إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٢

ومدحه الشعراء وأكثروا ، منهم أبو الحسين أحمد بن منير حيث قال في مطلع قصيدة :

أسنى الممالك ما أطلت منارها

وجعلت مرهفة الشفار دثارها

ومنها :

في كل يوم من فتوحك سورة

للدين يحمل سفره أسفارها

ومطيلة قصر المنابر أن غدا ال

خطباء تنثر فوقها تقصارها

همم تحجلت الملوك وراءها

بدم العثار وما اقتفت آثارها

وعزائم تستوزر الآساد عن

نهش الفرائس إن أحس أوارها

أبدا تقصر طول مشرفة الذرى

بالمشرفية أو تطيل قصارها

فعزت أفامية فما فهمته

كوبار أجناها الإران بوارها

ومنها :

ماض إذا قرع الركاب لبلدة

ألقت له قبل القراع إزارها

وإذا مجانقه ركعن لصعبة ال

ملقاة أسجد كالجدير جدارها

ملأ البلاد مواهبا ومهابة

حتى استرقت آية أحرارها

يذكي العيون إذا أقام لعينها

أبدا ويفضي بالظبى أبكارها

أومى إلى رمم الندى فأعاشها

وهمى لسابقة المنى فأزارها

نبويّ تشبيه الفتوح كأنما

أنصاره رجعت له أنصارها

أحيا لصرح سلامها سلمانها

وأمات تحت عمارها عمارها

إن سار سار وقد تقدم جيشه

رجف يقصع في اللهى دعارها

أوحل حل حبا القروم بهيبة

سلب البدور بدارها إبدارها

وإذا الملوك تنافسوا درج العلى

أربى بنفس أفرعته خيارها

ونهى إذا هيضت تدل لجبرها

وسطى تذل إذا عنت جبارها

تهدي لمحمود السجايا كاسمه

لو لذ فاعلة بها لأبارها

الفاعل الفعلات ينظم في الدجى

بين النجوم حسودها أسمارها

ساع سعى والسابقات وراءه

عنقا فعصفر منتماه عثارها

٢١

ومنها وهي آخرها :

لله وجهك والوجوه كأنما

حطت بها أوقار هبت وقارها

والبيض تخنس في الصدور صدورها

هبرا وتكتحل الشفور شفارها

والخيل تدلج تحت أرشية القنا

جذب المواتح غاورت آبارها

فبقيت تستجلي الفتوح عرائسا

متمليا صدر العلى وصدارها

في دولة للنصر فوق لوائها

زبر تنمق في الطلى أسطارها

فالدين موماة رفعت بها الصوى

وحديقة ضمنت يداك إبارها

سنة ٥٤٦

قال في الروضتين ما ملخصه : في سنة ٥٤٥ توجه نور الدين إلى دمشق ، وبعد أخذ ورد بينه وبين صاحبها تقرر في محرم سنة ٥٤٦ الصلح بين نور الدين وأهل دمشق ، وبذلوا له الطاعة وإقامة الخطبة على منبر دمشق بعد الخليفة والسلطان ، وكذا السكة ووقعت الأيمان على ذلك ورحل عن مخيمه عائدا إلى حلب.

ذكر انهزام نور الدين من جوسلين وأسر جوسلين بعد ذلك

وفتح عين تاب وعزاز ودلوك ومرعش وغير ذلك

قال في الروضتين : قال ابن الأثير : سار نور الدين إلى بلاد جوسلين وهي القلاع التى شمالي حلب منها تل باشر وعين تاب وعزاز وغيرها من الحصون ، فجمع جوسلين الفرنج فارسهم وراجلهم ولقوا نور الدين ، وكان بينهم حرب شديدة انجلت عن انهزام المسلمين وظفر الفرنج ، وأخذ جوسلين سلاح دار كان لنور الدين أسيرا وأخذ ما معه من السلاح ، فأنفذه إلى السلطان مسعود بن قليج أرسلان السلجوقي صاحب قونيه وأقصرا وغيرهما من تلك الأعمال. وكان نور الدين قد تزوج ابنته وأرسل مع السلاح إليه يقول : قد أنفذت لك بسلاح صهرك وسيأتيك بعد هذا غيره ، فعظمت الحادثة على نور الدين

٢٢

وأعمل الحيلة على جوسلين وعلم إن هو جمع العساكر الإسلامية لقصده جمع جوسلين الفرنج وحذر وامتنع ، فأحضر نور الدين جماعة من التركمان وبذل لهم الرغائب من الإقطاع والأموال إن هم ظفروا بجوسلين إما قتلا وإما أسرا ، فاتفق أن جوسلين خرج في عسكره وأغار على طائفة من التركمان وسبى ونهب فاستحسن من السبي امرأة منهم خلا معها تحت شجرة فعاجله التركمان ، فركب فرسه ليقاتلهم فأخذوه أسيرا ، فصانعهم على مال بذله لهم فرغبوا فيه وأجابوه إلى ذلك وأخفوا أمره عن نور الدين ، فأرسل جوسلين في إحضار المال فأتى بعض التركمان إلى نائب نور الدين بحلب (هو أبو بكر بن الداية كما في الكامل) فأعلمه الحال فسير معه عسكرا أخذوا جوسلين من التركمان قهرا ، وكان نور الدين حينئذ بحمص ، وكان أسره من أعظم الفتوح على المسلمين ، فإنه كان شيطانا عاتيا من شياطين الفرنج شديد العداوة للمسلمين ، وكان هو يتقدم على الفرنج في حروبهم لما يعلمون من شجاعته وجودة رأيه وشدة عداوته للملة الإسلامية وقسوة قلبه على أهلها ، وأصيبت النصرانية كافة بأسره وعظمت المصيبة عليهم بفقده وخلت بلادهم من حاميها وثغورهم من حافظها وسهل أمرهم على المسلمين بعده ، وكان كثير الغدر والمكر لا يقف على يمين ولا يفي بعهد ، طالما صالحه نور الدين وهادنه ، فإذا أمن جانبه بالعهود والمواثيق نكث وغدر فلقيه غدره وحاق به مكره (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) فلما أسر تيسر فتح كثير من بلادهم وقلاعهم ، فمنها عين تاب وعزاز وقورس والراوندان وحصن البارة وتل خالد وكفرلاثا وكفرسوت وحصن بسرفوث بجبل بني عليم ودلوك ومرعش ونهر الجوز وبرج الرصاص.

