رحلة ابن بطوطة - ج ٢

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي

رحلة ابن بطوطة - ج ٢

المؤلف:

شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي


المحقق: عبد الهادي التازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أكاديمية المملكة المغربية
الطبعة: ٠
ISBN: 9981-46-008-7
ISBN الدورة:
9981-46-006-0

الصفحات: ٢٦٨

عندهم كثير والألبان والسمن ومنها يجلب إلى مكّة وحبوبهم الجرجور وهو نوع من الذرة كبير الحبّ يجلب منها ايضا إلى مكّة.

ذكر سلطانها

وكان سلطان جزيرة سواكن حين وصولي اليها الشريف زيد بن أبي نمّى (١٢) وأبوه أمير مكّة وأخواه أميراها بعده ، وهما عطيفة ورميثة اللذان تقدّم ذكرهما ، وصارت إليه من قبل البجاة فانّهم أخواله ، ومعه عسكر من البجاة وأولاد كاهل وعرب جهينة.

وركبنا (١٣) البحر من جزيرة سواكن نريد أرض اليمن ، وهذا البحر لا يسافر فيه بالليل لكثرة أحجاره وانّما يسافرون فيه من طلوع الشمس إلى غروبها ويرسون وينزلون إلى البرّ ، فإذا كان الصباح صعدوا إلى المركب وهم يسمّون رئيس المركب الرّبان (١٤) ، ولا يزال أبدا في مقدم المركب ينبّه صاحب السكّان (١٥) على الأحجار ، وهم يسمّونها النّبات.

وبعد ستّة أيّام من خروجنا عن جزيرة سواكن وصلنا إلى مدينة حلي (١٦) ، وضبط اسمها بفتح الحاء المهمل وكسر اللام وتخفيفها ، وتعرف باسم ابن يعقوب وكان من سلاطين

__________________

(١٢) لم نجد أثرا لهذه الشخصية ضمن أمراء أسرة أبي نمى ... فهو إذن من المعلومات التي استأثر بها ابن بطوطة. ـ العصامي المالكي (ت ١٠٤٩ ه‍) : سمط النّجوم العوالي ج ٤ ، ١٨٧ ـ المطبعة السلفية القاهرة ١٩٨٠.

(١٣) جهينة قبيلة في جنوب الجزيرة العربية ينتمي إليها عدد من القبائل الحميرية الساكنة بالسودان ، كحالة : معجم قبائل العرب. ـ أنظر دائرة المعارف

Mac Michael : History of the Arabs in the sudan, Cambridge ٢٢٩١

(١٤) الرّبان يعني السائق وليس صاحب المركب الذي يحمل اسم ناخوذا فإن بينهما فرقا يلاحظ من خلال النصوص Hourani : ARAB Seafaring ,Prinston ١٥٩١.

(١٥) السّكّان :(La proue) ، مقدّم السفينة الذي به يتحكم في سيرها ، ومنه قول طرفة ابن العبد :

وأتلع نهاض إذا صعّدت به

كسكّان بوصيّ بدجلة مصعد

حسن صالح شهاب : المراكب العربية ص ١٦٦ مصدر سابق.

(١٦) حلي يضبطها ابن بطوطة كما رأينا بينما يضبطها ياقوت بتسكين اللام على وزن ظبي ، ويقتفي ابن المجاور الخزرجي معجم البلدان في هذا ، وهي مدينة كبيرة على الطريق الذي يربط مكة بصنعاء وقول ابن بطوطة إنها تعرف باسم ابن يعقوب يعني أنها تسمى حلية ابن يعقوب وبهذا وردت عند الخزرجي كثيرا عند ما يتحدث عن الطريق الذاهبة إلى مكة ... ـ الخزرجي : العقود اللؤلؤية ج I ، ١٣٧ ص ٥٣.

ـ أما عن يعقوب فنظن أن القصد إلى محمد بن يوسف بن يعقوب الأبناوي الذي ولى قضاء صنعاء من قبل المنصور وتوفي ١٥٣ ه‍ المقحفي معجم البلدان والقبائل اليمنية ـ دار الكلمة صنعاء ١٤٠٦ ١٩٨٥ ص ٩. ومرسى حلي هذا عبارة عن ميناء محمي يوجد الآن في إقليم عسير على الخط ٣١ ١٨ شمالا وخط ١٩ ٤١ شرقا ...

١٠١

اليمن ساكنا بها قديما وهي كبيرة حسنة العمارة يسكنها طائفتان من العرب وهم بنو حرام وبنو كنانة (١٧) ، وجامع هذه المدينة من أحسن الجوامع وفيه جماعة من الفقراء المنقطعين إلى العبادة منهم الشيخ الصالح العابد الزاهد قبولة الهنديّ من كبار الصالحين ، لباسه مرقّعة وقلنوسة لبد ، وله خلوة متّصلة بالمسجد فرشها الرمل ، لا حصير بها ولا بساط ، ولم أر بها حين لقاءي له شيئا الا إبريق الوضوء ، وسفرة من خوص النخيل فيها كسر شعير يابسة ، وصحيفة فيها ملح وصعتر ، فإذا جاءه أحد قدّم بين يديه ذلك ، ويسمع به أصحابه فيأتي كلّ واحد منهم بما حضره من غير تكلّف شيء وإذا صلّوا العصر اجتمعوا للذّكر بين يدي الشيخ إلى صلاة المغرب وإذا صلّوا المغرب أخذ كلّ واحد منهم موقفه للتنفّل فلا يزالون كذلك إلى صلاة العشاء الآخرة فإذا صلوا العشاء الآخرة أقاموا على الذّكر إلى ثلث الليل ثم انصرفوا ويعودون في أوّل الثلث الثالث إلى المسجد ، فيتهجّدون إلى الصبح ثم يذكرون إلى أن تحين صلاة الإشراق فينصرفون بعد صلاتها. ، منهم من يقيم إلى أن يصلّي صلاة الضّحى بالمسجد ، وهذا دأبهم أبدا ولقد كنت أردت الاقامة معهم باقي عمري فلم أوفق لذلك والله تعالى يتداركنا بلطفه وتوفيقه!

ذكر سلطان حلي

وسلطانها عامر بن ذؤيب من بني كنانة (١٨) وهو من الفضلاء الأدباء الشعراء صحبته من مكّة إلى جدّة وكان حجّ في سنة ثلاثين ، ولمّا قدمت مدينته أنزلني وأكرمني وأقمت في ضيافته أيّاما وركبت البحر في مركب له فوصلت إلى بلدة السرجة (١٩) ، وضبط اسمها بفتح السين المهمل واسكان الرّاء وفتح الجيم ، بلدة صغيرة يسكنها جماعة من أولاد

__________________

(١٧) بنو حرام والنسبة اليهم حرامي قبيلة من نهد اليمن ، وبنو كنانة يرجعون في الأصل إلى شمال الجزيرة ـ عمر رضا كحالة : معجم قبائل العرب ، المطبعة الهاشمية ـ دمشق ١٩٤٩ ١٣٦٨ م ج I ص ٢٣٧ ـ ج III ص ٩٩٦.

(١٨) يذكر ابن المجاور ص ٥٣ أن مدينة حلي تعرضت للتخريب أيام دولة سيف الإسلام طغتكين ابن أيوب وبقيت كذلك إلى أن أعاد بناءها موسى بن علي بن عقبة ... ويضيف ابن بطوطة هذه المعلومات الجديدة التي يستأثر بها وخاصة ما يتصل بأميرها عامر بن ذويب الكناني.

