إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٢

ابن الدقاق الدمشقي ناظر الوقف بحلب ، وفي أيام نظره فتح الباب المسدود الذي بالجامع شرقي المحراب الكبير لأنه سمع أن بالمكان المذكور رأس زكريا النبي صلى الله على نبينا وعليه وسلم ، فارتاب في ذلك فأقدم على فتح الباب المذكور بعد أن نهي عن ذلك ، فوجد بابا عليه تأزير رخام أبيض ووجد في ذلك تابوت رخام أبيض فوقه رخامة بيضاء مربعة ، فرفعت الرخامة عن التابوت فإذا فيها بعض جمجمة فهرب الحاضرون هيبة لها ، ثم رد التابوت وعليه غطاؤه إلى موضعه وسدّ عليه الباب ووضعت خزانة المصحف العزيز على الباب ، وما أنجح الناظر المذكور بعد هذه الحركة وابتلي بالصرع إلى أن عض لسانه فقطعه ومات ، نسأل الله أن يلهمنا حسن الأدب اه.

أقول : المستفيض بين الناس والمشهور لديهم أن الموجود هنا هو رأس سيدنا زكريا عليه‌السلام ، ويظهر أن هذه الاستفاضة مبنية على ما ذكره ابن الوردي هنا وعلى ما ذكره المرادي في ترجمة علي بن أسد الله مفتي حلب المتوفى سنة ١١٣٠ والمتولي على الجامع من أنه في أيام توليته ظهر من أحد الحيطان لما قشروا عنه الكلس رائحة تفوق المسلك والعنبر ، وإذا فيه صندوق من المرمر مكتوب عليه : هذا عضو من أعضاء نبي الله زكريا عليه الصلاة والسلام ، فاتخذوا له هناك في ناحية القبلة في حجرة قبرا في مكانه الآن وذلك سنة ١١٢٠.

وقد قدمنا في حوادث ٤٣٥ ظهور رأس سيدنا يحيى عليه‌السلام في بعلبك ونقله إلى قلعة حلب ، وقدمنا في حوادث سنة ٦٥٩ نقل الرأس الشريف من القلعة إلى الجامع للحريق الذي حصل هناك ووضعه شرقي المحراب ، وهذا ما ذكره ابن الشحنة في الدر المنتخب نقلا عن ابن العظيمي ونقلا عن الكمال بن العديم عن أبي بكر الهروي السائح ، ونقله ياقوت في معجمه في الكلام على حلب وابن شداد في كتاب الأعلاق الخطيرة ، ولم ينقل خلاف من أحد منهم في هذا ، وأقرّهم ابن الشحنة على ذلك وهو من أهل القرن التاسع وأبو اليمن البتروتي الذي قدمنا أن الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة هو له وهو من أهل القرن الحادي عشر ، فهذه النقول أجدر بالقبول وأدعى أن نقول : إن الموجود هنا هو قطعة من رأس يحيى عليه‌السلام وأن ابن الوردي والمرادي قد سها قلمهما وحاد عن منهج الصواب.

٣٢١

ذكر توسيع طرق الأسواق بحلب

قال ابن الوردي : في هذه السنة في شوال رسم ملك الأمراء بحلب ألطنبغا بتوسيع الطرق التي في الأسواق اقتداء بنائب الشام تنكز فيما فعله في أسواق دمشق ، ولعمري قد توقعت عزله عن حلب لما فعل ذلك فقلت حينئذ :

رأى حلبا بلدا داثرا

فزاد لإصلاحها حرصه

وقاد الجيوش لفتح البلاد

ودق لقهر العدا فحصه

وما بعد هذا سوى عزله

إذا تم أمر بدا نقصه

سنة ٧٣٩

ذكر وفاة بدر الدين بن زهرة نقيب الأشراف بحلب

وعزل علاء الدين ألطنبغا عن ولايتها وتعيين سيف الدين طرغاي

قال ابن الوردي : في هذه السنة في العشر الأوسط من ربيع الآخر توفي السيد الشريف بدر الدين محمد بن زهرة الحسيني نقيب الأشراف ووكيل بيت المال بحلب ، ومن الاتفاق أنه مات يوم ورود الخبر بعزل ملك الأمراء علاء الدين ألطنبغا عن نيابة حلب وكان بينهما شحناء في الباطن ، قلت :

قد كان كل منهما

يرجو شفا أضغانه

فصار كل واحد

مشتغلا بشانه

كان السيد رحمه‌الله حسن الشكل وافر النعمة معظما عند الناس شهما ذكيا ، وجده الشريف أبو إبراهيم هو ممدوح أبي العلاء ، كتب إلى أبي العلاء القصيدة التي أولها :

غير مستحسن وصال الغواني

بعد ستين حجة وثمان

ومنها :

كل علم مفرق في البرايا

جمعته معرة النعمان

فأجابه أبو العلاء بالقصيدة التي أولها :

عللاني فإن بيض الأماني

فنيت والظلام ليس بفاني

ومنها :

٣٢٢

يا أبا إبراهيم قصّر عنك الشع

ر لما وصفت بالقرآن

وفي العشر الأول من جمادى الأولى قدم الأمير سيف الدين طرغاي إلى حلب نائبا بها ، وسرّ الناس بقدومه وأظهروا الزينة وصحبته القاضي شهاب الدين أحمد بن القطب كاتب السر مكان تاج الدين بن الزين خضر المتوجّه إلى مصر صحبة الأمير علاء الدين ألطنبغا.

وفي شعبان قدم الأمير صلاح الدين يوسف الداودار شادا بالمملكة الحلبية.

وفي تاسع شوال وصل إلى حلب قاضي القضاة زين الدين عمر بن شرف الدين محمد بن البلفيائي المصري الشافعي وباشر الحكم من يومه وخرج النائب والأكابر لتلقيه وسرّ به الناس لما سمعوا من ديانته بعد شغور المنصب نحو عشرة أشهر من حاكم شافعي.

قال في كتاب السلوك : وفيها توجه الأمير تنكز نائب الشام من دمشق يريد بلاد سيس لكشف البلاد التي أنعم بها عليه ، فمرّ على حماة ونادى بها أن لا يقف أحد لملك الأمراء بقصة ، ومن كانت له حاجة فعليه بصاحب حماة ، وخلع على صاحب حماة ومضى إلى حلب ودخل بلاد سيس فأهدى إليه تكفور هدية سنية مع أخيه فقبلها وخلع عليه ، وعمر تلك الضياع بالرجال والأبقار والغلال وعاد.

