إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٢

المجردين ليقطعوا عليهم الطريق ، ففاتهم قبجق ومن معه وعبروا الفرات واتصلوا بقازان ملك التتر فأحسن إليهم وأقاموا عنده حتى كان منهم ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

سنة ٦٩٨

ذكر قتل الملك المنصور حسام الدين لاجين

وسلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون

في هذه السنة قتل الملك المنصور حسام الدين لاجين ، قتله جماعة من المماليك الصبيان الذين اصطفاهم لنفسه ليلة الجمعة حادي عشر ربيع الآخر. وأقيم في السلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون وهي سلطنته الثانية.

ما احتج به قازان ملك التتر في قصده هذه البلاد أيضا

قال أبو الفداء : في هذه السنة أرسل سيف الدين بلبان الطباخي [نائب السلطنة بحلب] عسكرا إلى ماردين فنهبوا ربض ماردين حتى نهبوا الجامع وعملوا الأفعال الشنيعة ، وذلك كان حجة لقازان في قصد البلاد على ما سنذكره.

في هذه السنة في رمضان الموافق لحزيران من شهور الروم جرد الملك المظفر عسكر حماة إلى حلب بسبب حركة التتر إلى جهة الشام ، فسرنا من حماة إلى المعرة. وورد كتاب سيف الدين بلبان الطباخي بتراخي الأخبار ، فعدنا من المعرة إلى حماة فورد كتابه بطلبنا فأعادنا الملك المظفر من حماة في يوم وصولنا إليها وهو يوم الأربعاء سابع عشر رمضان وحزيران فسرنا ودخلنا حلب في الثاني والعشرين من رمضان من هذه السنة ، ثم أرسل الملك المظفر وطلبني من نائب السلطنة بمفردي فأعطاني سيف الدين بلبان الطباخي دستورا فسرت إلى حماة إلى خدمة ابن عمي الملك المظفر واستمر أخواي وغيرهما من الأمراء والعسكر مقيمين بحلب ، وأقمت أنا عند الملك المظفر بحماة اه.

ثم قال : وفيها سار مولانا السلطان الملك الناصر من الديار المصرية بعساكر مصر إلى بلاد غزة وأقام بها حتى خرجت هذه السنة.

٢٨١

سنة ٦٩٩

ذكر المصاف العظيم الذي كان بين المسلمين والتتر

واستيلاء التتر على دمشق وخروجهم منها وعزل سيف الدين بلبان

عن حلب وتوليتها إلى قراسنقر للمرة الثانية

قال ابن إياس في حوادث هذه السنة : فيها جاءت الأخبار من حلب بأن قازان ملك التتار قد زحف على البلاد ووصل أوائل عسكره إلى الفرات وهو في عسكر ثقيل لا يحصى ، وغازان هذا هو ابن أرغون بن أبغا بن هولاكو الذي أخرب بغداد وقتل الخليفة وجرى منه ما جرى.

وكان سبب مجيء قازان وزحفه على البلاد هو أن قبجق نائب الشام لما بلغه أن الملك المنصور لاجين أرسل بالقبض عليه أخذ أولاده وعياله وبركه وماله وخرج من الشام وتوجه هاربا إلى القان قازان ، وحسن له أن الملك الناصر صغير وأن الأمراء والعسكر بينهم الخلف وأنه إذا زحف القان غازان على البلاد لا يجد من يرده عنها ، فعند ذلك جمع القان غازان عساكر عظيمة نحو مائتي ألف مقاتل ، ولما وصل الخبر إلى الديار المصرية اضطربت الأرض واجتمعت الأمراء بالقلعة وضربوا مشورة فوقع الاتفاق على أن الأتابكي بيبرس الجاشنكير يتوجه إلى حلب ومعه خمسمائة مملوك قبل خروج السلطان ، وخرج الأتابكي بيبرس على جرائد الخيل مع العسكر ، ثم خرج الملك الناصر محمد بعده في خامس عشر صفر ، وكان صحبته الخليفة الإمام أحمد الحاكم بأمر الله والقضاة الأربعة ، وكان قاضي القضاة الشافعي حينئذ شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد ، وخرج مع السلطان وسائر الأمراء والعساكر فجدّ السلطان في المسير حتى وصل إلى دمشق في ثامن ربيع الأول سنة تسع وتسعين وسبعمائة ، ثم خرج من دمشق فتلاقى مع جاليش غازان في مكان يعرف بسلمية قرب بعلبك ، فوقع بينهما واقعة عظيمة لم يسمع بمثلها وقتل من الفريقين ما لا يحصى عددهم ، فانكسر عسكر السلطان وهرب الملك الناصر إلى بعلبك ونهب بركه وسائر برك العسكر ولم يبق معه من العسكر إلا طائفة يسيرة.

