إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٢

بحلب وخرج إليهم مجد الدين بن الداية عن لسانه وقال لهم : نحن ما أردنا ببناء المدارس إلا نشر العلم ودحض البدع من هذه البلدة وإظهار الدين ، وهذا الذي جرى بينكم لا يحسن ولا يليق. وقد قال المولى نور الدين : نحن نرضي الطائفتين ونستدعي شرف الدين بن أبي عصرون وقطب الدين النيسابوري ، فاستدعاهما جميعا وولى مدرسة ابن أبي عصرون لشرف الدين ومدرسة النفري لقطب الدين.

ثم قال ناقلا عنه أيضا : أخبرنا افتخار الدين عبد المطلب الهاشمي قال : كان عند القاضي تاج الدين عبد الغفور بن لقمان الكردري قاضي حلب غلام قد جعله لمجلس الحكم يدعى سويدا يحضر الخصوم إلى مجلس الحكم ، فحضر بعض التجار وادعى أنه له على نور الدين دعوى ، فقال الكردري لسويد المذكور : امض إلى نور الدين وادعه إلى مجلس الحكم وعرفه أنه حضر شخص يطلب حضوره ، وكان نور الدين في الميدان ، فجاء سويد إلى باب الميدان فخرج إسماعيل الخزندار فوجد سويدا قادما إليه قال : سيرني تاج الدين يعني القاضي وذكر أنه حضر تاجر وذكر أن له دعوى على المولى نور الدين وقد أنفذني تاج الدين وقال لي كذا وكذا ، فضحك إسماعيل الخزندار ودخل على نور الدين ضاحكا وقال له مستهزئا : يقوم المولى ، فقال : إلى أين؟ فقال : حضر سويد غلام تاج الدين الكردري وقال إن تاج الدين أرسله يطلب المولى إلى مجلس الحكم ، فأنكر نور الدين على إسماعيل استهزائه وقال : تستهزىء بطلبي إلى مجلس الحكم ، وقال نور الدين : يحضر فرسي حتى نركب إليه ، السمع والطاعة ، قال الله تعالى : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) ثم نهض وركب حتى دخل باب المدينة فاستدعى سويدا وقال له : امض إلى القاضي تاج الدين وسلم عليه وقل إنني جئت إلى هاهنا امتثالا لأمر الشرع ، وأحتاج في الحضور إلى مجلسه إلى سلوك هذه الأزقة وفيها الأطيان ، وهذا وكيلي يسمع الدعوى وإن توجهت علي يمين أحضر إن شاء الله تعالى ، قال : فحضر الوكيل وسمع الدعوى وتوجهت اليمين فقال الكردري : قد توجهت اليمين فليحضر ، فلما بلغ نور الدين ذلك وعلم أنه لا مندوحة عن حضور مجلسه لليمين استدعى ذلك التاجر وأصلح الأمر فيما بينه وبينه وأرضاه اه.

وقال في المختار من الكواكب المضية : حكي أن نور الدين كان قاعدا بدمشق على طيارة مشرفة على نهر بردى فوصل إليه كتاب من بلد المعرة يذكر أن جماعة من أهل المعرة

٦١

تغلبوا على كروم وزيتون وأملاك ذكر أنها ليست لهم واستأذن في قبضها فمن أحضر بينة أو حجة سلم إليه ما كان بيده وإن لم يحضر بقي في ديوان بيت المال ، فأمر بكتب مرسوم بذلك فشرع الكاتب يكتب فسمع منشدا يقول :

اعدلوا ما دام أمركم

نافذا في النفع والضرر

احفظوا أيام دولتكم

إنكم منها على خطر

إنما يبقى لكم أبدا

طيب ما يبقى من الخبر

فقال السلطان نور الدين : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) الآية ، ثم أمر بإبطال ذلك الكتاب وجعل يبكي اه.

وقال في الزبد والضرب : عمر بلد حلب في زمان نور الدين لعدله وحسن سيرته حتى ارتفعت الأسعار مع كثرة المغلات لكثرة العالم.

وقال ابن خلكان في تاريخه في ترجمته : كان ملكا عادلا زاهدا عابدا ورعا مستمسكا بالشريعة مائلا إلى أهل الخير مجاهدا في سبيل الله كثير الصدقات ، بنى المدارس بجميع بلاد الشام الكبار مثل دمشق وحلب وحماة وحمص وبعلبك ومنبج والرحبة ، وبنى بمدينة الموصل الجامع النوري ورتب له ما يكفيه ، وبحماة الجامع الذي على نهر العاصي وجامع الرها وجامع منبج وبيمارستان دمشق ودار الحديث بها أيضا ، وله من المناقب والمآثر والمفاخر ما يستغرق الوصف.

وقال ابن الأثير : وأما ما فعله من المصالح فإنه بنى أسوار مدن الشام جميعها وقلاعها ، فمنها دمشق وحمص وحماة وحلب وشيزر وبعلبك وغيرها [ثم قال] : وبنى الخانات في الطرق وبنى الخانكاهات للصوفية في جميع البلاد ووقف على الجميع وقوف الكثرة. سمعت أن حاصل وقفه كل شهر تسعة آلاف دينار صوري ، وكان يكرم العلماء وأهل الدين ويعظهم ويقوم إليهم ويجلسهم معه وينبسط معهم ولا يرد لهم قولا ويكاتبهم بخط يده ، وكان وقورا مهيبا مع تواضعه ، وبالجملة فحسناته كثيرة ومناقبه غزيرة لا يحتملها هذا الكتاب اه.

٦٢

أقول : ومن أراد الوقوف على تفاصيل أخباره ومحمود آثاره فعليه بكتاب الروضتين في أخبار الدولتين (النورية والصلاحية) فإنه جمع وأوعى.

آثاره الجليلة في حلب

المدرسة الحلوية :

قال في الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة : المدرسة الحلوية كانت كنيسة من بناء هيلانة أم قسطنطين وجعلها القاضي أبو الحسن بن الخشاب مسجدا بسبب ما اعتمده الفرنج من بعثرة قبور المسلمين وإحراقهم حين حصارهم حلب في سنة ثمان عشرة وخمسمائة ، وكانت تعرف بمسجد السراجين ، فلما ملك نور الدين جعلها مدرسة وجدد بها مساكن يأوي إليها الفقهاء. وكان مبدأ عمارتها في سنة أربع وأربعين [صوابه ثلاث وأربعين كما هو مكتوب على جدار بابها] وهي من أعظم المدارس صيتا وأكثرها طلبة وأغزرها جامكية. قال : ومن شرط الواقف أن يجعل في كل شهر رمضان من وقفها ثلاثة آلاف درهم للمدارس يضع بها طعاما للفقهاء ، وفي ليلة النصف من شعبان في كل سنة حلوى معلومة وفي الشتاء ثمن لباس لكل فقيه شيء معلوم ، وفي أيام شرب الدواء من فصلي الربيع والخريف ثمن ما يحتاج إليه من دواء وفاكهة ، وفي المواليد أيضا الحلوى ، وفي الأعياد ما يرتفقون به فيها دراهم معلومة ، وفي أيام الفاكهة ما يشترون به من أنواعها بطيخا ومشمشا وتوتا.