(١٩) السرجة ضبطها ياقوت بفتح الشين المعجمة ، وليس بالسين المهمل كما ذكره ناسخ ابن بطوطة ، قال ياقوت. بلدة صغيرة تسكنها جماعة من أولاد الهبي من تجار اليمن ... وبعد أن أثنى عليهم قال عن البلدة : إنها لا اسم ولا رسم! وهي اليوم محطة استراحة في طريق صنعاء ـ مكة : كما يقول زميلنا الأستاذ الأكوع : عشر محطات قبل حلي ـ وقد تردد ذكرها عند الخزرجي في العقود اللؤلؤية ـ انظر معجم البلدان والقبائل اليمنية.

١٠٢

الهبي (٢٠) ، وهم طائفة من تجار اليمن أكثرهم ساكنون بصعداء (٢١) ولهم فضل وكرم واطعام لابناء السبيل ، ويعينون الحجّاج ويركبونهم في مراكبهم ، ويزوّدونهم من أموالهم وقد عرفوا بذلك واشتهروا به ، وكثّر الله أموالهم وزادهم من فضله وأعانهم على فعل الخير.

وليس بالأرض من يماثلهم في ذلك إلّا الشيخ بدر الدين النقّاس الساكن ببلدة القحمة(٢٢)، فله مثل ذلك من الماثر والائثار.

وأقمنا بالسّرجة ليلة واحدة في ضيافة المذكورين ، ثمّ رحلنا إلى مرسى الحادث (٢٢) ولم ننزل به ، ثم إلى مرسى الأبواب (٢٤) ثم إلى مدينة زبيد ، (٢٥) مدينة عظيمة باليمن بينها وبين صنعاء أربعون فرسخا وليس باليمن بعد صنعاء أكبر منها ولا أغنى من أهلها ،

__________________

(٢٠) ترسمها مخطوطة (الخزانة الملكية) الهبي ، وهو ما يوجد في بعض مخطوطات باريز وهي التي اعتمدها گيب (Gibb) على تقدير أنها نسبة إلى الشريف عز الدين هبة بن الفضل العلوي الذي كان يسكن أولاده في السرجة (بالسين) ، وقد زكّى هذه النسبة زميلنا الشيخ محمد بن علي الأكوع محقق كتاب (المفيد في أخبار صنعاء وزبيد) لنجم الدين عمارة اليمني المتوفى سنة ٥٦٩ ه‍ ١١٧٤ ـ الخزرجي : العقود اللؤلؤية في تاريخ الدول الرسولية ... ج i ص ٩٧ ـ ١٢٣ ـ ١٣٠.

(٢١) صعداء هكذا في بعض النسخ المخطوطة والصواب صعدة : وهي كما في معجم البلدان والقبائل اليمنية للمقحفي : مدينة تاريخية في الشمال من صنعاء بمسافة ٢٤٣ ك ، م. على ارتفاع ٢٢٦١ مترا عن سطح البحر ، كانت تسمى قديما باسم جماع ... المعجم ص ٣٩٠ ـ ٣٩١.

(٢٢) ليس القصد إلى (القحمة) الموجودة في عسير بن حلي وجيزان ، ولكنها الناحية التي تقع على بعد تسعة أميال شمال مدينة زبيد بين الفقيه والمنصورية ، وقد تردد ذكرها كثيرا في المصادر اليمنية ... الخزرجي : العقود اللؤلؤية ـ معجم البلدان والقبائل اليمنية للمقحفي ـ ص ٥١٦.

(٢٣) الحادث لم نجد صدى لهذا العلم الجغرافي ، في المصادر اليمنية التي نتوفر عليها ، ولهذا فإننا نشاطر گيب الرأي في تعذر تحديد الموقع ...

(٢٤) بعض النسخ ترسم (الأهواب) ولكن بعضها : نسخة الخزانة الملكية رقم ٨٤٨٨ ، ونسخة گايانگوس وبعض نسخ باريز ترسمها الأبواب وهو الصواب ، ونعتقد أنها الأبواب الستة التي ذكرها ابن المجاور عندما كان يتحدث عن نزول مركب من المغرب في ميناء عدن : باب الصناعة وباب السكة ... وهما بابان يخرج منهما السيل إذا نزل الغيث بعدن ، وباب الفرضة ، ومنه تدخل البضائع وتخرج ، وباب مشرف ... وباب حيق ... وباب البر ، بيد أن موقعها اليوم مجهول وربما كانت موجودة على مقربة من الميناء الحالي : (الفازة) القريبة من زبيد ... تاريخ المستبصر لابن المجاور ص ١٣٨.

(٢٥) زبيد ، (بفتح الزّاي المدينة ، وبضمها القبيلة) ترجع المدينة للعصر الوسيط ، أسسها محمد بن عبد الله ابن زياد الأموي بأمر سلطانه عبد الله المأمون بن هارون الرشيد عام ٢٠٤ ٨٢١ م وان أهم ميناء زبيد كان هو (غلافقة) على بعد ٢٥ ميلا شمال غرب المدينة ، وفي سنة ٨٢٢ أسس الملك الناصر أحمد الرسول ميناء الفازة فضعفت (غلافقة) ثم تعرضت للدّمار في القرن العاشر الهجري وتعتبر زبيد عاصمة للسهول اليمنية التي تحتضن أهل السنة وتقابل النجود العليا التي يستقر فيها الشيعة الزيدية. والتي تعتبر صنعاء عاصمة لها ـ معجم البلدان والقبائل اليمنية.

ابن الديبع : بغية المستفيد في تاريخ مدينة زبيد ، تحقيق عبد الله الحبشي ، مركز الدراسات اليمانية ، صنعاء ١٩٧٩ ـ قرة العيون بأخبار اليمن الميمون ، تحقيق : محمد بن علي الأكوع الحوالي ، ج ١ ، ص ٢٢ / ٢٣ ، تعليق ٢.

١٠٣

١٠٤

واسعة البساتين كثيرة المياه والفواكه من الموز وغيره وهي برّيّة لا شطّيّة إحدى قواعد بلاد اليمن ، وهي بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة ، مدينة كبيرة كثيرة العمارة بها النخل والبساتين والمياه ، أملح بلاد اليمن وأجملها ولأهلها لطافة الشمائل وحسن الأخلاق وجمال الصور ولنسائها الحسن الفائق الفائت وهي وادي الحصيب الذي يذكر في بعض الآثار أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاذ في وصيّته : يا معاذ إذا جئت وادي الحصيب فهرول!! (٢٦)

ولأهل هذه المدينة سبوت النخل المشهورة (٢٧) ، وذلك انّهم يخرجون في أيّام البسر والرّطب في كلّ سبت إلى حدائق النخل ، ولا يبقى بالمدينة أحد من أهلها ولا من الغرباء ، ويخرج أهل الطرب وأهل الاسواق لبيع الفواكه والحلاوات ، وتخرج النساء ممتطيات الجمال في المحامل ، ولهنّ مع ما ذكرناه من الجمال الفائت الاخلاق الحسنة والمكارم (٢٨) ، وللغريب عندهنّ مزيّة ولا يمتنعن من تزوّجه كما يفعله نساء بلادنا ، فإذا أراد السفر خرجت معه وودّعته وإن كان بينهما ولد فهي تكفله وتقوم بما يجب له إلى أن يرجع أبوه ولا تطالبه في أيّام الغيبة بنفقة ولا كسوة ولا سواها وإذا كان مقيما فهي تقنع منه بقليل النفقة والكسوة لاكنّهنّ لا يخرجن عن بلدهنّ أبدا ولو أعطيت إحداهن ما عسى أن تعطاه على أن تخرج عن بلدها لم تفعل.

