إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٢

العجمي خطيب الجامع الأعظم وهو مذكور مع أقاربه في فصله ، وكان ألطنبغا لا يقابله بذلك ، وصنع هذا الجامع ليصلي فيه ولا يصلي خلفه ، وفي أول جمعة صليت فيه قرىء على أبي القاسم عمر بن حبيب المسلسل بالأولية تبركا بالحديث النبوي ، وفيه مناسبة أخرى ظاهرة وفيه يقول ابن حبيب (١) :

في حلب دار القرى جامع

أنشأه ألطنبغا الصالحي

رحب الذرى يبدو لمن أمه

لطف معاني ٢ حسنه الواضح

مرتفع الرايات يروي الظما

من مائه السارب والسارح

يهدي المصلي في ظلام الدجى

من نوره اللامع واللايح

من حوله الروض يروي الورى

من زهره بالفايق الفائح

لله بانيه الذي خصّه

بالروح للغادي وللرائح

المكتوب على بابه الكبير الغربي :

١ ـ البسملة ، إنما يعمر مساجد الله

٢ ـ من آمن بالله واليوم الآخر. أنشأ هذا الجامع

٣ ـ المبارك الفقير إلى الله تعالى المقر الأشرف العالي العلائي

٤ ـ ألطنبغا الناصري تغمده الله برحمته وعفا عنه وذلك في أيام

٥ ـ دولة مولانا السلطان المالك الملك الناصر محمد عز نصره

٦ ـ في شهور سنة ثمانية عشر وسبعمائة من الهجرة النبوية والحمد لله.

وعلى يسار الداخل إليه باب يخرج منه إلى ساحة واسعة كانت قديما مخزنا للملح الذي يؤتى به من الجبول. والقبلية ذات أربع سوار في وسطها مبنية من الحجارة ولا أثر للعواميد هناك غير أن ثلاثة منها شكل بنائها يفيد أن تحت القواعد عواميد ، وأخبرت أنه كان حصل هناك حريق فأصاب العواميد شيء من التوهّن فلف كل عمود بسارية من الحجر حفظا له.

__________________

(١) الأبيات من الدر المنتخب ومن هذه الكراسة.

٢ ـ في الأصل : لطف المعاني.

٣٠١

والقبة التي فوق المحراب ذات هندسة بديعة حفظتها لنا الأيام مع ارتفاع بنائها وضخامة أحجارها. وقد كان بعض جدار القبلية الشمالي معمولا من الخشب فتوهن وصار يتطرق منه الهواء إلى القبلية فيتأذى به المصلون أيام الشتاء ، فأزيل ذلك الخشب وبني عوضه من الحجر وذلك في سنة ١٣٤٠. وحصل في الجامع في هذه السنة شيء من الترميم من طرف دائرة الأوقاف ومن بعض أهل الخير فعاد للجامع بعض رونقه.

وكان أحدث أمام الباب الصغير الشرقي ميضاة بحيث منعت الدخول إلى الجامع من هذا الباب وقد أزيلت سنة ١٣٤٠ ، ومن هذا الباب تخرج إلى الخندق القديم الذي كان محيطا بسور البلد ، وقد طم هذا الخندق وصار الآن جادة واسعة ووراء هذه الجادة المحلة المعروفة ببرية المسلخ.

وجدار القبلية الشرقي هو داخل في بناء السور ولذا كتب عليه من خارجه :

١ ـ البسملة ، أمر بعمارة هذا السور في أيام مولانا السلطان الملك الناصر أبي السعادات بن محمد بن الملك الأشرف قايتباي

٢ ـ عز نصره المقر الكريم جان بلاط كافل حلب المحروسة وبتولي السيفي مصرباي نائب القلعة الحلبية بتاريخ جماد الآخر سنة ثلاث وتسعمائة.

والباقي له الآن من الأوقاف ثلث دار في محلة المزوّق ، وإصطبل ونصف دار في محلة البستان ، ومزرعتان في قرية السفيرة الواحدة اسمها الناعورة والأخرى مردغين ، ويبلغ مجموع وارداته نحو ثلاثة آلاف قروش رائجة.

ذكر إغارة عسكر حلب على آمد

قال أبو الفداء : في هذه السنة في ربيع الآخر كانت الإغارة على آمد ، وسبب ذلك أن نائب السلطنة بحلب جهز عدة كثيرة من عسكر حلب وغيرهم من التراكمين والعربان والطماعة وقدم عليهم شخصا تركمانيا من أمراء حلب يقال له ابن جاجا ، وكان عدة المجتمعين المذكورين ما يزيد على عشرة آلاف فارس ، فساروا إلى آمد وبغتوها ودخلوها ونهبوا أهلها المسلمين والنصارى. ثم بعد ذلك أمر بإطلاق من كان مسلما فأطلقوا بعد أن ذهبت أموالهم. وبالغ المجتمعون المذكورون في النهب حتى نهبوا الجامع وأخذوا بسطه وقناديله وفعلوا بالمسلمين كل قبيح وعادوا سالمين وقد امتلأت أيديهم من الكسب الحرام الذي لا يحل ولا يجوز شرعا ، وخلت آمد من أهلها وصارت كأنها لم تغن بالأمس اه.

٣٠٢

سنة ٧٢٠

ذكر الإغارة على سيس وبلادها

قال أبو الفداء : في هذه السنة تقدمت مراسيم السلطان بإغارة العساكر على بلاد سيس ورسم لمن عينه من العساكر الإسلامية الشامية ، فسار من دمشق تقدير ألفي فارس ، وسار الأمير شهاب الدين قرطاي بعساكر الساحل وجردت من حماة أمراء الطبلخانات الذين بها ، وسارت العساكر المذكورة من حماة في العشر الأول من ربيع الأول ووصلوا إلى حلب. ثم خرجت عساكر حلب صحبة المقر العلائي ألطنبغا نائب السلطنة بحلب ، وسارت العساكر المذكورة عن آخرهم ونزلوا بعمق حارم وأقاموا به مدة ، ثم رحلوا ودخلوا إلى بلاد سيس في منتصف ربيع الآخر من هذه السنة الموافق للرابع والعشرين من أيار وساروا حتى وصلوا إلى نهر جيحان ، وكان زائدا فاقتحموه ودخلوا فيه فغرق من العساكر جماعة كثيرة ، وكان غالب من غرق التراكمين الذين من عسكر الساحل ، وبعد أن قطعوا جيحان المذكور ساروا ونازلوا قلعة سيس وزحفت العساكر عليها حتى بلغوا السور وغنموا منها وأتلفوا البلاد والزرع وساقوا المواشي وكانت شيئا كثيرا ، وأقاموا ينهبون ويخربون ، ثم عادوا وقطعوا جيحان وكان قد انحط فلم ينضر أحد به ، ووصلوا إلى بغراس في التاسع والعشرين من ربيع الآخر ثم ساروا إلى حلب وأقاموا بها مدة يسيرة حتى وصل إليهم الدستور فسار كل عسكر إلى بلده اه.