ثم إن القان غازان زحف على ضياع الشام ونهب ما فيها وسبى أهلها ، فلما بلغ أهل الشام ذلك خافوا على أنفسهم من غازان فيما فعله في أهل الضياع فتشاوروا مع جماعة

٢٨٢

من العلماء الذين كانوا بدمشق وخرجوا إلى غازان يطلبون منه الأمان ، فخرج قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة الشافعي والشيخ زين الدين الفارقي والشيخ تقي الدين بن تيمية الحراني والقاضي نجم الدين ابن الصرصري والقاضي عز الدين بن تركي والشيخ عز الدين ابن القلانسي والقاضي جلال الدين القزويني وغير هؤلاء جماعة العلماء الصلحاء ، فلما دخلوا على غازان ووقفوا بين يديه وقف الترجمان وتكلم مع القان غازان في أمرهم وأنهم جاؤوا يطلبون الأمان منه ، فقال له غازان : قل لهم إني قد أرسلت لهم الأمان قبل حضورهم عندي ، فرجعوا إلى دمشق واجتمع في جامع بني أمية الجم الغفير وقرؤا على الناس الأمان الذي أرسله القان غازان إلى أهل دمشق ، فلما قرىء عليهم ذلك الأمان وسمعوه فرح الناس بذلك وحصل عندهم سكون بعدما كانوا في اضطراب من أمر غازان. ثم حضر الأمير قبجق الذي كان نائب الشام وهرب إلى غازان ونزل بالميدان الأخضر وأرسل يقول إلى نائب قلعة الشام : سلم إلينا القلعة ولا تحوجنا أن نحاصرك وتغلب بعد ذلك ، فأرسل نائب القلعة يقول لقبجق : ليس لك عندي إلا السيف ، وكيف أسلم القلعة والملك الناصر على قيد الحياة.

قال أبو الفداء : وكاتب النائب بالقلعة الأمير سيف الدين أرحواش المنصوري فقام في حفظها أتم قيام وصبر على الحصار ولم يسلمها وأحرق الدور التي حوالي القلعة والمدارس ، فاحترقت دار السعادة التي كانت مقر نواب السلطنة ، وكذلك احترق غيرها من الأماكن الجليلة. وأقام قازان بمرج دمشق المعروف بمرج الزنبقية ثم عاد إلى بلاده الشرقية وقرر في دمشق قبجق وجرد صحبته عدة من المغل.

قال ابن إياس : كان رحيل قازان عن دمشق يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى وترك بها أميرا من التتار يقال له الأمير قطلو شاه ومعه عسكر من التتار ، هذا ما كان من أمر القان قازان. وأما ما كان من أمر الملك وأمر عسكره فإنه لما انكسر ودخل إلى بعلبك أقام بها أياما ثم قصد التوجه إلى الديار المصرية وجد في السير حتى وصل إلى القاهرة ، فدخل على حين غفلة وطلع القلعة وقد نهب جميع ما كان معه من البرك وكذلك الأمراء والعساكر ، فلما طلع القلعة فتح الزردخانة وفرق ما كان فيها من الملبوس والسلاح على العسكر ، ثم فتح خزائن المال وأنفق على العسكر فأعطى كل مملوك ثمانين دينارا وجماعة منهم أعطاهم خمسة وسبعين دينارا وجماعة منهم خمسة وستين دينارا ، وأعطى مماليك

٢٨٣

الأمراء كل واحد خمسين دينارا ، ثم أنفق على عسكر الشام الذي حضروا بصحبته فأعطى كل واحد منهم عشرة دنانير ذهبا وعشرة أرادب شعيرا وعشرة أرادب قمحا ، ثم أنفق على سائر الأمراء والمقدمين والطبلخاناه والعشروات لكل واحد منهم على قدر مقامه. وكان القائم في تدبير مملكته الأمير سلار نائب السلطنة والأتابكي بيبرس الجاشنكير.