قال : وكان نور الدين رحمه‌الله إذا فتح حصنا لا يرحل عنه حتى يملأه رجالا وذخائر تكفيه عشر سنين خوفا من نصرة تتجدد للفرنج على المسلمين فتكون الحصون مستعدة غير محتاجة إلى شيء.

وقال الشعراء في هذه الحادثة فأكثروا ، منهم القيسراني قال يمدح نور الدين بعد صدوره عن دمشق واستقرار أمرها ويذكر قتل البرنس وأسر جوسلين وأخذ بلاده :

دعا ما ادعى من غره النهي والأمر

فما الملك إلا ما حباك به الأمر

ومن ثنت الدنيا إليه عنانها

تصرف فيما شاء عن إذنه الدهر

ومن راهن الأقدار في صهوة العلا

فلن تدرك الشعرى مداه ولا الشعر

٢٣

إذا الجد أمسى دون غايته المنى

فماذا عسى أن يبلغ النظم والنثر

ولم لا يلي أسنى الممالك مالك

زعيم بجيش من طلائعه النصر

ليهن دمشقا أن كرسي ملكها

حبي منك صدرا ضاق عن همه الصدر

إلى أن قال :

وأمست عزاز كاسمها بك عزة

تشق على النسرين لو أنها الوكر

فسر واملأ الدنيا ضياء وبهجة

فبالأفق الداجي إلى ذا السنا فقر

كأني بهذا العزم لا فل حده

وأقصاه بالأقصى وقد قضي الأمر

وقد أصبح البيت المقدس طاهرا

وليس سوى جاري الدماء له طهر

وقد أدت البيض الحداد فروضها

فلا عهدة في عنق سيف ولا نذر

وصلت بمعراج النبي صوارم

مساجدها شفع وساجدها وتر

وإن يتيم ساحل البحر مالكا

فلا عجب أن يملك الساحل البحر

وهي طويلة جدا اكتفينا منها بهذا المقدار.

وفي هذه السنة فارق صلاح الدين والده وصار إلى خدمة عمه أسد الدين بحلب فقدمه بين يدي نور الدين فقبله وأقطعه إقطاعا حسنا.

وفي جمادى الأولى كتب أحمد بن منير من حماة إلى نور الدين قصيدة أولها :

لعلائك التأييد والتأميل

ولملكك التأبيد والتكميل

يهنئه بوصول الخلع من بغداد من عند الخليفة على يد الشيخ شرف الدين بن أبي عصرون ويصف الفرس الأصفر الأسود القوائم والمعارف والسيف العربي. وساق في الروضتين القصيدة بتمامها.

سنة ٥٤٧

ذكر الحرب بين نور الدين وبين الفرنج بدلوك

قال ابن الأثير : في هذه السنة تجمعت الفرنج وحشدت الفارس والراجل وساروا نحو نور الدين وهو ببلاد جوسلين ليمنعوه عن ملكها ، فوصلوا إليه وهو بدلوك فلما قربوا منه

٢٤

رجع إليهم ولقيهم وجرى المصاف بينهم عند دلوك واقتتلوا أشد قتال رآه الناس ، وصبر الفريقان ثم انهزم الفرنج وقتل منهم وأسر كثير ، وعاد نور الدين إلى دلوك فملكها واستولى عليها.

ومما قال في ذلك أحمد بن منير الطرابلسي :

أعدت بعصرك هذا الأني

ق فتوح النبي وأعصارها

فواطأت يا حبذا أحد بها ١

وأسررت من بدر إبدارها

وكان مهاجرها تابعي

ك وأنصار رأيك أنصارها

فجددت إسلام سلمانها

وعمر جدك عمارها

وما يوم إنّب إلا كذا

ك بل طال بالبوع أشبارها

صدمت عزيمتها صدمة

أذابت مع الماء أحجارها

وفي تل باشر باشرتهم

بزحف تسور أسوارها

وإن دالكتهم دلوك فقد

شددت فصدقت أخبارها

سنة ٥٤٩

استيلاء نور الدين على دمشق وتل باشر

قال ابن الأثير : في هذه السنة في صفر ملك نور الدين محمود بن زنكي مدينة دمشق وأخذها من صاحبها مجير الدين أبق بن محمد بن بوري بن طغتكين أتابك ، ثم ساق السبب الذي دعاه إلى ذلك.

وفي هذه السنة أو التي بعدها ملك نور الدين محمود قلعة تل باشر وهي شمالي حلب من أمنع القلاع ، وسبب ملكها أن الفرنج لما رأوا ملك نور الدين دمشق خافوه وعلموا أنه يقوى عليهم ولا يقدرون على الانتصاف منه لما كانوا يرون منه قبل ملكها ، فراسله من بهذه القلعة من الفرنج وبذلوا له تسليمها ، فسير إليهم الأمير حسان المنبجي وهو من أكابر أمرائه وكان إقطاعه ذلك الوقت منبج وهي تقارب تل باشر وأمره أن يسير إليها

__________________

١ ـ لعل الصواب : أحدها ، والمقصود غزوة أحد.

٢٥

ويتسلمها ، فسار إليها وتسلمها منهم وحصنها ورفع إليها من الذخائر ما يكفيها سنين كثيرة.

سنة ٥٥٠

قال في الروضتين : في هذه السنة ولى نور الدين صلاح الدين الشحنكية والديوان بدمشق فأقام فيه أياما ثم تركه وصار إلى حلب لأجل اواقعة جرت بينه وبين صاحب الديون أبي سالم همام. ثم قال نقلا عن ابن أبي طي يحيى بن حميدة الحلبي : واستخص نور الدين صلاح الدين وألحقه بخواصه ، فكان لا يفارقه في سفر ولا حضر ، وكان يفوق الناس جميعا في لعب الكرة ، وكان نور الدين يحب لعب الكرة.

قال في المختار من الكواكب المضية : (كان) بالجزيرة رجل من أهل الدين والصلاح والخير ، وكان نور الدين يراسله ويرجع إلى قوله ، فبلغه عن نور الدين أنه يكثر اللعب بالكرة فكتب إليه يقول : ما كنت أظن أنك تلهو وتلعب وتعذب الخيل بغير فائدة دينية ، فكتب إليه نور الدين بخط يده يقول : والله ما يحملني على اللعب بالكرة اللهو واللعب ، وإنما نحن في ثغر العدو ونخشى أن يقع صوت فنركب في الطلب ولا يمكننا ملازمة الجهاد ، ومتى تركنا الخيل صارت لا قدرة لها على إدمان السفر في الطلب ولا معرفة لها بسرعة الانعطاف في المعركة ، فنحن نركبها ونروضها بهذا اللعب اه.

