إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٢

وأما الفرنج فإنهم كانوا عازمين على قصد حمص بعد الهزيمة لأنها أقرب البلاد إليهم ، فلما بلغهم نزول نور الدين بينها وبينهم قالوا : لم يفعل هذا إلا وعنده قوة يمنعنا بها. ولما رأى أصحاب نور الدين كثرة خرجه قال له بعضهم : إن لك في البلاد إدرارات وصدقات كثيرة على الفقهاء والفقراء والصوفية والقراء ، فلو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح ، فغضب من ذلك وقال : والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك فإنما تنصرون بضعفائكم ، كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطىء وأصرفها إلى من لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطىء ، وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم. ثم إن الفرنج راسلوا نور الدين يطلبون منه الصلح فلم يجبهم وتركوا عند حصن الأكراد من يحميه وعادوا إلى بلادهم اه.

أقول : دعاني إلى ذكر هذه الوقعة بالأصالة وإن كان مكانها خارجا عن ولاية الشهباء لأنها كانت السبب للوقعة التي بعدها على حصن حارم ، فذكرناها تمهيدا لتلك.

سنة ٥٥٩

ذكر فتح حارم

قال في الروضتين : قال العماد الكاتب : في سنة تسع وخمسين اغتنم نور الدين خلو الشام من الفرنج وقصدهم واجتمعوا على حارم فضرب معهم المصاف فرزقه الله تعالى الانتقام منهم فأسرهم وقتلهم ، ووقع في الإسار إبرنس أنطاكية وقومص طرابلس وابن الجوسلين ودوك الروم ، وذلك في رمضان.

وقال في الخريدة : كانت نوبة البقيعة نوبة عظيمة على المسلمين ، وأفلت نور الدين في أقل من عشرة من عسكره ثم كسر الفرنج بعد ثلاثة أشهر على حارم ، وقتل في معركة واحدة منهم عشرين ألفا وأسر من نجا وأخذ القومص والإبرنس والدوقس وجميع ملوكهم ، وكان منحا عظيما وفتحا مبينا.

قال ابن الأثير : والسبب في هذا الفتح أن نور الدين لما عاد منهزما على ما سبق من غزوة ناحية حصن الأكراد أقبل على الجد والاجتهاد والاستعداد للجهات والأخذ بثأره وغزو العدو في عقر داره وليرتق ذلك الفتق ويمحو سمة الوهن ويعيد رونق الملك ، فراسل أخاه

٤١

قطب الدين بالموصل وفخر الدين قرا أرسلان بالحصن ونجم الدين ألبي بماردين وغيرهم من أصحاب الأطراف.

أما قطب الدين أتابك فإنه جمع عساكره وسار مجدا وعلى مقدمة عسكره زين الدين نائبه ، وأما فخر الدين قرا أرسلان فإنه بلغني عنه أنه قال له خواصه : على أي شيء عزمت؟ فقال : على القعود فإن نور الدين قد تحشف من كثرة الصوم والصلاة فهو يلقي نفسه والناس معه في المهالك ، وكلهم وافقه على ذلك. فلما كان الغد أمر بالنداء في العسكر بالتجهز للغزاة فقال له أولئك : ما عدا مما بدا فارقناك بالأمس على حال ونرى الآن ضدها ، فقال إن نور الدين قد سلك معي طريقا إن لم أنجده خرج أهل بلادي عن طاعتي وأخرجوا البلاد عن يدي فإنه كاتب زهادها وعبادها المنقطعين عن الدنيا يذكر لهم ما لقي المسلمون من الفرنج وما نالهم من القتل والأسر والنهب ويستمد منهم الدعاء ويطلب منهم أن يحثوا المسلمين على الغزاة ، فقد قعد كل واحد من أولئك ومعه أتباعه وأصحابه وهم يقرؤون كتب نور الدين ويبكون ويلعنونني ويدعون علي ، فلابد من إجابة دعوته. ثم تجهز أيضا وسار إلى نور الدين بنفسه.

وأما نجم الدين ألبي فإنه سير عسكرا ، فلما اجتمعت العساكر سار نحو حارم فنزل عليها وحصرها وبلغ الخبر إلى من بقي من الفرنج بالساحل أنه لم يسر إلى مصر ، فحشدوا وجاؤوا ومقدم الفرنج البرنس صاحب أنطاكية والقمص صاحب طرابلس وأعمالها وابن جوسلين وهو من مشاهير الفرنج وأبطالها والدوك وهو رئيس الروم ومقدمها ، وجمعوا معهم من الراجل ما لا يقع عليه الإحصاء قد ملؤوا الأرض وحجبوا بقسطلهم السماء ، فحرض نور الدين أصحابه وفرق نفائس الأموال على شجعان الرجال. فلما قاربه الفرنج رحل عن حارم إلى أرتاح وهو إلى لقائهم مرتاح ، وإنما رحل طمعا أن يتبعوه ويتمكن منهم إذا لقوه ، فساروا حتى نزلوا على عم وهو على الحقيقة تصحيف ما لقوه من الغم ، ثم تيقنوا أنه لا طاقة لهم بقتاله ولا قدرة لهم على نزاله فعادوا إلى حارم وقد حرمتهم كل خير وتبعهم نور الدين ، فلما تقاربوا اصطفوا للقتال وبدأت الفرنج بالحملة على ميمنة المسلمين وبها عسكر حلب وصاحب الحصن فخر الدين ، فبددوا نظامهم وزلزلوا أقدامهم وولوا الأدبار ، وتبعهم الفرنج وكانت تلك الفرة من الميمنة عن اتفاق ورأي دبروه ومكر بالعدو مكروه ، وهو أن يبعدوا عن راجلهم فيحيل عليهم من بقي من المسلمين ويضعوا فيهم السيوف ويرغموا منهم

