رحلة ابن بطوطة - ج ٢

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ٢

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-008-7
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٢٦٨

ولما خرجنا من مدينة القرم نزلنا بزاوية الأمير تلكتمور في موضع يعرف بسججان ، فبعث إليّ أن أحضر عنده فركبت إليه ، وكان لي فرس معدّ لركوبي يقوده خديم العربة فإذا أردت ركوبه ركبته ، وأتيت الزاوية فوجدت الأمير قد صنع بها طعاما كثيرا فيه الخبز ثم أتوا بماء أبيض في صحاف صغار ، فشرب القوم منه ، وكان الشيخ مظفر الدين يلي الأمير في مجلسه ، وأنا إليه فقلت له : ما هذا؟ فقال هذا ماء الدّهن ، فلم أفهم ما قال ، فذقته فوجدت له حموضة فتركته ، فلما خرجت سألت عنه فقالوا : هو نبيذ يصنعونه من حبّ الدوقي ، وهم حنفيّة المذهب والنبيذ عندهم حلال ، ويسمّون هذا النبيذ المصنوع من الدّواقي : البوزة ، (١٦) بضم الباء الموحدة وواو مدّ وزاي مفتوح ، وإنّما قال لي الشيخ مظفر الدين : ماء الدّخن (١٧) ولسانه فيه اللكنة الأعجمية فظننت إنّه يقول ماء الدّهن. وبعد مسيرة ثمانية عشر منزلا من مدينة القرم وصلنا إلى ماء كثير نخوضه يوما (١٨) كاملا ، وإذا كثر خوض الدواب والعربات في هذا الماء اشتدّ وحله ، وزاد صعوبة فذهب الأمير إلى راحلتي وقدّمني أمامه مع بعض خدّامه ، وكتب لي كتابا إلى أمير أزاق (١٩) يعلمه أنّي أريد القدوم على الملك ، ويحضّه على إكرامي ، وسرنا حتى انتهينا إلى ماء آخر نخوضه نصف يوم ، سرنا بعده ثلاثا ووصلنا إلى مدينة أزاق ، وضبط اسمها بفتح الهمزة والزاي وآخره قاف ، وهي على ساحل البحر حسنة العمارة ، يقصدها الجنويّون وغيرهم بالتّجارات. وبها من الفتيان أخي بجقجي ، وهو من العظماء يطعم الوارد والصادر.

ولما وصل كتاب الأمير تلكتمور إلى أمير أزاق ، وهو محمد خوارجه الخوارزمي (٢٠)

__________________

(١٦) البوزة مشروب ثخين مخمّر قليلا مصنوع من طبيخ أنلي ، ما يعرف اليوم باسم البيرّة ولفظ البوظة معروف كذلك إلى اليوم ، وهي من أصل صقلبي سلافي (Cyrilique) هذا ويلاحظ أن تناول الخبز في المنطقة قليل ...

(١٧) الدخن : أنلى أما الدهن فهو الشحم وشبهه.

(١٨) من الممكن أن يكون القصد إلى نهر ميوس (Miuss) الذي يقع في غرب طاگانروك (TAGANROG) كان على ابن بطوطة أن يصعد القرم ثانية ويحاذي الساحل الشمالي لبحيرة أزوف ، وكانت تسمى أزاق.

(١٩) أزاق : هي المعروفة اليوم أزوف AZOV ، وقد عرفت في العصور الوسطى باسم طاناTANA على بعد ٣٠ ك. م. غرب روسطوف ROSTOV وجنوب ساحل مصب نهر ضون Don. كانت أزوف (أزاق) نقطة انطلاق للقوافل الذاهبة نحو فولگا وما وراءها ، الاسم التركي لازاق كان يظهر على قطع السكة النقدية ابتداء من عام ٧١٧ ١٣١٧ ، أولا في جنوة حوالي ٧١٦ ١٣١٦ ثم عند البنادقة ٧٣٢ ١٣٣٢ الذين أقاموا هناك مستعمرات تجارية.

(٢٠) المهم أن نشير إلى أن اسم محمد خواجا الخوارزمي يوجد في نصّ بندقي لعام ٧٣٤ ١٣٣٤ ذكر على أنه حاكم طانا أي أزاق ... وقد تحدث التاريخ الدّولي عن الاتفاقية المبرمة بين امبراطورية طرابيزون والبندقية عام ٧٦٤ ١٣٦٤.

٢٢١

خرج إلى استقبالي ومعه القاضي والطلبة وأخرج الطعام فلما سلّمنا عليه نزلنا بموضع أكلنا فيه ، ووصلنا إلى المدينة ونزلنا بخارجها بمقربة من رابطة هنالك تنسب للخضر وإلياس عليهما‌السلام ، وخرج شيخ من أهل أزاق يسمى برجب النّهر ملكي ، نسبة إلى قرية بالعراق (٢١) ، فأضافنا بزاوية له ضيافة حسنة ، وبعد يومين من قدومنا قدم الأمير تلكتمور وخرج الأمير محمد للقائه ومعه القاضي والطلبة ، وأعدّوا له الضيافات ، وضربوا ثلاث قباب متّصلا بعضها ببعض إحداها من الحرير الملوّن عجيبة ، والثنتان من الكتّان ، وأداروا عليها سرّاجة ، وهي المسمّى عندنا أفراج (٢٢) ، وخارجها الدّهليز ، وهو على هيئة البرج عندنا.

ولمّا نزل الأمير بسطت بين يديه شقا الحرير يمشي عليها ، فكان من مكارمه وفضله أن قدّمني أمامه ليرى ذلك الأمير منزلتي عنده ثم وصلنا إلى الخباء الأولى وهي المعدّة لجلوسه ، وفي صدرها كرسي من الخشب لجلوسه كبير مرصّع وعليه مرتبة حسنة فقدّمني الأمير أمامه ، وقدم الشّيخ مظفّر الدين ، وصعد هو فجلس فيما بيننا ونحن جميعا على المرتبة ، وجلس قاضيه وخطيبه وقاضي هذه المدينة وطلبتها عن يسار الكرسي على فرش فاخرة ، ووقف ولدا الأمير تلكتمور وأخوه والأمير محمد وأولاده في الخدمة ، ثم أتوا بالأطعمة من لحوم الخيل وسواها وأتوا بألبان الخيل، ثم بالبوزة ، وبعد الفراغ من الطعام قرأ القرّاء بالأصوات الحسان ، ثم نصب منبر وصعده الواعظ ، وجلس القرّاء بين يديه وخطب خطبة بليغة ودعا للسلطان وللأمير وللحاضرين ، ويقول ذلك بالعربيّ ثم يفسّره لهم بالتركيّ ، وفي أثناء ذلك يكرّر القراء آيات من القرآن بترجيع عجيب ، ثم أخذوا في الغناء يغنّون بالعربيّ ،

__________________

(٢١) يقع هذا النهر على بعد ٢٠ ميلا جنوب بغداد على القناة الملكية القديمة من الفلّوجة إلى دجلة ...

(٢٢) أفراك بالكاف وزن بربري وقد رسمت في المخطوطات جيما أفراج وقافا : أفراق ، ومن القواعد السائرة : " كلّ ما يگمگم يجمجم أو يقمقم" ومعنى الكلمة بالبربرية : السّياج يتخذ من السّدر ونحوه ، ثم أطلق على السياج المحيط بالخيام التي تنصب لاستراحة الملك وحاشيته اثناء ترحاله ، والواقع أن أفراگ يعني مدينة متنقلة بكامل مرافقها وأجهزتها صنعت من شقاق الكتان الأبيض والملوّن ، تحتوي على عدد من القباب والخيام وقاعات الاستقبال على مختلف الأحجام كما تحتوي على المسجد والمدرسة ، كلّ له مكانه ومأواه وقد زينت الطرق والأبواب والأركان والشرفات بأنواع الزينة ، وقد خصّص ابن الحاج النّميري فصلا من خمس صفحات لوصف هذه (المعلمة) الحضارية الكبرى التي ما نزال نشاهدها عند التحركات الملكية لجهة ما من الجهات ... هذا ويبدوا أن كلمة (سراجه) هنا فارسية الأصل ـ SE) (RATCHEH ونشير كذلك إلى أن الدّهليز : يعني الممر بين باب الدّار ووسطها ـ يلاحظ الحديث عن بسط الشقاق أو الزرابي لمرور الشخصيات السامية عليها ...

. فيض العباب لابن الحاج ، دراسة : د. محمد بن شقرون دار الغرب الاسلامي ١٩٩٠ ص ٢٢٨ / ٢٣٢.