سنة ٥٥١

ذكر حصر حارم

قال في الروضتين : فيها حاصر نور الدين قلعة حارم وهي حصن غربي حلب بالقرب من أنطاكية وضيق على أهلها وهي من أمنع الحصون وأحصنها في نحور المسلمين ، فاجتمعت الفرنج من قرب منها ومن بعد وساروا نحوه لمنعه. وكان بالحصن شيطان من شياطين الفرنج يرجعون إلى رأيه فأرسل إليهم يعرفهم قوتهم وأنهم قادرون على حفظ الحصن والذب عنه بما عندهم من العدد وحصانة القلعة ، ويشير عليهم بالمطاولة وترك اللقاء ، وقال

٢٦

لهم : إن لقيتموه هزمكم وأخذ حارم وغيرها وإن حفظتم أنفسكم منه أطقنا الامتناع عليه ، ففعلوا ما أشار به عليهم وراسلوا نور الدين في الصلح على أن يعطوه حصته من حارم ، فأبى أن يجيبهم إلا على مناصفة الولاية ، فأجابوه إلى ذلك فصالحهم وعاد.

وأنشده ابن منير قصيدة طويلة يهنئه بالعود من غزاة حارم مطلعها :

ما فوق شأوك في العلا مزداد

فعلام يقلق عزمك الإجهاد

همم ضربن على السماء سرادقا

فالشهب أطناب لها وعماد

أنت الذي خطبت له حساده

والفضل ما اعترفت به الحساد

ومنها :

ألبست دين محمد يا نوره

عزا له فوق السها إسآد ١

ما زلت تسمكه بمياد القنا

حتى تثقف عوده المياد

لم يبق مذ أرهفت عزمك دونه

عدد يراع به ولا استعداد

إن المنابر لو تطيق تكلما

حمدتك عن خطبائها الأعواد

ومنها :

ورجا البرنس وقد تبرنس ذلة

حرما بحارم والمصاد مصاد

ضجت ثعاليه فأخرس جرسها

بيض تناسب في الحديد حداد

وسواعد ضربت بهن وبالقنا

من دون ملة أحمد الأسداد

يركزن في حلب ومن أفنانها

تجني فواكه أمنها بغداد

وختمها بقوله :

لا ينفع الآباء ما سمكوا من ال

علياء حتى ترفع الأولاد

ملك يقيد خوفه ورجاؤه

ولقلما تتضافر الأضداد

وقال يهنئه بالنصر يوم حارم أيضا قصيدة أولها (لملكك ما تشاء من الدوام) يقول فيها :

حظيت من المعالي بالمعاني

ولاذ الناس بعدك بالأسامي

__________________

١ ـ هكذا في الأصل. ولعل الصواب : عزا له فوق السهاء إساد. والإسادة بفتح الهمزة وضمها : الوسادة

٢٧

عزيز المنتمى عالي المراقي

بعيد المرتمى غالي المسامي

وهي طويلة أيضا.

قال في الروضتين : قال الرئيس أبو يعلى : توجه نور الدين إلى ناحية حلب في بعض عسكره في الرابع والعشرين من صفر عند انتهاء خبر الفرنج إليه بعيثهم في أعمال حلب وإفسادهم ، وصادفه في طريقه المبشر بظفر عسكره الحلبي بالإفرنج المفسدين على حارم وقتل جماعة منهم وأسرهم ، ووصل مع المبشر عدة وافرة من رؤوس الفرنج المذكورين وطيف بها في دمشق ، قال : وعاد نور الدين إلى دمشق في بعض أيام رمضان بعد تهذيب حلب وأعمالها وتفقد أحوالها.

قال في الروضتين : في هذه السنة والتي بعدها كثرت الزلازل بالشام [أي بجميع بلاد الشلام] وتواصلت الأخبار من ناحية حلب وحماة بانهدام مواضع كثيرة وانهدام برج من أبراج أفامية ، وأما شيزر فإن الكثير من مساكنها انهدام على سكانه بحيث قتل منهم العدد الكثير ، وأما كفر طاب فهرب أهلها خوفا على أرواحهم.

سنة ٥٥٢

الزلازل العظمى

قال في الروضتين : فيها أيضا كثرت الزلازل بالشام في صفر وجمادى الأولى وجمادى الآخرة ، وترادفت الأخبار من ناحية الشمال بأن هذه الزلازل أثرت في حلب تأثيرا أزعج أهلها وأقلقهم ، وكذا في حمص وهدمت مواضع فيها وفي حماة وكفر طاب وأفامية ، وهدمت ما كان بني من مهدوم الزلازل. وتتابعت الزلازل في كثير من البلاد بما يطول به الشرح ، ووردت الأخبار من ناحية الشمال بما يسوء سماعه ويرعب النفوس ذكره بحيث انهدمت حماة وقلعتها وسائر دورها ومنازلها على أهلها من الشيوخ والشبان والأطفال والنسوان وهم العدد الكثير والجم الغفير بحيث لم يسلم منهم إلا القليل اليسير. وأما شيزر (١) فإن ربضها سلم

__________________

(١) قال الجلال السيوطي في كتاب الصلصلة في الزلزلة : أما شيزر فلم يسلم منها أحد إلا امرأة وخادم لها وهلك الباقون. وأما كفر طاب فلم يسلم منها أحد وساخت قلعتها وتل حرب انقسم نصفين فأبدى نواويس وبيوتا كثيرة في وسطه اه.

٢٨

إلا ما كان خرب أولا ، وأما حصنها المشهور فإنه انهدم على واليها تاج الدولة أبي العساكر ابن منقذ ومن تبعه إلا اليسير ممن كان خارجا ، وأما حلب فهدمت بعض دورها وخرج منها أهلها إلى ظاهر البلد وكفر طاب وأفامية وما والاها ودنا منها وبعد عنها من الحصون والمعاقل.