وفيها كانت وقعة بين ابن دلغادر نائب أبلستين وبين نائب الروم قتل فيها خمسمائة نفس ونهب من أموال الروم شيئا كثيرا رد منه بعد ما اصطلحا نحو عشرين ألف رأس ما بين غنم وجمال وخيل اه.

سنة ٧٤٠

قال ابن الوردي : في هذه السنة في صفر عزل قاضي القضاة بحلب زين الدين عمر البلفيائي عنها لوحشة جرت بينه وبين طرغاي نائب حلب ، فكاتب فيه فعزل ، وهو فقيه كبير مقتصد في المأكل والملبس ، قلت :

كان والله عفيفا نزها

وله عرض عريض ما اتهم

وهو لا يدري مداراة الورى

ومداراة الورى أمر مهم

وفي ربيع الأول عزل صلاح الدين يوسف بن الأسعد الدوادار عن الشد على المال والوقف بحلب ونقل إلى طرابلس ، فضاق طرغاي من جيرته فعمل عليه ، وكان قد عزم على تحرير الأوقاف بحلب فما قدر ، قلت :

٣٢٣

لقد قالت لنا حلب مقالا

وقد عزم المشد على الرواح

إذا عم الفساد جميع وقفي

فكيف أكون قابلة الصلاح

وفي جمادى الآخرة ولي القاضي برهان الدين إبراهيم بن خليل بن إبراهيم الرسعني قضاء الشافعية بحلب ، بذل لطرغاي نائبها مالا فكاتب في ولايته وهو أول من بذل في زماننا على القضاء بحلب ، وكان القضاة قبله يخطبون ويعطون من بيت المال حتى يلوا ، ولذلك لم يصادف راحة في ولايته. ويعجبني قول القائل :

فلان لا تحزن إذا

نكبت واعرف ما السبب

فما تولى حاكم

بفضة إلا ذهب

وفيها توفي طقتمر الخازن نائب قلعة حلب ، كانت تصدر منه في الدين ألفاظ منكرة. واشترى قبل وفاته دارا عند مدرسة الشاذبخت وعمل فيها تصاوير وكثر الطعن عليه بسببها ، قلت :

ما حل فيها زحل

إلا لنحس المشتري

فانعدمت صورته

من شؤم تلك الصور

سنة ٧٤١

ذكر عزل طرغاي عن نيابة السلطنة بحلب وتولية طشتمر

قال ابن الوردي : في هذه السنة عزل طرغاي عن حلب ، وكان على طمعه يصلي ويتلو كثيرا ، ونقل طشتمر حمص أخضر من نيابة صفد الى نيابة حلب.

وفيها فتح الأمير علاء الدين أيد غدي الزراق ومعه بعض عسكر حلب قلعة خندروس من الروم كانت عاصية وبها أرمن وتتر يقطعون الطرقات.

وفيها توفي بأياس نائبها الأمير علاء الدين مغلطاي العزي ، تقدمت له نكاية في الأرمن ، ونقل إلى تربته بحلب. قال في كتاب السلوك بعد ذكر خبر وفاته : وكان مشكور السيرة.

قال في السلوك في حوادث هذه السنة : وقدم البريد بأن الغلاء شديد ببلاد المشرق وأنه ورد من أهله عالم عظيم إلى شط الفرات وبلاد حلب ، فكتب إلى نائب حلب

٣٢٤

بتمكينهم من العبور إلى حيث شاؤوا من البلاد وأوصاه السلطان بهم فملؤوا بلاد حلب وغيرها وقدم منهم إلى القاهرة نحو المائتي نفر.

ذكر وفاة الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي وسلطنة ولده أبي بكر

قال ابن الوردي : وفيها توفي السلطان الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي رحمه‌الله وله ستون سنة بعد أن خطب له ببغداد والعراق وديار بكر والموصل والروم وضرب الدينار والدرهم هناك باسمه كما يضرب له بالشام ومصر ، وحج مرات ، وحصل لقلوب الناس بوفاته ألم عظيم ، فإنه أبطل مكوسا ، وكان يستحي أن يخيب قاصديه ، وأيامه أيام أمن وسكينة ، وبنى جوامع وغيرها لولا تسليط لؤلؤ والنشو على الناس في آخر وقته.

وعهد لولده السلطان الملك المنصور أبي بكر فجلس على الكرسي قبل موت والده وضربت له البشائر في البلاد.

سنة ٧٤٢

ذكر خلع الملك المنصور أبي بكر وتولية ابن الملك الأشرف كجك

قال ابن الوردي : في هذه السنة في صفر خلع السلطان الملك المنصور أبو بكر ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون ، احتج عليه قوصون الناصري (من كبار الأمراء بمصر) ولي نعمة أبيه بحجج ونسب إليه أمورا ، وأخرجه إلى قوص إلى الدار التي أخرج الملك الناصر والده الخليفة المستكفي إليها جزاء وفاقا ، ثم أمر قوصون والي قوص فقتله بها وأقام في الملك أخاه الملك الأشرف كجك وهو ابن ثماني سنين ، فقلت في ذلك :

سلطاننا اليوم طفل والأكابر في

خلف وبينهم الشيطان قد نزعا

وكيف يطمع من مسته مظلمة

أن يبلغ السول والسلطان ما بلغا

قتل الأمير ألطنبغا الصالحي بعد القبض عليه وترجمته

قال ابن الوردي ما خلاصته : في جمادى الآخرة جهز قوصون مع الأمير قطلبغا الفخري الناصري عسكرا لحصار السلطان أحمد ابن الملك الناصر بالكرك. وسار ألطنبغا

٣٢٥

نائب دمشق والحاج أرقطاي نائب طرابلس بإشارة قوصون إلى قتال طشتمر بحلب لكون طشتمر أنكر على قوصون ما اعتمده في حق أخيه المنصور أبي بكر ، ونهب ألطنبغا بحلب مال طشتمر ، وهرب طشتمر إلى الروم واجتمع بصاحب الروم أرتنا. (إلى أن قال) : ثم عاد ألطنبغا إلى مصر وهو قوي النفس بقوصون ، فاتفق الأمراء هناك وقبضوا على قوصون ونهبت دياره وأرسلوه إلى الإسكندرية وأهلك بها ، وقبضوا على ألطنبغا وحبسوه بمصر ثم أعدم هو والمرقبي (أحد الأمراء).

