إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٢

ترجمة كمشبغا وزيادة بيان في الحرب بينه وبين البانقوسيين

قال ابن خطيب الناصرية : كمشبغا الحموي الأمير سيف الدين نائب حلب ، هو من عتقاء الأمير يلبغا الخاصكي العمري ، وكان عالي المنزلة عنده واستقر به أمير أربعين بالقاهرة ، وكان أكبر رؤوس النواب عنده ، ثم أخرج بعد وفاته إلى حلب وأقام بها بطالا إلى أن كانت أيام الملك الظاهر أبي سعيد برقوق ، فولاه نيابة السلطنة ونقله من صفد إلى حماة وإلى طرابلس وحلب ودمشق ، ثم حبسه بقلعة دمشق ، ثم ولي نيابة السلطنة بحلب فدخل إليها في السنة المذكورة. فلما ركب منطاش على الناصري وأمسكه وظهر برقوق من الكرك جمع الأمير كمشبغا عسكر حلب وحلفهم لبرقوق وذلك في رمضان من السنة ، فلما انقضى رمضان ودخل شوال ركب البانقوسيون وصحبتهم بعض الأمراء على الأمير كمشبغا. وكان محبوسا بقلعة حلب الأمير طرنطاي الذي كان نائب دمشق وبكلمش أحد الأمراء المصريين كان الناصري قد أمسكهم بدمشق وحبسهم بقلعة حلب فأطلقهما الأمير كمشبغا وأحسن إليهما واتفقا معه وجد في قتال البانقوسيين ، وكان في عسكر قليل وهم في عسكر كثير ، واستمر القتال بينهم في البياضة ثلاثة أيام ، ثم انتصر كمشبغا على البانقوسيين وقتل منهم جماعة ، فلما حضر برقوق من الكرك إلى دمشق وأقام على قبة يلبغا ظاهر دمشق توجه إليه الأمير كمشبغا بمن معه من العسكر الحلبي وأمده بكثير من الخيم والخيل والماعون وغير ذلك وبالغ في ذلك ، ولما كان يوم شقحب (مكان الوقعة وقدم تقدم ذكرها) توجه منهزما إلى جهة حلب لما حصلت الكسرة للميسرة التي كان هو مقدمها فلم يرد وجهه إلى أن دخل حلب ثم طلع إلى قلعتها ، فلما علم البانقوسيون بهذا الأمر قاموا وجدوا في قتاله وحاصروه ، وبعث إليهم منطاش نائبا إلى حلب هو أخوه الأمير تمنتمر وكان إنسانا حسنا وجدوا في حصار القلعة ، وصبر الأمير كمشبغا على محاصرتهم له ولم يمكنهم من بلوغ الغرض ، واستمر الحصار أربعة أشهر إلا يومين وذلك سنة اثنين وتسعين وسبعمائة ومنطاش يومئذ بدمشق بعد عود السلطان الملك الظاهر برقوق إلى الديار المصرية من شقحب ، فلما بلغ الأمير كمشبغا انهزام منطاش من دمشق فتح باب قلعة حلب بموافقة البانقوسيين له وهرب نائب حلب الذي كان من جهة منطاش فاستمر الصلح بينهم أياما قلائل جدا نحو ثلاثة ، ثم وقع بينهم فقاتلهم الأمير كمشبغا وقاتلوه قتالا شديدا فانتصر عليهم وقتل من أعيانهم وجندهم جماعة كثيرة ونهب بانقوسا كما نهبها أولا ، واجتهد

٣٨١

في تحصين حلب وأسوارها لما بلغه أن منطاش ونعيرا قاصداه إلى حلب فجد في ذلك بالرجال والمال ، ثم حضر منطاش ونعير إلى ظاهر حلب فقاتلهم الأمير كمشبغا وأهل حلب معه وقاتلوا معه قتالا شديدا عدة أيام وذلك في رمضان من السنة إلى أن ردهم عنها خائبين ، فلما نزحوا منها واطمأن خاطره اجتهد في تقرير أحوالها وعمارة أسوارها وعمل أبوابها مصفحة بالحديد وبذل همته في ذلك بحيث صار ذلك في أربعين يوما ، وكانت من وقعة هولاكو بحلب خالية من الأبواب مخربة الأسوار إلى أن قيض الله تعالى الأمير كمشبغا فبنى بعض أسوارها وأصلحه وعمل لها أبوابا كما ذكرناه لا خيب الله سعيه.

طلب الأمير كمشبغا إلى مصر وتعيين قرادمرداش بحلب

ثم بعد تمام ما عزم عليه من ذلك طلبه السلطان الملك الظاهر برقوق إلى الديار المصرية واستقر به أتابك العساكر ورفع منزلته ، وكان الأمير كمشبغا المذكور أميرا كبيرا كريما جدا مدبرا وشكلا حسنا عالي الهمة مجتهدا في عمل الخير وإسداء المعروف محسنا إلى الرعية ، ولم يزل أتابك العساكر بالديار المصرية إلى أن حصل عند الملك الظاهر من جهته وحشة وتخيل ممن وشى به إليه ، فأمسكه وجهزه إلى الاعتقال بثغر الإسكندرية في أوائل سنة إحدى وثمانمائة واستمر مقيما كذلك إلى أن توفي به ليلة الأربعاء الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة إحدى وثمانمائة وقد جاوز ستين سنة تغمده الله برحمته اه.

قال في روض المناظر : لما طلب الأمير كمشبغا إلى مصر واستقر بها أميرا كبيرا استقر عوضه قرادمرداش بحلب.

سنة ٧٩٣

ذكر استيلاء منطاش على حماة وحمص وبعلبك

ومجيء السلطان الملك الظاهر برقوق إلى حلب

وقتله الأمير يلبغا الناصري

قال ابن إياس ما خلاصته : وفي هذه السنة جاءت الأخبار بأن منطاش قد ملك حماة وحمص وبعلبك ولم يشوش على أحد من أهلها ، فمال إليه الرعية وصاروا يسلمونه المدن من غير قتال ، ثم إن منطاش توجه إلى الشام وحاصر المدينة. (إلى أن قال) : ولما

٣٨٢

بلغ السلطان ذلك نادى للعسكر بالعرض. وقوى عزمه على الخروج إلى منطاش ، ولما وصل إلى الشام أقام بها أياما وتوجه إلى حلب.

قال في روض المناظر : وأما منطاش فإنه لما بلغه توجه السلطان هرب نحو الشرق ، ولما قدم السلطان دمشق استصحب معه يلبغا الناصري ، ولما قدم حلب أقام بها شهورا ثم عاد ، وليلة عوده قتل يلبغا الناصري وجماعة من الأمراء بقلعة حلب المحروسة.

