رحلة ابن بطوطة - ج ٢

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ٢

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-008-7
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٢٦٨

ولقيت بهذه المدينة الشيخ الصالح السائح أبا الحسن الأقصراني ، وأصله من بلاد الروم(١٢٤)، فأضافني وزارني وألبسني ثوبا ، وأعطاني كمر الصحبة وهو يحتبى به فيعين الجالس فيكون كأنّه مستند ، وأكثر فقراء العجم يتقلّدونه.

وعلى (١٢٥) ستّة أميال من هذه المدينة مزار ينسب إلى الخضر وإلياس عليهما‌السلام ، يذكر انهما يصلّيان فيه ، وظهرت له بركات وبراهين ، وهنالك زاوية يسكنها أحد المشايخ يخدم بها الوارد والمصادر ، وأقمنا عنده يوما ، وقصدنا من هنالك زيارة رجل صالح منقطع في آخر هذه الجزيرة قد نحت غارا لسكناه ، فيه زاوية ومجلس ودار صغيرة له فيها جارية ، وله عبيد خارج الغار يرعون بقرا له وغنما وكان هذا الرجل من كبار التّجار فحجّ البيت ، وقطع العلائق وانقطع هنالك للعبادة ، ودفع ماله لرجل من إخوانه يتجر له به ، وبتنا عنده ليلة فأحسن القرى وأجمل ، رضي الله تعالى عنه ، وسيمة الخير والعبادة لائحة عليه.

ذكر سلطان هرمز

وهو السلطان قطب الدين تمتهن (١٢٦) بن طوران شاه ، وضبط اسمه بقتح التاءين المعلوّتين وبينهما ميم مفتوح وهاء مسكنة وآخره نون ، وهو من كرماء السلاطين كثير التواضع ، حسن الأخلاق ، وعادته أن ياتي لزيارة كلّ من يقدم عليه من فقيه أو صالح أو شريف ويقوم بحقّه.

ولمّا دخلنا جزيرته وجدناه متهيئا للحرب مشغولا بها مع ابني أخيه نظام الدين (١٢٧) ،

__________________

(١٢٤) يعني ببلاد الروم آسيا الصغرى.

(١٢٥) كمر الصحبة ، بالفارسية (Canard ـ Band) عبارة عن شبه حزام يحتبى به ، فيعين الجالس ويكون بمثابة مستند له على نحو ما نراه إلى الآن مع بعض ملازمي الحرمين الشريفين يساعدهم على الجلوس الطويل. واعتقد أن كلمة (التّزييق) التي استعملها ابن بطوطة في بداية هذا السفر لها علاقة بكمر الصحبة ... ومن اسواق مدينة سيؤون في حضر موت اقتنيت في خريف ١٩٩٢ بعض النماذج من كمر الصحبة!

(١٢٦) قطب الدين تهمتن (وليس تمتهن) شخصية منحدرة من أسرة كانت متنفّذة في المنطقة ، احتلّ هرمز عام ٧١٩ ١٣١٩ بمشاركة أخيه نظام الدّين قيقباد ، ومن سنة ٧٣٠ ١٣٣٠ أو ٧٣١ ١٣٣١ أضاف إلى هذا جزيرة قيس التي تقع جنوب فارس كما أضاف البحرين ومراسي القطيف وماشول. وطوال هذه الفترة ولبضع سنوات لاحقة استمر التناسق بين الأخوين المذكورين. انظر تعليق النّاشرين الأولين : D.S. ج ٢ ص ٤٥٥ ـ ٤٥٦ وانظر كذلك گيب ج ٢ ، ص ٤٠١ تعليق ١٢٣.

(١٢٧) حسب ما اعتدناه من الرحالة المغربي ابن بطوطة نجده أحيانا يمزج بين الزيارتين اللتين قام بهما لهرمز : الأولى التي تمت في محرم ٧٣٢ أكتوبر / نونبر ١٣٣١ ، والثانية التي جرت في صفر ربيع الأول ٧٤٨ مايه ـ يونيه ١٣٤٧ ـ وهكذا فإن قطب الدين تهمتن استولى على الحكم على ما قدمنا عام ٧١٩ ١٣١٩ بمساعدة أخيه نظام الدين قيقباد بيد أن التمرّد والثوره لم تظهر إلا عام ٧٤٥ ه‍ / ١٣٤٥ ١٣٤٤ ، وبما أن موت نظام الدّين كان عام ٧٤٦ ـ ٤٧ ١٣٤٦ فإن ولديه استمرّا في المقاومة انطلاقا من جزيرة قيس إلى وفاة تهمتن في ربيع سنة ٧٤٨ ـ ٤٧ ١٣٤٧ بعد مرور ابن بطوطة بقليل حيث توفر على هذه المعلومات عند الزيارة الثانية.

١٤١

فكان في كل ليلة يتيسّر للقتال ، والغلاء مستول على الجزيرة ، فأتى إلينا وزيره شمس الدين محمد بن علي وقاضيه عماد الدين الشونكاري وجماعة من الفضلاء فاعتذروا بما هم عليه من مباشرة الحرب.

وأقمنا عنده ستّة عشر يوما ، فلمّا أردنا الانصراف قلت لبعض الأصحاب كيف ننصرف ولا نرى هذا السلطان؟ فجئنا دار الوزير وكانت في جوار الزاوية التي نزلت بها ، فقلت له : إنّي أريد السلام على الملك ، فقال : بسم الله ، وأخذ بيدي ، فذهب بي إلى داره وهي على ساحل البحر والأجفان مجلسة عندها ، فإذا شيخ عليه أقبية ضيقة دنسة ، وعلى رأسه عمامة وهو مشدود الوسط بمنديل ، فسلم عليه الوزير وسلمت عليه ، ولم أعرف أنه الملك وكان إلى جانبه ابن اخته وهو علي شاه بن جلال الدين الكيجي (١٢٨) ، وكانت بيني وبينه معرفة ، فأنشأت أحادثه وأنا لا أعرف الملك فعرّفني الوزير بذلك ، فخجلت منه لإقبالي بالحديث على ابن اخته دونه ، واعتذرت إليه ، ثم قام فدخل داره وتبعه الأمراء والوزراء وأرباب الدولة ودخلت مع الوزير ، فوجدناه قاعدا على سرير ملكه وثيابه عليه لم يبدّلها ، وفي يده سبحة جوهر لم تر العيون مثلها لأن مغاصات الجوهر تحت حكمه (١٢٩) ، فجلس أحد الأمراء إلى جانبه وجلست إلى جانب ذلك الأمير ، وسألني عن حالي ومقدمي وعمّن لقيته من الملوك فأخبرته بذلك ، وحضر الطعام فأكل الحاضرون ولم يأكل معهم ، ثم قام فوادعته وانصرفت.

