إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٢

بتلك الشقاشق الباطلة والتمويهات العاطلة لم يعره السلطان رحمه‌الله طرفا ولا سمعا ولا رد عليه خفضا ولا رفعا ، بل ضرب عنه صفحا وتغاضيا وترك جوابه إحسانا وتجافيا ، وجرى في ميدان أريحيته واستن في سنن مروّته وخاطبه بكلام لطيف رقيق وقال له : يا هذا اعلم أنني وصلت إلى الشام لجمع كلمة الإسلام وتهذيب الأمور وحياطة الجمهور وسد الثغور وتربية ولد نور الدين وكف عادة المعتدين ، فقال له ابن حسان : إنك إنما وردت لأخذ الملك لنفسك ونحن لا نطاوعك على ذلك ، ودون ما ترومه خرط القتاد وفت الأكباد وإيتام الأولاد ، فلم يلتفت السلطان لمقاله وتزايد في احتماله وأومأ إلى رجاله بإقامته من بين يديه بعد أن كاد يسطو عليه ، ونادى في عساكره بالاستعداد لقصد الشام الأدنى [بلاد حلب] ورحل متوجها إلى حمص فتسلم البلد وقاتل القلعة ولم ير تضييع الزمان عليها ، فوكل بها من يحصرها ورحل إلى جهة حماة ، فلما وصل إلى الرستن خرج صاحبها عز الدين جرديك وأمر من فيها من العسكر بطاعة أخيه شمس الدين علي واتباع أمره ، وسار جرديك حتى لقي السلطان واجتمع به بالرستن وأقام عنده يوما وليلة ، وظهر من نتيجة اجتماعه به أنه سلم إليه حماة وسأله أن يكون السفير بينه وبين من بحلب ، فأجابه السلطان إلى مراده ، وسار إلى حلب وبقي أخو جرديك بقلعة حماة ، قال : وسار جرديك إلى حلب وهو ظان أنه قد فعل شيئا وحصل عند من بحلب يدا ، فاجتمع بالأمراء والملك الصالح وأشار عليهم بمصالحة الملك الناصر ، فاتهمه الأمراء بالمخامرة وردوا مشورته وأشاروا بقبضه ، فامتنع الملك الصالح ولج سعد الدين كمشتكين في القبض عليه ، فقبض وثقّل بالحديد وأخذ بالعذاب الشديد وحمل إلى الجب الذي فيه أولاد الداية ، قال : ولما قدم جرديك وشد في وسطه الحبل ودلي إلى الجب وأحس به أولاد الداية قام إليه منهم حسن وشتمه أقبح شتم وسبه ألأم سب وحلف بالله إن أنزل إليهم ليقتلنه ، فامتنعوا من تدليته فأعلم سعد الدين كمشتكين فحضر إلى الجب وصاح على حسن وشتمه وتوعده ، فسكن حسن وأمسك وأنزل جرديك الجب فكان عند أولاد الداية وأسمعه حسن كل مكروه. قال : وكتب أبي [هو أبو طي وكان من كبار الشيعة] إلى حلب حين اتصل به قبض أولاد الداية وجرديك وكانوا تعصبوا عليه حتى نفاه نور الدين من حلب قصيدة منها :

بنو فلانة أعوان الضلالة قد

قضى بذلهم الأفلاك والقدر

وأصبحوا بعد عز الملك في صفد

وقعر مظلمة يغشى لها البصر

٨١

وجرد الدهر في جرديك عزمته

والدهر لا ملجأ منه ولا وزر

قال : ولم يزل السلطان مقيما على الرستن ، ثم طال عليه الأمر فسار إلى جباب التركمان فلقيه أحد غلمان جرديك وأخبره بما جرى على جرديك من الاعتقال والقهر فرحل السلطان من ساعته عائدا إلى حماة وطلب من أخي جرديك تسليم حماة إليه وأخبره بما جرى على أخيه ففعل ، وصعد السلطان إلى قلعة حماة واعتبر أحوالها وولاها مبارز الدين علي بن أبي الفوارس ، وذلك مستهل جمادى الآخرة ، وسار السلطان إلى حلب ونزل على أنف جبل جوشن فوق مشهد الدكة ثالث الشهر وامتدت عساكره إلى الخناقية وإلى السعدي ، وكان من بحلب يظنون أن السلطان لا يقدم عليهم فلم يرعهم إلا وعساكره قد نازلت حلب وخيمه تضرب على جبل جوشن وأعلامه قد نشرت ، فخافوا من الحلبيين أن يسلموا البلد كما فعل أهل دمشق ، فأرادوا تطييب قلوب العامة فأشير على ابن نور الدين أن يجمعهم في الميدان ويقبل عليهم بنفسه ويخاطبهم بنفسه أنهم الوزر والملجأ ، فأمر أن ينادى باجتماع الناس إلى ميدان باب العراق ، فاجتمعوا حتى غص الميدان بالناس ، فنزل الصالح من باب الدرجة وصعد من الخندق ووقف في رأس الميدان من الشمال وقال لهم : يا أهل حلب أنا ربيبكم ونزيلكم واللاجىء إليكم ، كبيركم عندي بمنزلة الأب وشابكم عندي بمنزلة الأخ وصغيركم عندي يحل محل الولد. وخنقته العبرة وسبقته الدمعة وعلا نحيبه ففتن الناس وصاحوا صيحة واحدة ورموا بعمائمهم وضجوا بالبكاء والعويل وقالوا : نحن عبيدك وعبيد أبيك نقاتل بين يديك ونبذل أموالنا وأنفسنا لك. وأقبلوا على الدعاء والترحم على أبيه ، وكانوا قد اشترطوا على الملك الصالح أنه يعيد إليهم شرقية الجامع يصلون فيها على قاعدتهم القديمة وأن يجهر بحي على خير العمل والأذان والتذكير في الأسواق وقدام الجنائز بأسماء الأئمة الاثني عشر وأن يصلوا على أمواتهم خمس تكبيرات وأن يكون عقود الأنكحة إلى الشريف الطاهر أبي المكارم حمزة بن زهرة الحسيني (١) وأن تكون العصبية مرتفعة والناموس وازعا لمن أراد الفتنة وأشياء كثيرة اقترحوها مما كان قد أبطله نور الدين رحمه‌الله ، فأجيبوا إلى ذلك. قال ابن أبي طي : فأذن المؤذنون في منارة الجامع وغيره بحي على خير العمل ، وصلى أبي في الشرقية مسبلا وصلى وجوه الحلبيين خلفه ، وذكروا في الأسواق وقدام الجنائز

__________________

(١) هو المدفون بجانب المشهد وقبره ظاهر ثمة.

٨٢

أسماء الأئمة وصلوا على الأموات خمس تكبيرات ، وأذن للشريف في أن يكون عقود الحلبيين من الإمامية إليه وفعلوا جميع ما وقعت الأيمان عليه اه.