٤٢

الأنوف ، فإذا عاد فرسانهم من إثر المنهزمين لم يلقوا راجلا يلجؤون إليه ويعود المنهزمون في آثارهم وتأخذهم سيوف الله من بين أيديهم ومن خلفهم ، فكان الأمر على ما دبروا ، فإن الفرنج لما تبعوا المنهزمين عطف زين الدين في عسكر الموصل على راجلهم فأفناهم قتلا وأسرا وعادت خيالتهم ولم يمعنوا في الطلب خوفا على راجلهم من الطلب ، فصادفوا راجلهم على الصعيد معفرين وبدمائهم مضرجين ، فسقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا وحضعت رقابهم وذلوا ، فلما رجعوا عطف المنهزمون أعنتهم وعادوا فبقي العدو في الوسط وقد أحدق بهم المسلمون من كل جانب ، فحينئذ حمي الوطيس وحاربوا حرب من أيس من الحياة ، وانقضّت العساكر الإسلامية عليهم انقضاض الصقور على بغاث الطيور ، فمزقوهم بددا وجعلوهم قددا ، فألقى الفرنج بأيديهم إلى الإسار وعجزوا عن الهزيمة والفرار ، وأكثر المسلمون فيهم القتل وزادت عدة القتلى على عشرة آلاف ، وأما الأسرى فلم يحصوا كثرة ، ويكفيك دليلا على كثرتهم أن ملوكهم أسروا وهم الذين ذكروا من قبل. وسار نور الدين بعد الكسرة إلى حارم فملكها في الحادي والعشرين من رمضان ، وأشار أصحابه عليه بالمسير إلى أنطاكية ليملكها لخلوها ممن يحميها ويدفع عنها ، فلم يفعل ، وقال : أما المدينة فأمرها سهل. وأما القلعة التي لها فهي منيعة لا تؤخذ إلا بعد طول حصار ، وإذا ضيقنا عليهم أرسلوا إلى صاحب القسطنطينية وسلموها إليه ، ومجاورة بيمند أحب إلي من مجاورة ملك الروم ، وبث سراياه في تلك الأعمال والولايات فنهبوا وسلبوا وأوغلوا في البلاد حتى بلغوا اللاذقية والسويدا وغير ذلك وعادوا سالمين. ثم إن نور الدين أطلق بيمند صاحب أنطاكية بمال جزيل أخذه منه وأسرى كثيرة من المسلمين أطلقهم. وقال الحافظ أبو القاسم : كسر نور الدين الروم والأرمن والفرنج على حارم وكان عدتهم ثلاثين ألفا. قال : ووقع بيمند في أسره في نوبة حارم وباعه نفسه بمال عظيم أنفقه في الجهاد. قلت : وبلغني أن نور الدين رحمه‌الله لما التقى الجمعان أو قبيله انفرد تحت تل حارم وسجد لربه عزوجل ومرغ وجهه وتضرع وقال : يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك فانصر أولياءك على أعدائك أيش فضول محمود في الوسط ، يشير إلى أنك يا رب إن نصرت المسلمين فدينك نصرت ، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير مستحق للنصر. وبلغني أنه قال : اللهم انصر دينك ولا تنصر محمود ، من هو محمود الكلب حتى ينصر. وجرى بسبب ذلك منام حسن نذكره في أخبار سنة خمس وستين عند رحيل الفرنج عن دمياط

٤٣

بعد نزولهم عليها ، وهذا فتح عظيم ونصر عزيز أنعم الله به على نور الدين والمسلمين مع أن جيشه عامئذ كان منه طائفة كبيرة بمصر مع شيركوه اه.

وقال في حوادث سنة خمس وستين : بلغني أن إماما لنور الدين رأى ليلة رحيل الفرنج عن دمياط في منامه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له : أعلم نور الدين أن الفرنج قد رحلوا عن دمياط في هذه الليلة ، فقال يا رسول الله : ربما لا يصدقني فاذكر لي علامة يعرفها ، فقال : قل له بعلامة ما سجدت على تل حارم وقلت يا رب انصر دينك ولا تنصر محمودا من هو محمود الكلب حتى ينصر ، قال : فانتبهت ونزلت إلى المسجد ، وكان من عادة نور الدين أنه كان ينزل إليه بغلس ولا زال يركع فيه حتى يصلي الصبح ، قال : فتعرضت له فسألني عن أمري فأخبرته بالمنام وذكرت له العلامة إلا أنني لم أذكر لفظة الكلب ، فقال نور الدين : اذكر العلامة كلها ، وألح علي في ذلك فقلتها فبكى رحمه‌الله وصدق الرؤيا فأرخت تلك الليلة فجاء الخبر برحيل الفرنج بعد ذلك في تلك الليلة اه.

سنة ٥٦٢

عصيان غازي بن حسان صاحب منبج على نور الدين

قال ابن الأثير : في هذه السنة عصى غازي بن حسان المنبجي على نور الدين محمود بن زنكي ، وكان نور الدين قد أقطعه مدينة منبج فامتنع عليه فيها ، فسير عسكرا فحصروه وأخذوها منه ، فأقطعها نور الدين أخاه قطب الدين ينال بن حسان وكان عادلا خيرا محسنا إلى الرعية جميل السيرة ، فبقي فيها إلى أن أخذها منه صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة اه.

قال في الروضتين في حوادث سنة ٥٦٣ : كان ابن حسان صاحب منبج قد ساءت أفعاله ، فبعث إليه نور الدين من حاصره وانتزعها منه ثم توجه نور الدين إليها لتهذيب أحوالها. ومدحه العماد الكاتب بقصيدة منها يقول :

بشرى الممالك فتح قلعة منبج

فليهن هذا النصر كل متوج

أعطيت هذا الفتح مفتاحا به

في الملك يفتح كل باب مرتج

وافى يبشر بالفتوح وراءه

فانهض إليها بالجيوش وعرج

٤٤

أبشر فبيت القدس يتلو منبجا

ولمنبج لسواه كالأنموذج

ما أعجزتك الشهب في أبراجها

طلبا فكيف خوارج في أبرج

ولقدر من يعصيك أحقر أن يرى

أثر العبوس بوجهك المتبلج

لكن تهذب من عصاك سياسة

في ضمنها تقويم كل معوج

فانهض إلى البيت المقدس غازيا

وعلى طرابلس ونابلس عج

قد سرت في الإسلام أحسن سيرة

مأثورة وسلكت أوضح منهج

وجميع ما استقريت من سنن الهدى

جددت منه كل رسم مبهج

قال العماد : وسار نور الدين من منبج إلى قلعة النجم وعبر الفرات إلى الرها وكان بها ينال صاحب منبج وهو سديد الرأي رشيد المنهج ، فنقله إليها مقطعا وواليا وأقام نور الدين بقلعة الرها مدة.

سنة ٥٦٣

قال في الروضتين في حوادث هذه السنة : ذكر العماد أن نور الدين رحل إلى حمص ثم مضى إلى حماة ثم شتى في قلعة حلب ومعه الأسد والصلاح ، ونزل العماد بمدرسة ابن العجمي ، وكتب إلى صلاح الدين يوسف بن أيوب وقد عثر فرسه في الميدان وهو يلعب بالكرة رحمه‌الله تعالى :

لا تنكرن لسابح عثرت به

قدم وقد حمل الخضم الزاخرا

ألقى على السلطان طرفك طرفه

فهوى هنالك للسلام مبادرا

سبق الرياح بجريه وكففته

عنها فليس على خلافك قادرا

ضعفت قواه إذا تذكر أنه

في السرج منك يقل ليثا خادرا

ومتى تطيق الريح طودا شامخا

أو يستطيع البرق جونا ماطرا

فاعذر سقوط البرق عند مسيره

فالبرق يسقط حين يخطف سائرا

وأقل جوادك عثرة ندرت له

إن الجواد لمن يقيل العاثرا

وتوق من عين الحسود وشرها

لا كان ناظره بسوء ناظرا

واسلم لنور الدين سلطان الورى

في الحادثات معاضدا ومؤازرا

وإذا صلاح الدين دام لأهله

لم يحذروا للدهر صرفا ضائرا

٤٥

أقول : قدمنا في حوادث السنة الماضية خبر عصيان غازي بن حسان صاحب منبج وأن نور الدين توجه سنة ٥٦٣ وأخذها منه وأقطعها أخاه ينال بن حسان وتوجه منها إلى الرها وأقام بها مدة.