وسبب الحرب التي بينه وبين ابني أخيه أنه ركب البحر مرّة من مدينته الجديدة برسم النزهة في هرمز القديمة وبساتينها ، وبينهما في البحر ثلاثة فراسخ كما قدّمناه ، فخالف عليه أخوه نظام الدين ، ودعى لنفسه وبايعه أهل الجزيرة ، وبايعته العساكر (١٣٠) ، فخاف قطب

__________________

(١٢٨) الكيجي شخصية تنتمي على ما يظهر ، إلى حكام مكران التي نعلم عن صلاتها الوثيقة بأمراء هرمز. هذا والأجفان هنا لا تعني فقط المراكب التجارية ولكنها تعني كذلك السفن الحربية.

(١٢٩) يلاحظ هنا أن ابن بطوطة يتحدث عن صيد اللؤلؤ في جزيرة قيس ، وسيأتي في السفر الثاني وهو يحكي لسلطان سيلان أنه رآه أي الصيد بجزيرة قيس وجزيرة كيش (قشم) التي لابن السواملي ... هذه الافادة منه تحدّد وقت زيارة ابن بطوطة لقيس ـ (ابن) السواملي : جمال الدّين ابراهيم بن محمد بن سعدي الطيّبي الرحّالة الشهير الذي تحوّل ابنه محمد إلى بغداد زمن الناصر فتعلم ثقب اللؤلؤ وجمع دراهم ودخل في تجارة إلى الصين فتوغل وتموّل (الدّرر ١ ، ٦١) ـ أولاد هذا الرجل تمكنوا من الجزيرة إلى عام ١٣٢٩ وتقبض عليهم تهمتن عام ١٣٣٠ ـ ٣١ ـ إذا ما كان ابن بطوطة زار جزيرة قيس فإن ذك ينبغي أن يكون أيام حكم اسرة السواملي وقبل الاشتباكات الحربية التي جرت مع تهمتن عام ١٩٣٠ ـ ٤٠٣,II Gibb ـ وعن قيس او كيش انظر حمد الله مستوفى ، والترجمة الفارسية للرحلة ص ٣٠٦ تعليق ١ ، واقرأ جريدة لوموند البارسية عدد ١٠ / ١٧ ١٩٧٩.

(١٣٠) استولى نظام الدين على جرون عام ٧٤٥ ١٣٤٤ ـ ٤٥ عندما كان تهمتن في رحلة صيد ... وفي أثناء معركة هزم تهمتن الذي رأيناه يسترجع هرمز وجرون بعد وفاة نظام الدّين عام ١٣٤٦ ، وقد توفى تهمتن عام ١٣٤٧ وهنا وتحت حكم ولده وخلفه توران شاه تمت السيطرة على قيس والبحرين ...

١٤٢

١٤٣

الدّين على نفسه وركب البحر إلى مدينة قلهات التي تقدّم ذكرها وهي من جملة بلاده ، فأقام بها شهورا وجهّز المراكب وأتى الجزيرة فقاتله أهلها مع أخيه وهزموه وعاد إلى قلهات ، وفعل ذلك مرارا فلم تكن له حيلة الّا أن راسل بعض نساء أخيه فسمّته ومات! وأتى هو إلى الجزيرة فدخلها وفرّ ابنا أخيه بالخزائن والأموال والعساكر إلى جزيرة قيس حيث مغاص الجوهر وصاروا يقطعون الطريق على من يقصد الجزيرة من أهل الهند والسند ويغيرون على بلاده البحريّة حتى تخرّب معظمها.

ثم سافرنا من مدينة جرون برسم لقاء رجل صالح ببلد خنج بال فلمّا عدّينا البحر اكترينا دوابّ من التّركمان وهم سكّان تلك البلاد ولا يسافر فيها إلّا معهم لشجاعتهم ومعرفتهم بالطرق ، وفيها صحراء مسيرة أربع ويقطع بها لصوص الأعراب ، وتهبّ فيها ريح السموم في شهري تموز وحزيران (١٣١) ، فمن صادفته فيها قتلته ، ولقد ذكر لي أن الرجل إذا قتلته تلك الريح وأراد أصحابه غسله ينفصل كلّ عضو منه عن سائر الأعضاء ، وبها قبور كثيرة للذين ماتوا فيها بهذه الريح وكنّا نسافر فيها باللّيل فإذا طلعت الشمس نزلنا تحت ظلال الأشجار من أمّ غيلان ونرحل بعد العصر إلى طلوع الشمس ، وفي هذه الصحراء وما والاها كان يقطع (الطريق) ، جمال اللّك الشهير الاسم هنالك.

حكاية [فقراء مدينة لار]

كان جمال اللّك من أهل سجستان أعجميّ الاصل (١٣٢) ، واللّك بضم اللّام معناه الأقطع، وكانت يده قطعت في بعض حروبه ، وكانت له جماعة كثيرة من فرسان الأعراب والأعاجم يقطع بهم الطرق ، وكان يبنى الزوايا ويطعم الوارد والصادر من الأموال التي يسلبها للنّاس ، ويقال : إنه كان يدعو أن لا يسلط إلّا على من لا يزكّي ماله! وأقام على ذلك

__________________

(١٣١) تسمى هذه الريح في عين المكان سمايل (Samyel) تهب على الخصوص بين ١٥ يونيه و ١٥ غشت وهي الفترة التي تشتد فيها الحرارة بالخليج ... وقد وصفها شاردان (Chardin) عام ١٦٦٨ بمثل ما وصفها به الرحالة المغربي ، ومن خلال هذا ربما نفهم أن هذه المعلومات اكتسبها ابن بطوطة في الزيارة اللّاحقة التي صادفته في فترة الحرارة وليس في هذه الزيارة التي تمت في شهر نونبر ...