وقال في الروضتين : قال ابن أبي طي : وكانت هذه السنة شديدة البرد كثيرة الثلوج عظيمة الأمطار هائجة الأهوية ، وكان السلطان قد جعل أولاد الداية علالة له وسببا يقطع به ألسنة من ينكر عليه الخروج إلى الشام ، وقصد الملك الصالح فامتنع كمشتكين فاشتد حينئذ السلطان في قتال البلد ، وكانت ليالي الجماعة عند الملك الصالح لا تنقضي إلا بنصب الحبائل للسلطان والفكرة في مخاتلته وإرسال المكروه إليه ، فأجمعوا آراءهم على مراسلة سنان صاحب الحشيشية في إرصاد المتالف للسلطان وإرسال من يفتك به ، وضمنوا له على ذلك أموالا جمة وعدة من القرى ، فأرسل سنان جماعة من فتاك أصحابه لاغتيال السلطان فجاؤوا إلى جبل جوشن واختلطوا بالعسكر فعرفهم صاحب بوقبيس لأنه كان مثاغرا لهم فقال لهم : يا ويلكم كيف تجاسرتم على الوصول إلى هذا العسكر ومثلي فيه ، فخافوا غائلته فوثبوا عليه فقتلوه في موضعه ، وجاء قوم للدفع عنه فجرحوا بعضهم وقتلوا البعض ، وبدر من الحشيشية أحدهم وبيده سكينة مشهورة ليقصد السلطان ويهجم عليه ، فلما صار إلى باب الخيمة اعترضه طغريل أمير جاندار فقتله وطلب الباقون فقتلوا بعد أن قتلوا جماعة. قال : ولما فات من حلب الغرض من السلطان بطريق الحشيشية كاتبوا قمص طرابلس وضمنوا له أشياء كثيرة متى رحل السلطان عن حلب ، وكان في أسر نور الدين منذ كسرة حارم ، وكان قد بذل في نفسه الأموال العظيمة فلم يقبلها نور الدين ، فلما كان قبل موت نور الدين سعى له فخر الدين مسعود بن الزعفراني حتى باعه نور الدين بمبلغ مائة وخمسين ألف دينار وفكاك ألف أسير. واتفق في أول هذه السنة موت ملك الفرنج صاحب القدس وطبرية وغيرهما فتكفل هذا القمص بأمر ولده المخدوم فعظم شأنه وزاد خطره ، فأرسل إلى السلطان في أمر الحلبيين وأخبره الرسول أن الفرنج قد تعاضدوا وصاروا يدا واحدة فقال : لست ممن يرهب بتألب الفرنج وها أنا سائر إليهم ، ثم أنهض قطعة من جيشه وأمرهم بقصد أنطاكية فغنموا غنيمة حسنة وعادوا ، فقصد القمص فنكص راجعا إلى بلاده وحصل الغرض من رحيل السلطان عن حلب ووصل إلى حمص فتسلم القلعة ورتب فيها واليا من قبله. [ثم قال] : ثم أرسل السلطان الخطيب شمس الدين بن الوزير أبي المضاء إلى الديوان العزيز [في بغداد] برسالة ضمنها القاضي الفاضل كتابا

٨٣

طويلا رائقا فائقا يشتمل على تعداد ما للسلطان من الأيادي في جهاد الإفرنج في حياة نور الدين ، ثم فتح مصر واليمن وبلادا جمة من أطراف المغرب وإقامة الخطبة العباسية بها [ثم ساق الكتاب].

ثم قال : قال العماد الكاتب : ولما فرغ السلطان من حمص وحصنها سار إلى بعلبك فتسلمها في رابع شهر رمضان. قال ابن أبي طي : وكان بها خادم يقال له يمن ، فلما شاهد كثرة عساكر السلطان اضطرب في أمره وراسل من بحلب على جناح طائر فلم يرجع إليه منهم خبر فطلب الأمان وسلم بعلبك إلى السلطان.

ذكر الحرب بين سيف الدين غازي صاحب الموصل

وبين صلاح الدين وانهزام سيف الدين ومحاصرة صلاح الدين حلب

والاتفاق عليها بينه وبين الملك الصالح إسماعيل نور الدين

قال في الروضتين : قال ابن أبي طي : لما تسلم السلطان بعلبك وأزاح عللها عاد إلى حمص ونزل بها فاتصل به ورود عز الدين مسعود أخي سيف الدين صاحب الموصل نجدة للملك الصالح ، وكان سبب وروده أن جماعة من أمراء حلب لما كان السلطان نازلا على حلب أجمعوا آراءهم وكاتبوا سيف الدين وألزموه نجدة ابن عمه ، وأخبروه أن السلطان متى ملك حلب لم يكن له قصد إلا الموصل ، وأرسلوا بذلك أمين الدين هاشما خطيب حلب وقطب الدين ينال بن حسان وغرس الدين قليج ، وكان سيف الدين منازلا لسنجار وفيها أخوه عماد الدين قد أظهر الانتماء إلى السلطان فأنجده السلطان بقطعة من جيشه فكسرهم ونهبهم عماد الدين بهم وبعسكره ، فلما وصلت رسالة الحلبيين إلى سيف الدين صالح أخاه عماد الدين وحشد عسكره وأنفذ يجيبهم مع أخيه عز الدين مسعود ، فورد حلب بعد رحيل السلطان عنها إلى بعلبك ، فاغتنم الحلبيون بعد السلطان عنهم فاحتشدوا

٨٤

وخرجوا جميعا حتى خيموا على حماة وأخذوا في حصارها ، واتصل بالسلطان ذلك فرحل من بعلبك إلى حمص وبلغ عز الدين ، فعاد عن حماة ونزل قريبا من جباب التركمان إلى جهة العاصي إلى قريب من شيزر ، وراسل النائب بحماة علي بن أبي الفوارس يقول له : إنما وصلت في إصلاح الحال ووضع أوزار القتال ، وسأله مكاتبة السلطان فيما يجمع الكلمة ويلم شعث الفرقة ، فكتب ابن أبي الفوارس بذلك إلى السلطان وحسن له الصلح وتلطف في ذلك غاية التلطف ، وقدم أبو صالح بن العجمي وسعد الدين كمشتكين لطلب الصلح فأجابهما السلطان إلى ما أرادا وتقرر على أنه يرد إليهم جميع الحصون والبلاد ويقنع بدمشق وحدها ويكون نائبا للملك الصالح ، فلما عاين سعد الدين إجابة السلطان إلى الصلح والنزول عن جميع الحصون التي أخذها حمص وحماة وبعلبك طمع في جانب السلطان وتجاوز الحد في الاقتراح وطلب الرحبة وأعمالها ، فقال : هي لابن عمي ولا سبيل إلى أخذها ، فقام سعد الدين من بين يديه نافرا ، وكان ذلك برأي أبي صالح بن العجمي لأنه كان معه فاجتهد السلطان به أن يرجع فلم يفعل ، وخرج إلى عز الدين مسعود وكان بعد نازلا على حماة وحدثه ما دار بينه وبين السلطان وهون عليه أبو صالح أمر السلطان وأخبره بقلة من معه ، وكان السلطان لما كوتب في أمر الصلح سار في خف من أصحابه ، فلما علموا بذلك طمعوا في جانبه وعولوا على لقائه وانتهاز الفرصة في أمره ، فكاتب باقي أصحابه واستعد لحربهم وسار إلى أن نزل على قرون حماة وأخذ في مدافعة الأيام حتى يقدم عليه باقي عسكره وراسلهم في التلطف للأحوال فلم ينجع فيهم حال ، وكانوا في كل يوم يعزمون على لقائه وقتاله فيبطل عزيمتهم بمراسلة يفتعلها تسويفا للأوقات وتقطيعا للزمان حتى يقدم عليه عسكره ، وكانت هيبته قد ملأت صدور القوم ولو لا ذلك لكانوا قد ناهزوا الفرصة ونالوا منه الغرض.

