رحلة ابن بطوطة - ج ٢

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ٢

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-008-7
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٢٦٨

أحضر الطعام فأكلنا وقال : تكونون في ضيافتي ، فقال له الفتى أخي جلبى ، إنّهم لم ينزلوا بعد بزاويتي ، فليكونوا عندي وضيافتك تصلهم ، فقال : افعل ، فانتقلنا إلى زاويته وأقمنا بها ستّا في ضيافته وفي ضيافة الأمير ، ثم بعث الامير بفرس وكسوة ودراهم ، وكتب لنوّابه بالبلاد أن يضيفونا ويكرّمونا ويزوّدونا.

وسافرنا إلى مدينة أماصبية ، (٧٢) وضبط اسمها بفتح الهمزة والميم والف وصاد مهمل مكسور وياء آخر الحروف مفتوحة ، مدينة كبيرة حسنة ذات أنهار وبساتين وأشجار وفواكه كثيرة وعلى أنهارها النواعير تسقى جنّاتها ودورها ، وهي فسيحة الشوارع والأسواق ، وملكها لصاحب العراق ، وبقرب منها بلدة سونسى (٧٣) ، وضبط اسمها بضم السين المهمل وواو مدّ ونون مضموم وسين مهمل مفتوح ، وهي لصاحب العراق أيضا ، وبها سكنى أولاد وليّ الله تعالى أبي العبّاس أحمد الرفاعي ، منهم الشيخ عزّ الدين ، وهو الآن شيخ الرواق ، وصاحب سجّادة الرفاعي ، واخوته الشيخ عليّ والشيخ ابراهيم والشيخ يحيى أولاد الشيخ أحمد كوجك ، ومعناه الصغير ، ابن تاج الدين الرفاعي (٧٤) ونزلنا بزاويتهم ، ورأينا لهم الفضل على من سواهم.

ثم سافرنا إلى مدينة كمش (٧٥) وضبط اسمها بضم الكاف وكسر الميم وشين معجم ، وهي من بلاد ملك العراق مدينة كبيرة عامرة يأتيها التجار من العراق والشام ، وبها معادن الفضّة ، وعلى مسيرة يومين منها جبال شامخة (٧٦) وعرة لم أصل إليها ، ونزلنا منها بزاوية الأخي مجد الدين، وأقمنا بها ثلاثا في ضيافته ، وفعل أفعال من قبله ، وجاء إلينا نائب الامير أرتنا وبعث بضيافة وزاد.

__________________

(٧٢) تقع أماصيا على بعد ١٤٠ ك. م شمال غربي سيواس على نهر (YESILIRMAK) حيث إنها كانت ـ في بداية القرن الرابع عشر ـ تابعة لغازي شلبي ملك صنوب على ما ياتي وستلحق ابتداء من تاريخ ٧٤١ ١٣٤١ بمملكة أرتنا.

(٧٣) المدينة الحالية (SONUSA) على بعد ٥٠ ك. م على الطريق شرق أماصيا في سافلة نهر (Yesil Irmak).

(٧٤) كانت المنطقة محكومة أثناء القرن الثامن الهجري القرن الرابع عشر الميلادي من لدن أسرة تدعى : " أبناء تاج الدين" وقد كان سلطانهم على ذلك العهد يسمى تاج الدين دوغان شاه ـ ٧٤٨ ١٣٠٨ ـ ١٣٤٨ ٧٠٨ ، بيد أنه من الصعب أن نجد علاقة ، أيّ علاقة مع الرفاعيين المذكورين من لدن ابن بطوطة ، والذين لا تعرف صلاتهم بهذه المنطقة ، فهذه إفادة من الإفادات التي استأثر بها ابن بطوطة ، ربما كان استقاها عند اجتماعه بعز الدّين في إيزمير ، هذا وقد سبق أن الشيخ أحمد بن علي الرفاعي مات ولم يخلف وان العقب كان لأخيه ، حول الرفاعي ، انظر ج ١ فصل ٥ تعليق ٢٨.

(٧٥) (كومش) أوگوموشان Gumusane يوجد على بعد اكثر من ٦٠ ك. م شرق سونسي ، ومن المفروض أن لا يصلها المرء الا انطلاقا من طرابزون أو من بايبورطBaiburt ٧٠ ك. م. شرقيها.

(٧٦) جبال شمال شرق أنطاليا عبارة عن سلسلة تبتدئ مع كلاط داغ Kolat Dagh.

١٨١

١٨٢

وانصرفنا عن تلك البلاد فوصلنا إلى أرزنجان (٧٧) ، وضبط اسمها بفتح الهمزة واسكان الراء وفتح الزاي وسكون النون وجيم وألف ونون ، وهي من بلاد صاحب العراق مدينة كبيرة عامرة وأكثر سكّانها الأرمن (٧٨) والمسلمون يتكلّمون بها بالتركية ، ولها أسواق حسنة الترتيب ويصنع بها ثياب حسان تنسب إليها ، وفيها معادن النحاس ويصنعون منه الأواني والبياسيس التي ذكرناها ، وهي شبه المنار عندنا ، ونزلنا منها بزاوية الفتى أخي نظام الدين ، وهي من أحسن الزوايا وهو ايضا من خيار الفتيان وكبارهم أضافنا أحسن ضيافة.

وانصرفنا إلى مدينة أرز الروم (٧٩) ، وهي من بلاد ملك العراق كبيرة الساحة خرب أكثرها بسبب فتنة وقعت بين طائفتين من التركمان بها ، ويشقّها ثلاثة أنهار ، وفي أكثر دورها بساتين فيها الأشجار والدّوالي ، ونزلنا منها بزاوية الفتى أخى طومان وهو كبير السّن يقال : إنه أناف على مائة وثلاثين سنة ، ورأيته يتصرّف على قدميه متوكئا على عصا ، ثابت الذهن مواظبا للصلاة في أوقاتها. لم ينكر من نفسه شيئا ، إلا أنّه لا يستطيع الصوم ، خدمنا بنفسه في الطعام ، وخدمنا أولاده في الحمّام ، وأردنا الانصراف عنه ثاني يوم نزولنا فشقّ عليه ذلك وأبى منه ، وقال : إن فعلتم نقصتم حرمتي ، وانّما اقلّ الضيافة ثلاث ، فأقمنا لديه ثلاثة.

ثم انصرفنا إلى مدينة برگي (٨٠) وضبط اسمها بباء موحدة مكسورة وكاف معقود مكسور بينهما راء مسكن ، ووصلنا إليها بعد العصر فلقينا رجلا من أهلها فسألناه عن زاوية الأخي بها ، فقال أنا أدلكم عليها فاتّبعناه فذهب بنا إلى منزل نفسه في بستان له ، فأنزلنا

__________________

(٧٧) ارزنجان (Erzinjan) في كراسو (Kara su) أحد المنابع الرئيسية لنهر الفرات ٨٠ ك. م. جنوب گوموشاب ، وهذا في المنطقة التي سماها ماركوپولو أرمينيا الكبرى (Greater Armenia).