هذا ونشير إلى أن كلمة التركمان المذكورة آنفا كانت تعني قوما يتكلمون بالتركية وهم يدعون ب قشقاي (Qashqai) ، وحديث ابن بطوطة عن اللصوصية في تلك المناطق أكّدته مصادر أخرى تحدثت عن تلك الأمكنة ومنها مستوفي ...

(١٣٢) يورد ابن حجر (الدرر ٤ ، ٢٦٠ طبعة أباد) أن هذا الرجل الذي حرّف اسمه إلى الحمّال لوك تعرض لقافلة بين يزد وشيراز ولكنه لم يلبث أن وقع في قبضة محمد بن المظفر الذي اجهز عليه قبل ان يحتل ابن المظفر يزد عام ١٣١٨ ... وتوجد كلمة الملك في القاموس الفارسي وتعني الذي يزحف على يديه وركبته.

Gibb II P ٥٠٤ Note ١٣١.

١٤٤

دهرا ، وكان يغير هو وفرسانه ويسلكون براريّ لا يعرفها سواهم ويدفنون بها قرب الماء ورواياه ، فإذا تبعهم عسكر السلطان دخلوا الصحراء واستخرجوا المياه ويرجع العسكر عنهم خوفا من الهلاك.

وأقام على هذه الحالة مدّة لا يقدر عليه ملك العراق ولا غيره ثم تاب وتعبّد حتى مات ، وقبره يزار ببلاده. وسلكنا هذه الصحراء إلى أن وصلنا إلى كوراستان (١٣٣) ، وضبط اسمه بفتح الكاف واسكان الواو وراء ، وهو بلد صغير فيه الأنهار والبساتين وهو شديد الحرّ ، ثمّ سرنا منه ثلاثة أيام في صحراء مثل التي تقدّمت ووصلنا إلى مدينة لار (١٣٤) ، وآخر اسمها راء ، مدينة كبيرة كثيرة العيون والمياه المطّردة والبساتين ، ولها أسواق حسان ، ونزلنا منها بزاوية الشيخ العابد أبي دلف محمّد (١٣٥) ، وهو الذي قصدنا زيارته بخنج بال ، وبهذه الزاوية ولده أبو زيد عبد الرحمن ، ومعه جماعة من الفقراء ، ومن عادتهم أنهم يجتمعون بالزاوية بعد صلاة العصر من كل يوم ، ثم يطوفون على دور المدينة فيعطاهم من كلّ دار الرغيف والرغيفان فيطعمون منها الوارد والصادر.

وأهل الدور قد ألفوا ذلك فهم يجعلونه في جملة قوتهم ويعدّونه لهم إعانة على إطعام الطعام، وفي كل ليلة جمعة يجتمع بهذه الزاوية فقراء المدينة وصلحاؤها ويأتي كلّ منهم بما تيسّر له من الدراهم فيجمعونها وينفقونها تلك الليلة ، ويبيتون في عبادة من الصلاة والذكر والتلاوة وينصرفون بعد صلاة الصبح.

ذكر سلطان لار

وبهذه المدينة سلطان يسمى بجلال الدين ، تركماني الأصل ، بعث إلينا بضيافة ولم

__________________

(١٣٣) هذه قرية تحمل اسم كهورستان في الخريطة الإيرانية الحالية وهي على بعد أربع مراحل من لار ... وعلى مرحلة واحدة من بندر عباس يقول طافيرنيي (Tavernier) عام ١٦٦٥. في كتابه :

Les six voyages en Turquie, et en Perse.

(١٣٤) كانت (لار) تتوفر على إمارة محلية مقيمة هناك منذ عهد ما قبل ظهور الإسلام ، وحسب كتب التاريخ نجد أن العاهل الحاكم على ذلك العهد كان يسمى باكا لينجار الثاني (Bakalindijar) ـ ٧٥٣ ١٣٣١ ـ ١٣٥٢ ٧٣١. انظرEncy.de i\'Islam.

(١٣٥) لا نعرف شيئا عما إذا كانت هناك صلة لهذا بأبي دلف الذي قال فيه علي ابن جبلة :

إنما الدنيا أبو دلف

بين مغزاه ومختصره

وإذا ولّى أبو دلف

ولّت الدنيا على إثره!

د. التازي : الماء ، الغذاء ، الانسان ، بين التراث الاسلامي والتاريخ المغربي ، أكاديمية المملكة المغربية ١٩٨٢.

