إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٢

١
٢

٣
٤

٥
٦

سنة ٥٤١

ذكر ولاية نور الدين محمود الشهيد بن زنكي على حلب

قال في الروضتين : قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر : لما راهق نور الدين لزم خدمة والده إلى أن انتهت مدته على قلعة جعبر ، وسير في صبيحة الأحد الملك آلب أرسلان بن السلطان مسعود إلى الموصل مع جماعة من أكابر دولة أبيه ، فقال لهم : إن وصل أخي سيف الدين غازي إلى الموصل فهي له وأنتم في خدمته ، وإن تأخر فأنا أقرر أمور الشام وأتوجه إليكم. ثم قصد حلب ودخل قلعتها سابع ربيع الآخر ورتب النواب في القلعة والمدينة.

قال ابن أبي طي الحلبي : لما اتصل قتل أتابك بأسد الدين شيركوه ركب من ساعته وقصد خيمة نور الدين وقال له : اعلم أن الوزير جمال الدين قد أخذ عسكر الموصل وعول على تقديم أخيك سيف الدين وقصده إلى الموصل وقد انضوى إليه جلّ العسكر ، وقد أنفذ إلي جمال الدين وأرادني على اللحاق به فلم أعرج عليه ، وقد رأيت أن أصيرك إلى حلب وتجعلها كرسي ملكك وتجتمع في خدمتك عساكر الشام ، وأنا أعلم أن الأمر يصير جميعه إليك ، لأن ملك الشام يحصل بحلب ، ومن ملك حلب استظهر على بلاد الشرق. فركب وأمر أن ينادى في الليل في عساكر الشام بالاجتماع ، فاجتمعوا وساروا في خدمة نور الدين إلى حلب ودخلوها سابع ربيع الأول [تقدم آنفا سابع ربيع الآخر]. ولما دخلوا إلى حلب جاء أسد الدين إلى تحت القلعة ونادى واليها وأصعد نور الدين إليها وقرر أمره ومشى أحواله ، فكان نور الدين يرى له ذلك وأسد الدين يمن بأنه كان السبب في توليته. ثم

٧

ساق في الروضتين ما قام به الوزير جمال الدين من الثدابير في تقرير سيف الدين غازي أخي نور الدين في الملك لبلاد الموصل ، إلى أن قال :

ولما استقر سيف الدين في الملك أطاعه جميع البلاد ما عدا ما كان بديار بكر كالمعدن وحيزان وأسعرد وغير ذلك ، فإن المجاورين لها تغلبوا عليها ، قال : ولما فرغ سيف الدين من إصلاح أمر السلطنة وتحليفه وتقرير أمر البلاد عبر إلى الشام لينظر في تلك النواحي ويقرر القاعدة بينه وبين أخيه نور الدين وهو بحلب ، وقد تأخر عن الحضور عند أخيه نور الدين وخافه ، فلم يزل يراسله ويستميله ، فكلما طلب شيئا أجابه إليه استمالة لقلبه. واستقرت الحال بينهما على أن يجتمعا خارج العسكر السيفي ومع كل واحد خمسمائة فارس ، فلما كان يوم الميعاد بينهما سار نور الدين من حلب في خمسمائة فارس وسار سيف الدين من معسكره في خمسة فوارس فلم يعرف نور الدين أخاه سيف الدين حتى قرب منه ، فحين رآه عرفه فترجل له وقبل الأرض بين يديه وأمر أصحابه بالعود عنه ، فعادوا وقعد سيف الدين ونور الدين بعد أن اعتنقا وبكيا ، فقال له سيف الدين : لم امتنعت من المجيء إلي أكنت تخافني على نفسك؟ والله ما خطر ببالي ما تكره ، فلمن أريد البلاد ومع من أعيش وبمن أعتضد إذا فعلت السوء مع أخي وأحب الناس إلي؟ فاطمأن نور الدين وسكن روعه وعاد إلى حلب ، فتجهز وعاد بعسكره إلى خدمة أخيه سيف الدين ، فأمره سيف الدين بالعود وترك عسكره عنده وقال : لا غرض لي في مقامك عندي ، وإنما غرضي أن يعلم الملوك والفرنج اتفاقنا ، فمن يريد السوء يكف عنه ، فلم يرجع نور الدين ولزم إلى أن قضيا ما كانا عليه وعاد كل واحد منهما إلى بلده.