قال في الروضتين : وقد مدحه العماد الكاتب وهو مقيم على الرها في هذه السنة بقصيدة وتحجب له صلاح الدين في عرضها وهي :

أدركت من أمر الزمان المشتهى

وبلغت من نيل الأماني المنتهى

وبقيت في كنف السلامة آمنا

متكرما بالطبع لا متكرها

لا زلت نور الدين في فلك الهدى

ذا عزة للعالمين بها البها

يا محيي العدل الذي في ظله

من عدله رعت الأسود مع المها

محمود المحمود من أيامه

لبهائها ضحك الزمان وقهقها

مولي الورى مولي الندى معلي الهدى

مردي العدى مسدي الجدا معطي اللها

آراؤه بصوابها مقرونة

وبمقتضاها دائر فلك النهى

متلبس بحصافة وحصانة

متقدس عن شوب مكر أودها

يا من أطاع الله في خلواته

متأوبا من خوفه متأوها

أبدا تقدم في المعاش لوجهه

عملا يبيض في المعاد الأوجها

كل الأمور وهى وأمرك مبرم

مستحكم لا نقض فيه ولا وها

ما صين عنك الصين لو حاولتها

والمشرقان فكيف منبج والرها

ما للملوك لدى ظهورك رونق

وإذا بدت شمس الضحى خفي السها

إن الملوك لهوا وإنك من غدا

وبماله والملك منه مالها

شرهت نفوسهم إلى دنياهم

وأبى لنفسك زهدها أن تشرها

ما نمت عن خير ولم يك نائما

من لا يزال على الجميل منبها

أخملت ذكر الجاهلين ولم تزل

ملكا بذكر العالمين منوّها

ورأيت إرعاء الرعايا واجبا

تغني فقيرا أو تجير مدلها

لرضاهم متحفظا ولحالهم

متفقدا ولدينهم متفقها

وبما به أمر الإله أمرتهم

من طاعة ونهيتهم عما نهى

عن رحمة لصغيرهم لم تشتغل

عن رأفة لكبيرهم لن تشدها

٤٦

باليأس عندك آمل لم يمتحن

بالرد دونك سائل لن يجبها

أتعبت نفسك كي تنال رفاهة

من ليس يتعب لا يعيش مرفها

فقت الملوك سماحة وحماسة

حتى عدمنا فيهم لك مشبها

ولك الفخار على الجميع فدونهم

أصبحت عن كل العيوب منزها

وأراك تحلم حين تصبح ساخطا

ويكاد غيرك ساخطا أن يسفها

قال صاحب الروضتين : رحم الله العماد فقد نظم أوصاف نور الدين الجليلة بأحسن لفظ وأرقه (١) وهذا البيت الأخير مؤكد لما نقلناه في أول الكتاب من قول الحافظ أبي القاسم ابن عساكر في وصف نور الدين إنه لم يستمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في ضجره ، وقل من الملوك من له حظ من هذه الأوصاف الفاضلة والنعوت الكاملة.

قال العماد : ثم عاد نور الدين إلى حلب في شهر رجب وضربت خيمته في رأس الميدان الأخضر. قال : وكان مولعا بضرب الكرة ، وربما دخل الظلام فلعب بها بالشموع في الليلة المسفرة. ويركب صلاح الدين مبكرا كل بكرة ، وهو عارف بآدابها في الخدمة وشروطها المعتبرة. قال : وأقطعه في تلك السنة ضيعتين إحداهما من ضياع حلب والأخرى من ضياع كفر طاب.

سنة ٥٦٤

ذكر ملك نور الدين قلعة جعبر

قال في الروضتين : في أول هذه السنة ملك نور الدين رحمه‌الله قلعة جعبر وأخذها من صاحبها شهاب الدين بلك بن علي بن بلك العقيلي من آل عقيل من بني المسيب ، وكانت بيده ويد آبائه من قبله من أيام السلطان ملكشاه ، وقد تقدم ذكر ذلك ، وهي من أمنع الحصون وأحسنها ، مطلة على الفرات لا يطمع فيها بحصار ، وقد أعجز جماعة من الملوك أخذها منه وقتل عليها عماد الدين زنكي والد نور الدين ، ثم اتفق أن خرج صاحبها منها يوما يتصيد فصاده بنو كلب فأخذوه أسيرا وأوثقوه وحملوه إلى نور الدين فتقربوا به إليه ، ورغبه في الإقطاع والمال ليسلم إليه القلعة فلم يفعل ، فعدل به نور الدين إلى الشدة

__________________

(١) أقول : العماد الكاتب ليس من الشعراء المجيدين ونثره خير من نظمه.

٤٧

والعنف وتهدده فلم يفعل أيضا ، فسير إليها عسكرا مقدمه الأمير فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني فحصرها مدة فلم يظفر منها بشيء ، فأمدهم بعسكر آخر وجعل على الجميع الأمير مجد الدين أبا بكر المعروف بابن الداية وهو أكبر أمراء نور الدين ورضيعه ووالي معاقله ، فأقام عليها وطاف حواليها فلم ير له في فتحها مجالا ، ورأى أخذها بالحصر متعذرا محالا ، فسلك مع صاحبها طريق اللين وأشار عليه بأخذ العوض من نور الدين ، ولم يزل يتوسط معه حتى أذعن على أن يعطى سروج وأعمالها والملاحة التي في عمل حلب والباب وبزاعة وعشرين ألف دينار معجلة ، فأخذ جميع ما شرطه مكرها في صورة مختار.

قال ابن الأثير : وهذا إقطاع عظيم جدا لكنه لا حظ فيه. وتسلم مجد الدين قلعة جعبر وصعد إليها منتصف المحرم ووصل كتابه إلى نور الدين بحلب فسار إليها وصعد القلعة في العشرين من المحرم ، ثم سلمها نور الدين إلى مجد الدين بن الداية فولاها أخاه شمس الدين علي ، وكان هذا آخر أمر بني بلك ولكل أمر حد ولكل ولاية نهاية ، يؤتي الله الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء. قال ابن الأثير : بلغني أنه قيل لشهاب الدين : إيما أحب إليك وأحسن مقاما سروج والشام أم القلعة؟ فقال : هذا أكثر مالا والعز بالقلعة فارقناه اه.

