رحلة ابن بطوطة - ج ٢

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ٢

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-008-7
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٢٦٨

الأخرى ، ويركب عليها الناس ، وتجاز الدواب سباحة وكذلك فعلنا ووصلنا تلك الليلة إلى كاوية(١٢٨) واسمها على مثال فاعلة ، من الكيّ ، نزلنا منها بزاوية أحد الأخية فكلّمناه بالعربية فلم يفهم عنّا ، وكلّمنا بالتركيّة فلم نفهم عنه! فقال : اطلبوا الفقيه فإنّه يعرف العربية فأتى الفقيه فكلّمنا بالفارسيّة وكلّمناه بالعربية ، فلم يفهمها منّا فقال للفتى : إيشان عربيّ كهنا ميقوان ومن عربيّ نوميد انم ، وإيشان ، معناه : هؤلاء ، وكهنا : قديم ، وميقوان : يقولون ، ومن أنا ، ونو : جديد. وميدا نم : نعرف وانّما أراد الفقيه بهذا الكلام ستر نفسه عن الفضيحة حين ظنّوا أنّه يعرف اللسان العربيّ وهو لا يعرفه فقال لهم : هؤلاء يتكلّمون بالكلام العربيّ القديم وأنا لا أعرف الّا العربيّ الجديد! فظنّ الفتى أن الأمر على ما قاله الفقيه ، ونفعنا ذلك عنده ، وبالغ في إكرامنا وقال : هؤلاء تجب كرامتهم لأنهم يتكلمون باللسان العربي القديم! وهو لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، ولم نفهم كلام الفقيه إذا ذاك لاكني حفظت لفظه ، فلما تعلمت اللسان الفارسي فهمت مراده ، وبتنا تلك الليلة بالزاوية ، وبعث معنا دليلا إلى ينجا ، وضبط اسمها بفتح الياء آخر الحروف وكسر النون وجيم ، بلدة كبيرة حسنة بحثنا بها عن زاوية الأخي فوجدنا أحد الفقراء المولّهين ، فقلت له : هذه زاوية الأخي؟ فقال لي : نعم فسررت عند ذلك اذ وجدت من يفهم اللسان العربي ، فلما اختبرته أبرز الغيب انّه لا يعرف من اللسان العربي الا كلمة نعم خاصّة! وانزلنا بالزاوية وجاء إلينا أحد الطلبة بطعام ولم يكن الأخي حاضرا ، وحصل الأنس بهذا الطالب ، ولم يكن يعرف اللسان العربي لاكنه تفضّل وتكلّم مع نائب البلدة ، فأعطاني فارسا من أصحابه وتوجه معنا إلى كينوك (١٢٩) ، وضبط اسمها بفتح الكاف وسكون الياء وضم النون ، وهي بلدة صغيرة يسكنها كفار الرّوم تحت ذمّة المسلمين ، وليس بها غير بيت واحد من المسلمين وهم الحكّام عليهم ، وهي من بلاد السلطان أرخان بك ، فنزلنا بدار عجوز كافرة وذلك إبّان الثلج والشتاء ، فأحسنّا إليها وبتنا عندها تلك الليلة.

وهذه البلدة لا شجر بها ولا دوالي العنب ، ولا يزرع بها الّا الزعفران ، وأتتنا هذه العجوز بزعفران كثير وظنّت أننا تجار نشتريه منها! ولما كان الصباح ركبنا وأتانا الفارس الذي بعثه الفتى معنا من كاوية فبعث معنا فارسا غيره ليوصلنا إلى مدينة مطرني ، وقد وقع في تلك الليلة ثلج كثير عفّى الطرق ، فتقدّمنا ذلك الفارس فاتّبعنا أثره إلى أن وصلنا في نصف النهار إلى قرية للتركمان ، فاتوا بطعام فأكلنا منه وكلّمهم ذلك الفارس ، فركب معنا أحدهم وسلك بنا أو عارا وجبالا ومجرى ماء تكرّر لنا جوازه أزيد من ثلاثين مرّة ، فلمّا خلصنا

__________________

(١٢٨) كاويه : هي (GEYVE) على بعد ٥٠ ك. م. شرق إيزنيك.

(١٢٩) كينوك (GOYNUK) تقع على بعد ٢٥ ك. م شرقي طركلي.

٢٠١

من ذلك ، قال لنا ذلك الفارس : أعطوني شيئا من الدراهم ، فقلنا له : إذا وصلنا إلى المدينة نعطيك ونرضيك ، فلم يرض ذلك منّا أو لم يفهم عنّا ، فأخذ قوسا لبعض أصحابي ومضى غير بعيد ، ثم رجع فردّ إلينا القوس ، فأعطيته شيئا من الدراهم فأخذها وهرب عنّا وتركنا لا نعرف أين نقصد ، ولا طريق يظهر لنا ، فكنّا نتلمّح أثر الطريق تحت الثلج ، ونسلكه إلى أن بلغنا عند غروب الشمس إلى جبل يظهر الطريق به لكثرة الحجارة ، فخفت الهلاك على نفسي ومن معي ، وتوقعت نزول الثلج ليلا ، ولا عمارة هنالك ، فإن نزلنا عن الدوابّ هلكنا وإن سرينا ليلتنا لا نعرف أين نتوجّه! وكان لي فرس من الجياد فعلمت على الخلاص ، وقلت في نفسي : إذا سلمت لعلّي أحتال في سلامة أصحابي ، فكان كذلك واستودعتهم الله تعالى وسرت.

وأهل تلك البلاد يبنون على القبور بيوتا من الخشب يظنّ رائيها أنها عمارة فيجدها قبورا ، فظهر لي منها كثير فلما كان بعد العشاء وصلت إلى بيوت ، فقلت : اللهمّ اجعلها عامرة ، فوجدتها عامرة ، ووفّقني الله تعالى إلى باب دار فرأيت عليه شيخا فكلّمته بالعربي فكلّمني بالتركي وأشار إليّ بالدخول فاخبرته بشأن أصحابي ، فلم يفهم عنّي ، وكان من لطف الله أن تلك الدار زاوية للفقراء والواقف بالباب شيخها فلمّا سمع الفقراء الذين بداخل الزاوية كلامي مع الشيخ ، خرج بعضهم ، وكانت بيني وبينه معرفة ، فسلّم عليّ ، وأخبرته خبر أصحابي وأشرت إليه بأن يمضي مع الفقراء لاستخلاص الأصحاب ، ففعلوا ذلك وتوجّهوا معي إلى أصحابي وجئنا جميعا إلى الزاوية ، وحمدنا الله تعالى على السلامة!

وكانت ليلة جمعة ، فاجتمع أهل القرية وقطعوا ليلتهم بذكر الله تعالى ، وأتى كلّ منهم بما تيسّر له من الطعام وارتفعت المشقّة ، ورحلنا عند الصباح فوصلنا إلى مدينة مطرني (١٣٠) عند صلاة الجمعة ، وضبط اسمها بضم الميم والطاء المهملة واسكان الراء وكسر النون وياء مدّ ، فنزلنا بزاوية أحد الفتيان الأخية ، وبها جماعة من المسافرين ولم نجد مربطا للدواب فصلينا الجمعة ونحن في قلق لكثرة الثلج والبرد وعدم المربط ، فلقينا أحد الحجّاج من أهلها فسلّم علينا ، وكان يعرف اللسان العربي ، فسررت برؤيته وطلبت منه أن يدلّنا على مربط للدواب بالكراء ، فقال : امّا ربطها في منزل فلا يتأتّي لأن أبواب دور هذه البلدة صغار لا تدخل عليها الدّواب ، ولا كني أدلكم على سقيفة بالسوق يربط فيها المسافرون دوابّهم ، والذين يأتون لحضور السوق ، فدلّنا عليها وربطنا بها دوابنا ، ونزل أحد الاصحاب بحانوت خال ازاءها ليحرس الدواب.