وعلماء تلك البلاد وفقهاؤها أهل صلاح ودين وأمانة ومكارم وحسن خلق ، ولقيت بمدينة زبيد الشيخ العالم الصالح أبا محمّد الصنعانيّ ، والفقيه الصوفي المحقّق أبا العباس الأبيانيّ ، والفقيه المحدّث أبا عليّ الزّبيديّ ، ونزلت في جوارهم فأكرموني وأضافوني ، ودخلت حدائقهم واجتمعت عند بعضهم بالفقيه القاضي العالم أبي زيد عبد الرحمن الصوفي أحد

__________________

(٢٦) يظهر أن ابن المجاور لم يكن متفقا مع ابن بطوطة حول الحسن الفائق الفائت فقد وجدناه في كتابه صفة اليمن ص ٢٤٦ يقسم بالله الرحمن الرحيم أنه ما رأى في جميع اليمن سهلها وجبالها وجها حسنا ... ما ترى إلا عجائز سوء ...!! وأعتقد أن ظروف الرجلين كانت تختلف فتنوعت لذلك الآراء! هذا ولا يخفى ما في الأثر الشريف من دعابة لطيفة لمبعوثه معاذ بن جبل الذي نعرف عن مكانته لدى الرسول عليه الصلوات!

(٢٧) هذا العيد تردد الحديث عنه في كتب التاريخ ويظهر أن أصله يرجع إلى عادة وثنية تضرب في جذور التاريخ القديم ويتحدث الخزرجي في ترجمته لأبي الربيع سليمان الفقيه الحنفي ... عن أنه لما ظهرت السبوت في زبيد وعمل فيها المنكر هاجر إلى الحبشة ج I ص ١١٢ ـ وانظر ابن المجاور ص ٧٨ ـ ٧٩ عند حديثه عن النخل ...

(٢٨) راجع التعليق السابق رقم ٢٦.

١٠٥

فضلاء اليمن ووقع عنده ذكر العابد الزاهد الخاشع أحمد بن العجيل اليمنيّ (٢٩) وكان من كبار الرجال وأهل الكرامات.

كرامة ، ذكروا أنّ فقهاء الزيديّة وكبراءهم أتوا مرّة إلى زيارة الشيخ أحمد بن العجيل فجلس لهم خارج الزاوية واستقبلهم أصحابه ولم يبرح الشيخ عن موضعه فسلّموا عليه وصافحهم ورحّب بهم ووقع بينهم الكلام في مسألة القدر (٣٠) ، وكانوا يقولون : أن لا قدر ، وان المكلّف يخلق أفعاله ، فقال لهم الشيخ : فإن كان الأمر على ما تقولون فقوموا عن مكانكم هذا فأرادوا القيام ، فلم يستطيعوا ، وتركهم الشيخ على حالهم ودخل الزاوية ، وأقاموا كذلك واشتدّ بهم الحرّ ولحقهم وهج الشمس وضجّوا ممّا نزل بهم ، فدخل اصحاب الشيخ إليه وقالوا له إن هؤلاء القوم قد تابوا إلى الله ورجعوا عن مذهبهم الفاسد ، فخرج عليهم الشيخ فأخذ بأيديهم وعاهدهم على الرجوع إلى الحقّ وترك مذهبهم السّيء ، وأدخلهم زاويته فاقاموا في ضيافته ثلاثا وانصرفوا إلى بلادهم.

وخرجت لزيارة قبر هذا الرجل الصالح وهو بقرية يقال لها : غسانة (٣١) خارج زبيد ، ولقيت ولده الصالح أبا الوليد إسماعيل (٣٢) فأضافني وبتّ عنده ، وزرت ضريح الشيخ وأقمت معه ثلاثا ، وسافرت في صحبته إلى زيارة الفقيه أبي الحسن الزيلعيّ (٣٣) ، وهو من كبار الصالحين ويقدم حجّاج اليمن اذا توجّهوا للحجّ ، وأهل تلك البلاد وأعرابها يعظمونه

__________________

(٢٩) لم نقف على من ردد صدى لذكر هؤلاء السادة العلماء الصنعاني الذي ينتسب لصنعاء ، والأبياني المنتسب لأبيان شرقي عدن ، على بعد ٣٠ ميلا منها أما عن العجيل فيتأكد لي أنه الفقيه الذي سيرد ذكره عند الخزرجي في كتابه العقود اللؤلؤية والذي يحمل اسم أحمد بن موسى بن علي بن عمر بن عجيل المتوفى عام ٦٩٠.

ـ الخزرجي : العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية تحقيق الزميل محمد بن علي الأكوع الحوالي اليمني ، طبعة ثانية ١٤٠٣ ١٩٨٣ مركز الدراسات والبحوث اليمني صنعاء.

(٣٠) نظرية المعتزلة التي كان الزيدية يقولون بها ...

(٣١) قرية عرفت أيضا منذ ذلك العهد تحت اسم" بيت الفقيه" وما تزال إلى الآن مشهورة بذلك ، وهي بالجنوب الشرقي من الجزيرة بمسافة ٣٥ ك. م. ونسبت إلى الفقيه العارف أحمد بن موسى بن علي بن عجيل سالف الذكر في التعليق ٢٩ ـ لأنه أول من سكن فيها وأنشأ بها ملاجئ للزّمنى والفقراء والمريدين ـ معجم البلدان والقبائل اليمنية.

(٣٢) حسب ما ذكره الخزرجي فإن إسماعيل بن أحمد بن عجيل توفي عام ٧١٧ ١٣١٧. العقود اللؤلؤية ج I ص ٢٢١ تحقيق محمد الأكوع ، مصدر سابق.

(٣٣) القصد إلى أبي الحسن علي بن أبي بكر بن محمد الزيلعي ـ العقيلي صاحب قرية السلامة من وادي نخلة وكان أصل بلدهم بطّة ، قرية من قرى الحبشة ولذلك يقال لهم بنو الزيلعي ، كان أول من قدم منهم إلى قرية السلامة جدّهم محمّد كان كثير الحج أدركه أجله بمكة اخر شهر ذي الحجة من عام ٧٢٩ ١٣٢٩ : الخزرجي : العقود اللؤلؤية ج ٢ ، ص ٥٣ ـ ٥٤ مصدر سابق.

١٠٦

ويحترمونه. فوصلنا إلى جبله (٣٤) وهي بلدة صغيرة حسنة ذات نخل وفواكه وأنهار ، فلمّا سمع الفقيه أبو الحسن الزيلعيّ بقدوم الشيخ أبي الوليد استقبله وأنزله بزاويته وسلّمت عليه معه ، وأقمنا عنده ثلاثة أيّام في خير مقام ، ثم انصرفنا وبعث معنا أحد الفقراء فتوجّهنا إلى مدينة تعزّ حضرة ملك اليمن ، وضبط اسمها بفتح التاء المعلوّة وكسر العين المهملة وزاء ، وهي من أحسن مدن اليمن واعظمها ، وأهلها ذوو تجبّر وتكبّر وفظاظة ، وكذلك الغالب على البلاد التي يسكنها الملوك ، وهي ثلاث محلّات إحداها يسكنها السلطان ومماليكه وحاشيته وأرباب دولته وتسمّى باسم لا أذكره ، والثانية يسكنها الأمراء والأجناد ، وتسمّى عدينة ، والثالثة يسكنها عامّة الناس وبها السوق العظمى ، وتسمّى المحالب (٣٥).