وفيها في سابع صفر من هذه السنة توفي بهاء الدين عمر أخو مجد الدين بن الداية. وفيه وفي أخويه يقول العماد الكاتب من قصيدة :

أنتم لمحمود كآل محمد

متصادفي الأفعال والأسماء

يتلو أبا بكر على حسناته

عمر الممدح في سنا وسناء

ويليه عثمان المرجى للعلا

وعليّ المأمول في اللأواء

وتقبل الحسن الممجد مجدهم

فهم ذوو الإحسان والنعماء

فرعت لمجد الدين أخوته الذرى

دون الورى في المجد والعلياء

من سابق كرما وشمس ساده

شرفا وبدر دجنة وبهاء

سرج الهدى سحب الندى شهب النهى

أسد الحروب ضراغم الهيجاء

يريد سابق الدين عثمان وشمس الدين علي وبدر الدين حسن وبهاء الدين عمر ومجد الدين هو الأكبر ، فهم خمسة رحمهم‌الله تعالى.

وفي هذه السنة فتحت الديار المصرية سار إليها أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين

٤٨

مرة ثالثة ، فهزم العدو وقتل شاورا (وزير مصر) وولي الوزارة مكانه ، ثم مات فوليها صلاح الدين ، وساق في الروضتين تفاصيل ذلك.

قال ابن خلكان : توفي أسد الدين شيركوه بالقاهرة ودفن بها ، ثم نقل إلى مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد مدة بوصية منه رحمه‌الله.

وقال ابن شداد في سيرة صلاح الدين إن أسد الدين كان كثير الأكل شديد المواظبة على تناول اللحوم الغليظة تتواتر عليه التخم والخوانيق وينجو منها بعد مقاساة شديدة عظيمة ، فأخذه مرض شديد واعتراه خانوق عظيم فقتله في التاريخ المذكور (ثم قال) :

وشيركوه لفظ أعجمي تفسيره بالعربي أسد الجبل فشير : أسد وكوه : جبل.

ومن آثاره بحلب (المدرسة الأسدية) قال في الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة : هي الآن متلاشية كغيرها وهي بالقرب من الشعيبية اه.

ومن آثاره جامع بالحاضر السليماني ذكره ابن شداد في الأعلاق الخطيرة ، قال : ووسع بناءه الأمير سيف الدين علي بن علم الدين سليمان بن جندر وبنى إلى جانبه مدرسة وتربة ودفن بها ، تقام به الخطبة وهذا الجامع خراب وسد بابه.

قال في الروضتين : وفي هذه السنة احترق جامع حلب وأسواق البز وأخذ نور الدين في عمارته آخر السنة اه.

سنة ٥٦٥

ذكر الزلازل بالبلاد الشامية وغيرها

قال ابن الأثير : في هذه السنة أيضا ثاني عشر شوال كانت زلازل عظيمة متتابعة هائلة لم ير الناس مثلها وعمت أكثر البلاد من الشام والجزيرة والموصل والعراق وغيرها من البلاد ، وأشدها كان بالشام فخربت كثيرا من دمشق وبعلبك وحمص وحماة وشيزر وبعرين وحلب وغيرها ، وتهدمت أسوارها وقلاعها وسقطت الدور على أهلها وهلك منهم ما يخرج عن الحد ، فلما أتاه الخبر سار إلى بعلبك ليعمر ما انهدم من سورها وقلعتها ، فلما وصلها أناه خبر باقي البلاد وخراب أسوارها وقلاعها وخلوها من أهلها ، فجعل ببعلبك من يعمرها

٤٩

ويحفظها ، وسار إلى حمص ففعل مثل ذلك ثم إلى حماة ثم إلى بعرين ، وكان شديد الحذر على سائر البلاد من الفرنج ، ثم أتى مدينة حلب فرأى فيها من آثار الزلزلة ما ليس بغيرها من البلاد ، فإنها كانت قد أتت عليها وبلغ الرعب ممن نجا كل مبلغ ، وكانوا لا يقدرون يأوون مساكنهم خوفا من الزلزلة ، فأقام بظاهرها وباشر عمارتها بنفسه ، فلم يزل كذلك حتى أحكم أسوار البلاد وجوامعها. وأما بلاد الفرنج فإن الزلازل أيضا عملت بها كذلك فاشتغلوا بعمارة بلادهم خوفا من نور الدين عليها فاشتغل كل واحد منهم بعمارة بلاده خوفا من الآخر اه.

قال في الروضتين : قال العماد : في هذه السنة عند وصولنا إلى حلب في الخدمة النورية كنت مقرظا للفضائل الشهرزورية ، وكان الحاكم بها القاضي محيي الدين أبا حامد محمد بن قاضي قضاة الشام كمال الدين أبي الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري ، وكان كمال الدين قد علق به تنفيذ الأحكام وإليه أمور الديوان ، وهو ذو المكانة والإمكان في بسط العدل والإحسان ، ومحيي الدين ولده ينوب عنه في القضاء بحلب وبلدانها وينظر أيضا في أمور ديوانها ، وبحماة وحمص من بني الشهرزوري قاضيان وهما حاكمان متحكمان ، وكان هذا محيي الدين من أهل الفضل وله نظم ونثر وخطب وشعر ، وكانت معرفتي به في أيام التفقه ببغداد في المدرسة النظامية منذ سنة خمس وثلاثين والمدرس شيخنا معين الدين سعيد بن الرزاز ، وكان مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه بعلمه معلما مذهب الطراز ، وكانت الزلزلة بحلب قد خربت دار محيي الدين وسلبت قراره وغلبت اصطباره وحلبت أفكاره ، فكتب إليه قصيدة مطلعها :

لو كان من شكوى الصبابة مشكيا

لعدا على عدوى الصبابة معديا

مات الرجاء فإن أردت حياته

ونشوره فارج الإمام المحييا

أقضى القضاة محمد بن محمد

من لست منه للفضائل محصيا

قاض به قضت المظالم نحبها

وغدا على آثارهن معفيا

يا كاشفا للحق في أيامه

غررا يدوم لها الزمان مغطيا

لم تنعش الشهباء عند عتارها

لو لم تجدك لطود حلمك مرسيا

رجفت لسطوتك التي أرسلتها

نحو الطغاة لحد عزمك ممهيا

وتظلمت من شرهم فتململت

عجل إجازتها عليها مبقيا

٥٠

أنفت من الثقلاء فيها إذ رمت

أثقالها ورأتك منها ملجيا

حلب لها حلب المدامع مسبل

أن لاقت الخطب الفظيع المبكيا

وبعدل نور الدين عاود أفقها

من بعد غيم الغم جوا مصحيا

أضحى لبهجتها معيدا بعد ما

ذهبت وللمعروف فيها مبديا

لأمورها متدبرا لشتاتها

متألفا لصلاحها متوليا

فالشرع عاد بعدله مستظهرا

والحق عاد بظله مستذريا

والدهر لاذ بعفوه مستغفرا

مما جناه مطرقا مستحييا

قال ابن الأثير : في هذه السنة في ذي الحجة مات قطب الدين مودود بن زنكي أخو نور الدين محمود صاحب الموصل بالموصل ، ولما اشتد مرضه أوصى بالملك بعده لابنه الأكبر عماد الدين زنكي ثم عدل عنه إلى ابنه الآخر سيف الدين غازي ، وساق ابن الأثير سبب عدوله.