وقال قبل ذلك في باب ذكر المزارات : وشوهد بالمدرسة الحلاوية الحنفية بحلب مذبح من الرخام الملكي الشفاف الذي يقرب النصارى عليه القربان ، وهو من أحسن الرخام صورة ، إذا وضع تحته ضوء يرى من وجهه ، فسئل عن ذلك فقيل إن نور الدين محمود بن زنكي أحضره من أفامية سنة أربع وأربعين ووضعه في هذه المدرسة ، وعليه كتابة باليونانية فعربت فكانت (إنه عمل هذا للملك فلطيانس والنسر الطائر في أربعة عشر درجة من برج العقرب) قال : فيكون مقدار ذلك ثلاثة آلاف سنة إلى أيام نور الدين الشهيد المذكور.

٦٣

وقيل : إن نور الدين المذكور كان يحشو القطايف للفقهاء ويملأ هذا الجرن ويجتمعون عليه ويأكلونها (١) ، وهذا الجرن هو الآن بالمدرسة الحلاوية. (قلت) : وقد شاهدت هذه الرخامة لكنها ليست بجرن ، فإن الجرن الحجر المنقور المتخذ للوضوء والوضع فيه ، وهذه الرخامة بسيطة طويلة عريضة مربعة إلى الطول أقرب إلا أن لها حافات عالية عنها مقدارا يسيرا نحو إصبعين أو ثلاثة.

(حاشية بين سطور الدر المنتخب) : وقال كاتب هذه الأحرف أبو اليمن البتروني : وقع على هذا الجرن أحد جدران المدرسة فانكسر وصار قطعا وأسف الناس عليه لأنه كان غاية في الحسن اه.

مدرسو المدرسة من حين بنائها إلى سنة ٦٥٠ تقريبا :

قال ابن شداد : ولما فرغ نور الدين من بنائها استدعى لها من دمشق الفقيه الإمام برهان الدين أحمد بن علي الأصولي السلفي ليجعله نائبا عن برهان الدين البلخي ، فامتنع من القدوم فسير إليه ثانيا فأجابه ، ولم يزل نائبا إلى أن مات ، ولما مات شمت الناس بعلي لموت أحمد ، وتولى تدريسها الإمام الفاضل رضي الدين محمد بن محمد أبو عبد الله السرخسي صاحب المحيط ، كان قدم حلب فولاه محمود بن زنكي التدريس ، وكان في لسانه لكنة فتعصب عليه جماعة من الفقهاء الحنفية فصغروا أمره عند نور الدين فمات يوم الجمعة آخر جمعة من رجب سنة إحدى وسبعين وخمسمائة ، فولي مكانه إسماعيل الغزنوي البلخي وكان بالموصل ، ثم ولي صاحب التصانيف البديعة في أحكام الشريعة علاء الدين (٢) ، ثم ولي الإمام افتخار الدين عبد المطلب بن الفضل الهاشمي صاحب الرواية العالية الفاخرة والدراية الزاهية الزاهرة ، شرح الجامع الكبير شرحا لطيفا مستوفيا وقام بما

__________________

(١) أقول : ولهذا سميت المدرسة الحلوية. وقال في الزبد والضرب : إن الظاهر في تسميتها بالحلاوية لم تكن لما كان يصنعه من الحلوى ويضعه في الجرن المذكور ، وإنما كان لحلاويين كانوا بجوارها.

أقول : إنها قبل أن تتخذ مدرسة كانت مسجدا يعرف بمسجد السراجين ، والظاهر أنه سمي بذلك لسراجين كانوا بجانبه ، ولا يعرف ذلك السوق بسوق الحلاويين وقتئذ ، فيغلب على الظن في تسميتها بالمدرسة الحلوية ما هو مشهور بين الناس وهو هذه الحلوى التي كانت تصنع للفقهاء وتوضع في هذا الجرن

(٢) هو صاحب بدائع الصنائع في الفقه الحنفي وستأتيك ترجمته.

٦٤

شرط ، ثم تولى العلامة تاج الدين أبو المعالي واستمر مدرسا إلى أن مات ، ثم ولي تدريسها الإمام العلامة جامع أشتات الفضائل المبرز في معلوماته على الأواخر والأوائل المضيف إلى عالي الرواية عظيم الدراية الوافر الحظ من حسن الخط كمال الدين أبو القاسم أحمد بن عمر ابن أبي جرادة المعروف بابن العديم ، ولم يزل مدرسا حتى كتب عليه الجلاء مع من كتب من أهل حلب اه.

قال ابن الشحنة في الدر المنتخب : ولم يزل المدرسون ينتقلون بها إلى أن اتصلت إلى سيدي الوالد رحمه‌الله تعالى ، ثم إليّ خاصة بتوقيع شريف في سنة أربع وعشرين وثمانمائة.

أقول : وفي خلال التراجم تجد أسماء من تولى التدريس في هذه المدرسة ، والذي يظهر أن أمرها كان جاريا على السداد إلى أوائل القرن الماضي حينما تولاها أحفاد محمد أفندي الطرابلسي مفتي حلب فأهمل أمر التدريس فيها لأنهم لم يكونوا من أهل العلم ، وتداعت أبنيتها إلى الخراب ، وقد أدركناها والأتربة مالئة وسطها. وفي أواخر القرن الماضي كان المتولي عليها الأخوين السيد محمدا أبا الفتح والسيد محمودا ابني السيد عبد الوهاب ابن الشيخ مصطفى الطرابلسي ففرغا التولية سنة ١٢٩٤ إلى الشيخ مصطفى بن الشيخ محمد طلس ، ولما استلم المدرسة منهما كانت خرابا يبابا وليس فيها من القديم سوى مكان الصلاة والمحراب البديع الذي في إيوانها. ولم يبق لها من العقارات سوى دارين داخل المدرسة وأربع دكاكين اثنتان عن يمين الداخل إلى المدرسة واثنتان عن الشمال.