قال ابن إياس : كان الذين قتلهم الملك الظاهر برقوق من الأمراء في حلب ثلاثة وعشرين أميرا ، وكان سبب ذلك أن الأمير سالم الدوكاري أمير التركمان أرسل يعرف السلطان بأن يلبغا الناصري أرسل إليه كتابا وهو يقول فيه : خذ منطاش واهرب به إلى بلاد الروم ، فإنه مادام منطاش موجودا فنحن موجودون. ثم إن الأمير سالم الدوكاري أرسل كتاب يلبغا الناصري على يد قاصده ، فلما تحقق السلطان صحة ذلك طلب الأمراء ، فلما حضروا قرأ عليهم كتاب يلبغا الناصري الذي أرسله إلى الأمير سالم الدوكاري. ثم إن السلطان وبخّ يلبغا الناصري بالكلام في ذلك المجلس فلم ينطق بحجة وانعقد لسانه عن الكلام. ثم إن السلطان قبض على يلبغا الناصري وعلى جماعة من الأمراء وسجنهم بقلعة حلب ثم أمر بقتلهم فقتلوا ، ثم رجع إلى الديار المصرية فوصل إليها منتصف المحرم سنة ٧٩٤.

عزل قرادمرداش وتعيين الأمير جلبان

قال ابن الخطيب : دخل الأمير قرادمرداش إلى حلب واستمر بها إلى سنة ثلاث ، فلما جاء برقوق إلى حلب وتوجه إلى القاهرة في ذي الحجة من سنة ثلاث ولى نيابة حلب الأمير جلبان وصحب معه قرادمرداش ثم أمسكه ، وتوفي مقتولا في سنة أربع وتسعين وسبعمائة في ذي الحجة منها ، وكان أميرا كبيرا مهيبا شجاعا عفيفا عن الشرب عفا الله تعالى عنا وعنه.

وقال السخاوي في الضوء اللامع في ترجمة الأمير جلبان : استقر جلبان في نيابة حلب سنة ثلاث وتسعين وجرت له مع التركمان وقعة بالباب انتصر فيها عليهم ثم أخرى مع نعير انتصر فيها أيضا ، ثم قبض عليه أستاذه سنة ست وتسعين وحبسه مدة بالقاهرة ثم أطلقه وجعله أتابكا بدمشق ، ثم كان ممن عصى على ولده الناصر وقام مع تنم فأمسك وقتل بقلعة دمشق صبرا في رجب أو شعبان سنة ٨٠٢ وقد أناف على الثلاثين. وكان

٣٨٣

جميلا كريما شجاعا سيوسا يحب العلماء ويعتقد الفقراء ، ذكره ابن خطيب الناصرية وشيخنا اه.

سنة ٧٩٤

ذكر عود منطاش وحصره مدينة حلب

قال ابن إياس : في هذه السنة جاءت الأخبار بأن منطاش حضر إلى حلب مع جماعة من التركمان فحاصر المدينة ، فخرج إليه عسكر حلب وأوقعوا معه واقعة فكسروه ورجع هاربا إلى الفرات. ثم حضر قاصد نعير بن جبار أمير آل فضل على يده كتاب من عند نعير فكان مضمونه أنه أرسل يطلب من السلطان أربع بلاد وهو يلتزم بالقبض على منطاش ، فقال السلطان للأمير أبي يزيد الدوادار : اكتب له كتابا على لسانك أنك إن أمسكت منطاش نعطك جميع ما طلبته وزيادة على ذلك ، فأرسل إليه الأمير أبو يزيد الدوادار بذلك.

سنة ٧٩٥

ذكر مقتل منطاش وانتهاء فتنته

قال ابن خلدون في أواخر الجزء الخامس : كان منطاش فرّ مع سالم الدوكاري إلى سنجار وأقام معه أياما ثم فارقه ولحق بنعير فأقام في أحيائه وأصهر إليه بعض أهل الحي بابنته فتزوجها وأقام معهم ، ثم سار أول رمضان سنة أربع وتسعين وعبر الفرات إلى نواحي حلب وأوقعت به العساكر هناك وهزموهم وأسروا جماعة من أصحابه ، ثم طال على نعير أمر الخلاف وضجر قومه من افتقاد الميرة من التلول فأرسل حاجبه يسأل الأمان وأنه يمكن من منطاش على أن يقطع أربع بلاد منها المعرة ، فكتب له الدوادار أبو يزيد على لسانه بالإجابة إلى ذلك ، ثم وفد محمد ابن (١) سنة خمس وتسعين فأخبر أنه كان مقيما بسلمية في أحيائه ومعه التركمان المقيمون بشيزر ، فركبوا إليهم وهزموهم ، وضرب بعض الفرسان منطاش فأكبه وجرحه ولم يعرف في المعركة لسوء صورته بما أصابه من الشظف والجفاء فأردفه ابن نعير ونجا به وقتل منهم جماعة منهم ابن بردعان وابن إينال وجيء برأسيهما إلى دمشق ،

__________________

(١) بياض بالأصل.

٣٨٤

وأوعز السلطان إلى أمراء الشام أن يخرجوا بالعساكر وينفوه إلى أطراف البلاد لحمايتها حتى يرفع الناس زروعهم.

ثم زحف نعير ومنطاش في العساكر أول جمادى الآخرة من السنة إلى سلمية فلقيهم نائب حلب ونائب حماة فهزموهما ونهبوا حماة ، وخالفهم نائب حلب إلى أحياء نعير فأغار عليها ونهب سوادها وأموالها واستاق نعمها ومواشيها وأضرم النار فيما بقي وأكمن لهم ينتظر رجوعهم ، وبلغهم الخبر بحماة فأسرعوا الكر إلى أحيائهم فخرج عليهم الكمناء وأثخنوا فيهم وهلك بين الفريقين خلق من العرب والأمراء والمماليك. ثم وفد على السلطان أواخر شعبان عامر بن طاهر بن جبار طائعا للسلطان ومنابذا لعمه وذكوان بن نعير على طاعة السلطان وأنهم يمكنون من منطاش متى طلب منهم ، فأقبل عليه السلطان وأثقل كاهله بالإحسان والمواعيد ودسّ معه إلى بني نعير بإمضاء ذلك ولهم ما يختارونه ، فلما رجع عامر ابن عمهم طاهر بمواعيد السلطان تفاوضوا مع آل مهنا جميعا ورغبوهم فيما عند السلطان وذكروا ما هم فيه من الضنك وسوء العيش بالخلاف والانحراف عن الطاعة ، وعرضوا على نعير أن يجيبهم إلى إحدى الحسنيين من إمساك منطاش أو تخلية سبيلهم إلى طاعة السلطان ويفارقهم إلى حيث شاء من البلاد ، فجزع لذلك ولم يسعه خلافهم وأذن لهم في القبض على منطاش وتسليمه إلى نواب السلطان ، فقبضوا عليه وبعثوا إلى نائب حلب فيمن يتسلمه واستحلفوه على مقاصدهم من السلطان لهم ولأبيهم نعير ، فخلف لهم وبعث إليهم بعض أمرائه فأمكنوه منه وبعثوا معه الفرسان والرجّالة حتى أوصلوه إلى حلب في يوم مشهود وحبس بالقلعة ، وبعث السلطان أميرا من القاهرة فاقتحمه وقتله وحمل رأسه وطاف به في ممالك الشام وجاء به إلى القاهرة حادي عشر رمضان سنة خمس وتسعين فعلقت على باب القلعة ثم طيف بها مصر والقاهرة وعلقت على باب زويلة ، ثم دفعت إلى أهله فدفنوها في آخر رمضان من السنة ، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين اه.