سنة ٥٦٦

ذكر ملك نور الدين الموصل وإقرار سيف الدين

قال في الروضتين : قال ابن الأثير : لما بلغ نور الدين وفاة أخيه قطب الدين وملك ولده سيف الدين بعده واستيلاء فخر الدين عبد المسيح واستبداده بالأمور وحكمه على سيف الدين أنف من ذلك وكبر لديه وشق عليه ، وكان يبغض عبد المسيح لما يبلغه من خشونته على الرعية والمبالغة في إقامة السياسة ، وكان نور الدين رحمه‌الله لينا رفيقا عادلا ، فقال : أنا أولى بتدبير بني أخي وملكهم. ثم سار من وقته فعبر الفرات عند قلعة جعبر أول المحرم وقصد الرقة فامتنع النائب بها شيئا من الامتناع ، ثم سلمها على شيء اقترحه فاستولى نور الدين عليها وقرر أمورها ، وسار إلى الخابور فملكه جميعه ، ثم ملك نصيبين وأقام بها يجمع العساكر ، فإنه كان قد سار جريدة فأتاه بها نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب الحصن وديار بكر واجتمعت عليه العساكر وترك أكثر عسكره بالشام لحفظ ثغوره وأطرافه من الفرنج وغيرهم ، فلما اجتمعت العساكر سار إلى سنجار فحصرها وأقام عليها ونصب المجانيق ، وكان بها عسكر كبير من الموصل ، فكاتبه عامة الأمراء الذين بالموصل

٥١

يحثونه على السرعة إليهم ليسلموا البلد إليه وأشاروا بترك سنجار ، فلم يقبل منهم ، وقام حتى ملك سنجار وسلمها إلى ابن أخيه الأكبر عماد الدين زنكي ، ثم سار إلى الموصل فأتى مدينة بلد وعبر دجلة في مخاضة عندها إلى الجانب الشرقي ، وسار فنزل شرقي الموصل على حصن نينوى ودجلة بينه وبين الموصل. إلى أن قال : وحصر نور الدين الموصل فلم يكن بينهم قتال ، وكان هوى كل من بالموصل من جندي وعامي معه لحسن سيرته وعدله ، وكاتبه الأمراء يعلمونه على الوثوب على عبد المسيح وتسليم البلد إليه ، فلما علم عبد المسيح ذلك راسله في تسليم البلد إليه وتقريره على سيف الدين ويطلب الأمان وإقطاعا يكون له ، فأجابه إلى ذلك وقال : لا سبيل إلى إبقائه بالموصل بل يكون عندي بالشام ، فإني لم آت لآخذ البلاد من أولادي وإنما جئت لأخلص الناس منك وأتولى أنا تربية أولادي فاستقرت القاعدة على ذلك وسلمت الموصل إليه ، فدخلها ثالث عشر جمادى الأولى وسكن القلعة وأقر سيف الدين غازي على الموصل وولى بقلعتها خادما يقال له سعد الدين كمشتكين وجعله دزدارا فيها ، وقسم جميع ما خلفه أخوه قطب الدين بين أولاده بمقتضى الفريضة. ولما كان يحاصر الموصل جاءته خلعة من الخليفة فلبسها ، فلما دخل الموصل خلعها على سيف الدين وأطلق المكوس جميعها من الموصل وسائر ما فتحه من البلاد وأمر ببناء الجامع النوري بالموصل ، فبني وأقيمت الصلاة فيه سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة.

وأقام بالموصل نحو عشرين يوما وسار إلى الشام فقيل له : إنك تحب الموصل والمقام بها ونراك أسرعت العود ، فقال : قد تغير قلبي فيها فإن لم أفارقها ظلمت ، ويمنعني أيضا أنني هاهنا لا أكون مرابطا للعدو وملازما للجهاد. ثم أقطع نصيبين والخابور العساكر وأقطع جزيرة ابن عمر سيف الدين غازي ابن أخيه مع الموصل وعاد إلى الشام ومعه عبد المسيح فغير اسمه وسماه عبد الله وأقطعه إقطاعا كثيرا.

ثم ساق في الروضتين ما ذكره العماد الكاتب في ملك نور الدين للموصل إلى أن قال : لما دخل الموصل جدد مناشير أهل المناصب وتوقيعات ذوي المراتب من القضاء والنقابة ، وغيرهما ، وأمر بإسقاط جميع المكوس والضرائب وأنشأ بذلك منشورا يقرأ على الناس فمنه :

قد قنعنا من كنز الأموال باليسير من الحلال ، فسحقا للسحت ، ومحقا للحرام الحقيق بالمقت ، وبعدا لما يبعد من رضى الرب ويقصي من محل القرب ، وقد استخرنا الله

٥٢

وتقربنا إليه وتوكلنا في جميع الأحوال عليه ، وتقدمنا بإسقاط كل مكس وضريبة في كل ولاية لنا بعيدة أو قريبة وإزالة كل جهة مشتبهة مشوبة ومحو كل سنة سيئة شنيعة ونفي كل مظلمة مظلمة فظيعة وإحياء كل سنة حسنة وانتهاز كل فرصة في الخير ممكنة وإطلاق كل ما جرت العادة بأخذه من الأموال المحظورة خوفا من عواقبها الرديئة المحذورة ، فلا يبقى في جميع ولايتنا جور جائر جاريا ولا عمل لا يكون به الله راضيا إيثارا للثواب الآجل على الحطام العاجل ، وهذا حق لله قضيناه وواجب علينا أديناه ، بل هي سنة حسنة سنناها ومحجة واضحة بيناها وقاعدة محكمة مهدناها وفائدة مغتنمة أفدناها اه».

ثم قال : وعاد نور الدين إلى سنجار فأعاد عمارة أسوارها ، ثم أتى حران وقد اقتطعها عن صاحب الموصل هي ونصيبين والخابور والمجدل ووصل حلب في خامس رجب. وقال ابن شداد : دخل حلب في شعبان وزوج صاحب الموصل ابنته.