قال : وفي يوم الأحد تاسع عشر رمضان التقوا ولم يكن بعد قد وصل للسلطان من عسكره أحد فتجمع أصحاب السلطان كردوسا واحدا وأخذوا يحملون يمنة ويسرة ويدافعون الأوقات رجاء أن يتصل بهم بعض العسكر. وضري عسكر حلب والعسكر الموصلي على أصحاب السلطان حين شاهدوا قلتهم واجتماعهم وكاد أصحاب السلطان يولون الأدبار ، فوصل تقي الدين عمر عند الحاجة إليه لتمام السعادة للسلطان ، فإنه لو تأخر ساعة لانكسر عسكره ، فوصل تقي الدين في عسكر مصر وجماعة من الأمراء وهم غير عالمين

٨٥

بالحرب وقيامها ، فلما رأوا الناس في الكر والضرب الهبر حملوا جميعا بعد أن افترقوا في الميمنة والميسرة فصدموا عسكر الموصل صدمة ضعضعتهم ، وكان السلطان في هذه المدة قد كاتب جماعة من عسكرهم واستفسدهم إليه وحمل إليهم الأموال ، وهذا هو الذي أبطأ بهم إلى أن وصلت عساكره ، وإلا فلو كان عسكر حلب نصح لم يقدر السلطان على الثبوت ساعة ، فلما اشتد القتال لم ينصح الجماعة التي كاتبها السلطان بل كانوا مثبطين مخوفين لمن قرب منهم ، ثم إنهم بعد ذلك انهزموا وتبعهم عسكر السلطان واستباحوا أموالهم وخيامهم ، وأمر السلطان أصحابه أن لا يوغلوا في طلبهم ولا يقتلوا من رأوه منهزما ولا يدففوا على جريح ، ورحل حتى نزل في منزلتهم ، ثم سار من وقته مجدا حتى نزل بمرج قرا حصار ولم يزل هناك حتى عيّد عيد الفطر ، فجاءته رسل الملك الصالح يسألونه المهادنة وأن يقر الملك الصالح على ما في يده وما هو جار تحت حكمه من الشام الأسفل إلى بلد حماة ، فلم يرض بذلك ، فجعلوا له مع حماة المعرة وكفر طاب ، فرضي بذلك وحلف على نسخة رأيتها وعليها خطه قال : وكان في جملة اليمين أنه متى قصد الملك الصالح عدو حضر بنفسه وجيوشه ودافع عنه وأن لا يغير الدعاء له من جميع منابر البلاد التي تحت يد السلطان وولايته وولاية أصحابه ، وأن تكون السكة باسمه. ولما حلف السلطان والملك الصالح وأمراؤه عاد السلطان قاصدا دمشق ، فلما وصل إلى حماة وصلت إليه رسل الخليفة المستضيء ومعهم التشريفات الجليلة والأعلام السود وتوقيع من الديوان بالسلطنة ببلاد مصر والشام. وفي هذه الخلع يقول ابن سعدان الحلبي :

يا أيها الملك الغزير فضله

لقد غدوت بالعلى مليا

كفى أمير المؤمنين شرفا

أنك أصبحت له وليا

طارحك الود على شحط النوى

فكنت ذاك الصادق الوفيا

أولاك من لباسه زخرفة

لم يولها قبلك آدميا

ناسبت الروض سنا وبهجة

حتى حكته رونقا وريا

٨٦

سنة ٥٧١

الحرب بين السلطان صلاح الدين

وبين سيف الدين غازي صاحب الموصل

وانهزام هذا منه واستيلاء الصلاح على منبج

ثم أعزاز ثم محاصرته لحلب والصلح بينه وبين

الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين

وإهداؤه أعزاز إلى ابنة نور الدين

قال في الروضتين في حوادث هذه السنة : قد سبق ذكر الصلح الذي جرى بين السلطان والحلبيين ، فلما سمع المواصلة عتبوا عليهم ووبخوهم ونسبوهم إلى العجلة في ذلك وسلوك غير طريق الحزم فحملوهم على النقض والنكث وأنفذوا من أخذ عليهم المواثيق ، وتوجه ذلك الرسول منهم إلى دمشق ليأخذ للمواصلة من السلطان عهده ويكشف أيضا ما عنده ، فلما خلا به طالبه السلطان بنسخة الرأي فغلط وأخرج من كمه نسخة يمين الحلبيين لهم وناولها إياه ، فتأملها وأخفى سره وما أبداه ، واطلع على ما اتفقوا عليه وردها إليه وقال : لعلها قد تبدلت ، فعرف الرسول أنه قد غلط ولم يمكنه تلافي ما فرط. وقال السلطان : كيف حلف الحلبيون للمواصلة ومن شرط أيمانهم أنهم لا يعتمدون أمرا إلا بمراجعتهم لنا واستئذانهم؟ وعرف من ذلك اليوم أن العهد منقوض والوفاء مرفوض ، وشاع الخبر عن المواصلة بالخروج في الربيع فكتب السلطان إلى أخيه العادل وهو نائبه بمصر يعلمه بذلك ويأمره أن يأمر العساكر بالاستعداد للخروج في شعبان. قلت : وفي كتاب فاضلي جليل إلى بغداد عن السلطان : يطالع بأن الحلبيين والموصليين لما وضعوا السلاح وخفضوا الجناح اقتصرنا بعد أن كانت البلاد في أيدينا على استخدام عسكر الحلبيين في البيكارات إلى الكفر وعرضنا عليهم الأمانة فحملوها والأيمان فبذلوها ، وسار رسولنا وحلف صاحب الموصل بمحضر من فقهاء بلده وأمراء مشهده يمينا جعل الله فيها حكما وضيق في نكثها المجال على من كان حنيفا مسلما ، وعاد رسوله ليسمع منا اليمين ، فلما حضر وأحضر نسختها أومأ بيده ليخرجها فأخرج نسخة يمين كانت بين الموصليين والحلبيين

٨٧

مضمونها الاتفاق على حزبنا والتداعي إلى حربنا والتساعد على إزالة خطبنا والاستنفار لمن هو على بعدنا وقربنا ، وقد حلف بها كمشتكين الخادم بحلب وجماعة معه يمينا نقضت الأولى ، فرددنا اليمين إلى يمين الرسول وقلنا : هذه يمين عن الأيمان خارجة ، وأردت عمرا وأراد الله خارجة. وانصرف الرسول عن بابنا وقد نزهنا الله أن يكون اسمه معرضا للحنث العظيم والنكث الذميم ، وعلمنا أن الناقد بصير والآخذ قدير والمواقف الشريفة النبوية أعلاها الله مستخرجة الأوامر إلى الموصلي ، إما بكتاب مؤكد بأن لا ينقض عهد الله من بعد ميثاقه وإما أن تكون الفسحة واقعة لنا في تضييق خناقه اه.