ثم إن الملك الناصر قصد العود إلى محاربة قازان فبرز بخيامه في الريدانية وخرج من القاهرة ثانيا وكان صحبته الخليفة الإمام أحمد والقضاة الأربعة وسائر الأمراء والعساكر ، فلما أقام في الريدانية وجدّ في السير فتقدم في جاليش العسكر الأمير سلار نائب السلطنة والأتابكي بيبرس الجاشنكير ، فلما وصل الجاليش إلى دمشق تلقاهم الأمير قبجق وأظهر الطاعة للسلطان واجتمع بالأمراء وأشار عليهم بأن السلطان يرجع إلى القاهرة ولا يدخل دمشق وسيجيئه الأمر كما يختار ، فعند ذلك رجع السلطان إلى القاهرة ، وكان رجوعه إليها في ثامن عشر شهر رمضان من سنة تسع وتسعين وستمائة.

قال أبو الفداء : لما بلغ العساكر المصرية مسير قازان عن الشام خرجوا من مصر في العشر الأول من شهر رجب من هذه السنة وخرج السلطان إلى الصالحية ، ثم اتفق الحال على مقام السلطان بالديار المصرية ومسير سلار وبيبرس الجاشنكير بالعساكر إلى الشام ، فسار المذكوران بالعساكر ، وكان قبجق وبكتمر السلحدار والألبكي قد كاتبوا المسلمين في الباطن وصاروا إلى جهة ديار مصر ، وبلغ ذلك التتر المجردين بدمشق فخافوا وساروا من وقتهم إلى البلاد الشرقية وخلا الشام منهم ، ووصل قبجق والألبكي والسلحدار إلى الأبواب السلطانية فأحسن إليهم السلطان.

ووصل سلار وبيبرس الجاشنكير إلى دمشق وقررا أمور الشام ورتّبا في نيابة السلطنة بدمشق الأمير جمال الدين آقوش الأفرم على عادته ، ورتّبا قراسنقر في نيابة السلطنة بحلب بعد عزل سيف الدين بلبان الطباخي عنها وإعطائه إقطاعا بديار مصر. (ثم قال) : وسار قراسنقر إلى حلب ثم عاد سلار والجاشنكير بالعساكر إلى الديار المصرية.

قال ابن إياس : قال القاضي محيي الدين بن فضل الله : حكى لي الأمير قبجق بعد أن جرى ما جرى ورجع إلى القاهرة وتلاقى عسكر السلطان مع عسكر غازان فكاد غازان ينكسر وهمّ بالهرب ، فطلبني ليضرب عنقي لأني كنت السبب في مجيئه إلى دمشق ، فلما حضرت بين يديه قال لي : ما هذا الحال؟ فقلت : ما ثمّ إلا الخير والسلامة فأنا أخبر

٢٨٤

بعساكرنا فإن لهم أول صدمة ثم يولون عن القتال ، فالقان يصبر ساعة فما يبقى قدّامه أحد منهم. فصبر ساعة فكان ما قاله صحيحا ، ولما انكسر عسكر مصر أراد أن يزحف عليهم بما معه من العسكر ، فقلت في نفسي : متى زحف عليهم لم يبق منهم أحد فقلت له : القان يصبر ساعة فإن عسكر مصر لهم حيل وخداع وربما يكون لهم كمين وراء الجبل فيخرج علينا فتنكسر ، فسمع لي ثم وقف ساعة حتى أبعدتم عنا ولم يبق منكم أحد قدامه ، فلو زحف عليكم ما بقي منكم أحد فلو لا أنا ما سلم منكم أحد فكان الأمر كما قيل :

ولو شئت قابلت المسيء بفعله

ولكنني أبقيت للصلح موضعا

وقد بسط ابن كثير في حوادث هذه السنة ما لاقته دمشق من الفظائع والشدائد.