ذكر سلطان اليمن

وهو السلطان المجاهد نور الدين (٣٦) عليّ ابن السلطان المؤيد هزبر الدين داوود بن السلطان المظفّر يوسف بن عليّ ابن رسول ، شهر جدّه برسول لان أحد خلفاء بني العبّاس أرسله إلى اليمن ليكون بها أميرا ، ثم استقلّ اولاده بالملك. وله ترتيب عجيب في قعوده وركوبه ، وكنت لمّا وصلت هذه المدينة مع الفقير الذي بعثه الشيخ الفقيه أبو الحسن الزيلعيّ

__________________

(٣٤) جبلة هي المدينة التي التقى فيها ابن بطوطة بالشيخ الزيلعي ويلاحظ أنها أي جبلة لا توجد على الطريق المباشر الذي يذهب من زبيد إلى تعز كما يفهم من ابن بطوطة ، بل تقع على بعد ٧٥ ميلا شرق جنوب زبيد ، ٤٠ ميلا شمال تعز ، بضعة أميال من مدينة إب ، وتسمى جبلة قديما مدينة النهرين لأنها كانت بين نهرين ، ابتناها عبد الله بن علي الصليحي سنة ٤٥٨ وسماها جبلة باسم يهودي كان يبيع الفخار فيها ، ثم انتقل إليها أحمد بن علي ابن محمد الصليحي وزوجته الملكة أروى بنت أحمد الذي فوض أمر المملكة إليها وصارت جبلة بعد ذلك عاصمة للدولة الصليجية ... وللسيدة أروى بنت أحمد مآثر كثيرة في جبلة ... معجم البلدان ـ لياقوت ومعجم البلدان والقبائل اليمنية. ص ١٢٢.

(٣٥) ذكرت (تعز) من قبل ياقوت وكذلك ابن المجاور على أنها قلعة عظيمة من قلاع اليمن المشهورات وقد بلغت أوجها أيام حكم بني رسول. ونذكر هنا أن اسم المحلة الأولى التي نسي ابن بطوطة هي على ما يظهر (المعزية) ، وعدينة تقع في لحف الحصن على ما عند ابن المجاور (ص ٢٣٣) أما المحالب فلم يتردد لها ذكر على ما يبدوا في غير رحلة ابن بطوطة ... ويتحدث ابن المجاور (ص ٥٨ ـ ٦٣) عن المحالب كموقع جغرافي كان مدينة على بعد ثلاثة فراسخ شمال وادي سردود ، هذا ويجدر التساؤل حول ما نعت به ابن بطوطة سكان العواصم من التجبر والتكبّر والفظاظة ...

(٣٦) هذا هو الملك الخامس من دولة بني رسول الغسانيين وقد خصصت المصادر اليمنية حيزا كبيرا لهذه الدولة التي كان لها أثر كبير في صنع تاريخ اليمن ...

الخزرجي : العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية تحقيق محمد الأكوع مركز الدراسات والبحوث اليمنى طبعة ثانية ١٤٠٣ ١٩٨٣ ـ ابن الديبع : كتاب قرة العيون بأخبار اليمن الميمون تحقيق : محمد بن علي الأكوع الحوالي ، ج ٢ ، ص ٧٥. ـ بغية المستفيد في تاريخ مدينة زبيد ، تحقيق : عبد الله الحبشي ـ مركز الدراسات والبحوث اليمنى ـ صنعاء ١٩٧٩.

١٠٧

١٠٨

في صحبتي ، قصد بي إلى قاضي القضاة الإمام المحدّث صفيّ الدين الطبريّ المكّي (٣٧) فسلمنا عليه ورحّب بنا وأقمنا بداره في ضيافته ثلاثا ، فلمّا كان في اليوم الرابع وهو يوم الخميس ، وفيه يجلس السلطان لعامّة الناس دخل بي عليه فسلّمت عليه ، وكيفيّة السلام عليه أن يمسّ الانسان الأرض بسبّابته ، ثمّ يرفعها إلى رأسه ، ويقول : ادام الله عزّك ، ففعلت كمثل ما فعله القاضي ، وقعد القاضي عن يمين الملك ، وأمرني فقعدت بين يديه فسألني عن بلادي وعن مولانا أمير المسلمين جواد الأجواد أبي سعيد رضي‌الله‌عنه (٣٨) ، وعن ملك مصر وملك العراق وملك اللّور ، فأجبته عمّا سأل من أحوالهم وكان وزيره بين يديه فأمره بإكرامي وإنزالي.

وترتيب قعود هذا الملك أنّه يجلس فوق دكّانة مفروشة مزيّنة بثياب الحرير ، وعن يمينه ويساره أهل السلاح ، ويليه منهم أصحاب السيوف والدّرق ، ويليهم أصحاب القسيّ ، وبين يديهم في الميمنة والميسرة الحاجب ، وأرباب الدولة وكاتب السرّ وأمير جندار على رأسه ، والشاوشيّة ، وهم من الجنادرة وقوف على بعد ، فإذا قعد السلطان صاحوا صيحة واحدة : بسم الله ، فإذا قام فعلوا مثل ذالك ، فيعلم جميع من بالمشور وقت قيامه ووقت قعوده ، فإذا استوى قاعدا دخل كلّ من عادته أن يسلّم عليه فسلّم ووقف حيث رسم له في الميمنة أو الميسرة لا يتعدّى أحد موضعه ولا يقعد إلّا من أمر بالقعود. ويقول السلطان للأمير جندار : مر فلانا يقعد ، فيتقدّم ذلك المأمور بالقعود عن موقفه قليلا ، ويقعد على بساط هنالك بين أيدي القائمين في الميمنة والميسرة ، ثم يوتي بالطعام ، وهو طعامان طعام العامّة وطعام الخاصّة ، فأمّا الطعام الخاصّ فيأكل منه السلطان وقاضي القضاة والكبار من الشرفاء ومن الفقهاء والضيوف وأمّا الطعام العامّ فيأكل منه سائر الشرفاء والفقهاء والقضاة والمشايخ والأمراء ووجوه الأجناد ، ومجلس كلّ انسان للطعام معيّن لا يتعدّاه ، ولا يزاحم أحد منهم أحدا. وعلى هذا الترتيب سواء هو ترتيب ملك الهند في طعامه ، فلا أعلم هل أن سلاطين الهند أخذوا ذلك عن سلاطين اليمن أم سلاطين اليمن أخذوه عن سلاطين الهند.

__________________

(٣٧) أسرة الطبري اشتهرت بالقضاء في مكة أبا عن جد طوال هذه الفترة ، بيد أننا لم نقف على مصدر يتحدث عن هذا الطبري الذي ذكره ابن بطوطة والذي يمكن أن يكون محمد بن يوسف بن علي بن محمد الفزاري قاضي تعز الذي توفي يوم عرفة عام ٧٤٢ ـ ١٦ ماي ١٣٤٢. وهذه معلومات استأثر بها الرحالة المغربي ـ الدرر ج ٥ ص ٧٦.

(٣٨) إذا ما عرفنا أنّ ابن بطوطة اجتمع بسلطان اليمن أواخر سنة ٧٣٠ ـ ١٣٣٠ عرفنا اذن أن الرحالة المغربي ظل على صلة بأخبار السلطان أبي سعيد المريني الذي إنّما أدركته الوفاة يوم ذي القعدة ٧٣١ ـ ٣٠ غشت ١٣٣١ ـ جندار يعني رئيس الحرس الخاص ـ الشاوشية ، كلمة تركية تعني الخدم الذين يراقبون الأبواب ...

١٠٩

١١٠

وأقمت في ضيافة سلطان اليمن أيّاما ، وأحسن إليّ وأركبني ، وانصرفت مسافرا إلى مدينة صنعاء (٣٩) ، وهي قاعدة بلاد اليمن الأولى ، مدينة كبيرة حسنة العمارة بناؤها بالأجرّ والجصّ ، كثيرة الأشجار والفواكه والزرع معتدلة الهواء طيّبة الماء ، ومن الغريب أن المطر ببلاد الهند واليمن والحبشة إنّما ينزل في أيام القيظ ، وأكثر ما يكون نزوله بعد الظهر (٤٠) من كلّ يوم في ذلك الأوان، فالمسافرون يستعجلون عند الزوال لئلّا يصيبهم المطر ، وأهل المدينة ينصرفون إلى منازلهم لأن امطارها وابلة متدفّقة.

ومدينة صنعاء مفروشة كلّها فإذا نزل المطر غسل جميع أزقّتها وأنقاها وجامع صنعاء من أحسن الجوامع ، وفيه قبر نبيّ من الأنبياء عليهم‌السلام.