قلت : ومن قصيدة لابن منير في نور الدين :

أيا خير الملوك أبا وجدا

وأنفعهم حيا لغليل صاد

علوا وغلوا وقال الناس فيهم

شوارد من ثناء أو أحاد

وما اقتسموا ولا عمدوا بناهم

بمنصبك القسيمي العمادي

وهل حلب سوى نفس شعاع

تقسمها التمادي والتعادي

نفى ابن عماد دين الله عنها ال

شكاة فأصبحت ذات العماد

__________________

١ ـ في الأصل : نفى ابن عماد الدين ... وصوابه كما أثبتناه نقلا عن مخطوطة أوكسفورد.

٨

تبختر في كسا عدل وبذل

مدبّجة التهائم والنجاد

وفي محرابها داود منه

يهذب حكمة آيات صاد

تجاوزت النجوم فأين تبقى

ترق فلا خلوت من ازدياد

قال في الروضتين : قال ابن أبي طي : في سابع يوم من استقرار نور الدين بحلب اتصل خبر مقتل أتابك بصاحب أنطاكية البيمند ، فخرج في يومه بعساكر أنطاكية وقسم عسكره قسمين (قسما) أنفذه إلى جهة حماة وقسما أغار به على جهة حلب ، وعاث في بلادها ، وكان الناس آمنين فقتل وسبى عالما عظيما ، وتمادى حتى وصل إلى صلدي ونهبها. ووصل الخبر إلى حلب فخرج أسد الدين شيركوه فيمن كان بحلب من العسكر وجد في السير ففاته الفرنج وأدرك جماعة من الرجالة يسوقون الأسرى ، فقتلهم واستنقذ كثيرا مما كانت الفرنج أخذته ، وسار مجنبا عن طريق الفرنج إلى أن شن الغارة على بلد أرتاح واستاق جميع ما كان للفرنج فيه وعاد إلى حلب مظفرا.

وقال فيها أيضا : وردت الأخبار في أيام من جمادى الآخرة من السنة بأن ابن جوسلين جمع الإفرنج من ناحيته وقصد مدينة الرها على غفلة بموافقة من النصارى المقيمين فيها فدخلها واستولى عليها وقتل من فيها من المسلمين ، فنهض نور الدين صاحب حلب في عسكره ومن انضاف إليه من التركمان وغيرهم زهاء عشرة آلاف فارس ، ووقعت الدواب في الطرقات من شدة السير ، ووافوا البلد وقد حصل ابن جوسلين وأصحابه فيه فهجموا عليهم ووقع السيف فيهم ، وقتل من أرمن الرها والنصارى من قتل وانهزم إلى برج يقال له برج الماء فحصل فيه ابن جوسلين في تقدير عشرين فارسا من وجوه أصحابه ، وأحدق بهم المسلمون وشرعوا في النقب عليهم حتى تعرقب البرج ، فانهزم ابن جوسلين في الخفية من أصحابه وأخذ الباقون ، ومحق بالسيف كل من ظفر به من نصارى الرها واستخلص من كان فيه أسيرا من المسلمين ونهب منها شيء كثير من المال والأثاث والسبي ، وانكفأ المسلمون بالغنائم إلى حلب وسائر الأطراف.

وقال ابن الأثير : لما قتل زنكي كان جوسلين الفرنجي الذي كان صاحب الرها في ولايته غرب الفرات في تل باشر وما جاورها ، فراسل أهل الرها وكان عامتهم من الأرمن ، وواعدهم يوما يصل إليهم فيه ، فأجابوه إلى ذلك فسار في عسكره إليها وملكها وامتنعت عليه القلعة بمن فيها من المسلمين فقاتلهم وجد في قتالهم ، فبلغ الخبر نور الدين وهو بحلب

٩

فسار إليهم بعسكره فهرب جوسلين ، ودخل نور الدين مدينة الرها ونهبها وسبى أهلها. وفي هذه الدفعة نهبت وخربت وخلت من أهليها ولم يبق منهم إلا القليل ، ووصل خبر الفرنج إلى سيف الدين غازي بالموصل فجهز العساكر إلى الرها ، فوصل العساكر وقد ملكها نور الدين فبقيت في يده ولم يعارضه فيها أخوه سيف الدين.