بيان ما ذكره ابن إياس في هذه السنة من أخبار منطاش إلى أن قتل

قال : في هذه السنة جاءت الأخبار من حلب بأن منطاش ونعيرا توجهوا بمن معهم من العساكر إلى مدينة حماة ، فخرج إليهم نائب حماة فأوقع معهم واقعة قوية ، فانكسر نائب حماة وهرب فدخل منطاش ونعير إلى المدينة ونهبوا أسواقها وأخذوا أموال التجار ، فلما

٣٨٥

بلغ نائب حلب ذلك ركب هو وعساكر حلب وكبس على بلاد نعير ونهب أمواله وأخذ أمواله ونساءه وأحرق بيوته وقتل من عربانه ما لا يحصي عدده. [ثم قال] :

وفيها حضر إلى الأبواب الشريفة مملوك نائب حلب وأخبر بأن نعيرا قبض على منطاش وسلمه إلى نائب حلب. وكان سبب إمساكه أن نعير بن جبار أرسل يطلب من نائب حلب أولاده ونساءه الذين أسرهم كما تقدم ، فأرسل نائب حلب يقول له : ما أطلق نساءك وأولادك حتى تسلمنا منطاش ، وكان منطاش قد تزوج من بنات نعير واستنسل منهم ، فلما رأى نعير أن السلطان ونائب حلب عليه وقد نهبوا أمواله ومواشيه وأسروا أولاده ونساءه قصد أن يرضي السلطان بإمساك منطاش حتى يزول ما عنده مما جرى منه في حق السلطان كما تقدم ، ثم إن نعيرا ندب إلى منطاش أربع عبيد غلاظ شداد ، فلما أتوا إليه أحس بالشر ، وكان راكبا على هجين فنزل عنه وركب على فرس ، فأمسك بعض العبيد لجام الفرس وقال له : كلم الأمير نعيرا ، فقال منطاش : وأيش يعمل بي نعير ، فتكاثر عليه العبيد وأنزلوه عن فرسه وأخذوا سيفه منه ، فقال لهم منطاش : دعوني حتى أبول ، فقصد إلى جانب حائط وكان في تكته خنجر فشق به بطنه فغشي عليه فحمله العبيد وأتوا به إلى نعير فقيده وأرسله إلى نائب حلب وأرسل معه جماعة من العربان حتى أسلمه إلى نائب حلب وكان له يوم مشهود ، فتسلمه نائب حلب وسجنه بالقلعة وكتب بذلك محضرا وأرسله إلى السلطان ، فلما تحقق السلطان هذا الخبر خلع على القاصد خلعة عظيمة ودقت الكوسات وزينت له القاهرة سبعة أيام ونسي السلطان لما ظفر بمنطاش ما قاساه من التعب ومن القهر ومن المال الذي صرفه على التجاريد ، فكان كما قيل :

إذا ظفرت من الدنيا بقربكم

فكل ذنب جناه الدهر مغفور

ثم إن السلطان عين الأمير طولو بن علي شاه إلى حلب ليحضر منطاش ، فلما وصل إلى حلب تسلم منطاش وجعل يعاقبه ويعصره ويقرره على الأموال التي غصبها من البلاد فلم يقر بشيء ، ودخل عليه النزع فقطع الأمير طولو رأسه ووضعها في علبة ، ثم خرج من حلب وجعل يطوف برأس منطاش في كل مدينة يدخلها حتى وصل إلى القاهرة ، فكان يوم دخوله إلى القاهرة يوما مشهودا وزينت المدينة زينة عظيمة فشقوا برأس منطاش في القاهرة ، ثم طلعوا بها إلى القلعة فرسم السلطان بأن تعلق على باب زويلة فعلقت ثلاثة أيام ثم دفنت وانقضى أمر منطاش.

٣٨٦

ثم إن السلطان أرسل إلى نعير خلعة وأقره على عادته أمير آل فضل اه.

وقتل الأمير نعير سنة ٨٠٨ كما سيأتي في ترجمته في القسم الثاني إن شاء الله تعالى.

استيلاء تمرلنك على بغداد وهرب صاحبها السلطان

أحمد بن أويس ومجيئه إلى حلب واستعداد المصريين

قال ابن إياس : إن الناس ما صدقوا أن فتنة منطاش قد خمدت حتى استأنفت لهم فتنة أخرى ، وهي أنه عقب ذلك حضر طواشي رومي يسمى صفي الدين جوهر أرسله صاحب ماردين فأخبر بأن تمرلنك قد أخذ تبريز ، ثم حضر عقب ذلك قاصد صاحب بسطام فأخبر بأن تمرلنك قد أخذ شيراز ، ثم حضر قاصد نائب الرحبة وأخبر بأن القان أحمد بن أويس صاحب بغداد قد وصل إلى الرحبة وهو هارب من تمرلنك ، وقد احتاط على غالب بلاده وملكها. وكان سبب أخذ تمرلنك بلاد القان أحمد بن أويس أن تمرلنك أرسل إلى القان أحمد كتابا يترفق له فيه ويقول له : أنا ما جئتك محاربا وإنما جئتك خاطبا أتزوج بأختك وأزوجك بنتي ، ففرح القان أحمد بذلك وظن أن هذا الكلام صحيح ، فكان كما قيل في المعنى :

لا تركنن إلى الخريف فماؤه

مستوخم وهواؤه خطاف

يمشي مع الأجسام مشي صديقها

ومن الصديق على الصديق يخاف

وكان القان أحمد استعد لقتال تمرلنك وجمع له العساكر ، فلما أتى قاصد تمرلنك بهذا الخبر ثنى عزمه عن القتال واستعاد من العسكر الذين قد جمعهم ما أعطاهم من آلة القتال وصرف همته عن القتال ، فلم يشعر إلا وقد دهمته عساكر تمرلنك من كل مكان فضاق بهم رحب الفضاء ، فخرج إليهم القان أحمد بمن بقي معه من العساكر ، فبينما القان يقع مع عسكر تمرلنك إذ فتح أهل بغداد بقية أبواب المدينة وقد خافوا على أنفسهم مما جرى عليهم من هولاكو أيام الخليفة المستعصم بالله ، فلما رأى تمرلنك أبواب المدينة مفتحة دخل إلى المدينة وملكها ولم يجد من يرده عنها ، فلما بلغ القان أحمد ذلك ما أمكنه إلا الهرب ، فأتى إلى جسر هناك فعدى من فوقه ثم قطعه ، فلما بلغ عسكر تمرلنك تتبعوا القان أحمد وخاضوا خلفه الماء فهرب منهم فتبعوه مسيرة ثلاثة أيام ، فلما حصلت له هذه الكسرة قصد التوجه إلى الديار المصرية ، ثم حضر قاصد نائب حلب وأخبر بأن القان أحمد بن أويس قد وصل إلى حلب.