قال أبو الفداء : وحينما كان قازان بجموعه في البلاد الشامية طمع الأرمن في البلاد التي افتتحها المسلمون منهم وعجز المسلمون عن حفظها فتركها الذين بها من العسكر والرجالة وأخلوها ، فاستولى الأرمن عليها وارتجعوا حموص وتل حمدون وكوبر وسرفندكار والنقير وغيرها ، ولم يبق مع المسلمين من جميع تلك القلاع غير قلعة حجر شغلان واستولى الأرمن على غيرها من الحصون والبلاد التي كانت جنوبي نهر جيحان.

سنة ٧٠٠ سبعمائة

عود التتر إلى بلاد الشام

قال أبو الفداء : في هذه السنة عاودت التتر قصد الشام وعبروا الفرات في ربيع الآخر وجفلت المسلمون منهم وخلت بلاد حلب ، وسار قراسنقر بعسكر حلب إلى حماة ، وبرز زين الدين كتبغا وعساكر حماة إلى ظاهر حماة في الثاني والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة وسادس كانون الأول ، وكذلك وصلت العساكر من دمشق واجتمعوا بحماة وأقامت التتر ببلاد سرمين والمعرة وتيزين والعمق وغيرها ينهبون ويقتلون (١) ،

__________________

(١) قال ابن خطيب الناصرية في ترجمة غازان : لما كان سنة سبعمائة جمع أيضا غازان عسكره وحشد وقدم إلى بلاد الشام فجفل الناس وخلت البلاد الحلبية وأخذ التتار في الإفساد على عادتهم وحاصروا قلعة حلب ولم يحصلوا منها على طائل ولا أخذوها إلا أنهم نهبوا قراها.

٢٨٥

وسار السلطان بالعساكر الإسلامية ووصل إلى العوجا. واتفق في تلك المدة تدارك الأمطار إلى الغاية واشتدت الوحول حتى انقطعت الطرقات وتعذرت الأقوات وعجزت العساكر عن المقام على تلك الحال ، فرحل السلطان والعساكر وعادوا إلى الديار المصرية فوصل إليها في عاشر جمادى الأولى من هذه السنة.

وأما التتر فإنهم أقاموا ينتقلون في بلاد حلب نحو ثلاثة أشهر ، ثم إن الله تعالى تدارك المسلمين بلطفه ورد التتر على أعقابهم بقدرته ، فعادوا إلى بلادهم وعبروا الفرات في أواخر جمادى الآخرة من هذه السنة الموافق لأوائل آذار من شهور الروم ورجع عسكر حلب مع قراسنقر إلى حلب وتراجعت الجفال إلى أماكنهم. وفي هذه السنة توفي سيف الدين بلبان الطباخي الذي كان نائبا بحلب ودفن بأرض الرملة وورثه السلطان بالولاء.

سنة ٧٠١

ذكر الإغارة على سيس

قال أبو الفداء : في هذه السنة جرد من مصر بدر الدين بكتاش أمير سلاح وأيبك الخزندار معهما العساكر فساروا إلى حماة ، وورد الأمر إلى زين الدين كتبغا نائب السلطنة بحماة أن يسير بالعساكر إلى بلاد سيس ، فخرج كتبغا المذكور من حماة وخرجنا صحبته في يوم السبت الخامس والعشرين من شوال في هذه السنة الموافق للثالث والعشرين من حزيران من شهور الروم ، وسار العسكر صحبة زين الدين المذكور ودخلنا حلب مستهل ذي القعدة ودخلنا دربند بغراس سابع ذي القعدة من الشهر المذكور ، وانتشرت العساكر في بلاد سيس فحرقت الزروع ونهبت ما وجدت ونزلنا على سيس وزحفنا عليها وأخذنا من سفح قلعتها شيئا كثيرا من جفال الأرمن ، وعدنا من الدربند إلى مرج أنطاكية ووصلنا إلى حلب تاسع عشر ذي القعدة وسرنا إلى حماة ودخلناها في السابع والعشرين من الشهر المذكور اه.