ثمّ سافرت منها إلى مدينة عدن (٤١) مرسى بلاد اليمن على ساحل البحر الاعظم ، والجبال تحفّ بها ولا مدخل اليها الّا من جانب واحد ، وهي مدينة كبيرة ولا زرع بها ولا شجر ولا ماء ، وبها صهاريج يجتمع فيها الماء أيّام المطر (٤٢) والماء على بعد منها فربّما منعته العرب وحالوا بين أهل المدينة وبينه حتّى يصانعوهم بالمال والثياب ، وهي شديدة الحرّ ،

__________________

(٣٩) تقع صنعاء على بعد ١١٣ ميلا شمال تعز على خط مباشر والتوجه إليها من تعز والعودة إلى عدن يستغرق مسافة هامة ، هذا وقد كتب الناس كثيرا عن صنعاء العاصمة ، وقد كان فيمن تحدث عنها ناصر خسرو (٤٤٤ ١٠٥٢) في مذكراته ، سفرنامه (ص ١٤٢) قائلا : ان بها قصر غمدان الذي بقي منه ما يشبه التل في وسط صنعاء ... وان بها يصنعون العقيق : حجارة تقطع من الجبل وتشوى على النار في بواتق محاطة بالرمل ثم تعرض لحرارة الشمس وبعد هذا يصقلها الحوّاكون ... ويذكر ابن المجاور (ص ١٨١) أن القصر بقي إلى أيام خلافة عمر بن الخطاب الذي أمر بهدمه ... وأن بدر الدين حسن بن علي بن رسول بني في موضعه قصرا عظيم الهيكل سنة ٦١٨ ...

(٤٠) نفس المعلومات التي قدمها الينا ابن المجاور في كتابه" تاريخ المستبصر" : يهب عند كل عصر هواء بارد ... وبعده تكلل الأفق بالغمام وينزل الغيث ساعة زمانية ثم يصحو ص ١٥٩.

(٤١) تقع عدن على بعد نحو ٨٥ ميلا جنوب شرقي تعز ... وقد تحدث ابن المجاور ص ١٥٥ عن محطات الطريق بتفصيل من" الجوة الى عدن والى تعز" ميناء هام عند مضيق باب المندب ... محاطة بالجبال من ثلاث جهات : جبل شمسان من الغرب والشمال وجبل صيرة من الجنوب الغربي ... لها تجارة واسعة مع بلاد الهند ومصر وخاصة في التوابل والبهارات فهي فعلا ملتقى التجار

G. Wiet. Les marchands d\'epices sous les sultans mamlouks, in Cahiers d\'Ilistoires egyptienne, Cairo ٥٥٩١, VII / ٢. ١٨ ـ ٧٤١.

(٤٢) لقد تركت تقاليد بناء السدود ومخازن الماء المعروفة في اليمن منذ عهد سبأ ، آثارها في منطقة عدن ، وقد زرت صهاريج عدن صباح ١٤ شتنبر ١٩٩٢ حيث قرأت نقشا فيه ما ياتي : ١٨٩٩ / ٢ ـ ٢٠ (Playfaire Tank) ، وقد ذكر بلايفير هذا في تقريره عن صهاريج عدن أن البعثة الفرنسية التي زارت المدينة عام ١٧٠٨ وجدت الصهريج يستعمل من قبل الأهالي ... ـ ابن المجاور : صفةبلاد اليمن ... تصحيح أوسكار لوفگرين : O.Lofgren طبعة ثانية ١٤٠٧ ـ ١٩٨٦ منشورات المدينة ، واغتنم هذه الفرصة لأشكر زميلي الأستاذ الدكتور حسين عبد الله العمري سفير الجمهورية اليمنية في لندن على مساعدته الثمينة.O.Lofgren ADANENCY de Islam ـ حسن صالح شهاب : عدن فرضة اليمن ، مركز الدراسات والبحوث اليمني ، صنعاء ١٤١٠ ١٩٩٠ ، ص ١٩٦ ، تعليق ١٢. محيرز : صهاريج عدن ...

١١١

١١٢

وهي مرسى أهل الهند تأتي إليها المراكب العظيمة من كنباية وتانة ، وكولم ، وقالقوط ، وفندرانية ، والشاليات ، ومنجرور ، وفاكنور ، وهنور ، وسندابور ، وغيرها (٤٣) ، وتجار الهند ساكنون بها وتجار مصر ايضا.

وأهل عدن ما بين تجار وما بين حمّالين وصيّادين للسّمك وللتجار منهم أموال عريضة وربّما يكون لأحدهم المركب العظيم بجميع ما فيه لا يشاركه فيه غيره لسعة ما بين يديه من الأموال ، ولهم في ذلك تفاخر ومباهاة.

حكاية [كبش يعتق عبدا]

ذكر لي أن بعضهم (٤٤) بعث غلاما له ليشتري له كبشا وبعث اخر منهم غلاما له برسم ذلك أيضا ، فاتّفق أنّه لم يكن بالسوق في ذلك اليوم إلّا كبش واحد فوقعت المزايدة فيه بين الغلامين ، فانتهى ثمنه إلى أربع مائة دينار ، فأخذه أحدهما ، وقال : إنّ رأس مالي أربع مائة دينار، فإن أعطاني مولاي ثمنه فحسن والّا دفعت فيه رأس مالي ونصرت نفسي وغلبت صاحبي ، وذهب بالكبش إلى سيّده فلمّا عرف سيّده بالقضية أعتقه وأعطاه الف دينار وعاد الآخر إلى سيّده خائبا فضربه وأخذ ماله ونفاه عنه!

ونزلت في عدن عند تاجر يعرف بناصر الدين الفأريّ. فكان يحضر طعامه في كلّ ليلة نحو عشرين من التجار ، وله غلمان وخدّام أكثر من ذلك ، ومع هذا كلّه فهم أهل دين وتواضع وصلاح ومكارم أخلاق يحسنون إلى الغريب ويؤثرون على الفقير ، ويعطون حقّ الله من الزكاة على ما يجب ، ولقيت بهذه المدينة قاضيها الصالح سالم بن عبد الله الهنديّ ، وكان والده من العبيد الحمّالين واشتغل ابنه بالعلم فرأس وساد ، وهو من خيار القضاة وفضلائهم ، أقمت في ضيافته أيّاما.

__________________

(٤٣) كنباية (CANBAY) في الجزرات ، وتانه (TANA) على مقربة من بومباي ، وكولم (QULILON) في الطريق الجنوبي للهند وقالقوط (CALICUT) وفندرانية (PANDALAYINI) في شمال قالقوط ، وسندابور (BEYPARE) جنوب قاليقوط ومنجرور (MANGALORE) وفاكنور (BACCANORE) وهنور (HANAVAR) وكوا ، مجموع هذه المدن موانئ في الساحل الغربي للهند، وسيأتي وصفها في السفر الثاني إن شاء الله.

(٤٤) نفس الأسطورة حكاها ابن المجاور صفحة ٦٨ بفارق : هو جعل السمك المسمى الضّيراك عوض الكبش، حكاها حول تاجرين من سيراف ...

١١٣

وسافرت من مدينة عدن في البحر أربعة أيّام (٤٥) ووصلت إلى مدينة زيلع (٤٦) وهي مدينة البربرة ، وهم طائفة من السودان (٤٧) شافعيّة المذهب وبلادهم مسيرة شهرين أوّلها زيلع وآخرها مقدشو ، ومواشيهم الجمال ولهم أغنام مشهورة السّمن.

وأهل زيلع سود الألوان وأكثرهم رافضة ، وهي مدينة كبيرة لها سوق عظيمة إلّا أنّها أقذر مدينة في المعمور وأوحشها وأكثرها نتنا ، وسبب نتنها كثرة سمكها ودماء الإبل التي ينحرونها في الأزقّة. ولمّا وصلنا إليها اخترنا المبيت بالبحر على شدّة هوله ولم نبت بها لقذرها.