٣٨٧

فلما تحقق السلطان صحة هذا الخبر جمع الأمراء واستشارهم فيما يكون من أمر القان أحمد ، فوقع الاتفاق من الأمراء على أن السلطان يرسل إليه الإقامات ويلاقيه ، فعند ذلك عين السلطان الأمير أزدمر الساقي وصحبته الإقامات وما يحتاج إليه القان أحمد من مال وقماش وغير ذلك ، فخرج الأمير أزدمر على جياد الخيل. ثم عقب ذلك حضر إلى الأبواب الشريفة قاصد أبي يزيد مراد بك بن عثمان ملك الروم على يده تقادم عظيمة للسلطان ، وكان سبب مجيء قاصد ابن عثمان (رسول السلطان بايزيد رحمه‌الله) أنه أرسل يخبر السلطان بأمر تمرلنك ويحذره عن الغفلة في أمره. ثم حضر قاصد ماردين وأخبر بأن تمرلنك ملك بلاد الأكراد وأن تمرلنك حاصر البصرة ورجع عنها بخفي حنين بعد أن قتل من عسكره ما لا يحصى.

فلما تواترت الأخبار بذلك رسم السلطان للأمير علاء الدين بن الطبلاوي والي القاهرة بأن ينادي في القاهرة للعسكر بالعرض في الميدان بسبب تمرلنك الخارجي وجعل يكرر هذه المناداة ثلاثة أيام متوالية بأن لا يتأخر عن العرض لا كبير ولا صغير وعلق الجاليش ، فاضطربت أحوال الديار المصرية وما صدق العسكر بأن فتنة منطاش قد خمدت فانتشبت لهم هذه الفتنة العظيمة فكان كما قيل في المعنى :

وثقيل ما برحنا

نتمنى البعد عنه

غاب عنا ففرحنا

جاءنا أثقل منه

سنة ٧٩٦

وصول القان أحمد إلى الديار المصرية واستيلاء تمرلنك

على ديار بكر والرها وخروج السلطان برقوق مع القان أحمد

إلى دمشق

قال ابن خلدون في أواخر الجزء الخامس : لما استولى تمرلنك على بغداد وانهزم منه صاحبها القان أحمد بن أويس ونجا أحمد إلى الرحبة من تخوم الشام فأراح بها وطالع نائبها السلطان بأمره فسرح بعض خواصه لتقليه ١ بالنفقات والأزواد وليستقدمه ، فقدم به إلى

__________________

١ ـ هكذا في الاصل وفي تاريخ ابن خلدون.

٣٨٨

حلب وأراح بها وطرقه مرض أبطأ به عن مصر ، وجاءت الأخبار بأن تمرلنك عاث في مخلفه واستصفى ذخائره واستوعب موجود أهل بغداد بالمصادرات لأغنيائهم وفقرائهم حتى مستهم الحاجة وأقفرت جوانب بغداد من العيث.

ثم قدم أحمد بن أويس على السلطان بمصر في شهر ربيع سنة ست وتسعين مستصرخا به على طلب ملكه والانتقام من عدوه ، فأجاب السلطان صريخه ونادى في عسكره بالتجهيز إلى الشام. وقد كان تمرلنك بعد ما استولى على بغداد زحف في عساكره إلى تكريت مأوى المخالفين وعش الحرابة ورصد السابلة وأناخ عليها بجموعه أربعين يوما فحاصرها حتى نزلوا على حكمه وقتل من قتل منهم ثم خربها وأقفرها ، وانتشرت عساكره في ديار بكر إلى الرها ووقفوا عليها ساعة من نهار فملكوها وانتسفوا نعمها وافترق أهلها ، وبلغ الخبر إلى السلطان فخيم بالريدانية أياما أزاح فيها علل عسكره وأفاض العطاء في مماليكه واستوعب الحشد من سائر أصناف الجند ، واستخلف على القاهرة النائب سودون وارتحل على التعبية ومعه أحمد بن أويس بعد أن كفاه مهمه وسرب النفقات في تابعه وجنده ، ودخل دمشق آخر جمادى الأولى وقد كان أوعز إلى جلبان نائب حلب بالخروج إلى الفرات واستنفار العرب والتركمان للإقامة هناك رصدا للعدو ، فلما وصل إلى دمشق وفد عليه جلبان وطالعه بمهماته وما عنده من أخبار القوم ورجع لإنفاذ أوامره والفصل فيما يطالعه فيه ، وبعث السلطان على إثره العساكر مددا له مع كمشبغا الأتابك وتكلمش أمير سلاح وأحمد بن بيبغا ، وكان العدو قد شغل بحصار ماردين فأقام عليها أشهرا وملكها وعاثت عساكره فيها واكتسحت نواحيها وامتنعت عليه قلعتها ، فارتحل عنها إلى ناحية بلاد الروم ومرّ بقلاع الأكراد فأغارت عساكره عليها واكتسحت نواحيها ، والسلطان لهذا العهد وهو شعبان سنة ست وتسعين مقيم بدمشق مستجمع لنطاحه والوثبة به متى استقبل جهته اه.

ذكر وصول السلطان برقوق إلى حلب

ورجوع تمرلنك إلى بلاده

ورجوع القان أحمد بن أويس إلى بلاده أيضا

قال ابن إياس : إن السلطان رحل من الريدانية وصحبته القان أحمد بن أويس وسائر الأمراء وجدّ في السير حتى وصل إلى دمشق يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الآخر ،

٣٨٩

فلما دخلها نزل بالقصر الأبلق الذي في الميدان وحكم بين الناس وأقام بالشام أياما ثم رحل عنها وتوجه إلى حلب ، فلما أقام بحلب حضر إليه قاصد من عند ابن عثمان (السلطان بايزيد رحمه‌الله) وعلى يده مطالعات مضمونها أن يكون هو والسلطان يدا واحدة على دفع العدو الباغي تمرلنك ، فأجابه السلطان إلى ذلك ورد له الجواب عن ذلك بما يطيب خاطره ، ثم حضر إليه قاصد طقتمش خان صاحب بسطام وعلى يده مطالعات تتضمن ما قاله ابن عثمان ، فأجابه السلطان كما أجاب ابن عثمان ، فلما أقام السلطان بحلب بلغه أن جاليش عسكر تمرلنك قد وصل إلى البيرة ، فصار جماعة من عسكر السلطان يعدون تحت الليل من الفرات ويكبسوا عليهم فغنموا من عسكر تمرلنك أشياء كثيرة ، فقيل إن عسكر مصر كانوا ينفخون القرب ويجعلونها تحت بطون الخيل ويعدون من الفرات تحت الليل حتى يقعوا مع عسكر تمرلنك. ثم بلغ السلطان أن تمرلنك رجع إلى بلاده (١) ، ولما تحقق السلطان ذلك قصد الرجوع إلى الديار المصرية ، وكذلك القان أحمد بن أويس رجع إلى بلاده ، ولم يقع بين السلطان وبين الملك الظاهر برقوق قتال في هذه المرة بل رجع كل من الفريقين إلى بلاده.