سنة ٥٤٢

ذكر ملك نور الدين محمود مدينة أرتاح وغيرها

قال ابن الأثير : في هذه السنة دخل نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب بلد الفرنج ففتح منه مدينة أرتاح بالسيف ونهبها وحصر مابولة وبسرفوث وكفرلاثا. وكان الفرنج بعد قتل زنكي قد طمعوا وظنوا أنهم بعده يستردون ما أخذه ، فلما رأوا من نور الدين هذا الجد في أول أمره علموا أن ما أملوه بعيد وخاب ظنهم وأملهم.

سنة ٥٤٣

انهزام نور الدين في وقعة بينه وبين صاحب أنطاكية

قال في الروضتين في حوادث هذه السنة : وردت الأخبار في رجب من ناحية حلب بأن نور الدين صاحبها كان قد توجه في عسكره إلى ناحية الأعمال الإفرنجية وقصد أفامية وظفر بعدة من الحصون والمعاقل الإفرنجية وبعدة وافرة من الإفرنج ، وأن صاحب أنطاكية جمع الفرنج وقصده على حين غفلة منه فنال من عسكره وأثقاله وكراعه ما أوجبته الأقدار النازلة ، وانهزم بنفسه وعسكره وعاد إلى حلب سالما في عسكره لم يفقد منه إلا النفر اليسير بعد قتل جماعة وافرة من الإفرنج ، وأقام بحلب أياما بحيث جدد ما ذهب له من اليزك وما يحتاج إليه من آلات العسكر ، وعاد إلى منزله ، وقيل لم يعد.

١٠

ذكر وقعة يغرى وانهزام الفرنج فيها

قال ابن الأثير : في هذه السنة هزم نور الدين محمود بن زنكي الفرنج بمكان اسمه يغرى (هو أرض في العمق) وكانوا قد تجمعوا ليقصدوا أعمال حلب ليغيروا عليها ، فعلم نور الدين فسار إليهم في عسكره فالتقوا بيغرى واقتتلوا قتالا شديدا وأجلت المعركة عن انهزام الفرنج وقتل كثير منهم وأسر جماعة من مقدميهم ولم ينج من ذلك الجمع إلا القليل ، وأرسل من الغنيمة والأسارى إلى أخيه سيف الدين وإلى الخليفة ببغداد وإلى السلطان مسعود وغيرهم.

قال في الروضتين : وفي هذه الوقعة يقول القيسراني من قصيدة أولها :

يا ليت أن الصد مصدود

أو لا فليت النوم مردود

إلى متى تعرض عن مغرم

في خده للدمع أخدود

قالوا عيون البيض بيض الظبى

قلت ولكن هذه سود

يخاف منها وهي في جفنها

والسيف يخشى وهو مغمود

ثم خرج إلى المدح فقال :

وكيف لا نثني على عيشنا ال

محمود والسلطان محمود

فليشكر الناس ظلال المنى

إن رواق العدل ممدود

ونيرات الملك وهاجة

وطالع الدولة مسعود

وصارم الإسلام لا ينثني

إلا وشلو الكفر مقدود

مناقب لم تك موجودة

إلا ونور الدين موجود

مظفر في درعه ضيغم

عليه تاج الملك معقود

نال المعالي مالكا حاكما

فهو سليمان وداود

ترتشف الأفواه أسيافه

إن وصاب العز مورود

وكم له من وقعة يومها

عند ملوك الشرك مشهود

والقوم إما مرهق صرعة

أو موثق بالقد مشدود

حتى إذا عادوا إلى مثلها

قالت لهم هيبته عودوا

طالب بثأر ضمنته الظبى

فكل ما يضمن مردود

١١

والكر والفر سجال الوغى

فطارد طورا ومطرود

وإنما الإفرنج من بغيها

عادوا وقد عاد لها هود

قد حصحص الحق فما جاهد

في قلبه بأسك مجحود

فكل مصر بك مستفتح

وكل ثغر بك مسدود

وقال أيضا قصيدة في نور الدين وأنشده إياها بظاهر حلب وقد كسر الفرنج على يغرى وهزمهم إلى حصن حارم ، وقد كانت الفرنج هزمت المسلمين أولا بهذا الموضع أولها :