وللمدرسة أراض محكرة لجماعة معلومين في المحلة المعروفة الآن بالتلل كانت تعرف بمناشر الزبل يؤخذ منها بدل زهيد جدا هو عبارة عن عشرة أرطال زيتا ، ولما تولى المدرسة الشيخ مصطفى المذكور وجد أن ذلك إجحاف في حقوق المدرسة فرفع الأمر إلى والي الولاية وقتئذ جميل باشا فمد له الوالي يد العناية إلى أن تمكن من استرداد تلك الأراضي بعد محاكمات دامت سنين ، ولما تم له ذلك باشر بتحكيرها بأجر مثلها في ذلك الوقت ، ومن هذه الواردات صار يعمر المدرسة ويشتري لها بفاضل الغلة عقارات ، ولما توفي سنة ١٣١٥ جرى ولده الشيخ محمد الذي صار متوليا عليها على تلك الطريقة وبقي إلى أن توفي سنة ١٣٣٣ وآلت التولية إلى ولده محمد الذي هو في قيد الحياة الآن ، ولصغر سنه قام بأمر التولية عنه عمه الشيخ عبد الوهاب أفندي فجرى على تلك الطريقة إلى أن عمرت المدرسة

٦٥

جميعها وفرشت بالرخام في أماكنها كافة وأصبح فيها من الحجر اثنتا عشرة حجرة للطلاب ، وعين في هذه السنة وهي سنة ١٣٤٢ لكل طالب مائتي قرش رائجة. وصار للمدرسة من العقارات اثنان وستون عقارا ، وقد أطلعني المومى إليه على دفترين أحدهما محرر سنة ١٠٧٩ وفيه ذكر العقارات الموقوفة على المدرسة والأحكار التي كانت تأخذها من كثير من الدور والحوانيت والبساتين والأراضي ، وعلى هذا الدفتر إمضاء وختم القاضي نقيب زاده السيد محمد سعيد الحجازي المولى بالمحكمة الشافعية ، ودفتر آخر محرر سنة ١٢١٩ وفيه أيضا ذكر ذلك ، ومعظم هذه الأماكن لا تتناول المدرسة اليوم منها شيئا ، وقد تغلبت الأيدي منذ سنين طويلة عليها ، ولو كانت باقية على حالها لكان للمدرسة من الريع مبالغ طائلة ولله في خلقه شؤون.

المدرسة العصرونية :

قال في الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة : إن هذه المدرسة كانت دارا لأبي الحسن علي بن أبي الثريا وزير بني دمرداش ، فصيرها الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بعد انتقالها إليه بالوجه الشرعي مدرسة وجعل فيها مساكن للمرتبين بها من الفقهاء ، وذلك في سنة خمسين وخمسمائة ، واستدعى لها من جبل بناحية سنجار الشيخ الإمام شرف الدين أبا سعد عبد الله بن أبي السري محمد بن هبة الله بن المطهر بن علي بن أبي عصرون بن أبي السري التميمي الحديثي ثم الموصلي الشافعي ، وكان من أعيان فقهاء عصره ، ولما وصل إلى حلب ولي تدريسها والنظر فيها ، وهو أول من درس بها فعرفت به ، وصنف كتبا كثيرة في المذهب والخلاف والفرائض مشهورة في أيدي الناس اه.

أقول : إذا كانت المدرسة بنيت سنة ٥٥٠ كما ذكره هنا فيكون قد استدعي من الشام لا من سنجار ، لأنه كما في ترجمته في ابن خلكان قدم إلى حلب سنة ٥٤٥ وتوجه منها إلى الشام في أوائل سنة ٥٤٩ ثم عاد إلى حلب وبقي في هذه البلاد إلى سنة ٥٧٠ فتوجه فيها إلى الشام وتوفي فيها سنة ٥٨٥.

وإذا كان بناؤها سنة ٥٤٥ فيكون قد استدعي من سنجار لأنه في هذه السنة قدم إلى حلب كما نقلناه عن ابن خلكان. ويظهر أن الأصح أن بناءها سنة ٥٤٥ لأن ابن أبي عصرون والقطب النيسابوري استدعيا في آن واحد كما قدمناه في ترجمة نور الدين.

٦٦

المدرسة النفرية وهي المدرسة النورية :

قال في الدر المنتخب : المدرسة النفرية لا أدري من المنسوب إليه هذه المدرسة. ثم قال : المدرسة النورية أنشأها الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي في سنة أربع وأربعين وخمسمائة.

وقال في المختار من الكواكب المضية : ومن جملة أوقافه بحلب المدرسة النورية المعروفة بالنفرية.

وقال في الزبد والضرب : لما بنى نور الدين المدرسة النفرية ولاها القطب النيسابوري واسمه كما في ابن خلكان مسعود بن مسعود النيسابوري الطرثيثي الفقيه الشافعي الملقب قطب الدين. وتولى كما في ابن خلكان تدريس المدرسة التي بناها أسد الدين شيركوه وكانت وفاته في دمشق سنة ٥٧٨.

المدرسة الشعيبية :

قال في الدر المنتخب : كانت هذه مسجدا أول ما اختطه المسلمون عند فتح حلب ويعرف بالغضايري كما تقدم ، فلما ملك نور الدين حلب وأنشأ المدارس بها وصل الشيخ شعيب بن أبي الحسن بن الحسين بن أحمد الفقيه الأندلسي فصيرت له مدرسة فعرفت به ولم يزل مدرسا بها إلى أن توفي سنة ست وتسعين وخمسمائة في طريق مكة. قلت : وهي يومئذ جامع يقام فيه الخطبة اه.

أقول : هي في محلة باب أنطاكية قبالة الباب المذكور يكتنفها من طرف اليمين سوق الصباغين ومن طرف الشمال الزقاق الذي في آخره حمام بزدار ، وهي الآن مسجد تقام فيه الصلاة.

خانقاه القصر :

قال في الدر المنتخب : قال ابن شداد : خانقاه القصر وهي تحت القلعة أنشأها الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي ، وسميت بهذا الاسم لأنه كان مكانها قصر من بناء شجاع الدين فاتك ، وكان مبدأ عمارتها في سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة.

٦٧

خانقاه القديم :

قال في الدر المنتخب : أنشأها نور الدين أيضا وتولى النظر على عمارتها شمس أبو القاسم الطرسوسي.

البيمارستان :

قال في الدر المنتخب : البيمارستان النوري بناه الملك العادل نور الدين محمود داخل باب أنطاكية بالقرب من سوق الهواء [في محلة الجلّوم الكبرى في الزقاق المعروف الآن بزقاق البهرمية]. يقال إن الملك العادل نور الدين تقدم إلى الأطباء أن يختاروا من حلب أصح بقعة صحيحة الهواء لبناء البيمارستان بها ، فذبحوا خروفا وقطعوه أربعة أرباع وعلقوها بأرباع المدينة ليلا ، فلما أصبحوا وجدوا أحسنها رائحة الربع الذي كان في هذا القطر فبنوا البيمارستان فيه ، ووقف عليه قرية معراتا ونصف مزرعة وادي العسل من جبل سمعان وخمسة أفدنة من مزرعة كفرنايا وثلث مزرعة الخالدي وطاحونها من المطخ وثمن طاحون أعريبة ظاهر باب الجنان وثمانية أفدنة من مزرعة أبو مدايا من عزاز وخمسة أفدنة بمزرعة الحميرة من المطخ واثني عشر فدانا من مزرعة الفرزل من المعرة وثلث قرية بيت راعل من الغربيات وعشرة دكاكين بسوق الهواء هو الآن معروف بسوق الكمرك ، منها ثلاثة تمام والباقي شركة الجامع الكبير وأحكار ظاهر باب أنطاكية وباب الفرج وباب الجنان اه.