__________________

(١٣٠) مطرني (MUDURNU) على بعد ٣٥ ك. م. شرقي كينوك سالف الذكر والطريق فعلا جبلي.

٢٠٢

وكان من غريب ما اتّفق لنا أنّي بعثت أحد الخدّام ليشتري التّبن للدواب ، وبعثت أحدهم يشتري السمن ، فأتى أحدهما بالتبن ، وأتى الآخر دون شيء وهو يضحك ، فسألناه عن سبب ضحكه فقال إنّا وقفنا على دكّان بالسوق ، فطلبنا منه السمن فأشار الينا بالوقوف ، وكلّم ولدا له فدفعنا له الدراهم فأبطأ ساعة وأتى بالتبن فأخذناه منه وقلنا له : إنّا نريد السمن ، فقال : هذا السمن ، وأبرز الغيب أنهم يقولون للتبن سمن بلسان الترك! وأما السمن فيسمّى عندهم روغان!!(١٣١).

ولمّا اجتمعنا بهذا الحاجّ الذي يعرف اللسان العربي رغبنا منه أن يسافر معنا إلى قصطمونية، وبينها وبين هذه البلدة مسيرة عشر ، وكسوته ثوبا مصريا من ثيابي وأعطيته نفقة تركها لعياله ، وعيّنت له دابّة لركوبه ووعدته الخير وسافر معنا فظهر لنا من حاله أنّه صاحب مال كثير وله ديون على الناس غير أنّه ساقط الهمّة خسيس الطبع سيء الأفعال! وكنا نعطيه الدراهم لنفقتنا فيأخذ ما يفضل من الخبز ويشتري به الأبزار والخضر والملح ويمسك ثمن ذلك لنفسه! وذكر لي أنه كان يسرق من دراهم النفقة دون ذلك ، وكنا نحتمله لما كنا نكابده من عدم المعرفة بلسان الترك ، وانتهت حاله إلى أن فضحناه ، وكنا نقول له في آخر النهار : يا حاجّ كم سرقت اليوم من النفقة؟ فيقول : كذا! فنضحك منه ونرضى بذلك!!

ومن أفعاله الخسيسة أنه مات لنا فرس في بعض المنازل فتولى سلخ جلده بيده وباعه ، ومنها أنّا نزلنا ليلة عند أخت له في بعض القرى فجاءت بطعام وفاكهة من الإجّاص والتفّاح والمشمش والخوخ كلّها ميبّسة وتجعل في الماء حتى ترطب فتوكل ويشرب ماؤها ، فأردنا أن نحسن إليها ، فعلم بذلك فقال : لا تعطوها شيئا وأعطوا ذلك لي ، فأعطيناه ارضاء له ، وأعطيناها إحسانا في خفية بحيث لم يعلم بذلك!

ثم وصلنا إلى مدينة بولي (١٣٢) وضبط اسمها بباء موحدة مضمومة وكسر اللام ، ولما انتهينا إلى قريب منها وجدنا واديا يظهر في رأى العين صغيرا فلما دخله بعض أصحابنا وجدوه شديد الجرية والانزعاج فجازوه جميعا ، وبقيت جارية صغيرة خافوا من تجويزها ، وكان فرسي خيرا من أفراسهم فأردفتها ، وأخذت في جواز الوادي فلمّا توسطته وقع بي الفرس ووقعت الجارية فأخرجها أصحابي وبها رمق ، وخلّصت أنا.

__________________

(١٣١) هذه الحكاية أثارت انتباه الامير مولاي العباس القائد العام لحرب تطوان المغربية عام ١٨٦٠ فعلّق على مخطوطته قائلا : قف ولا بد على هذه الحكاية!!

(١٣٢) بولي (Bolu) وتقع على بعد ٤٥ ك. م شمال شرقي مدينة مطرني الطريق الذي يربط اسطنبول بأنقره وكانت على ذلك العهد من الممتلكات العثمانية. في هذه المدينة رأى ابن بطوطة لأول مرة الموقدla) (cheminee في مؤسسة دينية وقد رأيت عام ١٩٩٦ بالمسجد الأزرق في تبريز موقدين ينطبق عليهما وصف ابن بطوطة.

٢٠٣

ودخلنا المدينة فقصدنا زاوية أحد الفتيان الأخية ، ومن عوائدهم أنه لا تزال النار موقودة في زواياهم أيام الشتاء أبدا يجعلون في كل ركن من أركان الزاوية موقدا للنار ويصنعون لها منافس يصعد منها الدخان ولا يؤذي الزاوية ، ويسمونها البخاريّ واحدها بخيريّ.

قال ابن جزي : وقد احسن صفي الدين عبد العزيز بن سرايا الحليّ (١٣٣) في قوله في التورية، وتذكّرته بذكر البخيريّ :

إنّ البخيريّ مذّ فارقتموه غدا

يحثي الرّماد على كانونه التّرب

لو شئتم انّه يمسي أبا لهب

جاءت بغالكم حمّالة الحطب (١٣٤)

رجع. قال : فلمّا دخلنا الزاوية وجدنا النار موقدة فنزعت ثيابي ولبست ثيابا سواها واصطليت بالنار ، وأتى الأخي بالطعام والفاكهة وأكثر من ذلك ، فلله درّهم من طائفة ما أكرم نفوسهم وأشدّ إئثارهم ، وأعظم شفقتهم على الغريب ، وألطفهم بالوارد ، وأحبّهم فيه وأجملهم احتفالا بأمره! فليس قدوم الانسان الغريب عليهم الّا كقدومه على أحبّ أهله إليه! وبتنا تلك الليلة بحال رضيّة ، ثم رحلنا بالغداة فوصلنا إلى مدينة كردي بولي (١٣٥) ، وضبط اسمها بكاف معقودة وفتح الراء والدال المهمل وسكون الياء وباء موحدة مضمومة وواو مدّ ولام مكسورة وياء ، وهي مدينة كبيرة في بسيط من الأرض حسنة متّسعة الشوارع والأسواق من أشدّ البلاد بردا ، وهي محلّات مفترقة. كل محلة تسكنها طائفة لا يخالطهم غيرهم.

ذكر سلطانها

وهو السّلطان شاه بك (١٣٦) من متوسطي سلاطين هذه البلاد ، حسن الصورة والسيرة جميل الخلق ، قليل العطاء ، صلّينا بهذه المدينة صلاة الجمعة ، ونزلنا بزاوية منها ،

__________________

(١٣٣) عبد العزيز بن سرايا علي الطائي الحلي شاعر تاجر ... وقد تقرب من ملوك الدولة الأرتقية ومدحهم وأجزلوا له عطاءاتهم ورحل إلى القاهرة سنة ٧٢٦ ـ ١٣٢٦ فمدح الملك الناصر ، أدركه أجله ببغداد عام ٧٥٠ ١٣٤٩ ، وقد سلف ذكره عند الحديث عن ماردين II ، ١٤٣.