٢٢٢

ويسمّونه القوال (٢٣) ، ثم بالفارسيّ والتركي ويسمونه الملمّع (٢٤) ، ثم أتو بطعام آخر ، ولم يزالوا على ذلك إلى العشيّ ، وكلما أردت الخروج منعني الأمير ، ثم جاءوا بكسوة للأمير وكسى لولديه وأخيه وللشيخ مظفر الدّين ولي ، وأتوا بعشرة أفراس للأمير ولأخيه ولولديه بستة أفراس ولكل كبير من أصحابه بفرس ولي بفرس ، والخيل بهذه البلاد كثير جدا ، وثمنها نزر قيمة الجيّد منها خمسون درهما أو ستّون من دراهمهم ، وذلك صرف دينار من دنانيرنا أو نحوه ، وهذه الخيل هي التي تعرف بمصر بالأكاديش (٢٥) ، ومنها معاشهم وهي ببلادهم كالغنم ببلادنا بل أكثر فيكون للتّركي منهم آلاف منها.

ومن عادة الترك المستوطنين تلك البلاد ، أصحاب الخيل ، انّهم يضعون في العربات التي تركب فيها نساؤهم قطعة لبد في طول الشبر مربوطة إلى عود رقيق في طول الذراع في ركن العربة ويجعل لكلّ ألف فرس قطعة ، ورأيت منهم من يكون له عشرة قطع ، ومن له دون ذلك ، تحمل هذه الخيل إلى بلاد الهند فيكون في الرفقة منها ستّة آلاف وما فوقها ومادونها ، لكل تاجر المائة والمائتان فما دون ذلك وما فوقه ، ويستأجر التّاجر لكل خمسين منها راعيا يقوم عليها ويرعاها كالغنم ، ويسمّى عندهم القشيّ (٢٦) ، ويركب أحدها وبيده عصى طويلة فيها حبل ، فإذا أراد أن يقبض على فرس منها حاذاه بالفرس الذي هو راكبه ورمى الحبل في عنقه وجذبه فيركبه ويترك الآخر للرعي ، وإذا وصلوا بها إلى أرض السند أطعموها العلف لأن نبات أرض السند لا يقوم مقام الشّعير ويموت لهم منها الكثير ويسرق ، ويغرمون عليها بأرض السند سبعة دنانير فضّة على الفرس بموضع يقال له ششنقار (٢٧) ، ويغرمون عليها بملتان قاعدة بلاد السند ، وكانوا فيما تقدّم يغرمون ربع ما يجلبونه ، فرفع ملك الهند إلى السلطان محمد ذلك ، وأمر أن يؤخذ من تجار المسلمين الزّكاة ، ومن تجار الكفار العشر ،

__________________

(٢٣) معنى الكلمة في اللغة العربية : الذي يقول ، ولكن القواميس الفارسية تعطى الانطباع بأن القول نوع من أوزان الغناء.

(٢٤) الملمّع يعني المبرقش المجتمع من خليط ، وهو تعبير يطبق على الأشعار المؤلفة من أبيات يتناوب فيها الفارسي والتركي ...

(٢٥) الأكاديش ج إكديش : فرس من أصل مزيج ، ويطلق أيضا على الفرس الخصّي وكثيرا ما نسمع بهذا التعبير عندما يتعلق الامر بهدايا متبادلة بين ملوك المشرق والمغرب ، وقد تعني كلمة الاكداش (ج كدش) العربة التي تجرها الخيل وهي تعريب للفظ الاسباني.

ـ ابن عثمان : الإكسير في فكاك الأسير ، تحقيق محمد الفاسي منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي ١٩٦٥ ، ص ١٢.

(٢٦) القشي (ALQASHI) تعبير تركي الأصل هكذا ينطق : ألقشي يعني سائس الخيل.

(٢٧) من المحتمل أن يكون القصد إلى الموقع الجغرافي الذي يحمل اسم هاشتنكار (HASHTNAGAR) على بعد ١٦ ميلا شمال غرب بيشاور (BESHAWAR).

٢٢٣

ومع ذلك يبقى للتجار فيها فضل كبير لأنهم يبيعون الرخيص منها ببلاد الهند بمائة دينار دراهم ، وصرفها من الذهب المغربي خمسة وعشرون دينارا ، وربّما باعوها بضعف ذلك وضعفيه.

والجياد منها تساوي خمسمائة دينار ، وأكثر من ذلك ، وأهل الهند لا يبتاعونها للجري والسّبق لأنهم يلبسون في الحرب الدروع ويدرّعون الخيل ، وإنّما يبتغون قوة الخيل واتّساع خطاها ، والخيل التي يبتغونها للسبق تجلب إليهم من اليمن وعمان وفارس ، ويباع الفرس منها بألف دينار إلى أربعة آلاف.

ولما سافر الأمير تلكتمور عن هذه المدينة أقمت بعده ثلاثة أيّام حتى جهّز لي الأمير محمد خواجه آلات سفري وسافرت إلى مدينة الماجر ، وهي بفتح الميم والف وجيم مفتوح معقود وراء ، مدينة كبيرة من أحسن مدن التّرك على نهر كبير ، وبها البساتين والفواكه الكثيرة (٢٨) ، ونزلنا منها بزاوية الشيخ الصالح العابد المعمّر محمد البطائحي من بطائح العراق ، وكان خليفة الشيخ أحمد الرفاعي رضي‌الله‌عنه ، وفي زاويته نحو سبعين من فقراء العرب والفرس والترك والروم ، منهم المتزوج والعزب وعيشهم من الفتوح ، ولأهل تلك البلاد اعتقاد حسن في الفقراء ، وفي كلّ ليلة ياتون إلى الزاوية بالخيل والبقر والغنم ، ويأتي السلطان والخواتين لزيارة الشيخ والتّبرّك به ، ويجزلون الإحسان ويعطون العطاء الكثير وخصوصا النساء فإنهم يكثرن الصدقة ويتحرّين أفعال الخير.

وصلّينا بمدينة الماجر صلاة الجمعة فلما قضيت الصلاة صعد الواعظ عزّ الدين المنبر ، وهو من فقهاء بخاري وفضلائها وله جماعة من الطلبة ، والقرّاء يقرءون بين يديه ، ووعظ وذكّر وأمير المدينة حاضر وكبراؤها فقام الشيخ محمد البطائحيّ فقال : إن الفقيه الواعظ يريد السفر ، ونريد له زوّادة ، ثم خلع فرجيّة مرعز كانت عليه ، وقال : هذه منّي إليه فكان الحاضرون بين من خلع ثوبه ومن أعطى فرسا ومن أعطى دراهم ، واجتمع له كثير من ذلك كله.

ورأيت بقيساريّة هذه المدينة يهوديا سلّم عليّ وكلّمني بالعربي ، فسألته عن بلاده فذكر أنّه من بلاد الأندلس وأنّه قدم منها في البرّ ، ولم يسلك بحرا ، وأتى على طريق القسطنطينية

__________________

(٢٨) مدينة الماجر حددت على أنها بورگومادزري (BURGOMADZHRY) على ساحل نهر كوما (KUMA) على الخط ٥٠ ٤٤ شمالا و ٢٧ ٤٤ شرقا.

٢٢٤

العظمى وبلاد الروس وبلاد الجركس (٢٩) ، وذكر أن عهده بالأندلس منذ أربعة اشهر ، وأخبرني التجار المسافرون الذين لهم المعرفة بذلك بصحّة مقالة.

ورأيت بهذه البلاد عجبا من تعظيم النساء عندهم وهنّ أعلى شأنا من الرجال ، فأما نساء الأمراء فكانت أوّل رؤيتي لهنّ عند خروجي من القرم رؤية الخاتون زوجة الأمير سلطيه في عربة لها ، وكلّها مجلّلة بالملف الأزرق الطيب ، وطيقان البيت مفتوحة وأبوابه ، وبين يديها أربع جوار فاتنات الحسن ، بديعات اللّباس وخلفها جملة من العربات فيها جوار يتبعنها ، ولمّا قربت من منزل الأمير نزلت عن العربة إلى الارض ونزل معها نحو ثلاثين من الجواري يرفعن أذيالها ، ولأثوابها عرى تأخذ كل جارية بعروة ويرفعن الأذيال عن الأرض من كلّ جانب ، ومشت كذلك متبخترة فلمّا وصلت إلى الأمير قام إليها وسلّم عليها وأجلسها إلى جانبه ، ودار بها جواريها ، وجاءوا بروايا القمزّ فصبّت منه في قدح وجلست على ركبتيها قدّام الأمير وناولته القدح ، فشرب ثمّ سقت أخاه ، وسقاها الأمير ، وحضر الطعام فأكلت معه وأعطاها كسوة وانصرفت ، وعلى هذا الترتيب نساء الأمراء ، وسنذكر نساء الملك فيما بعد.

