعوك فصعدت إليه إلى القبة التي تقدم ذكرها فرأيت شيخا حسن الوجه واللمّة ، عليه لباس الرهبان وهو الملفّ الاسود ، وبين يديه نحو عشرة من الكتّاب يكتبون فقام إليّ وقام أصحابه وقال : أنت ضيف الملك ، ويجب علينا إكرامك وسألني عن بيت المقدس والشام ومصر وأطال الكلام ، وكثر عليه الازدحام ، وقال لي : لابدّ لك أن تاتي إلى داري فأضيفك ، فانصرفت عنه ولم ألقه بعد.

ذكر الانصراف عن القسطنطينية

ولمّا ظهر لمن كان في صحبة الخاتون من الأتراك أنها على دين أبيها وراغبة في المقام معه طلبوا منها الإذن في العودة إلى بلادهم ، فأذنت لهم وأعطتهم عطاء جزيلا وبعثت معهم من يوصلهم إلى بلادهم أميرا يسمى ساروجه الصغير في خمسمائة فارس ، وبعثت عنّي فأعطتني ثلاثماية دينار من ذهبهم ، وهم يسمونه البربرة (١١٠) ، وليس بالطيب ، وألفي درهم بندقيّة ، وشقّة ملفّ من عمل البنات ، وهو أجود أنواعه ، وعشرة أثواب من حرير وكتّان وصوف وفرسين ، وذلك من عطاء أبيها وأوصت بي ساروجة وودّعتها وانصرفت ، وكانت مدّة مقامي عندهم شهرا وستّة أيّام.

وسافرنا (١١١) صحبة ساروجة فكان يكرمني حتى وصلنا إلى آخر بلادهم حيث تركنا أصحابنا وعرباتنا فركبنا العربات ودخلنا البريّة ووصل ساروجة معنا إلى مدينة باب سلطوق وأقام بها ثلاثا في الضيافة وانصرف إلى بلاده وذلك في اشتداد البرد ، وكنت ألبس ثلاث فروات وسراويل أحدهما مبطّن ، وفي رجلي خفّ من صوف وفوقه خفّ مبطن بثوب كتّان

__________________

(١٠٩) لم نقف على معنى هذه العبارة والظاهر أن تحريفا ما تعرضت له العبارة ويمكن أن تكون الكلمة هي البخشي ، كلمة مغولية وتركية تعني الكاتب أو الكاهن ... ولعل في تقارب الحروف بين الكلمتين ما يبرر ذلك!

(١١٠) القصد إلى هييّربيرا (HYPERPYRA) وهي عبارة عن قطع ذهبية بيزنطية أخذ الناس يتعاملون بها على عهد أندرونيكيوس (Andronicus).

(١١١) كان عليه اذن أن يغادر القسطنطينية يوم ٢٢ ـ ٢٣ محرم ٧٣٥ شتنبر ١٣٣٤ يقول ييرازيموس بينما نجد گيب يقول : ان ذلك تم حوالي ٢٤ أكتوبر ١٣٣٢ ونحن نعلم أن هناك فترة غامضة مرت تنتازعها الاجتهادات بين المعلقين ...

٢٥٨

وفوقه خفّ من البرغالي (١١٢) ، وهو جلد الفرس مبطن بجلد ذيب ، وكنت أتوضأ بالماء الحارّ بمقربة من النار فما تقطر من الماء قطرة إلّا جمدت لحينها! وإذا غسلت وجهي يصل الماء إلى لحيتي فيجمد ، فأحرّكها فيسقط منها شبه الثلج ، والماء الذي ينزل من الأنف يجمد على الشارب ، وكنت لا أستطيع الركوب لكثرة ما عليّ من الثياب حتى يركبني أصحابي! ثم (١١٣) وصلت إلى مدينة الحاجّ ترخان حيث فارقنا السلطان أوزبك فوجدناه قد رحل واستقرّ بحضرة ملكه ، فسافرنا على نها إتل وما يليه من المياه ثلاثا وهي جامدة ، وكنّا إذا احتجنا الماء قطعنا قطعا من الجليد وجعلنا في القدر حتى يصير ماء فنشرب منه ونطبخ به!!

ووصلنا إلى مدينة السّرا ، وضبط اسمها بسين مهمل وراء مفتوحين وألف وتعرف بسرا بركة(١١٤) ، وهي حضرة السلطان أوزبك ، ودخلنا على السّلطان فسألنا عن كيفيّة سفرنا وعن ملك الروم ، ومدينته فأعلمناه ، وأمر بإجراء النفقة علينا وأنزلنا.

ومدينة السّرا من أحسن المدن متناهية الكبر في بسيط من الأرض تغصّ بأهلها كثرة ، حسنة الأسواق ، متّسعة الشوارع ، وركبنا يوما مع بعض كبرائها وغرضنا التطوّف عليها ومعرفة مقدارها ، وكان منزلنا في طرف منها فركبنا منه غدوة فما وصلنا لآخرها إلّا بعد الزوال فصلّينا الظهر ، وأكلنا طعاما فما وصلنا إلى المنزل إلا عند المغرب ، ومشينا يوما عرضها ذاهبين وراجعين في نصف يوم ، وذلك في عمارة متّصلة الدور لا خراب فيها ولا بساتين وفيها ثلاثة عشر مسجدا لإقامة الجمعة : أحدها للشافعية ، وأمّا المساجد سوى ذلك فكثير جدا وفيها طوائف من الناس منهم المغل ، وهم أهل البلاد ، والسلاطين ، وبعضهم مسلمون ، ومنهم الآص (١١٥) وهم مسلمون، ومنهم القفجق ، والجركس والرّوس ، والروم ، وهم

__________________

(١١٢) كلمة البرغالي تحريف كلمة" البلغاري" : يعني جلد بلغاري ولعلها خطا من الذي كان يحكي له أو من الناسخ.