تفي بضمانها البيض الحداد

وتقضي دينها السمر الصعاد

وتدرك ثأرها من كل باغ

فوارس من عزائمها الجلاد

ويغشى حومة الهيجا همام

يشد بضبعه السبع الشداد

أظنوا أن نار الحرب تخبو

ونور الدين في يده الزناد

وجند كالصقور على صقور

إذا انقضوا على الأبطال صادوا

إذا أخفوا مكيدتهم أخافوا

وإن أبدوا عداوتهم أبادوا

ونصرة دولة حاميت عنها

وهل يخشى وأنت لها عماد

وأنت تتل القوافي ما تلته ١

بإنّب ما يؤنبها سناد

جرت بالنصر أقلام العوالي

وليس سوى النجيع لها مداد

وطالت أرؤس الأعلاج خصبا

فنادى السيف قد وقع الحصاد

أحطت بهم فكان القتل صبرا

ولا طعن هناك ولا طراد

وللإبرنس فوق الرمح رأس

توسد والسنان له وساد

ترجل للسلام ففرسوه

وليس سوى القناة له جواد

غضيض المقلتين ولا نعاس

وعايرها وليس به سهاد

فسر واستوعب الدنيا فتوحا

فلا هضب هناك ولا وهاد

وزر ببني الوغى مثوى حبيب

فما عن باب مسلمة ذياد

ولا في باب فارس غير ثكلى

بفارسها يضيء بها الحداد

لأنطاكية يحمي ذراها

وقد دانت لسطوتك البلاد

وأذعنت الممالك واستجابت

ملبية لدعوتك العباد

__________________

١ ـ لعل الصواب : وإن تتل.

١٢

ووقعة إنّب ١ هذه كانت عظيمة وقد أكثر ذلك الشعراء لها ، وسيأتي ذكرها قريبا إن شاء الله تعالى.

قال في الروضتين : قال أبو يعلى التميمي : وفي رجب من هذه السنة ورد الخبر من ناحية حلب بأن صاحبها نور الدين بن أتابك أمر بإبطال خير العمل في أواخر تأذين الغداة والتظاهر بسب الصحابة ، وأنكر ذلك إنكارا شديدا ، وساعده على ذلك جماعة من أهل السنة بحلب ، وعظم هذا الأمر على الإسماعيلية وأهل التشيع وضاقت له صدورهم وهاجوا وماجوا ، ثم سكنوا وأحجموا للخوف من السطوة النورية المشهورة والهيبة المحذورة اه.

أقول : قد تقدم في ترجمة سيف الدولة بن حمدان أن أول التأذين بحي على خير العمل كان في أيامه في سنة ٣٤٧ وذكرنا ثمة إبطال نور الدين لذلك وأمره بالاقتصار على الأذان المشروع وأن ذلك كان لما فتح نور الدين المدرسة الكبيرة المعروفة بالحلاوية.

سنة ٥٤٤

قال ابن الأثير : في هذه السنة توفي سيف الدين غازي بن أتابك زنكي صاحب الموصل وخلف ولدا ذكرا ، فرباه عمه نور الدين محمود وأحسن تربيته وزوجه ابنة أخيه قطب الدين مودود ، فلم تطل أيامه وتوفي في عنفوان شبابه فانقرض عقب سيف الدين.

قال في الروضتين : في حوادث هذه السنة فيها أنفذ نور الدين محمود إلى معين الدين (صاحب دمشق) يعلمه أن صاحب أنطاكية قد جمع إفرنج بلاده وظهر يطلب بهم الإفساد في الأعمال الحلبية وأنه قد برز في عسكره إلى ظاهر حلب للقائه والحاجة ماسة إلى معاضدته ، فندب معين الدين مجاهد الدين نران بن مامين في فريق وافر من العسكر الدمشقي للمصير إلى جهته ، وبذل المجهود في طاعته ومناصحته ، وبقي معين الدين في

__________________

١ ـ قال في معجم البلدان : إنّب ، بكسرتين وتشديد النون والباء الموحدة : حصن من أعمال عزاز من نواحي حلب له ذكر.