١٤٥

نجتمع به ولا رأيناه ، ثم سافرنا إلى مدينة خنج بال (١٣٦) ، وضبط اسمها بضمّ الخاء المعجم ، وقد يعوّض منه هاء واسكان النون وضم الجيم وباء معقودة والف ولام ، وبها سكنى الشيخ أبي دلف الذي قصدنا زيارته وبزاويته نزلنا ، ولمّا دخلت الزاوية رأيته قاعدا بناحية منها على التراب وعليه جبّة صوف خضراء بالية وعلى رأسه عمامة صوف سوداء فسلّمت عليه فأحسن الردّ ، وسألني عن مقدمي وبلادي وأنزلني ، وكان يبعث إليّ الطعام والفاكهة مع ولد له من الصالحين كثير الخشوع والتواضع صائم الدّهر كثير الصلاة ، ولهذا الشيخ أبي دلف شأن عجيب ، وأمر غريب ، فإنّ نفقته في هذه الزاوية عظيمة ، وهو يعطي العطاء الجزيل ويكسوا الناس ويركبهم الخيل ، ويحسن لكل وارد وصادر ، ولم أر في تلك البلاد مثله ولا يعلم له جهة إلا ما يصله من الإخوان والأصحاب ، حتى زعم كثير من الناس أنه ينفق من الكون! وفي زاويته المذكورة قبر الشيخ الوليّ الصالح القطب دانيال (١٣٧) ، وله اسم بتلك البلاد شهير ، وشأن في الولاية كبير ، وعلى قبره قبّة عظيمة بناها السلطان قطب الدين تهمتن بن طوران شاه وأقمت عند الشيخ أبي دلف يوما واحدا لاستعجال الرفقة التي كنت في صحبتها ، وسمعت أن بالمدينة خنج بال المذكورة زاوية فيها جملة من الصالحين المتعبّدين فرحت إليها بالعشيّ وسلّمت على شيخهم وعليهم ورأيت جماعة مباركة قد اثّرت فيهم العبادة ، فهم صفر الألوان نحاف الجسوم كثير والبكاء غزير والدّموع وعند وصولي إليهم أتوا بالطعام ، فقال كبيرهم : أدعوا لي ولدي محمدا ، وكان معتزلا في بعض نواحي الزاوية فجاء الينا الولد وهو كأنّما خرج من قبر ممّا نهكته العبادة ، فسلّم وقعد ، فقال له أبوه : يا بنيّ شارك هؤلاء الواردين في الأكل تنل من بركاتهم ، وكان صائما فأفطر معنا ، وهم شافعيّة المذهب ، فلمّا فرغنا من أكل الطعام دعوا لنا وانصرفنا.

__________________

(١٣٦) خنج بّال Khunj ـ UPal اسم مزدوج لمدينتين هما : خنج وفال ، خنج تقع على بعد ٤٠ ميلا شمال غرب لار ، وكثيرا ما تلتبس مع هونج التي تقع على بعد ٥٠ ميلا جنوب لار ، وان اطلال وخرائب فال توجد على أربعة أميال جنوب كالاه دار ، نحو ٦٠ ميلا غرب خنج على الخط ٣٨ ـ ٢٧ شمالا و ٣٩ ٥٢ شرقا ... يظهر أن ابن بطوطة لم يهتم بتقديم تفسير عن تحديد الموقعين.

(١٣٧) قام الشيخ دانيال بدور في استيلاء أياز (ayaz) على هرمز عام ٦٩٠ ١٢٩١ ويتحدث باروس (Barros) في القرن السادس عشر عن مسجد في خنج يحمل اسم هذا الشيخ ، وتتوفر هذه المدينة اليوم على مسجد بهذا الاسم.

١٤٦

ثم سافرنا منها إلى مدينة قيس وتسمى ايضا بسيراف (١٣٨) ، وهي على ساحل بحر الهند المتّصل ببحر اليمن وفارس وعدادها في كور فارس ، مدينة لها انفساح وسعة طيّبة البقعة في دورها بساتين عجيبة فيها الرياحين والأشجار الناضرة ، وشرب أهلها من عيون منبعثة من جبالها ، وهم عجم من الفرس أشراف ، وفيهم طائفة من عرب بني سفّاف (١٣٩) ، وهم الذين يغوصون على الجوهر.

ذكر مغاص الجوهر

ومغاص الجوهر فيما بين سيراف والبحرين في خور راكد مثل الواردي العظيم ، فإذا كان شهر إبريل وشهر مايه تأتى إليه القوارب الكثيرة فيها الغوّاصون وتجار فارس والبحرين والقطيف ويجعل الغوّاص على وجهه مهما أراد أن يغوص شيأ يكسوه من عظم الغيلم ، وهي السلحفاة ، ويصنع من هذا العظم أيضا شكلا شبه المقراض يشدّه على أنفه ، ثم

__________________

(١٣٨) لم تكن سيراف منطقة صغيرة فلقد كانت تمتد نحو ميلين داخل البحر ، وهي تقع على الساحل جنوب الموقع الساحلي الحالي (طاهري) كانت الميناء الأكثر أهمية بالخليج في القرن العاشر على ما نقرأه عند المسعودي (ت ٣٤٦ ٩٥٧) في مروج الذهب ، وقد تعرضت لزلزال عام ٣٦٦ ٩٧٧ ، وتركت تدريجيا لفائدة جزيرة قيس: كيش وقد وجدها ياقوت خرابا عند ما زارها ... وهكذا نلاحظ أن ابن بطوطة ربّما التبست عليه سيراف بجزيرة قيس التي كانت مقرا ـ ابتداء من نهاية القرن السابع الهجري الرابع عشر الميلادي لدولة تجارية أنشأها جمال الدين ابراهيم السواملي سالف الذكر (الدّرر آر ٦١). وقد انتزعت المدينة من المنحدرين من السواملي عام ٧٣١ ١٣٣١ ، انتزعها منهم تهمتن روبرت جيران لاندن : عمان ، ترجمة محمد أمين عبد الله وزاره التراث القومي والثقافي ١٩٦٦ ـ راجع التعليق ١٢٩.

(١٣٩) بنو سفاف قبيلة عربية يرجع أصلها لعمان؟ أقامت على ساحل إقليم فارس Fars الذي كتب عنه بعض الجغرافيين العرب.

١٤٧

١٤٨

١٤٩

يربط حبلا في وسطه ، ويغوص ويتفاوتون في الصبر في الماء ، فمنهم من يصبر السّاعة (١٤٠) والسّاعتين فما دون ذلك ، فإذا وصل إلى قعر البحر يجد الصدف هنالك فيما بين الأحجار الصّغار مثبتا في الرمل فيقتلعه بيده أو يقطعه بحديدة عنده معدّة لذلك ويجعلها في مخلاة جلد منوطة بعنقه فإذا ضاق نفسه حرّك الحبل ، فيحسّ به الرجل الممسك للحبل على الساحل فيرفعه إلى القارب فتوخذ منه المخلاة ويفتح الصّدف فيوجد في أجوافها قطع لحم تقطع بحديدة ، فإذا باشرت الهواء جمدت فصارت جواهر فيجمع جميعها من صغير وكبير فيأخذ السلطان خمسه (١٤١) ، والباقي يشتريه التّجار الحاضرون بتلك القوارب وأكثرهم يكون له الدين على الغوّاصين فياخذ الجوهر في دينه أو ما وجب له منه.

