إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٢

الصابون في أخذ هذه الميضاة بدعوى أنها عرصة خالية لا ينتفع منها على أن يدفع لجهة الجامع حكرا قدره عشرة قروش مسانهة ليحفر موضعها دولابا للجنينة التابعة لدوره التي أنشأها أمام الجامع ، وقد اطلعت على حجة التحكير وهي محررة سنة ١٢٦٤ ، وقد أدخلت تلك الميضاة في الدار التي فيها الجنينة وعمر بدلها ميضاة أخرى داخل الجامع في غربيه داخل باب آخر للجامع قد سد بواسطة هذه الميضاة وبما عمر وراءه من الدور ، ومكتوب على هذا الباب مثل الكتابة التي تقدمت إلا أنه طيّن فوقها الآن.

وكان جدار القبلية الشمالي قد توهن فجدده هذا الرجل ، ومع هذا كله فإنه على إثر ذلك أخذت ثروته في التناقص وافتقر واضمحل أمره ودخل الشؤم في دوره حتى بيعت مرات بأبخس الأثمان وصارت تنتقل من شخص إلى آخر ، وكل من اشتراها لا يفلح وتنتابه المصائب إما في نفسه أو في ماله أو في أهله. واشتهر بين جميع الناس شؤم هذه الدور لأخذه هذه الميضاة وإدخالها في ملكه.

والدار الكبيرة هي في منتهى الزخرفة ، وكان الصابوني أحضر لها صناعا من الشام لدهن سقوف بيوتها وطليها بالذهب وصرف على ذلك مبالغ طائلة. وعلى سعتها وما فيها من النقوش بيعت منذ عشر سنوات بخمسة وثلاثين ألفا قروشا رائجة ، ولو لا ما اشتهرت من الشؤم لبيعت بألفي ليرة عثمانية.

وليس لهذا الجامع الآن شيء من الأوقاف ، ومنذ سنتين عينت دائرة الأوقاف له إماما وخادما ومؤذنا. وفي سنة ١٣٢٠ حضر إلى حلب الشيخ رجب وهو رجل من الأتراك من أهالي طربزون منسوب إلى أهل الطريق فنزل عند تاجر يقال له باكير كامل أصله من أورفة ، ثم عمر له حجرة واسعة في شمالي هذا الجامع في داخلها مخدع ، فسكن فيها وصار يقيم الذكر في القبلية وصار له بعض المريدين ، وتوطن حلب ، وهو رجل ساكن مبارك ومن الأحياء إلى يومنا هذا ، وبوجود هذا الرجل أصبح الجامع معمورا بالمصلين من أهل المحلة.

والرواقان على ارتفاعهما وضخامة بنائهما آخذان في الخراب ، وإذا بقي أمرهما مهملا على هذه الحالة سيخربان بتاتا ، ولو اهتمت دائرة الأوقاف أو دائرة المعارف وابتنت موضعهما مكتبا ابتدائيا ينتفع به أهل المحلة وغيرهم لأحسنت الصنع وازداد هذا الجامع عمرانا والله من وراء القصد.

وفي أرض الرواق الغربي جرن كبير قطعة واحدة كتب على طرفه [أنشأ هذه الحنفية المباركة الفقير إلى الله الحاج عبد الله بن الحاج يحيى وأوقف عليه الدكان الذي في جانب

٣٦١

الميضاة في سنة ٩٦٠ اه] واليوم لا أثر لهذه الدكان وقد دخلت مع الميضاة في دار الجنينة التي عمرها الصابوني كما قدمنا.

وأما شهرة الجامع بالرومي فإني لم أقف على سبب ذلك والله أعلم ١.

سنة ٧٦٩

ذكر زيادة نهر حلب وتخريبه بيوتا كثيرة

قال في روض المناظر : في هذه السنة زاد نهر حلب زيادة عظيمة وأصبحت منها بيوت لا أثر لها وقلعت كثيرا من الأشجار. وأنشد فيه القاضي بدر الدين حسن بن عمر ابن حبيب الحلبي :

لما طما نهر قويق ولم

يأت بسيب بل بسيل غزير

قالت الأشجار ٢ من حوله

مهلا فقد زدت علينا كثير

وفيها نقل منكلي بغا الشمسي إلى مصر أتابك الجيوش بها واستقر عوضه في نيابة حلب طنبغا الطويل.

ترجمة منكلي بغا :

قال في الدرر الكامنة : منكلي بغا الشمسي أحد مماليك الناصر حسن ، ولي إمرة طبلخاناه بعد القبض على شيخو في ذي الحجة سنة ٧٥٨ ثم إمرة مائة بعد القبض على صرغتمش سنة ٥٩ ، ثم ولي نيابة حلب سنة ٦٣ فباشر جيدا وتوخى العدل والإحسان وعمر الجامع بها ، ثم ولي نيابة دمشق سنة ٦٤ عوضا عن قشتمر ففتح في سنة ٦٥ باب كيسان وعقد عليه قنطرة ومد جسرا يسلك عليه ، وبنى هناك جامعا وكان مغلقا من أيام العادل محمود بن زنكي ، ثم نقل إلى نيابة حلب في صفر سنة ٦٨ ، ثم استقر نائب السلطنة بمصر في سنة ٦٩ ، ثم استعفى من النيابة فاستقر أتابكا ، وكان الأشرف بعد قتل يلبغا قرر في الأتابكية أسندمر ثم طقشتمر النظامي ثم ملكتمر المحمدي ويلبغا المنصوري

__________________

١ ـ انظر الجزء الخامس في ترجمة المحدث إبراهيم بن محمد بن خليل المشهور بالبرهان الحلبي.

٢ ـ هكذا في الأصل ، ولعل الصواب : قالت له ...

٣٦٢

معا ، ثم استقدم منكلي بغا من حلب فقرره في النيابة ثم في الأتابكية وذلك في ربيع الأول سنة ٦٩ وولي نظر البيمارستان فلم يزل على حاله حتى مات في جمادى الأولى سنة ٧٧٤. وكان مهابا عاقلا عارفا يتكلم في عدة فنون.