سنة ٧٢٤

قال ابن إياس : في هذه السنة برزت المراسيم الشريفة إلى نائب حلب بأن يروك البلاد الحلبية كما فعل في البلاد الشامية ، فخرج أمير من الأمراء العشروات ومعه جماعة من المباشرين بسبب ذلك فتوجهوا من القاهرة إلى حلب وراكوا البلاد الحلبية حكم البلاد الشامية ، فجميع البلاد المصرية والشامية والحلبية الآن في الروك الناصري اه.

٣٠٣

سنة ٧٢٧

ذكر عزل علاء الدين ألطنبغا

وتولية حلب لأرغون الدوادار

قال ابن كثير : في العشر من المحرم دخل مصر أرغون نائب مصر (قادما من الحجاز كما في روض المناظر) فمسك في حادي عشره وحبس أياما ثم أطلق ، وبعثه السلطان نائبا إلى حلب فاجتاز بدمشق في الثاني والعشرين من المحرم فبات بها ليلة ثم سافر إلى حلب ، وقد كان قبله بيوم قد سافر من دمشق الجاي الدوادار إلى مصر وفي صحبته نائب حلب علاء الدين معزولا عنها إلى حجوبة الحجاب بمصر. (ألطنبغا تولى حلب مرة ثانية سنة ٧٣١).

مرور الرحّالة أبي عبد الله محمد بن بطوطة بهذه البلاد في هذه السنة وذكره لنائب السلطنة بها ولقضاتها الأربعة

في هذه السنة مرّ الرحّالة ابن بطوطة بمدينة حلب ، قال في رحلته :

وبحلب ملك الأمراء أرغون الدوادار أكبر أمراء الملك الناصر وهو من الفقهاء موصوف بالعدل لكنه بخيل ، والقضاة بحلب أربعة للمذاهب الأربعة ، فمنهم القاضي كمال الدين بن الزملكاني شافعي المذهب عالي الهمة كبير القدر كريم النفس حسن الأخلاق متفنن بالعلوم ، وكان الملك الناصر قد بعث إليه ليوليه قضاة القضاة بحضرة ملكه فلم يقض له ذلك وتوفي ببلبيس وهو متوجّه إليها ، ومن قضاة حلب قاضي قضاة الحنفية الإمام المدرس ناصر الدين بن العديم ، حسن الصورة والسيرة أصيل مدينة حلب.

تراه إذا ما جئته متهللا

كأنك تعطيه الذي أنت سائله

ومنهم قاضي قضاة المالكية لا أذكره ، كان من الموثقين بمصر وأخذ الخطة عن غير استحقاق ، ومنهم قاضي قضاة الحنابلة لا أذكر اسمه ، وهو من أهل صالحية دمشق ، ونقيب الأشراف بحلب بدر الدين بن الزهرة. ومن فقهائها شرف الدين بن العجمي وأقاربه كبراء مدينة حلب.

٣٠٤

ذكر وصفه لمدينة حلب

قال : وهي من أعز البلاد التي لا نظير لها في حسن الوضع وإتقان الترتيب واتساع الأسواق وانتظام بعضها ببعض ، وأسواقها مسقفة بالخشب فأهلها دائما في ظل ممدود ، وقيسارياتها لا تماثل حسنا وكبرا ، وهي تحيط بمسجدها ، وكل سماط منها محاذ لباب من أبواب المسجد ، ومسجدها الجامع من أجمل المساجد ، في صحنه بركة ماء ويطيف به بلاط عظيم الاتساع ، ومنبرها بديع العمل مرصّع بالعاج والآبنوس ، وبقرب جامعها مدرسة مناسبة له ، وبها مارستان. وأما خارج المدينة فهو بسيط أفيح عريض به المزارع العظيمة وشجرات الأعناب به منتظمة والبساتين على شاطىء نهرها وهو النهر الذي يمر بحماة ويسمى العاصي (هذا سهو منه) والنفس تجد في خارج مدينة حلب انشراحا وسرورا ونشاطا لا يكون في سواها ، وهي من المدن التي تصلح للخلافة. قال ابن جزي (جامع رحلة ابن بطوطة) أطنبت الشعراء في وصف محاسن حلب وذكر داخلها وخارجها ، وفيها يقول أبو عبادة البحتري (١) :

يا برق أسفر عن قويق فطرّتي

حلب فأعلى القصر من بطياس

عن منبت الورد المعصفر صبغه

في كل ضاحية ومجنى الآس

أرض إذا استوحشت ثم أتيتها

حشدت عليّ فأكثرت إيناسي

وقال فيها الشاعر المجيد أبو بكر الصنوبري :

سقى حلب المزن مغنى حلب

فكم وصلت طربا بالطرب

وكم مستطاب من العيش لذ

بها إذ بها العيش لم يستطب

إذا نشر الزهر أعلامه

بها ومطارفه والعذب

غدا وحواشيه من فضة

تروق وأوساطه من ذهب

وقال فيها أبو العلاء المعري (٢) :

حلب للولي جنة عدن

وهي للغادرين نار سعير

والعظيم العظيم يكبر في عينيه

(منها) (٣) قدر الصغير الصغير

__________________

(١) من قصيدة مطلعها : ناهيك من حرق ابيت اقاسي. وهي في ديوانه المطبوع في الجوائب صحيفة ٢٤٨.

(٢) من قصيدة في ديوانه سقط الزند مطلعها : ابق في نعمة بقاء الدهور

(٣) إضافة ليست في الأصل.