أقول : هو الآن خراب لم يبق منه سوى بابه وجدران أطرافه يأوي إليه الفقراء من الغرباء. ومن الغريب أن معتمد إيطاليا آدولف صولا عمر فوق باب البيمارستان المذكور قنطرة جعل طرفها تحت أطراف قصر داره التي هي تجاه البيمارستان المذكور حفظا للقصر وذلك منذ خمس عشرة سنة ، وكان ذلك في ليلة واحدة ، ولم ينتطح لذلك عنزان ، غايته أن المتولي على البيمارستان رفع الأمر إلى الحكومة وإلى المجلس البلدي فلم يلتفت إليه وكأن الحادثة لم تكن فلله الأمر. إلا أنه بعد ذلك ابتلي بالأمراض والأسقام ولم يطب عيشه إلى أن مات.

ومن آثاره تجديد بناء الجامع الأعظم والتوسيع فيه :

يجدر بنا قبل الكلام على ذلك أن نذكر تأسيس بناء هذا الجامع وما حصل فيه إلى أن نصل إلى هذا التاريخ.

٦٨

قال في كراسة عندي (يظهر أنها من كنوز الذهب لأبي ذر) ما ملخصه أن أبا عبيدة لما فتح حلب صالح أهلها على موضع المسجد الجامع فاختطه الصحابة رضي‌الله‌عنهم وكان بستانا للكنيسة التي هي الحلاوية ، والجب الذي فيه كان دولابا للبستان ، ثم جدده سليمان بن عبد الملك. ولم يذكر ابن العديم في ترجمة سليمان أن سليمان بناه. وقال في مكان آخر : وبلغني أن سليمان هو الذي بناه كما رأيته بخط ابن عشاير. وقد كان هذا الجامع يضاهي جامع دمشق في الزخرفة والرخام والفسيفساء ، وباهى سليمان في بنائه ما عمل أخوه الوليد في جامع دمشق ، وقيل إنما بناه الوليد وإنه نقل إليه آلة كنيسة قورص ، وكانت هذه الكنيسة من عجائب الدنيا. يقال إن ملك الروم بذل في ثلاثة أعمدة كانت فيها سبعين ألف دينار فلم يسمح الوليد بذلك. ويقال إن بني العباس نقضوا ما كان فيه من الرخام والآلات إلى جامع الأنبار لما نقضوا آثار بني أمية من بلاد الشام ، وعلى باب الحجازية حجر من الرخام الأبيض يقال إن عمر بن عبد العزيز جلس عليه ولا يجلس هناك مهموم في الغالب إلا انفرج همه ببركته. وهذه الحجرة يبلغ طولها نصف ذراع وعرضها أقل من ذلك.

أقول : ولما وسع باب الحجازية وجدد الدرج الذي أمامه وذلك سنة ١٣٢٦ وقلعت الأحجار التي كانت أمام الباب تفتتت هذه فوضعت في كيس من الكتان ومعها زجاجة في داخلها ورقة كتب فيها قصتها ، وقد وضع ذلك الكيس في البنيان وراء الحجر المنقوش فوق باب الحجازية.

قال في الدر المنتخب : ولما دخل نقفور حلب في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة أحرق الجامع والبلد ورحل من حلب ، وعاد سيف الدولة إليها من قنسرين ورم بعض المسجد ، ولما مات سيف الدولة وتولى ولده أبو المعالي سعد الدولة شريف بنى فيه قرعويه غلام أبيه قبة الفوارة التي في وسط الجامع ، وفي هذه القبة جرن رخام أبيض في غاية الكبر والحسن ، وفي دور حافة الجرن مكتوب [هذا ما أمر بعمله قرعويه غلام سيف الدولة في سنة أربع وخمسين وثلثمائة].

أقول : الكتابة كانت قدر نصف ذراع ، وقد كان أثر النقش باقيا وقد محي هذا الأثر سنة ١٣٠٢ حينما رمم الحوض وذلك في زمن والي الولاية وقتئذ جميل باشا ، وياليتهم أبقوا هذا الأثر وإن كان قليلا.

٦٩

قال في الكراسة : والماء ينصب من هذا الجرن إلى بركة مقطعة من الرخام الأصفر ، ثم يسيل إلى بركة من رخام أصفر قطعة واحدة وهي من عجائب الدنيا ، والعمود الذي في وسط الجامع رؤي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي عنده ، وفي أعلاه صحن من الحديد كان يوضع فيه البحور قديما ويوضع فيه تارة زيت وحب قطن ليضيء على الجامع.

وأما الشرقية فبناها بنو عماد الدين وكانوا أصحاب طرابلس قديما ، وكان فيها آبار لخزن الغلات المتحصلة من ريع كنيسة هيلانة وهي الحلاوية ، وشاهدت جبا في الحجازية إلى جانب البركة ، وإنما سميت حجازية لأنها منزل أهل الحجاز.

(ثم قال) : وعلم أن الدخول إلى هذا الجامع والصلاة فيه تزيل الكرب وتفرج المهموم ، وهذا مشاهد مرئي ، كيف لا وقد بني في أيام عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه كما تقدم وخطب فيه الصالحون والأخيار كعمر بن عبد العزيز وسليمان بن عبد الملك ، وأخيرا خطب فيه الخطيب أبو يحيى عبد الرحيم الفارقي ابن نباتة صاحب الخطب المشهورة التي وقع الإجماع أنه ما عمل مثلها ، وقصة رؤياه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتفله في فيه مشهورة ، وأقام ثمانية عشر يوما لا يطعم ولا يشرب لبركتها.