ثم قال ابن شداد [في السيرة الصلاحية] : لما وقعت الوقعة الأولى مع الحلبيين والمواصلة كان سيف الدين صاحب الموصل على سنجار يحاصر أخاه عماد الدين يقصد أخذها منه ودخوله في طاعته ، وكان أخوه قد أظهر الانتماء إلى السلطان صلاح الدين واعتصم بذلك ، واشتد سيف الدين في حصار المكان وضربه بالمنجنيق حتى انهدم من سوره ثلم كثيرة وأشرف على الأخذ ، فبلغه وقوع هذه الوقعة فخاف أن يبلغ ذلك أخاه فيشد أمره ويقوى جأشه ، فراسله في الصلح فصالحه ، ثم سار من وقته إلى نصيبين واهتم بجمع العساكر والإنفاق فيها ، وسار حتى أتى الفرات وعبر بالبيرة وخيم على جانب الفرات الشامي ، وأرسل كمشتكين إليه وجرت مراجعات كثيرة عزم فيها على العود مرارا حتى استقر اجتماعه بالملك الصالح وسمحوا به ، وسار ووصل حلب وخرج الصالح إلى لقائه بنفسه فالتقاه قريب القلعة واعتنقه وضمه إليه وبكى ، ثم أمره بالعود إلى القلعة فعاد إليها وسار هو حتى نزل بعين المباركة وأقام بها مدة وعسكر حلب يخرج إلى خدمته في كل يوم ، وصعد القلعة جريدة وأكل فيها خبزا ونزل وسار راحلا إلى تل السلطان ومعه جمع كبير وأهل ديار بكر والسلطان رحمه‌الله قد أنفذ في طلب العساكر من مصر وهو يرقب وصولها ، وهؤلاء يتأخرون في أمورهم وتدابيرهم وهم لا يشعرون أن في التأخير تدميرا ، حتى وصل عسكر مصر فسار رحمه‌الله حتى أتى قرون حماة فبلغهم أنه قد قارب عسكرهم فأخرجوا اليزك ووجهوا من كشف الأخبار فوجدوه قد وصل جريدة إلى جباب التركمان وتفرق عسكره يسقي ، فلو أراد الله نصرتهم لقصدوه في تلك الساعة ، لكن صبروا عليه حتى سقى خيله هو وعسكره واجتمعوا وتعبوا تعبية القتال ، وأصبح القوم على مصاف ، وذلك بكرة الخميس العاشر من شوال فالتقى العسكران وتصادما وجرى قتال عظيم وانكسرت ميسرة

٨٨

السلطان بابن زين الدين مظفر الدين ، فإنه كان في ميمنة سيف الدين ، وحمل السلطان بنفسه فانكسر القوم وأسر منهم جمعا عظيما من كبار الأمراء منهم الأمير فخر الدين عبد المسيح ، فمن عليهم وأطلقهم وعاد سيف الدين إلى حلب فأخذ منها خزانته وسار حتى عبر الفرات وعاد إلى بلاده وأمسك هو رحمه‌الله عن تتبع العسكر ، ونزل في بقية ذلك اليوم في خيم القوم فإنهم كانوا قد أبقوا الثقل على ما كان عليه والمطابخ قد عملت ففرق الإصطبلات ووهب الخزائن وأعطى خيمة سيف الدين لعز الدين فرخشاه اه.

ثم نقل في الروضتين ما ذكره العماد الكاتب في كتاب البرق الشامي في تاريخ الدولة الصلاحية في هذه الوقعة فقال :

قال العماد : رحلنا في شهر رمضان من دمشق مستأنفين فعبرنا العاصي لله طائعين وإلى المسار مسارعين ، فما عرجنا على البلد ولا انتظرنا ما وراءنا من مدد ، ونزلنا الغسولة وحزنا حماة وخيمنا في مرج بوقبيس. وجاء الخبر أنهم في عشرين ألف فارس سوى سوادهم وما وراءهم من أمدادهم [سيأتيك ما فيه نقلا عن ابن الأثير] وأنهم موعودون من الفرنج بالنجدة وأنهم يزيدون في كل يوم قوة وشدة ، وما كان اجتمع من عسكرنا سوى ألف فارس ، فرتب السلطان عسكره وقوى بقوة قلبه قلبه. وأمد الله بحزب ملائكته حزبه. ولما وصل المواصلة إلى حلب أطلقوا من كان في الأسرى من ملوك الفرنج منهم أرناط إبرنس الكرك وجوسلين خال الملك وقرروا معهم أن يدخلوا من مساعدتهم في الدرك ، فلما عيدنا وصل إلى السلطان الخبر بوصولهم إلى تل السلطان فعبرنا العاصي عند شيزر ورتبنا العسكر وأعدنا الأثقال إلى حماة. ثم وصف الوقعة إلى أن قال : وركب السلطان أكتافهم فشل مئيهم وآلافهم حتى أخرجهم من خيامهم وأشرقهم بمائهم ووكل بسرداق سيف الدين غازي ومضاربه ابن أخيه فرخشاه ، وركض وراءه حتى علم أنه تعداه ، ووقع في الأسر جماعة من الأمراء المقدمين ثم من عليهم بالخلع بعد أن نقلهم إلى حماة وأطلقهم ، ثم نزل في السرادق السيفي فتسلمه بخزائنه ومحاسنه وإصطبلاته ومطابخه ورواسي عزه ورواسخه فبسط في جميع ذلك أيدي الجود وفرقها على الحضور والشهود ، وأبقى منها نصيبا للرسل والوفود. ورأى في بيت الشراب في السرادق الخاص طيورا من القماري والبلابل والهزار والببغا في الأقفاص ، فاستدعى أحد الندماء مظفر الأقرع فآنسه وقال : خذ هذه الأقفاص واطلب بها الخلاص واذهب بها إلى سيف الدين فأوصلها إليه وسلم منا عليه وقل له : عد إلى اللعب بهذه

٨٩

الطيور فهي سليمة لا توقعك في مثل هذا المحذور. وقال : ولما كسر القوم ولوا مدبرين إلى حلب فلم يقف بعضهم على بعض وظنوا أن العساكر وراءهم ركضا وراء ركض ، فتبعجت خيولهم وتموجت سيولهم وما صدقوا كيف يصلون إلى حلب ويغلقون أبوابها ويسكنون اضطرابها. وأما سيف الدين فإنه ركض في يومه من تل السلطان إلى بزاعة وجاوز في سوقه الاستطاعة وفرق وفارق الجماعة اه.

وقال ابن الأثير في حوادث هذه السنة في أثناء الكلام على هذه الوقعة : سار صلاح الدين من دمشق إلى ناحية حلب ليلقى سيف الدين فالتقى العسكران بتل السلطان وكان سيف الدين قد سبقه ، فلما وصل صلاح الدين كان وصوله العصر وقد تعب هو وأصحابه وعطشوا فألقوا نفوسهم إلى الأرض ليس فيهم حركة. فأشار على سيف الدين جماعة بقتالهم وهم على هذا الحال ، فقال زلفندار : ما بنا هذه الحاجة إلى قتال هذا الخارجي في هذه الساعة ، غدا بكرة نأخذهم كلهم ، فترك القتال إلى الغد ، فلما أصبحوا اصطفوا للقتال فجعل زلفندار وهو المدبر للعسكر السيفي أعلامهم في وهدة من الأرض لا يراها إلا من هو بالقرب منها ، فلما لم يرها الناس ظنوا أن السلطان قد انهزم فلم يثبتوا وانهزموا لم يلو أخ على أخيه ولم يقتل بين الفريقين مع كثرتهم غير رجل واحد. ووصل سيف الدين إلى حلب فنزل وترك بها أخاه عز الدين مسعودا في جمع من العسكر ولم يقم هو وعبر الفرات وسار إلى الموصل وهو لا يصدق أنه ينجو. (ثم قال) : وقد ذكر العماد الكاتب في كتاب البرق الشامي في تاريخ الدولة الصلاحية أن سيف الدين كان عسكره في هذه الوقعة عشرين ألف فارس ، ولم يكن كذلك إنما كان على التحقيق يزيدون على ستة آلاف فارس أقل من خمسمائة ، فإنني وقفت على جريدة العرض وترتيب العساكر للمصاف ميمنة وميسرة وقلبا وجاليشية وغير ذلك ، وكان المتولي لذلك والكاتب له أخي مجد الدين أبا السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم رحمه‌الله ، وإنما قصد العماد أن يعظم أمر صاحبه بأنه هزم بستة آلاف عشرين ألفا والحق أحق أن يتبع ، ثم يا ليت شعري كم هي الموصل وأعمالها إلى الفرات حتى يكون لها وفيها عشرون ألف فارس اه.