٣٠٥

فقويق في أنفس القوم بحر

وحصاة منه مكان ثبير

وقال فيها أبو الفتيان بن حيّوس :

يا صاحبيّ إذا أعياكما سقمي

فلقّياني نسيم الريح من حلب

من البلاد التي كان الصبا سكنا

فيها وكان الهوى العذري من أربي

وقال فيها أبو الفتح كشاجم :

وما أمتعت جارها بلدة

كما أمتعت حلب جارها

بها قد تجمّع ما تشتهي

فزرها فطوبى لمن زارها

وفيها قال أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد الغرناطي العنسي :

حادي العيس كم تنيخ المطايا

سق فروحي من بعدهم في سياق

حلب إنها مقر غرامي

ومرامي وقبلة الأشواق

لا خلا جوشن وبطياس وال

سعديّ من كل وابل غيداق

كم بها مرتع لطرف وقلب

فيه سقّى المنى بكأس دهاق

وتغنى طيورها لارتياح

وتثنى غصونها للعناق

وعلو الشهباء حيث استدارت

أنجم الأفق حولها كالنطاق

وقال بعد ذكره لما قاله الرحّالة ابن جبير في وصف قلعتها وقد قدمناه في حوادث سنة ٥٨٠ : وفي هذه القلعة يقول الخالدي شاعر سيف الدولة :

وخرقاء قد تاهت على من يرومها

بمرقبها العالي وجانبها الصعب

يزر عليها الجو جيب غمامة

ويلبسها عقدا بأنجمه الشهب

إذا ما سرى برق بدت من خلاله

كما لاحت العذراء من خلل السحب

فكم من جنود قد أماتت بغصة

وذي سطوات قد أبانت على عقب

وفيها يقول أيضا وهو من بديع النظم :

وقلعة عانق العيّوق سافلها

وجاز منطقة الجوزاء عاليها

لا تعرف القطر إذ كان الغمام لها

أرضا توطّا قطريه مواشيها

إذا الغمامة راحت غاض ساكنها

حياضها قبل أن تهمي عزاليها

يعد من أنجم الأفلاك مرقبها

لو أنه كان يجري في مجاريها

٣٠٦

ردت مكايد أقوام مكايدها

وقصّرت بدواهيهم دواهيها

وقبل هذا البيت كما في تاريخ ابن شداد :

على ذرى شامخ وعر قد امتلأت

كبرا به وهو مملوء بها تيها

له عقاب عقاب الجو حائمة

من دونها فهي تخفى في خوافيها

وبعده :

أوطأت همتك العلياء هامتها

لما جعلت العوالي من مراقيها

فلم تقس بك خلقا في البرية إذ

رأت قسيّ الردى في كف باريها

وفيها يقول جمال الدين علي بن أبي المنصور :

كادت لفرط سموها وعلوها

تستوقف الفلك المحيط الدائرا

وردت قواطنها المجرة منهلا

ورعت سوابقها النجوم زواهرا

ويظل صرف الدهر منها خائفا

وجلا فما يمسي لديها حاضرا

وقال في وصفه للمعرة :

والمعرة مدينة صغيرة حسنة ، أكثر شجرها التين والزيتون والفستق ومنها يحمل إلى مصر والشام ، وبخارجها على فرسخ منها قبر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ولا زاوية عليه ولا خديم له ، وسبب ذلك أنه وقع في بلاد صنف من الرافضة أرجاس يبغضون العشرة من الصحابة رضي‌الله‌عنهم ولعن ممبغضهم ويبغضون كل من اسمه عمر وخصوصا عمر بن عبد العزيز رضي‌الله‌عنه لما كان من فعله في تعظيم علي رضي‌الله‌عنه.

وقال في وصفه لسرمين :

ثم سرنا منها إلى مدينة سرمين ، وهي حسنة كثيرة البساتين وأكثر شجرها الزيتون ، وبها يصنع الصابون الآجري ويجلب إلى مصر والشام ، ويصنع بها أيضا الصابون المطيّب لغسل الأيدي ويصبغونه بالحمرة والصفرة ، ويصنع بها ثياب قطن حسان تنسب إليها ، وأهلها سبابون يبغضون العشرة ، ومن العجب أنهم لا يذكرون لفظ العشرة ، وينادي سماسرتهم بالأسواق على السلع فإذا بلغوا العشرة قالوا : تسعة وواحد. وحضر بها بعض الأتراك يوما فسمع سمسارا ينادي : تسعة وواحد ، فضربه بالدبوس على رأسه وقال : قل عشرة بالدبوس. وبها مسجد جامع فيه تسع قباب ولم يجعلوها عشرة قياما بمذهبهم القبيح اه.

٣٠٧

قال في وصفه لتيزين :

ثم سافرت منها (من حلب) إلى مدينة تيزين وهي على طريق قنسرين ، وهي حديثة اتخذها التركمان ، وأسواقها حسان ومساجدها في نهاية من الإتقان ، وقاضيها بدر الدين العسقلاني.

قلت : قال في المعجم : (تيزين) ويقال لها توزين : قرية كبيرة من نواحي حلب كانت تعد من أعمال قنسرين ، ثم صارت في أيام الرشيد من العواصم. وقال في الدر المنتخب : هي مدينة صغيرة قديمة كان لها سور قد تهدم وإليها تنسب الكورة وإن كان فيها ما هو أميز منها ، ولم تزل في أيدي المسلمين إلى أن استولت الفرنج كما ذكرنا على أنطاكية ثم استعادها المسلمون منهم ، وقصبتها الآن أرتاح.

وقال في وصفه لمدينة أنطاكية :

ثم سافرت إلى مدينة أنطاكية وهي مدينة عظيمة أصلية ، وكان عليها سور محكم لا نظير له في أسوار بلاد الشام ، فلما فتحها الملك الظاهر هدم سورها.

وأنطاكية كثيرة العمارة ودورها حسنة البناء كثيرة الأشجار والمياه وبخارجها نهر العاصي. وبها قبر حبيب النجار رضي‌الله‌عنه وعليه زاوية فيها الطعام للوارد والصادر ، شيخها الصالح المعمر محمد بن علي سنه ينيف على المائة وهو ممتع بقوته ، دخلت عليه مرة في بستان له وقد جمع حطبا ورفعه على كاهله ليأتي به منزله بالمدينة.

ورأيت ابنه قد أناف على الثمانين إلا أنه محدودب الظهر لا يستطيع النهوض ، ومن يراهما يظن الوالد منهما ولدا والولد والدا.

وقال في وصفه لحصن بغراس :

ثم سافرت إلى حصن بغراس وهو حصن منيع لا يرام ، عليه البساتين والمزارع ومنه يدخل إلى بلاد سيس وهي بلاد الأرمن ، وهم رعية للملك الناصر يؤدون إليه مالا ، ودراهمهم فضة خالصة تعرف بالبغلية ، وبها تصنع الثياب الدبيزية ، وأمير هذا الحصن صارم الدين بن الشيباني وله ولد فاضل اسمه علاء الدين وابن أخ اسمه حسام الدين فاضل كريم يسكن الموضع المعروف بالرصص ويحفظ الطريق إلى بلاد الأرمن.

٣٠٨

وقال في وصفه لحصن الشّغر :

ثم سافرت إلى حصن الشغر بكاس ١ وهو منيع في رأس شاهق ، أميره سيف الدين الطنطاش فاضل وقاضيه جمال الدين بن شجرة من أصحاب ابن تيمية.