ولأبي بكر الصنوبري الشاعر المشهور شاعر سيف الدولة قصيدة طويلة يمدح فيها حلب ذكرها ياقوت في معجمه ، ومما قاله فيها في مدح هذا الجامع :

حلب بدر دجى أنجمها الزهر قراها

حبذا جامعها الجامع للنفس تقاها

موطن يرسي ذوو البر لمرساه جباها

سهوات الطرف فيه فوق ما كان اشتهاها

قبلة كرمها الله بنور وحباها

ورآها ذهبا في لازورد من رآها

ومراقي منبر أعظم شيء مرتقاها

وذرى مئذنة طالت ذرى النجم ذراها

ولفوّارته ما لا تراه بسواها

قصعة ما عدت الكعب ولا الكعب عداها

أبدا يستقبل السحب بسحب من حشاها

٧٠

فهي تسقي الغيث إن لم يسقها أو إن سقاها

كنفتها قبة يضحك عنها كنفاها

قبة أبدع بانيها بناء إذ بناها

ضاهت الوشي نقوشا فحكته وحكاها

لو رآها مبتني قبة كسرى ما ابتناها

فندا الجامع سرو يتناهى من تناهى ١

حييا السارية الخضراء منه حيياها

قبلة المستشرف الأعلى إذا قابلتماها

حيث يأتي حلقة الآداب منا من أتاها

من رجالات حبا لم يحلل الجهل حباها

من رآهم من سفيه باع بالعلم السفاها

وهذه السارية الخضراء كان يجتمع إليها المشتغلون بالأدب يقرؤون عندها وذهبت في الحريق ، وما زالت حلقة الأدب لقراءة النحو واللغة معقودة بجامع حلب ليلا ونهارا ، وكذلك لقراءة القرآن العزيز وما فتىء على هذه الحالة ، وكان مشرق العابد يقرأ فيه الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة وذلك قبل أن تبنى المدارس بحلب.

واعلم أن هذا الجامع كان قديما يدرس فيه على المذاهب الأربعة ، ولكل مذهب مكان مخصوص ، وبه المحدثون وأرباب الفتاوى ولهم معاليم على ذلك ، وأمره منتظم إلى محنة تيمور ، والآن قد زالت المسميات وبقيت الأسماء كما قال الأول :

مدارس آيات خلت من تلاوة

ومهبط وحي مقفر العرصات

قال ابن شداد : زاويتان بالجامع المذكور وقفهما العادل نور الدين لتدريس مذهب مالك وأحمد ، وزاوية بالجامع لتدريس الحديث وقفها العادل نور الدين ، وإنما أغفل المذهبين لأنهما كان يدرس فيهما قبل نور الدين. وقرأت بخط الصاحب ما لفظه إبراهيم بن

__________________

١ ـ ويروى :

فبذا الجامع سرو

يتباهى من تباهى

٧١

عيسى الفقيه المالكي المغربي يلقب بالحجة ، فقيه حسن فاضل عارف بالأصول ومذهب مالك ، قدم علينا حلب قبل الستمائة وولي التدريس بزاوية المالكية بالمسجد الجامع ودام يدرس بها مذهب مالك إلى أن توفي بعد الأربعين والستمائة بحلب.

آثار نور الدين فيه :

قال في الدر المنتخب في الكلام على المسجد الجامع : لما كانت ليلة الأربعاء السابع والعشرين من شوال سنة أربع وستين وخمسمائة في أيام الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي أحرقته الإسماعيلية واحترقت الأسواق التي حوله ، فاجتهد نور الدين في عمارته وقطع الأعمدة الصفر من بعادين ونقل إليه عمد مسجد قنسرين ، لأن العمد الرخام التي كانت فيه كانت قد تفطرت وتنخرت من حريق النار وسقطت ، وكانت قواعد العمد في صحن الجامع مع شيء من الرؤوس وهي في أرضه ، فجمعت وبني بعضها فوق بعض في الغربية التي فيه ، وكان النصف القبلي من الشرقية التي في قبلي الجامع الآن الملاصقة لسوق البز عن يمين الداخل من الباب القبلي سوقا موقوفا على الجامع ، ولم يكن المسجد على التربيع فأحب نور الدين محمود أن يضيف ذلك إلى الجامع فاستفتى في ذلك الفقيه علاء الدين أبا الفتح عبد الرحمن بن محمود الغزنوي فأفتاه بجوازه ، فنقض السوق وأضاقه إلى الجامع فاتسع به وحسن في مرأى العين ووقف عليه نور الدين أوقافا كثيرة.

نواب نور الدين بحلب وآثارهم :

قدمنا أن نور الدين محمود ملك دمشق سنة ٥٤٩ ، ويظهر من خلال الحوادث أنه في سنة ٥٥٣ أو ٥٥٤ اتخذها دار ملكه ومقره ، وكان يتردد إلى الشهباء وإلى هذه البلاد للغزو والنظر في شؤونها إلى حين وفاته ، وكان ينوب عنه في الشهباء كما تراه في خلال الحوادث الأمير مجد الدين أبو بكر بن الداية وهو رضيعه وأكبر أمرائه ، وهذا قد توفي في سنة خمس وستين وخمسمائة ، وبعد وفاته قام بأمر النيابة بعده أخوه الأمير علي الملقب شمس الدين ، ولما توفي الملك العادل نور الدين كان هو القابض على زمام الأمور بالشهباء ، وكان والي القلعة جمال الدين شاذبخت الخادم الهندي عتيق نور الدين.

٧٢

المدرسة المجدية الجوانية :

قال في الدر المنتخب : هذه المدرسة منسوبة إلى مجد الدين بن الداية وهي بالقرب من ضريح النبي بلوقيا بمحلة بزي ، وقد خربت ولم يبق منها عين ولا أثر في سنة ست وثلاثين وتسعمائة.

المدرسة المجدية البرانية :

قال فيه : المدرسة المجدية البرانية منسوبة إليه أيضا ، لكن دثرت بالكلية بحيث لم يبق لها عين ولا أثر ، ولكن البقعة التي كانت بها تعرف الآن بالمجدية.

دار الحديث :

وقال فيه : ومن دور الحديث دار أنشأها مجد الدين بن الداية.

خانقاه :

وقال فيه : خانقاه بعرصة الفراتي أنشأها مجد الدين أبو بكر محمد بن الداية بن محمد بن توشتكين ، وكانت وفاته سنة خمس وستين وخمسمائة.

خانقاه أيضا :

وقال فيه : خانقاه أنشأها الأمير مجد الدين بن الداية بمقام إبراهيم عليه‌السلام.

المدرسة الشاذبختية :

قال في الدر المنتخب : هذه المدرسة أنشأها الأمير جمال الدين شاذبخت الخادم الهندي الأتابكي ، كان نائبا عن نور الدين محمود بحلب ، وأول من درس بها موفق الدين أبو الثناء محمود بن النحاس ، ثم عمر بن العديم. قال ابن الشحنة : ولم يزل المدرسون ينتقلون بها إلى أن اتصلت إلى سيدي الوالد ومن بعده إليّ بورود توقيع شريف باسمي بعرض الأمير سيف الدين قصروه نائب حلب ، ولم تزل بيدي حتى نزلت عنها لولديّ أبي اليمن محمد وأبي محمد عبد البر مع ما نزلت لهما عنه من الوظائف بحلب عند استقرائي ١ في قضاء الديار المصرية اه.