(٧٨) حديث ابن بطوطة عن" أكثرية سكان أرزنجان من الأرمن" يعكس الحقيقة التاريخية التي تحدثت عنها المصادر التي اهتمت بتاريخ الأرمن الذين كانت لهم عملتهم الخاصّة والذين استرعى اهتمامي بهم عندما وجدت نفسي صحبة عدد من رجالهم الذين أثاروا الانتباه إلى نشاطهم من أمثال كولبنكيان الذي يعرفه الناس من خلال مؤسسته الحضارية الذائعة الصيت ...

ـ يراجع عن الأرمن ما كتبه الأستاذ كانار (CANARD) في : ٤٥٩١ ENCYE.de l\'ISlam راجع تعليقنا ج I ١٦٣ ـ ١٦٤.

(٧٩) أرز الروم erzu rum على بعد ١٥٠ ك. م ، شرقي أرزنجان سالفة الذكر ، اسم آرز الروم اعطى لهذا الموقع من لدن الأرمنيين الذين انتقلوا اليها بعد تخريب أرزان من لدن السلاجقة عام ٤٤٠ ١٠٤٩.

الاسم المحلى لها هو كرين Karine ـ لم ينص مصدر آخر على وجود الأنهار بها ولكن فقط السقايا ، وكذلك فإنه لا توجد بها دوالي ...

(٨٠) هنا نجد ابن بطوطة يستعيد ذاكرته التي خانته عندما قفز بالأمس من ميلاس إلى قونية (تعليقنا رقم ٤٩) وهكذا نجده يعود إلى غرب انطاليا وبالذات الى برگي (Birgi) التي تقع في شمال شرقي أودميش (Odemish) شرقي إيزمير على بعد ١٥٠ ك. م من ميلاس محطته الأخيرة ... اسم برجى ات من الاسم الاغريقي بيرجيون PYRGION ...

١٨٣

بأعلى سطح بيته والأشجار مظلّلة له وذلك أوان الحرّ الشديد ، وأتى الينا بأنواع الفاكهة ، واحسن في ضيافته وعلّف دوابنا ، وبتنا عنده تلك الليلة ، وكنّا قد تعرّفنا أن بهذه المدينة مدرّسا فاضلا يسمّى بمحي الدين ، فأتى بنا ذلك الرجل الذي بتنا عنده وكان من الطلبة إلى المدرسة ، وإذا بالمدرّس قد أقبل راكبا على بغلة فارهة ، ومماليكه وخدّامه عن جانبيه ، والطلبة بين يديه وعليه ثياب مفرّجة حسان مطرّزة بالذهب فسلّمنا عليه فرحّب بنا وأحسن السلام والكلام وأمسك بيدي وأجلسني إلى جانبه ، ثم جاء القاضي عزّ الدين فرشتى ، ومعنى فرشتى الملك ، لقّب بذلك لدينه وعفافه وفضله ، فقعد عن يمين المدرّس وأخذ في تدريس العلوم الأصليّة والفرعيّة ثم لمّا فرغ من ذلك أتى دويرة بالمدرسة فأمر بفرشها وأنزلني فيها وبعث ضيافة حافلة ثم وجّه عني بعد المغرب فمضيت إليه فوجدته في مجلس ببستان له وهنالك صهريج ماء ينحدر اليه الماء من خصّة رخام أبيض يدور بها القاشانيّ ، وبين يديه جملة من الطلبة ، ومماليكه وخدّامه وقوف عن جانبيه وهو قاعد على مرتبة عليها أنطاع منقوشة حسنة فخلته لمّا شاهدته ملكا من الملوك ، فقام إليّ واستقبلني وأخذ بيدي واجلسني إلى جانبه على مرتبته وأتي بالطعام فاكلنا وانصرفنا إلى المدرسة.

وذكر لي بعض الطلبة أنّ جميع من حضر تلك الليلة من الطلبة عند المدرّس ، فعادتهم الحضور لطعامه كلّ ليلة ، وكتب هذا المدرّس إلى السلطان بخبرنا وأثنى في كتابه ، والسلطان في جبل هنالك يصيّف فيه لاجل شدّة الحرّ وذلك الجبل بارد وعادته أن يصيّف فيه (٨١).

ذكر سلطان برگي

وهو السلطان محمّد بن ايدين (٨٢) ، من خيار السلاطين ، وكرمائهم وفضلائهم ولمّا بعث إليه المدرّس يعلّمه بخبري وجّه نائبه إليّ لآتيه ، فأشار عليّ المدرّس أن أقيم حتّى يبعث عنّي ثانية ، وكان المدرّس إذ ذاك قد خرجت برجله قرحة لا يستطيع الركوب بسببها وانقطع عن المدرسة ، ثمّ إن السلطان بعث في طلبي ثانية فشقّ ذلك على المدرّس ، فقال : أنا لا أستطيع الركوب ومن غرضي التوجّه معك لأقرر لدى السلطان ما يجب لك ، ثم إنّه تحامل ولفّ على رجله خرقا وركب ولم يضع رجله في الركاب ، وركبت أنا وأصحابي وصعدنا إلى الجبل في طريق قد نحتت وسوّيت فوصلنا إلى موضع السلطان عند الزوال ، فنزلنا على نهر ماء تحت ظلال شجر الجوز ، وصادفنا السلطان في قلق وشغل بال بسبب فرار ابنه الأصغر

__________________

(٨١) هو جبل بوزداگ (BOZdAG) شمال برگي ، على علو ٢١٣٠ ميتر.

(٨٢) سلطان برگي هو المؤسس لبيت برگي أيدين اوغلو وقد اعطى اسمه للمدينة التي أصبحت تعرف باسم (AYDIN) (انظر الخريطة) ... وقد عرفت المنطقة على أنها مملكة برگي. ادركه أجله عام ٧٣٤ ١٣٣٤ ...

P. Lemerl : l\'emirat d\'Aydin PARIS ٧٥٩١.

١٨٤

١٨٥

سليمان (٨٣) عنه إلى صهره السلطان أرخان بك ، فلمّا بلغه خبر وصولنا بعث إلينا ولديه خضربك وعمربك ، (٨٤) فسلّما على الفقيه ، وأمرهما بالسلام عليّ ففعلا ذلك وسألاني عن حالي ومقدمي، وانصرفا وبعث إليّ ببيت يسمّى عندهم الخرقة (٨٥) وهو عصيّ من الخشب تجمع شبه القبّة ، وتجعل عليها اللبود ويفتح أعلاه لدخول الضوء والريح مثل البادهنج ، ويسد متى أحتيج إلى سدّه ، وأتوا بالفرش ففرشوه ، وقعد الفقيه وقعدت معه وأصحابه وأصحابي خارج البيت تحت ظلال شجر الجوز ، وذلك الموضع شديد البرد ، ومات لي تلك الليلة فرس من شدّة البرد!