١٣

العسكر بناحية حوران. قال : وفي صفر من السنة وردت البشائر من جهة نور الدين بما أولاه الله تعالى وله الحمد على حشد الفرنج المخذول ولم يفلت منهم إلا من أخبر ببوارهم وتعجيل دمارهم ، وذلك أن نور الدين اجتمع له من العساكر ستة آلاف فارس مقاتلة سوى الأتباع والسواد ، فنهض بهم إلى الفرنج في الموضع المعروف بإنّب وهم في نحو أربعمائة فارس وألف راجل فقتلوهم وغنموهم ووجد البرنس مقدمهم صريعا بين جماعته وأبطاله فعرف وقطع رأسه وحمل إلى نور الدين ، وكان هذا من أبطال الفرنج المشهورين بالفروسية وشدة البأس وقوة الحيل وعظم الخلقة مع اشتهار الهيبة وكثرة السطوة والتناهي في الشر ، وذلك يوم الأربعاء الحادي والشعرين من صفر. ثم نزل نور الدين في العسكر على باب أنطاكية وقد خلت من حماتها والذابين عنها ولم يبق فيها غير أهلها مع كثرة عددهم وحصانة بلدهم ، وترددت المراسلات بينه وبينهم في طلب التسليم إليه وأيمانهم وصيانة أموالهم ، فوقع الاحتجاج منهم بأن هذا الأمر لا يمكنهم الدخول فيه إلا بعد انقطاع آمالهم من الناصر لهم والمعين على من يقصدهم ، وحملوا ما أمكنهم من التحف والمال ، ثم استمهلوا فأمهلوا ، ثم رتب نور الدين بعض العساكر للإقامة عليها والمنع لمن يصل إليها ونهض في بقية العساكر لمنازلتها ومضايقتها فالتمسوا الأمان فأومنوا على أنفسهم وسلموا البلد في ثامن عشر ربيع الأول ، وانكفأ نور الدين في عسكره إلى ناحية أنطاكية وقد انتهى الخبر بنهوض الفرنج من السواحل إلى صوب أنطاكية لإنجاد من بها فاقتضت الحال مهادنة من في أنطاكية وموادعتهم وتقرير أن يكون ما قرب من الأعمال الحلبية له وما قرب من أنطاكية لهم. ورحل عنهم إلى جهة غيرهم بحيث كان قد ملك في هذه النوبة مما حول أنطاكية من الحصون والقلاع والمعاقل وغيرها من المغانم الجمة. وفصل عنه الأمير مجاهد الدين نران في العسكر الدمشقي ، وقد كان له في هذه الوقعة ولمن في جملته البلاء المشهور والذكر المشكور لما هو موصوف به من الشهامة والبسالة وإصابة الرأي والمعرفة بمواقف الحروب.

وقال ابن أبي طي : حمل أسد الدين على حامل صليب الفرنج وقتله وقتل البرنس صاحب أنطاكية وجماعة من وجوه عسكره ولم يقتل من المسلمين من يقوم به ، وعاد المسلمون بالغنائم والأسرى ، وكان لأسد الدين في هذه الحرب اليد البيضاء ، ومدحه بها بعض الشعراء الحلبيين بقصيدة يقول فيها :

١٤

إن كان آل فرنج أدركوا فلجا

في يوم يغرا ونالوا منية الظفر

ففي الخطيم خطمت الكفر منصلتا

أبا المظفر بالصمصامة الذكر

نالوا بيغرا نهابا وانتهبت لنا

على الخطيم نفوس المعشر البتر

واستقودوا الخيل عريا واستقدت لنا

قوامص الكفر في ذل وفي صغر

وقال ابن الأثير : سار نور الدين إلى حصن حارم وهو للفرنج فحصره وخرب ربضه ونهب سواده ، ثم رحل عنه إلى حصن إنّب فحصره فاجتمعت الفرنج مع البرنس صاحب أنطاكية وساروا إليه ليرحلوه عن إنّب فلم يرحل بل لقيهم ، وتصاف الفريقان واقتتلوا وصبروا وظهر من نور الدين من الشجاعة والصبر في الحرب على حداثة سنه ما تعجب منه الناس. وانجلت الحرب عن هزيمة الفرنج وقتل المسلمون منهم خلقا كثيرا ، وفيمن قتل البرنس صاحب أنطاكية وكان من عتاة الفرنج وذوي التقدم فيهم والملك. ولما قتل البرنس خلف ابنا صغيرا وهو بيمند فبقي مع أمه بأنطاكية فتزوجت أمه ببرنس آخر وأقام معها بأنطاكية يدبر الجيش ويقودهم ويقاتل بهم إلى أن يكبر بيمند.