تعيين الأمير تغري بردي إلى حلب

ثم إن السلطان رجع إلى الشام فأقام بها أياما وخلع على المقر السيفي تغري بردي بن يشبغا واستقر به نائب حلب. ثم قال في حوادث سنة ٧٩٧ : إن السلطان وصل إلى القاهرة ثالث عشر صفر ودخلها في موكب عظيم. وفي روض المناظر : كانت إقامة السلطان بحلب أربعين يوما.

بناء الأمير تغري بردي جامعه في محلة السفّاحية

قال في الدر المنتخب : ومنها جامع تغري بردي نائب حلب ثم دمشق بالقرب من الأسفريس وحارة التركمان ، بناه حين كان نائبا بحلب سنة ست وتسعين وسبعمائة وكان قد أسسه ابن طومان اه.

__________________

(١) أقول : يظهر أن سبب رجوعه استعداد الدولتين المصرية والعثمانية لملاقاته فكان كما يقوله بعض سياسيي العصر : الاستعداد للحرب يمنع الحرب.

٣٩٠

وقال ابن الخطيب في الدر المنتخب في ترجمة علي بن محمد الصرخدي : لما بنى الأمير تغري بردي جامعه المشهور بالأسفريس فوض إليه تدريس الشافعية به فحضره ودرس فيه بحضور ملك الأمراء المشار إليه يوم الجمعة بعد الصلاة اه.

أقول : موقع الجامع في المحلة المعروفة الآن بالسفّاحية وقد اشتهر بالموازيني ، لأن المتولين عليه من نحو مائة سنة إلى الآن بنو الموازيني ، وقد قام الحاج محمد الموازيني بأمر هذا الجامع أحسن قيام ورممه وبلط صحنه وعاد إلى حالته الأولى ، وكذلك رمم أوقافه ، وقد توفي في السنة الماضية وهي سنة ١٣٤١. وكان رحمه‌الله رجلا صالحا ورعا حافظا لكتاب الله تعالى يخطب بهذا الجامع بغير معلوم.

المكتوب على بابه :

أنشأ هذا الجامع المبارك في أيام مولانا الغازي المالكي الملك الظاهر أبي سعيد برقوق خلّد الله ملكه المقر الأشرفي العالي المولوي الكافلي المالكي الظاهري كافل المملكة الشريفة بحلب المحروسة أعزّ الله تعالى أنصاره وألبسه من التوفيق حلة وذلك سنة ٧٩٧.

وفي جدار قبلية الجامع بجانب المحراب لوح من دف بديع الصنعة طوله أربعة أشبار وعرضه ثلاثة وقد كتب عليه تاريخ عمارة الجامع وهو :

١ ـ أنشأه المقر الأشرف العالي المولوي الأميري السيفي تغري بردي الملكي الظاهري عزّ نصره

٢ ـ بتولي المقر الكريم شهاب الدين أحمد بن التيزيني وذلك في سنة تسع وتسعين وسبعمائة.

وفي وسط اللوح وأطرافه كتابات بالخط الكوفي ومكتوب عليه أيضا : (عمل أحمد الليثي). ومكتوب على قنطرة المنبر :

منبر جامع محاسن فضل

ذلك الجمع ماله من نظير

خص عزا بجمعة وخطاب

عن رسول مبشر ونذير

قد بناه لله تغري بردي

كي يجازي بجنة وحرير

وفي القبلية عمودان عظيمان من الحجر الأحمر السمّاقي وعمودان من الحجر الأسود ، وسقف المحراب منقوش بالحجارة الصغيرة ، وفوق المحراب حجر مكتوب بالخط

٣٩١

الكوفي من الجهات الأربعة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وفي وسطها (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم).

ما أحدث في زمن تغري بردي في الجامع الكبير

في جدار الرواق الشمالي بجانب الحنفيات حجر مكتوب عليه :

١ ـ أمر بإنشائه مولانا المقام الأعظم السلطان الملك الظاهر أبو سعيد برقوق عزّ نصره

٢ ـ في أيام المقر السيفي تغري بردي كافل المملكة الحلبية عزّ نصره بتولي العبد

٣ ـ الفقير إلى الله تعالى حمزة الجعفري الحنفي في شهور سنة سبع وتسعين وسبعماية اه.

تحت هذه الكتابة باب كان يخرج منه إلى خلا أحدثه الشيخ حمزة المذكور في هذه السنة ، إلا أن الرائحة كانت تخرج منه إلى الجامع ، فسدّ هذا الباب وأبطل الخلا من هذا الموضع واتخذ غربي الباب الشمالي ، ثم إنه أبطل من هذا المكان خوفا على المأذنة واتخذ موضعه مكتبا وفتح له باب في صحن الجامع وله وظيفة عثمانية ، والآن هو سكن الإمام الحنفي الجهري (١) ، ونقلت المطهرة إلى تجاه الباب الأصلي نقلها الحاج حسن ابن الأميري وجعلها في غاية السعة وجعل بابها من خارج الباب الشمالي وذلك سنة ١١٦٩ ، وجعل لها بابا آخر من داخل الجامع في قرنة الرواق الشمالي كي لا يمتنع دخول المجاورين بالمسجد ليلا إلى الخلا ، ثم سدّ هذا الباب من آخر المدخل فصار حجرة صغيرة يوضع فيها لوازم الجامع وربما سكنها بعض الخدم.

سنة ٧٩٩

ذكر تولية حلب للأمير أرغون شاه

قال في روض المناظر : في هذه السنة طلب الأمير تغري بردي إلى مصر واستقر بها أميرا كبيرا ، واستقر عوضه بحلب أرغون شاه ، نقل إليها من طرابلس وكان قبلها نائبا بصفد ، وأقام بحلب شهورا ومات.

__________________

(١) هي الحجرة التي عن يسار الداخل من باب الحلوية.

٣٩٢

قال ابن إياس : وفي هذه السنة جاءت الأخبار من حلب بأن جاليش تمرلنك قد وصل إلى أطراف بلاد الروم وأخذ مدينة تسمى أرزنكان [آذربيجان] وقتل أهلها ونهب ما فيها ، فلما سمع السلطان ذلك أرسل إلى سائر النواب بأن يتوجهوا إلى شاطىء الفرات ويحصنوا البلاد ، فخرج سائر النوّاب إلى شاطىء الفرات وأقاموا هناك اه.

سنة ٨٠٠

ذكر تعيين الأمير علاء الدين أقبغا لنيابة حلب

قال في روض المناظر : في هذه السنة استقر في نيابة حلب الأمير علاء الدين أقبغا الهذباني عوضا عن أرغون شاه.

سنة ٨٠١

وفاة الملك الظاهر برقوق بن أنص العثماني

قال ابن إياس : كانت وفاته خامس عشر شوال من سنة إحدى وثمانمائة ، وكان مدة سلطنته ست عشرة سنة وأربعة أشهر ، وعهد بالملك بعده لولده المقر الزيني فرج ولقب الملك الناصر أبو السعادات وله من العمر اثنتا عشرة سنة.