ولمّا كان من الغد ركب المدرّس إلى السلطان وتكلّم في شأني بما اقتضته فضائله ، ثم عاد إليّ وأعلمني بذلك ، وبعد ساعة وجه السلطان في طلبنا معا فجئنا إلى منزله ووجدناه قائما فسلّمنا عليه ، وقعد الفقيه عن يمينه وأنا ممّا يلي الفقيه فسألني عن حالي ومقدمي وسألني عن الحجاز ومصر والشام واليمن والعراقين وبلاد الأعاجم ، ثم حضر الطعام فأكلنا وانصرفنا وبعث الأرز والدقيق والسمن في كروش الأغنام ، وكذلك فعل الترك ، وأقمنا على تلك الحال أيّاما يبعث عنّا في كلّ يوم فنحضر طعامه ، وأتى يوما إلينا بعد الظهر وقعد الفقيه في صدر المجلس وأنا عن يساره وقعد السلطان عن يمين الفقيه وذلك لعزّة الفقهاء عند الترك ، وطلب منّي أن أكتب له أحاديث من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٨٦) فكتبتها له وعرضها الفقيه عليه في تلك الساعة ، فأمره أن يكتب له شرحها باللّسان التركيّ ، ثم قام فخرج ورأى الخدّام يطبخون لنا الطعام تحت ظلال الجوز بغير أبزار ولا خضر ، فأمر بعقاب صاحب خزانته وبعث بالإبزار والسمن.

وطالت إقامتنا بذلك الجبل فأدركني الملل ، وأردت الانصراف وكان الفقيه أيضا قد ملّ من المقام هنالك فبعث إلى السلطان يخبره أني أريد السفر ، فلمّا كان من الغد ، بعث السلطان نائبه فتكلم مع المدرّس بالتركيّة ، ولم أكن إذ ذاك أفهمها ، فأجابه عن كلامه

__________________

(٨٣) سليمان الابن الرابع لمحمد كان قد أحرز على مدينة (تيره) كإقطاع له وبعد موت والده استولى على إقطاعه إلى وفاته عام ٧٤٩ ١٣٤٩. أرخان بك هو ملك ميلاس أوMENTESHE.

(٨٤) عمر بك بطل لعدد الملاحم التركية في الأناضول ، أعطاه والده يزمير كإقطاع له ، وقد خلفه عام ٧٣٤ ٧٤٨ ١٣٣٤ ـ ١٣٤٨ خضر الولد الأكبر لمحمد بك وسيتحدث ابن بطوطة عن عمر الذي ما يزال يحتاج للتعريف بمواقفه العظيمة الشجاعة ...

(٨٥) الخرقة : لفظ فارسي وقد ورد وصفها على هذا النحو تقريبا في مصادر أخرى.

(٨٦) يلاحظ أن الناس كانوا مستعدين أبدا لاملاء أحاديث من حفظهم وبدون سابق تحضير وقد كان ابن بطوطة من هؤلاء العلماء الأمر الذي يدل على تمكّنه من المادة التي يتوفّر عليها أمثاله الفقهاء.

١٨٦

وانصرف فقال لي المدرّس : أتدري ما ذا قال؟ قلت : لا أعرف ما قال ، قال : إن السلطان بعث إليّ ليسئلني : ما ذا يعطيك؟ فقلت له؟ عنده الذهب والفضّة والخيل والعبيد فليعطيه ما أحبّ من ذلك ، فذهب إلى السلطان ثم عاد إلينا فقال : إن السلطان يأمر أن تقيما هنا اليوم وتنزلا معه غدا إلى داره بالمدينة.

فلمّا كان من الغد بعث فرسا جيّدا من مراكبه ، ونزل ونحن معه إلى المدينة فخرج الناس لاستقباله ، وفيهم القاضي المذكور آنفا وسواه ودخل السلطان ونحن معه فلمّا نزل بباب داره ذهب مع المدرّس إلى ناحية المدرسة ، فدعا بنا وأمرنا بالدخول معه إلى داره فلمّا وصلنا إلى دهليز الدّار وجدنا من خدّامه نحو عشرين ، صورهم فائقة الحسن ، وعليهم ثياب الحرير ، وشعورهم مفروقة مرسلة ، وألوانهم ساطعة البياض مشربة بحمرة ، فقلت للفقيه : ما هذه الصور الحسان؟ فقال : هؤلاء فتيان روميون ، وصعدنا مع السلطان درجا كثيرة إلى أن انتهينا إلى مجلس حسن في وسطه صهريج ماء وعلى كلّ ركن من أركانه صورة سبع من نحاس يمجّ الماء من فيه ، وتدور بهذا المجلس مصاطب متّصلة مفروشة ، وفوق إحداها مرتبة السلطان ، فلمّا انتهينا اليها نحّى السلطان مرتبته بيده ، وقعد معنا على الأنطاع وقعد الفقيه عن يمينه ، والقاضي ممّا يلي الفقيه وأنا ممّا يلي القاضي ، وقعد القرّاء أسفل المصطبة والقرّاء لا يفارقونه حيث كان من مجالسه ثم جاءوا بصحاف من الذهب والفضّة مملوّة بالجلّاب المحلول ، قد عصر فيه ماء الليمون وجعل فيه كعكات صغار مقسومة ، وفيها ملاعق ذهب وفضّة ، وجاءوا معها بصحاف فيها مثل ذلك ، وفيها ملاعق خشب فمن تورّع استعمل صحاف الصينيّ وملاعق الخشب ، وتكلّمت بشكر السلطان ، وأثنيت على الفقيه وبالغت في ذلك فاعجب ذلك السلطان وسرّه.

حكاية [الطبيب اليهودي]

وفي أثناء قعودنا مع السلطان أتى شيخ على رأسه عمامة لها ذؤابة فسلّم عليه ، وقام له القاضي والفقيه وقعد أمام السلطان فوق المصطبة والقراء أسفل منه فقلت للفقيه : من هذا الشيخ؟ فضحك وسكت ، ثم أعدت السؤال ، فقال لي : هذا يهوديّ طبيب ، وكلّنا محتاج اليه!

١٨٧

فلأجل هذا فعلنا ما رأيت من القيام له ، فأخذني ما حدث وقدم من الامتعاض (٨٧) ، فقلت لليهوديّ : يا ملعون بن ملعون ، كيف تجلس فوق قرّاء القرآن وانت يهوديّ؟ وشتمته ، ورفعت صوتي فعجب السلطان ، وسأل عن معنى كلامي فاخبره الفقيه به ، وغضب اليهوديّ فخرج عن المجلس في أسوأ حال ، ولمّا انصرفنا قال لي الفقيه : أحسنت بارك الله فيك إن أحدا سواك لا يتجاسر عن مخاطبته بذلك ولقد عرّفته بنفسه!