وقال في وصفه لمدينة صهيون :

ثم سافرت إلى مدينة صهيون وهي حسنة ، بها الأنهار المطردة والأشجار المورقة ، ولها قلعة جيدة ، وأميرها يعرف بالإبراهيمي وقاضيها محي الدين الحمصي ، وبخارجها زاوية في وسط بستان فيها الطعام للوارد والصادر ، وهي على قبر الصالح العابد عيسى البدوي رحمه‌الله وقد زرت قبره.

وقال في وصفه لحصن القدموس ومصياف وغيره :

ثم سافرت منها فمررت بحصن القدموس ثم بحصن المنيقة ثم بحصن العليقة ثم بحصن مصياف ثم بحصن الكهف ، وهذه الحصون لطائفة يقال لها الإسماعيلية ويقال لهم الفداوية ، ولا يدخل عليهم أحد من غيرهم وهم سهام الملك الناصر بهم يصيب من يعدو عنه من أعدائه بالعراق وغيرها ، ولهم المرتبات ، وإذا أراد السلطان أن يبعث أحدهم إلى اغتيال عدو له أعطاه ديته فإن سلم بعد تأتي ما يراد منه فهي له وإن أصيب فهي لولده ، ولهم سكاكين مسمومة يضربون بها من بعثوا إلى قتله ، وربما لم تصح حيلهم فقتلوا كما جرى لهم مع الأمير قراسنقور ، فإنه لما هرب إلى العراق بعث إليه الملك الناصر جملة منهم فقتلوا ولم يقدروا عليه لأخذه بالحزم.

سنة ٧٣١

ذكر وصول نهر الساجور إلى حلب

قال في روض المناظر : نهار الأربعاء تاسع صفر وصل نهر الساجور إلى حلب فزيد به نهر قويق (٢) بساقية بناها الأمير أرغون الدوادار ، وكان يوم وصوله يوما مشهودا خرج

__________________

١ ـ بكاس : قلعة تقابل قلعة الشغر. قال ياقوت : بينهما واد كالخندق يقال له الشغر وبكاس ، معطوف ولا يكادون يفردون واحدة منهما.

(٢) انظر في حوادث سنة ١١٤٩.

٣٠٩

لتلقيه ملك الأمراء وسائر الناس مشاة مكبرين مهللين ، ومنع أهل الذمة من الخروج معهم وكذلك المطربون ، وكان قبله الأمير سودي نائب حلب قصد سوقه وشرع فيه فقيل له : من ساقه يموت في عامه ، فتأخر عنه ، وقيل مثل ذلك لأرغون فقال : لا أرجع عن خير عزمت عليه ، فقدر الله أنه مرض قبل أربعين يوما ومات رحمه‌الله. وأنشد القاضي الفاضل شرف الدين الحسين بن ريان :

لما أتى نهر الساجور قلت له

ماذا التأخر من حين إلى حين

فقال أخرني ربي ليجعلني

من بعض معروف سيف الدين أرغون

وأنشد القاضي الفاضل بدر الدين الحسن بن حبيب رحمه‌الله فيه :

قد أضحت الشهباء تثني على

أرغون في صبح وديجور

من نهر الساجور أجرى بها

للناس بحرا غير مسجور

ودفن في تربته التي أنشأها بسوق الخيل بين بابي القوس ، وكان عمره نحو الخمسين ، اشتراه الملك المنصور قلاوون الصالحي صغيرا لولده الملك الناصر محمد وربي معه وكان معه بالكرك ، ثم ولاه نيابة الملك بمصر وربي بعد بيبرس الدويدار ست عشرة سنة كما تقدم ، ثم نقله إلى نيابة حلب ، ثم طلب الحضور فحضر واجتمع بالسلطان ثم تباكيا ، ثم عاد إلى حلب ومات بها ، وكان فقيها حنفيا ورعا أذن له بالإفتاء على مذهبه ، سمع صحيح البخاري على الشيخ أبي العباس أحمد بن الشحنة الحجّار ووزيرة بنت عمر بن أسعد بن المنجا بمصر في سنة خمس عشرة وسبعمائة بقراءة الشيخ أبي حيان وكتب بخطه مجلدا منه.

وقال أبو الفداء في حوادث هذه السنة : وفيها في صفر وصل نهر الساجور إلى نهر قويق وانصبا إلى حلب بعد غرامة أموال عظيمة ، وتعب من العسكر والرعايا بتولية الأمير فخر الدين طمان. وفي ربيع الأول ماث بحلب الأمير سيف الدين أرغون الناصري نائبها وخرجت جنازته بلا تابوت وعلى النعش كساء بالفقيري من غير ندب ولا نياحة ولا قطع شعر ولا لبس جل ولا تحويل سرج حسبما أوصى به ، ودفن بسوق الخيل تحت القلعة وعملت عليه تربة حسنة ولم يجعل على قبره سقف ولا حجرة بل التراب لا غير.

وكان متقنا لحفظ القرآن مواظبا على التلاوة ، عنده فقه وعلم ويرد أحكام الناس إلى الشرع الشريف ، حتى كان بعض الجهال ينكر عليه ذلك. وكتب صحيح البخاري بخطه بعد ما سمعه من الحجّار ، واقتنى كتبا نفيسة ، وكان عاقلا وفيه ديانة رحمه‌الله.

٣١٠

أقول : قبلي حمام الناصري المعروفة الآن بحمّام اللبابيدية مسجد قديم بابه مؤلف من ثلاثة أحجار كبيرة بينه وبين الحمّام بضعة أذرع فيه قبلية وحجرات صغيرة مشرفة على الخراب يسكنها بعض الفقراء وحجرة واسعة فيها قبر أرغون المذكور عليه تابوت من حجارة كتب بعض الجهلة على الحجرة العليا منه (هذا ضريح الولي الزاهد العارف بالله تعالى صاحب الخيرات والمبرات الشيخ محمد بن عبد الله قويق الحافر المجري لنهر حلب الشهباء) والصواب أنه قبر أرغون الدوادار رحمه‌الله ، وهذه تربته التي ذكرها ابن الشحنة في الكلام على الترب.