وقال في روض المناظر : في هذه السنة توفي الأمير ألطنبغا الصالحي مقبوضا عليه بالإسكندرية ، وكان ملكا جليلا خيرا دينا له عدة غزوات عديدة في بلاد سيس ، ولي نيابة دمشق وولي حلب مرتين نحو عشرين سنة وعمر بظاهرها جامعه المعروف وعدة قصاطل وسبلانات.

قال الطبيب بيشوف الجرماني بعد أن ذكر ما هو مكتوب على باب الجامع : وبعد موت السيفي أرغون الناصري سنة ٧٣١ رجع إلى حلب نائبا مرة ثانية الأمير علاء الدين ألطنبغا ، واستقام نائبا في حلب إلى شهر ربيع الأول من سنة ٧٣٧ الذي مات بها ودفن بتربته جانب جامعه خارج باب المقام.

وهذا سهو منه فإن الذي مات في هذه السنة ودفن بتربته جانب جامعه هو ولده خضر كما قدمناه في حوادث سنة ٧٣٧ ، وأما ألطنبغا فتوفي مقتولا بمصر هو والمرقبي في هذه السنة أعني سنة ٧٤٢ كما تقدم آنفا.

ذكر وفاة الأمير بدر الدين محمد وآثاره بحلب

قال ابن الوردي : وفي هذه السنة توفي الأمير بدر الدين محمد ابن الحاج أبي بكر أحد الأمراء بحلب ، كان من رجال الدنيا ، وله مارستان بطرابلس ، وارتفع به الدهر وانخفض ، ودفن بتربته في جامع أنشأه بحلب بباب أنطاكية اه.

أقول : موقع الجامع خارج باب أنطاكية بالقرب من الجسر ، كان بينه وبين النهر دار وقد خربت منذ سنين قلائل وصار مكانها عرصة استولى عليها المجلس البلدي ، والجامع لا زال معروفا ومشهورا عند أهل محلة الجسر بجامع أبناء أبي بكر. وفي الجهة الغربية منه صفّة على طول صحن الجامع فيها ستة قبور يغلب على الظن أن القبر المتوسط هو قبر الواقف ، والجهة الشمالية من الصحن قدر أربعة أذرع تزرع خضرا ، وقد ظهر لي أنها

٣٢٦

كانت رواقا على طول الجامع. وقبليته صغيرة لها كوتان من جهة القبلة سدتا الآن لتعلية أرض الجادة ، كما أنه بسبب ذلك سد نصف باب الجامع الذي من جهة القبلة ، ويعلو هذا الباب منارة صغيرة مربعة الشكل يبلغ ارتفاعها أربعة أذرع. وليس في القبلية سوى شباكين من جهة الشمال ، ولو فتح لها شباكان آخران من جهتي الشرق والغرب لزال ما تجده هناك من العفونة. وعن يسار القبلية عرصة يزرع فيها بعض الخضر أيضا. وهناك أيضا بعض قبور. وللجامع من هذه الجهة أعني الجهة الغربية باب آخر وتقام فيه الآن الصلوات الجهرية لا غير.

وله من الأوقاف خان وخمس دكاكين في سوق البهرمية ودكان في محلة الجلّوم وتقرب وارداتها من خمسين ليرة عثمانية ذهبا.

وفي شهر رمضان وصل القاضي علاء الدين علي بن عثمان الزرعي المعروف بالقرع إلى حلب قاضي القضاة ، ولاه الطاغية الفخري بالبذل ، فاجتمع الناس وحملوا المصحف وتضرروا من ولاية مثله ، فرفعت يده عن الحكم فسافر أياما ثم عاد بكتب فما التفتوا إليها ، فسافر إلى مصر وحلب خالية عن قاض شافعي.

ذكر ولاية أيدغمش الناصري حلب

قال ابن الوردي : في ذي الحجة وصل أيدغمش الناصري إلى حلب نائبا بها في حشمة عظيمة وأحسن وعدل وخلع على كثير من الناس ، وأقام بحلب إلى صفر ، ثم نقل إلى دمشق وتأسف الحلبيون لانتقاله عنهم. قلت :

يعرف من تقبله أرضنا

من لزم الأوسط من فعله

لا تقبل المسرف في جوره

كلا ولا المسرف في عدله

سنة ٧٤٣

ذكر ولاية طقزتمر نيابة السلطنة بحلب

قال ابن الوردي : ونقل طقزتمر من حماة إلى حلب مكان أيدغمش ودخلها في عشرين صفر.

٣٢٧

ولاية علاء الدين ألطنبغا المارداني

قال ابن الوردي : وفيها في رجب وصل الأمير علاء الدين ألطنبغا المارداني نائبا إلى حلب.

ذكر التنديد بالقاضي ابن القرع ثم عزله

قال ابن الوردي : في هذه السنة وصل علاء الدين القرع إلى حلب قاضيا للشافعية ، وأول درس ألقاه بالمدرسة قال فيه : كتاب الطهارة باب الميات ، فأبدل الهاء بالتاء ، فقلت أنا للحاضرين : لو كان باب الميات لما وصل القرع إليه ولكنه باب الألوف. ثم قال : قال الله تعالى : وجعلها كلمة باقية في عنقه ، مكان في عقبه ، فقلت أنا : لا والله ولكنها في عنق الذي ولاه ، فاشتهرت عني هاتان التنديدتان في الآفاق. (ثم قال) : وفي رجب اعتقل القرع بقلعة حلب معزولا ، ثم فك عنه الترسيم وسافر إلى جهة مصر.

قال المقريزي في السلوك : وفيها استقر علاء الدين علي بن عثمان بن أحمد الزرعي في قضاء القضاة الشافعية بحلب عوضا عن البرهان إبراهيم الرسغني ، ثم صرف ببدر الدين إبراهيم بن الصدر أحمد بن عيسى بن الخشاب المصري.

ذكر عزل أمير العرب سليمان بن مهنا

قال ابن الوردي : وفي ربيع الآخر عزل الأمير سليمان بن مهنا بن عيسى عن إمارة العرب ووليها مكانه الأمير عيسى بن فضل بن عيسى ، وذلك بعد القبض على فياض بن مهنا بمصر ، وكان سليمان قد ظلم وصادر أهل سرمين وربط بعض النساء في الزناجير وهجم عبيده على المخدرات ، فأغاثهم الله في وسط الشدة ، ثم أعيد بعد مدة إلى الإمارة.