(١٣٤) تلميح للشخصيتين المذكورتين في القرآن أبو لهب وزوجته حمالة الحطب ، السورة ١١١ سورة المسد.

(١٣٥) كردي بولي هي (Bolu) (GEREDE) الحالية على بعد ٣٧ ك. م. شرقي بولو (BOLU) سالفة الذكر ـ على بعد قليل نحو الشرق من هذه المدينة. نجد ابن بطوطة يغادر الطريق الرئيسي لأنطالبا متّجها نحو شاطء البحر الأسود.

(١٣٦) لا يعرف شيء كثير عن هذه الامارة ولا عن ملكها الذي يسميه العمري شاهين ربما كان ذلك تحريفا لشاه بك. وهو أي العمري يقدر جيشه بحوالي ٥٠٠٠ فرس. وقد احتلت هذه المدينة كردي بولي Gerede من لدن العثمانيين عام ٧٥٥ ١٣٥٤.

٢٠٤

ولقيت بها الخطيب الفقيه شمس الدين الدمشقي الحنبلي ، وهو مستوطنها منذ سنين ، وله بها أولاد ، وهو فقيه هذا السلطان وخطيبه ومسموع الكلام عنده ، ودخل علينا هذا الفقيه بالزاوية فأعلمنا أن السلطان قد جاء لزيارتنا فشكرته على فعله ، واستقبلت السلطان فسلّمت عليه ، وجلس فسألني عن حالي ، وعن مقدمي وعمّن لقيته من السلاطين ، فأخبرته بذلك كلّه ، وأقام ساعة ثمّ انصرف ، وبعث بدابّة مسرجة وكسوة.

وانصرفنا إلى مدينة برلو ، (١٣٧) وضبط اسمها بضمّ الباء الموحدة واسكان الراء وضم اللام ، وهي مدينة صغيرة على تلّ تحتها خندق ولها قلعة بأعلى شاهق نزلنا منها بمدرسة فيها حسنة ، وكان الحاج الذي سافر معنا يعرف مدرّسها وطلبتها ويحضر معهم الدرس ، وهو ، على علّاته ، من الطلبة حنفيّ المذهب ، ودعانا أمير هذه البلدة وهو عليّ بك بن السلطان المكرّم سليمان پادشاه ملك قصطمونية ، وسنذكره ، فصعدنا إليه إلى القلعة فسلّمنا عليه فرحّب بنا ، وأكرمنا ، وسألني عن أسفاري وحالي فأجبته عن ذلك ، وأجلسني إلى جانبه ، وحضر قاضيه وكاتبه الحاجب علاء الدين محمد ، وهو من كبار الكتّاب وحضر الطعام فأكلنا ، ثم قرأ القراء بأصوات مبكية وألحان عجيبة وانصرفنا.

وسافرنا بالغد إلى مدينة قصطمونية (١٣٨) ، وضبط اسمها بقاف مفتوح وصاد مهمل مسكن وطاء مهمل مفتوح وميم مضمومة وواو ونون مكسورة وياء آخر الحروف ، وهي من أعظم المدن وأحسنها كثيرة الخيرات رخيصة الأسعار نزلنا منها بزاوية شيخ يعرف بالأطرش لثقل سمعه ، ورأيتمنه عجبا ، وهو أن أحد الطلبة كان يكتب له في الهواء وتارة في الأرض بأصبعه (١٣٩) ، فيفهم عنه ، ويجيبه ، ويحكي له بذلك الحكايات فيفهمها وأقمنا بهذه المدينة نحو أربعين يوما فكنّا نشتري طابق اللحم الغنميّ السمين بدرهمين ونشتري خبزا بدرهمين فيكفينا ليومنا ونحن عشرة ، ونشتري حلواء العسل بدرهمين فتكفينا أجمعين ونشتري جوزا بدرهم وقسطلا بمثله ، فنأكل منها أجمعون ويفضل باقيها ونشتري حمل الحطب بدرهم واحد ، وذلك أوان البرد الشديد ، ولم أر في البلاد مدينة أرخص أسعارا منها.

__________________

(١٣٧) مدينة (برلو) هي سافرانبولو (SAFARANBOLU) الحالية على بعد ٦٥ ك. م. شمال شرقي بولي (GEREDE) وتسمى في النصوص القديمة زعفران برلو لأن الزعفران يزرع بها.

(١٣٨) قصطمونية (KASTAMONU) على بعد ٩٠ ك. م شرقي سافرانبولو (FRONBOLU).

(١٣٩) ضرب من المبتكرات للتفاهم مع الآخرين وربما للتعامل السري عند الحاجة. أنظر دائرة المعارف الإسلامية مادة (حساب العقد) ـ د. التازي : الرموز السرية في المراسلات المغربية عبر التاريخ ، مطبعة المعارف المعارف ، الرباط ١٩٨٣.

٢٠٥

ولقيت بها الشيخ الامام العالم المفتي المدرس تاج الدين السلطانيوكي من كبار العلماء ، قرأ بالعراقين وتبريز واستوطنها مدّة وقرأ بدمشق وجاور بالحرمين قديما.

ولقيت بها العالم المدرس صدر الدين سليمان الفنيكي ، من أهل فنيكة (١٤٠) من بلاد الروم، وأضافني بمدرسته التي بسوق الخيل (١٤٠) ولقيت بها الشيخ المعمّر الصالح دادا أمير علي دخلت عليه بزاويته بمقربة من سوق الخيل فوجدته ملقى على ظهره فأجلسه بعض خدامه ورفع بعضهم حاجبيه عن عينيه ففتحهما ، وكلمني بالعربي الفصيح ، وقال قدمت خير مقدم وسألته عن عمره فقال : كنت من أصحاب الخليفة المستنصر بالله وتوفّى وأنا ابن ثلاثين سنة وعمري الآن مائة وثلاث وستّون سنة (١٤٢) ، فطلبت منه الدعاء لي وانصرفت.

ذكر سلطان قصطمونية

وهو السلطان المكرم سليمان پادشاه ، واسمه بباء معقودة والف ودال مسكن ، وهو كبير السن ينيف على سبعين سنة ، حسن الوجه طويل اللّمة (١٤٣) صاحب وقار وهيبة ، يجالسه الفقهاء والصلحاء دخلت عليه بمجلسه فأجلسني إلى جانبه وسألني عن حالي ومقدمي وعن الحرمين الشريفين ومصر والشام ، فأجبته وأمر بإنزالي على قرب منه ، وأعطاني ذلك اليوم فرسا عتيقا قرطاسيّ اللون وكسوة وعيّن لي نفقة وعلفا وأمر لي بعد ذلك بقمح وشعير نفّد لي في قرية من قرى المدينة على مسيرة نصف يوم منها ، فلم أجد من يشتريه لرخص الأسعار فاعطيته للحاج الذي كان في صحبتنا.

__________________

(١٤٠) فنيكة (FINIKE) مدينة تقع على الساحل الجنوبي لتركيا جنوب غربي أنطاليا ، كانت على ذلك العهد تحت هيمنة أسرة ما نطيشي (MENTECHE).

(١٤١) تشتهر قصطمونية بخيولها الرفيعة حسبما يؤكد العمري.

(١٤٢) بما أن المستنصر بالله الخليفة ما قبل الأخير في بغداد توفي عام ٦٤٠ ١٢٤٢ فإن عمر الشيخ لا ينبغي أن يتجاوز أكثر من ١٢٣ ولا غرابة في ذلك عند الذين يتتبّعون كتب التراجم ...