ثم إن نور الدين غزا بلد الفرنج غزوة أخرى وهزمهم وقتل فيهم وأسر ، وكان في الأسرى البرنس الثاني زوج أم بيمند ، فلما أسره تملك بيمند أنطاكية بلد أبيه وتمكن منه ، وبقي بها إلى أن أسره نور الدين بحارم سنة تسع وخمسين وخمسمائة على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

وأكثر الشعراء مدح نور الدين وتهنئته بهذا الفتح وقتل البرنس ، فممن قال فيه القيسراني الشاعر من قصيدة أنشده إياها بجسر الحديد الفاصل بين عمل حلب وعمل أنطاكية أولها :

هذي العزائم لا ما تدعي القضب

وذي المكارم لا ما قالت الكتب

وهذه الهمم اللاتي متى خطبت

تعثرت خلفها الأشعار والخطب

صافحت يا بن عماد الدين ذروتها

براحة للمساعي دونها تعب

ما زال جدك يبني كل شاهقة

حتى ابتنى قبة أوتادها الشهب

لله عزمك ما أمضى وهمك ما

أقضى اتساعا بما ضاقت به الحقب

يا ساهد الطرف والأجفان هاجعة

وثابت القلب والأحشاء تضطرب

أغرت سيوفك بالإفرنج راجفة

فؤاد رومية الكبرى لها يجب

ضربت كبشهم منا بقاصمة

أودى بها الصلب وانحطت بها الصلب

١٥

قل للطغاة وإن صمت مسامعها

قولا لصم القنا في ذكره أرب

ما يوم إنّب والأيام دائلة

من يوم يغرا بعيد لا ولا كثب

أغركم خدعة الآمال ظنكم

كم أسلم الجهل ظنا غره الكذب

غضبت للدين حتى لم يفتك رضى

وكان دين الهدى مرضاته الغضب

طهرت أرض الأعادي من دمائهم

طهارة كل سيف عندها جنب

حتى استطار شرار الزند قادحه

فالحرب تضرم والآجال تحتطب

والخيل من تحت قتلاها تقر لها

قوائم خانهن الركض والخبب

والنقع فوق صقال البيض منعقد

كما استقل دخان تحته لهب

والسيف هام على هام بمعركة

لا البيض ذو ذمة منها ولا اليلب

والنبل كالوبل هطال وليس له

سوى القسي وأيد فوقها سحب

وللظبى ظفر حلو مذاقته

كأنما الضرب فيما بينهم ضرب

وللأسنة عما في صدورهم

مصادر أقلوب تلك أم قلب

خانوا فخانت رماح الطعن أيديهم

فاستسلموا وهي لا نبع ولا غرب

كذاك من لم يوق الله مهجته

لاقى العدى والقنا في كفه قصب

كانت سيوفهم أوحى حتوفهم

يا رب خائنة منجاتها العطب

حتى الطوارق كانت من طوارقهم

ثارت عليهم بها من تحتها النوب

أجسادهم في ثياب من دمائهم

مسلوبة وكأن القوم ما سلبوا

أنباء ملحمة لو أنها ذكرت

فيما مضى نسيت أيامها العرب

من كان يغزو بلاد الشرك مكتسبا

من الملوك فنور الدين محتسب

ذو غرة ما سمت والليل معتكر

إلا تمزق عن شمس الضحى الحجب

أفعاله كاسمه في كل حادثة