وفيها توفي بحلب طنبغا حجي ، كان جهزه الفخري إليها نائبا عنه في أيام خروجه بدمشق ، وهو الذي جبى أموالا من أهل حلب وحملها إلى الفخري وأخذ لنفسه بعضها وباء بإثم ذلك.

٣٢٨

سنة ٧٤٤

ذكر وفاة علاء الدين ألطنبغا المارداني نائب حلب

قال ابن الوردي : في صفر توفي الأمير علاء الدين ألطنبغا المارداني نائب حلب ودفن خارج باب المقام ، وله بمصر جامع عظيم ، وكان شابا حسنا عاقلا ذا سكينة. وقد تكلم المقريزي في الخطط على هذا الجامع وذكر ما صرف عليه ، ثم بعد ذلك ذكر ترجمته إلى أن قال في آخرها : وكان شابا طويلا رفيقا حلو الصورة لطيفا كريما صائب الحدس عاقلا اه.

ذكر تمزيق ابن الوردي كتاب فصوص الحكم

قال ابن الوردي : في هذه السنة مزقنا كتاب فصوص الحكم بالمدرسة العصرونية بحلب عقيب الدرس وغسلناه وهو من تصانيف ابن عربي تنبيها على تحريم قنيته ومطالعته.

وقلت فيه :

هذي فصوص لم تكن

بنفيسة في نفسها

أنا قد قرأت نقوشها

فصوابها في عكسها

ذكر نيابة الأمير يلبغا اليحياوي

قال ابن الوردي : وفي ربيع الأول وصل يلبغا اليحياوي إلى حلب نائبا ، وهو شاب حسن عفيف عن مال الرعية ذو سطوة وحسن أخلاق في الخلوة.

وفيه وصل عسكران من حماة وطرابلس للدخول إلى بلاد سيس لتمرد صاحبها كنداصطيل الفرنجي ولمنعه الحمل. وفي جمادى الأولى عاد العسكر وما ظفروا بطائل ، وكانوا قد أشرفوا على أخذ آذنة وفيها خلق عظيم وأموال عظيمة وجفال من الأرمن ، فتبرطل أقسنقر مقدم عسكر حلب من الأرمن وثبط الجيش عن فتحها واحتج بأن السلطان ما رسم بأخذها. وتوفي أقسنقر المذكور بعد مدة يسيرة بحلب مذموما وأبى الله أن يتوفاه ببلاد سيس مغازيا اه.

وقال المقريزي في السلوك : في هذه السنة قدم البريد من حلب بأنه خرجت عساكر حلب وحماة وطرابلس صحبة أقسنقر وصلاح الدين الدوادار إلى جهة سيس

٣٢٩

لمنعهم الطاعة ، فلقيهم التركمان وأغاروا معهم وأثروا فيهم آثارا قبيحة حتى أذعنوا لحمل الخراج اه.

أقول : المقريزي من الواقفين على الحقايق أكثر من ابن الوردي لقربه من الأمراء المصريين وامتزاجه معهم.

ذكر الزلازل ببلاد حلب وخراب منبج

قال ابن الوردي : وفي منتصف شعبان وقعت الزلزلة العظيمة وخربت بحلب وبلادها أماكن ولا سيما منبج ، فإنها أقلت ساكنها وأزالت محاسنها ، وكذلك قلعة الراوندان ، وعملت أنا في ذلك رسالة.

أقول : قد وصف فيها تلك الزلازل وما أثرته من الأضرار وما خربته من الأماكن وقد أثبتها في ديوانه المطبوع وهي :

نعوذ بالله من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، ونستعينه في طلب الإقامة بها وحسن الرحلة عنها ، ثم نستعيذ بالله ونستعين ، من سم هذه السنة فهي أم أربعة وأربعين ، ذات زلزال بث في بلاد الشام رجله وخيله. وجزم برفع الأرض لما جر ذيله ، لا عاد من زلزال ، زاغ به العقل وزال ، قنت الناس لأجله في الصلوات وأسكنوا من خوفه الصحاري والفلوات :

إذا الدهر خان امرأ

بهون أذاه يهن

فكم زخرف قد سبا

إذا زلزلت لم يكن

جاوز ستين يوما ، ووعظ بقوم قوما. فإن قيل كيف صبر الجدار على إمساك شهرين متتابعين وما اجتث من أصله ، قلت هي كفارة عليه فإنه في نهار رمضان وقع على أهله :

نعوذ بالرحمن من مثلها

زلزلة أسهرت الأعينا

قد واثبت بالهجم من لا عصى

وعاقبت بالرجم من لا زنى

حكم عزيز قاهر قادر

في كل حال لم يزل محسنا

عاينا لها أهوالا تقشعر منها الحجارة وتتفرق ، وإن منها لما يشّقق ، وإن منها لما يهبط من خشية الله ويغرق. فكم دخل الفاعل والصانع دارا صخرها يابس وذهبها غض ، فوجدا

٣٣٠

فيها جدارا يريد أن ينقض ، وكم سماء قاعة سقط فلن يبرح الأرض ، وبناء قصر في الطول إلى يوم العرض. وكم ليلة سهرناها سهر الليالي الهجر ، ودعونا الله تعالى أنها سلام هي حتى مطلع الفجر. فنسأل الله أجرا بلا بلاء ونعوذ بالله من بلاء بلا أجر. وما حال من مني بالعكس والطرد ، وامتد في كانون عن الكنّ فقصره البرد.