(١٤٣) شجاع الدين سليمان ٧٠٠ ـ ٧٤٠ ١٣٠١ ـ ١٣٤٠ ابن تمر جاندار (TIMUR JANDAR) الذي كان يملك منذ سنة ٦٩٠ ١٢٩١ منطقة نفوذ : أفلاني (AFLANI) شمال شرق زعفران بولو (SAFRONBOLU) ـ وقد انتزع شجاع الدّين قصطمونية من ورثتها الحكام السلاجقة الجويانيين عام ١٣١٠ أو عام ١٣٢٠ ، وهناك أسس مملكته الخاصة (جاندار أوغلو أو الإسفاندياريين ـ IS) (FADIYARIDES ، وقد احتل أيضا برلو وصنوب ، وعين ولده علي وابراهيم حاكمين لهما ، وحسب بعض المصادر المعاصرة فإنه معروف بسليمان باشا ـ اللّمة : الشعر المجاوز شحمة الأذن ... وفي بعض النسخ : اللحية عوض اللّمة ـ قدّر الإمام عليّ عليه‌السلام أرذل العمر (la senilite) بخمس وسبعين سنة ...

٢٠٦

ومن عادة هذا السلطان أن يجلس كلّ يوم بمجلسه بعد صلاة العصر ويوتى بالطعام فتفتح الأبواب ولا يمنع أحد من حضريّ أو بدويّ ، أو غريب أو مسافر من الأكل ، ويجلس في أول النهار جلوسا خاصّا ، ويأتي ابنه فيقبّل يديه ، وينصرف إلى مجلس له ، ويأتي أرباب الدولة فيأكلون عنده وينصرفون.

ومن عادته في يوم الجمعة أن يركب إلى المسجد ، وهو بعيد عن داره ، والمسجد المذكور هو ثلاث طبقات من الخشب ، فيصلّي السلطان وأرباب دولته والقاضي والفقهاء ووجوه الأجناد في الطبقة السفلى ، ويصلي أفندي (١٤٤) ، وهو أخو السلطان ، وأصحابه وخدّامه وبعض أهل المدينة في الطبقة الوسطى ، ويصلي ابن السلطان وليّ عهده وهو أصغر أولاده ، ويسمى الجواد(١٤٥) ، وأصحابه ومماليكه وخدامه وسائر الناس في الطبقة العليا ، ويجتمع القراء فيقعدون حلقة أمام المحراب ، يقعد معهم الخطيب والقاضي ويكون السلطان بازاء المحراب ويقرءون سورة الكهف (١٤٦) بأصوات حسان ويكرّرون الآيات بترتيب عجيب ، فإذا فرغوا من قراءتها صعد الخطيب المنبر فخطب ثم صلّى ، فإذا فرغوا من الصلاة تنفّلوا وقرأ القارئ بين يدي السلطان عشرا وانصرف السلطان ومن معه ، ثم يقرأ القارئ بين يدي أخي السلطان ، فإذا أتمّ قراءته انصرف هو ومن معه ، ثم يقرأ القارئ بين يدي ابن السلطان ، فإذا فرغ من قراءته قام المعرّف ، وهو المذكّر(١٤٧) فيمدح السلطان بشعر تركيّ ويمدح ابنه ويدعو لهما وينصرف ، ويأتي ابن الملك إلى دار أبيه بعد أن يقبل يد عمّه في طريقه ، وعمّه واقف في انتظاره ثم يدخلان إلى السلطان فيتقدم أخوه ويقبّل يده ويجلس بين يديه ، ثم يأتي ابنه فيقبّل يده وينصرف إلى مجلسه فيقعد به مع ناسه ، فإذا حانت صلاة العصر صلوها جميعا وقبل أخو السلطان يده وانصرف عنه فلا يعود اليه إلّا في الجمعة الأخرى وامّا الولد فإنّه يأتي كلّ يوم غدوة كما ذكرناه.

ثو سافرنا من هذه المدينة ونزلنا في زاوية عظيمة بإحدى القرى من أحسن زاوية

__________________

(١٤٤) كلمة أفندي من أصل إغريقي (AFTHENTES) بمعنى سيّد ـ ويتعلق الأمر هنا بأحد الاستعمالات الأولى لهذه الكلمة في اللغة التركية. هذا الأفندي ربما كان هو الأمير يعقوب الأخ الوحيد المعروف لسليمان الذي خلف ابن هذا الأخير ابراهيم ٧٤٢ ـ ٧٤٥ ١٣٤٢ ـ ١٣٤٥.

(١٤٥) لم نعرف عن هذا الجواد شيئا ، لقد كان خلف سليمان عند وفاته ولده ابراهيم الذي كان على ذلك العهد أمير صنوب.

(١٤٦) هي السورة رقم ١٨ من القرآن الكريم.

(١٤٧) لقب المذكّر وظيفة سياتي قريبا وصفها والحديث عنها.

٢٠٧

رأيتها في تلك البلاد ، بناها أمير كبير تاب إلى الله تعالى يسمّى فخر الدين (١٤٨) وجعل النظر فيها لولده والإشراف لمن أقام بالزاوية من الفقراء ، وفوائد القرية وقف عليها ، وبنى بازاء الزاوية حمّاما للسبيل يدخله الوارد والصادر من غير شئ يلزمه وبنى سوقا بالقرية ووقفه على المسجد الجامع وعيّن من أوقاف هذه الزاوية لكلّ فقير يرد من الحرمين الشريفين أو من الشام ومصر والعراقين وخراسان وسواها كسوة كاملة ومائة درهم يوم قدومه وثلاثماية درهم يوم سفره والنفقة أيّام مقامه ، وهي الخبز واللحم والأرز المطبوخ بالسمن والحلواء ، ولكل فقير من بلاد الروم عشرة دراهم وضيافة ثلاثة أيّام.

ثم انصرفنا وبتنا ليلة بزاوية في جبل شامخ لا عمارة فيه عمّرها بعض الفتيان الأخيّة ، ويعرف بنظام الدين من أهل قصطمونية ووقف عليها قرية ينفق خراجها على الوارد والصادر بهذه الزاوية.

وسافرنا من هذه الزاوية إلى مدينة صنوب (١٤٩) ، وضبط اسمها بفتح الصاد وضمّ النون وآخره باء ، وهي مدينة حافلة جمعت بين التحصين والتحسين ، يحيط بها البحر من جميع جهاتها إلا واحدة وهي جهة الشرق ، ولها هنالك باب واحد لا يدخل إليها أحد إلا بإذن أميرها إبراهيم بك (١٥٠) ابن السلطان سليمان پادشاه الذي ذكرناه.

ولما أستوذن لنا عليه دخلنا البلد ونزلنا بزاوية عزّ الدين أخي جلبي ، وهي خارج باب البحر، ومن هنالك يصعد إلى جبل داخل في البحر ، كمينا سبتة (١٥١) ، فيه البساتين والمزارع والمياه وأكثر فواكهه التين والعنب وهو جبل مانع لا يستطاع الصعود إليه ، وفيه إحدى عشرة قرية يسكنها كفار الروم تحت ذمّة المسلمين وبأعلاه رابطة تنسب للخضر وإلياس عليهما

__________________

(١٤٨) حسب الوصف فإن القصد إلى المدرسة المشيّدة في طاشكوبرو (Tashkopru) على بعد ٤٠ ك. م شمال شرق قسطمونية من لدن أمير قصطمونية الجوباني ومظفر الدّين يولوق أرسلان (ت ١٣٠٤ ـ ٥) وكذا سليمان پادشاه الذي خصص له وقفا عام ١٣٢٩ على ما تدل عليه المنقوشات الأثرية ، يبقى بعد هذا أن نذكر أن لقب فخر الدين مما خانته الذاكرة فيه ...