ووجهه نائب عن وصفه اللقب

في كل يوم لفكري من وقائعه

شغل فكل مديحي فيه مقتضب

من باتت الأسد أسرى في سلاسله

هل يأسر الغلب إلا من له الغلب

فملكوا سلب الإبرنس قاتله

وهل له غير أنطاكية سلب

من للشقي بما لاقت فوارسه

وأن يسائرها من تحته قتب

عجبت للصعدة السمراء مثمرة

برأسه إن أثمار القنا عجب

١٦

سما عليها سموّ الماء أرهقه

أنبوية في صعود أصلها صبب

ما فارقت عذبات التاج مفرقه

إلا وهى منه لا تاج ولا عذب

إذا القناة ابتغت في رأسه نفقا

بدا لثعلبها من نحره سرب

كنا نعد حمى أطرافنا ظفرا

فملكتك الظبى ما ليس نحتسب

عمت فتوحك بالعدوى معاقلها

كأن تسليم هذا عند ذا جرب

لم يبق منهم سوى بيض بلا رمق

كما التوى بعد رأس الحية الذنب

فانهض إلى المسجد الأقصى بذي لجب

يوليك أقصى المنى فالقدس مرتقب

وائذن لموجك في تطهير ساحله

فإنما أنت بحر لجه لجب

يا من أعاد ثغور الشام ضاحكة

من الظبى عن ثغور زانها الشنب

ما زلت تلحق عاصيها بطائعها

حتى أقمت وأنطاكية حلب

حللت من عقلها أيدي معاقلها

فاستجفلت وإلى ميثاقك الهرب

وأيقنت أنها تتلو مراكزها

وكيف يثبت لا جوق ولا طنب

أجريت من ثغر الأعناق أنفسها

جري الجفون امتراها بارح حصب

وما ركزت القنا إلا ومنك على

جسر الحديد هزبر غيله أشب

فاسعد بما نلته من كل صالحة

يأوي إلى جنة المأوى لها حسب

إن لا تكن أحد الأبدال في فلك الت

قوى فلا نتمارى أنك القطب

فلو تناسب أفلاك السماء بها

لكان بينكما من عفة نسب

هذا وهل كان في الإسلام مكرمة

إلا شهدت وعبّاد الهدى غيب

وله فيه من قصيدة أخرى :

ألا لله درك أي در

صريح جاء بالكرم الصريح

وعسكرك الذي استولى مسيحا

على ما بين فامية وسيح

ووقعتك التي بنت العوالي

صوادر عن قتيل أو جريح

بإنّب يوم أبرزت المذاكي

من النقع الغزالة في مسوح

غداة كأنما العاصي احمرارا

من الدم عبرة الجفن القريح

وقد وافاك بالإبرنس حتف

أتيح له من القدر المتيح

قتلت أشحهم بالنفس إذ لا

يجود بنفسه غير الشحيح

١٧

ملأت بهم ضرائحهم فأمسوا

وليس سوى القشاعم من ضريح

وعدت إلى ذرا حلب حميدا

سمو البدر من بعد الجنوح

فإن جليت بغرتك الليالي

فكم لسناك من زمن مليح

رويدك تسكن الهيجا فواقا

بحيث تريح من تعب المريح

فأنت وإن أرحت الخيل وقتا

فهمك غير هم المستريح

وقال أحمد بن منير يمدحه ويذكر ظفره بالبرنس وأصحابه وحمل رأسه إلى حلب ، وأنشده إياها أيضا بجسر الحديد :