ثم حصلت بحلب أيضا فجاءتها زلزلة هائلة قلقلت من دورها وجدرانها العدد الكثير ، إلى أن قال : قال ابن الأثير : في سنة اثنتين وخمسين كان بالشام زلزلة شديدة ذات رجفات عظيمة أخربت البلاد وأهلكت العباد ، وكان أشدها بمدينة حماة وحصن شيزر فإنهما خربا بالمرة ، وكذا ما جاورهما كحصن بارين والمعرة وغيرهما من البلاد والقرايا ، وهلك تحت الهدم من الخلق ما لا يحصيه إلا الله تعالى ، وتهدمت الأسوار والدور والقلاع ، ولو لا أن الله تعالى منّ على المسلمين بنور الدين جمع وحفظ البلاد وإلا كان دخلها الفرنج بغير حصار ولا قتال. قال : ولقد بلغني من كثرة الهلكى أن بعض المعلمين بحماة ذكر أنه فارق المكتب لمهم فجاءت الزلزلة فأخربت الدور وسقط المكتب على الصبيان جميعهم ، قال المعلم : فلم يأت أحد يسأل عن صبي كان له في المكتب.

ذكر ملك نور الدين حصن شيزر بعد خرابها

قال أبو الفداء : إن صاحب شيزر كان قد ختن ولده وعمل دعوة للناس وأحضر جميع بني منقذ في داره ، فجاءت الزلزلة فسقطت الدار والقلعة عليهم فهلكوا عن آخرهم. وكان لصاحب شيزر بن منقذ المذكور حصان يحبه ولا يزال على باب داره ، فلما جاءت الزلزلة وهلك بنو منقذ تحت الهدم سلم منهم واحد وهرب يطلب باب الدار ، فلما خرج من الباب رفسه الحصان المذكور فقتله.

فلما خربت القلعة في هذه السنة بالزلزلة تسلم نور الدين القلعة والمدينة ، وكان ملكه لها ثالث جمادى الأولى من سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة واستولى على كل من فيها لبني منقذ وسلمها إلى مجد الدين أبي بكر بن الداية.

قال في الروضتين : قرأت في ديوان الأمير الفاضل مؤيد الدولة أسامة بن مرشد بن منقذ قصيدة يرثي أهله الذين هلكوا بالزلازل بحصن شيزر ، منها :

ما استدرج الموت قومي في هلاكهم

ولا تخرمهم مثنى ووحدانا

٢٩

فكنت أصبر عنهم صبر محتسب

وأحمد الخطب فيهم عز أو هانا

وأقتدي بالورى قبلي فكم فقدوا

أخا وكم فارقوا أهلا وجيرانا

لكن سقيت المنايا وسط جمعهم

رغا فخروا على الأذقان إذعانا

وفاجأتهم من الأيام قارعة

سقتهم بكؤوس الموت ذيفانا

ماتوا جميعا كرجع الطرف وانقرضوا

هل ما ترى تارك للحي إنسانا

أعزز علي بهم من معشر صبروا

على الحفيظة إن ذو لوثة لانا

لم يترك الدهر لي من بعد فقدهم

قلبا أجشمه صبرا وسلوانا

فلو رأوني لقالوا مات أسعدنا

وعاش للهم والأحزان أشقانا

لم يترك الموت منهم من يخبرني

عنهم فيوضح ما قالوه تبيانا

بادوا جميعا وما شادوا فوا عجبا

للخطب أهلك عمارا وعمرانا

هذي قصورهم أمست قبورهم

كذاك كانوا بها من قبل سكانا

ويح الزلازل أفنت معشري فإذا

ذكرتهم خلتني في القوم سكرانا

لا ألتقي الدهر من بعد الزلازل ما

حييت إلا كسير القلب حيرانا

أخنت على معشري الأدنين فاصطلمت

منهم كهولا وشبانا وولدانا

لم يحمهم حصنهم منها ولا رهبت

بأسا تبادره الأقران أزمانا

إن أقفرت شيزر منهم فهم جعلوا

منيع أسوارها بيضا وخرصانا

هم حموها فلو شاهدتهم وهم

بها لشاهدت آسادا وخفانا

تراهم في الوغى أسدا ويوم ندى

غيثا مغيثا وفي الظلماء رهبانا

بنو أبي وبنو عمي دمي دمهم

وإن أروني مناواة وشنآنا

يطيب النفس عنهم أنهم رحلوا

وخلفوني على الآثار عجلانا

قال ابن الوردي في تاريخه في الكلام على حوادث هذه السنة :

إذا ما قضى الله أمرا فمن

يرد القضاء الذي ينفذ

عجبت لشيزر إذ زلزلت

فما لبني منقذ منقذ

أخبار بني منقذ أصحاب شيزر

قال أبو الفدا : قال مؤيد الدولة أسامة بن مرشد في تاريخه وكان المذكور أفضل بني

٣٠

منقذ : في سنة ثمان وستين وأربعمائة بدأ جدي سديد الملك أبو الحسن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني بعمارة حصن الجسر وحصر به حصن شيزر. أقول [القائل أبو الفدا] : ويعرف الجسر المذكور في زماننا بجسر ابن منقذ ، وموضع الحصن اليوم تل خال من العمارة ، وهو غربي شيزر على مسافة قريبة منها. قال ابن الأثير : وحصن شيزر قريب من حماة بينهما نصف نهار وهو على جبل عال منيع لا يسلك إليه إلا من طريق واحدة.

قال أبو الفداء : رجعنا إلى كلام ابن منقذ قال : وكان في شيزر وال للروم اسمه دمتري ، فلما طالت المضايقة لدمتري المذكور راسل جدي هو ومن عنده من الروم في تسليم حصن شيزر إليه باقتراحات اقترحوها عليه ، منها مال يدفعه إلى دمتري المذكور ، ومنها إبقاء أملاك الأسقف الذي بها عليه فإنه استمر مقيما تحت يد جدي حتى مات بشيزر ، ومنها أن القنطارية وهم رجالة الروم يسلفهم ديوانهم لثلاث سنين ، فسلم إليهم جدي ما التمسوه وتسلم حصن شيزر يوم الأحد في رجب سنة أربع وسبعين وأربعمائة ، واستمر سديد الملك علي بن منقذ المذكور مالكها إلى أن توفي فيها في سادس المحرم سنة تسع وسبعين وأربعمائة ، وتولى بعده ولده أبو المرهف نصر بن علي ، إلى أن توفي سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وتولى بعده أخوه أبو العساكر سلطان بن علي ، إلى أن توفي فيها وتولى ولده محمد بن سلطان إلى أن مات تحت الردم هو وثلاثة أولاده بالزلزلة في هذه السنة المذكورة أعني سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة في يوم الاثنين ثالث رجب اه.