(أقول) : وفي هامش النسخة المنقول منها هذه الترجمة ما نصه : حدثني القاضي محب الدين محمد بن الشحنة كاتب السر الشريف بمملكة مصر أن المذكور كان مجازا بالإفتاء والتدريس ، وذكر عنه فوائد منها أنه ذكر عنده (الولد سر أبيه) فقال للقائل : ما معنى ذلك؟ فقال : المعنى أنه يكون على طريقة أبيه ونحو هذا ، فقال : ما هكذا سمعنا من الأشياخ ، بل المعنى الولد ما يسره أبوه إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ثم قال : ما إعراب إن خيرا فخير إلخ يا فقيه؟ فقال له : المخاطب مولانا ملك الأمراء أعلم ، وأما العبد فرجل من آحاد الشهود لا يعلم ذلك. وحدثنا أنه لما استعرض وظائف الجامع الكبير بحلب حسن له المباشرون أن ينقص معاليم أرباب الوظائف فأقر كل أحد على ما هو عليه وزاد معلومه من المدرسين وغيرهم ، ثم قال : بقي المباشرون ، فلما قرئت أسماؤهم ومقادير معاليمهم قال : كان إقطاعي يعمل في مصر أكثر من متحصل وقف الجامع وكان له مباشر واحد وفيه كفاية ثم منع المباشرين إلا واحدا.

وحدثني أنه لما بنى جامعه الذي بحلب منع أن يقف على العمال فيه أحد من جماعته يحثهم على العمل ، وكان إذا حضر وقت الصلاة حضر إليهم وأمرهم بالوضوء والصلاة في وقتها ، وربما قال إنه يصلي بهم إماما ، وكان إذا رأى فيهم شيخا أو ضعيفا أعطاه جميع أجره وأمره بالانصراف إلى عياله ليأكل معهم ويستريح عندهم فيذهب فإن شاء حضر وإن شاء لم يحضر رحمه‌الله.

سنة ٧٧٠

وفاة طنبغا الطويل وتولية حلب لأستنبغا الأبو بكري

ثم لقشتمر المنصوري ثم لسيف الدين أشقتمر

قال في روض المناظر : في هذه السنة توفي طنبغا الطويل نائب حلب قيل بسم دسّه إليه المصريون حين بلغهم أنه قصد المخامرة ، واستقر في نيابة حلب أستنبغا الأبو بكري ، ثم طلب إلى مصر واستقر عوضه بحلب قشتمر المنصوري. وفي آخر السنة خرج إلى العربان

٣٦٣

فقتل هو وولده وجماعة من العسكر وأعيد إلى نيابة حلب الأمير سيف الدين أشقتمر في سنة إحدى وسبعين وسبعمائة.

ترجمته وزيادة بيان في هذه الوقعة :

قال ابن خطيب الناصرية في ترجمته : قشتمر المنصوري الأمير سيف الدين ، ولي نيابة السلطنة بحلب في سنة سبعين وسبعمائة عوضا عن الأمير سيف الدين أستنبغا الأبي بكري واستمر بها قليلا ، ثم توجه في السنة المذكورة وصحبته طائفة من العسكر الحلبي لردع العرب من بني كلاب وغيرهم حين ترصدوا لقطع الطريق بين حماة وحلب ونهبوا المسافرين وبعض المتوجهين إلى الحجاز الشريف ، فلما وصل العسكر إلى تل السلطان بالقرب من حلب وجدوا هناك عدة من بيوت العرب ومضاربهم ومواشيهم فاستاقوا كثيرا من مواشيهم وجمالهم ودخلوا إلى بيوتهم فنهبوها ، فنهض العرب واستنجدوا بمن كان نازلا هناك من آل مهنا وجرى بينهم قتال شديد ، وقتل في المعركة نائب السلطنة المذكور وولده وعدة من العسكر وكسروا كسرة شنيعة وولوا هاربين ، وتبعهم العرب يأخذون ما قدروا عليه منهم من الخيل والعدة وسلموا ولم ينج من السلب إلا القليل ، ودخلوا البلد دخولا فاحشا وذلك لطمعهم. وفيهم يقول بعض أهل الأدب :

تبا لجيش طمعوا فوقعوا

في شرك العراب والأعراب

وعاد كل منهم مجردا

من الثواب ومن الأثواب

وكان الأمير قشتمر المذكور أميرا كبيرا خبيرا حسن الشكل فصيحا كاتبا كريما ، ولي نيابة السلطنة بمصر ودمشق وحلب وطرابلس وصفد ، وكانت وفاته بالمكان المذكور مقتولا في السنة المذكورة عن نيف وستين سنة تغمده الله برحمته.

قال ابن إياس : في هذه السنة جاءت الأخبار من حلب بأن نائب حلب قشتمر المنصوري قد قتل هو وولده محمد (١) ، وسبب ذلك أن شخصا من آل فضل يسمى الأمير

__________________

(١) أقول : وهما مدفونان في جامع المقامات بظاهر حلب داخل القبلية على يمين المنبر ومكتوب على قبر قشتمر ما نصه : ١ ـ هذا قبر المقر المرحوم السيفي قشتمر المنصوري مولانا ٢ ـ ملك الأمراء بحلب المحروسة كان توفي إلى رحمة الله (٣ ـ عند رجليه) تعالى في يوم الجمعة سابع عشر ذي الحجة ٤ ـ الحرام سنة سبعين وسبعمائة رحمه‌الله اه.

وإلى جانبه قبر ولده محمد ومكتوب عليه (هذا قبر أمير محمد ولده).

٣٦٤

جبار وقع بينه وبين نائب حلب تشاجر ، فخرج إليه نائب حلب مع العساكر الحلبية فتقاتل مع الأمير جبار فقويت العربان على نائب حلب فقتل هو وولده في المعركة. ثم إن السلطان خلع على الأمير آشقتمر واستقر به نائب حلب عوضا عن قشتمر المنصوري وأرسل خلعة إلى الأمير زامل من آل فضل بأن يكون عوضا عن الأمير جبار بن مهنا ، فخرج الأمير آشقتمر وتوجه إلى حلب (وقد تقدم أن مجيئه كان في أول سنة ٧٧١ وهذه للمرة الثانية).

سنة ٧٧٣

ولاية عز الدين أيدمر

قال في روض المناظر : في هذه السنة ولي عز الدين أيدمر الدوادار نيابة حلب عوضا عن آشقتمر ونقل إلى مكانه بطرابلس نائبا.