وأمّا نساء الباعة والسوقة فرأيتهنّ ، وإحداهنّ تكون في العربة والخيل تجرّهن ، وبين يديها الثلاث والأربع من الجواري يرفعن أذيالها وعلى رأسها البغطاق (٣٠) ، وهو أقروف (٣١) ، مرصّع بالجوهر ، وفي أعلاه ريش الطواويس ، وتكون طيقان البيت مفتحة ، وهي بادية الوجه لأنّ نساء الأتراك لا يحتجبن ، وتأتي إحداهن على هذا الترتيب ومعها عبيدها بالغنم واللبن فتبيعه من النّاس بالسلع العطريّة ، وربّما كان مع المرأة منهن زوجها فيظنّه من يراه بعض خدّامها ، ولا يكون عليه من الثياب الا فروة من جلد الغنم وفي رأسه قلنسوة تناسب ذلك يسمونها الكلا.

__________________

(٢٩) الجركس : شعوب كانت تقطن في القوقاز وهاجر أغلبها إلى بلاد الشام ، عرفوا بحسن الطلعة ، وكانوا مضرب المثل في اقتصادهم وتدبيرهم على ما جربته في مخالطتهم ـ الدولة الجركسية بمصر (المماليك) خلدت ذكرها في التاريخ بما قدمته من عطاء ـ انظر دائرة المعارف الإسلامية مادة جركس ، عوض كلمة الروس نجد في بعض المخطوطات الروم.

(٣٠) البغطاق : سياتي أن ابن بطوطة نفسه يشرحها بقوله بأنها مثل التاج الصغير المكلل بالجواهر وبأعلاه ريش الطواويس ... وقد أتعب دوزي نفسه في البحث عن الكلمة في معجم الملابس ونقل عن غيره أنها قميص ثم ذكر أخيرا أنها ثياب تزين بالجواهر واللئالئ بل كان بعضها ينسج ويطعم بالأحجار.

(٣١) أقروف : لفظ بربري الصيغة ، وهو يعني حسب القرائن المحتفة باستعماله ـ ما يعبر عنه دوزي بقوله : ضرب من تيجان الرأس المستعملة في المغرب ... أفول وما تزال بعض نساء شمال المغرب يتزيّن به عند المناسبات ... وربما كان اقروف (وليس أخروق كما حرفها ترجمان معجم الملابس) يشبه ما كان يسمى بالحنطوز في المغرب مما تغطى به السيدة رأسها ويكون مرصعا في الغالب بالجواهز واللئالي ...

ـ د. التازي ، اعراس فاس ١٩٦١ ص ٢٨.

٢٢٥

٢٢٦

وتجهّزنا (٣٢) من مدينة الماجر نقصد معسكر السلطان وكان على أربعة أيام من الماجر بموضع يقال له بش دغ (٣٣) ، ومعنى بش عندهم خمسة وهو بكسر الباء ، وشين معجم ، ومعنى دغ الجبل ، وهو بفتح الدال المهمل وغين معجم ، وبهذه الجبال الخمسة عين ماء حارّ (٣٤) يغتسل منها الاتراك ويزعمون أنّه من اغتسل منها لم تصبه عاهة مرض!

وارتحلنا إلى موضع المحلّة فوصلناه أوّل يوم من رمضان فوجدنا المحلة قد رحلت ، فعدنا إلى الموضع الذي رحلنا منه لأن المحلة تنزل بالقرب منه ، فضربت بيتي على تل هنالك وركّزت العلم أمام البيت وجعلت الخيل والعربات وراء ذلك ، وأقبلت المحلّة وهم يسمونها الأردو. وبضمّ الهمزة(٣٥)، فرأينا مدينة عظيمة تسير بأهلها فيها المساجد والأسواق ودخان المطبخ صاعد في الهواء، وهم يطبخون في حال رحيلهم ، والعربات تجرّها الخيل بهم فإذا بلغوا المنزل نزّلوا البيوت عن العربات وجعلوها على الأرض وهي خفيفة المحمل ، وكذلك يصنعون بالمساجد والحوانيت ، واجتاز بنا خواتين السلطان ، كلّ واحدة بناسها على حدة ، ولمّا اجتازت الرابعة منهن وهي بنت الأمير عيسى بك ، وسنذكرها ، رأت البيت بأعلى التل والعلم أمامه ، وهو علامة الوارد ، فبعثت الفتيان والجواري فسلّموا عليّ وبلّغوا سلامها إليّ وهي واقفة تنتظرهم فبعثت اليها هديّة مع بعض أصحابي ومع معرّف الأمير تلكتمور فقبلتها تبركّا ، وأمرت أن أنزل في جوارها وانصرفت وأقبل السلطان فنزل في محلّته على حدة.

__________________

(٣٢) الكلا باللغة الفارسية الطاقية كما نعرف.

(٣٣) بش دغ هي بالروسيةP\'Atigorsh ، الحالية ، ترجمة الاسم باللغة التركية وتقع في منطقة القوقاز.

(٣٤) العيون الكبريتية المعدنية توجد إلى الآن في المكان المذكور ، ومن الطّريف أن نسمع أن مطار الإقليم يحمل اسم" مطار المياه المعدنية" ، ويقول الروس وهم يتحدثون عن الحمة : إن أول من اكتشف فائدة هذه المياه المعدنية رحالة مغربي قديم اسمه ابن بطوطة! ولكنها اهملت قرونا حتى اكتشفها الفرنسيون أيام حملة نابليون على روسيا ... وهي نافعة فعلا من الأمراض الجلدية على نحو ما يوجد في الديار المغربية بالنسبة للحمّة التي تحمل اسم (مولاي يعقوب) على مقربة من مدينة فاس ـ د. التازي : شيء من التاريخ عن حمة سيدي حرازم ومولاي يعقوب والعيون الأخرى بحث خصص للمؤتمر العالمي للمياه المعدنية ٩ فبراير ١٩٨١ د. التازي : مع ابن بطوطة من البحر الأسود إلى نهر جيحون ـ مصدر سابق. ـ احمد بهاء الدين : يوميات ، رحلة مسكوفية ، الأهرام المصرية. ١ ـ ٩ ـ ١٩٨٨.

(٣٥) الأردو (Urdu) بالتركية تعني معسكر السلطان المتنقّل ، وهناك من يعمّم معنى اللفظ فيجعله شاملا لكل معسكر حتى ولو كان شخصيا ...

٢٢٧

ذكر السلطان المعظّم محمد أوزبك خان (٣٦).

واسمه محمد أوزبك بضم الهمزة وواو وزاي مسكن وباء موحدة مفتوحة ، ومعنى خان عندهم السلطان ، وهذا السلطان عظيم المملكة ، شديد القوّة ، كبير الشأن رفيع المكان ، قاهر لأعداء الله أهل قسطنطينية العظمى ، مجتهد في جهادهم وبلاده متّسعة ، ومدنه عظيمة ، منها الكفا والقرم والماجر وأزاق وسرداق (٣٧) وخوارزم ، وحضرته السرّا.

وهو (٣٨) أحد الملوك السبعة الذين هم كبراء ملوك الدنيا وعظماؤها ، وهم مولانا أمير المومنين ظلّ الله في أرضه إمام الطائفة المنصورة الذين لا يزالون ظاهرين على الحقّ إلى قيام الساعة أيّد الله أمره ، وأعزّ نصره (٣٩) ، وسلطان مصر والشام ، وسلطان العراقين ، والسلطان أوزبك هذا، وسلطان بلاد تركستان وما وراء النهر وسلطان الهند ، وسلطان الصين (٤٠).

ويكون هذا السلطان ، إذا سافر في محلة على حدة معه مماليكه وأرباب دولته ، وتكون كلّ خاتون من خواتينه على حدة في محلتها ، فإذا أراد أن يكون عند واحدة منهن بعث إليها يعلمها بذلك فتتهيأ له ، وله في قعوده وسفره وأموره ترتيب عجيب بديع.

__________________

(٣٦) أوزبك خان (UZBEK KHAN) ٧١٢ ـ ٧٤١ ١٣١٢ ـ ١٣٤١ ، سلطان مغولي من القبيلة الذّهبية كما نعلم ، والجدير بالذكر أنه ابتداء من هذا السلطان أوزبك وجدنا أن ملوك (القبيلة الذهبية) يصبحون مسلمين.