ترجمته أيضا :

قال الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة : أرغون الدوادار اشتراه المنصور فرباه مع ولده الناصر محمد ولم يزل معه في خدمته حتى توجّه إلى الكرك وهو معه حتى عاد وهو ملازمه إلى أن ولاه نيابة السلطنة بالديار المصرية سنة ٧١٢ ، فسار سيرة حسنة إلى الغاية ، وكان يخلص الناس من شدائد يريد الناصر أن ينزلها بهم ، وحج سنة ١٥ وخلف السلطان لما حج سنة ١٩ ، ثم حج هو سنة عشرين ومشى من مكة إلى عرفة بمسكنة في هيئة الفقراء ، ثم في سنة ٢٦ بلغ الناصر أن مهنا يجهز للحج فأسرّ إلى أرغون أن يحج ويقبض على مهنا (١) ، فبلغ مهنا فتأخر عن الحج فاتهم الناصر أرغون بذلك ، فلما عاد قبض عليه واعتقله ثم أخرجه لنيابة حلب ، وكان قد اشتغل على مذهب الحنفية ومهر فيه إلى أن صار يعد من أهل الإفتاء ، وكانت له عناية بالكتب عظيمة جمع منها جمعا ما جمعه أحد من أبناء جنسه ، وكان الناس قد علموا رغبته في الكتب فهرعوا إليه بها. وكان خيرا ساكنا قليل الغضب حتى يقال إنه لم يسمع منه أحد في طول زمانه بمصر وحلب كلمة سوء. وكان للملك به جمال وكان له حضور على ابن الوكيل وعلى أبي حيان وابن سيد الناس وغيرهم. وأوصل بهمته نهر الساجور إلى البلد. قال الذهبي : كان تركيا فصيحا مليح الشكل شديد الحرص ، وكانت وفاته في ربيع الأول سنة ٧٣١ اه.

__________________

(١) أمير العرب في البلاد الشامية.

٣١١

سنة ٧٣٣

دخول الأمير لؤلؤ القندشي لحلب وما أتاه من المظالم

قال ابن الوردي : في خامس عشر شعبان من سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة دخل الأمير بدر الدين لؤلؤ القندشي إلى حلب شادا على المملكة وعلى يده تذاكر ، وصادر المباشرين وغيرهم ومنهم النقيب بدر الدين محمد بن زهرة الحسيني والقاضي جمال الدين سليمان بن ريان ناظر الجيش وناصر الدين محمد بن قرناص عامل الجيش وعمه المحبي عبد القادر عامل المحلولات والحاج إسماعيل بن عبد الرحمن العزازي والحاج علي بن السقا وغيرهم ، واشتد به الخطب وانزعج به الناس كلهم حتى البريئون وقنت الناس في الصلوات. وقلت في ذلك :

قلبي لعمر الله معلول

بما جرى للناس مع لولو

يا رب قد شرد عنا الكرى

سيف على العالم مسلول

وما لهذا السيف من مغمد

سواك يا من لطفه السول

وقال ابن خطيب الناصرية في الدر المنتخب : قرأت في تاريخ محمد بن حبيب في حوادث سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة قال : وفيها وصل الأمير بدر الدين القندشي إلى حلب من الديار المصرية متوليا شد الدواوين وصحبته الأمير سيف الدين جركتمر الناصر كاشفا أحوال المباشرين وعلى يده تذكرة واضحة الإبانة تشتمل على محاققتهم وأخذ ما ثبت عليهم من الخيانة ، فبادر وصادر وتنمر وتجبر ، وقام وقعد وبرق ورعد ، ونهى وأمر وهمز وهمر ، وأذل الرجال واستخرج الأموال ، وأخذ ونقل وسجن واعتقل ، وعزل وصرف وتزاعج وانحرف ، وأهان الأكابر وروع الحرم والأصاغر ، ونزع أبواب الإنصاف وسلط الأطراف على الأشراف ، وضرب بالعصي والسياط وكلف الناس إدخال الجمل في سم الخياط ، وأقام بين أظهرهم مدة وهم ينتظرون الفرج بعد الشدة ، إلى أن رحل إلى الديار المصرية وانطفأ عن الشام شرر شر البرية ، ثم رفع له المنار وعظم شأنه في تلك الديار ، وولي بها الإمرة وأشد وما رجع عن الظلم ولا ارتد ، ثم دارت الدوائر وانعكس حساب القدم الجائر ، وعاد بعد حين إلى حلب وأوقعه الدهر في شرك من له عليه طلب ، فرقم طرس جلده بقلم السياط وعوقب إلى أن هلك وطوت أيدي الردى ذلك البساط. وقلت فيه :

٣١٢

لما اعتدى لولو ١ سقوه من طلا

كاس العذاب علقم المشروب

وبالسياط ثقبوا جلدته

تبا له من لؤلؤ مثقوب

وفاة الأمير بدر الدين لؤلؤ القندشي

قال ابن الوردي في حوادث ٧٤٢ سنة : وفيها في جمادى الأولى عوقب لؤلؤ القندشي بدار العدل بحلب حتى مات واستصفى ماله وشمت به الناس. قلت :

ألؤلؤ قد ظلمت الناس لكن

بقدر طلوعك اتفق النزول

كبرت فكنت في تاج فلما

صغرت سحقت سنة كل لولو

وقال المقريزي في السلوك في حوادث هذه السنة : ومات الأمير بدر الدين لولو الحلبي وكان ضامن حلب ، فعاقبهم وأخذ أموالهم ، ثم ولي شد الدواوين بحلب فكثر شاكوه فتسلمه الأكر مشد الجهات بديار مصر ، ثم نقل إلى شد الدواوين بالقاهرة وعزل وأخرج بعد مجيئه إلى حلب شاد الدواوين ، ثم ضرب بالمقارع حتى مات. وفيه قال ابن الوردي :

أشكو إلى الرحمن لؤلؤا الذي

أضحى يصادر سادة وصدورا

نثر الجنوب بل القلوب بسوطه

فمتى أشاهد لؤلؤا منثورا

قال : وفيها دخل القاضي تاج الدين محمد بن الزين حلب متوليا كتابة السر ولبس الخلعة وباشر وأبان عن تعفف عن هدايا الناس اه.

سنة ٧٣٥

ذكر عمارة قلعة جعبر

قال ابن الوردي : في هذه السنة وصل الأمير سيف الدين أبو بكر الباشري إلى حلب وصحب معه منها الرجال والصناع وتوجه إلى قلعة جعبر وشرع في عمارتها وكانت خرابا من زمن هولاكو ، وهي من أمنع القلاع ، تسبب في عمارتها الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام ، ولحق المملكة الحلبية وغيرها بسبب عمارتها ونفوذ ماء الفرات إلى أسفل منها كلفة كثيرة اه.

__________________

١ ـ في الأصل : لؤلؤ.

٣١٣

توجه العساكر الحلبية لاسترجاع مدينة سيس

قال ابن إياس : في هذه السنة جاءت الأخبار من حلب بأن الأرمن ملكوا مدينة سيس وطردوا من كان بها من المسلمين ، فرسم السلطان لنائب حلب بأن يتوجه إليهم ومعه العساكر الحلبية ، فخرج إليهم في سابع عشري رمضان فحاصر من كان بها من الأرمن وحرق الضياع التي حولها وأسر جماعة من الأرمن نحو ثلثمائة إنسان ، فلما بلغ ذلك من كان من الأرمن بقلعة أياس ثاروا على من كان عندهم من المسلمين وحشروهم في خندق وأحرقوا الخندق فاحترق فيه من المسلمين نحو ألفي إنسان ما بين رجال ونساء وصغار وذلك في يوم العيد ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

قال ابن الوردي : كان العسكر عشرة آلاف سوى من تبعهم ، فلما علم أهل أياس بذلك [أي بما أحرق من الضياع وما أسر] أحاطوا بمن عندهم من المسلمين التجار وغيرهم وحبسوهم في خان ثم أحرقوه فقل من نجا ، فعلوا ذلك بنحو ألفي رجل من التجار البغاددة وغيرهم في يوم عيد الفطر ، فلله الأمر اه.