أقول : وفي قوله إنه لم يقتل سوى رجل واحد نظر لما سيأتيك عن ابن أبي طي.

وقال في الروضتين : قال ابن أبي طي في وصف هذه الوقعة : إن ميسرة سيف الدين انكسرت فتحرك إلى جانبها ليكون ردأ لها ومددا ، فظن باقي العسكر أنه قد انهزم

٩٠

فانهزموا فحقق ما كان وهما ، فسار على وجهه لا يلوي على شيء ، وتبعهم السلطان فهلك منهم جماعة قتلا وغرقا وأسر جماعة كثيرة من وجوههم وأمرائهم ، ثم رجع وأمر أصحابه برفع السيف على الناس وترك التعرض لمن وجد منهم بقتل أو نهب وفرق ما وجد في خزائن سيف الدين وسير جواريه وحظاياه إلى حلب وأرسل إليه بالأقفاص وقال له : عد إلى اللعب بهذه الطيور فإنها ألذ من مقاساة الحرب. ووجد السلطان عسكر الموصل كالحانة من كثرة الخمور والبرابط والعيدان والجنوك والمغنين والمغنيات. قال : واشتهر أنه كان مع سيف الدين أكثر من مائة مغنية وأن السلطان أرى ذلك لعساكره واستعاذ من هذه البلية ، وكان أنفذ الأمراء الذين أسرهم إلى حماة ثم ردهم وخلع عليهم وأرسلهم إلى حلب.

ثم قال : قال ابن أبي طي : وأما سيف الدين فإنه امتدت به الهزيمة إلى بزاعة فأقام بها حتى تلاحق به من سلم من أصحابه ، ثم خرج منها حتى قطع الفرات وصار إلى الموصل وصار باقي عسكر حلب إلى حلب في سابع شوال (تقدم عن ابن شداد أن الوقعة كانت في عاشر شوال فلعله كانت في ثالثه ووصول المنهزمين إلى حلب في سابعه وما في ابن شداد سهو من النساخ) في أقبح حال وأسوئه عراة حفاة فقراء يتلاومون على نقض الأيمان والعهود ، وخاف أهل حلب من قصد السلطان لهم فأخذوا في الاستعداد للحصار ، وجاء السلطان وخيم عليها أياما ثم قال : الرأي أن نقصد ما حولها من الحصون والمعاقل والقلاع فنفتحها فإنا إذا فعلنا ذلك ضعفت حلب وهان أمرها ، فصوبوا رأيه فنزلوا على بزاعة فتسلمها بالأمان وولاها عز الدين خشترين الكردي ، وكان ذلك في الثاني والعشرين من شوال ، ثم فتح منبج في التاسع والعشرين منه ، وكان فيها الأمير قطب الدين ينال بن حسان والسلطان لا ينال به إحسان بل كان في جر عسكر الموصل إليه أقوى سبب ولا يماذقه ولا يحفظ معه شرط أدب ويواجهه بما يكره ، فسلم القلعة بما فيها وقوم ما كان سلمه بثلثمائة ألف دينار منها عين ونقود ومصوغ ومطبوع ومصنوع ومنسوج وغلات. وسامه على أن يخدم فأبى وأنف وكبرت نفسه فتعب سره وذهب ما جمعه ، ومضى إلى صاحب الموصل فأقطعه الرقة فبقي فيها إلى أن أخذها السلطان منه مرة ثانية في سنة ثمان وسبعين.

ثم قال : قال ابن أبي طي : لما ملك السلطان منبج وتسلم الحصن صعد إليه وجلس يستعرض أموال ابن حسان وذخائره فكان في جملة أمواله ثلثمائة ألف دينار ومن الفضة والآنية الذهبية والأسلحة والذخائر ما يناهز ألفي ألف دينار ، فحان من السلطان التفاتة

٩١

فرأى على الأكياس والآنية مكتوبا يوسف ، فسأل عن هذا الاسم فقيل له : ولد يحبه ويوثره اسمه يوسف كان يدخر هذه الأموال له ، فقال السلطان : أنا يوسف وقد أخذت ما خبىء لي ، فتعجب الناس من ذلك. قال : ولما فرغ من منبج نزل على أعزاز ونصب عليها عدة مجانيق وجد في القتال وبذل الأموال. قال العماد : ثم نزل السلطان على حصن عزاز وقطع بين الحلبيين وبين الفرنج الجواز وهو حصن منيع رفيع فحاصره ثمانية وثلاثين يوما ، وكان السلطان قد أشفق على هذا الحصن من موافقة الحلبيين للفرنج ، فإن الغيظ حملهم على مهادنة الفرنج وإطلاق ملوكهم الذين تعب نور الدين رحمه‌الله في أسرهم ، فرأى السلطان أن يحتاط على المعاقل ويصونها صون العقائل ، فتسلمها حادي عشر ذي الحجة بعد مدة حصارها المذكور. قال : وأغار عسكر حلب على عسكرنا في مدة مقاما على عزاز فأخذوا على غرة وغفلة ما تعجلوه وعادوا فركب أصحابنا في طلبهم فما أدركوا إلا فارسا واحدا ، فأمر السلطان بقطع يده بحكم جرده ، فقلت للمأمور وذلك بمسمع من السلطان : تمهل ساعة لعله يقبل مني شفاعة ، ثم قلت : هذا لا يحل وقدرك بل دينك عن هذا يجل ، وما زلت أكرر عليه الحديث حتى تبسم وعادت عاطفته ورحم وأمر بحبسه وسرني سلامة نفسه ، ودخل ناصر الدين بن أسد الدين وقال : ما هذا الفشل والونى؟ وإن سكتم أنتم فما أسكت أنا ، ودمدم وزمجر وغضب وزأر وقال : لم لا يقتل هذا الرجل ولما ذا اعتقل ، فوعظه السلطان واستعطفه وسكن غضبه وتعطفه وتلا عليه (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وأطلق سراحه وتم في نجاته نجاحه اه.