(٣٧) سرداق (SOLDAIA) : سوداق (SUDAK) الحالية : بجزيرة القرم جنوب شرقي فيوضوزيا (FEODOSIA) كانت الميناء الأساسي في جزيرة القرم قبل بزوغ كفّا ، وقد كانت بها وكالة تجارية للبندقية ... على ما سنرى.

(٣٨) القصد إلى (SARAY) أول مدينة تحمل هذا الاسم أسست من لدن باتو (BATU) أول سلطان للقبيلة الذهبية ٦٢٤ ـ ٦٥٤ ١٢٢٧ ـ ١٢٥٦ كمقر لإقامة الخريف ، قريبا من القرية الحالية سولترونوج (SELITRONNOJE) على بعد مائة كيلومتر في أعالى أسترخان (ASTRAKHAN) على الفولگا. سراي الجديدة أسست على ما يبدو من قبل برك (BERKE) ٦٥٥ ـ ٦١٤ ١٢٥٧ ـ ١٢٦٦ في الشمال أكثر على الموقع الحالي لكاروف CAR\'OV على بعد ٧٠ ك. م شرقيّ بيتر سبورغ (ستالين گراد).

(٣٩) القصد إلى السلطان أبي الحسن علي بن أبي سعيد (٧٣١ ـ ٧٥٢ ١٣٣٠ ـ ١٣٥١) ، فإن هذا الثناء كان عام ٧٣٤ ١٣٣٤. هذا وقد علق الامير مولاي العباس على مخطوطته مفرّقا بين لقب أمير المومنين الذي يختص به العاهل المغربي وبين الالقاب الأخرى التي يختص بها في نظره ملوك العجم ...

(٤٠) يلاحظ أن ابن بطّوطة كان دقيقا جدّا في تصنيف قادة العالم على عهده ، فإنه لم يذكر «الخليفة» العباسي بمصر. كما لم يذكر شريف مكة ، ولا ملك اليمن وأخيرا لم يذكر ملك تونس ولا تلمسان لأنه يعرف مدى نفوذ هؤلاء جميعا في الوقت الذي كان يقوم فيه بهذا التصنيف الهام!

٢٢٨

ومن عادته أن يجلس يوم الجمعة بعد الصلاة في قبة تسمى قبة الذهب : مزينة بديعة وهي من قضبان خشب مكسوة بصفائح الذّهب ، وفي وسطها سرير من خشب مكسوّ بصفائح الفضّة المذهّبة ، وقوائمه فضّة خالصة ورؤوسها مرصّعة بالجواهر ، ويقعد السلطان على السرير وعلى يمينه الخاتون طيطغلي ، وتليها الخاتون كبك وعلى يساره الخاتون بيلون ، وتليها الخاتون أردجي ، ويقف أسفل السرير عن اليمين ولد السلطان تين بك وعن الشمال ولده الثاني : جان بك ، وتجلس بين يديه ابنته إيت كجكج ، وإذا أتت إحداهن قام لها السلطان وأخذ بيدها حتى تصعد على السرير ، وأمّا طيطغلي وهي الملكة وأحظاهنّ عنده فإنه يستقبلها إلى باب القبّة فيسلّم عليها ، ويأخذ بيدها فإذا صعدت على السّرير وجلست ، حينئذ يجلس السلطان ، وهذا كلّه على أعين الناس دون احتجاب!

ويأتي بعد ذلك كبار الأمراء ، فتنصب لهم كراسيّهم عن اليمين والشمال ، وكل إنسان منهم إذا أتى مجلس السلطان يأتي معه غلام بكرسيه ، ويقف بين يدي السلطان أبناء الملوك من بني عمّه وإخوته وأقاربه ويقف في مقابلتهم عند باب القبّة أولاد الأمراء الكبار ، ويقف خلفهم وجوه العساكر عن يمين وشمال ، ثم يدخل النّاس للسلام ، الأمثل فالأمثل : ثلاثة ثلاثة ، فيسلمون وينصرفون فيجلسون على بعد ، فإذا كان بعد صلاة العصر انصرفت الملكة من الخواتين ، ثم ينصرفون فيجلسون على بعد ، فإذا كان بعد صلاة العصر انصرفت الملكة من الخواتين ، ثم ينصرف سائرهن فيتبعنها إلى محلّتها ، فإذا دخلت إليها انصرفت كلّ واحدة إلى محلتها راكبة عربتها ، ومع كل واحدة نحو خمسين جارية ، راكبات على الخيل! وأمام العربة نحو عشرين من قواعد النساء راكبات على الخيل فيما بين الفتيان والعربة وخلف الجميع نحو مائة مملوك من الصبيان ، وأمام الفتيان نحو مائة من المماليك الكبار ركبانا ، ومثلهم مشاة بأيديهم القضبان والسيوف مشدودة على أوساطهم وهم بين الفرسان والفتيان ، وهكذا ترتيب كلّ خاتون منهن في انصرافها ومجيئها.

وكان نزولي من المحلة في جوار ولد السلطان جان بك الذي يقع ذكره فيما بعد ، وفي الغد من يوم وصولي دخلت إلى السلطان بعد صلاة العصر ، وقد جمع المشايخ والقضاة والفقهاء والشرفاء والفقراء ، وقد صنع طعاما كثيرا وأفطرنا بمحضره ، وتكلّم السيد الشريف نقيب الشرفاء ابن عبد الحميد والقاضي حمزة في شأني بالخير ، وأشاروا على السلطان بإكرامي.

وهؤلاء الأتراك لا يعرفون إنزال الوارد ولا إجراء النفقة وانّما يبعثون له الغنم والخيل للذّبح وروايا القمزّ ، وتلك كرامتهم ، وبعد هذا بأيام صلّيت صلاة العصر مع السلطان ، فلما أردت الانصراف أمرني بالقعود ، وجاءوا بالطّعام من المشروبات كما يصنع من الدّوقي ثم

٢٢٩

باللّحوم المسلوقة من الغنمي والخيلي ، وفي تلك الليلة أتيت السلطان بطبق حلواء فجعل اصبعه عليه وجعله على فيه ولم يزد على ذلك!

ذكر الخواتين وتربيتهن

وكلّ خاتون منهن تركب في عربة وللبيت الذي تكون فيه قبّة من الفضّة المموّهة بالذهب أو من الخشب المرصّع ، وتكون الخيل التي تجرّ عربتها مجلّلة بأثواب الحرير المذهّب ، وخديم العربة الذي يركب أحد الخيل فتى يدعى القشي (٤١) ، والخاتون قاعدة في عربتها وعن يمينها امرأة من القواعد تسمى أولو خاتون (٤٢) ، بضم الهمزة واللام ، ومعنى ذلك الوزيرة ، وعن شمالها امرأة من القواعد ايضا تسمى كجك خاتون ، بضم الكاف والجيم ، ومعنى ذلك الحاجبة ، وبين يديها ستّ من الجواري الصغار يقال لهن : البنات ، فائقات الجمال ، متناهيات الكمال ، ومن ورائها ثنتان مثلهنّ ، تستند إليهنّ ، وعلى رأس الخاتون البغطاق ، وهو مثل التاج الصغير مكلل بالجواهر وبأعلاه ريش الطواويس وعليها ثياب حرير مرصّعة بالجوهر شبه المنوت (٤٣) التي يلبسها الروم ، وعلى رأس الوزيرة والحاجبة مقنعة حرير ، مزركشة الحواشي بالذّهب والجوهر ، وعلى رأس كلّ واحدة من البنات الكلا وهو شبه الأقروف ، وفي أعلاه دائرة ذهب مرصّعة بالجوهر وريش الطواويس من فوقها وعلى كلّ واحدة ثوب حرير مذهب يسمى النّخّ ، ويكون بين يدي الخاتون عشرة أو خمسة عشر من الفتيان الرّوميين والهنديّين ، وقد لبسوا ثياب الحرير المذهب المرصعة بالجواهر ، وبيد كلّ واحد منهم عمود ذهب أو فضّة أو يكون من عود ملبس بهما وخلف عربة الخاتون نحو مائة عربة في كل عربة الثلاث والأربع من الجواري الكبار والصغار ، ثيابهن الحرير وعلى رؤوسهن الكلا ، وخلف هذه العربات نحو ثلاثمائة عربة تجرها الجمال والبقر تحمل خزائن الخاتون وأموالها وثيابها وأثاثها وطعامها ومع كلّ عربة غلام موكّل بها متزوج بجارية من الجواري التي ذكرنا ، فإن العادة عندهم أنّه لا يدخل بين الجواري من الغلمان الّا من كان له بينهن زوجة! وكل خاتون فهي على هذا الترتيب ولنذكرهن على الانفراد.