__________________

١ ـ هكذا في الأصل والصواب : استقراري.

٧٣

أقول : موقع هذه المدرسة في وسط السوق المعروف بسوق الزرب [محرف عن الضرب] وهو يبتدىء من آخر سوق العبي ويخرج منه إلى تجاه القلعة ومكتوب على بابها :

١ ـ بسم الله الرحمن الرحيم وقف هذه المدرسة على أصحاب الإمام

٢ ـ الأعظم سراج الأمة أبي حنيفة رضي‌الله‌عنه في أيام

٣ ـ الملك الظاهر غازي بن يوسف عز نصره العبد الفقير إلى رحمة

٤ ـ ربه شاذبخت عتيق الملك العادل محمود بن زنكي في سنة تسع وثمانين وخمسمائة

وفي شمالي المدرسة حجرة كبيرة في وسطها ضريح يقول الناس إنه قبر رجل اسمه الشيخ معروف ، وقد اشتهرت هذه المدرسة الآن باسمه وهو عندنا غير معروف ، ولهذه الحجرة نافذة كبيرة مطلة على السوق كتب في أعلاها ما كتب على الباب ، ولها من الأوقاف خمس حوانيت في نفس السوق ونصف دار في محلة ساحتبزه ، وقد أخرج المتولي على المدرسة محمد رضا الخواجكي حانوتين من المدرسة من إيوانها ، وأخبرني أن مجموع ريع هذه الحوانيت مع نصف الدار أربعين ليرة عثمانية ذهبا ، وهو يعمر الآن حجرتين صغيرتين عن يسار القبلية وحجرة كبيرة عن يمينها.

ومحراب القبلية بديع جدا وفيه عمودان من الرخام الأبيض ، وهو يقارب في هندسته المحراب الذي في مدرسة الفردوس والمحراب الذي في جامع البهرمية ، وقد كتب على أعلى المحراب (عمل أبي الرجا وعبد الله ابني يحيى رحمه‌الله).

وقال في الدر المنتخب (في صحيفة ١٢١) : عود إلى ما ذكره ابن شداد من المدارس الحنفية التي بظاهر حلب : (المدرسة الشاذبختية) تقدم لنا اسم بانيها ، وأول من درس بها موفق الدين أبو الثنا محمود بن النحاس باعتبار شرط الواقف أن من درس في الجوانية (التي قدمنا ذكرها) كان إليه التدريس في البرانية ، إلا أن يرى الواقف أن يفرق بينهما ، ثم انتقل تدريسها إلى كل مدرسي الجوانية المقدم ذكرهم. قلت : وقد دثرت هذه المدرسة ولم يبق لها عين ولا أثر وباع من كان ناظرا عليها من بني العديم حجارتها لعلم الدين ابن الجابي الوزير اه.

٧٤

ذكر ولاية الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين

قال في الروضتين : قال ابن الأثير : لما توفي نور الدين جلس ابنه الملك الصالح إسماعيل في الملك بعده ، وكان عمره إحدى عشرة سنة ، وحلف له الأمراء والمقدمون بدمشق وأقام بها وأطاعه الناس في سائر بلاد الشام وصلاح الدين بمصر ، وخطب له بها وضرب السكة باسمه فيها ، وتولى تربيته الأمير شمس الدين محمد بن المقدم اه.

قال في الزبد والضرب : لما توفي نور الدين كان والي قلعة حلب جمال الدين شاذبخت الخادم الهندي عتيق نور الدين وهو الذي بنى المدرسة لأصحاب أبي حنيفة بحلب ، فوصله كتاب الطير بوفاة نور الدين ، فأمر في الحال بضرب الدبابات والكوسات والبوقات ، وأحضر المقدمين والأعيان والفقهاء والأمراء وقال : قد وصل كتاب الطائر يخبر أن مولانا الملك العادل قد ختن ولده وولاه العهد بعده ومشى بين يديه ، فأظهروا السرور بذلك وحمدوا الله تعالى فقال : تحلفون لولده الملك الصالح كما أمر الملك العادل بأن حلب له وأن طاعتكم له وخدمتكم كما كانت لأبيه ، فحلف الناس على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم في ذلك اليوم ولم يترك أحدا منهم يزول من مكانه ، ثم قام إلى مجلس آخر ولبس ثياب الحداد وخرج إليهم وقال : يحسن الله عزاكم في الملك العادل فإن الله تعالى قد نقله إلى جنات النعيم ، فأظهروا الحزن والكآبة والأسف والبكاء. واستقر الملك الصالح وتوجه المؤيد ابن العميد وعثمان بن زردك وهمام الدين إلى حلب في الرابع والعشرين من شوال لإثبات ما في خزائن حلب وختمها بختم الملك الصالح.

ذكر ملك سيف الدين صاحب الموصل البلاد الجزرية

قال ابن الأثير : كان نور الدين قبل أن يمرض قد أرسل إلى البلاد الشرقية وديار الجزيرة وغيرها يستدعي العساكر لحجة الغزاة والمراد غيرها ، فسار سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل في عساكره وعلى مقدمته الخادم سعد الدين كمشتكين الذي كان قد جعله نور الدين بقلعة الموصل مع سيف الدين ، فلما كانوا ببعض الطريق وصلت الأخبار بوفاة نور الدين ، فأما سعد الدين فإنه كان في المقدمة

٧٥

فهرب جريدة ، وأما سيف الدين فأخذ كل ما كان له من برك وغيره ، وعاد إلى نصيبين فملكها وأرسل الشحن إلى الخابور فاستولوا عليه وأقطعه ، وسار هو إلى حران فحصرها عدة أيام وبها مملوك لنور الدين يقال له قايماز الحراني فامتنع بها وأطاع بعد ذلك على أن تكون حران له ، ونزل إلى خدمة سيف الدين فقبض عليه وأخذ حران منه وسار إلى الرها فحصرها وملكها ، وكان بها خادم خصي أسود لنور الدين فسلمها وطلب عوضها قلعة الزعفران من أعمال جزيرة ابن عمر فأعطيها ، ثم أخذت منه ، ثم صار إلى أن يستعطي ما يقوم به ويقوته. وسير سيف الدين إلى الرقة فملكها وكذلك سروج واستكمل جميع بلاد الجزيرة سوى قلعة جعبر فإنها كانت منيعة ، وسوى رأس عين فإنها كانت لقطب الدين صاحب ماردين وهو ابن خال سيف الدين ، فلم يتعرض إليها ، وكان شمس الدين علي بن الداية وهو أكبر الأمراء النورية بحلب مع عساكرها فلم يقدر على العبور إلى سيف الدين ليمنعه من أخذ البلاد لفالج كان به ، فأرسل إلى دمشق يطلب الملك الصالح فلم يرسل إليه خوفا من أن يغلب على الأمراء كما سيأتي. ولما ملك سيف الدين الجزيرة قال له فخر الدين عبد المسيح وكان قد وصل إليه من سيواس بعد موت نور الدين وهو الذي أقر له الملك بعد أبيه ، فظن أن سيف الدين يرعى له ذلك فلم يجن ثمرة ما غرس ، وكان عنده كبعض الأمراء ، قال له : الرأي أن تعبر إلى الشام فليس به مانع ، فقال له أكبر أمرائه وهو أمير يقال له عز الدين محمود المعروف بزلفندار : قد ملكت أكثر ما كان لأبيك والمصلحة أن تعود ، فرجع إلى قوله وعاد إلى الموصل ليقضي الله أمرا كان معفولا اه.