__________________

(١٤٠) هذه القصة تؤكد أن ابن بطوطة ربما كان يعتمد فيها على حكاية للغير فإنه أولا لم يصادف موسم الغوص ... ثم ان موقع مغاص الجوهر لم يقع تحديده بوضوح ... ولو أنه على ما يظهر فيما بين ميناء (طاهري) وجزيرة قيس.

هذا وقد أثارت عبارة ابن بطوطة : " منهم من يصبر الساعة والساعتين" حملات على الرحالة المغربي الذي لم يعرف المعلقون ما يقصد إليه من أن عمليات النزول ، إلى قعر البحر تستمر الساعة والساعتين ... وينبغي أن نرجع للشريف الإدريسي الذي عند ما كان يتحدث عن (اوال) في البحرين يذكر أنه بها يسكن رؤساء الغواصين في البحر والتجار يقصدون اليها من جميع الأقطار بالأموال الكثيرة ، يقيمون بها حتى يكون وقت الغوص. وزمانه في غشت وشتنبر فيخرجون من المدينة في أزيد من مائتي دونج مركب ... ومعهم دليل ماهر ... وهم خلفه في مراكبهم صفوفا لا تتعدى جريه ... ويقوم هو عند الاقتضاء بالنزول إلى قعر البحر ليعرف عن امكانية نزول الآخرين ، وعمق الماء في الأماكن المرشحة للغوص من قامتين إلى ثلاث ... ويضع الغواص في انفه (الخنجل) ، وهو شمع مذاب بذهن الشيرج يسد به أنفه ويأخد معه سكينا ومشنة يجمع فيها ما يجده هناك في الصدف ، ومع كل غواص منهم حجر من وزن ربع قنطار مربوطا بحبل رقيق وثيق فيدليه في الماء مع جنب الدونج ويمسك الحبل صاحبه بهذه امساكا وثيقا ... فإذا نزل إلى قعر البحر جلس وفتح عينه في الماء ... وجمع ما وجد هناك من الصدف في عجل فإن أدركه الغم كثيرا صعد مع الحبل واسترد نفسه حتى يستريح ويرجع إلى غوصه ... فإذا اتم الغواصون في البحر مقدار ساعتين صعدوا ولبسوا ثيابهم وتدثروا وناموا إلى الصباح فيتجردون ويغوصون ، هكذا كل يوم ... وكلما فرغوا من مكان انتقلوا إلى غيره ... ويقول الادريسي : ان الغوص صنعة تتعلم وينفق عليها الاموال ويتدرّبون في ردّ انفاسهم على آذانهم ... وأعلاهم أجرة أصبرهم تحت الماء.

(١٤١) يقدم لنا ابن بطوطة هنا معلومة جيدة عن الضريبة التي كان يجبيها السلطان وهي خمس اللؤلؤ المستخرج ، وهي النسبة الشرعية لنصيب الدولة من الرّكاز : ما يستخرج من باطن الأرض ... وهذا خلاف ما حكاه ناصر خسرو علوي عام ٤٤٣ من أن سلاطين الحسا كانوا يأخذون نصف ما يستخرجه الغواصون من اللؤلؤ. يراجع البحث القيم الذي صدر بالإنجليزية في مجلة (الوثيقة) البحرينية بهذا العنوان.

PEARL Fishing in BAHRAIN By Dr Ali Ba Hussain and B. K. NARAYAN

مجلة الوثيقة البحرينية العدد ٢٣ السبت ١١ محرم ١٤١٤ يوليه ٩٩٣.

١٥٠

ثم سافرنا من سيراف إلى مدينة البحرين (١٤٢) وهي مدينة كبيرة حسنة ذات بساتين وأشجار وأنهار ، وماؤها قريب المؤنة يحفر عليه بالأيدي فيوجد (١٤٣) ، وبها حدائق النخل والرمّان والأترج ويزرع بها القطن ، وهي شديدة الحرّ كثيرة الرمال ، وربّما غلب الرمل على بعض منازلها وكان فيما بينها وبين عمان طريق استولت عليه الرمال وانقطع فلا يوصل من عمان اليها الّا في البحر.

وبالقرب منها جبلان عظيمان ، يسمى أحدهما بكسير ، وهو في غربيّها ويسمى الآخر بعوير وهو في شرقيّها وبهما ضرب المثل فقيل : كسير وعوير ، وكلّ غير خير (١٤٤) ،

ثم سافرنا إلى مدينة القطيف (١٤٥) ، وضبط اسمها بضم القاف كأنّه تصغير قطف ، وهي مدينة كبيرة حسنة ذات نخل كثير يسكنها طوائف العرب ، وهم رافضيّة غلاة يظهرون

__________________

(١٤٢) اسم البحرين كان يعني في ذلك العهد الساحل الذي يقع في منطقة الاحساء قبالة الجزيرة الحالية للبحرين. الجزيرة نفسها كانت تحمل اسم أوال (Awal) أو آوال ، نسبة إلى صنم كانت تعبده قبيلة بكر بن وائل وكانت عاصمتها تسمى البحرين ، والمدينتان الاثنتان الرئيسيتان في الساحل هما اللتان سيقع ذكرهما فيما بعد. نشكر بهذه المناسبة معالي الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة لمساعدته القيّمة ...

(١٤٣) تحدّث الشريف الإدريسي في كتابه (نزهة المشتاق) عن العيون التي تزخر بها أرض البحرين ... وفي أثناء الوجود التركي بالبحرين كان الجنود ينزلون إلى أعماق البحر ليملأوا القرب بالماء الحلو لرؤسائهم ، وكذا أيام الاحتلال البرتغالي ... وهناك أسطورة تحكي عن جمل وقع في عين بالأحساء ثم وجد بالبحرين ...GI BB : SELECTION ٩٢٩١ P.٣٥٣ NOTE ٨٢ أمل ابراهيم الزياني : البحرين ، بيروت ١٩٧٣ ص ١٩.