__________________

(٤١) الكلمة من لغة قفجق وتعني سائس الخيول والخادم المساعد ـ راجع التعليق السابق رقم ٢٦.

(٤٢) أولو (ULU) : معناها الكبيرة ، أو المعظمة بينما كجك (KOSI) تعني الصغيرة.

(٤٣) المنوت : الكلمة حسب الترجمانين.D.S من أصل اغريقي (MELLOUTHAH وحوّلها الأقباط بدورهم إلى ملّوطة ، وهي بالانجليزيةManth وهي تعني العباءة التي تلبس فوق ... وتغطي الكل ... حول البغطاق انظر تعليق ٣٠ ، وحول أقروف انظر التعليق ٣١ وحول النخ انظر ج II ، ٣٠٩ ـ يلاحظ أن گيب يترجم دائما كلمة الروم بالإغريق.

٢٣٠

ذكر الخاتون الكبرى

والخاتون الكبرى : هي الملكة أم ولدي السلطان جان بك وتين بك وسنذكرهما ، وليست أم ابنته ايت كججك ، وامها كانت الملكة قبل هذه واسم هذه الخاتون طيطغلي (٤٤) بفتح الطاء المهملة الأولى واسكان الياء آخر الحروف وضم الطاء الثانية واسكان الغين المعجمة وكسر الام وياء مدّ ، وهي أحظى نساء هذا السلطان عنده ، وعندها يبيت أكثر لياليه ويعظمها الناس بسبب تعظيمه لها ، وإلا فهي أبخل الخواتين! وحدّثني من اعتمده من العارفين بأخبار هذه الملكة أنّ السلطان يحبّها للخاصيّة التي فيها ، وهي أنّه يجدها كلّ ليلة كأنّها بكر (٤٥)!! وذكر لي غيره أنها من سلالة المرأة التي يذكر أن الملك زال عن سليمان عليه‌السلام بسببها ، ولما عاد إليه ملكه أمر أن توضع بصحراء قفجق (٤٥) ، وأن رحم هذه الخاتون شبه الحلقة خلقة ، وكذلك كلّ من هو من نسل المرأة المذكورة ، ولم أر بصحراء قفجق ولا غيرها من أخبر أنّه رأى امرأة على هذه الصورة ولا سمع بها الّا هذه الخاتون! اللهمّ الّا أنّ بعض أهل الصين أخبرني أنّ بالصين صنفا من نسائها على هذه الصورة ولم يقع بيدي ذلك ولا عرفت له حقيقة!!.

وفي غد اجتماعي بالسلطان دخلت إلى هذه الخاتون وهي قاعدة فيما بين عشر من النساء القواعد كأنّهنّ خديمات لها وبين يديها نحو خمسين جارية صغارا يسمون البنات ، وبين أيديهن طيافير الذهب والفضّة مملوّة بحبّ الملوك وهنّ ينقينه ، وبين يدي الخاتون صينيّة ذهب مملوة منه وهي تنقّيه ، فسلّمنا عليها وكان في جملة أصحابي قارئ يقرأ القرآن على طريقة المصريّين بطريقة حسنة وصوت طيّب ، فقرأ ثم أمرت أن يوتى بالقمز فأوتي به في أقداح خشب لطاف خفاف ، فأخذت القدح بيدها وناولتني إيّاه وتلك نهاية الكرامة عندهم ، ولم

__________________

(٤٤) هذه الأميرة العظيمة الخاتون طيطغلي سجل اسمها في التاريخ بسبب رسالة وجهت إليها من لدن البابا بينوا الثاني عشر (BENOIT XII) بتاريخ ١٧ غشت ١٣٤٠ بهذا العنوان : " امبراطورة التتار الشماليين طاي ضولا" يعرب فيها البابا عن الأمل بأن طاي ضلا المعروفة بتشجيعها للمسيحيين أن تعتنق هي نفسها الدين المسيحي ، على نحو ما قام به البابا اينوصانت الرابع بالنسبة للخليفة الموحدي المرتضى في الرسالة التي بعث بها إلى المغرب بتاريخ ٣١ أكتوبر ١٢٤٦ ١٨ جمادى الثانية ٦٤٤.

p. Pelliot : Notes sur l\'histoire de la Horde d\'or. Thaytholu Katou ـ Paris. ٠٥٩١ p. ١٠١ ـ ٥

ـ د. التازي : التاريخ الدبلوماسي ج ٦ ص ١٦٥ ١٦٦ مصدر سابق.

(٤٥) يذكّر هذا الكلام فيما يرويه التنوخي عن القصيدة اليتيمة التي تصف أميرة بأوصاف كان منها ما جاء في هذين البيتين :

ولها هن راب مجسّته

صعب المسالك ، حشوه وقد

فإذا طعنت طعنت في لبد

وإذا سللت يكاد ينسدّ!!

أمّا عن قصة سليمان فتراجع الآية : ولقد فتنا سليمان السورة ٣٨ الآية ٣٤.

٢٣١

٢٣٢

أكن شربت القمزّ قبلها ، ولا كن لم يمكنني إلّا قبوله! وذقته ولا خير فيه ، ودفعته لأحد أصحابي، وسألتني عن كثير من حال سفرنا ، فأجبناها ، ثم انصرفنا عنها ، وكان ابتداؤنا بها لأجل عظمتها عند الملك!

ذكر الخاتون الثانية التي تلي الملكة

واسمها كبك خاتون ، بفتح الكاف الأولى وفتح الباء الموحدة ، ومعناه بالتركية النّخالة ، وهي بنت الأمير نغطى ، واسمه بنون وغين معجمة وطاء مهملة مفتوحات وياء مسكنة ، وأبوها حيّ مبتلى بعلة النّقرس ، وقد رأيته ، وفي غد دخولنا على الملكة دخلنا على هذه الخاتون فوجدناها على مرتبة تقرأ في المصحف الكريم وبين يديها نحو عشر من النساء القواعد ونحو عشرين من البنات يطرّزن ثيابا فسلّمنا عليها وأحسنت في السلام والكلام ، وقرأ قارئنا فاستحسنته ، وأمرت بالقمز فأحضر وناولتني القدح بيدها كمثل ما فعلته الملكة وانصرفنا عنها.

ذكر الخاتون الثالثة

واسمها بيلون بباء موحدة وياء آخر الحروف كلاهما مفتوح ولام مضموم وواو ومدّ ونون ، وهي بنت ملك القسطنطينية العظمى السلطان تكفور (٤٦) ودخلنا على هذه الخاتون وهي قاعدة على سرير مرصّع وقوائمه فضّة وبين يديها نحو مائة جارية : روميّات وتركيّات ونوبيّات ، منهن قائمات وقاعدات ، والفتيان على رأسها ، والحجّاب بين يديها من رجال الروم ، فسألت عن حالنا ومقدمنا وبعد أوطاننا ، وبكت ومسحت وجهها بمنديل كان بين يديها رقّة

__________________

(٤٦) عرف ملك بيزنطة في الأدب العربي تحت اسم تقفور

نقض الذي أعطيته تقفور

وعليه دائرة البوار تدور!

وهو محرف فيما يبدو عن الكلمة الأرمنية تاكافور (TAGAVOR) ، وبالنسبة للتعريف بالأميرة بيلون فاننا نتوفر على إشارة واحدة وغير مباشرة لا توجد في الشجرة البيزنطية وهذه الاشارة وردت في الرسالة المكتوبة عام ٧٤١ ١٣٤١ من لدن الراهب البيزنطي الأديب گريگوار أكيندينوس (G.AKINDYNOS) إلى صديقه دافيد دشيبّاطوس ، (D.Dshypatos) الذي كان عندئد راهبا في بلاد البلقان ، كانت الرسالة تحكي عن التوصل في القسطنطينية برسالة من ابنت الامبراطور ، زوجة سلطان الشيث (Scythes) (يعني المغول) تخبر بغارة يقوم بها ستون الف رجل ضد منطقة الدانوب وثراسي (THRACE). ـ بيلون المذكورة ينبغي أن تكون اذن بنتا طبيعية لأندرونيك (ANDRONIC) الثالث باليولوگ (Paleologue) ـ د. التازي : مراسلة دبلوماسية شعرية بين القسطنطينية وبغداد دار الجيل ـ بيروت ١٩٩٣ ص ٢٥٧.