وفاة مهنا أمير العرب وآثاره

وقال : وفيها مات حسام الدين مهنا بن عيسى أمير العرب وحزن عليه آله وأقاموا مأتما بليغا ولبسوا السواد ، أناف على الثمانين وله معروف ، من ذلك مارستان جيد بسرمين ، ولقد أحسن برجوعه إلى طاعة سلطان الإسلام قبل وفاته ، وكانت وفاته بالقرب من سلمية اه.

وقال في حوادث السنة التي قبلها : وتوجه مهنا بن عيسى أمير العرب إلى طاعة السلطان بعد النفرة العظيمة عنه سنين ومعه صاحب حماة الملك الأفضل ، فأقبل السلطان على مهنا وخلع عليه وعلى أصحابه مائة وستين خلعة ورسم له بمال كثير من الذهب والفضة والقماش وأقطعه عدة قرى وعاد إلى أهله مكرما اه.

سنة ٧٣٦

العمل في نهر قلعة جعبر

قال ابن الوردي : في هذه السنة في المحرم نزل نائب الشام الأمير سيف الدين تنكز بعسكر الشام إلى قلعة جعبر وتفقدها وقرر قواعدها.

٣١٤

[وفيها] في صفر طلب من البلاد الحلبية رجال للعمل في نهر قلعة جعبر ورسم أن يخرج من كل قرية نصف أهلها وجلا كثير من الضياع بسبب ذلك ، ثم طلب أيضا من أسواق حلب رجال واستخرجت أموال ، وتوجه النائب بحلب إلى قلعة جعبر بمن حصل من الرجال وهم نحو عشرين ألفا.

سنة ٧٣٧

ذكر وفاة الأمير خضر ابن نائب حلب ألطنبغا

قال ابن الوردي : فيها في ربيع الأول توفي الأمير الشاب الحسن جمال الدين خضر ابن ملك الأمراء علاء الدين ألطنبغا بحلب ودفن بالمقام ، ثم عمل له والده تربة حسنة عند جامعه (١) خارج حلب ونقل إليها. وكان حسن السيرة ليس من إعجاب أولاد النواب في شيء. ومما قلت فيه تضمنيا :

أيبست أفئدة بالحزن يا خضر

فالدمع يسقيك إن لم يسقك المطر

منها خلقت فلم يسمح زمانك أن

يشين حسنك فيه الشيب والكبر

فإن رددت فما في الرد منقصة

عليك قد رد موسى قبل والخضر

وإن كان يتضمن هذا التضمين القول بموت الخضر عليه‌السلام.

قال : وفي هذه السنة باشر تاج الدين محمد بن عبد الكريم أخو الصاحب شرف الدين يعقوب نظر الجيوش المنصورة بحلب ، فما هنىء بذلك واعترته الأمراض حتى مات في سابع جمادى الآخرة من السنة المذكورة. قلت :

ما الدهر إلا عجب فاعتبر

أسرار تصريعاته واعجب

كم باذل في منصب ماله

مات وما هنّىء بالمنصب

وباشر مكانه في شعبان منها القاضي جمال الدين سليمان بن ريّان اه.

__________________

(١) أقول : بالقرب من الجامع عرصة يبلغ طولها نحو ٣٠ ذراعا وعرضها نحو ١٢ ذراعا فيها محراب قائم ظاهر منه نصفه الفوقاني والباقي تحت التراب ، وفي آخر العرصة من الجهة الغربية قبر يقال إن هذا المكان هو التربة وهذا القبر هو قبر خضر المذكور والله أعلم.

٣١٥

توجّه العساكر إلى بلاد سيس

قال المقريزي في تاريخه السلوك إلى معروفة الملوك (١) : وفي خامس عشر شعبان توجهت التجريدة إلى بلاد سيس وخراب مدينة أياس ، وسبب ذلك وصول رسول القان موسى وعلي بادشاه بطلب النجدة على الشيخ حسن وطغاي بن سوتاي وأولاد دمرداش (الطرفان من ملوك الشرق في فارس وتلك النواحي) ليكون علي بادشاه نائب السلطنة ببغداد ، فاستشار السلطان نائب الشام والأمراء فاستقر الرأي على تجريد العسكر نحو سيس فإن تكفور نقض الهدنة بقبضه على عدة مماليك وأرسلهم إلى مدينة أياس وقطع الحمل المرتب عليه فلم يعلم خبرهم ويكون في ذلك إجابة علي بادشاه إلى ما قصده من نزول العسكر قريبا من الفرات مع معرفة الشيخ حسن بأنّا لم نساعد علي بادشاه وإنما بعشا العسكر لغزو سيس وعمل مقدم العسكر الأمير أرقطاي ويكون في الساقة ومقدمه الجاليش صحبة الأمير طوغاي الطباخي ومعهما من الأمراء قباتمر وبيدمر البدري وتمر الموساوي وقطلوبغا الطويل وجركتمر بن بهادر وبيبغا تتر حارس الطير ، ومن أمراء الشام قطلوبغا الفخري مقدم الجيش الشامي ، وكتب بخروج عسكر دمشق وحماة وحلب وحمص وطرابلس إلى ناحية جعبر ، فإذا وصل عسكر مصر إلى حلب عادت عساكر الشام ثم مضوا جميعا إلى سيس فيكون في ذلك صدق ما وعد به علي بادشاه وبلوغ الغرض من غزو سيس ، فسار العسكر من القاهرة.