قال في الروضتين : وصل الخبر بموت الإمام المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفي بالله ونور الدين مخيم بشرقي الموصل بتل توبة ، وكانت وفاته في ربيع الآخر ، وبويع ابنه المستضيء بالله ، وكانت خلافة المستنجد إحدى عشرة سنة وهو الثاني والثلاثون من خلفاء بني العباس ، وهذا العدد له بحساب الجمّل اللام والباء ، وفيه يقول بعض الأدباء :

أصبحت لب بني العباس كلهم

إن عددت بحساب الجمّل الخلفا

وكان من أحسن الخلفاء سيرة مع الرعية ، وكان عادلا فيهم كثير الرفق بهم وأطلق من المكوس كثيرا ولم يترك بالعراق مكسا ، وكان شديدا على أهل العيث والفساد والسعاية بالناس.

سنة ٥٦٧

ذكر إقامة الخطبة العباسية بمصر وانقراض الدولة العبيدية

قال في الروضتين : استفتح صلاح الدين أيوب هذه السنة بإقام الخطبة في الجمعة الأولى منها بمصر لبني العباس ، وفي الجمعة الثانية خطب لهم بالقاهرة وانقطع ذكر خلفاء

٥٣

مصر ، وتوفي العاضد (آخر الخلفاء العبيديين) بالقصر يوم عاشوراء ، وانقضت تلك الدولة بانتهاء ما دام لها من العصر ، وكان ذلك بأمر من الملك العادل نور الدين محمود ، وبسط في الروضتين الأخبار في ذلك.

ذكر اتخاذ نور الدين الحمام الهوادي

قال في الروضتين : في هذه السنة أمر الملك العادل نور الدين باتخاذ الحمام الهوادي وهي المناسيب التي تطير من البلاد البعيدة إلى أوكارها ، فاتخذت في سائر بلاده ، وكان سبب ذلك أنه اتسعت بلاده وطالت مملكته فكانت من حد النوبة إلى باب همذان لا يتخللها سوى بلاد الفرنج ، وكان الفرنج ربما نازلوا بعض الثغور فإلى أن يصله الخبر ويسير إليهم يكونون قد بلغوا بعض الغرض ، فحينئذ أمر بذلك وكتب به إلى سائر بلاده وأجرى الجرايات لها ولمربيها فوجد بها راحة كبيرة ، كانت الأخبار تأتيه لوقتها لأنه كان له في كل ثغر رجال مرتبون ومعهم من حمام المدينة التي تجاورهم ، فإذا رأوا أو سمعوا أمرا كتبوه لوقته وعلقوه على الطائر وسرحوه إلى المدينة التي هو منها في ساعة فتنقل الرقعة من طائر إلى طائر آخر من البلد الذي يجاورهم في الجهة التي فيها نور الدين ، وهكذا إلى أن تصل الأخبار إليه ، فانحفظت الثغور بذلك حتى إن طائفة من الفرنج نازلوا ثغرا له فأتاه الخبر ليومه فكتب إلى العساكر المجاورة لذلك الثغر بالاجتماع والمسير بسرعة وكبس العدو ففعلوا ذلك فظفروا والفرنج قد أمنوا لبعد نور الدين عنهم ، فرحم الله نور الدين ورضي‌الله‌عنه فما كان أحسن نظره للرعايا وللبلاد.

قال الجلال السيوطي في أواخر تاريخه حسن المحاضرة في فصل (ذكر الحمام الرسائل) : وفي سنة إحدى وتسعين وخمسمائة اعتنى الخليفة الناصر لدين الله بحمام البطاقة اعتناء زائدا حتى صار يكتب بأنساب الطير المحاضر أنه من ولد الطير الفلاني ، وقيل إنه بيع طير بألف دينار. وقد ألف القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في أمور هذه الحمام كتابا سماه «تمائم الحمائم» وذكر فيه فصلا فيما ينبغي أن يفعله المنطق وما جرت العادة به في ذلك (إلى أن قال) : والذي استقرت قواعد الملك عليه أن طائر البطاقة لا يلهو الملك عنه ولا يغفل ولا يمهل لحظة واحدة فيفوت مهمات لا تستدرك إما من واصل وإما

٥٤

من هارب وإما من متجدد في الثغور ، ولا يقلع البطاقة من الحمام إلا السلطان بيده من غير واسطة أحد ، فإن كان يأكل لا يمهل حتى يفرغ وإن كان نائما لا يمهل حتى يستيقظ بل ينبه. ثم ذكر ما قيل فيها من الشعر وما أنشأه القاضي الفاضل وغيره فيها من الرسائل. وذكر في الروضتين رسالة العماد الكاتب فيها ثم قال : وقد بلغني عن القاضي الفاضل رحمه‌الله تعالى أنه وصلها بألطف من هذه الأوصاف وأخصر فقال (الطيور ملائكة الملوك) يشير إلى أن نزولها على الملوك من جو الهواء نزول الملائكة على الأنبياء عليهم‌السلام من السماء مع فرط ما فيها من الأمانة لا يتوهم من جهتها خيانة.

وقال في الزبد والضرب : اتخذ نور الدين الحمام الهوادي في سنة سبع وستين وخمسمائة وكتب بذلك إلى جميع البلاد فاتخذت في الأبراج وكتب منشورا لأربابها وإنذار أصحابها بالتهديد لمن اصطاد شيئا.

سنة ٥٦٨

ذكر ظفر مليح بن ليون بالروم

قال ابن الأثير : في هذه السنة في جمادى الأولى هزم مليح بن ليون الأرمني صاحب بلاد الدروب المجاورة لحلب عسكر الروم من القسطنطينية ، وسبب ذلك أن نور الدين كان قد استخدم مليحا المذكور وأقطعه إقطاعا سنيا ، وكان ملازم الخدمة لنور الدين ومشاهدا لحروبه مع الفرنج ومباشرا لها ، وكان هذا من جيد الرأي وصائبه ، فإن نور الدين لما قيل له في معنى استخدامه وإعطائه الإقطاع في بلاد الشام قال : أستعين به على قتال أهل ملته وأريح طائفة من عسكري تكون بإزائه لتمنعه من الغارة على البلاد المجاورة له. وكان مليح أيضا يتقوى بنور الدين على من يجاوره من الأرمن والروم ، وكانت مدينة آذنة والمصيّصة وطرسوس بيد ملك الروم صاحب القسطنطينية فأخذها مليح منهم لأنها تجاور بلاده ، فسير إليه ملك الروم جيشا كثيفا وجعل عليهم بعض أعيان البطارقة من أقاربه ، فلقيهم مليح ومعه طائفة من عسكر نور الدين فقاتلهم وصدقهم القتال وصابرهم ، فانهزمت الروم وكثر فيهم القتل والأسر ، وقويت شوكة مليح وانقطع أمل الروم من تلك البلاد ، وأرسل مليح إلى نور الدين من غنائمهم ومن الأسرى ثلاثين رجلا من مشهوريهم

٥٥

وأعيانهم ، فسير نور الدين بعض ذلك إلى الخليفة المستضيء بأمر الله وكتب يعتد بهذا الفتح لأن بعض جنده فعلوه.