٢٣٣

منها وشفقة ، وأمرت بالطعام فأحضر وأكلنا بين يديها وهي تنظر إلينا ولمّا أردنا الانصراف ، قالت : لا تنقطعوا عنّا وتردّدوا إلينا وطالعونا بحوائجكم : وأظهرت مكارم الاخلاق وبعثت في أثرنا بطعام وخبز كثير وسمن وغنم ودراهم وكسوة جيّدة وثلاثة من جياد الخيل وعشرة من سائرها ، ومع هذه الخاتون كان سفري إلى القسطنطينية العظمى كما نذكره بعد.

ذكر الخاتون الرابعة

واسمها أردجا بضمّ الهمزة واسكان الراء وضم الدال المهمل وجيم والف ، وأرد بلسانهم المحلّة، وسمّيت بذلك لولادتها في المحلّة ، وهي بنت الأمير الكبير عيسى بك أمير الألوس (٤٧) بضمّ الهمزة واللام ، ومعناه أمير الأمراء ، وأدركته حيّا وهو متزوج ببنت السلطان ايت كججك ، وهذه الخاتون من أفضل الخواتين وألطفهنّ شمائل وأشفقهنّ ، وهي التي بعثت إليّ لمّا رأت بيتي على التل عند جواز المحلة كما قدّمناه ، دخلنا عليها فرأينا من حسن خلقها وكرم نفسها ما لا مزيد عليه ، أمرت بالطعام فأكلنا بين يديها ، ودعت بالقمز فشرب أصحابنا ، وسألت عن حالنا ، فأجبناها، ودخلنا أيضا إلى أختها زوجة الأمير علي بن أرزق.

ذكر بنت السّلطان المعظّم أوزبك

واسمها إيت كججك ، وايت بكسر الهمزة وياء مدّ وتاء مثناة وكججك بضم الكاف وضم الجيمين ، ومعنى اسمها الكلب الصغير ، فإنّ إيت هو الكلب ، وكججك هو الصغير (٤٨) وقد قدّمنا أنّ الترك يسمون بالفأل ، كما تفعل العرب ، وتوجهنا إلى هذه الخاتون بنت الملك وهي في محلة منفردة على نحو ستّة أميال من محلة والدها فأمرت بإحضار الفقهاء والقضاة والسيد الشريف ابن عبد الحميد وجماعة الطلبة والمشائح والفقراء ، وحضر زوجها الأمير عيسى الذي بنته زوجة السلطان ، فقعد معها على فراش واحد وهو معتلّ بالنّقرس فلا يستطيع التصرّف على قدميه ولا ركوب الفرس وانّما يركب العربة ، وإذا أراد الدخول على السلطان أنزله خدّامه وأدخلوه إلى المجلس محمولا ، وعلى هذه الصورة رأيت أيضا الأمير نغطي ، وهو أبو الخاتون الثانية ، وهذه العلّة فاشية في هؤلاء الأتراك ، ورأينا من هذه الخاتون

__________________

(٤٧) الكلمة ألوس :(ULUS) بالمغولية ، تعني قبيلة عظيمة من القبائل المغولية التي كانت تخضع لرئيس أعلى ...

(٤٨) في الحقيقة أن كلمة كشك (Kuhcuk) لها معنى الكلب الصغير وكلمة جك في الأخير لاحقة تعني التّصغير فالمعنى اذن على الأصغر وليس فقط علي الصغير.

٢٣٤

بنت السلطان من المكارم وحسن الأخلاق ما لم نره من سواها وأجزلت الاحسان وافضلت جزاها الله خيرا.

ذكر ولديّ السلطان

وهما شقيقان ، وأمهما جميعا طيطغلي التي قدّمنا ذكرها والأكبر منهما اسمه تين بك(٤٩)،بتاء معلوّة وياء مدّ ونون مفتوحة ، بك معناه الأمير ، وتين معناه الجسد ، فكأن اسمه أمير الجسد ، واسم أخيه جان بك بفتح الجيم وكسر النون ، ومعنى جان : الروح فكأنّه يسمّى أمير الروح ، ولكل واحد منها محلة على حدة ، وكان تين بك من أجمل خلق الله صورة وعهد له أبوه بالملك ، وكانت له الحظوة والتشريف عنده ، ولم يرد الله ذلك ، فإنه لمّا مات أبوه ولّي يسيرا ، ثم قتل لأمور قبيحة جرت له ، وولى أخوه جان بك وهو خير منه وأفضل.

وكان السيّد الشريف ابن عبد الحميد هو الذي تولّى تربية جان بك ، وأشار عليّ هو والقاضي حمزة والإمام بدر الدين القومي والإمام المقرئ حسام الدين البخاريّ وسواهم حين قدومي أن يكون نزولي بمحلة جان بك المذكور لفضله ففعلت ذلك.

ذكر سفري إلى مدينة بلغار

وكنت سمعت بمدينة بلغار (٥١) فأردت التوجه إليها لأرى ما ذكر عنها من انتهاء قصر الليل بها ، وقصر النهار في عكس ذلك الفصل ، وكان بينها وبين محلّة السلطان مسيرة

__________________

(٤٩) تين بك (TINI) خلف والده لبضعة شهور سنة ٧٤٢ ه‍ ١٣٤٢ ـ ١٣٤٣ ، وينبغي التحقيق مع ابن بطوطة حول أصل الكلمتين ودلالتهما ... وقد اثبت بعض الباحثين بيلو (Pelliot) أن اسم الأمير تيني (Tini) من اشتقاق تركي Tino (بمعنى الروح) ، وان اسم (جاني) من اشتقاق فارسي بمعنى الروح كذلك ـ.Gibb ٢ ,Note ٠٨٢

(٥٠) عوّض جان بك أخاه بتنحيته واستمر في الحكم من ٧٤٢ إلى ٧٥٨ ١٣٤٢ ـ ١٣٥٧.

(٥١) توجد أطلال مدينة بلغار على بعد ١١٥ ك. م. جنوب قازان عند الكيلوميتر السابع انطلاقا من يسار ساحل نهر فولگا. وقد اعتنقت عاصمة بلغار : (الفولكا) الإسلام في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي ، واستولى عليها المغول عام ٦٣٥ ١٢٣٧ واحتفظت بطابعها كمركز تجاري خلال هذه الفترة.

وتلاحظ بعض التعاليق هنا وخاصة تعليق جانيكسيك janicsek وهربك Hrbec أنه نظرا لكون مدينة البلغار تقع على بعد ثمانمائة ميل شمال بش داغ فانه من غير الممكن أن يستطيع ابن بطوطة تحقيق هذا السفر خلال شهر رمضان وإنا نعتقد أن المساعدة الملكية الخاصة للرحالة المغربي قد تكون كفيلة بتحقيق الغرض سيما ونحن نعلم عما تستطيع الإمكانيات أن تقوم به من طي المسافات ... والتغلب على العقبات ، وأمامنا عدد من الحالات المشابهة التي تبرّر ما نذهب اليه من صدق ابن بطوطة فيما يقول. وهناك اليوم رحلات قمنا فيها بمساعدة السلطة بقطع مسافات خيالية لم يكن في استطاعتنا أن نقوم بعشرها عندما كنا نعتمد على وسائلنا الخاصة!!

٢٣٥

عشر ، فطلبت منه من يوصلني إليها فبعث معي من أوصلني إليها وردّني إليه ووصلتها في رمضان فلمّا صلينا المغرب أفطرنا وأذّن العشاء في أثناء إفطارنا فصلّينا وصلينا التراويح والشفع والوتر وطلع الفجر إثر ذلك ، وكذلك يقصر النهار بها في فصل قصره أيضا وأقمت بها ثلاثا.