__________________

(٤٥) ذهاب ابن بطوطة من عدن ينبغي أن يكون بتاريخ النصف الثاني من شهر يناير ١٣٣١ النصف الثاني من ربيع الثاني وهو التاريخ الذي يصادف فترة هبوب الرياح الموسمية من الشمال الشرقي التي تجعل السفر ممكنا ، بينما نجد تلك الرياح إنما تساعد في العودة عندما تهب من الجنوب الغربي حوالي نهاية ابريل ... يلاحظ انتقال ابن بطّوطة من قارة آسيا إلى افريقيا ...

(٤٦) زيلع : ميناء يقع في الصومال الحالية جنوب جيبوتي ... وقد كانت على ذك العهد أحد المعاقل والمنافذ الهامة ـ وحتى نتصور بعض ما سيشير اليه ابن بطوطة من حقائق تاريخية للمنطقة ينبغي أن نذكر هنا أن العمانيين أول من اتخذوا لهم مستوطنات على الساحل الشرقي لافريقيا بعد انتفاضتهم على حكم عبد الملك ابن مروان ... ثم كانت الموجة الثانية من المهاجرين الملتجئين لشرق افريقيا عندما انهزم زيد بن علي بن أبي طالب على يد انصار الخليفة واضطر انصاره للنجاة فاجتازوا البحر إلى شرق افريقيا حيث امكنهم أن يمارسو السلطة في بنادر المنطقة ، ومع النصف الثاني من القرن الرابع الهجري ٣٦٥ ٩٧٥ قدمت مجموعة أخرى من الاحساء (ناصر خسرو علوي: سفرنامه ص ١٥٨ ـ ١٥٩) حيث ابحر سبعة اخوة في ثلاث سفن ... ورفض الزّيديون الاعتراف بالقادمين الجدد فتراجعوا إلى الداخل وتزاوجوا مع الوطنيين وكان على رأس السبعة أخوهم حسن بن علي أحد أبناء حاكم شيراز ... واستوطنوا على طول أرض الساحل الشرقي التي يسميها ابن بطوطة بلاد السواحل ... حيث توقفت سفينة في جزيرة منبسى ، وتوقفت السفينة التي تقلّ حسينا في كلوة اتية الذكر الخ.

ومن هنا سمعنا عن قبائل زيلع السبع ... وسمعنا أن خطبة الجمعة تخطب باسمائهم جميعا! سمعنا عن وجود عدد كبير هنا من السادة المنحدرين من الرسول عليه الصلوات ، هذا ويطلق (جبرت) عند المصريين على المسلمين الصوماليين ومعلوم أن للجبرته رواقا خاصا في الأزهر الشريف إلى جانب رواق المغاربة.

E.PLOCHET : PATROLOGIA ORIENTAL IA ,PARIS ٠٢٩١

أحمد حمود المعمري : عمان وشرقي الجزيرة ، تعريب محمد أمين عبد الله ١٩٧٩.

(٤٧) البربرة أو بربرا يعدّهم بعض الجغرافيين العرب من القبائل التي تنسب إلى القبائل الحامية التي ليست حبشية ولا زنجية ، وهم الصوماليون بصفة خاصة ونجد ابن بطوطة هنا يتحدث عن عدّهم من السودان.

وقد ورد ذكر مدينة البربرة عند بطوليمي وعند ابن سعيد ويقول ياقوت إن لهم لغة برأسها لا يفهمها غيرهم ... وإلى بربرا تنسب الخيول الرفيعة ، وقد جاء في شعر امرئ القيس :

على كل مقصوص الذناب معاند

يريد السّرى بالليل من خيل بربرا.

١١٤

ثم سافرنا منها في البحر خمس عشرة ليلة ، ووصلنا مقدشو (٤٨) ، وضبط اسمها بفتح الميم واسكان القاف وفتح الدال المهمل والشين المعجم واسكان الواو. وهي مدينة متناهية في الكبر ، وأهلها لهم جمال كثيرة ينحرون منها المئين في كل يوم ، ولهم أغنام كثيرة وأهلها تجار أقوياء وبها تصنع الثياب المنسوبة إليها التي لا نظير لها ، ومنها تحمل إلى ديار مصر وغيرها (٤٩).

ومن عادة أهل هذه المدينة أنّه متى وصل مركب إلى المرسى تصعد الصنابق ، وهي القوارب الصغار إليه ، ويكون في كل صنبوق جماعة من شبّان أهلها فيأتي كلّ واحد منهم بطبق مغطّى ، فيه الطعام فيقدّمه لتاجر من تجار الركب ، ويقول : هذا نزيلي ، وكذلك يفعل كلّ واحد منهم ، ولا ينزل التاجر من المركب إلّا إلى دار نزيله من هؤلاء الشبّان الّا من كان كثير التردّد إلى البلد وحصلت له معرفة أهله فانه ينزل حيث شاء فإذا نزل عند نزيله باع له ما عنده واشترى له ، ومن اشترى منه ببخس أو باع منه بغير حضور نزيله فذلك البيع مردود عندهم ، ولهم منفعة في ذلك.

ولمّا صعد الشبان إلى المركب الذي كنت فيه جاء إليّ بعضهم ، فقال له أصحابي : ليس هذا بتاجر وإنما هو فقيه! فصاح بأصحابه وقال لهم : هذا نزيل القاضي ، وكان فيهم أحد أصحاب القاضي فعرّفه بذلك ، فأتى إلى ساحل البحر في جملة من الطلبة ، وبعث إليّ أحدهم فنزلت أنا وأصحابي وسلّمت على القاضي وأصحابه ، وقال لي : بسم الله نتوجّه للسلام على الشيخ ، فقلت : ومن الشيخ؟ فقال : السلطان ، وعادتهم ان يقولوا للسلطان الشيخ ، فقلت له: إذا نزلت توجّهت إليه ، فقال لي : إن العادة إذا جاء الفقيه أو الشريف أو الرجل الصالح لا ينزل حتّى يرى السلطان ، فذهبت معهم إليه كما طلبوا.

__________________

(٤٨) مقدشو (MAGADICHOU) أسس هذا المركز في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي من لدن بعض المهاجرين العرب ، وربما كانوا مسلمين من فارس ، وكان أهمّهم من ورد من شيراز ونيسابور ومن الأحساء وقد ظلت محكومة الى القرن السابع الهجري الثالث عشر الميلادي من لدن جماعة من القبائل ... اعتمد معلومات ابن بطوطة عدد من الباحثين في المنطقة وخاصة منهم كيلان Guillan في كتابه بالفرنسية.

Documents sur :: : i\'Afrique orientale ـ PARIS ٦٣٩١

(٤٩) كانت تجارة القطن هنا مزدهرة ، وقد كان القطن يشحن منها الى مصر والى الجزيرة العربية والخليج ، ولكن هذه التجارة أخذت في الانهيار بعد تحطيم المستودعات العربية من قبل البرتغال.

١١٥

ذكر سلطان مقدشو

وسلطان مقدشو ، كما ذكرناه ، إنما يقولون له الشيخ واسمه أبو بكر بن الشيخ (٥٠) عمر ، وهو في الأصل من البربرة وكلامه بالمقدشيّ ، ويعرف اللسان العربيّ ، ومن عوائده أنه متى وصل مركب يصعد إليه صنبوق السلطان ، فيسأل عن المركب من أين قدم ، ومن صاحبه ، ومن ربّانه ، وهو الرايس ، وما وسقه ، ومن قدم فيه من التجار وغيرهم ، فيعرف بذلك كلّه ويعرض على السلطان ، فمن استحقّ أن ينزله عنده أنزله.