بناء آشقتمر جامعه في هذه السنة وذكر بقية آثاره

قال في الدر المنتخب في الباب الحادي والعشرين الذي ذكر فيه ما تجدد بعد ابن شداد من المساجد والمدارس : فمن ذلك مسجد آشق تمر داخل باب النيرب بناه في سنة ... [بياض في الأصول] وأنشأ بالقرب منه حماما وفرنا وخانا ومعصرة وحوانيت ووقفها عليه وعلى التربة التي أنشأها ظاهر باب المقام يمنة الظاهر من المدينة ، وهي تربة عظيمة واسعة لها بوابة من الحجر النحيت الأبيض ذات عقد مصلب له ثلاث قناطر ومساطب رخام أصفر ، وداخلها مدفن معقود عليه قبة كبيرة وحوش كبير به بركة كبيرة مرخمة الداير يصل إليها الماء من القناة ، وبصدر هذا الحوش إيوان كبير ذو شبابيك أحدها مطل على قسطل كبير يجري إليه من فايض البركة ، وللإيوان المذكور شباكان مكتنفان بمحرابه مطلان على جنينة وشباك غربي يقابل الشباك الشرقي المطل على القسطل ، وللتربة حجر ومنافع ومرتفق ، وبهذه التربة دفن سيدي الوالد (١) ، ألزم الأمير نوروز الحافظي عمي قاضي القضاة فتح الدين بدفنه هنالك غصبا لتكون التربة المذكورة جارية تحت نظرنا اه.

__________________

(١) هو أبو الوليد محمد بن الشحنة صاحب روض المناظر المتوفى سنة ٨١٥.

٣٦٥

أقول : اشتهر هذا الجامع الآن بجامع السكاكيني وهو في محلة القصيلة ومكتوب على قنطرة بابه [أنشأ هذا المسجد العبد الفقير إلى الله تعالى آشقتمر الأشرفي (١) غفر الله وللمسلمين في شهور سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة].

وفي الجامع في الجهة الشمالية منه مصطبة وراءها خمس حجر لطلبة العلم كان بناها السيد راجي بيازيد بعد سنة ١٢٦٠ بقليل للشيخ حسين الغزي البالي حينما جاء إلى حلب وتوطن فيها وصار مدرسا في هذا الجامع ، وهو الآن تحت يد الأوقاف ، والباقي له من العقارات فرن ودكان ومخزن يبلغ وارداتها نحو خمسين ليرة عثمانية ذهبا.

ذكر اتخاذ علامات خضر في رؤوس الأشراف

قال في روض المناظر : في هذه السنة رسم السلطان الملك الأشرف شعبان أن يكون للأشراف علامة خضراء في رؤوسهم تعظيما لهم واحتراما. وأنشدت :

شرفت الأشراف من سلطاننا

الأشرف بالخضر من القبضات ٢

عزا وإبدالا بما قد ألبست

أسلافهم في عالي الجنات

وأنشد الشيخ أبو عبد الله المغربي محمد بن جابر الهواري الأندلسي نزيل حلب :

جعلوا لأبناء الرسول علامة

إن العلامة شأن من لم يشهر

نور النبوة في كريم وجوههم

يغني الشريف عن الطراز الأخضر

قال ابن إياس : وقال الشيخ بدر الدين بن حبيب الحلبي :

عمائم الأشراف قد تميزت

بخضرة رقت وراقت منظرا

وهذه إشارة أن لهم

في جنة الخلد لباسا أخضرا

سنة ٧٧٤

فيها أعيد الأمير أشقتمر لنيابة حلب وهذه ولايته للمرة الثالثة.

__________________

(١) الشين من الكلمتين ذاهبة.

٢ ـ هكذا في روض المناظر أيضا ، ولعل الصواب : القبعات.

٣٦٦

سنة ٧٧٥

ولاية بكتمر الخوارزمي ثم آشقتمر

قال في روض المناظر : في هذه السنة ولي الأمير بكتمر الخوارزمي نيابة حلب عوضا عن آشقتمر ، وبعد أربعة أشهر نقل بكتمر إلى نيابة دمشق وأعيد آشقتمر إلى نيابة حلب اه.

وهذه ولايته للمرة الرابعة وبقي إلى سنة ٧٨٠ ، وكانت وفاته بحلب سنة ٧٩١ ودفن في تربته التي أنشأها.

سنة ٧٧٦

ذكر فتح مدينة سيس

قال في روض المناظر : في هذه السنة توجه نائب حلب الأمير آشقتمر بالعساكر الحلبية بأمر السلطان الملك الأشرف لأخذ سيس وفتحها بعد حصار شهرين ، وعاد سالما غانما صحبة تكفور الأرمني ، وجهزه إلى مصر واستقر أقبغا الدوادار نائبا لها ، ثم بعد قليل جعلت سيس مملكة برأسها للفتوحات الجاهانية ، وأضيف إليها طرسوس وآذنة وأياس وغيرها ، واستقر في كفالتها الأمير موسى بن شهري ، واستقر بها حجاب وكاتب سر وأرباب الدولة على عادة الممالك وأقطعت جهاتها بمناشير ، وتوفي بها رحمة الله.

سنة ٧٧٨

تعيين أبي الوليد بن الشحنة لقضاء حلب

قال المحب أبو الوليد محمد بن الشحنة في روض المناظر : في هذه السنة كنت نزيلا بالقاهرة مقيما بالصرغتمشية ، فطلبني الملك الأشرف شعبان بن حسين وولاني قضاء حلب شكوى من جهل ابن العديم (١) وطلبوا قاضيا من أهل العلم ، فطلب السلطان من علماء

__________________

(١) اسمه إبراهيم بن محمد وهذا تحامل منه نشأ من المعاصرة ، وسيأتيك في حوادث سنة ٧٨٧ ما قاله ابن إياس في حقه ، وستأتيك ترجمته الحافلة في القسم الثاني إن شاء الله تعالى.

٣٦٧

مصر من يصلح فأشار الشيخ سراج الدين البلقيني والشيخ أكمل الدين محمد الحنفي بولايتي فكانت.

والخان الكائن أمام البيمارستان الأرغوني في محلة باب قنسرين المسمى خان القاضي منسوب إليه وذلك للكتابة التي على جدار الخان في مدخله من الطرف الأيسر ، وبعد عناء حتى تمكنت من قراءتها وهي :

١ ـ لما كان بتاريخ مستهل سنة خمس ..... المقر الكريم العالي القضائي المحبي القاضي محب الدين ابن الشحنة الحنفي

٢ ـ أسبغ الله ظلاله قد أبطل ما على مدينة نصارا قارا من الموجب الذي على بضايعهم المباعة بمدينة حلب

٣ ـ من القماش والثمار خارجا عن الفاكهة حسب المرسوم الشريف الذي بيدهم ملعون من يجددها

٤ ـ أو يسعى في تجديدها عليه اللعنة إلى يوم الدين.