قال في الروضتين : إن الأمير أبا المرهف نصر بن علي بن المقلد بن نصر بن منقذ ابن نصر بن هشام لما حضره الموت استخلف أخاه الأمير أبا سلامة مرشد بن علي وهو والد أسامة فقال : والله لا وليتها ، ولأخرجن من الدنيا كما دخلتها. وكان عالما بالقرآن والأدب كثير الصلاح ، فولاها أخاه أبا العساكر سلطان بن علي وكان أصغر منه ، فاصطحبا أجمل صحبة مدة من الزمان ، فولد أبو سلامة مرشد عدة أولاد ذكور فكبروا وسادوا ، منهم عز الدولة أبو الحسن علي ومؤيد الدولة أسامة بن مرشد وغيرهما ، ولم يولد لأخيه سلطان ولد ذكر ، إلى أن كبر فجاءه أولاد فحسد أخاه على ذلك فكان كلما رأى صغر أولاده وكبر أولاد أخيه وسيادتهم ساءه ذلك وخافهم على أولاده. وسعى المفسدون بينهما فغيروا كلا منهما على أخيه فكتب الأمير سلطان إلى أخيه شعرا يعاتبه على أشياء بلغته عنه ، فأجابه بأبيات جيدة في معناها وكلهم كان أديبا شاعرا ، فمنها :

٣١

ظلوم أبت في الظلم إلا تماديا

وفي الصد والهجران إلا تناهيا

شكت هجرنا في ذاك والذنب ذنبها

فيا عجبا من ظالم جاء شاكيا

وطاوعت الواشين فيّ وطالما

عصيت عذولا في هواها وواشيا

ومال بها تيه الجمال إلى القلا

وهيهات أن أمسي لها الدهر قاليا

ولا ناسيا ما أودعت من عهودها

وإن هي أبدت جفوة وتناسيا

ولما أتاني من قريضك جوهر

جمعت المعالي فيه لي والمعانيا

وكنت هجرت الشعر حينا لأنه

تولى برغمي حين ولى شبابيا

وأين من الستين لفظ مفوق

إذا رمت أدنى القول منه عصانيا

وقلت أخي يرعى بنيّ وأسرتي

ويحفظ عهدي فيهم وذماميا

ويجزيهم ما لم أكلفه فعله

لنفسي فقد أعددته من تراثيا

فمالك لما أن حنى الدهر صعدتي

وثلم مني صارما كان ماضيا

تنكرت حتى صار برك قسوة

وقربك مني جفوة وتنائيا

فأصبحت صفر الكف مما رجوته

كذا اليأس قد عفّى سبيل رجائيا

على أنني ما حلت عما عهدته

ولا غيرت هذي السنون وداديا

فلا غرو عند الحادثات فإنني

أراك يميني والأنام شماليا

تهنّ بها عذراء لو قرنت بها

نجوم سماء لم تعدّ دراريا

تحلت بدرّ من صفاتك زانها

كما زان منظوم اللآلي الغوانيا

وعش بانيا للجود ما كان واهنا

مشيدا من الإحسان ما كان واهيا

قال : وكان الأمر فيه في حياة الأمير بعض الستر فلما مات سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة قلب أخوه لأولاده ظهر المجن وباداهم بما يسوؤهم ، وتمادت الأيام بينهم إلى أن قوي عليهم فأخرجهم من شيزر ، وكان أعظم الأسباب في إخراجهم ما حدثت به عن مؤيد الدولة أسامة بن مرشد قال : كنت من الشجاعة والإقدام على ما علمه الناس ، فبينا أنا بشيزر وإذ قد أتاني إنسان أخبرني أن بدجلة بغاربها أسدا ضاريا ، فركبت فرسي وأخذت سيفي وسرت إليه لأقتله ، ولم أعلم أحدا من الناس لئلا أمنع من ذلك ، فلما قربت من الأسد نزلت عن فرسي وربطته ومشيت نحوه ، فلما رآني قصدني ووثب فضربته بالسيف على رأسه فانفلق ثم أجهزت عليه وأخذت رأسه في مخلاة فرسي وعدت إلى شيزر ودخلت

٣٢

على والدتي وألقيت الرأس بين يديها وحدثتها الحال ، فقالت : يا بني تجهز للخروج من شيزر فو الله لا يمكنك عمك من المقام ولا أحدا من إخوتك وأنتم على هذه الحال من الإقدام والجرأة.

فلما كان الغد أمر عمي بإخراجنا من عنده وألزمنا به إلزاما لا مهلة فيه فتفرقنا في البلاد ، فقصدوا الملك العادل نور الدين وشكوا إليه ما لقوا من عمهم فلم يمكنه قصده ولا الأخذ بثأرهم وإعادتهم إلى أوطانهم لاشتغاله بجهاد الفرنج ولخوفه من أن تسلم شيزر إلى الفرنج ، وبقي في نفسه.

وتوفي الأمير سلطان وولي بعده أولاده فبلغ نور الدين عنهم مراسلة الفرنج فاشتد ما في نفسه وهو ينتظر الفرصة ، فلما خربت القلعة بالزلزلة ولم يسلم منها أحد كان بالحصن فبادر إليها وملكها وأضافها إلى بلاده وعمرها وأسوارها وأعادها كأن لم تخرب ، وكذلك فعل بمدينة حماة وكل ما خرب بالشام بهذه الزلزلة فعادت البلاد كأحسن ما كانت.

ذكر وصول ولد السلطان مسعود للنزول على أنطاكية

ومجيء العادل نور الدين إلى حلب ومرضه وما جرى بسبب ذلك

قال في الروضتين : قال الرئيس أبو يعلى : وفي العشر الثاني من جمادى الآخرة تواصلت الأخبار بوصول ولد السلطان مسعود في خلق كثير للنزول على أنطاكية ، وأوجبت الصورة تقرير المهادنة بين نور الدين وملك الفرنج وتكررت المراسلات بينهما والاقتراحات والمشاجرات بحيث فسد الأمر ولم يستقر على مصلحة. ووصل نور الدين إلى مقر عزه في بعض عسكره وأقر باقيه ومقدميه مع العرب بإزاء أعمال المشركين.