ولمّا وصلت مع القاضي المذكور ، وهو يعرف بابن البرهان المصريّ الاصل (٥١) ، إلى دار السلطان خرج بعض الفتيان فسلّم على القاضي ، فقال له : بلّغ الامانة وعرّف مولانا الشيخ أن هذا الرجل قد وصل من أرض الحجاز ، فبلّغ ثم عاد وأتى بطبق فيه أوراق التنبول (٥٢) والفوفل ، فأعطاني عشرة أوراق مع قليل من الفوفل ، وأعطى للقاضي كذلك ، وأعطى لأصحابي ولطلبة القاضي ما بقى في الطبق وجاء بقمقم من ماء الورد الدمشقّي فسكب عليّ وعلى القاضي ، وقال: إن مولانا أمر أن ينزل بدار الطلبة وهي دار معدّة لضيافة الطلبة ، فأخذ القاضي بيدي ، وجئنا إلى تلك الدار وهي بمقربة من دار الشيخ مفروشة مرتّبة بما تحتاج إليه ثمّ أتى بالطعام من دار الشيخ ومعه أحد وزرائه وهو الموكّل بالضيوف ، فقال : مولانا يسلّم عليكم ويقول لكم : قدمتم خير مقدم ، ثم وضع الطعام ، فأكلنا وطعامهم الأرز المطبوخ بالسّمن يجعلونه في صحفة خشب كبيرة ويجعلون فوقه صحاف الكوشان (٥٣) ، وهو الإدام من الدجاج واللحم والحوت والبقول ، ويطبخون الموز قبل نضجه في اللبن الحليب ،

__________________

(٥٠) يلاحظ أن اطلاق لقب (الشيخ) على حاكم البلاد اصطلاح عرف ايضا في المغرب وخاصة في بداية عهد السعديين كما هو معروف أيضا في منطقة الخليج إلى اليوم. هذا وحول سلاطين مقدشو الى القرن العاشر الهجري السادس عشر الميلادي ، فإنه لا يعرف إلّا اثنان : الاول مؤسس الدولة في آخر القرن السادس الهجري الثاني عشر الميلادي : أبو بكر بن فخر الدين ، والثاني : أبو بكر بن الشيخ محمد الذي لم نعرفه إلا عن طريق ابن بطوطة.

(٥١) يظهر من حديث ابن بطوطة أن السكان في مقديشو امتزجوا امتزاجا بالقبائل العربية التي نزلت بساحتهم والتي كان من أكثرها نفوذا أسرة المقري (بضم الميم) التي كان أفرادها ينعتون أنفسهم بالقحطانيين ، وكان منهم القضاة والعلماء والمقرئين نذكر منهم اسماعيل بن المقري اليمني صاحب كتاب (عنوان الشرف الوافي) المحرّر بطريقة أكروباتية والمتضمن لخمسة فنون ... تراجع مادة موگاديشو في" الموسوعة الايطالية".Gibb IIP.٥٤٣ Neto ٠٥ في جنوب مقدشو تقع جزر القمر ...

(٥٢) يلاحظ تقديم أوراق التنبول هنا أيضا على نحو ما قرأناه أثناء وجود ابن بطوطة ببلاد الشام ... العادة اختفت الآن في هذه الجهات ، ولكن آثارها باقية في منطقة المحيط الهندي على ما سنرى ...

(٥٣) تقدم التعليق على الكوشان والكوشري وعلاقتهما بالكاري (Curry) ... ج II ، ص ٨٢.

١١٦

ويجعلونه في صحفة ، ويجعلون اللبن المريّب في صحفة ، ويجعلون عليه الليمون المصيّر (٦٤) ، وعناقيد الفلفل المصيّر المخلّل والمملوح ، والزنجبيل الأخضر ، والعنبا ، وهي مثل التفّاح ، ولكن لها نواة ، وهي ، إذا نضجت ، شديدة الحلاوة ، وتؤكل كالفاكهة وقبل نضجها حامضة كالليمون ، يصيّرونها في الخلّ ، وهم إذا أكلوا لقمة من الأرز أكلوا بعدها من هذه الموالح والمخلّلات ، والواحد من أهل مقدشو يأكل قدر ما تاكله الجماعة منّا ، عادة لهم وهم في نهاية من ضخامة الجسوم وسمنها ، ثم لمّا طعمنا انصرف عنّا القاضي ، وأقمنا ثلاثة أيام يوتي إلينا بالطعام ثلاث مرّات في اليوم وتلك عادتهم ، فلمّا كان في اليوم الرابع وهو يوم الجمعة جاءني القاضي والطلبة وأحد وزراء الشيخ وأتوني بكسوة ، وكسوتهم فوطة خزّيشدّها الإنسان في وسطه عوض السّراويل فانّهم لا يعرفونها ، ودرّاعة من المقطع المصريّ معلمة ، وفرجيّة (٥٥) من القدسي (٥٦) مبطّنة وعمامة مصريّة معلمة ، وأتو لأصحابي بكسى تناسبهم واتينا الجامع فصلّينا خلف المقصورة (٥٧) ، فلما خرج الشيخ من باب المقصورة سلّمت عليه مع القاضي ، فرحّب وتكلّم بلسانهم مع القاضي ، ثم قال باللسان العربيّ : قدمت خير مقدم ، وشرّفت بلادنا وانستنا ، وخرج إلى صحن المسجد فوقف على قبر والده وهو مدفون هنالك فقرأ ودعا ثم جاء الوزراء والأمراء ووجوه الاجناد فسلّموا ، وعادتهم في السلام كعادة أهل اليمن : يضع سبّابته في الأرض ثم يجعلها على رأسه ويقول : أدام الله عزّك ، ثم خرج الشيخ من باب المسجد فلبس نعليه وأمر القاضي أن ينتعل وأمرني أن أنتعل ، وتوجّه إلى منزله ماشيا وهو

__________________

(٥٤) المصيّر (بضم الميم وفتح الياء المفتوحة المشدّدة) تعبير مغربي معروف إلى اليوم ، وهو يعني الليمون المرقّد في الماء والملح ، ومنه صنعوا الفعل صيّر يصيّر الليمون مثلا ، يشبه المخلّلات عند المشارقة والطّرشي عند أهل العراق يقدم ضمن المقبّلات ويجعل فوق بعض أنواع الطعام ...

(٥٥) الفرجية وتجمع على الفراجي أو فرجيات : نوع من الثياب معروف إلى الآن بالمغرب ، وسميت بذلك لأن بها فرجا جهة الصدر أو لان أكمامها طويلة مفرجة ، وقد اعتاد المنصور السعدي أن يرتديها فسميت المنصورية ، قد كان الأجانب يلاحظون باهتمام الملابس التي يرتديها السفراء المغاربة ، ومن ثمت وجدنا وصفهم للفرجية او (المنصورية) على ما نجده عند ما زارت السفارة المغربية امستردام عام ١٦٥٩ ... هذا وقد استفاد دوزي من رحلة ابن بطوطة لإثراء معلوماته حول الملابس العربية على ما يقوله في مقدمة كتابه (المعجم المفصّل بأسماء الملابس عند العرب) ترجمة د. أكرم فاضل وزارة الإعلام ـ بغداد ١٩٧١.

S. I. H. M., Marco, Hollande T. ٤ P. ٥٠٦.

(٥٦) يعنى أن نسيج ثوب الفرجية مستورد من القدس ، وهذا ما ترجم به الاثنان (D.S) وكذلك گيب ، وكلمة القدس قريبة من كلمة القندس اتية الذكر التي تعني حيوانا معروفا بفرائه الرفيعة. ـ دوزي : المعجم المفصّل ـ مصدر سابق ـ أبو حامد الغرناطي : تحفة الألباب ص ١١٨.