وقد أكد أمر إبطال هذه الرسوم بأمر آخر نقش على جدار البيمارستان على يسار الباب ، ويظهر أن الكاتب واحد وصورته :

١ ـ لما كان بتاريخ ثاني عشرين ربيع الآخر سنة ستة وأربعين وثمانماية أبطل المقر الشريف العالي المولوي المخدو [مي]

٢ ـ الزيني عمر السفاح الشافعي صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالمملكة الحلبية المحروسة أخذ موجب ما يجلبه نصارة مدينة قاره إ [لى]

٣ ـ ... المحروسة من القماش والثمار خارجا عن الفاكهة في معلوم كتابة السر .... بحلب ابتغاء لوجه (الله)

٤ ـ تعالى فمن بدله بعد ما سمعه فانما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم اه. [الحروف الموضوعة بين هلالين ذاهبة من آخر السطور].

سنة ٧٧٩

ذكر قتل الملك الأشرف شعبان وسلطنة ولده الملك المنصور علي

قال في روض المناظر ما خلاصته : في هذه السنة قتل الملك الأشرف شعبان واستقر في السلطنة ولده الملك المنصور علي ابن الملك الأشرف شعبان ابن الملك الأمجد حسين ابن

٣٦٨

الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون. [قال ابن إياس] : وهو الثالث والعشرون من ملوك الترك وأولادهم بالديار المصرية.

سنة ٧٨٠

ذكر تولية حلب للأمير منكلي بغا البلدي ثم لتمرباي

قال في روض المناظر : في هذه السنة استقر في نيابة حلب الأمير منكلي بغا البلدي عوضا عن آشقتمر ، ثم أمسك واستقر عوضه سيف الدين تمرباي التمرداشي وتوجه إلى التركمان ، وانكسر عسكر حلب كسرة لم تسبق مثلها من التركمان ومنها عظم شأن التركمان ومنعوا العداد اه.

وتوجه إلى محاربة التركمان في سنة سبعمائة وإحدى وثمانين. قال في تحف الأنباء : في هذه السنة سار الأمير سيف الدين التمرداشي المنصوري وصحبته العساكر الحلبية وطائفة من عسكر حماة ودمشق إلى جهة البلاد السيسية ليردع طوائف التركمان حين ظهر فسادهم واشتهر بغيهم وعنادهم ، فلما وصل العسكر إلى القرب من مدينة أياس وبلغ التركمان خبرهم بادروا إلى الخضوع والطاعة وحضر منهم نحو أربعين من أكابرهم وأمرائهم واستصحبوا ما استطاعوا من الهدايا والتحف ، فحين أقبلوا على النائب المشار إليه أظهروا الطاعة وطلبوا الأمان فلم يقبل منهم وأمر باعتقالهم في القيود ، وركب بمن معه من العساكر إلى بيوتهم في الحال وأوقعوا بهم من النكال ما أحال منهم الحال ، ونهبوا أموالهم وسبوا نساءهم وقتلوا رجالهم وتقووا على الضعيف ، فعند ذلك احتال التركمان وجمعوا جموعهم وكمنوا للعسكر بمضيق في طريقهم يقال له باب الملك عند شاطىء البحر وأوقعوا بهم ، فلم ينج منهم إلا طريح أو جريح أو سلمه القضاء والقدر فطار مع الريح ، وسلبوا ما كان معهم وتشتت شملهم.

ونقل في درة الأسلاك في دولة الأتراك أنه حكى من كان حاضرا هذه الوقعة أن الذي أخذه التركمان فيها من الأموال والأثاث والخيل ما لا يحصى ، فمن جملته ثلاثون ألف جمل بأحمالها وثلاثة عشر ألفا من الخيل بسروجها اه.

٣٦٩

سنة ٧٨٢

ذكر عود منكلي بغا البلدي لنيابة حلب

قال في روض المناظر : في هذه السنة عاد منكلي بغا البلدي الأحمدي إلى نيابة حلب ورفع المكس عن عزاز ثم توفي بحلب اه.

وعبارة تحف الأنباء تفيد أنه عاد إليها في أواخر سنة ٧٨١.

ذكر ولاية الأمير إينال اليوسفي

قال في روض المناظر : بعد وفاة منكلي بغا استقر عوضه الأمير إينال اليوسفي في نيابة حلب.

سنة ٧٨٣

وفاة الملك المنصور علي وسلطنة أخيه الملك الصالح حاجي

قال في روض المناظر : في هذه السنة توفي السلطان الملك المنصور علي بن شعبان واستقر في السلطنة أخوه الملك الصالح حاجي بن شعبان. قال : واستقر يلبغا الناصري في نيابة حلب عوضا عن إينال.

٣٧٠

دولة الجراكسة

سنة ٧٨٤

خلع الملك الصالح حاجي وابتداء دولة الجراكسة

قال في روض المناظر : في هذه السنة تاسع عشر رمضان خلع السلطان الملك الصالح حاجي بن شعبان واستقر عوضه الأمير سيف الدين برقوق سلطانا ولقب بالملك الظاهر أبو سعيد. وقد بسط ابن إياس الحوادث والأسباب في ذلك.

قال : وكان أصل الملك الظاهر برقوق من مماليك الأتابكي يلبغا العمري الناصري جلبه إلى مصر الخواجا عثمان بن مسافر فاشتراه منه الأتابكي يلبغا وأقام عنده مدة ثم أعتقه ، فلما مات يلبغا وجرى لمماليكه ما جرى هرب برقوق وتوجه نحو الشام فخدم عند منجك نائب الشام ، فلما توفي منجك صار برقوق من جملة مماليك السلطان ، فلما كانت دولة الأشرف شعبان بقي برقوق أمير عشرة ثم بقي أمير أربعين ثم بقي مقدم ألف ثم بقي أمير أخور كبير ثم بقي أتابك العساكر في دولة الملك المنصور علي بن الأشرف شعبان ، ثم بقي سلطانا بمصر بعد خلع الملك الصالح أمير حاج ، وكان برقوق من خلاصة الجراكسة.