ذكر إرسال نور الدين للخليفة يطلب منه تقليدا

قال ابن الأثير : في هذه السنة أرسل نور الدين محمود بن زنكي رسولا إلى الخليفة ، وكان الرسول القاضي كمال الدين أبا الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري قاضي بلاده جميعها مع الوقوف والديوان ، وحمله رسالة مضمونها الخدمة للديوان وما هو عليه من جهاد الكفار وفتح بلادهم ، ويطلب تقليدا بما بيده من البلاد مصر والشام والجزيرة والموصل وبما في طاعته كديار بكر وما يجاور ذلك كخلاط وبلاد قلج أرسلان ، وأن يعطي من الإقطاع بسواد العراق ما كان لأبيه زنكي وهو صريفين ودرب هارون ، والتمس أرضا على شاطىء دجلة يبنيها مدرسة للشافعية ويوقف عليها صريفين ودرب هارون ، فأكرم كمال الدين إكراما لم يكرمه رسول قبله وأجيب إلى ما التمس ، فمات نور الدين قبل الشروع في بناء المدرسة رحمه‌الله.

قصد نور الدين بلاد قلج أرسلان واستيلاؤه على مرعش

قال في الروضتين : قال ابن الأثير : وفي سنة ثمان وستين سار نور الدين رحمه‌الله نحو ولاية الملك عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان السلجوقي وهي ملطية وسيواس وقونية وأقصرا عازما على حربه وأخذ بلاده منه ، وكان سبب ذلك أن ذا النون بن دانشمند صاحب ملطية وسيواس وغيرهما من تلك البلاد قصد قلج أرسلان وأخذ بلاده وأخرجه عنها طريدا فريدا ، فسار إلى نور الدين مستجيرا وملتجئا إلى ظله فأكرم نزله وأحسن إليه وحمل له ما يليق أن يحمل للملوك ووعده النصر والسعي في رد ملكه إليه ، وكانت عادة نور الدين أنه لا يقصد ولاية أحد من المسلمين إلا ضرورة إما ليستعين بها على قتال الفرنج أو للخوف عليها منهم كما فعل بدمشق ومصر وغيرهما ، فلما قصده ذو النون راسل قلج أرسلان وشفع إليه في إعادة ما غلبه عليه من بلاده فلم يجبه إلى ذلك ،

٥٦

فسار نور الدين نحوه فابتدأ بكيسون وبهسنى ومرعش ومرزبان فملكها وما بينها من الحصون ، وسير طائفة من عسكره إلى سيواس فملكوها ، وكان قلج أرسلان لما بلغه قصد نور الدين بلاده قد سار من أطرافها التي تلي الشام إلى وسطها خوفا وفرقا وراسل نور الدين يستعطفه ويسأله الصلح والصفح عنه فتوقف نور الدين عن قصده رجاء أن ينصلح الأمر بغير حرب ، فأتاه من الفرنج ما أزعجه فأجابه إلى الصلح ، وكان في جملة رسالة نور الدين إليه : أنني أريد منك أمورا وقواعد ومهما تركت منها فلا أترك ثلاثة أشياء : أحدها أن تجدد إسلامك على يد رسولي حتى يحل لي إقرارك على بلاد الإسلام فإني لا أعتقدك مؤمنا ، وكان قلج أرسلان يتهم باعتقاد الفلاسفة. والثاني إذا طلبت عسكرك للغزاة تسيره فإنك قد ملكت طرفا كبيرا من بلاد الإسلام وتركت الروم وجهادهم وهادنتهم ، فإما أن تكون تنجدني بعسكرك لأقاتل بهم الفرنج وإما أن تجاهد من يجاورك من الروم وتبذل الوسع والجهد في جهادهم. والثالث أن تزوج ابنتك لسيف الدين غازي ولد أخي. وذكر أمورا غيرها. فلما سمع قلج أرسلان الرسالة قال : ما قصد نور الدين إلا الشناعة علي بالزندقة وقد أجبته إلى ما طلب ، أنا أجدد إسلامي على يد رسوله. واستقر الصلح وعاد نور الدين وترك عسكره في سيواس مع فخر الدين عبد المسيح في خدمة ذي النون ، فبقي العسكر بها إلى أن مات نور الدين فرحل العسكر عنها وعاد قلج أرسلان ملكها اه.

وقال في الروضتين قبل ذلك : وكتب العماد وهو بمرعش مع نور الدين إلى صديق له بدمشق وكان سافر عنها مع نور الدين في أطيب فصولها وهو زمن المشمش :

كتابي فديتك من مرعش

وخوف نوائبها مرعشي

وما مر في طرقها مبصر

صحيح النواظر إلا غشي

وما حل في أرضها آمن

من الضيم والضر إلا خشي

ترنحني نشوات الغرام

كأني من كأسه منتشي

أسر وأعلن برح الجوى

فقلبي يسر ودمعي يشي

بذلت لكم مهجتي رشوة

فحاكم حبكم مرتشي

وكيف يلذ الكرى مغرم

بنار الغرام حشاه حشي

بمرعش أبغي وبلوطها

مضاهاة جلّق والمشمش

٥٧

قال العماد في الخريدة : فسارت هذه القطعة ونمي حديثها إلى نور الدين فاستنشدنيها فأنشدته إياها ونحن سائرون في واد كبير مع بيتين بدهت بهما في الحال وهما :

وبالملك العادل استأنست

نجاحا منى كل مستوحش

وما في الأنام كريم سواه

فإن كنت تنكر ذا فتش

سنة ٥٦٩

وفاة الملك العادل نور الدين الشهيد محمود بن زنكي

قال ابن الأثير : في هذه السنة توفي نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر صاحب الشام وديار الجزيرة ومصر يوم الأربعاء حادي عشر شوال بعلة الخوانيق ، ودفن بقلعة دمشق ، ونقل منها إلى المدرسة التي أنشأها بدمشق عند سوق الخواصين. ومن عجيب الاتفاق أنه ركب ثاني شوال وإلى جانبه بعض الأمراء [هو كما في الروضتين همام الدين مودود والي حلب في أول دولة نور الدين] فقال له الأمير : سبحان من يعلم هل نجتمع هنا في العام المقبل أم لا ، فقال نور الدين : لا تقل هكذا بل سبحان من يعلم هل نجتمع بعد شهر أم لا ، فمات نور الدين بعد أحد عشر يوما ومات الأمير قبل الحول فأخذ كل منهما بما قاله.