حكاية أخرى [الحجر النازل من السماء]

وسألني السلطان في هذا المجلس ، فقال لي : هل رأيت قطّ حجرا نزل من السماء؟ فقلت: ما رأيت ذلك ولا سمعت به. فقال لي : إنه قد نزل بخارج بلدنا هذا حجر من السماء ، ثم دعا رجالا وأمرهم أن يأتوا بالحجر فاتوا بحجر أسود أصمّ شديد الصّلابة له بريق ، قدّرت أنّ زنته تبلغ قنطارا وأمر السلطان باحضار القطّاعين فحضر أربعة منهم ، فأمرهم أن يضربوه فضربوا عليه ضربة رجل واحد أربع مرّات بمطارق الحديد فلم يؤثّروا فيه شيئا ، فعجبت من أمره وأمر بردّه إلى حيث كان.

وفي ثالث يوم من دخولنا إلى المدينة مع السلطان صنع صنيعا عظيما ودعا الفقهاء والمشايخ واعيان العسكر ووجوه أهل المدينة فطعموا وقرأ القرّاء القرآن ، بالأصوات الحسان ، وعدنا إلى منزلنا بالمدرسة وكان يوجّه الطعام والفاكهة ، والحلواء والشّمع في كلّ ليلة ، ثم بعث إليّ مائة مثقال ذهبا والف درهم وكسوة كاملة وفرسا ومملوكا روميا يسمّى ميخائيل ، وبعث لكلّ من أصحابي كسوة ودراهم ، كلّ هذا بمشاركة المدرّس محيي الدّين جزاه الله تعالى خيرا ، وودّعنا وانصرفنا وكانت مدّة مقامنا عنده بالجبل والمدينة أربعة عشر يوما.

__________________

(٨٧) لا ننسى أن المغرب في عهد بني مرين كان يعيش فترة راجت فيها حملة ضد الاستعانة باليهود سواء في الميادين المالية أو الطبية وذلك نتيجة خذلان بعضهم للمسلمين وتأمرهم ضدهم في الأندلس والمغرب ، ولا بدّ أن ابن بطوطة سمع وهو ما يزال بالمغرب بنكبة الفقيه عبد الله بن أبي مدين صاحب العلامة (الاستقصاء ٣ ، ٩٩) وقد سجلت بعض تلك الأصداء على لسان الشاعر أبى إسحاق الألبيري الذي خاطب السلطان أبا الحسن قائلا: (التازي : التأريخ الدبلوماسي للمغرب ج II ، ٢٥٣ ج ٧ ، ٢٠٢)

وكيف يتم لك المرتقى

إذا كنت تبني وهم يهدمون؟!

وإني احتللت بغرناطة

فكنت أراهم بها عابثين!!

لقد نكثوا عهدنا عندهم

فكيف تلام على الناكثين؟!

١٨٨

ثم قصدنا مدينة تيرة (٨٨) وهي من بلاد هذا السلطان ، وضبط اسمها بكسر التاء المعلوّة وياء مدّ وراء ، مدينة حسنة ذات أنهار وبساتين وفواكه ، ونزلنا منها بزاوية الفتى أخي محمّد ، وهو من كبار الصالحين صائم الدهر ، وله أصحاب على طريقته فأضافنا ودعا لنا ، وسرنا إلى مدينة أيا سلوق (٨٩) ، وضبط اسمها بفتح الهمزة والياء آخر الحروف وسين مهمل مضموم ولام مضموم وآخره قاف ، مدينة كبيرة قديمة معظّمة عند الروم وفيها كنيسة كبيرة مبنيّة بالحجارة الضخمة ، ويكون طول الحجر منها عشر أذرع فما دونها منحوتة أبدع نحت والمسجد الجامع بهذه المدينة منأبدع مساجد الدنيا لا نظير له في الحسن ، وكان كنيسة للروم ومعظّمة عندهم يقصدونها من البلاد ، فلمّا فتحت هذه المدينة جعلها المسلمون مسجدا جامعا (٩٠) ، وحيطانه من الرخام الملوّن وفرشه الرخام الابيض وهو مسقّف بالرصاص وفيه إحدى عشرة قبّة منوّعة ، وفي وسط كل قبّة صهريج ماء ، والنهر يشقّه (٩١) ، وعن جانبي النهر الأشجار المختلفة الأجناس ودوالي العنب ومعرّشات الياسمين ، وله خمسة عشر بابا ، وأمير هذه المدينة خضر بك بن السلطان محمد بن ايدين ، وقد كنت رايته عند أبيه ببركي ، ثم لقيته بهذه المدينة خارجها فسلّمت عليه وأنا راكب ، فكره ذلك منّي ، وكان سبب حرماني لديه ، فإنّ عادتهم إذا نزل لهم الوارد نزلوا له وأعجبهم ذلك ، ولم يبعث إليّ ثوبا واحدا من الحرير المذهّب يسمّونه النّخ (٩٢) ، بفتح النون وخاء معجم ، واشتريت بهذه المدينة جارية روميّة بكرا بأربعين دينارا ذهبا.

ثم (٩٣) سرنا إلى مدينة يزمير (٩٤) ، وضبط اسمها بياء آخر الحروف مفتوحة وزاي مسكّن وميم مكسورة وياء مدّ وراء ، مدينة كبيرة على ساحل البحر معظمها خراب ، ولها قلعة

__________________

(٨٨) تيره (TIRE) على بعد ٣٠ ك. م جنوب غرب برگي وهكذا فبعد أن زار ابن بطوطة عاصمة المملكة (بركى) يتجه الآن نحو الجنوب الغربي للقيام بزيارة إقطاعات ابناء السلطان محمد بك.

(٨٩) أيا سلوق يرسم الاسم الآن في الخريطة التركية سلكوك (Selcuk) ـ الكنيسة المذكورة هي على ما يبدو كنيسة ماري وقد بنيت مكان بناء قديم وكان يقصدها الإغريق

(٩٠) تظهر الاشارة إلى القباب بأن المكان كان كنيسة للقديس جوهن ، التي كانت تتوفر على ست قباب في البناية الأساس وعلى خمس قباب في المجاز المؤدي إلى الصحن وقد عوضت بجامع الأمير عيسى بك ابن أخي خضر بك والكنيسة نفسها خربت من لدن تيمور عام ٨٠٤ ـ ١٤٠٢.

(٩١) النهر هو المعروف تحت اسم le caistre des anciens

(٩٢) النّخ تعبير فارسي يعني النسيج بخيوط ذهبية اشتهرت التجارة فيه بمنطقة المتوسط.

(٩٣) على ذكر اقتناء الجواري نشير إلى ما ذكر من أن ماثيو (MATHIEU) رئيس أساقفة إيفيزوس EPHESUS منذ ٧٣٩ ه‍ ١٣٣٩ لم يكن خدامه إلا من عبيد الأتراك واليهود ...