(١٤٤) افادة ابن بطوطة تحتاج إلى تعليق سيّماوان الذين أتاحت لهم الفرصة للتردد على البحرين لا يلاحظون أثرا للجبلين المشار اليهما. والحقيقة أن المسعودي في مروج الذهب (ج ١ ص ٢٤٠) وهو يتحدث عن الجزائر المتناثرة في المنطقة يقول : وبقرب هذه الجزيرة جزيرة هنجام ومنها يستقي أرباب المراكب الماء ثم الجبال المعروفة بكسير وعوير وثالث ليس فيه خير" ... ويذكر ياقوت أن كسير وعوير جبلان عظيمان مشرفان على أقصى بحر عمان ... وبالعودة إلى الإخباريين نجدهم يذكرون غير هذا أو ذاك وان اصل المثل لأمامة بنت نشبة بن مرة كانت عند خالد بن رواحة من غطفان ، وكان أعور فنشزت عليه فزوجها أبوها من حارثة بن مرة الشيباني وكان أعرج فنشزت عليه أيضا ، وقالت عوير وكسير وكل غير خير»! فارسلتها مثلا ...

(١٤٥) القطيف يضبطها بالتّصغير على خلاف ما عند ياقوت في معجم البلدان تقع شمال غربي جزيرة البحرين على ساحل الجزيرة العربية شمال الظهران وقد ربطت البحرين اليوم بالسعودية بجسر عظيم وكانت آخر معقل للقرامطة ، وقد فتحت المنطقة عام ٧٠٥ ١٣٠٥ من قبل أحد العرب من بطن قريش يحمل اسم جروان المالكي حيث أنشأ دولة شيعية محلية ، وقد ترجم ابن حجر لحفيده ابراهيم بن ناصر بن جروان ، وقال أن جدّه جروان انتزع الملك من سعيد بن مغامس بن سليمان بن رميثة القرمطي عام ٧٠٥ وحكم بلاد البحرين كلها ثم لما مات قام ولده ناصر مقامه ثم قام ابراهيم مقام أبيه وكان موجودا في العشرين وثمانمائة ـ الدرر ج I ص ٧٥ ـ أنظر كتاب القطيف تأليف محمد سعيد المسلم. الرياض ١٤١٠ ١٩٨٩ طبعة أولى ـ مع تقديري لمساعدة الأستاذ محمد سعيد البريكي ـ الجبيل السعودية.

١٥١

١٥٢

الرفض جهارا لا يتّقون أحدا : ويقول مؤذّنهم في أذانه بعد الشهادتين : أشهد أنّ عليّا ولىّ الله ، ويزيد بعد الحيعلتين : حيّ على خير العمل ويزيد بعد التكبير الأخير : محمّد وعليّ خير البشر ، من خالفهما فقد كفر.

ثم سافرنا منها إلى مدينة هجر (١٤٦) وتسمّع الآن بالحسا بفتح الحاء والسين واهمالهما ، وهي التي يضرب المثل بها فيقال : كجالب التّمر إلى هجر ، وبها من النخيل ما ليس ببلد سواها ، ومنه يعلفون دوابّهم وأهلها عرب وأكثرهم من قبيلة عبد القيس بن أقصى (١٤٧).

ثم سافرنا منها إلى مدينة اليمامة وتسمى أيضا بحجر (١٤٨) ، بفتح الحاء المهمل واسكان الجيم ، مدينة حسنة خصبة ذات أنهار وأشجار يسكنها طوائف من العرب من بني (١٤٩) حنيفة وهي بلدهم قديما ، واميرهم طفيل بن غانم. ثم سافرت منها في صحبة هذا

__________________

(١٤٦) هجر يذكر ياقوت أن اسمها من الهاجرة وهي شدة الحر وسط النهار كأنها شبهت لشدة الحر بها بالهاجرة، وقال ابن الحائك : الهجر بلغة حمير حمير والعرب العاربة : القرية ، فمنها هجر البحرين وهجر نجران الخ ... وتعرف الحسا اليوم بالهفوف وتوجد داخل القارة ، فالهفوف اذن هي هجر القديمة ومعظم المنطقة متشيّع. هذا وقد خصص خسرو في كتابه سفر نامه حديثا عن نقل القرامطة للحجر الأسود إلى الحسا : يزعمون أن به مغناطيس يجذب الناس اليه من أطراف الدنيا! ولم يفقهوا أن شرف النبيّ وجلاله هما اللذان يجذبان الناس ، وقد لبث الحجر في الحسا سنين عديدة ولم يذهب اليها أحد!! وأخيرا افتدى منهم الحجر بالمال وأعيد إلى مكانه ...! محمد الملا : تاريخ هجر.

(١٤٧) قبيلة عبد القيس احدى القبائل الرئيسية شمال شرقي الجزيرة العربية ، استقرت بالمنطقة خلال القرن السادس الهجري الثاني عشر الميلادي.

(١٤٨) حجر مدينة اليمامة وامّ قراها كانت عاصمة لقبيلة نجد بمنزلة البصرة والكوفة ، تقع على بعد ٥٨ ميلا ، جنوب شرق العاصمة الحالية : الرياض على خط ٠٧ ٢٤ شمالا و ٢٥ ٤٧ شرقا ... أكثر الشعراء من ذكرها والتشوق اليها ، وقد روى عن نفطويه قال : قالت أم موسى الكلابية وكان تزوجها رجل" من أهل حجر اليمامة ونقلها إلى هناك.

قد كنت أكره حجرا أن ألم بها

وأن أعيش بأرض ذات حيطان

إلى آخر المجموعة الشعرية التي أوردها ياقوت ... وهكذا نسجل أن ابن بطوطة كان من الزوار الأوائل لموقع (اليمامة ـ حجر) الذي لم يلبت أن أصبح منطقة تحتضن عاصمة المملكة العربية السعودية اليوم!!