ذكر وثوب الحشيشية على السلطان صلاح الدين

مرة ثانية قصد اغتياله

قال في الروضتين : كانت الوثبة الأولى عليه وهو على حلب وقد تقدم ، وهذه كانت حادي عشر ذي القعدة وهو على أعزاز يحاربها ، وكان للأمير جاولي الأسدي خيمة قريبة من المنجنيقات وكان السلطان يحضر فيها كل يوم لمشاهدة الآلات وترتيب المهمات وحض الرجال والحث على القتال. ثم قال : قال ابن أبي طي : لما فتح السلطان حصن بزاعة ومنبج أيقن من بحلب بخروج ما في أيديهم من المعاقل والقلاع فعادوا إلى عادتهم في نصب

٩٢

الحبائل للسلطان فكاتبوا سنانا صاحب الحشيشية [هو من الإسماعيلية وكان مقامه في مصياث ١ بلدة صغيرة بالقرب من حماة وهي الآن من أعمالها ولا زال سكانها من الإسماعيلية] مرة ثانية ورغبوه بالأموال والمواعيد وحملوه على إنفاذ من يفتك بالسلطان ، فأرسل لعنه الله من أصحابه فجاؤوا بزي الأجناد ودخلوا بين المقاتلة وباشروا الحرب وأبلوا فيها أحسن البلاء ، وامتزجوا بأصحاب السلطان لعلهم يجدون فرصة ينتهزونها ، فبينما السلطان يوما جالسا في خيمة جاولي [وقد قدمنا أسباب جلوسه فيها] والحرب قائمة والسلطان مشغول بالنظر إلى القتال إذ وثب عليه أحد الحشيشية وضربه بسكين على رأسه ، وكان رحمه‌الله محترزا خائفا من الحشيشية لا ينزع الزردية عن بدنه ولا صفائح الحديد عن رأسه ، فلم تصنع حربة الحشيشي شيئا لمكان صفائح الحديد ، وأحس الحشيشي بصفائح الحديد على رأس السلطان فمد يده بالسكينة إلى خد السلطان فجرحه وجرى الدم على وجهه فتتعتع السلطان لذلك ، ولما رأى الحشيشي ذلك هجم على السلطان وجذب رأسه ووضعه على الأرض وركبه لينحره ، وكان من حول السلطان قد أدركهم دهشة أخذت بعقولهم ، وحضر في ذلك الوقت سيف الدين بازكوج وقيل إنه كان حاضرا فاخترط سيفه وضرب الحشيشي فقتله ، وجاء آخر من الحشيشية أيضا يقصد السلطان فاعترضه الأمير منكلان الكردي وضربه بالسيف وسبق الحشيشي إلى منكلان فجرحه في جبهته وقتله منكلان ، ومات منكلان من ضربة الحشيشي بعد أيام ، وجاء آخر من الباطنية فحصل في سهم الأمير علي بن أبي الفوارس ، فهجم على الباطني ودخل الباطني فيه ليضربه فأخذه علي تحت إبطه وبقيت يد الباطني من ورائه لا يتمكن من ضربه ، فصاح علي : اقتلوه واقتلوني معه ، فجاء ناصر الدين محمد بن شيركوه فطعن بطن الباطني بسيفه وما زال يخضخضه فيه حتى سقط ميتا ونجا ابن أبي الفوارس ، وخرج آخر من الحشيشية منهزما فلقيه الأمير شهاب الدين محمود خال السلطان فنكب الباطني عن طريق شهاب الدين فقصده أصحابه وقطعوه بالسيف. وأما السلطان فإنه ركب من وقته إلى سرادقه ودمه سائل على خده ، وأخذ من ذلك الوقت في الاحتراس والاحتراز وضرب حوله سرادقه برجا من الخشب كان يجلس فيه وينام ولا يدخل عليه إلا من يعرفه ، وبطلت

__________________

١ ـ هكذا في الأصل ولعله خطأ مطبعي ، إذ رسمها في معجم البلدان : مصياب ، وقال : وبعضهم يقول مصياف.

٩٣

الحرب في ذلك اليوم وخاف الناس على السلطان واضطرب العسكر وخاف الناس بعضهم من بعض ، فألجأت الحال إلى ركوب السلطان ليشاهده الناس فركب حتى سكن العسكر وعاد إلى خيمته وأخذ في قتال عزاز فقاتلها مدة ثمانية وثلاثين يوما حتى عجز من كان فيها وسألوا الأمان ، فتسلمها حادي عشر ذي الحجة وصعد إليها وأصلح ما تهدم منها ، ثم أقطعها لابن أخيه تقي الدين عمر. وكانت عزاز أولا للجفنية غلام نور الدين ، فلما ملك السلطان منبج أخذها منه الملك الصالح وقواها لعله يحفظها من الملك الناصر فلم يبلغ ذلك ، ولما فرغ السلطان من أمر عزاز حقد على من بحلب لما فعلوه من أمر الحشيشية ، فسار حتى نزل على حلب خامس عشر ذي الحجة وضربت خيمته على رأس الياروقية فوق جبل جوشن (هي قرية الأنصاري) وجبى أموالها وأقطع ضياعها وضيق على أهلها ولم يفسح لعسكره في مقاتلتها بل كان يمنع أن يدخل إليها شيء أو يخرج منها أحد ، وكان سعد الدين كمشتكين في حارم وكانت إقطاعه في يد نوابه وكان انتزعها من يد أولاد الداية بعد أن عصى نائبها. وكان سبب خروجه إليها أن السلطان لما نزل على أعزاز خاف كمشتكين أن ينتقل منها إلى حارم فخرج إليها ، فلما نزل السلطان على حلب ندم كمشتكين على كونه خارجا في حارم وخاف أن يجري بين السلطان وبين الأمراء الحلبيين صلح فلا يكون فيه ذكر ولا اسم ، فراسل السلطان يتلطف معه الحال ويقول لو فسح لي في الدخول إلى حلب لسارعت في الخدمة وأصلحت الأمر على ما يرومه السلطان. وراسل أيضا الملك الصالح والأمراء بحلب يقول لهم : قد حصلت خارجا وقد بلغني أمور ولا بد من طلبي من الملك الناصر ليأذن لي في الصيرورة إليكم فإن الذي قد حصل عندي لا يمكنني الكلام فيه ، فراسل الملك الصالح في الإذن له في الدخول إلى حلب فأذنوا له وطلبوا الرهائن منه ، فأنفذ السلطان إليهم رهينة شمس الدين بن أبي المضاء الخطيب والعماد كاتب الإنشاء ، وأنفذوا من حلب إلى السلطان رهينة نصر الدين بن زنكي. وحكى العماد الكاتب ، قال : لما حصلنا داخل حلب أخذنا برأي العدل ابن العجمي وجعلنا في بيت ومنع منا غلماننا ولم يحضر لنا طعام ولا مصباح وبتنا في أنكد عيش ، وفي تلك الليلة دخل كمشتكين إلى حلب ، فلما أصبحوا أحضرت أنا وابن أبي المضاء إلى مجلس الملك الصالح وكان عنده ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود وجماعة من أرباب الدولة وكان صاحب الكلام العدل ابن العجمي فأخذ يتحدث بلثغته ويترجم بلكنته ويضرب صفحا عني ويوهم الجماعة أني وأني.

٩٤

وما درى الغمر بأني امرؤ

أميّز التبر من الترب

قد عارك الأهوال حتى غدا

بين الورى كالصارم العضب

قد راضه الدهر فلو أمه

بخطبه ما ريع للخطب

قال : وعرضت نسخة اليمين علينا وصرفنا ولم يلتفت إلينا ، فلما صارا إلى السلطان وأخبراه بما جرى في حقهما من الهوان علم أن ذلك كان حيلة عليه حتى دخل كمشتكين إلى حلب فأطلق نصرة الدين وقاتل أهل حلب ، ولم يزل منازلا لحلب إلى انسلاخ سنة إحدى وسبعين.

سنة ٥٧٢

إبقاء حلب وأعمالها للملك الصالح

قال في الروضتين : دخلت سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة والسلطان مقيم بظاهر حلب فعرف أهلها أن العقوبة أليمة والعاقبة وخيمة ، فدخلوا من باب التذلل ولاذوا بالتوسل وخاطبوا في التفضل وطلبوا الصلح فأجابهم وعفا وعف وكفى وكف ، وأبقى للملك الصالح حلب وأعمالها واستقرى كل عثرة لهم وأقالها وأراد له الإعزاز فرد له عزاز. وقال ابن شداد :

أخرجوا إليه ابنة لنور الدين صغيرة سألت منه عزاز فوهبها إياها.