قال ابن الوردي : وفيها في رمضان المعظم وصل إلى حلب من مصر عسكر حسن الهيئة مقدمه الحاج أرقطاي وعسكر من دمشق مقدمهم قطلبغا الفخري وعسكر من طرابلس مقدمه بهادر بن عبد الله وعسكر من حماة مقدمه الأمير صارم الدين أزبك والمقدم على الكل ملك الأمراء بحلب علاء الدين ألطنبغا ، ورحل بهم إلى بلاد الأرمن في ثاني شوال منها ونزل على مينا أياس وحاصرها ثلاثة أيام ، ثم قدم رسول الأرمن من دمشق ومعه كتاب نائب الشام بالكف عنهم على أن يسلموا البلاد والقلاع التي شرقي نهر جيحان ، فتسلموا

__________________

(١) ظفرت بجزء من هذا التاريخ عند الخواجات بوخه العائلة المشهورة في حلب وهو مرتب على السنين وفيه حوادث من هذه السنة إلى سنة ٧٥٣ حوادث سبع عشرة سنة ، وهو في ١٤١ ورقة وقد التقطت منه ماله علاقة بتاريخ هذه البلاد في هذه السنين وهو تاريخ لمصر. وأصل الكتاب فيه من حوادث سنة ٥٧٧ إلى سنة ٨٤٤ ، فعلى هذا يكون مجموع هذا التاريخ في نحو عشرة مجلدات. انظر كشف الظنون.

٣١٦

منهم ذلك ، وهو ملك كبير وبلاد كثيرة كالمصيّصة وكوبرا والهارونية وسرفندكار وأياس وبيّاس ونجيمة والنقير التي تقدم ذكر تخريبها وغير ذلك ، فخرب المسلمون برج أياس الذي في البحر واستنابوا بالبلاد المذكورة نوابا وعادوا في ذي الحجة منها والحمد لله اه.

ورود الأمر بالمسامحة عمّا يؤخذ على الأغنام الداخلة إلى حلب

قال في صبح الأعشى ١٣ / ٣٦ : هذه نسخة توقيع بالمسامحة في جميع المراكز بما يستأدي على الأغنام الدغالي الداخلة إلى حلب ، وأن يكون ما يستخرج من تجار الغنم على الكبار منها خاصة من إنشاء المقر الشهابي بن فضل الله مما كتب به في شهور سنة سبع وثلاثين وسبعمائة وهي :

الحمد لله ذي المواهب العميمة ، والعطايا التي لا تجود بها يد كريمة ، والمنن التي عوضنا منها على كل شيء بخير منه قيمة ، والمسامحة التي ادخر لنا بها عن كل مال حسن مآل وبكل غنم غنيمة ، نحمده على نعمه التي غدت على كثرة الإنفاق مقيمة ، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أكرم من سمح وسامح في أمور عظيمة ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة مستديمة ، وسلم تسليما كثيرا.

وبعد ، فمنذ ملكنا الله لم نزل نرغب إليه ونعامله بما نهبه له ونربح عليه ، ولم نبق مملكة من ممالكنا الشريفة حتى سامحنا فيها بأموال وسامينا فيها بنفع أرضها السحب الثقال ، وكانت جهة العداد بالمملكة الحلبية المحروسة مثقلة الأوزار بما عليها ، مشدودة النطاق بما يغل من الطلب يديها ، مما هو على التركمان بها محسوب وإلى عديدهم عدده منسوب. ونحن نظنه في جملة ما أسقطته مسامحتنا الشريفة وهو منهم مطلوب ، وهو المعروف بالدغالي زائدا على الرؤوس الكبار ، ومعدودا عند الله من الكبائر وهو في حساب الدواوين من الصغار. فلما اتصل بنا أن هذه المظلمة ما انجلى عنهم ظلمها ، ولا رفع من الحساب عنهم قلمها ، أكبرنا موقع بقائها وعلمنا أنها مدة مكتوبة لم يكن بد من المصير إلى انقضائها ، واستجلبنا قلوب طوائف التركمان بها وأوثقنا أسبابهم في البلاد بسببها لأمرين كلاهما عظيم ، لرغبتنا فيما عند الله ولما لهم من حق ولاء قديم ، كم صاروا مع الجيوش المنصورة جيوشا وكم ساروا إلى بلاد ملوك الأعداء فثلوا لهم عروشا ، وكم كانوا على أعقاب العساكر المؤيدة الإسلامية ردفا ومقدّمتهم في محاصرة جاليشا ، وكم قتلوا بسهامهم كافرا وقدموا لهم رماحهم نعوشا ، ومنهم أمراء وجنود ونزول ووفود ، وهم وإن لم يكونوا أهل خباء

٣١٧

فهم أهل عمود ، وذوو أنساب عريقة وأحساب حقيقة إلى القبجاق الخلص مرجعهم ، والفرس بفرسان دولتنا الشريفة تجمعهم. فاقتضى رأينا الشريف أن نرعى لهم هذه الحقوق بإبطال تلك الزيادة المرادة ، وأن نتأسى منها ما هو في العدد كالنسيء في الكفر زيادة.

فرسم بالأمر الشريف ، لا زالت مواهبه تشمل الآفاق ، وتزيد على الإنفاق ، وتقدم ما ينفد إلى ما هو عند الله باق ، أن يسامح جميع التراكمين الداخل عدادهم في ضمان عداد التركمان بالمملكة الحلبية المحروسة ، بما يستأدي منهم على الأغنام الدغالي وأن يكون ما يستخرج منهم من العدد على الكبار خاصة وهو عن كل مائة رأس كبار ثلاثة أرؤس كبار خاصة لا غير ، من غير زيادة على ذلك مسامحة مستمرة دائمة مستقرة باقية بقاء الليالي والأيام ، لا تبدّل لها أحكام ولا تتغير بتغير حاكم من الحكام ، نرجو أن نسر بها في صحائف أعمالنا يوم العرض ، لا يتأول فيها حساب ولا تمتد إليها يد حسّاب ولا يبقى عليها سبيل للدواوين والكتاب ، ولا تسيب أغنامهم ليرعاها منهم أولئك الذئاب ، كلما مر على هذه المسامحة زمان أكد أسبابها وبيض في صحائف الدفاتر حسابها ، لا تعارض ولا تناقض ولا يتأول فيها متأول في هذا الزمان ، ولا فيما بعده من الزمان ، ولا يدخل حكمها في النسيان ، ولا ينقص أجرها المضمون ، ولا تطلب أصحاب الدغالي عليها بعداد في قرن من القرون ، ولا يستحقر بما يستأدي منها جليلة ولا حقيرة ، ولا يسمح لنفسه من قال إنها صغيرة وهي عند الله كبيرة. لتطيب لأهلها ومن تسامع بما شملهم من إحساننا الشريف النفوس ، ولا تصدع لهم بسبب هذا الطلب رؤوس ، فمن تعرض في زماننا أمدّنا الله بالبقاء أو كشف في هذه الصدقة الجارية وجه تأويل ، أو سكن فيها إلى مداومة بقليل ، أو طلب من ظالم بعينه مداواة قوله العليل ، فسيجد ما يصبح به مثلة ويتوب به مثله ، ويكون لمن بعده عبرة بمن قدم قبله. ونحن نبرأ إلى الله ممن يتعرض بعدنا إلى نقضها ، وهذه المسامحة عليه حجتنا التي لا يقدر عند الله على دحضها. ولتقرأ على المنابر وتعل كلمتها ، وتمد في أقطار الأرض كما امتد السحاب ترجمتها ، وسبيل كل واقف عليها من أرباب الأحكام أصحاب السيوف والأقلام ، ومن يتناوب منهم على الدوام ، العمل بما رسمنا به واعتماد ما حكم بموجبه بعد الخط الشريف شرفه الله تعالى أعلاه إن شاء الله تعالى اه.