(١٤٩) من المهم أن نعرف أن بني حنيفة كانو مشهورين في التاريخ بانهم كانوا يقاومون دخول الإسلام إلى منطقتهم وقد قدم وفد منهم سنة ٩ من الهجرة ٦٣٠ وفيهم مسيلمة المشهور بالكذّاب وقد كانت بنو حنيفة من أشد العرب شوكة في حرب الردّة ... ـ كحالة : معجم قبائل العرب هذا ويلاحظ أن معلوماته التاريخية حول هذه المنطقة تعتبر شحيحة ...

١٥٣

الأمير برسم الحج ، وذلك في سنة ثنتين وثلاثين ، فوصلت إلى مكّة شرّفها الله تعالى ، وحجّ في تلك السنة الملك الناصر سلطان مصر رحمه‌الله وجملة من امرائه ، وهي آخر حجّة حجّها ، وأجزل الإحسان لأهل الحرمين الشريفين وللمجاورين وفيها قتل الملك الناصر أمير احمد الذي يذكر أنّه ولده وقتل أيضا كبير أمرائه بكتمور الساقي (١٥٠).

حكاية [مقتل أمير أحمد]

ذكر أن الملك الناصر وهب لبكتمور الساقي جارية ، فلمّا أراد الدنوّ منها قالت له : إنّي حامل من الملك الناصر ، فاعتزلها ، وولدت ولدا سمّاه بأمير احمد ونشأ في حجره ، فظهرت نجابته واشتهر بابن الملك الناصر ، فلمّا كان في هذه الحجّة تعاهدا على الفتك بالملك الناصر ، وأن يتولى أمير أحمد الملك وحمل بكتمور معه العلامات والطبول والكسوات والأموال فنمى الخبر إلى الملك الناصر فبعث عن أمير أحمد في يوم شديد الحرّ فدخل عليه وبين يديه أقداح الشرب فشرب الملك الناصر قدحا وناول أمير احمد قدحا ثانيا فيه السمّ فشربه ، وأمر بالرّحيل في تلك الساعة ليشغل الوقت ، فرحل النّاس ولم يبلغوا المنزل حتى مات أمير أحمد فاكترث بكتمور لموته وقطع أثوابه وامتنع من الطعام والشراب ، وبلغ خبره إلى الملك الناصر فأتاه بنفسه ولا طفه وسلّاه وأخذ قدحا فيه سمّ فناوله إيّاه وقال له : بحياتي عليك ألا شربت فبردّت نار قلبك! فشربه ومات من حينه ، ووجد عنده خلع السلطنة والأموال فتحقّق ما نسب اليه من الفتك بالملك الناصر.

__________________

(١٥٠) حج الملك الناصر في هذا التاريخ ٧٣٢ (٢ شتنبر ١٣٣٢) مذكور في المصادر الأخرى مع مقتل الأمير أحمد ومقتل كذلك بكتمور عند مرجع الملك الناصر إلى القاهرة ـ الدرر ٢ ، ص ١٩ ـ ٢٠ ـ ابن إياس : بدائع الزهور ص ٤٦٢.

***

١٥٤

الفصل السابع

آسيا الصّغرى

من جدة إلى عيذاب ـ مصر ـ الشام.

من اللّاذقية إلى (الأناضول) ـ جماعة الفتيان الأخيّة.

في مدينة لاذق وفي قونية.

من قونية إلى قيسارية ـ أرزنجان الأرمن.

مدينة بركي حيث اجتمع بطبيب يهودي بمجلس السلطان!

حديث عن البطل عمر أمير يزمير.

برصى وسلطانها أرخان بك بن عثمان الذي ينسب إليه العثمانيون

في بولي حيث رأى الموقد لأول مرة!

اجتماعه في يزنيك بالسلطان أرخان وزوجته بيلون خاتون.

من قصطمونية إلى شبه جزيرة صنوب على البحر الأسود.

١٥٥
١٥٦

١٥٧
١٥٨

ولمّا انقضى الحجّ توجّهت إلى جدّة برسم ركوب البحر إلى اليمن والهند ، فلم يقض لي ذلك ولا تأتّى لي رفيق. وأقمت بجدة نحو أربعين يوما وكان بها مركب لرجل يعرف بعبد الله التونسي يروم السّفر إلى القصير من عمالة قوص (١) فصعدت إليه لأنظر حاله فلم يرضني ولا طابت نفسي بالسفر فيه ، وكان ذلك لطفا من الله تعالى فانّه سافر فلمّا توسّط البحر غرق بموضع يقال له : رأس أبي محمد (٢) فخرج صاحبه وبعض التجار في العشاريّ بعد جهد عظيم وأشرفوا على الهلاك وهلك بعضهم وغرق سائر الناس وكان فيه نحو سبعين من الحجّاج!

ثم ركبت البحر بعد ذلك في صنبوق برسم عيذاب فردّتنا الريح إلى مرسى يعرف برأس دوائر، وسافرنا منه في البرّ مع البجاة فسلكنا صحراء كثيرة النّعام والغزلان فيها عرب جهينة وبني كاهل وطاعتهم للبجاة (٣) ووردنا ماء يعرف بمفرور وماء يعرف بالجديد ، ونفد زادنا فاشترينا من قوم من البجاة ، وجدناهم بالفلاة ، أغناما وتززّدنا لحومها.

ورأيت بهذه الفلاة صبيا من العرب كلّمني باللّسان العربيّ وأخبرني أن البجاة أسروه وزعم أنّه منذ عام لم يأكل طعاما ، إنّما يقتات بلبن الإبل. ونفد لنا بعد ذلك اللحم الذي اشتريناه ولم يبق لنا زاد ، وكان عندي نحو حمل من التمر الصّيحاني والبرنيّ (٤) برسم الهديّة لأصحابي ، ففرقته على الرفقة وتزوّدناه ثلاثا.