قال ابن أبي طي : لما تم الصلح وانعقدت الأيمان عول الملك الصالح على مراسلة السلطان وطلب عزاز منه فأشار الأمراء عليه بإنفاذ أخته وكانت صغيرة ، فأخرجت إليه فأكرمها السلطان إكراما عظيما وقدم لها أشياء كثيرة وأطلق لها قلعة عزاز وجميع ما فيها من مال وسلاح وميرة وغير ذلك.

وقال غيره : بعث الملك الصالح أخته الخاتون بنت نور الدين إلى صلاح الدين في الليل فدخلت عليه فقام قائما وقبل الأرض وبكى على نور الدين ، فسألت أن يرد عليهم عزاز فقال : سمعا وطاعة ، فأعطاها إياها وقدم لها من الجواهر والتحف والمال شيئا كثيرا ، واتفق مع الملك الصالح أن له من حماة وما فتحه إلى مصر وأن يطلق الملك الصالح أولاد الداية (وقد تقدم ذكر حبسهم في جب القلعة) قال العماد : وحلفوا له على كل ما شرطه واعتذروا عما أسخطه ، وكان الصلح عاما لهم وللمواصلة وأهل ديار بكر ، وكتب في

٩٥

نسخة اليمين أنه إذا غدر منهم واحد وخالف ولم يف بما عليه حالف كان الباقون عليه يدا واحدة وعزيمة متعاقدة حتى يفيء إلى الوفاء والوفاق ويرجع إلى مرافقة الرفاق اه. ثم توجه السلطان صلاح الدين من حلب إلى حصن مصياث وبعد أن أخذ ثأره من سنان الإسماعيلي توجه إلى دمشق ثم إلى مصر. وبسط في الروضتين الكلام في ذلك.

سنة ٥٧٣

ذكر قتل كمشتكين وحصر الفرنج حارم

قال ابن الأثير : في هذه السنة قبض الملك الصالح بن نور الدين على سعد الدين كمشتكين وكان المتولي لأمر دولته الحاكم فيها. وسبب قبضه أنه كان بحلب إنسان من أعيان أهلها يقال له أبو صالح بن العجمي ، وكان مقدما عند نور الدين ، فلما مات نور الدين تقدم أيضا في دولة ولده الملك الصالح وصار بمنزلة الوزير الكبير المتمكن لكثرة أتباعه بحلب ، وصار كل من كان يحسد كمشتكين انضم إلى أبي صالح وقووا جنانه وكثروا سواده ، وكان عنده إقدام وجرأة فصار واحد الدولة بحلب ومن يصدر الجماعة عن رأيه وأمره ، فبينما هو في بعض الأيام في الجامع وثب به الباطنية فقتلوه ومضى شهيدا ، وتمكن بعده سعد الدين وقوي حاله ، فلما قتل أحال الجماعة قتله على سعد الدين وقالوا : هو وضع الباطنية عليه حتى قتلوه ، وذكروا ذلك للملك الصالح ونسبوه إلى العجز وأنه ليس له حكم وأن سعد الدين قد تحكم عليه واحتقره واستصغره وقتل وزيره ، ولم يزالوا به حتى قبض عليه ، وكانت حارم لسعد الدين قد أقطعه إياها الملك الصالح ، فامتنع من بها بعد قبضه وتحصنوا فيها ، فسير سعد الدين إليها تحت الاستظهار ليأمر أصحابه بتسليمها إلى الملك الصالح ، فأمرهم بذلك فامتنعوا فعذب كمشتكين وأصحابه يرونه ولا يرحمونه ، فمات في العذاب ، وأصر أصحابه على الامتناع والعصيان ، فلما رأى الفرنج ذلك ساروا إلى حارم من حماة في جمادى الأولى على ما نذكره ظنا منهم أنهم لا ناصر لهم وأن الملك الصالح صبي قليل العسكر وصلاح الدين بمصر ، فاغتنموا هذه الفرصة ونازلوها وأطالوا المقام عليها مدة أربعة أشهر ونصبوا عليها المنجنيقات والسلالم ، فلم يزالوا كذلك إلى أن بذل لهم الملك الصالح مالا وقال لهم : إن صلاح الدين واصل إلى الشام وربما يسلم القلعة من بها إليه ، فأجابوه حينئذ إلى الرحيل عنها ، فلما رحلوا عنها سير إليها الملك الصالح

٩٦

جيشا فحصروها ، وقد بلغ الجهد منهم بحصار الفرنج وصاروا كأنهم طلائع ، وكان قد قتل من أهلها وجرح كثير ، فسلموا القلعة إلى الملك الصالح فاستناب بها مملوكا كان لأبيه اسمه سرخك اه.

سنة ٥٧٥

ذكر محاصرة قليج أرسلان لرعبان ثم انهزامه من تقي الدين عمر

قال في الروضتين : قال ابن أبي طي : اتصل بالسلطان صلاح الدين أن قليج أرسلان قد طمع في أخذ رعبان وكيسون ، فلما دخل دمشق وصله رسوله يطلبهما منه ويدعي أن نور الدين بن زنكي اغتصبهما منه وأن الملك الصالح قد أنعم عليه ، فاغتاظ السلطان وزجر الرسول وتوعد صاحبه ، فعاد الرسول وأخبر قليج أرسلان ، فغضب وسير عسكرا إلى رعبان فحاصرها ، وسمع السلطان فندب تقي الدين عمر في ثمانمائة فارس فسار ، فلما قارب رعبان أخذ معه جماعة من أصحابه مقدار مائتي فارس ، وتقدم عسكره وسار حتى أشرف على عسكر قليج أرسلان ليلا فرآهم وقد سدوا الفضاء وهم قارون آمنون وادعون ، فقال تقي الدين لأصحابه : هؤلاء على ما ترون من الطمأنينة والأمن والغفلة وقد رأيت أن نحمل الساعة فيهم بعد أن نتفرق في جوانب عسكرهم ونصيح فيهم فإنهم لا يثبتون لنا ، فأجابوه إلى ذلك فأنفذ واحدا من أصحابه إلى باقي عسكره وأمرهم أن يتفرقوا أطلابا وأن يجعل في كل طلب قطعة من الكوسات والبوقات ، فإذا سمعوا الضجة ضربوا بكوساتهم وبوقاتهم وجدوا في السير حتى يلحقوا به ، ففعلوا ما أمرهم ، ثم إنه حمل في عسكر قليج أرسلان وخرج أصحابه في جوانبه ، وكان عدة عسكر قليج أرسلان ثلاثة آلاف فارس ، فلما سمعوا الضجة وحس الكوسات والبوقات وشدة وقع حوافر الخيل وجلبة الرجال واصطكاك أجرام الحديد هالهم ذلك وظنوا أن قد فوجئوا بعالم عظيم ، فلم يكن لهم إلا أن جالوا في كواثب خيولهم عريا وطلبوا النجاة وأخذتهم السيوف فتركوا خيامهم وأثقالهم بحالها ، وأكثر تقي الدين فيهم القتل والأسر وحصل على جميع ما تركوه ، فلما أصبح جمع المأسورين ومن عليهم بأموالهم وكراعهم وسرحهم إلى بلادهم اه.

٩٧

وقال في الروضتين : قال ابن أبي طي : وفيها أحرق الإسماعيلية أسواق حلب وافتقر أهلها بذلك ، وكانت إحدى الجوائح التي أصابت حلب وأهلها اه.