إنا نبذنا بالعرا

ء لخوف زلزال طما

لا ما عليه منه في الص

حرا سوى مطر السما

والحكيم يقول هذا بخار ريح احتبس ، والمنجم يقول هو من حركة كوكب اقتبس وأما الفقيه فينشد فيه :

إني بفعل الله أول مؤمن

وبما قضاه النجم أول كافر

كبت الحكيم فماله من قوة

وذوو النجوم فمالهم من ناصر ١

فالعلماء أحدّ وأحذق ، والشريعة الشريفة أقصد وأصدق. ولو رأيت حلب ، وقد أشرفت على سوء المنقلب ، ووضح لجامعها فرؤي في أماكن ، وتعلمت منارته باب الإمالة وتحريك الساكن ، فلولا بركة النداء فيها لرخمت ، ولكن الله سلم جمعها فسلمت ، انتفع بأسها بشرف التذكير ، وسلم جمعها الصحيح من التكسير. غير أن الدموع جرت على عقبة بني المنذر [محلة العقبة] كماء السماء ، وبرزت المضمرات من الخدور لحركات البناء ، وتعانقت حيطانها تعانق وداع ، وفكت الرقاب واختلعت الأضلاع ، وما أدراك ما العقبة ، فك رقبة ، وما يدعى بعاجز ، من ضمن قول الراجز :

زلزلة قد وقعت في العقبه

ترضى من اللحم بعظم الرقبه

فخرج النائب بحلب لهذه النائبة ، ماشيا متضرعا من نتيجة هذه الكلية السالبة ، يأسى ويتأسف ، وعلى رأسه المصحف ، وهو :

أقسمت لو شاهدته

يختال تحت المصحف

لرأيت صورة يوسف

يمشي بسورة يوسف

__________________

١ ـ في الأصل وفي الديوان : فماله ، ولعل الصواب ما أثبتناه.

٣٣١

ولو رأيت القلاع والحصون ، وقد أزالت الزلازل منها كل مصون :

صارت لقلع القلاع زلزلة

ما خشيت راميا ولا صائد

إذا درى الحصن من رماه بها

خرّ له في أساسه ساجد

إن هربوا أدركوا وإن وقفوا

خشوا تلاف الطريف والتالد

فالأمر لله رب مجتهد

ما خاب إلا لأنه جاهد

رمت الناس بعلة السدر والدوار ، وجاورت دورا مرفوعة فخفضها على الجوار. ولو رأيت منبج منبت كل سريّ ، ومهب النسيم السحريّ ، وهي من شدة الطمس ، كأن لم تغن بالأمس ، قد كسف الردم بها كل بدر وشمس :

وليس وفاتهم بالردم نقصا

لقدرهم ففي الشهداء صاروا

وما في سطوة الخلاق عيب

ولا في ذلة المخلوق عار

فوا أسفاه على منبج من مدينة جليلة ، أصبحت دمنة وكانت الألسن عن وصفها كليلة ، غشيها قتر وظلمة ، وركبتها ريح سوداء مدلهمة :

هلكوا هم وديارهم في لحظة

فكأنهم كانوا على ميعاد

يبسوا وأوجههم تضيء من الثرى

مثل السيوف بدت من الأغماد

وقد حكي أن منارتها ، صارت تقذف نحو السماء حجارتها :

سكرت بخمر زلازل رقصت لها

رقص القلوص براكب مستعجل

سقيا لسقياها فدمعي قاطر

لمصاب منزلها وأهل المنزل

ولما سمعوا مهول ذلك الصوت ، خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، فاحمتهم هيبة هيبت ولا أقطار القاطر ، ولا منعتهم قناطر الملوك إذ صرعتهم ملوك القناطر :

كم حائط فوق الكواعب طائح

ما ذا أقول له ولكن حائط

فلا جرم عظم وهني لها ولا وهن عظمي ، وختمت ذلك ببيتين من نظمي :

منبج أهلها حكوا دود قز

عندهم تجعل البيوت القبورا

رب نعّمهم فقد ألفوا من

شجر التوت جنة وحريرا

قال : وفي شهر رمضان صارت الزلازل تعاود حلب وغيرها سنة وبعض أخرى اه.

٣٣٢

زيادة بيان لحوادث الزلازل في هذه السنة

قال المقريزي في كتاب السلوك في حوادث هذه السنة : وقدم البريد بمحضر ثابت عند قضاة حلب يتضمن أنه لما كان يوم السبت سادس شعبان إذا برعد وبرق وأعقبه زلزلة عظيمة سمع حسها من نصف ميل عن حلب ، وهو حس مزعج يرجف القلوب ، فهدم من القلعة اثنان وثلاثون برجا سوى البيوت ، وهدم من قلعة البيرة أكثر من نصفها ، وكذلك من قلعة عين تاب وقلعة الراوندان وبهسنا وبلاد منبج وقلعة المسلمين [قلعة الروم] فخرج أهل حلب إلى ظاهرها وضربوا الخيم وغلقت سائر أسواقها ، وفي كل ساعة يسمع دوي جديد ، ثم إنهم تجمعوا عن آخرهم وكشفوا رؤوسهم ومعهم أطفالهم والمصاحف مرفوعة وهم يضجون بالدعاء والابتهال إلى الله تعالى برفع هذا المقت ، وأقاموا على ذلك اياما إلى خامس عشر منه حتى رفع الله عنهم ذلك بعد ما هلك بتلك البلاد تحت الردم خلائق لا يحصيها إلا خالقها ، فكتب بتجديد ما هدم من القلاع من الأموال الديوانية.

قال في روض المناظر بعد أن ذكر حصول الزلازل بمصر وببلاد الشام ، وأنشد :

زلزلت الأرض بنا زلزالها

وقال كل من عليها ما لها

فقلت إذ فروا إلى صحرائها

قد أخرجت أرضكم أثقالها

وفي شهر رمضان وصل إلى حلب قاضي القضاة نور الدين محمد بن الصائغ على قضاء الشافعية ، وهو عفيف حسن السيرة عابد.

وفي شوال حاصر يلبغا النائب بحلب زين الدين قراجا بن دلغادر التركمان بجبل الدلدل وهو عسر إلى جانب جيحان ، فاعتصم منه بالجبل وقتل في العسكر وأسر وجرح وما نالوا منه طائلا ، فكبر قدره بذلك واشتهر اسمه وعظم على الناس شره ، وكانت هذه حركة رديئة من يلبغا.

وقال المقريزي في كتاب السلوك في بيان هذه الحادثة : وفيها جرد الأمير يلبغا اليحياوي نائب حلب عسكرا لقتال ابن دلغادر ، فلقيهم وكسرهم كسرة قبيحة ، فركب يلبغا بعساكر حلب وسار إليه ففر منه على جبل وترك أثقاله فنهبها العسكر وقتلوا كثيرا من تركمانه وظفروا ببعض حرمه ، وتبعوه إلى الجبل وصعدوه فقاتلهم ابن دلغادر وجرح أكثرهم ، وأصيب فرس الأمير يلبغا بسهم قتله وتقنطر عنه وأخذ صنجقه ومن أسروه من حريمه وما

٣٣٣

نهبوه له ، وتمت الكسرة على العسكر فكتب السلطان بالإنكار على نائب حلب وتعنيفه على ما فعله.