(٩٤) إزمير أو (SMYRNA) كانت تتوفر على قلعتين احداهما ب Mons Pagus وما تزال إلى الآن أطلالها شاخصة ، انتزعها عام ٧١٧ ١٣١٧ الأمير محمد بك من لدن الجنويين! ثانيتهما قريبة من الميناء ، احتلت عام ٧٢٩ ١٣٢٩ من قبل عمر بك ...

١٨٩

١٩٠

متّصلة بأعلاها نزلنا منها بزاوية الشيخ يعقوب ، وهو من الاحمديّة صالح فاضل ، ولقينا بخارجها الشيخ عزّ الدين بن أحمد الرفاعيّ ومعه : زاده الأخلاطيّ ، من كبار المشايخ ، ومعه مائة فقير من المولّهين ، وقد ضرب لهم الأمير الأخبية وصنع لهم الشيخ يعقوب ضيافة وحضرتها ، واجتمعت بهم، وأمير هذه المدينة عمر بك بن السلطان محمّد بن آيدين المذكور آنفا ، وسكناه بقلعتها ، وكان حين قدومنا عند أبيه ، ثم قدم بعد خمس من نزولنا بها فكان من مكارمه أن أتى إليّ بالزاوية فسلّم عليّ واعتذر ، وبعث ضيافة عظيمة وأعطاني بعد ذلك مملوكا روميّا خماسيّا اسمه نقوله ، وثوبين من الكمخا (٩٥) وهي ثياب حرير تصنع ببغداد وتبريز وبنيسابور وبالصين وذكر لي الفقيه الذي يؤمّ به أنّ الامير لم يبق له مملوك سوى ذلك المملوك الذي أعطاني بسبب كرمه رحمه‌الله ، وأعطى أيضا للشيخ عزّ الدين ثلاثة أفراس مجهّزة وآنية فضّة كبيرة تسمّى عندهم المشربة مملوّة دراهم ، وثيابا من الملفّ والمرعزّ والقدسيّ (٩٦) ، والكمخا وجواري وغلمانا.

وكان هذا الأمير كريما صالحا كثير الجهاد (٩٧) ، وله أجفان غزويّة يضرب بها على نواحي القسطنطينية العظمى فيسبي ويغنم ويفني ذلك كرما وجودا ، ثمّ يعود إلى الجهاد إلى أن اشتدّت على الروم وطأته فرفعوا أمرهم إلى البابه ، فأمر نصارى جنوه وافرانسه بغزوه فغزوه وجهّز جيشا من رومه وطرقوا مدينته ليلا في عدد كثير من الأجفان وملكوا المرسى والمدينة ، ونزل إليهم الأمير عمر من القلعة فقاتلهم ، فاستشهد هو وجماعة من ناسه (٩٨) ، واستقرّ النّصاري بالبلد ولم يقدروا على القلعة لمنعتها.

__________________

(٩٥) الكمخا نسيج يقوم على خيوط من ذهب أو فضة.

(٩٦) الملف : كلمة يبدو أنها تعني القماش المجلوب من المدينة الإيطالية : أمالفي التي كانت لها صلات تجارية مع الشرق أما القدسي فهو نسبة إلى القدس : ثوب من صوف نجهل نوعه وقد سلف ذكره في أحد التعاليق.

(٩٧) عمر (وينطق عند الأتراك هكذا (UMUR) يعتبر من الأبطال الملحميين الصناديد كان أميرا لإيزمير اولا منذ حوالي ٧٢٧ ١٣٢٧ وعوض والده كسلطان على برگي ، احتفظ له التاريخ بذكر طيّب جميل سواء في حياته أو عند استشهاده.

Le Destin d\'Umur Pacha ed. I. melikoff Sayar ـ Paris ٤٥٩١.

(٩٨) كانت أول غارة للسلطان عمر على الدردنيل باتفاق مع ابن صاروخان أتى الذكر عام ١٣٣٢ ٧٣٢ ه‍ غالبا بعيد زيارة ابن بطوطة وقد قام فيما بعد بالغارة على الممتلكات اللاتينية باتفاق مع امبراطور بيزنطة في بلاد الاغريق وعرض نفسه للهجومات العسكرية ... وبعد عودة الامبراطور إلى القسطنطينية عام ٧٤٧ ١٣٤٧ أخذ يبحث عن طريق للتخلص من عمر وذلك بتحالفه مع اللّاتينيين. وهكذا استشهد عمر تحت اسوار أزمير في شهر ربيع الأول ٧٤٨ مايه ١٣٤٨. بعد تحالف البنادقة والروديسين والبابا وقد توفر ابن بطوطة على هذه المعلومات وهو في مصر عند عودته إلى المغرب ...

Alexandre popovic : Islam Balkanique, Berlin ٦٨٩١ ـ p. ٦٦

١٩١

١٩٢

ثم سافرنا من هذه المدينة إلى مدينة مغنيسيّة (٩٩) وضبط اسمها بميم مفتوحة وغين معجمة مسكنة ونون مكسورة وياء مدّ وسين مهملة مكسورة وياء آخر الحروف مشدّده ، نزلنا بها عشيّ يوم عرفة (١٠٠) بزاوية رجل من الفتيان وهي مدينة كبيرة حسنة في سفح جبل وبسيطها كثير الأنهار والعيون والبساتين والفواكه.

ذكر سلطان مغنيسيّة

وسلطانها يسمى صاروخان (١٠١) ، ولمّا وصلنا إلى هذه البلدة وجدناه بتربة ولده ، وكان قد توفّى منذ أشهر فكان هو وأم الولد ليلة العيد (١٠٢) وصبيحتها بتربته ، والولد قد صبّر وجعل في تابوت خشب مغشى بالحديد المقزدر وعلّق في قبّة لا سقف لها (١٠٣) لأن تذهب رائحته ، وحينئذ تسقّف القبّة ويجعل تابوته ظاهرا على وجه الارض ، وتجعل ثيابه عليه ، وهكذا رأيت غيره أيضا من الملوك فعل. وسلّمنا عليه بذلك الموضع وصلّينا معه صلاة العيد ، وعدنا إلى الزاوية فأخذ الغلام الذي كان لي أفراسنا وتوجّه مع غلام لبعض الأصحاب برسم سقيها ، فأبطأ ، ثم لمّا كان العشيّ لم يظهر لهما أثر ، وكان بهذه المدينة الفقيه المدرّس الفاضل مصلح الدين ، فركب معي إلى السلطان وأعلمناه بذلك فبعث في طلبهما فلم يوجدا واشتغل الناس في عيدهم وقصدا مدينة للكفار على ساحل البحر تسمّى فوجة (١٠٤) على مسيرة يوم من مغنيسيّة ، وهؤلاء الكفار في بلد حصين ، وهم يبعثون هديّة في كلّ سنة إلى سلطان مغنيسيّة فيقنع منهم بها لحصانة بلدهم ، فلمّا كان بعد الظهر أتى بهما بعض الأتراك وبالأفراس وذكروا أنّهما اجتازا بهم عشيّة النهار ، فانكروا أمرهما واشتدّوا عليهما حتى أقرّا بما عزما عليه من الفرار!