قال : وفي ثالث رجب توجه نور الدين إلى ناحية حلب وأعمالها لتجديد مشاهدتها وإمعان النظر في حمايتها عند ما عاث المشركون فيها وقربت عساكر ابن مسعود منها. قال بعد ذلك : وقد تقدم من ذكر نور الدين ونهوضه في عساكره من دمشق إلى بلاد الشام

٣٣

عند انتهاء الخبر إليه بتجمع أحزاب الفرنج وقصدهم لها وطمعهم بحكم ما حدث من الزلازل والرجفات المتتابعة لها وما هدمت من الحصون والقلاع والمنازل في أعمالها وثغورها لحمايتها والذب عنها وإيناس من سلم من أهل حمص وشيزر وكفر طاب وحماة وغيرها ، بحيث اجتمع إليهم العدد الكثير والجم الغفير من رجال المعاقل والأعمال والتركمان ، وخيم بهم بإزاء جمع الفرنج بالقرب من أنطاكية وحصرهم بحيث لم يقدر فارس منهم على الإقدام على الفساد.

فلما مضت أيام من شهر رمضان عرض لنور الدين ابتداء مرض حاد ، فلما اشتد به وخاف منه على نفسه استدعى أخاه نصرة الدين أمير أميران محمد وأسد الدين شيركوه وأعيان الأمراء والمقدمين وأوحى إليهم بما اقتضاه رأيه واستصوبه ، وقرر معهم كون أخيه نصرة الدين القائم في منصبه من بعده والساد لثلمة فقده لاشتهاره بالشهامة وشدة البأس يكون مقيما بحلب ويكون أسد الدين في دمشق لحفظ أعمالها من فساد الفرنج.

وتواصلت الأراجيف بنور الدين فقلقت النفوس وأزعجت القلوب فتفرقت جموع المسلمين واضطربت الأعمال وطمع الإفرنج فقصدوا مدينة شيزر وهجموها وحصلوا فيها فقتلوا وأسروا ونهبوا ، وتجمع من عدة جهات خلق كثير من رجال الإسماعيلية وغيرهم وظهروا عليهم فقتلوا منهم وأخرجوهم من شيزر.

واتفق وصول نصرة الدين إلى حلب فأغلق والي القلعة مجد الدين في وجهه الأبواب وعصى عليه فثارت أحداث حلب وقالوا : هذا صاحبنا وملكنا بعد أخيه ، فزحفوا في السلاح إلى باب البلد وكسروا أغلاقه ودخل نصرة الدين في أصحابه وحصل في البلد ، وقامت الأحداث على والي القلعة باللوم والإنكار والوعيد.

واقترحوا على نصرة الدين اقتراحات من جملتها إعادة رسمهم في التأذين بحي على خير العمل ومحمد وعلي خير البشر ، فأجابهم إلى ما رغبوا فيه وأحسن القول لهم والوعد ، ونزل في داره وأنفذ والي القلعة إليه وإلى الحلبيين يقول : مولانا نور الدين حي في نفسه وما كان إلى ما فعل حاجة ، فقيل الذنب في ذلك للوالي. وصعد إلى القلعة من شاهد نور الدين حيا يفهم ما يقول وما يقال له ، فانكر ما جرى وقال : أنا أصفح للأحداث عن هذا الخطل ولا أؤاخذهم بالزلل وما طلبوا إلا صلاح حال أخي وولي عهدي من بعدي.

٣٤

وشاعت الأخبار وانتشرت البشائر في الأقطار بعافيته فأنست القلوب بعد الاستيحاش وابتهجت النفوس بعد القلق والانزعاج وتزايدت العافية وصرفت الهمم إلى مكاتبات المقدمين بالعود إلى جهات الأعداء.

وكان نصرة الدين قد ولي مدينة حران وما أضيف إليها وتوجه نحوها ، ولما تناصرت الأخبار بالبشائر إلى أسد الدين بدمشق بعافية نور الدين واعتزامه على استدعاء العساكر الإسلامية للجهاد سارع بالنهوض من دمشق إلى حلب ووصل إليها في خيله فاجتمع بنور الدين فأكرم لقياه وشكر مسعاه ، وشرعوا في حماية الأعمال من شر من جاورهم من الأعداء اه.

قال في الزبد والضرب : لما أذن نصرة الدين محمد بن زنكي للشيعة أن يزيدوا في الأذان حي على خير العمل محمد وعلي خير البشر على عادتهم من قبل مالوا إليه لذلك وثارت فتنة بين السنة والشيعة ، ونهبت الشيعة مدرسة ابن أبي عصرون وغيرها من آدر أهل السنة ، ثم ترجح نور الدين إلى الصلاح فذهب أمير أميران محمد بن زنكي إلى حران فملكها.

قال الصاحب كمال الدين : وسير نور الدين إلى قاضي حلب جدي أبي الفضل هبة الله بن أبي جرادة وكان يلي بها القضاء والخطابة والإمامة وقال له : تمضي إلى الجامع وتصلي بالناس ويعاد الأذان على ما كان عليه ، فنزل جدي وجلس شمالية الجامع تحت المنارة واستدعى المؤذنين وأمرهم بالأذان المشروع على رأي أبي حنيفة ، فخافوا ، فقال لهم : ها أنا أسفل منكم ولي أسوة بكم ، فصعد المؤذنون وشرعوا في الأذان ، فاجتمع تحت المنارة من عوام الشيعة خلق كثير فقام القاضي إليهم وقال : يا أصحابنا وفقكم الله تعالى ، من كان على طهارة فليدخل وليصل ومن كان محدثا فليجدد وضوءه ويصل ، فإن المولى نور الدين بحمد الله تعالى في عافية وقد تقدم بما يفعل فانصرفوا راشدين. فانصرفوا وقالوا : أيش نقول لقاضينا ، ونزل المؤذنون وصلى بالناس وسكنت الفتنة اه.

أقول : ذكر ابن الأثير خبر مرض العادل نور الدين في حلب ومجيء أسد الدين شيركوه إليه من دمشق في حوادث سنة ٥٥٤ ، والأصح أن ذلك كان في سنة ٥٥٢ كما قدمناه نقلا عن الروضتين ، وقد مرض العادل نور الدين في سنة ٥٥٤ أيضا كما سيأتي

٣٥

فاشتبه على ابن الأثير هذه بتلك ، ونحن نذكر أيضا عبارة ابن الأثير في حوادث سنة ٥٥٤ لأن فيها زيادة فوائد على ما تقدم.