ذكر أرض الظلمة

وكنت أردت الدخول إلى أرض الظلمة والدخول اليها من بلغار ، وبينهما مسيرة أربعين يوما (٥٢) ، ثم أضربت عن ذلك لعظم المؤنة فيه وقلة الجدوى ، والسفر إليها لا يكون إلّا في عجلات صغار ، تجرّها كلاب كبار ، فإن تلك المفازة فيها الجليد فلا يثبت قدم الآدميّ ولا حافر الدابّة فيها ، والكلاب لها الأظفار فتثبت أقدامها في الجليد ، ولا يدخلها إلّا الأقوياء من التجار الذين يكون لأحدهم مائة عجلة أو نحوها موقرة بطعامه وشرابه وحطبه (٥٣) فإنّها لا شجر فيها ولا حجر ولا مدر. والدليل بتلك الأرض هو الكلب (٥٤) الذي قد سار فيها مرارا كثيرة ، وتنتهي قيمته إلى ألف دينار ونحوها ، وتربط العربة إلى عنقه ويقرن معه ثلاثة من الكلاب ويكون هو المقدّم وتتبعه سائر الكلاب بالعربات ، فإذا وقف وقفت وهذا الكلب لا يضربه صاحبه ولا ينهره ، وإذا حضر الطعام أطعم الكلاب أوّلا قبل بني آدم والّا غضب الكلب وفرّ وترك صاحبه للتلف! فإذا كملت للمسافرين بهذه الفلاة أربعون مرحلة نزلوا عند الظّلمة وترك كلّ واحد منهم ما جاء به من المتاع هنالك ، وعادوا إلى منزلهم المعتاد فإذا كان من الغد عادوا لتفقّد متاعهم فيجدون بإزائه من السمّور والسّنجاب والقاقم ، فإن أرضى صاحب المتاع ما وجده إزاء متاعه أخذوه وإن لم يرضه تركه فيزيدونه ، وربّما رفعوا متاعهم أعني أهل الظلمة ، وتركوا متاع التجار ، وهكذا بيعهم وشراؤهم ولا يعلم الذين يتوجهون إلى هنالك من يبايعهم ويشاريهم أمن الجنّ أم من الإنس ولا يرون أحدا!

__________________

(٥٢) " ... وسمعت ببلغار ، وهي مدينة في آخر بلاد الاسلام في الشمال هي فوق سقسين بأربعين يوما ، يكون النهار في الصيف عشرين ساعة والليل أربع ساعات ... ويشتد البرد فيها حتى إذا مات لأحد ميت لا يقدر أن يدفنه ستة شهور ... ولقد مات لي ولد وكان في آخر الشتاء فلم أقدر على دفنه. ويخرج التجار من بلغار إلى ولاية من الكفار ... منها يجيء القندس الجيّد ..." من رحلة أبي حامد الغرناطي الذي زار المنطقة عام ٥٢٥ ١١٣٠ ـ Journal Asiatique ,juillet ٥٢٩١ p.٦١١.

(٥٣) يجب أن ننتبه إلى حرص ابن بطوطة على ذكر الحطب وأهمية موادّ التّسخين وخاصة في مثل هذه الظروف التي تصير فيها الأرض كالحديد ولا يمكن أن يحفر فيها قبر كما يقول الغرناطي ...

(٥٤) من الأمثال المعروفة ببلاد المغرب" من طنجة لبرّ الكلب" يضرب مثلا في بعد المسافة ونحن نرى فيه إشارة للمسافة التي قطعها ابن بطوطة من طنجة لأرض الظلمات حيث تتجلى مزية من المزايا الحميدة المعروفة للكلاب! التازي : التاريخ الدبلوماسي ٧ ، ٣٢.

٢٣٦

والقاقم (٥٥) : هو أحسن أنواع الفراء وتساوي الفروة منه ببلاد الهند ألف دينار وصرفها من ذهبنا مائتان وخمسون ، وهي شديدة البياض من جلد حيوان صغير في طول الشبر وذنبه طويل يتركونه في الفروة على حاله ، والسمّور دون ذلك تساوي الفروة منه أربعمائة دينار فما دونها.

وخاصيّة هذه الجلود أنّه لا يدخلها القمل ، وأمراء الصين وكبارها يجعلون منه الجلد الواحد متّصلا بفرواتهم عند العنق ، وكذلك تجار فارس والعراقين.

وعدت من مدينة بلغار مع الأمير الذي بعثه السلطان في صحبتي فوجدت محلّة السلطان على الموضع ببش دغ وذلك في الثامن والعشرين من رمضان وحضرت معه صلاة العيد وصادف يوم العيد يوم الجمعة (٥٦).

ذكر تربيتهم في العيد

ولمّا كان صباح يوم العيد ركب السلطان في عساكره العظيمة ، وركبت كلّ خاتون عربتها ومعها عساكرها وركبت بنت السلطان والتاج على رأسها إذ هي الملكة على الحقيقة ورثت الملك من أمّها (٥٧) ، وركب أولاد السلطان كلّ واحد في عسكره.

وكان قد قدم لحضور العيد قاضي القضاة شهاب الدين السايليّ ، ومعه جماعة من الفقهاء والمشايخ ، فركبوا وركب القاضي حمزة والامام بدر الدين القوامي والشريف ابن عبد الحميد ، وكان ركوب هؤلاء الفقهاء مع تين بك ولي عهد السلطان ومعهم الأطبال والأعلام ، فصلّى بهم القاضي شهاب الدين وخطب أحسن خطبة ، وركب السلطان وانتهى إلى برج خشب يسمّى عندهم الكشك (٤) ، فجلس فيه ومعه خواتينه ، ونصب برج ثان دونه فجلس فيه وليّ عهده وابنته صاحبة التاج ونصب برجان دونهما عن يمينه وشماله فيهما أبناء السلطان

__________________

(٥٥) تضافرت نصوص التاريخ على أن الأوربيين عرفوا هذا النوع من" التجارة الخرساء" مع الهنود الحمر في إمريكا كما عرفه القرطاجنيون والفينيقيون مع بعض الإمارات المغربية ...

ـ د. التازي : التاريخ الدبلوماسي للمغرب ج ٣ ، ص : ١٠ ـ ١٠٣.

(٥٦) عيد الفطر كان عام ٧٣٤ يوافق يوم الأحد ٤ يونيه ١٣٣٤ على حسب جداول كاطنوز ..

(٥٧) كانت أمها على ما يحتمل هي أولى الزوجات عند أوزبك المسماة في التاريخ الروسي بعلين ببلون؟ توفيت سنة ٧٢٣ ١٣٢٣ ... هذا وتحتاج عبارة ابن بطوطة : وورثت الملك من أمّها" تحتاج إلى بيان أكثر دقة ...

(٥٨) من هذه الكلمة الكشك يأتي لفظ (KIOSQUE) في اللغة الفرنسية.

٢٣٧

وأقاربه ونصبت الكراسي للأمراء وأبناء الملوك ، وتسمّى الصّندليات (٥٩) عن يمين البرج وشماله ، فجلس كل واحد على كرسيّه.

ثمّ نصبت طبلات للرمي لكل أمير طومان (٦٠) طبلة مختصّة به ، وأمير طومان عندهم هو الذي يركب له عشرة آلاف ، فكان الحاضرون من أمراء طومان سبعة عشر يقودون مائة وسبعين ألفا ، وعسكره أكثر من ذلك ، ونصب لكل أمير شبه منبر فقعد عليه وأصحابه يلعبون بين يديه فكانوا على ذلك ساعة.

ثمّ أتي بالخلع فخلعت على كل أمير خلعة وعندما يلبسها يأتي إلى أسفل برج السلطان ، فيخدم ، وخدمته أن يمسّ الأرض بركبته اليمنى ويمدّ رجله عليها والأخرى قائمة. ثم يؤتي بفرس مسرج ملجم فيرفع حافره ويقبّل فيه الأمير ويقوده بنفسه إلى كرسيه ، وهنالك يركبه ويقف مع عسكره ويفعل هذا الفعل كلّ أمير منهم ، ثم ينزل السلطان عن البرج ويركب الفرس وعن يمينه ابنه وليّ العهد ، وتليه بنته الملكة إيت كججك ، وعن يساره ابنه الثاني ، وبين يديه الخواتين الأربع في عربات مكسوّة بأثواب الحرير المذهّب ، والخيل التي تجرّها مجلّلة بالحرير المذهّب ، وينزل جميع الأمراء الكبار والصغار وابناء الملوك والوزراء والحجّاب وأرباب الدولة فيمشون بين يدي السلطان على أقدامهم إلى أن يصل إلى الوطاق (٦١) ، والوطاق بكسر الواو وهو أفراج ، وقد نصبت هنالك باركة (٦٢) عظيمة ، والباركة عندهم بيت كبير له أربعة أعمدة من الخشب مكسوّة بصفائح الفضة المموّهة بالذهب ، وفي أعلى كلّ عمود جامور من الفضّة المذهّبة له بريق وشعاع وتظهر هذه الباركة على بعد كأنّها تنيّة ، ويوضع عن يمينها ويسارها سقائف من القطن والكتّان ، ويفرش ذلك كلّه بفرش الحرير ، وينصب في وسط الباركة السرير الأعظم ، وهم يسمونه التّخت (٦٣) ، وهو من خشب مرصّع وأعواده مكسوّة بصفائح مذهّبة ، وقوائمه من الفضة الخالصة المموّهة ، وفوقه فرش عظيم.