٣١٨

سنة ٧٣٨

عود العساكر من بلاد سيس وزيادة بيان لهذه الحوادث

قال في كتاب السلوك : وفي يوم الخميس ثالث عشر المحرم قدمت التجريدة من بلاد سيس ، وكان من خبر ذلك أنهم لما ساروا من القاهرة في ثاني عشر شعبان وقدموا دمشق تلقاهم الأمير تنكز ولم يعبأ بالأمير أرقطاي مقدم العسكر لما في نفسه منه ، ومضوا إلى حلب فقدموها في رابع عشرين رمضان وأقاموا بها يومين ، فقدم الأمير قطلوبغا الفخري بعسكر الشام وقد وصل إلى جعبر ، ثم ساروا جميعا يوم عيد الفطر حتى نزلوا على إسكندرونة أول بلاد سيس وقد تقدمهم الأمير مغلطاي العزي إليها بشهرين حتى جهز المجانيق والزحافات والجسورة الحديد والمراكب وغير ذلك لعبور نهر جيحان ، فقدم عليهم البريد من دمشق بأن تكفور وعد بتسليم القلاع للسلطان فلترد المجانيق وجميع آلات الحصار إلى بغراس وليقم العسكر على مدينة أياس حتى يرد مرسوم السلطان بما يعتمد في أمرهم. وكانت التراكمين قد أغاروا على بلاد سيس ومعهم ابن قرمان فتركوها أوحش من بطن حمار ، فبعث تكفور رسله في البحر إلى دمياط فلم يأذن السلطان لهم في القدوم عليه من أجل أنهم لم يعلموا نائب الشام بحضورهم ، فعادوا إلى تكفور فبعث بهدية إلى نائب الشام وسأله منع العسكر من بلاده وأن يسلم القلاع التي من وراء نهر جيحان جميعها للسلطان ، فكاتب السلطان بذلك وبعث أوحد المهمندار إلى نائب حلب بمنع القادة ورد الآلات إلى بغراس ، فردها وركب بالعسكر إلى أياس فقدمها يوم الاثنين ثاني عشر شوال وقد تحصنّت ، فبادر العسكر وزحف عليها بغير أمره فكان يوما مهولا جرح فيه جماعة كثيرة. واستمر الحصار إلى يوم الخميس خامس عشره أحضر نائب حلب خمسين نجارا وعمل زحافتين وستارتين ونادى في الناس بالركوب للزحف ، فاشتد القتال حتى وصلت الزحافات والرجال إلى قرب السور بعدما استشهد جماعة كثيرة ، فترجل الأمراء عن خيولهم لأخذ السور ، وإذا بأوحد المهمندار ورسل تكفور قد وافوا برسالة نائب الشام فعادوا إلى مخيمهم ، فبلغهم أن يكفوا عن الغارة ، فلم يوافقوه على ذلك ، واستقر الحال على أن يسلموا أياس بعد ثمانية أيام. فلما كان اليوم الثامن أرسل تكفور مفاتيح القلاع على أن يرد ما سبى ونهب من بلاده ، فنودي برد السبي فأحضر كثير منه وأخرب الجسر الذي نصب على نهر جيحان. وتوجّه الأمير مغلطاي العزي فتسلم قلعة كوارة وكانت من أحصن قلاع

٣١٩

الأرمن ، مساحتها فدان وثلث وربع فدان وارتفاعها اثنان وأربعون ذراعا بالعمل ، وأنفق تكفور على عمارتها أربع مائة ألف وستين ألف دينار ، وتسلم العسكر أياس والبرج الأطلس وهدم في ثمانية أيام بعد ما عمل فيه أربعون حجّارا يومين وليلتين حتى خرج منه حجر واحد ، ثم نقب وعلق على الأجسام (هكذا) وأضرمت فيه النار فسقط جميعه ، وكان برجا عظيما بلغ ضمانه في كل شهر لتكفور مبلغ ثلاثين ألف دينار حسابا عن كل يوم ألف دينار سوى خراج الأراضي. وكان بها أربعمائة خمارة وستمائة بغي ، كان في ظاهرها ملاحة تضمن كل سنة بسبعمائة ألف درهم ، ولها مائتان وستة عشر بستانا يغرس فيها أنواع الفواكه ودور سورها فدانان وثلثا فدان.

ثم رحل العسكر عن أياس بعد ما أقاموا عليها اثنين وسبعين يوما ، فمرّ نائب حلب على قلعة نجمة وقلعة أسفندكار وقد أخربهما مغلطاي العزي حتى عبر بالعسكر إلى حلب في رابع عشرين ذي الحجة ، فعاد العسكر إلى مصر وقد مرض كثير منهم ومات جماعة ، فأكرم السلطان الأمير أرقطاي وخلع عليه ، وبعث تشريفا إلى نائب حلب ، وأقطع أراضي سيس لنائب حلب ونائب الشام وغيرهما من أمراء الشام ، وأمّر فيها جماعة من التركمان والأجناد فاستعملوا الأرمن في الفلاحة وحطوا عنهم من الخراج فعمرت ضياعها ، وضمنت بعض عجائز الأرمن بها خمارة بألف درهم كل يوم فلم توافق على ذلك. وعمل في كل قلعة من قلاع الأرمن نائب ورتب فيها عسكر. ثم قدمت رسل تكفور فخلع عليهم وكتب بترك الخراج عنهم ثلاث سنين ومهادنتهم عشر سنين.

وفيها كانت حرب بين خليل الطرفي وبين خليل بن دلغادر وانهزم الطرفي إلى حلب فقام معه نائبها وبعث بالإنكار على ابن دلغادر فانتمى إلى نائب الشام ووعد على نيابة الأبلستين بألفي إكديش وإقامة ثلاثين أمير طبلخاناه فعني به نائب الشام ، حتى قدم إلى قلعة الجبل وخلع عليه في يوم وكتب له ثلاثين منشورا بأمريات جماعة منهم وخلع على جميع من معه وسار.

سنة ٧٣٨

ذكر فتح الباب شرقي المحراب في الجامع الأعظم

وظهور رأس سيدنا يحيى عليه‌السلام

قال ابن الوردي : في هذه السنة في صفر توفي بدر الدين محمد بن إبراهيم

٣٢٠