__________________

(٩٩) مغنيسية (MAGNESI) هي (مانيزا) MANISA الحالية ، على بعد ٣٥ ك. م شمال شرق أزمير، استولى عليها صاروخان (SARU ـ KHAN) مؤسس الدولة التركمانية عام ٧١٣ ١٣١٣.

(١٠٠) إذا كان عام ٧٣١ فيوافق ١٣ شتنبر ١٣٣١ وإذا كان من عام ٧٣٣ فانه يوافق ٢١ غشت ١٣٣٣.

(١٠١) صاروخان (SARUKHAN SARU رئيس قبيلة تركمانية ، استولى على مغنيسية من يد الكاطلان حوالي ٧٠٧ ١٣١٣ ، واحتل كذلك أعظم جانب في ليدياLYDIA وقد توفي صاروخان عام ٧٤٥ ١٣٤٥ ، وعوضه المنحدرون المباشرون منه إلى الفتح العثماني عام ٧٩٣ ١٣٩١.

(١٠٢) كان عيد الأضحى يوافق يوم ٢٢ غشت.

(١٠٣) ربما كان هذا من بقايا عادة ترجع لتقاليد من سيبيرية حيث كان أهلها يعلقون جثة الميت على شجرة حتى تيبس!

(١٠٤) فوجة هي فوكياPHOCAEA القديمة التي تقع في الطرف الغربي لقنة الجبل ، ٦٠ ك. م غرب مغنيسية، كانت في ذلك العهد مملوكة لأسرة جنوية تنتسب إلى زكّرياZACCARIA وكانت تراقب منجم الشب هناك وتجارة المصطكى ... وقد انشئوا ميناء جديدا لهم مباشرا للمناجم هناك وسموه فوكيا الجديدة (Yeni Foja) ... ويظهر أن هذا هو المكان الذي يشير اليه ابن بطوطة.

١٩٣

١٩٤

ثمّ سافرنا من مغنيسيّة وبتنا ليلة عند قوم من التركمان قد نزلوا في مرعى لهم ولم نجد عندهم ما نعلف دوابّنا تلك الليلة ، وبات أصحابنا يحترسون مداولة بينهم خوف السرقة ، فأتت نوبة الفقيه عفيف الدين التّوزري فسمعته يقرأ سورة البقرة (١٠٥) ، فقلت له : إذا أردت النوم فأعلمني لأنظر من يحترس ثم نمت فما أيقظني الّا الصباح ، وقد ذهب السرّاق بفرس لي كان يركبه عفيف الدين بسرجه ولجامه وكان من جياد الخيل اشتريته بأيا سلوق.

ثم رحلنا من الغد فوصلنا إلى مدينة برغمة (١٠٦) ، وضبط اسمها بباء موحدة مفتوحة وراء مسكنة وغين معجمة مفتوحة وميم مفتوحة ، مدينة خربة لها قلعة عظيمة منيعة بأعلى جبل ، ويقال : إن أفلاطون الحكيم من أهل هذه المدينة وداره تشتهر باسمه إلى الآن (١٠٧) ، ونزلنا منها بزاوية فقير من الأحمديّة ، ثمّ جاء أحد كبراء المدينة فنقلنا إلى داره وأكرمنا إكراما كثيرا.

ذكر سلطان برغمة

وسلطانها يسمّى يخشي خان (١٠٨) ، بكسر الشين ، وخان عندهم هم السلطان ، ويخشي بياء آخر الحروف وخاء معجم وشين معجم مكسور ، ومعناه : جيّد ، صادفناه في مصيف له فأعلم بقدومنا فبعث بضيافة وثوب قدسيّ ، ثم اكترينا من يدلّنا على الطريق وسرنا في جبال شامخة وعرة إلى أن وصلنا إلى مدينة بلي كسري (١٠٩) ، وضبط اسمها بباء موحدة مفتوحة ولام مكسور وياء مدّ وكاف مفتوح وسين مهمل مسكن وراء مكسور وياء ، مدينة حسنة كثيرة العمارة مليحة الأسواق ، ولا جامع لها يجمّع فيه ، وأرادوا بناء جامع خارجها متّصل بها فبنوا حيطانه ولم يجعلوا له سقفا وصاروا يصلّون به ويجمّعون تحت ظلال الأشجار ونزلنا من هذه المدينة بزاوية الفتى أخي سنان وهو من أفاضلهم وأتى إلينا قاضيها وخطيبها الفقيه موسى.

__________________

(١٠٥) السورة الثانية من القرآن الكريم البقرة وهي أطول السور كما نعلم.

(١٠٦) برغمة (BERGAMA) هي (PERGAMON) القديمة على بعد ٦٠ ك. م شمال مغنيسية.

(١٠٧) يتعلق الأمر بالطبيب جالينوس وليس بأفلاطون كما نبه اليه المترجمان الفرنسيان (D.S) ونقله عنهما هاميلتون گيب.

(١٠٨) يخشي خان الذي أصبح سلطانا على برغمة بعد وفاة والده قرسي اقتباسا من اسمه قرا عيسى (QARASI) QARA ـ ISA) وهو الذي احتل برغمة حوالي ٧٠٦ ١٣٠٦ ولده يخشي خان منعوت في المصادر الاغريقية واللاتينية على أنه أحد أعيان القراصنة!

(١٠٩) بلي كسري (BALIKESIR) تقع على بعد ٨٠ ك. م شمال شرقي برغمة. منطقة مشهورة بانتاج الحرير كما يقول العمري.

١٩٥

ذكر سلطان بلي كسري

ويسمى دمور خان (١١٠) ، ولا خير فيه ، وأبوه هو الذي بنى هذه المدينة وكثرت عمارتها بمن لا خير في مدّة ابنه هذا ، والنّاس على دين الملك ، ورأيته ، وبعث إليّ ثوب حرير ، واشتريت بهذه المدينة جارية رومية تسمّى مرغليطة.

ثم سرنا إلى مدينة برصى (١١١) ، وضبط اسمها بضم الباء الموحدة واسكان الراء وفتح الصاد المهمل ، مدينة كبيرة عظيمة حسنة الأسواق فسيحة الشوارع تحفّها البساتين من جميع جهاتها والعيون الجارية ، وبخارجها نهر ماء شديد (١١٢) الحرارة يصبّ في بركة عظيمة ، وقد بنى عليها بيتان: أحدهما للرجال والآخر للنساء ، والمرضى يستشفون بهذه الحمّة ويأتون اليها من أقاصي البلاد.