ذكر ما كان من الأمور بين صلاح الدين

وبين أمراء دمشق بعد وفاة الملك العادل نور الدين

قال في الروضتين : قال ابن الأثير : لما توفي نور الدين قال الأمراء منهم شمس الدين ابن المقدم وحسام الدين الحسين بن عيسى الجراحي وغيرهما من أكابر الأمراء : قد علمتم أن صلاح الدين من مماليك نور الدين ونوابه ، والمصلحة أن نشاوره فيما نفعله ولا نخرجه من بيننا فيخرج عن طاعة الملك الصالح ويجعل ذلك حجة علينا وهو أقوى منا ، لأن له مثل مصر ، وربما أخرجنا وتولى هو خدمة الملك الصالح ، فلم يوافق أغراضهم هذا القول

٧٦

وخافوا أن يدخل صلاح الدين ويخرجوا ، قال : فلم يمض غير قليل حتى وصلت كتب صلاح الدين إلى الملك الصالح يهنئه بالملك ويعزيه بأبيه ، وأرسل دنانير مصرية وعليها اسمه ويعرفه أن الخطبة والطاعة له كما كانت لوالده ، فلما سار سيف الدين غازي ابن عمه قطب الدين وملك الديار الجزرية ولم يرسل من مع الملك الصالح من الأمراء إلى صلاح الدين ولا أعلموه الحال كتب إلى الملك الصالح يعتبه حيث لم يعلمه قصد سيف الدين بلاده ليحضر في خدمته ويمنعه ، وكتب إلى الأمراء يقول : إن الملك العادل لو علم أن فيكم من يقوم مقامي أو يثق إليه مثلي ثقته بي ليسلم إليه مصر التي هي أعظم ممالكه وولاياته ، ولو لم يعجل عليه الموت لم يعهد إلى أحد بتربية ولده والقيام بخدمة مولاي وابن مولاي دوني فسوف أصل إلى خدمته وأجازي إنعام والده بخدمة يظهر أثرها وأقابل كلا منكم على سوء صنيعه وإهمال أمر الملك الصالح ومصالحه حتى أخذت بلاده ، فأقام الصالح بدمشق ومعه جماعة من الأمراء لم يمكنوه من المسير إلى حلب لئلا يغلبهم عليه شمس الدين علي بن الداية ، فإنه كان أكبر الأمراء النورية ، وإنما تأخر عن خدمة الملك الصالح بعد وفاة نور الدين لمرض لحقه ، وكان هو وإخوته بحلب وأمرها إليهم وعسكرها معهم في حياة نور الدين وبعده ، ولما عجز عن الحركة أرسل إلى الملك الصالح يدعوه إلى حلب ليمنع البلاد من سيف الدين ابن عمه ، وأرسل إلى الأمراء يقول لهم : إن سيف الدين قد ملك إلى الفرات ولئن لم ترسلوا الملك الصالح إلى حلب حتى يجمع العساكر ويسترد ما أخذ منه وإلا عبر سيف الدين الفرات إلى حلب ولا نقوى على منعه ، فلم يرسلوه ولا مكنوه من قصد حلب.

سنة ٥٧٠

ذكر مجيء الملك الصالح إلى حلب وما جرى من الأمور

قدمنا أن سيف الدين غازي لما أتى إلى البلاد الجزرية كان معه من الأمراء سعد الدين كمشتكين وأن هذا لما بلغه وفاة نور الدين هرب جريدة.

قال في الروضتين : لما هرب سعد الدين سار إلى حلب وتمسك بخدمة شمس الدين ابن الداية وأخوته واستقر بينهم وبينه أن يسير إلى دمشق ويحضر الملك الصالح ، فسار إلى

٧٧

دمشق فأخرج ابن المقدم عسكرا لينهبه فعاد منهزما إلى حلب ، فأخلف عليه شمس الدين ابن الداية ما أخذ منه وجهزه وسيره إلى دمشق وعلى نفسها تجني براقش ، فلما وصلها سعد الدين دخلها واجتمع بالملك الصالح والأمراء وأعلمهم ما في قصد الملك الصالح إلى حلب من المصلحة ، فأجابوا إلى تسييره فسار إليها ، وكان مسيره في الثالث والعشرين من ذي الحجة ، ودخل حلب يوم الجمعة ثاني محرم سنة سبعين وخمسمائة ، ولما وصلها وصعد إلى قلعتها قبض الخادم سعد الدين على شمس الدين بن الداية وإخوته وعلى ابن الخشاب رئيس حلب.

قال ابن الأثير : ولو لا مرض شمس الدين لم يتمكن منه ولا جرى من ذلك الخلف والوهن شيء وكان أمر الله قدرا مقدورا ، فاستبد سعد الدين بتدبير أمر الملك الصالح إسماعيل فخافه ابن المقدم وغيره من الأمراء الذين بدمشق وكاتبوا سيف الدين ليسلموا إليه دمشق فلم يفعل ، وخاف أن تكون مكيدة عليه ليعبر الفرات ويسير إلى دمشق فيمنع عنها ويقصده ابن عمه من وراء ظهره فلا يمكنه الثبات ، فراسل الملك الصالح وصالحه على إقرار ما أخذه بيده وبقي الملك الصالح بحلب وسعد الدين بين يديه يدبر أمره وتمكن منه تمكنا عظيما يقارب الحجر عليه.