سنة ٧٨٦

قال في روض المناظر : في هذه السنة أرسل ألتون بغا الجوباني إلى الناصري يطلب أبياتا تنقش على سنان رمح مثلث ، فأنشد فيه فضلاء دمشق وأنشد فيه الحلبية وأنشدت أنا :

أنا الأسمر الخطي أسمو إلى العلا

تقصّر عني المرهفات وتقصر

٣٧١

حياض المنايا من قناتي قد جرت

أنابيبها تهمي دماء وتهمر

وتجنى ثمار النصر مني جنية

فعودي لعمري ذابل وهو مثمر

سنة ٧٨٧

ذكر القبض على يلبغا الناصري وتولية حلب للأمير سودون المظفري

قال في روض المناظر : في هذه السنة أمسك يلبغا الناصري وحبس بالإسكندرية واستقر عوضه بحلب سودون المظفري ، وأساء السيرة في أهل حلب وتخيل من أرباب المناصب أنهم لا يرونه بعين العظمة لكونه نشأ بحلب وضيعا اه.

قال ابن إياس : في هذه السنة أرسل السلطان الأمير بهادر المنجكي أستادار العالية إلى يلبغا الناصري نائب حلب فقال له : قم كلم السلطان ، فلما خرج من حلب ووصل إلى غزة قبض عليه وقيّده وأرسله إلى السجن بثغر الإسكندرية ، وكان سبب تغير خاطر السلطان على يلبغا الناصري أنه بلغه عنه أنه متواطىء مع الأمير سولي بن ذي الغادر أمير التركمان ، وقد اتفقا على العصيان ، فلما تحقق السلطان ذلك أرسل قبض على يلبغا الناصري وسجنه بثغر الإسكندرية ، ثم إن السلطان عمل الموكب وخلع على الأمير سودون المظفري واستقر به نائب حلب عوضا عن يلبغا الناصري. ثم إن السلطان أرسل الأمير جمال الأمير محمود شاد الدواوين إلى حلب بسبب الحوطة على موجود يلبغا الناصري ، وتوجه الأمير محمود إلى حلب بسبب ذلك.

آثاره بحلب

قال في الدر المنتخب : ومنها جامع يلبغا الناصري نائب حلب ، بناه بدار العدل ملاصقا لتربة السيدة لما توحش خاطره من الملك الظاهر برقوق ، فتوهم أنه ربما يهجم عليه في صلاة الجمعة اه (١). أقول : ولا أثر لهذا الجامع الآن.

__________________

(١) وقع في النسخة المطبوعة من الدر المنتخب بعد قوله في صلاة الجمعة : وذلك في سنة ستة وستمائة ، وهذا سهو من الناسخ ولا أثر لهذه الجملة في نسختي الخطية.

٣٧٢

قال : وفيها خلع السلطان على القاضي محب الدين بن الشحنة الحنفي (صاحب روض المناظر) واستقر به قاضي القضاة الحنفية بحلب عوضا عن قاضي القضاة جمال الدين ابن العديم بحكم وفاته ، وكان ابن العديم هذا من أعيان علماء الحنفية ، وكانت وفاته بحلب ، وعاش من العمر نحو ثمان وسبعين سنة اه.

سنة ٧٨٨

ذكر وصول تمرلنك إلى مدينة قرباغ

قال ابن إياس : في هذه السنة حضر إلى الأبواب الشريفة قاصد القان أحمد بن أويس صاحب بغداد وأخبر أن الخارجي تمرلنك قد وصل إلى مدينة قرباغ ونهبها وسبى أهلها ، فأرسل القان أحمد يعرف السلطان بذلك ليكون على حذر من أمره.

ذكر إعادة يلبغا الناصري لنيابة حلب وعصيان منطاش بملطية

قال في روض المناظر : في هذه السنة عصى منطاش بملطية وكان قد وصل إليه مقدم تمرلنك واتفق معه كما سيأتي قريبا ، فاستضعف السلطان سودون عن إحضاره فعزله وأعاد السلطان يلبغا الناصري إلى نيابة حلب ، وأهين سودون واستقر الناصري بحلب أميرا اه.

وسنذكر في حوادث السنة الآتية نقلا عن ابن خلدون الأسباب التي دعت منطاش إلى العصيان.

سنة ٧٨٩

ذكر استعداد المصريين لمحاربة تمرلنك

قال ابن إياس : في هذه السنة حضر إلى الأبواب الشريفة الأمير طغاي ، وكان قد توجه إلى بلاد الشرق لإخبار تمرلنك ، فلما حضر أخبر السلطان أن جاليش تمرلنك قد وصل إلى الرها وكسر قرا محمد أمير التركمان وأن بوادر عساكر تمرلنك قد وصلت إلى ملطية ، فلما تحقق السلطان ذلك أمر بعقد مجلس بالقصر الكبير وطلب القضاة الأربعة والخليفة وشيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني وأعيان المشايخ المفتين وحضر سائر الأمراء ، فلما تكامل المجلس تكلم السلطان مع الخليفة والقضاة الأربعة في أمر تمرلنك. ثم

٣٧٣

إن السلطان تكلم في أخذ مال الأوقاف من الجوامع والمدارس وغيرها فلم يوافق شيخ الإسلام على ذلك ولا القضاة الأربعة ، فشكا لهم السلطان بأن الخزائن خالية من الأموال والعدو زاحف على البلاد وإن لم تخرج العساكر بسرعة وإلا وصل إلى حلب والشام ، والعسكر لا تسافر بلا نفقة. فوقع في المجلس جدال عظيم ودافعوا السلطان وأغلظوا عليه في القول ، فلما طال الأمر وقع الاتفاق بحضور الخليفة والقضاة الأربعة بأن يؤخذ من مال الأوقاف أجرة الأماكن وخراج الأراضي سنة كاملة وتبقى الأوقاف على حالها ، وانفصل المجلس على ذلك.

ورسم السلطان لمحتسب القاهرة بأن يتولى جبي الأموال من الناس فأخذوا في أسباب ذلك ، ثم إن السلطان عين تجريدة وعين لها جماعة من الأمراء وهم ألطنبغا المعلم أمير سلاح وقردم الحسني رأس نوبة أمير كبير ويونس النوروزي الداودار وسودون باق أحد المقدمين ، وعين من الأمراء والطبلخانات رأس نوبة كبير ثمانية ومن الأمراء العشروات عشرة ، وعين من المماليك السلطانية ثلثمائة مملوك وأنفق عليهم ، وأخذوا في أسباب السفر والتوجه إلى حلب والإقامة بها إلى حضور السلطان.