وفيها استقر موسى بن التاج إسحق في نظر حلب واستقر زين الدين محمد بن محمد ابن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلد بن جابر المعروف بابن الصايغ الأنصاري الدمشقي في قضاء القضاة الشافعية بحلب عوضا عن بدر الدين بن الخشاب ، وعاد ابن الخشاب إلى القاهرة اه.

سنة ٧٤٥

ذكر ابتداء دولة الدلغادرية في البستان ومرعش

قال ابن الوردي : في هذه السنة وصل إلى ابن دلغادر أمان من السلطان (الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر) وأفرج عن حريمه وكن بحلب واستقر في الأبلستين اه.

قال القرماني في تاريخه في الكلام على هذه الدولة : هم طائفة من التركمان توطنوا في نواحي البستان ومرعش ، ثم كثروا واستفحل أمرهم حتى ملكوا مرعش والبستان وملطية وعينتاب وعزاز وخربوت وبهسنى ودرنده وقير شهري وقيسارية وحصن المنصور وقلعة الروم وبلاد سيس وقارص وضمانتي وأودية عمق وكوندزلي وغير ذلك ، وهم يزعمون أن نسبهم ينتهي إلى كسرى أنوشروان العادل ملك فارس ، ويعرفون من بين التركمان بالشهامة والشجاعة ، وأول من ظهر منهم (قراجا) ابن ذي الغادر في نواحي البستان تأمر بين قومه اه.

وفاة الأمير صلاح الدين يوسف واقف المدرسة الصلاحية بحلب

قال ابن الوردي في حوادث سنة ٧٣٧ : في هذه السنة وقف الأمير الفاضل صلاح الدين يوسف بن الأسعد الدوادار داره النفيسة بحلب المعروفة أولا بدار ابن العديم مدرسة على المذاهب الأربعة ، وشرط أن يكون القاضي الشافعي والقاضي الحنفي بحلب مدرسيها ، وذلك عند عوده من بلد سيس صحبة العسكر منصرفا إلى منزله بطرابلس ، ولقد كانت الدار المذكورة باكية لعدم بني العديم فصارت راضية بالحديث عن القديم ، نزع الله عنها لباس البأس والحزن ، وعوّضها بحلة يوسف عن شقة الكفن ، فكمل رخامها وذهبها وجعل

٣٣٤

ثمال اليتامى عصمة للأرامل مكتبها ، وكملها بالفروع الموصولة والأصول المفرعة ، وجملّها بالمرابع المذهبة والمذاهب الأربعة ، وبالجملة فقد كتبها صلاح الدنيا في ديوان صلاح الدين إلى يوم العرض ، وتلا لسان حسنها اليوسفي (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) ، ولما وقف الأمير صلاح الدين المذكور على هذه الترجمة تهلل وجهه وقال ما معناه : يا ليتك زدتنا من هذا اه.

وتقدم شيء من أخبار صلاح الدين هذا في حوادث سنة ٧٤٠.

وقال ابن الوردي في حوادث هذه السنة أعني سنة ٧٤٥ : فيها توفي بطرابلس الأمير الفاضل صلاح الدين يوسف بن الأسعد الدوادار أحد الأمراء بطرابلس وهو واقف المدرسة الصلاحية بحلب كما تقدم ، وكان من أكمل الأمراء ذكيا فطنا معظما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حسن الخط ، وله نظم ، كان كاتبا ثم صار دواتدار قبجق بحماة ، ثم شاد الدواوين بحلب ، ثم حاجبا بها ، ثم دواتدار الملك الناصر ثم نائبا بالإسكندرية ثم أميرا بحلب ، وشاد المال والوقف ، ثم أميرا بطرابلس رحمه‌الله تعالى.

أقول : موقع هذه المدرسة شمالي الخان المعروف بخان خير بك وأمام الخان المعروف بخان الكتان ، وهي مدرسة صغيرة ، وقد كانت أشرفت على الخراب فعمرها السيد بهاء الدين ابن السيد تقي الدين القدسي في حدود سنة ١٢٦٠ ، ومن ذلك الحين صار الناس يسمونها البهائية ، إلا أنها في الأوقاف لم تزل باقية على اسمها القديم. ولما عمرت سعى السيد بهاء الدين المذكور في تعيين الشيخ صالح المرتيني مدرسا لها ، وقد كان أتى من إدلب وتوطن حلب فبقيت في يده إلى أن توفي ، ثم آلت إلى حفيده الشيخ عمر المرتيني وهو مدرسها إلى الآن. ووقف عليها السيد بهاء الدين نحو سبعين كتابا خطيا هي موضوعة في غرفة التدريس العليا إلا أنها بحالة لا يستفاد منها ، ووقفت زوجة السيد بهاء الدين [بنبه] على المدرسة دارا في محلة الفرافرة ، ولها سوى هذه الدار أراض عشرية تبلغ وارداتها ثلاثين ليرة عثمانية ذهبا ، وهي الآن في حوزة دائرة الأوقاف.

استرجاع ما بيع من أملاك بيت المال بحماة والمعرّة

قال ابن الوردي : وفيها استرجع السلطان الملك الصالح ما باعه الملك المؤيد وابنه الأفضل بحماة والمعرة وبلادهما من أملاك بيت المال وهو بأموال عظيمة ، وكان غالب الملك

٣٣٥

قد طرح على الناس غصبا ، وقد اشتريت به تقادم إلى الملك الناصر فقال بعض المعريين في ذلك :

طرحوا علينا الملك طرح مصادر

ثم استردوه بلا أثمان

وإذا يد السلطان طالت واعتدت

فيد الإله على يد السلطان

وكأنما كاشف هذا القائل فإن مدة السلطان لم تطل بعد ذلك.

سنة ٧٤٦

ذكر وفاة الملك الصالح إسماعيل وسلطنة أخيه شعبان

قال ابن الوردي : وفي ربيع الآخر توفي السلطان الملك الصالح إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاوون وجلس مكانه أخوه السلطان الملك الكامل شعبان.