__________________

(١) القصير : ميناء مصر على البحر الاحمر يقابل الموقع الجغرافي الذي يحمل اسم (الوجه) على ساحل الجزيرة العربية شمال جدة ... وهو الميناء الأقرب إلى وادي النيل ، على بعد خمس مراحل من قوص ، ويقدر هربك أن ابن بطوطة غادر جدة أوائل محرم ٧٣٣ أواخر شتنبر أو أول اكتوبر ١٣٣٢.

HRBEKIVAN : THE CHRONOLOGY ـ ـ ـ ـ

(٢) رأس أبي محمد لم نتمكن من تحديده ـ العشاري مركب يسير بالمجاذيف ليحمل المسافرين من وإلى السفن الكبرى التي تنتظرهم في عرض البحر ...

(٣) حول (رأس دوائر) ميناء يوجد بين عيذاب وسواكن ج II ـ ١٦٠ ـ البجاةI ، ١١٠ ـ ١١١II ١٦١ ـ ١٦٢ ـ بنو كاهل II ، ١٦١ ـ ١٦٢ ـ جهينةII ١٦٢. وتتميما للحديث عن رأس دوائر نذكر أنه يوجد بالمنطقة مرسى درور حوالي ١٩٠ ميلا جنوب عيذاب ، ويظهر أن ابن بطوطة والحالة هذه ـ يقصد إلى رأس راوية وساحلها المسمى خليج دخانة ، حوالي ١٠٠ ميلا جنوب عيذاب ٤١٥Gibb IIP.

(٤) الصّيحاني والبرنى من أجود أنواع التمور وقد أثر عن البرني أنه يقاوم الأوجاع كما أثر عن الصيحاني أنه كان مفضلا عند الرسول عليه الصلوات ، وقد ورد البرني في قصيدة لمعروف الرصافي :

ونأكل الموت دون العز نمضغه

كمضغنا التمر برنيا وشهريزا

ـ عباس العزاوي : النخل في تاريخ العراق ، بغداد ١٣٨٢ ١٩٦٢ ، ص ١٤ / ٢٧.

١٥٩

وبعد مسيرة تسعة أيام من رأس دوائر وصلنا إلى عيذاب (٥) وكان قد تقدّم إليها بعض الرفقة فتلقّانا أهلها بالخبز والتمر والماء وأقمنا بها أيّاما واكترينا الجمال ، وخرجنا صحبة طائفة من عرب دغيم ووردنا ماء يعرف بالجنيب وحللنا بحميثرا حيث قبر وليّ الله تعالى أبي الحسن الشاذليّ ، وحصلت لنا زيارته ثانية وبتنا في جواره ، ثم وصلنا إلى قرية العطواني وهي على ضفّة النيل مقابلة لمدينة أدفو من الصعيد الأعلى وأجزنا النيل إلى مدينة إسنا ، ثم إلى مدينة أرمنت ثم إلى الأقصر ، وزرنا الشيخ أبا الحجاج الأقصري ثانية ، ثم إلى مدينة قوص ثم إلى مدينة قنا ، وزرنا الشيخ عبد الرحيم القنّاوي ثانية ، ثم إلى مدينة هو ثم إلى مدينة أخميم ، ثم إلى مدينة أسيوط ثم إلى مدينة منفلوط ثم إلى مدينة منلوي ، ثم إلى مدينة الأشمونين ، ثم إلى مدينة منية ابن خصيب ثم إلى مدينة البهنسة ثم إلى مدينة بوش ثم إلى مدينة منية القائد ، وقد تقدّم لنا ذكر هذه البلاد ، ثم إلى مصر وأقمت بها أيّاما ، وسافرت على طريق بلبيس إلى الشام ورافقني الحاجّ عبد الله بن أبي بكر بن الفرحان التوزريّ ، ولم يزل في صحبتي سنين إلى أن خرجنا من بلاد الهند ، فتوفّى بسندابور وسنذكر ذلك ، فوصلنا إلى مدينة غزّة ثم إلى مدينة الخليل عليه‌السلام وتكرّرت لنا زيارته ، ثمّ إلى بيت المقدّس ثم إلى مدينة الرّملة ، ثم إلى مدينة عكّا ثم إلى مدينة طرابلس ثم إلى مدينة جبلة ، وزرنا إبراهيم بن أدهم رضي‌الله‌عنه ثانية ، ثم إلى مدينة اللاذقية ، وقد تقدم لنا ذكر هذه البلاد كلّها.

ومن اللاذقية ركبنا في قرقورة كبيرة (٦) للجنويين يسمّى صاحبها بمرتلمين (٧) وقصدنا برّ التّركيّة المعروف ببلاد الروم ، وانّما نسبت إلى الروم لأنّها كانت بلادهم في القديم ، ومنها الروم الأقدمون واليونانية (٨) ، ثم استفتحها المسلمون ، وبها الآن كثير من النصارى

__________________

(٥) حول عيذاب ، انظر ج ١ فصل ٢ تعليق ٢٠٨ وحول حميثرا ، والشاذلي ، انظر ج ١ ص ٤٠ تعليق ٢١ ـ ٢٣ ، ٢٧ وحول العطواني ، انظر ج ١ ص ١٠٩ تعليق ١٨٧ ـ يلاحظ أنّ ابن بطوطة من العطواني إلى القاهرة ـ يعيد ذكر المحطات على خلاف الترتيب الذي قدمه في السفرة السابقة ـ تراجع المسالك التي مرّ بها المرة الأولى.

(٦) القرقورة تعني سفينة تجارية كبيرة تتوفر على اثنين أو ثلاثة جسور. ويلاحظ أن المركب تابع لأسطول جنوة التي كانت على ذلك العهد في قمة ملّاك السفن التجارية العاملة بالمشرق ...

(٧) مرتلمين لعل القصد إلى (Bartolomeo) على ما تقدر الترجمة الفرنسية.

(٨) الرّوم هو الاسم الذي أطلق من لدن العرب ثم الاتراك على البيزنطيين الاغريق ولكنه أطلق كذلك على الرومان القدماء بينما أطلقت كلمة اليونان على الاغريق القدماء عندما نقول مثلا الطب اليوناني ...

١٦٠