قال : في هذه السنة مرض نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب مرضا شديدا أرجف بموته ، وكان بقلعة حلب ومعه أخوه الأصغر أميران (محمد) فجمع الناس وحصر القلعة وشيركوه وهو أكبر أمراء حمص ، فبلغه خبر موته فسار إلى دمشق ليتغلب عليها وبها أخوه نجم الدين أيوب ، فأنكر عليه أيوب ذلك وقال : أهلكتنا والمصلحة أن تعود إلى حلب ، فإن كان نور الدين حيا خدمته في هذا الوقت وإن كان قد مات فإنا في دمشق نفعل ما نريد من ملكها ، فعاد إلى حلب مجدا وصعد القلعة وأجلس نور الدين في شباك يراه الناس وكلمهم ، فلما رأوه حيا تفرقوا عن أخيه أمير أميران فسار إلى حران فملكها ، فلما عوفي نور الدين قصد حران ليخلصها فهرب أخوه منه وترك أولاده بحران في القلعة فملكها نور الدين وسلمها إلى زين الدين علي نائب أخيه قطب الدين صاحب الموصل.

ثم سار نور الدين بعد أخذ حران إلى الرقة وبها أولاد أميرك الجاندار وهو من أعيان الأمراء وقد توفي وبقي أولاده ، فنازلها فشفع جماعة من الأمراء فيهم فغضب من ذلك وقال : هلا شفعتم في أولاد أخي لما أخذت منهم حران وكانت الشفاعة فيهم من أحب الأشياء إلي ، فلم يشفعهم وأخذها منهم اه.

سنة ٥٥٣

ذكر استيلاء الفرنج على حارم

قال في الروضتين : قال الرئيس أبو يعلى : في أوائل المحرم تناصرت الأخبار من ناحية الفرنج المقيمين بالشام بمضايقتهم لحصن حارم ومواظبتهم على رميه بحجارة المجانيق ، إلى أن ضعف وملك بالسيف وتزايد طمعهم في شن الغارات في الأعمال الشامية وإطلاق الأيدي في العيث والفساد في معاقلها وضياعها بحكم تفرق العساكر الإسلامية والخلف الواقع بينهم باشتغال نور الدين بعقابيل المرض العارض له ، ولله المشيئة التي لا تدافع والأقضية التي لا تمانع.

٣٦

وقال : وفي صفر ورد الخبر المبشر بنزول نور الدين من حلب للتوجه إلى دمشق ، ووصل إليها وحصل في قلعته سادس ربيع الأول سالما في نفسه وحملته ، ولقي بأحسن زي وترتيب وتجمل واستبشر العالم بمقدمه المسعود وابتهجوا وبالغوا في شكر الله تعالى على سلامته وعافيته والدعاء له بدوام أيامه ، وشرع في تدبير أمر الأجناد والتأهب للجهاد.

سنة ٥٥٤

ذكر مرض العادل نور الدين وما جرى بسبب ذلك

قال في الروضتين : في هذه السنة عرض لنور الدين مرض تزايد به بحيث أضعف قوته ، ووقع الإرجاف به من حساد دولته والمفسدين من عوام رعيته ، وارتاعت الرعايا وأعيان الأجناد وضاقت صدور قطان الثغور والبلاد خوفا عليه وإشفاقا من سوء يصل إليه لا سيما أخبار الروم والفرنج ، ولما أحس من نفسه بالضعف تقدم إلى خواص أصحابه وقال لهم : إنني قد عزمت على وصية إليكم بما وقع في نفسي فكونوا لها سامعين مطيعين وبشروطها عاملين ، إني مشفق على الرعايا وكافة المسلمين ممن يكون بعدي من الولاة الجاهلين والظلمة الجائرين ، وإن أخي نصرة الدين أعرف من أخلاقه وسوء أفعاله ما لا أرتضي معه بتولية أمر من أمور المسلمين ، وقد وقع اختياري على أخي قطب الدين مودود متولي الموصل لما يرجع إليه من عقل وسداد ودين وصحة اعتقاد. فحلفوا له وأنفذ رسله إلى أخيه بإعلامه صورة الحال ليكون لها مستعدا ، ثم تفضل الله تعالى بإبلاله من المرض وتزايد القوة في النفس والحس وجلس للدخول إليه والسلام عليه.

وكان الأمير مجد الدين النائب في حلب قد رتب في الطرقات من يحفظ السالكين فيها ، فظفر المقيم في منبج برجل حمال من أهل دمشق ومعه كتب فأنفذ بها إلى مجد الدين متولي حلب ، فلما وقف عليها أمر بصلب متحملها وأنفذها في الحال إلى نور الدين ، فوجدها من أمين الدين زين الحاج أبي القاسم متولي ديوانه ومن عز الدين والي القلعة مملوكه ومن محمد بن جفري أحد حجابه إلى أخيه نصرة الدين أمير أميران صاحب حران بإعلامه بوقوع اليأس من أخيه ويحضونه على المبادرة والإسراع إلى دمشق لتسلم إليه. فلما عرف نور الدين ذلك عرض الكتب على أربابها فاعترفوا بها فأمر باعتقالهم ، وكان رابعهم سعد الدين عثمان ، وكان قد خاف فهرب قبل ذلك بيومين.

٣٧

وورد في الحال كتاب صاحب قلعة جعبر يخبر بقطع نصرة الدين الفرات مجدا إلى دمشق ، فأنهض أسد الدين في العسكر المنصور لرده ومنعه من الوصول ، فاتصل به خبر عوده إلى مقره عند معرفته بعافية أخيه ، فعاد أسد الدين إلى دمشق ، ووصلت رسل الملك العادل من ناحية الموصل بجواب ما تحمله إلى أخيه قطب الدين وفارقوه وقد برز في عسكره متوجها إلى ناحية دمشق ، فلما فصل عن الموصل اتصل به خبر عافيته فأقام بحيث هو وأنفذ وزيره جمال الدين أبا جعفر محمد بن علي لكشف الحال ، فوصل إلى دمشق ثامن صفر في أحسن زي وأبهى تجمل ، وخرج إلى لقائه الخلق الكثير.

قال : وهذا الوزير قد ألهمه الله تعالى من جميل الأفعال وحميد الخلال وكرم النفس وإنفاق أمواله في أبواب البر والصدقات والصلات ومستحسن الآثار في مدينة الرسول عليه‌السلام ومكة ذات الحرم والبيت المعظم شرفه الله تعالى ما قد شاع ذكره وتضاعف عليه حمده وشكره (١) واجتمع مع نور الدين وجرى بينهما من المفاوضات والتقريرات ما انتهى إلى عوده إلى جهته بعد الإكرام له وتوفيته حقه من الاحترام ، وأصحبه برسم قطب الدين أخيه وخواصه من الملاطفة ما اقتضته الحال الحاضرة ، وتوجه معه الأمير أسد الدين.