وفي وسط هذا السرير الأعظم مرتبة يجلس بها السلطان والخاتون الكبرى وعن يمينه مرتبة جلست بها بنته ايت كججك ومعها الخاتون أردجا ، وعن يساره مرتبة جلست بها

__________________

(٥٩) (SANDALI) بالفارسية تعني الكرسي أو المنصة أو العرش كذلك.

(٦٠) طومان كلمة تركية (TUMEN) وتعني عشرة آلاف.

(٦١) تتعدّد المخطوطات بين عبارة (الرّطان بكسر الرّاء) وبين (الوطاق بكسر الواو) ونميل إلى اعتماد الأخيرة لأنها بالتركية وطاق من الأصل العربي وثاق ، وإلى الآن تستعمل بمعنى الخيمة ـ تعليق ٢٢.

(٦٢) بارغه (BARGHA) بالفارسية تعني قاعة الاستقبال أو المحكمة.

(٦٣) باللغة الفارسية : الكرسي ـ حول الجامور انظر ج II ، ص ٣٠ وج II ، ص ١٣.

٢٣٨

الخاتون بيلون ، ومعها الخاتون كبك ، ونصب عن يمين السرير كرسي قعد عليه تين بك ولد السلطان ، ونصب عن شماله كرسي قعد عليه جان بك ولده الثاني ، ونصبت كراسي عن اليمين والشمال جلس فوقها أبناء الملوك والأمراء الكبار ، ثم الأمراء الصغار مثل أمراء هزارة (٦٤) ، وهم الذين يقودون ألفا.

ثم أتي بالطعام على موائد الذهب والفضّة وكلّ مائدة يحملها أربعة رجال وأكثر من ذلك ، وطعامهم لحوم الخيل والغنم مسلوقة ، وتوضع بين يدي كلّ أمير مائدة وياتي الباورجي (٦٥) ، وهو مقطّع اللحم وعليه ثياب حرير وقد ربط عليها فوطة حرير وفي حزامه جملة سكاكين في أغمادها ، ويكون لكلّ أمير باورجي ، فإذا قدّمت المائدة قعد بين يدي أميره ، ويؤتى بصحفة صغيرة من الذهب أو الفضّة فيها ملح محلول بالماء فيقطع الباروجي اللّحم قطعا صغارا. ولهم في ذلك صنعة في قطع اللحم مختلطا بالعظم فإنهم لا يأكلون منه إلّا ما اختلط بالعظم.

ثم يؤتي بأواني الذهب والفضّة للشرب ، وأكثر شربهم نبيذ العسل وهم حنفيّة المذهب يحلّلون النبيذ ، فإذا أراد السلطان أن يشرب أخذت بنته القدح بيدها ، وخدمت برجلها ، ثم ناولته القدح فشرب ثم تأخذ قدحا آخر فتناوله للخاتون الكبرى ، فتشرب منه ثم تناول لسائر الخواتين على ترتيبهنّ ، ثم يأخذ وليّ العهد القدح ويخدم ويناوله أباه فيشرب ثم يناول الخواتين ثم أخته ويخدم لجميعهن ، ثم يقوم الولد الثاني فيأخذ القدح ويسقي أخاه له ثم يقوم الأمراء الكبار فيسقي كلّ واحد منهم وليّ العهد ، ويخدم له ثم يقوم أبناء الملوك فيسقي كلّ واحد منهم هذا الابن الثاني ويخدم له ، ثم يقوم الأمراء الصغار فيسقون أبناء الملوك.

ويغنّون أثناء ذلك بالملالية (٦٦) وكانت قد نصبت قبّة كبيرة أيضا إزاء المسجد للقاضي والخطيب والشريف وسائر الفقهاء والمشايخ ، وأنا معهم فأوتينا بموائد الذهب والفضة ، يحمل كلّ واحدة أربعة من كبار الأتراك ، ولا يتصرف في ذلك اليوم بين يدي السلطان إلّا الكبار فيأمرهم برفع ما أراد من الموائد إلى من أراد فكان من الفقهاء من أكل ، ومنهم من تورّع من الأكل في الموائد الفضّة والذّهب. ورأيت مدّ البصر عن اليمين والشمال

__________________

(٦٤) هزارة بالفارسية (HEZAR) تعني الف.

(٦٥) الكلمة بالمغولية (LeBAOURTCHIN) ضابط مهمّ في القصر المغولي.

(٦٦) هكذا في سائر النسخ : الملّالية ، يظهر أنها نسبة إلى الملّا : اللّقب الذي يطلق على السيّد المرشد وقد جعل الناشران أمامها كلمة (الموالية ...) والقصد إلى أغاني قصيرة.

٢٣٩

من العربات عليها روايا القمزّ فأمر السلطان بتفريقها على الناس ، فأتوا إلىّ بعربة منها فأعطيتها لجيراني من الأتراك ، ثم أتينا المسجد ننتظر صلاة الجمعة فأبطأ السلطان ، فمن قائل إنّه لا يأتي لأن السّكر قد غلب عليه ، ومن قائل إنّه لا يترك الجمعة ، فلمّا كان بعد تمكّن الوقت أتى وهو يتمايل! فسلم على السيد الشريف وتبسّم له وكان يخاطبه بآطا ، وهو الأب بلسان التّركية ، ثم صلّينا الجمعة وانصرف الناس إلى منازلهم وانصرف السلطان إلى الباركة ، فبقي على حاله إلى صلاة العصر ثم انصرف الناس أجمعون وبقي مع الملك تلك الليلة خواتينه وبنته.

ثم كان رحيلنا مع السلطان والمحلّة لمّا انقضى العيد فوصلنا إلى مدينة الحاجّ ترخان (٦٧) ، ومعنى ترخان عندهم : الموضع المحرّر من المغارم ، وهو بفتح التاء المثناة وسكون الراء وفتح الخاء المعجم وآخره نون ، والمنسوب اليه هذه المدينة هو حاجّ من الصالحين ، تركي نزل بموضعها وحرّر له السلطان ذلك الموضع فصار قرية ، ثم عظمت وتمدّنت ، وهي من أحسن المدن عظيمة الأسواق مبنيّة على نهر إتل (٦٨) ، وهو من أنهار الدنيا الكبار ، وهنالك يقيم السلطان حتّى يشتدّ البرد ويجمد هذا النهر ، وتجمد المياه المتّصلة به ، ثم يأمر أهل تلك البلاد فيأتون بآلاف من أحمال التبن فيجعلونها على الجليد المنعقد فوق النهر ، والتبن هنالك لا تأكله الدواب ، لأنّه يضرّها ، وكذلك ببلاد الهند ، وانّما أكلها الحشيش الأخضر لخصب البلاد ، ويسافرون بالعربات فوق هذا النهر ، والمياه المتصلة به ثلاث مراحل ، وربّما جازت القوافل فوقه مع آخر فصل الشتاء فيغرقون ويهلكون.

ولمّا وصلنا مدينة الحاجّ ترخان رغبت الخاتون بيلون ابنة ملك الروم من السلطان أن ياذن لها في زيارة أبيها لتضع حملها عنده وتعود إليه ، فأذن لها ورغبت منه أن يأذن لي في التوجّه صحبتها لمشاهدة القسطنطينية العظمى ، فمنعني خوفا عليّ فلاطفته وقلت له : إنّما أدخلها في حرمتك وجوارك فلا أخاف من أحد! فأذن لي وودّعناه ووصلني بألف وخمسمائة دينار وخلعة وأفراس كثيرة وأعطتني كلّ خاتون منهنّ سبائك الفضة ، وهم يسمّونها الصّوم ،

__________________

(٦٧) ترخان يتعلق الامر بمدينة أسترخان (OSSETES AS ـ ASTRAKHAN) على مصب نهر الفولكا. أصل الكلمة يكمن إما في اسم لأحد الملوك (MAZAR) أو في اسم (OSSETES) شعب في شمال القوقاز ، وهناك من جعل ، الاشتقاق من الكلمة التركية ... (تركان) لقب ملكي أو من الكلمة المغولية داركان : شخص معفى من حقوق الديوانة.

(٦٨) نهر إتل هو الاسم الذي يعطيه المؤلفون العرب لنهر الفولگا : أنظر رحلة الغرناطي ص ١٥.

٢٤٠