ذكر استيلاء السلطان با يزيد على ملطية

وورود الأخبار بقصده حلب ثم رجوعه إلى بلاده

قال ابن إياس : في أواخر هذه السنة جاءت الأخبار من حلب بأن ابن عثمان ملك الروم قد تحرك على بلاد السلطان وقد وصل أوائل جاليشه إلى بلاد الأبلستين (البستان) وهو قاصد حلب ، فلما بلغ السلطان والأمراء هذا الخبر أمر الأتابكي أيتمش بعقد مجلس بالقصر الكبير ، فحضر أمير المؤمنين المتوكل والقضاة الأربعة وشيخ الإسلام سراج الدين البلقيني وسائر الأمراء وضربوا مشورة في أمر ابن عثمان ، فوقع الاتفاق على محاربته والخروج إليه وأن يؤخذ من أجرة الأملاك شهر واحد يتقوى بها العسكر على دفع العدو. ثم بعد مدة جاءت الأخبار بأن ابن عثمان وصل إلى ملطية وملكها ولم يشوّش على أحد من أهلها وأمر عسكره بأن لا ينهبوا لأحد من الرعية شيئا ، فأقام بملطية أياما ثم رجع إلى بلاده فطل أمر التجريد وسكن الحال.

٣٩٣

سنة ٨٠٢

ذكر عصيان تنم نائب الشام وأقبغا الجمالي نائب حلب

وبقية نواب البلاد الشامية ومحاربتهم للسلطان فرج

وتعيين دمرداش الخاصكي لنيابة حلب

قال ابن إياس : لما توفي الملك الناصر فرج خرج تنم نائب الشام عن الطاعة وأظهر العصيان ووضع يده على البلاد الشامية ، ووافقه على العصيان نائب حلب ونائب حماة ونائب صفد ونائب طرابلس ، والتف عليه من العسكر والعربان ما لا يحصى عددهم ، ثم انضم إليهم الأتابكي أيتمش بعد أن انكسر في محاربته للسلطان بمصر. وخلاصة الأمر أن السلطان خرج إليهم والتقى الجمعان بأرض فلسطين ، وانكسر تنم وأمسك هو وجماعة من الأمراء وقتلوا ، وعاد السلطان إلى الديار المصرية منصورا وقرر في نيابة دمشق خاله سودون وفي نيابة حلب الأمير دمرداش المحمدي الخاصكي.

ذكر مجيء مقدمة تمرلنك إلى نواحي ملطية

وتوجّه عسكر حماة وحلب إلى محاربتهم وانكسار هذين

قال ابن إياس : في ذي القعدة حضر مملوك نائب حلب وأخبر بأن القان أحمد بن أويس صاحب بغداد وقرا يوسف أمير التركمان حضر إليهم جاليش تمرلنك فأوقعوا معهم واقعة عظيمة فانكسر جاليش تمرلنك ، فلما انكسروا أتوا إلى ملطية وكانوا نحو سبعة آلاف ، فأرسلوا إلى نائب حلب يقولون له : عيّن لنا مكانا ننزل به ، فلما سمع نائب حلب بذلك ركب هو ونائب حماة وتوجهوا إلى عسكر تمرلنك فأوقعوا معهم واقعة عظيمة ، فانكسر نائب حماة وقتل من عسكر حلب جماعة كثيرة ، منهم جاني بك اليحياوي أتابك العساكر بحلب وأسر نائب حماة دقماق المحمدي حتى اشترى نفسه منهم بمال جزيل ، ورجع نائب حلب إلى حلب وهو مكسور ، وكانت هذه أول الفتن بين عسكر مصر وبين تمرلنك ، فلما بلغ السلطان ذلك رسم لنائب الشام ونائب صفد ونائب طرابلس بأن يجمعوا العساكر ويتوجهوا إلى حلب يقيمون بها.

٣٩٤

أصل تمرلنك وشيء من أحواله إلى أن استفحل ملكه

والكتاب الذي أرسله إلى الملك الظاهر برقوق صاحب مصر وجواب هذا الكتاب والأسباب التي دعته إلى الرجوع إلى هذه البلاد ومجيئه إلى سيواس والبستان ثم عينتاب وقلعة الروم ثم إلى حلب وما فعله بهذه البلاد ثم بحلب من الفظائع وعظيم الجرائم والأسئلة التي سأل عنها علماء الشهباء وأجاب عنها القاضي محب الدين أبو الوليد محمد بن الشحنة وتوجهه إلى الشام وعوده منها إلى أطراف حلب ثم رجوعه إلى بلاد الشرق ووفاته وما آل إليه أمر ملكه وملك بنيه.

قال العلامة الدحلاني في تاريخه الفتوحات الإسلامية : كان ظهور تمرلنك في أواخر القرن الثامن بالديار الهندية وخراسان والعراق ، وكان ظهوره من أشد المحن والبلايا على هذه الأمة ، أفسد في الأرض وأهلك الحرث والنسل ، وهو وإن كان يدّعي الإسلام إلا أن قتاله مثل قتال الكفار لأنه فعل أفعالا مع المسلمين أكثر مما تفعله الكفار من القتل والأسر والتخريب ، وكان رافضيا شديد الرفض.

وسبب خروجه أن ملوك التتر اقتسموا الممالك وانتشرت الفتن بينهم مع بعضهم وكثر عليهم الثوار والخارجون ، وكان ذلك كله سببا لضعف دولة التتر وموجبا لقيام تيمور وغيره.

واختلفوا في نسب تيمور ، فقيل إن نسبه ينتهي إلى جنكز خان ملك التتر. وفي تاريخ ابن خلدون أن تيمور ينسب هو وقومه إلى جغطاي بن جنكز خان ، وجزم بعضهم بأن نسبه إلى جغطاي بن جنكز خان إنما هو من جهة أمه لا من جهة أبيه.

وكان أول ظهوره سنة سبعمائة وثلاث وسبعين وأرّخه بعضهم بقوله [عذاب ٧٧٣] وكان مبدأ أمره وأمر أبيه أنهما كانا فقيرين وكان أبوه أسكافيا من قرية من أعمال كش وهي مدينة من مدائن ما وراء النهر ، ونشأ ولده تيمور جلدا قويا ذا جسم غليظ ، فكان لشدة فقره يسرق كثيرا ، فسرق في بعض الليالي شاة واحتملها فشعر به الراعي فرماه بسهمين أصاب بأحدهما فخذه وبالآخر كتفه فأعابهما فكان أعرج اليمناوين ، ولذلك كان يقال له نصف إنسان ، ومع هذا لم يترك السرقة ، وما زال كذلك حتى اشتهر أمره وإفساده ، فظفر