(١٤٩) صنوپ (SINOP) على بعد ٩٥ ك. م شمال شرق طاشكوبرو إحدى المراسي الأساسية للأناضول على البحر الاسود على ذلك العهد ، تقع على شبه جزيرة تتصل باليابسة من جهة الغرب (وليس جهة الشرق كما يقول ...

(١٥٠) ابراهيم أمير صنوپ ابتداء على ما يبدوا ـ من ٧٢٢ ١٣٢٢ وكان تابعا للسلطان جاندار أوغلو ٧٤٠ ـ ٧٤٢ ١٣٤٠ ـ ١٣٤٢.

(١٥١) لم ينس ابن بطوطة منطقة بلده فهو يقارن ويفارق بين معالمها ومعالم الجهات الأخرى ، وهنا نراه يفارق بين أنف الجبل الممتد في البحر بصنوب وبينه في سبتة ، ومن المعروف أن الأنف هناك يحمل اسم بوزداغ (BOZTEPE) والمرتفع هنا في سبتة يحمل اسم مينا (MUNA) وهو الذي يهيمن على الجانب الشرقي لشبه جزيرة سبتة (انظر الخريطة).

٢٠٨

السلام لا تخلو عن متعبد وعندها عين ماء ، والدعاء فيها مستجاب وبسفح هذا الجبل قبر الوليّ الصالح الصحابي بلال الحبشي (١٥٢) ، وعليه زاوية فيها الطعام للوارد والصادر.

والمسجد الجامع بمدينة صنوب من أحسن المساجد وفي وسطه بركة ماء عليها قبّة تقلّها أربع أرجل ومع كل رجل ساريتان من الرخام وفوقها مجلس يصعد له على درج خشب وذاك من عمارة السلطان بروانه ابن السلطان علاء الدين الروميّ ، وكان يصلي الجمعة بأعلى تلك القبة وملك بعد ابنه غازي جلبي ، فلما مات تغلب عليها السلطان سليمان المذكور (١٥٣) ، وكان غازي جلبي المذكور شجاعا مقدما ، ووهبه الله خاصيّة في الصبر تحت الماء وفي قوّة السباحة (١٥٤) ، وكان يسافر في الأجفان الحربيّة لحرب الروم ، فإذا كانت الملاقاة واشتغل الناس بالقتال غاص تحت الماء وبيده آلة حديد يخرق بها أجفان العدو فلا يشعرون بما حلّ بهم حتى يدهمهم الغرق ، وطرقت مرسى بلده مرّة أجفان للعدو فخرقها وأسر من كان فيها! (١٥٥)

وكانت فيه كفاية لا كفاء لها إلّا أنهم يذكرون انّه كان يكثر أكل الحشيش ، وبسببه مات فإنه خرج يوما للتصيد وكان مولعا به فاتبع غرالة ودخلت له بين أشجار وزاد في ركض فرسه فعارضته شجرة فضربت رأسه فشدّخته فمات ، وتغلب السلطان سليمان على البلد

__________________

(١٥٢) ذكر هذا القبر أيضا في دمشق (I ، ٢٢٢).

(١٥٣) بني هذا المسجد الجامع ٦٦٥ ١٢٦٧ من لدن سليمان بيّروان (PERVAN) الوزير السلجوقي ، وقد استمر صامدا وجرت عليه عدة ترميمات إلى يومنا ، وهو معروف تحت اسم جامع علاء الدين ...

(١٥٤) استوقفت هذه الفقرة بعض الذين اشتغلوا بالرحلة ابتداء من الناشرين الأولين (D.S) وانتهاء بگيب لقد لاحظوا ان هنا جملة فراغات لابد من التنبّه اليها :

لقد كان (بروانة) وهو لقب للأمراء الحاكمين في دولة صنوب ، تحت سيادة المغول إيلخان فارس ـ صنوب كانت مخفرا لحماية الطريق التجارية من طرابيزون إلى تبريز.

وقد أسست الدولة حوالي سنة ١٢٦٠ من لدن أحد أصهار سلاجقة الروم وقد خلفه عام ١٣٠١ غازي شلبي ابن السلطان السلجوقي مسعود الثاني المتوفى عام ١٣٠٤. وفي سنة ١٣٢٢ احتلت المدينة من لدن سليمان، يضاف إلى الاضطراب الحاصل أن العمري في أحد مصادره يذكر أن غازي شلبي كان حاكما لصنوب تحت سيادة خلف سليمان ابراهيم ...

(١٥٥) كان من أروع ما سجلته حروب الرّوم والإفرنج والمسلمين من أحداث دعم السباحة للأغراض العسكرية ، وإن الذين يعرفون عن تحمل الخليجيين في مغاصات اللؤلؤ مما تحدثنا عنه ـ وابن بطوطة في سيراف والبحرين ـ لا يستبعدون ما يحكى اليوم عن غازي شلبي الذي مكنته مهارته من القيام بدور الغواصات التي تخرق السفن وتجهز على ربابنتها!!

هذا وحسب المصادر الجنوية فإن هذه الحادثة التي ذكرها ابن بطوطة ربما تؤرخ عام ٧٢٤ ١٣٢٤ وحسب تلك المصادر فإن جلبي الذي يذكر تحت اسم ZARABI ربّما هاجم أسطولا من عشرة سفن جنوية. ١٩٧Note ـ ٤٦٧.P ، ٢.Gibb T.

ـ د. التازي : الأمير مرهف في سفارته للمغرب عن السلطان صلاح الدين بحث قدم للمؤثمر الدولي السادس لتاريخ بلاد الشام ونشرته مجلة أكاديمية المملكة المغربية ... العدد ١١ سنة ١٩٩٤.

٢٠٩

وجعل به ابنه ابراهيم ، ويقال : إنّه ايضا يأكل ما كان يأكله صاحبه ، على أن أهل بلاد الروم كلها لا ينكرون أكلها ، ولقد مررت يوما على باب الجامع بصنوب ، وبخارجه دكاكين يقعد الناس عليها ، فرأيت نفرا من كبار الأجناد وبين ايديهم خديم لهم بيده شكّارة مملوّة بشيء يشبه الحنّاء وأحدهم ياخذ منها بملعقة ويأكل وأنا أنظر إليه ولا علم لي بما في الشكّارة فسألت من كان معي فأخبرني أنه الحشيش (١٥٦)! وأضافنا بهذه المدينة قاضيها ونائب الأمير بها ومعلّمه ويعرف بابن عبد الرزّاق.

لما دخلنا هذه المدينة رءانا أهلها ونحن نصلي مسبلي أيدينا ، وهم حنفيّة لا يعرفون مذهب مالك ، ولا كيفية صلاته ، والمختار من مذهبه هو إسبال اليدين ، وكان بعضهم يرى الروافض بالحجاز والعراق يصلّون مسبلي أيديهم ، فاتّهمونا بمذهبهم وسألونا عن ذلك فأخبرناهم انّنا على مذهب مالك فلم يقنعوا بذلك منّا واستقرّت التّهمة في نفوسهم حتى بعث إلينا نائب السلطان بأرنب وأوصى بعض خدامه أن يلازمنا حتى يرى ما نفعله به فذبحناه وأكلناه ، وانصرف الخديم اليه وأعلمه بذلك فحينئذ زالت عنّا التهمة ، وبعثوا لنا بالضيافة ، والروافض لا يأكلون الأرنب!