الحرب بين الأمير طرفوش وبين ابن دلغادر

قال المقريزي في كتاب السلوك في حوادث هذه السنة : وقدم الخبر من حلب بوقعة كانت بين ابن دلغادر وبين أمير يقال له طرفوش أقامه الأمير يلبغا اليحياوي ضدا لابن دلغادر وأغراه به ووعده بإمرته على التركمان ، فإلى أن يسير لمحاربته طلب يلبغا من حلب فسار عنها ، واقتتل طرفوش وابن دلغادر فانتصر ابن دلغادر بعد عدة وقايع قتل فيها من الفريقين خلائق ، فلما قدم الأمير أرقطاي إلى حلب تلطف بابن دلغادر حتى أعاده إلى الطاعة ، وما زال يجتهد حتى أصلح بينه وبين طرفوش ، ثم التفت إلى جهة الأمير فياض بن مهنا وقد كثر عيثه وفساده وأخذ قفول التجار وبذل جهده حتى قدم عليه حلب فتلقاه وأنزله وبالغ في إكرامه وأخذ عليه العهود والمواثيق بالإقامة على الطاعة ، ثم جهزه إلى بلاده وكتب بذلك إلى السلطان فسر به سرورا زائدا ، فإنه كان في قلق من أخبار فياض وعلى عزم أن يجرد العسكر إليه ويوري بقصد سيس ، وأخذ فياض في تجهيز القود إلى السلطان وسيره فقدم وفيه سبعون فرسا قامت عليه بألف ألف درهم وخمسون هجينا وعشر مهريات وعبي وغير ذلك ، ثم قدم عقب قوده فأكرمه السلطان وأحسن إليه وأنزله اه.

٣٣٦

ذكر نقل يلبغا الناصري من نيابة حلب وتولية سيف الدين أرقطاي

قال ابن الوردي : وفي ربيع الآخر نقل يلبغا الناصري من نيابة حلب إلى نيابة دمشق مكان طقزتمر ، وسافر طقزتمر إلى مصر بعد المبالغة في امتناعه من النقلة من دمشق فما أجيب إلى ذلك ، وتوفي طقزتمر بمصر بعد مدة يسيرة وكان عنده ديانة.

وفيه وصل الأمير سيف الدين أرقطاي إلى حلب نائبا وأبطل الخمور والفجور بعد اشتهارها ورفع عن القرى الطرح وكثيرا من المظالم ورخص السعر.

وفيها في شهر رمضان وصل القاضي بهاء الدين حسين بن جمال الدين سليمان بن ريان إلى حلب ناظرا على الجيش على عادته عوضا عن القاضي بدر الدين محمد بن الشهاب محمود الحلبي ، ثم ما مضى شهر حتى أعيد بدر الدين عوضا عن بهاء الدين ، وهكذا صارت المناصب كلها بحلب قصيرة المدة كثيرة الكلفة ، قلت :

ساكني مصر أين ذاك التأني

والتأبي وما لكم عنه عذر

يخسر الشخص ماله ويقاسي

تعب الدهر والولاية شهر

وفيها كتب على باب قلعة حلب وغيرها من القلاع نقرا في الحجر ما مضمونه مسامحة الجند بما كان يؤخذ منهم لبيت المال بعد وفاة الجندي والأمير ، وذلك أحد عشر يوما وبعض يوم في كل سنة ، وهذا التفاوت بين السنة الشمسية والقمرية ، وهذه مسامحة بمال عظيم.

قال المقريزي في كتاب السلوك : وفي شوال قدم من حلب ابن قرناص فبذل في نظر حلب نحو ألفي دينار حتى رسم له به عوضا عن ابن الموصلي ، فبعث ابن الموصلي ابنه بهدية سنية فيها جوار حسان وزوج بسط حرير فقام (غرلو) معه وأوصله بالسلطان فقبل هديته وبسط البسط بالدهيشة وأقر ابن الموصلي على حاله فكانت مدة ابن قرناص عشرين يوما بألفي دينار.

وفيه قدم الخبر بأن قاصد نائب حلب توجه إلى سيس بطلب الحمل ، وقد كان تكفور قد كتب في الأيام الصالحية بأن بلاده خربت فسومح بنصف الخراج ، فلما وصل إليه قاصد نائب حلب جهز الحمل وحضر كبراء دولة تكفور ليحلفوه أنه ما بقي في مملكته أسير من المسلمين كما جرت العادة في كل سنة بتحليفه على ذلك ، وكان في

٣٣٧

أيديهم عدة من المسلمين أسرى ، فبيت مع أصحابه قتلهم في الليلة التي تكون حلفه في صبيحتها فقتل كل أحد أسيره في أول الليل ، فما هو إلا أن مضى ثلثا الليل خرجت في الثلث الأخير من تلك الليلة ريح سوداء معها رعد وبرق أرعب القلوب ، وكان من جملة الأسرى عجوز من أهل حلب في أسرى المنجنيقي ذبحها عند المنجنيق وهي تقول : اللهم خذ الحق منهم ، وأقام يشرب الخمر بعد ذبحها مع أهله حتى غلبهم السكر وغابوا عن حسهم فسقطت الشمعة وأحرقت ما حولها حتى هبّت الريح فتطاير شرر ما احترق من البيت حتى اشتعل بما فيه ، وتعلقت النيران بما حوله حتى بلغت موضع تكفور ، ففر بنفسه ، واستمرت النار مدة اثني عشر يوما فاحترق أكثر القلعة وتلف المنجنيق كله بالنار ، وكان هو حصن سيس ولم يعمل مثله ، واحترق المنجنيقي وأولاده الستة وزوجته واثنا عشر رجلا من أقاربه ، وخربت سيس وهدم سورها ومساكنها وهلك كثير من أهلها وعجز تكفور عن بنائها.

ذكر تزايد أمر ابن دلغادر

وفيها في أواخرها ملكت التركمان قلعة كابان وربضها بالحيلة وهي من أمنع قلاع سيس مما يلي الروم وقتلوا رجالها وسبوا النساء والأطفال ، فبادر صاحب سيس الجديد لاستنقاذها فصادفه ابن دلغادر فأوقع بالأرمن وقتل منهم خلقا وانهزم الباقون.

وبعد فتحها قصد النائب بحلب أن يستنيب فيها من جهة السلطان فعتا ابن دلغادر عن ذلك ، فجهزوا عسكرا لهدمها ، ثم أخذتها الأرمن منه بشؤم مخالفته لولي الأمر ، وذلك في رجب سنة سبع وأربعين وسبعمائة.