ثم إن السلطان رسم بأخذ زكاة الأموال من التجار وندب إلى ذلك القاضي الطرابلسي الحنفي. وفي رجب خرجت التجريدة من القاهرة في تجمل زائد واستمرت الأطلاب تنسحب من باكر النهار إلى قريب الظهر وكان يوما مشهودا. فلما خرجت التجريدة اشتد الأمر على الناس وجبيت الأموال منهم غصبا بالعصا ، فجبوا ذلك من الناس في يوم واحد ، ثم فرج الله عنهم وجاءت الأخبار بأن تمرلنك رجع إلى بلاده وأن ولده قد قتل ، فسكن الاضطراب ورسم السلطان بإعادة ما أخذوه من الناس فتزايدت أدعيتهم له بالنصر.

ذكر الوقعة التي أشير إليها

قال في روض المناظر في حوادث هذه السنة : فيها وجه الناصري (نائب حلب) بمن معه من العساكر المصرية والشامية والحلبية إلى جهة منطاش ، فالتجأ منطاش إلى القاضي برهان الدين صاحب سيواس ، ووصل الناصري بمن معه إلى سيواس وحاصرها مدة وقارب أخذها ، فأرسل القاضي برهان الدين يطلب الأمان وسأل الناصري أن يتأخر عن المدينة قليلا ليخرج إليه ويسلمه منطاش ، فاتفق الناصري مع عساكره على أن يظهر الإجابة

٣٧٤

لذلك ورحل من جانب النهر إلى الجانب الآخر فلم ينزل معه من الجانب الآخر من العساكر إلا القليل وطلبوا قدام ، وتمت الحيلة على الناصري ، وركب صاحب سيواس ومنطاش ومن معهما من التتر في نحو عشرين ألفا فثبت الناصري بمن معه وكانوا دون الألف وقاتلهم ونصر الله الناصري وكسر صاحب سيواس ، فهرب هو ومنطاش إلى المدينة وقتل الناصري منهم نحو الألف وأسر مثل ذلك وعاد.

قال ابن خلدون : كان منطاش هذا وتمرتاي الدمرداشي الذي مرّ ذكره أخوين لتمراز الناصري من موالي الملك الناصر محمد بن قلاون وربيا في كفالة أمهما ، وكان اسم تمرتاي محمدا وهو الأكبر واسم منطاش أحمد وهو الأصغر ، واتصل تمرتاي بالسلطان الأشرف وترقى في دولته في الوظائف إلى أن ولي حلب سنة ثمانين وكانت واقعته مع التركمان ، وذلك أنه وفد عليه أمراؤهم فقبض عليهم لما كان من عيثهم في النواحي ، واجتمعوا فسار إليهم وأمده السلطان بعساكر الشام وحماة وانهزموا أمامهم إلى الدربند ، ثم كروا على العساكر فهزموها ونهبوها في المضايق. وتوفي تمرتاي سنة اثنتين وثمانين ، وكان السلطان الظاهر برقوق يرعى لهما هذا الولاء فولى منطاش على ملطية ، ولما قعد على الكرسي واستبد بالسلطان بدت من منطاش علامات الخلاف فهم به ثم راجع ووفد وتنصل للسلطان. وكان (سودون باق) من أمراء الألوف خالصة للسلطان ومن أهل عصبية ، وكان من قبل ذلك في جملة الأمير تمرتاي ، فرعى لمنطاش حق أخيه وشفع له عند السلطان وكفل حسن الطاعة منه وأنه يخرج على التركمان المخالفين ويحسم علل فسادهم ، وانطلق إلى قاعدة عمله بملطية ، ثم لم تزل آثار العصيان بادية عليه وبما داخل أمراء التركمان في ذلك ، ونمي الخبر إلى السلطان فطوى له وشعر هو بذلك فراسل صاحب سيواس قاعدة بلاد الروم وبها قاض مستبد على صبي من أعقاب بني أرشي ملوكها من عهد هولاكو وقد اعصوصب عليه بقية من أحياء التتر الذين كانوا حاميته هناك مع الشحنة فيها كما نذكره ، ولما وصلت رسل منطاش وكتبه إلى هذا القاضي بادر بإجابته وبعث رسلا وفدا من أصحابه في إتمام الحديث معه ، فخرج منطاش إلى لقائهم واستخلف على ملطية دواداره وكان مغفلا ، فخشي مغبة ما يرومه صاحبه من الانتقاض فلاذ بالطاعة وتبرأ من منطاش وأقام دعوة السلطان بالبلد ، وبلغ الخبر إلى منطاش فاضطرب ثم استمر وسار مع وفد القاضي إلى سيواس ، فلما قدم عليه وقد انقطع الحبل في يده أعرض عنه وصار إلى مغالطة السلطان عمّا أتاه من مداخلة منطاش ،

٣٧٥

وقبض عليه وحبسه وسرح السلطان سنة تسع وثمانين عساكره مع يونس الدوادار وقردم رأس نوبة وألطنبغا الرماح أمير سلاح وسودون باق من أمراء الألوف ، وأوعز إلى الناصري فأتى وطلب أن يخرج معهم بعساكرهم وإلى إينال اليوسفي من أمراء الألوف بدمشق وساروا جميعا.