وبعد أربعة أيام من وصولنا إلى صنوب ، توفيت أمّ الأمير إبراهيم بها فخرجت في جنازتها ، وخرج ابنها على قدميه كاشفا شعره ، وكذلك الأمراء والمماليك وثيابهم مقلوبة ، وامّا القاضي والخطيب والفقهاء فإنهم قلبوا ثيابهم ولم يكشفوا ، بل جعلوا عليها مناديل من الصوف الأسود عوضا عن العمائم ، وأقاموا يطعمون الطعام أربعين يوما ، وهي مدة العزاء عندهم.

__________________

(١٥٦) لقد استرعى انتباه ابن بطوطة تناول النّاس للحشيش في تلك المناطق ، وفيه ما يتناول على شكل معجون أو أقراص يتخذ من أوراق القنّب ، وموقف الإسلام معروف من المخدّرات التي كان بعض المجاهدين يستعملونها استصغارا للموت ، وكان بعض المتصوفة كذلك يتناولونها طلبا للراحة ـ أنظر حول حشيشة الفقراء كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار لتقيّ الدّين المقريزي طبعة جديدة بالأوفسيت ، دار صادر ج I ، ص ١٢٥ وما بعدها دار صادر ، بيروت.

٢١٠

الفصل الثامن

القفجق بلاد السلطان

محمد أوزبك خان

من صنوب عبر البحر الأسود إلى الكرش حيث يوجد الجنويون

من القرم إلى محلة السلطان أوزبك على متن العربات

مع السلطان محمد أوزبك أحد الملوك السبعة لعالم ابن بطوطة

خصوصية الأميرة طيطغلي!

أرض الشمال وبلاد الظلمة

مراسيم الأوزبك في العيد

من مدينة الحاج ترخان إلى القسطنطينية صحبة الأميرة

وصف القسطنطينية

العودة إلى حضرة السلطان عبر اتل (فولكا) في مناخ قارس

٢١١
٢١٢

٢١٣
٢١٤

وكانت اقامتنا بهذه المدينة نحو أربعين يوما ننتظر تيسير السّفر في البحر إلى مدينة القرم(١) ، فاكترينا مركبا للروم وأقمنا أحد عشر يوما ننتظر مساعدة الريح ، ثم ركبنا البحر ، فلما توسطناه بعد ثلاث ، هال علينا واشتدّ بنا الأمر ، ورأينا الهلاك عيّانا وكنت بالطّارمة ومعي رجل من أهل المغرب يسمّى أبا بكر ، فأمرته أن يصعد إلى أعلى المركب لينظر كيف البحر ، ففعل ذلك ، وأتاني بالطّارمة ، فقال لي : أستودعكم الله! ودهمنا من الهول ما لم يعهد مثله ، ثم تغيرت الريح وردّتنا إلى مقربة من مدينة صنوب التي خرجنا منها ، وأراد بعض التجار النزول إلى مرساها فمنعت صاحب المركب من إنزاله.

ثم استقامت الريح وسافرنا فلمّا توسطنا البحر هال علينا وجرى لنا مثل المرّة الأولى ، ثم ساعدت الريح ورأينا جبال البرّ وقصدنا مرسى يسمّى الكرش (٢) ، فأردنا دخوله ، فأشار الينا أناس كانوا بالجبل : أن لا تدخلوا ، فخفنا على أنفسنا وظنّنا أن هنالك أجفانا للعدوّ ، فرجعنا مع البرّ فلما قاربناه ، قلت لصاحب المركب : أريد أن أنزل هاهنا ، فأنزلني بالساحل ، ورأيت كنيسة(٣) فقصدتها فوجدت بها راهبا ورأيت في أحد حيطان الكنيسة صورة رجل عربيّ عليه عمامة متقلّد سيفا وبيده رمح وبين يديه سراج يقد : فقلت للراهب ما هذه الصورة؟ فقال : هذه صورة النبيّ على (٤) فعجبت من قوله ، وبتنا تلك الليلة بالكنيسة وطبخنا دجاجا فلم نستطع أكلها إذ كانت ممّا استصحبناه في المركب ، ورائحة البحر قد غلبت على كل ما كان فيه ، وهذا الموضع الذي نزلنا به هو من الصحراء المعروفة بدشت قفجق ، (٥)

__________________

(١) تكوّن القرم نقطة الاتصال الأساس بين جنوب الروسيا المعروف أنداك باسم قفجق وبين مدينة صنوب التي قضى فيها ابن بطوطة أربعين يوما ، والتي كانت المينا الأساس لروسيا الصغرى على ضفاف البحر الأسود ... وقد نشطت الحركة التجارية بين الموقعين نشاطا متزايدا ـ حول التجارة بين صنوب والقرم ـ انظر :

Heyd Won : Histoire du commerce du lecant au moyen age. Lepzig ٥٨٨١ ـ ٦ ـ ٢ vols.

ـ د التازي : مع ابن بطوطة من البحر الأحمر إلى نهر جيحون ، مجلة (المناهل) المغربية صفر ١٣٩٥ مارس ١٩٧٥.

(٢) الكرش (KERC) يقع على الساحل الغربي للمضيق الذي يحمل نفس الاسم وهو يربط البحر الاسودببحيرة أزوف (AZOV) جزيرة القرم على ذلك العهد كانت جزءا من الامبراطورية المغولية (القبيلة الذهبية) ، بيد أن الجنويين نزلوا بالساحل الجنوبي وكان مركزهم في المكان الذي يحمل اسم كفّا وهو بالذات المرسى الذي يعرف اليوم باسم فيضوزيا (FEODOSIA) الحالية ... على ما سنرى ...

(٣) كرش كان مركزا أسقفيا منذ عام ٧٩٤ ١٣٩٢.

(٤) من المعلوم أنه لا يوجد نبي يحمل اسم علي ولعل قصده أن يقول : النبي الياس الذي ينطق عندهم (ELIE) فحسبه ابن بطوطة عليّ وياليته الحّ في السؤال ..!!

(٥) بعد فتح جنوب الروسيا من لدن القفجق المعروفين عند البيزنطيين ب (Commans) أصبح الاسم الجاري عند الجغرافيين العرب للفيافي الروسية هو القفجق ـ انظر دائرة المعارف الإسلامية مادة (Kipcak)

٢١٥

والدّشت ، بالشين المعجم والتاء المثناة ، بلسان الترك هو الصحراء وهذه الصحراء خضرة نضرة لا شجر بها ولا جبل ولا ثنيّة ولا حطب ، وإنّما يوقدون الأرواث ويسمّونها التّزك ، بالزاي المفتوح ، فترى كبراءهم يلقطونها ويجعلونها في أطراف ثيابهم ، ولا يسافر في هذه الصحراء إلّا في العجل ، وهي مسيرة ستة أشهر ، ثلاثة في بلاد السلطان محمد أوزبك ، وثلاثة في بلاد غيره.

ولمّا كان الغد من يوم وصولنا إلى هذه المرسى توجه بعض التجار من أصحابنا إلى من بهذه الصحراء من الطائفة المعروفة بقفجق ، وهم على دين النصرانيّة (٦) ، فاكترى منهم عجلة يجرّها الفرس ، فركبناها ووصلنا إلى مدينة الكفا ، واسمها بكاف وفاء مفتوحتين ، وهي مدينة عظيمة مستطيلة على ضفّة البحر يسكنها النصارى ، واكثرهم الجنويّون (٧) ، ولهم أمير يعرف بالدّمدير ، ونزلنا منها بمسجد المسلمين.