سنة ٧٤٧

ذكر عزل الحاج أرقطاي نائب حلب

وتولية حلب لسيف الدين طقتمر الأحمدي

قال ابن الوردي : في المحرم طلب الحاج أرقطاي نائب حلب إلى مصر ، وفي ربيع الأول وصل إلى حلب الأمير سيف الدين طقتمر الأحمدي نائبا نقل إليها من حماة. وفي جمادى الأولى سافر القاضي ناصر الدين محمد بن الصاحب شرف الدين يعقوب وولي

٣٣٨

كتابة السر بدمشق ، وتولى كتابة السر بحلب مكانه القاضي جمال الدين إبراهيم بن الشهاب محمود الحلبي. وفي رجب سافر طقتمر الأحمدي نائب حلب إلى الديار المصرية وسببه وحشة بينه وبين نائب الشام.

قال المقريزي في السلوك : وفي ذي القعدة قدم الأمير طقتمر الصلاحي من حلب وهو أحد خواص الكامل ، ثم أخرج لنيابة حمص فمات بها.

ذكر تولية حلب لسيف الدين بيدمر البدري

قال ابن الوردي : وفي شعبان وصل إلى حلب الأمير سيف الدين بيدمر البدري نقل إليها من طرابلس.

واقعة غريبة

قال ابن الوردي : وفي ذي الحجة صدرت بحلب واقعة غريبة وهي أن بنتا بكرا من أولاد أولاد عمرو التيزيني كرهت زوجها ابن المقصوص فلقنت كلمة الكفر لينفسخ نكاحها قبل الدخول ، فقالتها وهي لا تعلم معناها ، فأحضرها البدري بدار العدل بحلب وأمر فقطعت أذناها وشعرها وعلق ذلك في عنقها وشق أنفها وطيف بها على دابة بحلب وبتيزين ، وهي من أجمل البنات وأحياهن ، فشق ذلك على الناس وعمل النساء عليها عزاء في كل ناحية بحلب حتى نساء اليهود ، وأنكرت القلوب قبح ذلك وما أفلح البدري بعدها. قلت :

وضج الناس من بدر منير

يطوف مشرعا بين الرجال

ذكرت ولا سواء بها السبايا

وقد طافوا بهن على الجمال

وفيه ورد البريد بتولية السيد علاء الدين علي بن زهرة الحسيني نقابة الأشراف بحلب مكان ابن عمه الأمير شمس الدين حسن بن السيد بدر الدين محمد بن زهرة ، وأعطي هذا إمارة طبلخانات بحلب.

زيادة بيان لحادثة المرأة وتعيين أرغون شاه لولاية حلب

قال المقريزي في كتاب السلوك في حوادث سنة ٧٤٨ : واتفق بمدينة حلب أن الأمير بيدمر البدري لما قدمها ترفع على الأمراء وعزل الولاة والمباشرين بعد ما أخذ تقادمهم

٣٣٩

واستبدل بهم غيرهم بمال قاموا له به ، واشتدت وطأة حاشيته على الناس بظلمهم وسوء معاملتهم. ثم بلغه أن رجلا من الأعيان مات عن ابنة وترك مالا جزيلا وأوصى أن تتزوج ابنته بابن عمها ، فرغب بعض الناس في زواجها وبذل لأوليائها مالا كثيرا حتى زوجوها منه بغير رضاها ، فلم ترض به وكرهته كراهة زائدة حتى قالت لأهلها : إن لم تطلقوني منه وإلا كفرت ، فأحضروها إلى بعض القضاة وجددوا إسلامها ، فطلب الأمير بيدمر ابن عمها وضربه بالمقارع ضربا مبرحا وضرب المرأة أيضا ضربا شنيعا وقطع أنفها وأذنيها وشهرها بحلب ، فتألم الناس لها ألما كثيرا ، ووصل خبرها إلى أمراء مصر فقام صمغار وقرابغا وأصحابهما قياما كثيرا في الإنكار على بيدمر. وصادف مع ذلك وصول كتاب نائب الروم بأن يتوجه إليه ويقيم عنده فظفر بقاصده واحد من الكتاب وقبض على ابن طشتمر وسجنه بالقلعة فأجيب بالشكر والثناء ، وكتب إليه أصحابه بأن يبعث تقدمة للسلطان حتى يتهيأ نقلته إلى غير صفد ، فبعث سبعة أفراس وعقد جوهر بمائة ألف درهم وغير ذلك من الأصناف ، فأعجبت السلطان وشكره ، فأخذ صمغار وقرابغا وأصحابهما في ذكر بيدمر نائب حلب وكراهة الناس له وما فعله بالمرأة وابن عمها وتحسين ولاية أرغون شاه عوضه ، فإنه سار في أهل صفد سيرة جميلة ولم يقبل لأحد تقدمة وجلس للحكم بين الناس وأنصف في حكمه حتى أحبه أهل صفد ، فرسم بقدوم أرغون شاه ليستقر في نيابة حلب وحضور الأمير بيدمر من حلب ، فقدم أرغون شاه صحبة طنيرق وأكرمه السلطان وخلع عليه تاسع عشر صفر بنيابة حلب عوضا عن بيدمر البدري ، ورسم أن لا يكون لنائب الشام عليه حكم وأن يكون مكاتبا للسلطان ، وكتب لنائب الشام بذلك.

وتوجه الأمير أرغون شاه إلى حلب في يوم الخميس ثالث شهر ربيع الأول فقدم دمشق على البريد في سادس عشرة ونزل قصر معين الدين حتى قدم طلبه من صفد في أبهة زائدة وخيوله بسروج سنية مرصعة وكنابيش ذهب وقلائد مرصعة ، وكان بيدمر قد رأى في منامه المرأة التي فعل بها ما فعل وهي تقول له : اخرج عنا ، وكررت ذلك ثلاث مرات وقالت له : قد شكوتك إلى الله تعالى فعزلك ، فانتبه مرعوبا وبعث إليها لتحالله وبذل لها مالا فلم تقبله وامتنعت من محاللته ، فقدم خبر عزله بعد ثلاثة أيام من رؤياه ، وقدم إلى القاهرة صحبة طنيرق وقد أوصل الأمير أرغون شاه إلى حلب وسر به أهل حلب سرورا كثيرا اه.

٣٤٠