وهنالك زاوية للواردين ينزلون بها ويطعمون مدّة مقامهم وهي ثلاثة أيام ، عمّر هذه الزاوية أحد ملوك التركمان ، ونزلنا في هذه المدينة بزاوية الفتى أخي شمس الدين (١١٣) من كبار الفتيان ، ووافقنا عنده يوم عاشوراء (١١٤) فصنع طعاما كثيرا ودعا وجوه العسكر وأهل المدينة ليلا وأفطروا عنده ، وقرأ القرّاء بالأصوات الحسنة ، وحضر الفقيه الواعظ مجد الدين القونويّ. ووعظ وذكّر وأحسن ، ثم أخذوا في السماع والرقص وكانت ليلة عظيمة الشأن ، وهذا الواعظ من الصالحين يصوم الدهر ولا يفطر إلّا في كلّ ثلاثة أيّام ولا يأكل إلا من كدّ يمينه ويقال : إنّه لم يأكل طعام احد قطّ ولا منزل له ولا متاع إلا ما يستتر به ولا ينام إلا في المقبرة ، ويعظ في المجالس ويذكّر ، فيتوب على يديه في كلّ مجلس الجماعة من الناس ، وطلبته بعد هذه الليلة فلم أجده ، وأتيت الجبّانة فلم أجده ، ويقال : إنّه ياتيها بعد هجوع الناس.

__________________

(١١٠) دمورخان : هو أخ أو ابن أخي" يخشي خان" حفيد قرسي وكانت مملكته تحمل اسم أكيرا ضمت الامارة إلى العثمانيين ٧٤٥ ١٣٤٥.

(١١١) برصى (Bursa) تقع على ١٢٠ ك. م شمال شرق بلي كسرى انتزعها أورخان من لدن البيزنطيين الإغريق بضعة أيام قبل وفاة والده عثمان عام ٧٢٦ ١٣٢٦ ، وبرصى مشهورة إلى يومنا هذا بعيون مائها الحارة ، وهي مهد العثمانيين ، وقد كتب الناس عنها كثيرا ...

(١١٢) كانت معلومات ابن بطوطة عن المياه المعدينة الحارة مما لفت أنظار الأطباء الذين يجدون في هذا النوع من الحمات علاجا لأمراض زبنائهم ...

(١١٣) عرف بأنه والد الأخي حسن المستشار الروحي للسلطان أورخان.

(١١٤) هذا التاريخ ١٠ محرم يوافق ٢١ شتنبر ١٣٣٣.

١٩٦

حكاية [الفقير الصيّاح]

لمّا حضرنا ليلة عاشوراء بزاوية شمس الدين وعظ بها مجد الدين من آخر الليل فصاح أحد الفقراء صيحة غشى عليه منها ، فصبّوا عليه ماء الورد فلم يفق ، فأعادوا عليه ذلك فلم يفق واختلف الناس فيه ، فمن قائل : إنّه ميّت ، ومن قائل : إنّه مغشي عليه ، وأتم الواعظ كلامه وقرأ القراء وصلّينا الصبح وطلعت الشمس ، فأختبروا حال الرجل فوجدوه فارق الدنيا ، رحمه‌الله ، فاشتغلوا بغسله وتكفينه ، وكنت فيمن حضر الصلاة عليه ودفنه.

وكان هذا الفقير يسمى الصيّاح وذكروا إنه كان يتعبّد بغار هنالك في جبل فمتى علم أن الواعظ مجد الدين يعظ قصده وحضر وعظه ، ولم يأكل طعام أحد فإذا وعظ مجد الدين يصيح ويغشى عليه ، ثم يفيق فيتوضأ ويصلّي ركعتين ، ثم إذا سمع الواعظ صاح ، يفعل ذلك مرارا في الليلة ويسمّى الصيّاح لأجل ذلك وكان أعذر اليد والرجل ، لا قدرة له على الخدمة ، وكانت له والدة تقوته من غزلها فلمّا توفيّت اقتات بنبات الأرض.

ولقيت بهذه المدينة الشيخ الصالح عبد الله المصريّ السايح وهو من الصالحين ، جال الأرض إلّا أنّه لم يدخل الصين ولا جزيرة سرنديب ولا المغرب ولا الأندلس ولا بلاد السودان ، وقد زدّت عليه بدخول هذه الأقاليم!

ذكر سلطان برصى [الملك الثاني في الامبراطورية العثمانية]

وسلطانها اختيار الدين أرخان بك ، وأرخان بضمّ الهمزة وخاء معجم ، ابن السلطان عثمان جوق ، وجوق بجيم معقود مضموم وآخره قاف ، وتفسيره بالتركية الصغير (١١٥) ، وهذا السلطان ، أكبر ملوك التركمان ، وأكثرهم مالا وبلادا وعسكرا ، له من الحصون ما يقارب مائة حصن ، وهو في أكثر أوقاته لا يزال يطوف عليها ويقيم بكلّ حصن منها أيّاما لإصلاح شؤونه وتفقّد حاله ، ويقال : إنه لم يقم قطّ شهرا كاملا ببلد ، ويقاتل الكفار ويحاصرهم ، ووالده

__________________

(١١٥) السلطان الثاني للدولة العثمانية ٧٢٦ ـ ٧٥٧ ١٣٢٦ ـ ١٣٥٩ ابن وخلف مؤسس الدولة العثمانية : عثمان الأول ٦٩٨ ـ ٧٢٦ ١٢٢٩ ـ ١٣٢٦. عند مرور ابن بطوطة لم تكن إمارة عثمان على ما يظهر ذات أهمية في مساحتها وفي قوتها بالنسبة للإمارات الأخرى ، ولكنها ـ وهي تقع في مواجهة دولة بيزنطية في طريقها إلى الضعف والتمزق يوما عن يوم ، كانت أي إمارة عثمان مرشحة لمستقبل عظيم ... وعلى كل حال ففي الاستطاعة القول بأن الرّحالة المغربي كان أول من تحدث لنا عن الدولة العثمانية وهي في مهدها الأول قبل أن تصبح امبراطورية! ـ د. التازي : التاريخ الدبلوماسي للمغرب ج ٧ ، ص ٢٢٩.

١٩٧

هو الذي استفتح مدينة برصى من أيدي الروم وقبره بمسجدها ، وكان مسجدها كنيسة للنصارى(١١٦).

ويذكر (١١٦) أنه حاصر مدينة يزنيك نحو عشرين سنة ومات قبل فتحها فحاصرها ولده ، هذا الذي ذكرناه ثنتى عشر سنة وافتتحها (١١٧) ، وبها كان لقاءى له (١١٨) وبعث إليّ بدراهم كثيرة.