ثم قال : وكان أسمر طويل القامة ليس له لحية إلا في حنكه وكان واسع الجبهة حسن الصورة مليح العينين. وكان قد اتسع ملكه جدا وخطب له بالحرمين الشريفين وباليمن لما دخلها شمس الدولة بن أيوب وملكها. وكان مولده سنة إحدى عشرة وخمسمائة ، وطبق ذكره الأرض بحسن سيرته وعدله.

وقال ابن كثير في وفيات سنة خمسمائة وتسعة وستين : إن نور الدين ولد وقت طلوع الشمس يوم الأحد السابع عشر من شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة بحلب ونشأ في كفالة والده صاحب حلب والموصل. وهذا سهو فإن والده زنكي ملك حلب في سنة اثنتين وعشرين كما تقدم ، ولم نقف على ما يفيد أنه أتى حلب في سنة إحدى عشرة وخمسمائة.

٥٨

قال في المختار من الكواكب المضية : واختلف في تسميته بالشهيد ، قال بعضهم :

أحب مملوكا وعف فأكمده الحب فقتله. وقال بعضهم : إنه مرض وكان مرضه علة الخوانيق فأشار عليه بعض الأطباء بالفصد فامتنع ، وكان مهيبا فما روجع ومات من هذه العلة بقلعة دمشق ، فإن كان مقصده في ترك الفصد عملا بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبعون ألفا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب وهم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون الحديث» فقد تصدق عليه هذه التسمية وما أظنها إلا غلبت عليه كقول الناس في سلاطينهم فلان الشهيد وإن كان قد مات على فراشه تفاؤلا في حقهم. فإن قلت : كيف بقي عليه هذا ولم يبق على غيره قلت : لأنه ليس لغيره من الفتوحات كفتوحاته وغزواته وورعه وأوقافه وزهده وجميل أوصافه المحمودة ، وطالما ألقى نفسه على العدو وجاهد في الله حق جهاده طلبا للشهادة اه.

أقول : السبب الأول يستبعده العقل جدا عن أمثال نور الدين ، فإن التفكر في الجهاد وتجهيز الجيوش وعمارة الأسوار والقلاع وغير ذلك لم يدع في فؤاده مكانا خاليا ليسلك إليه الحب ويتمكن منه تمكنا يقضي به على حياته ، والذي يترجح عندي في سبب تسميته بالشهيد أن والده زنكي كان يدعى الشهيد لأنه قتل على قلعة جعبر كما تقدم فصار يقال لولده محمود نور الدين بن الشهيد ، ثم لكثرة الاستعمال حذفت كلمة ابن اختصارا.

قال ابن الأثير : وقد طالعت سير الملوك المتقدمين فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته ولا أكثر تحريا منه للعدل ، وقد أتينا على كثير من ذلك في كتاب الباهر من أخبار دولتهم ، ولنذكر ههنا نبذة لعل يقف عليها من له حكم فيقتدي به ، فمن ذلك زهده وعبادته وعلمه ، فإنه كان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا في الذي يخصه من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة من الأموال المرصدة لمصالح المسلمين ، ولقد شكت إليه زوجته من الضائقة فأعطاها ثلاث دكاكين في حمص كانت له يحصل له منها في السنة نحو العشرين دينارا ، فلما استقلتها قال : ليس لي إلا هذا وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين لا أخونهم فيه ولا أخوض نار جهنم لأجلك. وكان يصلي كثيرا بالليل وله فيه أوراد حسنة ، وكان كما قيل :

جميع الشجاعة والخشوع لربه

ما أحسن المحراب في المحراب

٥٩

وكان عارفا بالفقه على مذهب أبي حنيفة ليس عنده فيه تعصب ، وسمع الحديث وأسمعه طلبا للأجر. وأما عدله فإنه لم يترك في بلاده على سعتها مكسا ولا عشرا بل أطلقها جميعها في مصر والشام والجزيرة والموصل.

وفي الروضتين وغيره : قال له وزيره موفق الدين خالد بن القيسراني الحلبي : إني رأيت أني أغسل ثيابك ، فأفكر ساعة ثم أمره بإسقاط المكوس وقال له : هذا تفسير منامك ، وكتب إلى البلاد بذلك وأمر الخطباء أن يسألوا الناس أن يحاللوه في المدة الماضية ، وقال لهم : ما أخرجناه إلا في جهاد أعداء الإسلام ، يعتذر إليهم بذلك.

قال في المختار من الكواكب المضية : وفي بعض التواريخ ذكر المكوس التي أزالها وقدرت فأفردت من ذلك حلب ومعاملتها [٩٦] ألف دينار ونيف. وفي الروضتين [٥٠] ألف دينار سرمين [١٣٦٠] دينارا كفر طاب [٢٠٠٠] دينار عزاز [٦٥٠٠] دينار تل باشر [٢١٠٠٠] دينار عينتاب [٩٠٨٠] دينارا الباب وبزاعة [٣٠٠٠] دينار قلعة النجم [٣٠٠٠] دينار قلعة جعبر [٧٦٠٠] دينار الرها [٨٥٠٠] دينار.

وقال في أوائل الروضتين ناقلا من خط الصاحب كمال الدين أبي القاسم عمر بن أحمد بن العديم وسامعا له من لفظه قال : قال لي والدي : دخل في أيام نور الدين إلى حلب تاجر موسر فمات بها وخلف بها ولدا صغيرا ومالا كثيرا ، فكتب بعض من بحلب إلى نور الدين يذكر له أنه قد مات هاهنا رجل موسر وخلف عشرين ألف دينار أو فوقها وله ولد عمره عشر سنين وحسن له أن يرفع المال إلى الخزانة إلى أن يكبر الصغير يرضى منه ويمسك الباقي للخزانة ، فكتب على رقعته : أما الميت فرحمه‌الله ، وأما الولد فأنشأه الله ، وأما المال فثمره الله ، وأما الساعي فلعنه الله. قال : وبلغتني هذه الحكاية عن غير نور الدين أيضا.

ثم قال ناقلا عنه أيضا : وسمعت صقر بن يحيى بن صقر المعدل يقول : سمعت مقلدا يعني الدولعي يقول : لما مات الحافظ المرادي وكنا جماعة الفقهاء قسمين العرب والأكراد فمنا من مال إلى المذهب ، وأردنا أن نستدعي الشيخ شرف الدين بن أبي عصرون وكان بالموصل ومنا من مال إلى علم النظر والخلاف وأراد أن يستدعي القطب النيسابوري ، وكان قد جاء وزار البيت المقدس ثم عاد إلى بلاد العجم فوقع بيننا كلام بسبب ذلك ووقعت فتنة بين الفقهاء ، فسمع نور الدين بذلك فاستدعى جماعة الفقهاء إلى القلعة

٦٠