(٥٧) المقصورة في المسجد عبارة عن سياج خشبي يحيط بالمحراب ويخصص للخليفة الذي يؤدي فيه الصلاة صحبة حاشيته بعيدا عن كل ما قد يهدد حياته ...

١١٧

بالقرب من المسجد ومشى الناس كلّهم حفاة ورفعت فوق رأسه أربع قباب (٥٨) من الحرير الملوّن ، وعلى كل قبّة صورة طائر من ذهب.

وكان لباسه في ذلك اليوم فرجيّة قدسي (٥٩) أخضر تحتها من ثياب مصر وطروحاتها الحسان ، وهو متقلّد بفوطة حرير معتّم بعمامة كبيرة ، وضربت بين يديه الطبول والأبواق والأنفار وأمراء الأجناد أمامه وخلفه ، والقاضي والفقهاء والشرفاء معه ، ودخل إلى مشوره على تلك الهيئة ، وقعد الوزراء والأمراء ووجوه الأجناد في سقيفة هنالك ، وفرش للقاضي بساط لا يجلس معه غيره عليه ، والفقهاء والشرفاء معه ، ولم يزالوا كذلك إلى صلاة العصر ، فلمّا صلّوا العصر مع الشيخ أتى جميع الأجناد ووقفوا صفوفا على قدر مراتبهم ، ثم ضربت الأطبال والأنفار والصّرنايات وعند ضربها لا يتحرّك أحد ولا يتزحزح عن مقامه ، ومن كان ماشيا وقف فلم يتحرّك إلى خلف ولا إلى أمام (٦١) ، فإذا افرغ من ضرب الطّبلخانة (٦٢) سلّموا بأصابعهم كما ذكرنا وانصرفوا.

وتلك عادة لهم في كل يوم جمعة وإذا كان يوم السبت ياتي الناس إلى باب الشيخ فيقعدون في سقائف خارج الدار ، ويدخل القاضي والفقهاء والشرفاء والصالحون والمشايخ والحجّاج إلى المشور الثاني فيقعدون على دكاكين خشب معدّة لذلك ، ويكون القاضي على دكّانة وحده ، وكلّ صنف على دكّانة تخصّهم لا يشاركهم فيها سواهم ، ثم يجلس الشيخ بمجلسه ويبعث عن القاضي فيجلس عن يساره ثم يدخل الفقهاء فيقعد كبراؤهم بين يديه وسائرهم يسلّمون وينصرفون ، ثم يدخل الشرفاء فيقعد كبراؤهم بين يديه ويسلّم سائرهم وينصرفون ، وإن كانوا ضيوفا جلسوا عن يمينه ، ثم يدخل المشايخ والحجّاج فيجلس كبراؤهم ويسلم سائرهم وينصرفون ، ثم يدخل الوزراء ثم الأمراء ثم وجوه الأجناد طائفة بعد طائفة أخرى فيسلّمون وينصرفون ويؤتى بالطعام فيأكل بين يدي الشيخ القاضي والشرفاء ومن كان قاعدا بالمجلس ، ويأكل الشيخ معهم ، وإن أراد تشريف أحد من كبار أمرائه بعث عنه فأكل

__________________

(٥٨) القباب يعني المظلات التي ترفع فوق رأس السلاطين ، وكان المظل شعارا من شعارات الدولة كما نعرف ، هذا ويبقى علينا أن نتصور مع انفسنا كيف كان وضع هذه القباب الأربعة مع صورة الطائر الذهبي الذي يعلو تلك المظلات والذي يقوم مقام الجامور بالنسبة للخيام ...

(٥٩) راجع التعليق ٥٥ ـ ٥٦.

(٦٠) الطروحات (ج طرحة) : قطعة من الشاش تطرح على الكتفين وتتدلى على الظهر ، تشبه الطيلسان إن لم تكن هو ، وجميع المخطوطات ترسمها طروحات باستثناء مخطوطة گايانگوس التي ترسمها طروزات ، ولعله من هنا قال گيب إن هناك خطأ من الناسخ في كتابة الكلمة طروحات عوض مطرّزات ...

(٦١) يظهر أن الأمر كان على نحو ما هو عليه الحال عند ما يعزف النشيد الوطني اليوم.

(٦٢) الطّبلخانة : القصد إلى النّوبة الموسيقية.

١١٨

١١٩

معهم ويأكل سائر الناس بدار الطعام وأكلهم على ترتيب مثل ترتيبهم في الدخول على الشيخ ثم يدخل الشيخ إلى داره ويقعد القاضي والوزراء وكاتب السرّ وأربعة من كبار الأمراء للفصل بين الناس وأهل الشكايات ، فما كان متعلّقا بالأحكام الشرعيّة حكم فيه القاضي وما كان من سوى ذلك حكم فيه أهل الشورى وهم الوزراء والأمراء ، وما كان مفتقرا إلى مشاورة السلطان كتبوا إليه فيه فيخرج لهم الجواب من حينه على ظهر البطاقة بما يقتضيه نظره وتلك عادتهم دائما.

ثم ركبت البحر من مدينة مقدشو متوجّها إلى بلاد السواحل (٦٣) قاصدا مدينة كلوا من بلاد الزنوج (٦٤) ، فوصلنا إلى جزيرة منبسى ، وضبط اسمها ميم مفتوحة ونون مسكّن وباء موحدة مفتوحة وسين مهمل مفتوح وياء ، وهي جزيرة كبيرة (٦٥) بينها وبين أرض السواحل مسيرة يومين في البحر ولا برّ ولها أشجار الموز والليمون والأترج ، ولهم فاكهة يسمّونها الجمّون (٦٦) وهي شبه الزيتون ولها نوى كنواه إلّا أنها شديدة الحلاوة ، ولا زرع عند أهل هذه الجزيرة وانّما يجلب اليهم من السواحل ، وأكثر طعامهم الموز والسمك ، وهم شافعيّة المذهب أهل دين وعفاف وصلاح ، ومساجدهم من الخشب محكمة الإتقان ، وعلى كلّ باب من أبواب المساجد البئر والثنتان ، وعمق أبارهم ذراع أو ذراعان ، فيستقون منها الماء بقدح خشب قد غرز فيه عود رقيق في طول الذراع والأرض حول البئر والمسجد مسطّحة ، فمن أراد دخول المسجد غسل رجليه ، ودخل ، ويكون على بابه قطعة حصير غليظ يمسح بها رجليه ، ومن أراد الوضوء أمسك القدح بين فخذيه، وصبّ على يديه ، وتوضأ وجميع الناس يمشون حفاة الأقدام.

__________________

(٦٣) بلاد السواحل ج ساحل ، ويقصد إلى الشواطئ التي كانت تحتوي على بعض المستودعات والمراكز التجارية على طول الساحل الشمالي من افريقيا الشرقية ... مرورا من دولة الصومال الحالية ثم دولة كينيا ثم دولة تانزانيا. وفي جنوب هذه الأقطار توجد جزر القمر ...

(٦٤) تعبير قديم أطلقه المسلمون على السود بشرق إفريقيا. وفد أطلق كذلك على السّود بالجزيرة وقد قرأنا عن ثورة الزنج عام ٢٥٧ ٨٧١ ...

(٦٥) جزيرة منبسى ، تقع في خليج على الدرجة الرابعة من خط العرض الجنوبي ، ويصعب تحديد الزمن الذي أصبحت فيه الجزيرة مستودعا عربيا ... ويجعل أبو الفدا ، من منبسى عاصمة لملك الزنج هذا ويختلف وصف ابن بطوطة للجزيرة عما ورد في الكتابات البرتغالية ـ أنظر معجم البلدان والروض المعطار ـ وانظر كذلك (MAUNY) في تعليقه رقم ٧ من : ...Textes.

(٦٦) الكلمة من أصل هندي (Eugenia jambosa) ,) Jamun)

١٢٠