ثم سافرنا إلى مدينة يزنيك ، وضبط اسمها بفتح الياء آخر الحروف واسكان الزاي وكسر النون وياء مدّ وكاف ، وبتنا قبل الوصول إليها ليلة بقرية تدعى كرله (١١٩) بزاوية فتى من الأخية ، ثم سرنا من هذه القرية يوما كاملا في أنهار ماء على جوانبها أشجار الرمّان الحلو والحامض ، ثم وصلنا إلى بحيرة ماء تنبت القصب على ثمانية أميال من يزنيك لا يستطاع دخولها الا على طريق واحد مثل الجسر لا يسلك عليها إلا فارس واحد (١٢٠) ، وبذلك امتنعت هذه المدينة.

والبحيرة محيطة بها من جميع الجهات وهي خاوية على عروشها لا يسكن بها الا أناس قليلون من خدّام السلطان (١٢١) ، وبها زوجته بيلون خاتون (١٢٢) ، وهي الحاكمة عليهم ،

__________________

(١١٦) هو الدير القديم (Saint ـ Elias) الذي يقع في القلعة ـ المقبرة الحالية للسلطان عثمان ، بنيت من جديد في نهاية القرن التاسع عشر وهناك من الباحثين الأتراك من يقول إنه دفن في صوكوت Sogut على بعد ٦٠ ك. م. جنوب شرق يزنيك التي تقع شمالا على مقربة من البحيرة التي تحمل نفس الاسم ... وهو المركز الأصيل الذي نشأت فيه الدولة.

(١١٧) احتلت يزنيك (NICAaea) من طرف أورخان في جمادى ٧٣١ مارس ١٣٣١.

(١١٨) ابن بطوطة يسجل ان اجتماعه بالسلطان اختيار الدين أرخان بك (ثاني ملوك الامبراطورية العثمانية) تمّ بمدينة يزنيك التي تقع شمال شرقي برصى.

(١١٩) كرله هي (GURLE) الحالية في منتصف الطريق بين برصى ويزنيك ، يقول يراز يموس ، ولو انّ گيب مثلي لم يقف لها على أثر في الخريطة!

(١٢٠) يعتقد گيب أن هذه الافادة من الرحالة المغربي مربكة نظرا الى أن المدينة بنيت في الطرف الشرقي للبحيرة كما نرى في الخريطة ، إن الجدار الخارجي حمي بخندق ، وان المدخل في الجدار الجنوبي قريب كذلك من طريق ممر، وذهب گيب إلى القول بأن هذا الوصف ربما كان ينطبق على موقع آخر قل حصار سالف الذكر ... ولكن گيب عاد ليذكران ابن بطوطة ربما كان وجد المكان مغمورا بفيضان من نتيجة ارتفاع مياه النهر ...

(١٢١) عند احتلال هذه المدينة (يزنيك) من لدن أرخان تركها معظم سكانها الاقدمون لكنها عمرت تدريجيا فيما بعد ...

(١٢٢) بيلون زوجة أورخان ، والكلمة من أصل إغريقي ، نيلوفرNilufar وسنرى أن اسم بيلون سيذكر من ابن بطوطة كعلم لإحدى زوجات السلطان محمد أوزبك خان ، ويشك گيب في طريقة رسم بيلون وهل لا يكون تحريفا عن نيلوفر سيما والشكل متقارب ...

١٩٨

١٩٩

امرأة صالحة فاضلة ، وعلى المدينة أسوار أربعة بين كل سوريين خندق فيه الماء (١٢٣) ، ويدخل إليها على جسور خشب متى أرادوا رفعها رفعوها ، وبداخل المدينة البساتين والدور والأرض والمزارع، فلكل إنسان داره ومزرعته وبستانه مجموعة ، وشرابها من أبار بها قريبة ، وبها من جميع أصناف الفواكه والجوز ، والقسطل عندهم كثير جدّا رخيص الثمن ، ويسمّون القسطل قسطنة بالنون ، والجوز القوز بالقاف ، وبها العنب العذاري (١٢٤) لم أر مثله في سواها متناهي الحلاوة عظيم الجرم صافي اللون رقيق القشر ، للحبّة منه نواة واحدة ، أنزلنا بهذه المدينة الفقيه الامام الحاجّ المجاور علاء الدين السلطانيوكي ، وهو من الفضلاء الكرماء ، ما جئت قطّ إلى زيارته الّا أحضر الطعام وصورته حسنة وسيرته أحسن وتوجه معي إلى الخاتون المذكورة فأكرمت وافاضت واحسنت.

وبعد قدومنا بأيام وصل إلى هذه المدينة السلطان أرخان بك الذي ذكرناه ، وأقمت بهذه المدينة نحو أربعين يوما بسبب مرض فرس لي ، فلما طال عليّ المكث تركته وانصرفت ، ومعي ثلاثة من أصحابي وجارية وغلمان ، وليس معنا من يحسن اللسان التركي ويترجم عنّا ، وكان لنا ترجمان فارقنا بهذه المدينة.

ثم خرجنا منها فبتنا بقرية يقال لها : مكجا (١٢٥) ، بفتح الميم والكاف والجيم ، بتنا عند فقيه بها أكرمنا وأضافنا ، وسافرنا من عنده وتقدّمتنا امرأة من الترك على فرس ومعها خديم لها ، وهي قاصدة مدينة ينجا (١٢٦) ، ونحن في اتباع أثرها ، فوصلت إلى واد كبير يقال له سقريّ ، كأنّه نسب إلى سقر أعاذنا الله منها (١٢٧) ، فذهبت تجوز الوادي ، فلما توسطته كادت الدابة تغرق بها و؟ رمتها عن ظهرها ، وأراد الخديم الذي كان معها استخلاصها فذهب الوادي بهما معا ، وكان في عدوة الوادي قوم رموا بأنفسهم في أثرهما سباحة فاخرجوا المرأة وبها من الحياة رمق ، ووجدوا الرجل قد قضى نحبه ، رحمه‌الله.

وأخبرنا أولئك الناس أن المعدّية اسفل من ذلك الموضع فتوجهنا إليها وهي أربع خشبات مربوطة بالحبال ، يجعلون عليها سروج الدواب والمتاع ويجذبها الرجال من العدوة

__________________

(١٢٣) كانت المدينة تتوفر على سورين اثنين يحميهما خندق ... ويعتقد گيب أن تلك التفصيلات مشكوك فيها ولا نشاطره هذا الرأي ما دمنا نتحدث عن مدينة لها تلك الأهمية الكبرى ...

(١٢٤) سمي كذلك لان حبوبه تشبه أصابع العذارى!!

(١٢٥) مكجاهي (MEKECE) على بعد نحو ٣٠ ك. م شرق إيزنيك ...

(١٢٦) ينجا هي طركلي Tarakli ـ Venijesi على بعد ٢٠ ك. م جنوب شرق مدينة جيف (Geyve) التي سيسميها ابن بطوطة (كاوية).

(١٢٧) هذا بالذات وادي (سكريا)(Sakarya).

٢٠٠