وكان يومئذ ملك التتار بما وراء النهر وخراسان تمر من نسب جغطاي قد زحف إلى العراقين وأذربيجان وملك توريز عنوة واستباحها وهو يحاول ملك بغداد ، فسارت هذه العساكر تورّي بغزوه ودفاعه ، حتى إذا بلغوا حلب أتى إليهم الخبر بأن تمر رجع بعساكره لخارج خرج عليه بقاصية ما وراء النهر فرجعت عساكر السلطان إلى جهة سيواس واقتحموا تخومها على حين غفلة من أهلها ، فبادر القاضي إلى إطلاق منطاش لوقته وقد كان أيام حبسه يوسوس إليه بالرجوع عن موالاة السلطان وممالأته ، ولم يزل يفتل له في الذورة والغارب حتى جنح إلى قوله فبعث لأحياء التتر الذين كانوا ببلاد الروم فيئة ابن أريثا بن أول فسار إليهم واستجاشهم على عسكر السلطان وحذرهم استئصال شأفتهم باستئصال ملك ابن أريثا وبلده ، ووصلت العساكر خلال ذلك إلى سيواس فحاصروها أياما وضيقوا عليها وكادت أن تلقى باليد ، ووصل منطاش إثر ذلك بأحياء التتر فقاتلهم العساكر ودافعوهم ونالوا منهم ، وجلا الناصري في هذه الوقائع ، وأدرك العساكر الملل والضجر من طول المقام وبطء الظفر وانقطاع الميرة بتوغلهم في البلاد وبعد الشقة ، فتداعوا للرجوع ودعوا الأمراء إليه فجنح لذلك بعضهم فانكفوا على تعبيتهم ، وسار بعض التتر في اتباعهم فكروا عليهم واستلحموهم وخلصوا إلى بلاد الشام على أحسن حالات الظهور ونية العود ليحسموا علل العدو ويمحوا أثر الفتنة اه.

الزلازل في أنطاكية وحلب

قال الجلال السيوطي في كتابه الصلصلة في الزلزلة : وفي ذي القعدة في سنة تسع وثمانين وسبعمائة زلزلت أنطاكية زلزلة عظيمة ومات تحت الردم خلق كثير.

وقال بعد أسطر : وفي هذه السنة في ربيع الأول زلزلت حلب ست مرات أو أكثر زلزلة شديدة.

٣٧٦

ذكر عصيان يلبغا الناصري نائب حلب وقتله للأمير

سودون النائب السابق واستيلائه على الشام ثم على مصر

وخلعه للسلطان الملك الظاهر برقوق

وإقامته في الملك للملك الصالح حاجي

قال ابن إياس : في هذه السنة جاءت الأخبار بأن يلبغا الناصري نائب حلب خامر وخرج عن الطاعة وقتل الأمير سودون المظفري الذي كان نائب حلب قبله وقتل أربعة أنفس من مماليك سودون وأمسك حاجب الحجاب بحلب وجماعة من أمرائها ، وسبب ذلك (١) أنه كان قد وقع بينه وبين سودون المظفري تشاجر فأرسل سودون يشتكي من يلبغا الناصري إلى السلطان بما وقع منه في حقه ، فلما بلغ السلطان ذلك أرسل الأمير تلكتمر المحمدي الدوادار الثاني إلى حلب ليصلح بين يلبغا الناصري وبين سودون المظفري ، وقيل إن السلطان أرسل في الدس مراسيم على يد الأمير تلكتمر إلى سودون المظفري بأن يقبض على يلبغا الناصري نائب حلب ، فلما وصل الأمير تلكتمر إلى حلب بلغ يلبغا الناصري أمر المراسيم التي جاء بها الأمير تلكتمر فخرج إلى تلقيه ، وكان بين الأمير يلبغا الناصري وبين الأمير تلكتمر صحبة مؤكدة فما أمكنه أن يخفي عنه أمر المراسيم ، فلما وقف عليها يلبغا الناصري أخذها وأخفاها ثم توجه إلى دار السعادة (دار العدل كما في روض المناظر) وطلب قضاة حلب والأمير سودون المظفري ليقرأ عليهم المراسيم التي جاءت بالأمر بالصلح بين يلبغا الناصري وسودون ، فلما أرسل خلف سودون لم يحضر إلى دار السعادة ، فأرسل خلفه أربع مرات والقضاة جالسون والأمير تلكتمر فما حضر سودون إلا بعد جهد كبير ، فطلع سودون وهو لابس زردية من تحت ثيابه وكان يلبغا الناصري هيّأ جماعة من مماليكه في دار السعادة وهم لابسون آلة الحرب ، فلما دخل سودون من باب دار السعادة تقدم إليه مملوك

__________________

(١) ذكر ابن خلدون في أواخر الجزء الخامس من تاريخه أسبابا أخر لخروج يلبغا الناصري عن الطاعة فراجعها إن شئت.

٣٧٧

من مماليك يلبغا وجس كتف سودون فرآه لابسها من تحت ثيابه فقال له : يا أمير سودون الذي يريد الصلح يدخل إلى دار السعادة وهو لابس آلة الحرب؟ فلكمه سودون فصاح على ذلك الكمين فخرجوا إلى سودون وقتلوه في دار السعادة وقتلوا معه أربعة مماليك من مماليكه.

إظهار يلبغا الناصري العصيان وتولية إينال اليوسفي على حلب

ثم إن يلبغا الناصري أظهر العصيان والتف عليه جماعة كثيرة من مماليك الأشرف شعبان ، وكان من جملة من التف على يلبغا الناصري تمربغا الأفضلي المدعو منطاش مملوك الظاهر برقوق ، وكان له مدة وهو منفي في المدن الشامية ، فالتف على يلبغا الناصري ، ثم إن الأمير تلكتمر لما جرى ما جرى بحلب رجع وأخبر السلطان بما وقع لسودون المظفري مع يلبغا ، فلما تحقق السلطان عصيان يلبغا الناصري أرسل خلعة إلى الأمير إينال اليوسفي بأن يستقر نائب حلب عوضا عن يلبغا الناصري ، وكان إينال أتابكي العساكر بدمشق ويلبغا الناصري في نفسه من الملك الظاهر برقوق عداوة قديمة كامنة في قلبه كما قيل :

الجرح يبرا ولكن كلما نظرت

عين الجريح إليه جدد الوجعا

قال ابن إياس ما خلاصته : ثم انضم إلى يلبغا الناصري نائب طرابلس ثم نائب حماة سودون العثماني ، ثم حضر قاصد من عند الأمير خليل بن قراجا بن ذي الغادر فأخبر أن الأمير سنقر نائب سيس قد خامر وخرج عن الطاعة ووافق يلبغا الناصري على العصيان ورحل من سيس وأتى إلى حلب ، فلما تحقق السلطان أن النواب قد خامروا عليه أنفق على العسكر فخرجوا من القاهرة في عظمة زائدة ، فلما خرجوا منها ووصلوا إلى دمشق جاءت الأخبار من هناك مع السعاة بأن العساكر لما وصلت إلى دمشق وجدوا يلبغا الناصري قد ملك الشام حتى قلعتها ، فلما وصل العسكر إليه أوقعوا معه بظاهر دمشق واقعة عظيمة حتى جرى الدم بينهم وقتل من الفريقين ما لا يحصى عددهم ، وآخر الأمر انكسر عسكر السلطان الذي أرسله وانتصر عليهم يلبغا الناصري ، ثم توجه يلبغا إلى مصر وضايقها ، وآخر الأمر طلب السلطان الأمان من يلبغا ثم اختفى ، ودخل يلبغا إلى مصر ، ثم وقع الاتفاق على عود الملك الصالح أمير حاج ابن الأشرف شعبان الذي خلعه برقوق من السلطنة ولقب بالملك المنصور. وقد بسط ابن إياس الحوادث في ذلك إلى أن قال :

٣٧٨

ذكر ولاية الأمير كمشبغا الحموي لنيابة حلب

وخلع على المقر السيفي كمشبغا الحموي واستقر به نائب حلب.