ذكر سبب قبض الخادم سعد الدين على أبناء الداية

والفتنة بين أهل السنّة والشيعة

قال في الروضتين وفي السيرة الصلاحية وفي المختار من الكواكب المضية : لما مات نور الدين كان متولي قلعة حلب شاذبخت الخادم النوري ، وكان شمس الدين علي أخو مجد الدين بن الداية إليه أمور الجيش والديوان وإلى أخيه بدر الدين حسن الشحنكية ، وكان بيده ويد إخوته جميع المعاقل التي حول حلب ، فلما بلغ عليا موت نور الدين حدثته نفسه بأمور ، وصعد إلى القلعة وكان مقعدا واضطرب البلد وتحزب الناس بحلب ، أهل السنة مع بني الداية والشيعة مع ابن الخشاب ، ونهبت الشيعة دار قطب الدين بن العجمي ودار بهاء الدين بن أمين الملك ، فأنزل الأمير علي بن محمد بن الداية والي القلعة جماعة من القلعيين وأمر أهل السنة أن يرجعوا إلى دار أبي الفضل بن الخشاب رئيس الشيعة ، فرجعوا إليها ونهبوها واختفى ابن الخشاب ، واتصلت هذه الأخبار بمن في دمشق من الأمراء فنظروا في

٧٨

المصلحة فعلموا أن مسيره إلى حلب أصلح للدولة من مقامه بدمشق ، فأرسلوا إلى ابن الداية يطلبون إرسال سعد الدين ليأخذ الملك الصالح فجهزه وسيره وعلى نفسها تجني براقش ، وساروا إلى حلب في الثالث والعشرين من ذي الحجة وسار مع الملك الصالح سعد الدين كمشتكين وجرديك وإسماعيل الخازن وسابق الدين عثمان بن الداية ، وقد وكلت الجماعة به وهو لا يعلم ، وساروا إلى حلب وخرج الناس إلى لقائهم ، وكان حسن ابن الداية قد رتب في تلك الليلة جماعة من الحلبيين ليصبح ويصلبهم ، فلما خرج إلى لقاء الملك الصالح ووقعت عينه عليه ترجل ليخدم هو وجماعة من أصحابه ، فتقدم جرديك وأخذ بيده وشتمه وجذبه فأركبه خلفه رديفا ، وقبض سابق الدين أخوه في الحال وتخطفت أصحابهم جميعهم واحتيط عليهم ، وساروا مجدين حتى سبقوا الخبر إلى القلعة وصعدوا عليها وقبضوا على شمس الدين علي بن الداية من فراشه وحمل إلى بين يدي الملك الصالح ، فاستقبله أحد مماليك نور الدين المعروف بالجفنية فركله برجله ركلة دحاه بها على وجهه ، فانشقت جبهته ، ثم صفدوا جميعا في جب القلعة وقبضوا على جميع الأجناد الذين حلفوا لأولاد الداية وأخرجوا جميعا من القلعة.

ذكر قتل أبي الفضل بن الخشاب

وقال في الروضتين في حوادث سنة ٥٧٠ : قال ابن أبي طي : ففي أولها ضمن القطب ابن العجمي أبو صالح وابن أمين الدولة لجرديك إن قتل ابن الخشاب ردوا عليه جميع ما نهب له في دار ابن أمين الدولة ، فدخل على الملك الصالح وتحدث معه وأخذ خاتمه أمانا لابن الخشاب ونودي عليه فحضر وركب إلى القلعة في جمع عظيم ، فصعد إليها والشيعة تحت القلعة وقوف ، فقتل وعلق رأسه على أحد أبراج القلعة ، ثم رمى برأسه إلى البلد وسكنت الفتنة وبقي الملك الصالح إسماعيل في القلعة.

ذكر مجيء السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب

من مصر إلى الشام وحمص وحماة وملكه لهذه البلاد ،

ثم مجيئه إلى حلب وحصره لها وعوده عنها

قال في الروضتين : قال ابن الأثير : لما خاف من بدمشق من الأمراء أن يقصدهم

٧٩

كمشتكين والملك الصالح من حلب فيعاملهم بما عامل به بني الداية راسلوا سيف الدين غازي ليسلموها إليه ، فلم يجبهم ، فحملهم الخوف على أن راسلوا صلاح الدين يوسف بن أيوب بمصر ، وكان كبيرهم في ذلك شمس الدين بن المقدم ، ومن أشبه أباه فما ظلم. فلما أتته الرسل لم يتوقف وسار إلى الشام فلما وصل دمشق سلمها إليه من بها من الأمراء ودخلها واستقر بها ولم يقطع خطبة الملك الصالح وإنما أظهر أني إنما جئت لأخدمه وأسترد له بلاده التي أخذها ابن عمه.

وقال القاضي ابن شداد في السيرة الصلاحية : لما تحقق السلطان صلاح الدين وفاة نور الدين وكان ولده طفلا لا ينهض بأعباء الملك ولا يستقل بدفع عدو الله عن البلاد تجهز للخروج إلى الشام إذ هو أصل بلاد الإسلام ، فتجهز بجمع كثير من العساكر وخلف في الديار المصرية من يستقل بحفظها وحراستها ونظم أمورها وسياستها وخرج هو سائرا مع جمع من أهله وأقاربه وهو يكاتب أهل البلاد وأمراءها ، واختلفت كلمة أصحاب الملك الصالح واختلت تدابيرهم وخاف بعضهم من بعض ، وقبض البعض على جماعة منهم وكان ذلك سبب خوف الباقين من فعل ذلك وسببا لتنفير قلوب الناس عن الصبي ، فاقتضى الحال أن كاتب شمس الدين بن المقدم السلطان ووصل مطالبا بالملك الصالح ليكون هو الذي يتولى أمره وتربية حاله فيقوم له ما اعوج من أمره ، فوصل دمشق ولم يشق عليه عصا ودخلها بالتسليم يوم الثلاثاء سلخ ربيع الآخر سنة سبعين وتسلم قلعتها ، وكان أول دخوله إلى دار أبيه ، واجتمع الناس إليه وفرحوا به ، وأنفق في ذلك اليوم في الناس مالا طائلا وأظهر الفرح والسرور بالدمشقيين وأظهروا الفرح به وصعد القلعة واستقر قدمه في ملكها اه.

قال في الروضتين : قال ابن أبي طي : لما اتصل بمن في حلب حصول دمشق للملك الناصر وميل الناس إليه وانعكافهم عليه خافوا وأشفقوا وأجمعوا على مراسلته ، فحملوا قطب الدين ينال بن حسان رسالة أرعدوا فيها وأبرقوا وقالوا له : هذه السيوف التي ملكتك مصر بأيدينا والرماح التي حويت بها قصور المصريين على أكتافنا والرجال التي ردت عنك تلك العساكر هي تردك وعما تصديت له تصدك ، وأنت فقد تعديت طورك وتجاوزت حدك وأنت أحد غلمان نور الدين وممن يجب عليه حفظه في ولده.

قال : ولما بلغ السلطان ورود ابن حسان عليه رسولا تلقاه بموكبه وبنفسه وبالغ في إكرامه والإحسان إليه ، ثم أحضره بعد ثالثة لسماع الرسالة منه ، فلما فاه ابن حسان

٨٠