أقوى الضلال وأقفرت عرصاته

وعلا الهدى وتبلجت قسماته

وانتاش دين محمد محموده

من بعد ما غلبت دما عبراته

ردّت على الإسلام عصر شبابه

وثباته من دونه وثباته

أرسى قواعده ومّد عماده

صعدا وشيد سوره سوراته

وأعاد وجه الحق أبيض ناصعا

أصلاته وصلاته وصلاته

لما تواكل حزبه وتخاذلت

أنصاره وتقاصرت خطواته

رفعت لنور الدين نار عزيمة

رجعت لها عن طبعها ظلماته

ملك مجالس لهوه شدّاته

ومشوقه بين الصفوف شذاته

تغرى بحثحثة اليراع بنانه

إن لذ حثحثة الكؤوس لداته

ويروقه ثغر العدى قان دما

لا الثغر يعبق في لماه لثاته

فصبوحه خمر الطلى وغبوقه

نطف النفوس تديرها نشواته

فتح تعممت السماء بفخره

وهفت على أغصانها عذباته

سبغت على الإسلام بيض حجوله

واختال في أوضاحها جبهاته

وانهل فوق الأبطحين غمامه

وسرت إلى سكينها نفحاته

لله بلجة ليلة محصت به

واليوم دبح وشيه ساعاته

حط القوامص فيه بعد قماصها

ضرب يصلصل في الطلى صعقاته

نبذوا السلاح لضيغم عاداته

فرس الفوارس والقنا غاياته

لمجرب عمرية غضباته

لله معتصمية غزواته

تحيا لضيق صفاده أسراؤه

وتغيض ماء شؤونها نقماته

١٨

بين الجبال خواضعا أعناقها

كالزود نابت عن براه حداته

نشرت على حلب عقود بنودهم

حلل الربيع تناسقت زهراته

روض جناه لها مكر جياده

واستوأرت حمالة حملاته

متساندين على الرحال كما انتشى

شرب أمالت هامه قهواته

لم تثبت الآجام قبل رماحه

شجرا فروع أصوله ثمراته

فليحمد الإسلام ما جدحت له

شربات غرس هذه مخباته

وسقى صدى ذاك الحيا صوب الحيا

خير الثرى ما كنت أنت نباته

نصب السرير ومال عنه ومهدت

لمقر منصبك السري سراته

ما ضر هذا البدر وهو محلق

أن الكواكب في الذرى ضراته

في كل يوم تستطيل قناته

فوق السماء وتعتلي درجاته

وترى كشمس في الضحى آثاره

مجدا وألسنة الزمان رواته

أين الألى ملؤوا الطروس زخارفا

عن نزف بحر هذه قطراته

غدقوا بأعناق العواطل ماله

من جوهر فأتتهم فذاته

لو فصلوا سمطا ببعض فتوحه

سخرت بما افتعلوا لهم فعلاته

تمسي قنانيه بنات قيونه

فوق القوانس والقنا قيناته

صلتان من دون الملوك تقرها

حركاته وتنيمها يقظاته

قعدت بهم عن خطوه هماتهم

وسمت به عن خطوهم هماته

سكنوا مسجفة الحجال وأسكنت

زحل الرحال مع السها عزماته

لو لاح للطائي غرة فتحه

باءت بحمل تأوه باءاته

أو هبّ للطبريّ طيب نسيمه

لاحتش من تاريخه حشواته

صدم الصليب على صلابة عوده

فتفرقت أيدي سبا خشباته

وسقى البرنس وقد تبرنس ذلة

بالروح مما قد جنت غدراته

فانقاد في خطم المنية أنفه

يوم الخطيم وأقصرت نزواته

ومضى يؤنب تحت إنّب همة

أمست زوافر غيها زفراته

أسد تبوأ كالغرنف فجاته

فتبوأت طرف السنان شواته

دون النجوم مغمضا ولطالما

أغضت وقد كرت لها لحظاته

فجلوته تبكي الأصادق تحته

بدم إذا ضحكت له شماته

١٩

تمشي القناة برأسه وهو الذي

نظمت مدار النيرين قناته

لو عانق العيوق يوم رفعته

لأراك شاهد خفضه إخباته

ما انقاد قبلك أنفه بحرامه

كلا ولا همت لها هدراته

طيان خلف السرح طال زئيره

نطقت سطاك له فطال صماته

لما بدا مسود رأيك فوقه

مبيض نصرك نكست راياته

ورأى سيوفك كالصوالج طاوحت

مثل الكرين فقلصت كثراته

ولى وقد شربت ظباك كماته

تحت العجاج وأسلمته حماته

ترك الكنائس والكناس لناهب

بالبيض نهب ما حواه عفاته

غلاب أروع لا يميت عداته

داء المطال ولا تعيش عداته

والآن ملقى بالعرا يقتاته

ما كان قبل يصيده يقتاته

اليوم ملّكك القراع قلاعه

متسنما ما استشرفت شرفاته

وغدا تحل لك الحلائل أسهم

متوزعات بينهن نباته

أوطأت أطراف السنابك هامه

فتقاذفت بعنيفها قذفاته

لا زال هذا الملك يشمخ شأنه

أبدا ويلفت في الحضيض وشاته

ما أخطأتك يد الزمان فدونه

من شاء فلتسرع إليه هناته

أنت الذي تحلي الحياة حياته

وتهبّ أرواح القصيد هباته

سنة ٥٤٥

قال في الروضتين : قال ابن الأثير : فيها سار نور الدين إلى حصن أفامية وهو للفرنج أيضا وبينه وبين حماة مرحلة ، وهو حصن منيع على تل مرتفع عال من أحصن القلاع وأمنعها ، وكان من به من الفرنج يغيرون على أعمال حماة وشيزر وينهبونها ، فأهل تلك الأعمال معهم تحت الذل والصغار ، فسار نور الدين إليه وحصره وضيق عليه ومنع من به القرار ليلا ونهارا ، وتابع عليهم القتال ومنعهم الاستراحة ، فاجتمعت الإفرنج من سائر بلادهم وساروا نحوه ليزحزحوه عنها ، فلم يصلوا إليه إلا وقد ملك الحصن وملأه ذخائر من طعام ومال وسلاح ورجال وجميع ما يحتاج إليه ، فلما بلغه قرب الفرنج سار نحوهم فحين رأوا جده في لقاهم رجعوا واجتمعوا ببلادهم ، وكان قصاراهم أن صالحوه على ما أخذ.

٢٠