(١١٣) " ولقد كنت أخرج من الحمام فإذا دخلت إلى البيت نظرت إلى لحيتي وهي قطعة واحدة من الثلج حتى كنت أدنيها إلى النار" هكذا قال ابن فضلان عام ٣٠٩ ٩٢١ وحكى عن الثياب الكثيرة كذلك. ويحكي ماركوبّولو في معرض الحديث عن البرد الرهيب في روسيا قصة أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة عن امرأة أقعت للتبوّل فتجمد زغب عانتها والتصق بالعشب وأقبل زوجها ليفكّها فلما نفخ تجمّدت لحيته والتصقت بزغب عانتها الأمر الذي لم يخلص الاثنين إلّا تدخل شخص ثالث كسر الثلج!!

Le Divesement du monde II ـ ١٩٩١ IIp ٢٣٥

(١١٤) كانت عاصمة أزبك خان ، قبل هذه الحركة بقليل تمتد من السّرا (القديمة) وتقع قريبا من القرية الجديدة سيليترينّوSelitrennoe ، ٧٤ ميلا فوق اصطرخان ، أقول تمتد من هناك إلى مدينة شيدت على ما يبدو من لدن بركة خان (١٢٥٥ ـ ٦٧) وتسمّى اليوم السرا الجديدة في موقع مدينة تساريف (TSAREV) ٢٢٥ ميلا فوق اصطراخان.SPULER.B Die Goledene Horde Leipzig ٣٤٩١.

(١١٥) آلاص : OSSETES شعب هندي أوربي ورد من آسيا ، يسمّيه المغول (ASUT) وفي القرن الخامس عشر ذابوا في المغوليين باستثناء من بقي منهم في القوقاز وهم الذين يعرفون باسم (OSSETES) ويكونون القسم الشمالي (داخل جمهورية روسيا) والجنوبي (داخل جمهورية جورجيا). لغتهم إيرانية وبعضهم مسلمون ... راجع التعليق رقم ١٠.

٢٥٩

نصارى ، وكلّ طائفة تسكن محلّة على حدة ، فيها أسواقها والتجار والغرباء من أهل العراقين ومصر والشام وغيرها ساكنون بمحلّة عليها سور احتياطا على أموال التجار ، وقصر السلطان بها يسمّى ألطون طاش ، وألطون بفتح الهمزة وسكون اللام وضم الطاء المهمل ، وواو مدّ ونون ، ومعناه الذّهب ، وطاش بفتح الطاء المهمل وشين معجم ، ومعناه رأس (١١٦).

وقاضي هذه الحضرة بدر الدين الأعرج من خيار القضاة وبها من مدرّسي الشافعيّة الفقيه الإمام الفاضل صدر الدين سليمان اللكزي (١١٧) أحد الفضلاء ، وبها من المالكيّة شمس الدين المصريّ ، وهو ممّن يطعن في ديانته ، وبها زاوية الصالح الحاجّ نظام الدين أضافنا بها وأكرمنا ، وبها زاوية الفقيه الإمام العالم نعمان الدّين الخوارزمي ، رأيته بها وهو من فضلاء المشايخ ، حسن الأخلاق كريم النفس شديد التواضع شديد السّطوة على أهل الدنيا ، ياتي إليه السلطان أوزبك زائرا في كلّ جمعة ، فلا يستقبله ولا يقوم إليه ويقعد السلطان بين يديه ويكلّمه ألطف كلام ، ويتواضع له ، والشيخ بضدّ ذلك! وفعله مع الفقراء والمساكين والواردين خلاف فعله مع السلطان فإنه يتواضع لهم ويكلمهم بألطف كلام ويكرمهم وأكرمني جزاه الله خيرا وبعث إليّ بغلام تركيّ وشاهدت له بركة.

ذكر كرامة له

كنت أردت السفر من السّرا إلى خوارزم ، فنهاني عن ذلك ، وقال لي ، اقم أيّاما ، وحينئذ تسافر ، فنازعتني النفس ، ووجدت رفقة كبيرة آخذة في السفر ، فيهم تجار أعرفهم ، فاتّفقت معهم على السفر في صحبتهم ، وذكرت له ذلك ، فقال لي : لابدّ لك من الإقامة ، فعزمت على السفر ، فأبق لي غلام أقمت بسببه ، وهاذه من الكرامات الظاهرة ، ولمّا كان بعد ثلاث وجد بعض أصحابي ذلك الغلام الآبق بمدينة الحاجّ ترخان فجاء به إليّ فحينئذ سافرت إلى خوارزم ، وبينها وبين حضرة السرا صحراء مسيرة أربعين يوما لا تسافر فيها الخيل لقلّة الكلأ وإنّما تجرّ العربات بها الجمال.

__________________

(١١٦) اختلط على ابن بطوطة الفرق بين طاش بمعنى الصخره وباش بمعنى الراس. كما التبست عليه كلمة التون وهي في الواقع ألتين التي تغنى الذهب.

(١١٧) اللكزي نسبة الى لكز (LAKZ) كانوا قبيلا في منطقة داغستان. اسمهم على صيغة لازگي LAZGI بتقديم الزاي ، وعرفوا باهل جبل داغستان.

٢٦٠