٣٩٥

به السلطان حسين ملك هراة فأمر بضربه ثم بصلبه ، فضرب ثم تشفع في ترك صلبه الأمير غياث الدين ابن السلطان حسين المذكور ، فقال له أبو حسين : هذا أصل مادة الفساد ، لئن بقي ليهلكن العباد والبلاد ، فقال له ابنه غياث الدين : وما عسى أن يصدر من نصف آدمي وقد أصيب بالدواهي ، فما زال يراجع أباه حتى قبل شفاعته ووهبه له وعفا عنه. ثم إن غياث الدين اصطحبه معه وقرّبه وأدناه وجعله من خواصه وزوّجه أخته ورقّاه حتى صار من وزرائه ، فلما صار الملك لغياث الدين بعد موت أبيه حسين ازدادت منزلة تيمور وصار مقدما على كثير من الجند فطغى وبغى على مولاه غياث الدين. ومبدأ ذلك أن زوجة تيمور وهي أخت السلطان غياث الدين وقع بينها وبين تيمور شيء أغضبه فقتلها ولم يراع حرمة مولاه ، ثم لم يسعه الأمر إلا بالخروج على السلطان غياث الدين وخلع الطاعة واقتعد غارب التمرد والطغيان ، فتملك بما كان تحت يده من الجند كثيرا من الممالك حتى استصفى ممالك ما وراء النهر وذلت لأوامره ملوك الدهر ، وشرع في استخلاص بقية البلاد واسترقاق العباد ، فكان يجري في جسد العالم مجرى الشيطان من بني آدم ويدب في البلاد دبيب السم في الأجساد ، ثم أرسل إلى مخدومه سلطان هراة الملك غياث الدين يطلب منه الدخول في طاعته ليجازيه على إحسانه بإساءته فيتحقق بذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كتب الله على كل نفس خبيثة أن لا تخرج من الدنيا حتى تسيء إلى من أحسن إليها».

فأرسل غياث الدين يقول له : أما كنت خادما لي وأحسنت إليك وأسبلت ذيل نعمتي عليك ، وذلك بعد أن نجّيتك من الضرب والصلب ، فإن لم تكن إنسانا يعرف الإحسان فكن كالكلب. فلم يصغ لذلك بل عبر جيحون بمن معه من الجند وتوجّه إلى محاصرة مولاه غياث الدين بهراة ، ولم يكن لغياث الدين قوة إلى قتاله والوقوف بين يديه فحصّن نفسه في القلعة فحاصره وضيّق عليه ثم أمّنه وقبض عليه وحبسه ومنع عنه الطعام والشراب حتى مات جوعا وعطشا ، ثم عاد إلى خراسان فانتقم أولا من أهل سجستان فوضع السيف فيهم فأفناهم عن آخرهم ، ثم خرب المدينة ورحل عنها ، ولم يزل هذا دأبه حتى تخلص له جميع ممالك العجم ودانت له ملوكهم والأمم.

وقدمنا في حوادث سنة ٧٩٥ استيلاءه على بغداد وانهزام صاحبها السلطان أحمد بن أويس ومجيئه إلى حلب ثم توجهه منها إلى القاهرة ، وخروج السلطان برقوق بالعساكر المصرية إلى حلب واستعداده تمام الاستعداد لملاقاته ، فلما بلغ ذلك تيمور رجع إلى بلاده وكانت وفاة الملك الظاهر برقوق سنة ٨٠١.

٣٩٦

كتاب تيمرلنك إلى الملك الظاهر برقوق

قال القرماني في تاريخه : في ثالث عشر صفر سنة تسع وتسعين وسبعمائة حضرت رسل تمرلنك وهم أربعة ومعهم كتاب نسخته بعد البسملة الشريفة : قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اعلموا أننا جند الله في أرضه مخلوقون من سخطه ، مسلطون على من يحل عليه غضبه ، لا نرق لشاك ولا نرحم عبرة باك ، قد نزع الله الرحمة من قلوبنا ، فالويل ثم الويل لمن لم يكن من حزبنا ، قد خرّبنا البلاد ويتّمنا الأولاد وأظهرنا في الأرض الفساد ، خيولنا سوابق وسيوفنا صواعق وسهامنا خوارق ، وقلوبنا كالجبال وعددنا كالرمال ، وجارنا لا يضام ، من سالمنا سلم ومن رام حربنا ندم ، فإن أنتم قبلتم شرطنا وأطعتم أمرنا فلكم مالنا وعليكم ما علينا ، وإن أنتم خالفتم وعلى بغيكم تماديتم فلا تلوموا إلا أنفسكم ، وذلك بما كسبت أيديكم ، فالحصون لا تمنع ، والعساكر لا ترد ولا تدفع ، لأنكم أكلتم الحرام وضيعتم الجمع ، فأبشروا بالمذلة والهوان (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) وتقولون إنه قد صح عندكم أننا كفرة فقد ثبت عندنا أنكم فجرة ، وقد سلطنا عليكم من بيده أمور مدبرة وأحكام مقدرة ، فعزيزكم عندنا ذليل وكثيركم لدينا قليل ، وقد أوضحنا لكم الخطاب فأسرعوا برد الجواب ، قبل أن ينكشف الغطا ويدخل علينا منكم الخطا ، وترمي الحرب نارها وتلقي أوزارها ، وتدهون منا بأعظم داهية ولا يبقى لكم باقية ، وينادي عليكم منادي الفناء (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) الآن قد أنصفناكم إذ راسلناكم ، فردوا رسلنا بجواب هذا الكلام والسلام.

جواب هذا الكتاب من الملك الظاهر برقوق

قال القرماني : فلما سمع السلطان هذا الكتاب اغتاظ غيظا عظيما وأمر بتوسيط الرسل [بقتلهم] فوسطوا وعلقوا وأمر بكتب جواب ، فكتب ذلك بإنشاء ابن فضل الله العمري رحمه‌الله تعالى ، ونسخته كما في القرماني وتاريخ تيمور لابن عربشاه : [بسم الله الرحمن الرحيم](قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) حصل الوقوف على كتاب مجهز من الحضرة الإيلخانية والسدة العظيمة الكبيرة السلطانية ، قولكم إنكم مخلوقون من سخطه مسلطون على من يحل عليه غضبه ، وإنكم لا ترقون لشاك ولا ترحمون عبرة باك ،

٣٩٧

وقد نزع الله الرحمة من قلوبكم فذلك من أكبر عيوبكم ، وهذه صفات الشياطين لا صفات السلاطين (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) ففي كل كتاب لعنتم وعلى لسان كل رسول بالسوء ذكرتم وبكل قبيح وصفتم ، وعندنا العلم بكم من حين خلقتم وأنتم الكفرة كما زعمتم ، ألا لعنة الله على الكافرين ، نحن المؤمنون حقا ، لا يدخلنا عيب ولا يخامرنا ريب ، القرآن على نبينا نزل والرب بنا رحيم لم يزل ، إنما النار لكم خلقت ولجلودكم أضرمت ، إذا السماء انفطرت ، ومن أعجب العجاب تهديد الرتوت باللتوت ، والسباع بالضباع ، والكماة بالكراع ، ونحن خيولنا برقية وسهامنا يمنية ، وسيوفنا شديدة المضارب ، وذكرنا في المشارق والمغارب ، إن قتلناكم فنعم البضاعة ، وإن قتلنا فبيننا وبين الجنة ساعة ، (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) وقولكم قلوبنا كالجبال وعددنا كالرمال ، فالقصّاب لا يبالي بكثرة الغنم وكثير الحطب ، يكفيه قليل من الضرم (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) الفرار الفرار من الرزايا لا من المنايا ، ونحن من الطمأنينة على عادة الأمنية ، إن قتلنا فشهداء وإن عشنا كنا سعداء (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) أبعد أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين [يعني الخليفة العباسي الذي كان إذ ذاك بمصر] تطلبون منا طاعة ، لا سمعا لكم ولا طاعة ، وطلبتم أن نوضح لكم أمرنا قبل أن ينكشف الغطا ويدخل علينا منكم الخطا ، هذا الكلام في نظمه تركيك وفي سلكه تفكيك ، لو كشف لبان بعد التبيان ، أكفر بعد إيمان واتخاذ رب ثان (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) قل لكاتبك الذي وضع رسالته ووصف مقالته وصل كتاب كصرير الباب أو كطنين الذباب (سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) وما لكم عندنا إلا السيف بقوة الله تعالى ١.