حكاية [أصوات النواقيس]

ولمّا نزلنا بهذا المسجد أقمنا به ساعة ثم سمعنا أصوات النواقيس من كل ناحية ، ولم أكن سمعتها قط (٨) ، فهالني ذلك وأمرت أصحابي أن يصعدوا الصومعة ويقرءوا القرآن ويذكروا الله ويؤذّنوا ، ففعلوا ذلك فإذا برجل قد دخل علينا وعليه الدرع والسلاح فسلّم علينا واستفهمناه عن شأنه ، فأخبرنا أنه قاضي المسلمين هنالك ، وقال : لما سمعت القراءة والآذان خفت عليكم فجئت كما ترون ، ثم انصرف عنّا ، وما رأينا إلّا خيرا ، ولما كان من الغد جاء إلينا الأخي وصنع طعاما فأكلنا عنده وطفنا بالمدينة فرأيناها حسنة الأسواق ، وكلّهم كفار ، ونزلنا إلى مرساها فرأينا مرسى عجيبا به نحو مائتي مركب ما بين حربيّ وسفريّ صغير وكبير ،

__________________

(٦) هناك قوم من القفجق اعتنقوا المسيحية في أعقاب اتصالاتهم بالبيزنطيين والروس ...

(٧) مدينة كفّا (KAFFA) هي ثيوضوزيا القديمة ، فيوضوزيا الحالية ، شيدت من لدن الجنويين في القرن (١٣) كمركز تجاري لهم في القرم وقد خرّبت من لدن المغول عام ١٣٠٨ ثم أعيد بناؤها فيما بعد ـ كلمة (الدمدير) تعني غالبا اسم دوميطريوDemetrio ولكنا لا نتوفر على القصد منه كما لا نعرف عما يقصد ابن بطوطة بكلمة أمير الجنويين. كانت كفّا نهاية الطرق البحرية الذاهبة من القسطنطينية وصنوب وكان سكانها في عام ٨٢٣ ١٤٢٠ يقدرون بأربعين ألف نسمة تعليق ٢.

(٨) يظهر من ابن بطوطة أنه لم يشهد كنيسة بطنجة مع العلم أن عهد العاهل المغربي السلطان أبي سعيد المريني (٧١٠ ـ ٧٣١ ١٣١٠ ـ ١٣٣١) عرف باحترام سياسة التسامح الديني التي تميزت بها الدبلوماسية المغربية وبالتالي تميزت بوجود عدد من الرهبان بالمغرب لمساعدة الجالية المسيحية المقيمة ببلادنا

CUILLAUME M ATRINGE : Eglise chatienes en terre d\'Aslame, ٥٦٩١. T. ٢ P. ٨٤٦ ـ د. التازي : التاريخ الدبلوماسي للمغرب ج ٢ ، ص ٢٨٥.

٢١٦

وهو من مراسي الدنيا الشهيرة ، ثم اكترينا عجلة وسافرنا إلى مدينة القرم (٩) ، وهي بكسر القاف وفتح الراء ، مدينة كبيرة حسنة من بلاد السلطان المعظّم محمد أوزبك خان وعليها أمير من قبله اسمه تلكتمور (١٠) ، وضبط اسمه بتاء مثناة مضمومة ولام مضموم وكاف مسكن وتاء كالأولي مضمومة وميم مضمومة وواو وراء وكان أحد خدّام هذا الأمير قد صحبنا في طريقنا فعرّفه بقدومنا، فبعث إليّ مع إمامه سعد الدين بفرس ، ونزلنا بزاوية شيخها زاده الخراساني ، فأكرمنا هذا الشيخ ورحّب بنا وأحسن الينا وهو معظم عندهم ، ورأيت الناس يأتون للسلام عليه من قاض وخطيب وفقيه وسواهم.

وأخبرني هذا الشيخ زاده أنّ بخارج هذه المدينة راهبا من النصارى في دير يتعبد به ويكثر الصوم ، وانّه انتهى إلى أن يواصل أربعين يوما ثم يفطر على حبّة فول ، وانّه يكاشف بالأمور ، ورغب منّي أن أصحبه في التوجه إليه فأبيت ثمّ ندمت بعد ذلك على أن لم أكن رأيته وعرفت حقيقة أمره.

ولقيت بهذه المدينة قاضيها الاعظم شمس الدين السايليّ قاضي الحنفية ، ولقيت بها قاضي الشافعية وهو يسمى بخضر والفقيه المدرس علاء الدين الأصيّ ، وخطيب الشافعية أبا بكر ، وهو الذي يخطب بالمسجد الجامع الذي عمّره الملك الناصر (١١) رحمه‌الله بهذه المدينة ، والشيخ الحكيم الصالح مظفّر الدين ، وكان من الروم فأسلم وحسن إسلامه والشيخ الصالح العابد مظهر الدين وهو من الفقهاء المعظّمين.

وكان الأمير تلكتمور مريضا فدخلنا عليه فأكرمنا وأحسن إلينا ، وكان على وشك

__________________

(٩) القرم : هي صولغات (SOLGHAT) في العصر الوسيط وهي سطاري كريم (STARy KRIM) في العصر الحديث ، ومن هنا أخذت الجزيرة اسمها : القرم. مدينة تقع على بعد ٤٢ ك. م من فيوضوزيا سالفة الذكر ، وقد كانت القرم داخلة ضمن الامبراطورية المعروفة بالأسرة الذهبية (Golden Horde) كانت في الواقع اقطاعا منح للأسرة من أكبر ابناء جنكيز خان : يوشي واحفاده المعروفين عند العرب تحت اسم خانات قفجق ـ السلطان أوزبك الذي تملك من ١٣١٢ إلى ١٣٤١ كان من أقوى الخانات واعظمهم في عشيرته وقد اشتهرت هذه الجزيرة بالحرب التي شنّتها روسيا على تركيا وحلفائها عام ١٢٧٠ ـ ١٢٧٢ ١٨٥٤ ـ ١٨٥٦ والتي انتهت بتغلّب روسيا وإجلاء تركيا عن الجزيرة ...

(١٠) كان حاكم القرم تلكتمور يمارس سلطته المستقلة الواسعة على الجزيرة وقد رسم اسمه في بعض المصادر الأوربية ايضا هكذا (Tolaktemur) ـ هذا ولم نستطع الوقوف على نسبة القاضي السايلي وفيما يتعلق بعلاء الدّين نذكر أنه حسب المخطوطة التي اعتمدناها في المكتبة الملكية فإن الموجود فيها هو الفقيه علاء الدين الأرضي. الأصي يمكن أن يكون نسبته إلى عشيرة آلاص الآتية الذكر تعليق ١١٥.

(١١) تذكر المصادر التّاريخية أن السلطان الجركسي بيبرس بعث عام ٦٨٧ ١٢٨٨ بمهندس معماري وبألف دينار لتشييد جامع القرم بيد أن المسجد الرئيسي شيّد من لدن السلطان أوزبك خان عام ٧١٤ ١٣١٤.

٢١٧

التوجه إلى مدينة السّرا حضرة السلطان محمد أوزبك فعملت على السير في صحبته واشتريت العجلات برسم ذلك.