سنة ٧٩٢

إطلاق الملك الظاهر برقوق والحرب بينه وبين منطاش

بالقرب من دمشق

ذكر ابن إياس حوادث وأمورا يطول شرحها أدت إلى إطلاق الملك الظاهر برقوق من حبس الكرك. قال في روض المناظر : ولما أطلقوا السلطان برقوق من الكرك سار إلى دمشق بفرقة يسيرة وخرج إليه حنتمر بالعساكر الشامية فكسرهم ونزل بقبة يلبغا وحاصر دمشق ، وتوجه إليه نائب حلب كمشبغا بعساكر حلب ناصرا له واجتمع إليه من كان تفرق عنه ، فخرج إليه منطاش من مصر بالسلطان والعساكر المصرية والخليفة والقضاة وقرب من الشام والتقى الجمعان بشقحب فانتصر بعض كل من الفريقين وانكسر البعض ولم يعلم أحد حال أحد ، فولى كمشبغا هاربا نحو حلب وولى منطاش نحو دمشق ، ولم يشعر الملك الظاهر برقوق بنفسه إلا وهو مخيم على الملك المنصور حاجي فنزل وأمسكه وجلس على الكرسي وجعل كل من يحضر من الفئتين يجده جالسا فلا يسعه إلا النزول وتقبيل الأرض. وفي ثاني يوم خرج منطاش والتقى الجمعان وتناوشا قليلا ورجع كل أحد منهما. وتوجه السلطان الظاهر من ليلته إلى مصر فوصل إليها ووجد مماليكه قد خرجوا من الحبس وأمسكوا خلفاء منطاش ومنطاش مقيم بدمشق فدخل السلطان مصر مطمئنا فرحا وأطلق الأمراء الذين حبسهم منطاش.

قال ابن إياس : لما استقر الملك الظاهر برقوق خلع على أمرائه ونوابه في البلاد ثم رسم بالإفراج عن المقر السيفي يلبغا الناصري الذي كان نائب حلب وخامر على السلطان وجرى منه ما جرى وكان سببا لزوال ملك الظاهر برقوق كما تقدم ، فلما عاد الملك الظاهر برقوق في هذه المرة زال ما كان بينه وبين يلبغا الناصري من العداوة ورسم بالإفراج عنه.

إرسال منطاش تمنتمر إلى حلب نائبا ومحاصرة نائبها كمشبغا

قال في روض المناظر : وأما منطاش فإنه أرسل وهو بدمشق تمنتمر الموساي إلى

٣٧٩

حلب نائبا وانضم إليه جماعة وحاصروا كمشبغا في قلعتها ، وجهز السلطان برقوق عسكرا من مصر ومقدمهم الأمير يلبغا الناصري وأرسل معه الجوباني نائبا بدمشق وقرا دمرداش نائبا بطرابلس ، وبلغ ذلك منطاش فهرب من دمشق ، وبلغ ذلك تمنتمر فهرب من حلب ، وخرج الناصري والجوباني ومن معهما من العساكر من دمشق في إثر منطاش وهو منضم إلى نعير وعنقا [أميران للعرب] وحصلت وقعة عظيمة على حمص قتل فيها الجوباني وجماعة من الأمراء وعاد الناصري إلى دمشق ، فجاءه تقليد بنيابتها ، وبلغ ذلك كمشبغا نائب حلب فأخذ في عمارة سورها فعمرت أحسن عمارة ولم تكن من عهد قازان عمرت ، ووصل منطاش ونعير وعنقا بعساكر عظيمة ونازلوا حلب وحاصروها في شهر رمضان وانقلبوا خاسئين ، وتوجه منطاش إلى شولي ابن دلغادر وقصدا عين تاب وكان بها الأمير ناصر الدين محمد بن عز الدين شهري بن شهري من أشار بوضع هذا التاريخ المشار إليه في أول الكتاب وحوصر فأجاد في رفعهم عنها وظهرت فروسيته وشكر على ذلك ، وطلبه السلطان بعد ذلك وأنعم عليه وأكرمه.

زيادة بيان في محاصرة تمنتمر الأشرفي لحلب ومحاصرة منطاش لعينتاب

قال ابن إياس : وفي رجب جاءت الأخبار من حلب بأن منطاش أرسل شخصا يسمى تمان تمر الأشرفي إلى مدينة حلب ، وكان نائب حلب كمشبغا الحموي قد ثقل أمره على أهل حلب ، فما صدقوا بهذه الحركة ، فحاصروا نائب حلب أشد المحاصرة وتعصبوا إلى منطاش فنقبوا القلعة من ثلاثة مواضع ، فصار كمشبغا نائب حلب يقاتلهم من داخل النقب على البرج ، واستمروا على ذلك نحو ثلاثة شهور فانتصر كمشبغا نائب حلب على تمان تمر الأشرفي الذي ولاه منطاش على حلب ، فانكسر تمان تمر وولى هاربا ، ثم إن كمشبغا نائب حلب أخذ في أسباب عمارة ما تهدم من المدينة وزاد.

ثم قال : وبعد مدة جاءت الأخبار بأن منطاش توجه إلى عينتاب فالتف عليه جماعة كثيرة من التركمان فحاصر مدينة عينتاب أشد ما يكون من المحاصرة فملكها وهرب النائب الذي كان بها ، فلما دخل الليل جمع نائب عينتاب جماعة كثيرة من التركمان وكبس منطاش فقتل من عسكره نحو مائتي إنسان وهرب منطاش نحو الفرات.

٣٨٠