سنة ٥٧٦

ذكر قصد صلاح الدين بلد ابن ليون الأرمني

قال ابن الأثير : في هذه السنة قصد صلاح الدين بلد ابن ليون الأرمني بعد فراغه من أمر قليج أرسلان ، وسبب ذلك أن ابن ليون الأرمني كان قد استمال قوما من التركمان وبذل لهم الأموال فأمرهم أن يرعوا مواشيهم في بلاده ، وهي بلاد حصينة كلها حصون منيعة والدخول إليها صعب لأنها مضايق وجبال وعرة ، ثم غدر بهم وسبى حريمهم وأخذ أموالهم وأسر رجالهم بعد أن قتل منهم من حان أجله. ونزل صلاح الدين على النهر الأسود وبث الغارات على بلاده فخاف ابن ليون على حصن له على رأس جبل أن يؤخذ ، فخربه وأحرقه ، فسمع صلاح الدين بذلك فأسرع السير إليه فأدركه قبل أن ينقل ما فيه من ذخائر وأقوات ففتحها وانتفع المسلمون بما غنموه ، فأرسل ابن ليون يبذل إطلاق من عنده من الأسرى والسبي وإعادة أموالهم على أن يعودوا عن بلاده ، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك ، واستقر الحال وأطلق الأسرى وأعيدت أموالهم وعاد صلاح الدين عنه في جمادى الآخرة اه.

سنة ٥٧٧

ذكر وفاة الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين

قال في الروضتين : قال ابن شداد : كان مرضه بالقولنج وكان أول مرضه في تاسع رجب ، وفي الثالث والعشرين منه أغلق باب قلعة حلب لشدة مرضه واستدعى الأمراء واحدا واحدا واستحلفوا لعز الدين صاحب الموصل ، وفي الخامس والعشرين منه توفي رحمه‌الله وكان لموته وقع عظيم في قلوب الناس.

٩٨

وقال ابن أبي طي : كان سبب موته أن علم الدين سليمان بن جندر سقاه سما في عنقود عنب وهو في الصيد ، وقيل الذي سقاه ياقوت الأسدي في شراب ، وقيل إنه أطعمه خشكنانكة وهو في الصيد. قال : ودفن بالمقام الكبير الذي في القلعة وحزن الناس له حزنا عظيما ، وكان من أحسن الناس صورة وأليقهم أعطافا. قلت : وبلغني أنه كان يقال إن موت الملك الصالح صغيرا كان من كرامات نور الدين رحمه‌الله فإنه سأل الله تعالى أن لا يعذب شيئا من أجزائه بالنار وولده جزؤه فمات قبل أن يطول عمره على أحسن سيرة وحالة رحمهما‌الله.

قال ابن الأثير : ولم يبلغ عشرين سنة ، ولما اشتد مرضه وصف له الأطباء خمرا تداويا بها فقال : لا أفعل حتى أستفتي الفقهاء. وكان عنده علاء الدين الكاساني [صاحب كتاب بدائع الصنائع] الفقيه الحنفي بمنزلة كبيرة يعتقد فيه اعتقادا حسنا ويكرمه ، فاستفتاه فأفتاه بجواز شربها ، فقال له : يا علاء الدين إن الله سبحانه وتعالى قد قرب أجلي أيؤخره شرب الخمر؟ قال : لا والله ، قال : والله لا لقيت الله تعالى وقد استعملت ما حرمه علي. قلت (القائل صاحب الروضتين) : يحتمل أنه ذكر له أن من العلماء من ذهب إلى جواز ذلك لا أنه كان يرى ذلك فإن مذهبه بخلافه والله أعلم.

ثم قال ابن الأثير : فلما أيس من نفسه أحضر الأمراء كلهم وسائر الأجناد واستحلفهم لابن عمه أتابك عز الدين وأمرهم بتسليم مملكته جميعها إليه ، فقال له بعضهم : إن ابن عمك عز الدين له الموصل وغيرها من البلاد من همدان إلى الفرات فلو أوصيت بحلب للمولى عماد الدين ابن عمك لكان أحسن ، ثم هو تربية والدك وزوج أختك وهو أيضا عديم المثل في الشجاعة والعقل والتدبير وشرف الأعراق وطهارة الأخلاق والخلال التي تفرد بها ، فقال : إن هذا لم يغب عني ولكن قد علمتم تغلب صلاح الدين على عامة بلاد الشام سوى ما بيدي ومعي فإن سلمت حلب إلى عماد الدين يعجز عن حفظها من صلاح الدين ، فإن ملكها صلاح الدين فلا يبقى لأهلنا معه مقام ، وإذا سلمتها إلى عز الدين أمكنه أن يحفظها لكثرة عساكره وبلاده وأمواله ، فاستحسن الحاضرون قوله وعلموا صحته وعجبوا من جودة رأيه مع شدة مرضه ومن أشبه أباه فما ظلم.

٩٩

وفي مختصر تاريخ الذهبي. كان تدبير أمر حلب إلى والدة الملك الصالح وإلى شاذبخت وخالد بن القيسراني. ثم إن الصالح مرض بالقولنج جمعتين ومات في رجب وتأسفوا عليه وأقاموا عليه المآتم وبالغوا في النوح وكان أمرا منكرا. وكان دينا عفيفا عادلا متحببا إلى العامة متبعا للسنة ولم يبلغ عشرين سنة. ذكر العفيف بن سكرة اليهودي وكان يطبه قال : قلت له : يا مولانا والله شفاؤك في قدح خمر وأنا أحمله إليك سرا فلا تعلم والدتك ولا اللالا ولا أحد ، فقال : كنت أظنك عاقلا ، نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها ، وتقول لا أنت. هذا وما يؤمنني أن أشربه وأموت وهو في جوفي اه.

زاد في الزبد والضرب بعد العبارة المتقدمة : والله لو قال ملك من الملائكة إن شفاءك في الخمر لما استعملته.

قال ابن العديم في ترجمته : كانت وفاته في الخامس والعشرين من رجب وكان لموته وقع عظيم في قلوب الناس ، وكان رحمه‌الله قد ربي أحسن تربية ، وكان دينا عفيفا ورعا كريما محبوبا إلى قلوب الرعية لعدله وحسن طريقته ولين جانبه لهم. قال لي والدي رحمه‌الله : إن اليوم الذي مات فيه انقلبت المدينة بالبكاء والضجيج ولم ير إلا باك عليه مصاب به. قال لي : ودفن بقلعة حلب ولم يزل قبره بها إلى أن ملك الملك الناصر حلب وتسلم قلعتها فحول قبره إلى الخانقاه التي أنشأتها والدته تحت القلعة. قال : ولما حول ظهر من الناس من البكاء والتأسف كيوم مات. قال : ووجد من قبره عند نبشه شبيه برائحة المسك رحمه‌الله. وحكى لي ذلك أيضا غير والدي. وكان رحمه‌الله على صغر سنه كثير الاتباع للسنة والنظر في العواقب ، توفي وله من العمر ثمان عشرة سنة وقيل تسع عشرة سنة.

قال في الزبد والضرب نقلا عن ابن شداد : إنها أنشأت الخانقاه المذكورة في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة وإنها بنت إلى جانبها تربة دفنت فيها ولدها الملك الصالح.

قال في الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة بعد أن ذكر نظير ما تقدم : وجعلت أم الملك الصالح بها قراء عميانا ووقفت عليها البستان المعروف بالبقعة غربي حلب.

١٠٠