ذكر العجلات التي يسافر عليها بهذه البلاد.

وهم يسمون العجلة عربة ، بعين مهملة وراء وباء موحدة مفتوحات ، وهي عجلات تكون للواحدة منهنّ أربع بكرات (١٢) كبار ، ومنها ما يجرّه فرسان ومنها ما يجرّه أكثر من ذلك ، وتجرّها أيضا البقر والجمال على حال العربة في ثقلها أو خفّتها ، والذي يخدم العربة يركب أحد الأفراس التي تجرّها ويكون عليه سرج ، وفي يده سوط يحرّكها للمشي ، وعود كبير يصوّبها به إذا عاجت عن القصد ، ويجعل على العربة شبه قبّة من قضبان خشب مربوط بعضها إلى بعض بسيور جلد رقيق وهي خفيفة الحمل وتكسى باللّبد أو بالملفّ ، ويكون فيها طيقان مشبكة ، ويرى الذي بداخلها الناس ولا يرونه ، ويتقلّب فيها كما يحبّ وينام ، ويأكل ويقرأ ويكتب وهو في حال سيره والتي تحمل الأثقال والأزواد وخزائن الأطعمة من هذه العربات يكون عليها شبه البيت كما ذكرنا ، وعليه قفل.

وجهّزت لمّا أردت السفر عربة لركوبي مغشاة باللّبد ، ومعي بها جارية لي وعربة صغيرة لرفيقي عفيف الدين التوزريّ ، وعجلة كبيرة لسائر الأصحاب يجرّها ثلاثة من الجمال يركب أحدها خادم العربة ، وسرنا في صحبة الأمير تلكتمور وأخيه عيسى وولديه قطلودمور وصاروبك ، وسافر أيضا معه في هذه الوجهة أمامه سعد الدّين والخطيب أبو بكر والقاضي شمس الدين والفقيه شرف الدين موسى والمعرّف علاء الدين ، وخطّة هذا المعرف أن يكون بين يدي الأمير في مجلسه ، فإذا أتى القاضي يقف له هذا المعرّف ويقول بصوت عال : بسم الله ، سيدنا ومولانا قاضي القضاة والحكّام ، مبيّن الفتاوي والأحكام ، بسم الله ، وإذا أتى فقيه معظّم أو رجل مشار إليه قال : بسم الله ، سيدنا فلان الدين ، بسم الله فيتهيأ من كان حاضرا لدخول الداخل ، ويقوم إليه ويفسح له في المجلس. وعادة الأتراك أن يسيروا في هذه الصحراء سيرا كسير الحجّاج في درب الحجاز ، يرحلون بعد صلاة الصبح وينزلون ضحى ، ويرحلون بعد الظهر وينزلون عشيا ، وإذا نزلوا حلّوا الخيل والإبل والبقر عن العربات وسرّحوها للرعي ليلا ونهارا ولا يعلف أحد دابّة لا السلطان ولا غيره.

__________________

(١٢) ورد وصف هذه العربات في مصادر أوربية (W.DE REBRUCK) وكان مما ذكر فيها أن بعض المراكب قد تجرها ٢٢ عجلا ، ١١ تمشي موازية مع ١١ الأخرى ... هذا ويلاحظ أن (القبجق) استعاروا كلمة (عربة) وادخلوها لغتهم ، وقد زرت وأنا في قلب موسكو عام ١٩٧٤ ساحة تحمل اسم (أربا) قيل لي إنها كانت محطة تجمّع لنقل المسافرين على العربات ... د. التازي : مع ابن بطوطة من البحر الأسود إلى نهر جيحون (المناهل) ١٩٧٥ مصدر سابق.

٢١٨

٢١٩

وخاصيّة هذه الصحراء أن نباتها يقوم مقام الشعير للدوابّ ، وليست لغيرها من البلاد هذه الخاصية ، ولذلك كثرت الدّواب بها ، ودوابّهم لا رعاة لها ولا حرّاس ، وذلك لشدّة أحكامهم في السرقة ، وحكمهم فيها أنّه من وجد عنده فرس مسروق كلّف أن يردّه إلى صاحبه ويعطيه معه تسعة مثله ، فإن لم يقدر على ذلك أخذ أولاده في ذلك ، فإن لم يكن له أولاد ، دبح كما تذبح الشاة (١٣)! وهؤلاء الأتراك لا يأكلون الخبز ولا الطّعام الغليظ ، وانّما يصنعون طعاما من شيء عندهم شبه أنلي يسمونه الدّوقي (١٤) ، بدال مهمل مضموم وواو وقاف مكسور معقود ، يجعلون على النار الماء فإذا غلى صبّوا عليه شيئا من هذا الدّوقي ، وإن كان عندهم لحم قطعوه قطعا صغارا وطبخوه معه ، ثم يجعل لكلّ رجل نصيبه في صفحة ويصبّون عليه اللّبن الرائب وشربون عليه لبن الخيل ، وهم يسمّونه القمزّ (١٥) ، بكسر القاف والميم والزاي المشدّد ، وهم أهل قوّة وشدة وحسن مزاج.

ويستعملون في بعض الأوقات طعاما يسمونه البورخاني ، وهو عجين يقطعونه قطيعات صغارا ويثقبون أوساطها ويجعلونها في قدر ، فإذا طبخت صبّوا عليها اللّبن الرائب وشربوها ، ولهم نبيد يصنعونه من حبّ الدّوقي الذي تقدم ذكره ، وهم يرون أكل الحلواء عيبا!

ولقد حضرت يوما عند السلطان أوزبك في رمضان فأحضرت لحوم الخيل وهي أكثر ما يأكلون من اللّحم ولحوم الأغنام والرشتا ، وهو شبه الإطرية يطبخ ويشرب باللبن ، وأتيته تلك الليلة بطبق حلواء صنعها بعض أصحابي فقدّمتها بين يديه فجعل إصبعه عليها وجعله على فيه ، ولم يزد على ذلك. وأخبرني الأمير تلكتمور أنّ أحد الكبار من مماليك هذا السلطان ، وله من أولاده وأولاد أولاده نحو أربعين ولدا ، قال له السلطان يوما : كل الحلواء واعتقكم جميعا فأبى! وقال : لو قتلتني ما أكلتها!!

__________________

(١٣) قريب من هذه المعلومات رواها ماركوپولو.

(١٤) أنلي كلمة بربرية (LE MILET) والدوقي تعني أنلي المفتّت المحروش.

Lina TAZI, Evaluation des ressources Genetiques des mils du Maroc. these de Doctorat de l\'Universite, Paris XI Orsay ٢١ / ٧ / ١٩٩١.

(١٥) القمزّKumizz ما يزال في عادة المنطقة إلى اليوم تقديم لبن الخيل للضيوف في بعض الحفلات ، وقد حدث هذا بالنسبة الينا ونحن في مدينة (أوفا) عاصمة جمهورية تاشقر دستان عام ١٩٧٤ حيث وضعت أمامنا كؤوس من المشروب المذكور وهو في منتهى الحموضة والرقة والخفة كذلك ، وبالرغم مما قال عنه ابن بطوطة من أنه (لا خير فيه) فإن الناس هناك مطبقون على ان له مفعولا لا يقل عما عهد في المشروبات المنبهة الأخرى ... هذا ولم نجد للبورخاني ذكرا في جهة أخرى ، نعم هناك البوراني وهو يختلف عما ذكر ابن بطوطة.

٢٢٠