قال الدحلاني : فلما وصل الكتاب إلى تيمور غضب غضبا شديدا ، وكأن الله ألقى الرعب في قلب تيمور من السلطان برقوق فرجع إلى بلاده.

__________________

١ ـ يلاحظ التقارب والتشابه بين رسالة هولاكو إلى الملك الناصر وجواب الملك الناصر ورسالة تيمرلنك إلى الملك برقوق وجواب الملك برقوق.

٣٩٨

أقول : يستفاد من كلام ابن عربشاه في تاريخه عجائب المقدور أنه في هذه الأثناء وافته الأخبار أن سلطان الهند فيروز شاه توفي إلى رحمة الله ولم يكن له ولد يكون له خليفة ، واضطربت أحوال بلاد الهند ، وولى الأهلون وزيرا اسمه ملوا وصارت بلاد الهند فرقا وطوائف ، فوجد أن توجهه إلى بلاد الهند والاستيلاء عليها لعظم الغنيمة أولى من مجيئه إلى الديار المصرية ومحاربة برقوق ، فكرّ راجعا إلى بلاد الهند واستولى عليها. وبسط القول في ذلك.

قال ابن عربشاه : وبينما هو في الهند وقد استولى على كرسي الهند وأمصاره واحتوى على ممالكه وأقطاره ، وبلغت مراسيمه ذرى أنجاده وأعماق أغواره ، وانبثّ جيشه في ولايتها سهلا ووعرا وظهر فسادهم في رعاياها برا وبحرا ، وفد عليه المبشر من جانب الشام (وذلك في سنة إحدى وثمانمائة) أن القاضي برهان الدين أحمد السيواسي والملك الظاهر أبا سعيد برقوق انتقلا إلى دار السلام ، فسرّ بذلك صدره وانشرح ، وكاد أن يطير إلى جهة الشام من الفرح ، فنجز بسرعة أمور الهند ونقل إلى مملكته من فيها من العسكر والجند ، بما أخذه من الأثقال ونفائس الأموال ، ووزع ذلك على الجمهور وسائر الجند المأسور على أطراف ما وراء النهر من الحدود والثغور ، وأقام في الهند نائبا ثم صدر عن سمرقند قاصدا إلى الشام ومعه من الهند رؤوس أجنادها ووجوه أعيانها.

قال في روض المناظر : وفي سنة ثلاث وثمانمائة شاعت الأخبار بأن تيمور لنك حين عاد من أخذ بلاد الهند بلغه وفاة السلطان الملك الظاهر برقوق فاستبشر لذلك وأنعم على مخبره بجملة مستكثرة ، وكان في نفسه من قتله رسله ومن أخذ ابن عثمان (السلطان با يزيد رحمه‌الله) سيواس وملطية وأخذ السلطان أحمد بغداد ، فقصد بلاد الشام ومعه من العساكر ما لا يحصى. أخبرني الحافظ الخوارزمي أن بديوان عسكره المختصة به ثمانمائة ألف وأنه اجتاز على سيواس وحاصرها وأخذها بعد أن حلف لأهلها أنه لا يضع فيهم السيف ، فلما تمكن منهم حفر لهم حفائر ودفنهم فيها أحياء ، قيل كانوا ثلاثة آلاف مسلم ، ثم حرقها وخربها ، وتوجه نحو البستان فوجد أهلها قد أخلوها فأحرقها وخربها ، ثم توجه إلى ملطية فهرب من كان بها فأخذها وخربها ، ثم اجتاز على بهسنى فحاصرها ونصب عليها المنجنيق وهدم بعض قلعتها ثم أخذها صلحا ، وقصد قلعة المسلمين (١) وكان نائبها فارس المسلمين المقر

__________________

(١) من هنا إلى قوله من السلالة الطاهرة العمرية غير موجود في النسخة المطبوعة من روض المناظر على هامش ابن الأثير ، وقد وجدت هذه الزيادة في نسخة خطية منه وبتمامها سقطت من النسخة المطبوعة.

٣٩٩

الأشرف الناصري محمد ابن المرحوم الشرفي موسى بن شهري سبط مولانا السلطان المشار إليه في أول الكتاب ، وكان قد بدع بجماعة تمرلنك وطواشيه مدة إقامته على بهسنى وقتل منهم جماعة وأرسل رؤوسهم إلى حلب وكسر قوما من الذين جهزهم إليه أقبح كسرة ، حتى رمى غالب جماعته نفوسهم في الفرات. وجهز تمرلنك كتابا إلى المشار إليه يقول فيه : إنني خرجت من أقصى بلاد سمرقند ولم يقف أحد أمامي وسائر ملوك البلاد حضروا إلي وأنت سلطت على جماعتي من يشوش عليهم ويقتل من يظفر بهم ، والآن قد مشينا عليك بعساكرنا ، فإن أشفقت على نفسك ورعيتك فاحضر إلينا لترى من الرحمة والشفقة ما لا مزيد عليه ، وإلا نزلنا عليك وخربنا بلدك ، وقد قال الله تعالى (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) فاستعد لما يحيط بك إن أبيت الحضور.

فأمسك المشار إليه الرسول وحبسه ولم يلتفت إلى كتاب تمرلنك ، فمشى عليه أوائل عسكره فبرز إليه المشار إليه وقابلهم وكسرهم. وفي اليوم الثاني حضر تمرلنك ونزل على قلعة المسلمين فبرز إليه المشار إليه وقاتله قتالا شديدا وكانت وقعة عظيمة ، ولما رأى تمرلنك شدة حزمه رجع عن محاربته وأخذ في مخادعته وملاطفته وطلب الصلح وأن يرسل إليه خيلا ومالا لأجل حرمته ، فلم ينخدع معه ، وتنازل معه إلى أن طلب منه حاميا فلم يعطه وعاد خائبا ، وأخذ المشار إليه في أواخره نهبا وقتلا وأسرا ، كل ذلك وباب قلعته مفتوح ولم يغلقه يوما ، وأنشد فيه لسان الحال :

هذا الأمير الذي صحت مناقبه

ليث الوغى عمت الدنيا مفاخره

ولّى تمرلنك مكسورا أوائله

منه فرارا ١ ومذعورا أواخره

وكان حصول تلك السعادة للمشار إليه دون غيره من الملوك وأصحاب الحصون لما كان فيه من العلم والديانة والإخلاص والصيانة ولكونه من السلالة الطاهرة العمرية.

__________________

١ ـ في الأصل : مرارا ، ولعل ما أثبتناه هو الصواب.

٤٠٠