وقال ابن أبي طي : لما وصل الوزير جمال الدين إلى حلب تلقاه موكب نور الدين وفيه وجوه الدولة وكبراء المدينة وأنزل في دار ابن الصوفي وأكرم غاية الإكرام وأعيد إلى صاحبه شاكرا عن نور الدين ، وسير معه الأمير أسد الدين شيركوه رسولا إلى قطب الدين بالشكر له والثناء وأنفذت معه هدايا سنية ، فسار وعاد إلى حلب مكرما ، فوجد نور الدين عازما على الخروج إلى دمشق لما بلغه من إفساد الفرنج. ثم أنهض أسد الدين في قطعة من العسكر للإغارة على صيدا ، فسار ومعه أخوه نجم الدين أيوب وأولاده ولم يشعر الفرنج إلا وهو قد عاث في بلد صيدا وقتل وأسر عالما عظيما وغنم غنيمة جليلة ، وعاد فاجتمع بنور الدين على جسر الخشب. قلت : وهذا هو ما تقدم ذكره بعد المرضة الأولى ، وكأن ابن أبي طي جعل المرضتين واحدة بحلب وأبو يعلى ذكر أن الأولى بحلب والثانية بدمشق وهو أصح اه.

__________________

(١) انظر ترجمته في ابن الأثير في حوادث سنة ٥٥٩ وفي ابن خلكان وفي الروضتين.

٣٨

سنة ٥٥٥

قال في تحف الأنباء : في سنة خمس وخمسين وخمسمائة تاسع ذي القعدة سار ربنلد ملك أنطاكية إلى البلاد التي أخذها نور الدين من جوسلين ونهب البلاد التي كانت بها الأرمن والسريان فقط ، فلما رجع إلى أنطاكية قبل وصوله إليها خرج إليه مجد الدين نائب حلب وصحبته العساكر وحاربه وأخذه أسيرا ووضع في رجليه قيدا وأحضره معه إلى حلب ١ ه‍.

سنة ٥٥٧

ذكر حصر نور الدين حارم

قال ابن الأثير : في هذه السنة جمع نور الدين محمود بن زنكي العساكر بحلب وسار إلى قلعة حارم وهي للفرنج غربي حلب (قدمنا أخذهم لها سنة ٥٥٣) فحصرها وجد في قتالها ، فامتنعت عليه بحصانتها وكثرة من بها من فرسان الفرنج ورجّالتهم وشجعانهم ، فلما علم الفرنج ذلك جمعوا فارسهم وراجلهم من سائر البلاد وحشدوا واستعدوا وساروا نحوه ليرحلوه عنها ، فلما قاربوه طلب منهم المصاف فلم يجيبوه إليه وراسلوه وتلطفوا الحال معه ، فلما رأى أنه لا يمكنه أخذ الحصن ولا يجيبونه إلى المصاف عاد إلى بلاده ، وممن كان معه في هذه الغزوة مؤيد الدولة أسامة بن مرشد بن منقذ الكناني ، وكان من الشجاعة في الغاية ، فلما عاد إلى حلب دخل إلى مسجد شيزر وكان قد دخله في العام الماضي سائرا إلى الحج ، فلما دخله الآن كتب على حائطه :

لك الحمد يا مولاي كم لك منة

علي وفضل لا يحيط به شكري

نزلت بهذا المسجد العام قافلا

من الغزو موفور النصيب من الأجر

ومنه رحلت العيس في عامي الذي

مضى نحو بيت الله والركن والحجر

فأديت مفروضي وأسقطت ثقل ما

تحملت من وزر الشبيبة عن ظهري

٣٩

سنة ٥٥٨

ذكر انهزام نور الدين محمود من الفرنج

قال ابن الأثير : في هذه السنة انهزم نور الدين محمود بن زنكي من الفرنج تحت حصن الأكراد [بلدة صغيرة قريبة من طرابلس فوق جبل عال يراها المتوجه من حمص إلى طرابلس من بعيد]. وهي الوقعة المعروفة بالبقيعة تحت حصن الأكراد محاصرا لها وعازما على قصد طرابلس ومحاصرتها. فبينما الناس يوما في خيامهم وسط النهار لم يرعهم إلا ظهور الفرنج من وراء الجبل الذي عليه حصن الأكراد ، وذلك أن الفرنج اجتمعوا واتفق رأيهم على كبسة المسلمين نهارا فإنهم يكونون آمنين ، فركبوا من وقتهم ولم يتوقفوا حتى يجمعوا عساكرهم وساروا مجدين ، فلم يشعر بذلك المسلمون إلا وقد قربوا منهم ، فأرادوا منعهم فلم يطيقوا ذلك ، فأرسلوا إلى نور الدين يعرفونه الحال ، فرهقهم الفرنج بالحملة فلم يثبت المسلمون ، وعادوا يطلبون معسكر المسلمين والفرنج في ظهورهم ، فوصلوا معا إلى العسكر النوري فلم يتمكن المسلمون من ركوب الخيل وأخذ السلاح إلا وقد خالطوهم فأكثروا القتل والأسر ، وكان أشدهم على المسلمين الدوقس الرومي ، فإنه كان قد خرج من بلاده إلى الساحل في جمع كثير من الروم فقاتلوا محتسبين في زعمهم فلم يبقوا على أحد ، وقصدوا خيمة نور الدين وقد ركب فيها فرسه ونجا بنفسه ، ولسرعته ركب الفرس والشبحة في رجله فنزل إنسان كردي قطعها فنجا نور الدين وقتل الكردي فأحسن نور الدين إلى مخلفيه ووقف عليهم الوقوف.

ونزل نور الدين على بحيرة قدس بالقرب من حمص وبينه وبين المعركة أربع فراسخ وتلاحق به من العسكر وقال له بعضهم : ليس من الرأي أن تقيم ههنا فإن الفرنج ربما حملهم الطمع على المجيء إلينا فنؤخذ ونحن على هذا الحال ، فوبخه وأسكته وقال : إذا كان معي ألف فارس لقيتهم ولا أبالي بهم ، وو الله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام.

ثم أرسل إلى حلب ودمشق وأحضر الأموال والثياب والخيام والسلاح والخيل فأعطى الناس عوض ما أخذ جميعه بقولهم فعاد العسكر كأن لم تصبه هزيمة ، وكل من قتل أعطي إقطاعه لأولاده.

٤٠