سنة ٧٠٢

ذكر دخول التتر إلى الشام وكسرتهم مرة بعد أخرى

قال ابن إياس في حوادث سنة اثنتين وسبعمائة : فيها جاءت الأخبار بأن أميرا من

٢٨٦

أمراء القان غازان يقال له قطلوشاه قد دخل إلى حلب على حين غفلة من أهلها ومعه طائفة من عسكر التتار ، وذكروا أن بلادهم قد اضمحلت هذه السنة وقصدهم الإقامة بحلب حتى يشتروا لهم مغلا ، وكل ذلك حيل وخداع ، ثم بعد أيام دخل منهم جماعة إلى مرعش فأرسل نائب حلب يكاتب السلطان بذلك ، فلما جاء هذا الخبر عين السلطان جماعة من الأمراء المقدمين عدتهم ستة من الأمراء وعيّن ألف مملوك من المماليك السلطانية ، فخرجوا من القاهرة على الفور مسرعين ، فلما وصلوا إلى غزة تواترت الأخبار بوصول غازان إلى الرحبة وأن نائب الرحبة تلطف به وأرسل له بالإقامة مع ولده ومنعه من محاصرة المدينة ، فلما أن بلغ السلطان ذلك أحضر الأمير سلار النائب والأتابكي بيبرس الجاشنكير وضربوا مشورة في ذلك ، فأشاروا على السلطان بالخروج قبل أن يتمكن العدو من البلاد ، فنادى السلطان في جميع أماكن القاهرة للعسكر بالرحيل من كبير وصغير.

ثم إن السلطان أحضر جماعة من عربان الشرقية ومن عربان الغربية ونادى بالنفير عاما وخرج مسرعا على جرائد الخيل وكان معه الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان والقضاة الأربعة وسائر الأمراء والعسكر من كبير وصغير ، فلما رحلوا من الريدانية تقدم الأتابكي بيبرس الجاشنكير مع جماعة من العسكر قدام السلطان. فلما وصلوا إلى الشام جاءت الأخبار بأن جاليش غازان قد وصل إلى قرب حماة ، فأرسل الأتابكي بيبرس يستحث السلطان في سرعة الحضور ، فجد السلطان في السير حتى وصل إلى الشام وبرز إلى قتال عسكر قازان فكان مع السلطان من العساكر المصرية والشامية وعربان جبل نابلس نحو مائتي ألف إنسان وكان مع غازان مثل ذلك أو أكثر ، فتلاقى العسكران على مرج راهط تحت جبل غباغب فكان بين الفريقين هناك واقعة عظيمة لم يسمع بمثلها فيما تقدم من الزمان ، فكانت النصرة يومئذ للملك الناصر محمد بن قلاوون على القان غازان فقتل من الفريقين ما لا يحصى عددهم وأسر من عسكر غازان نحو الثلث وقتل من أمراء مصر الأمير حسام الدين لاجين استادار العالية والأمير أوليا بن قرمان والأمير سنقر الكافوري والأمير أيدمر الشمسي والأمير آقوش الشمسي الحاجب والأمير عز الدين نقيب الجيوش المنصورة والأمير علاء الدين بن التركماني والأمير حسام الدين بن ساخل والأمير سيف الدين بهادر الدكاجكي ، هؤلاء غير من قتل من أمراء دمشق الشام وحماة وحلب وطرابلس وغزة وغير ذلك من الأمراء. وقتل من المماليك السلطانية والأمراء نحو ألف وخمسمائة مملوك ،

٢٨٧

هذا خارجا عن العربان والمشاة والعبيد والغلمان وغير ذلك. فلما دخل الليل حالت الظلمة بين العسكرين فالتجأ عسكر غازان إلى أعلى الجبال وباتوا يوقدون النيران وبات عسكر السلطان محدقين بهم كالحلقة ، فلما لاح الصباح من يوم الأحد رابع شهر رمضان عاين عسكر التتار الهلاك من العطش والجوع فصاروا يتسحبون من الأودية أولا بأول ، فحمل عسكر السلطان عليهم فصيروهم رمما وأسروا منهم ما شاؤوا فامتلأت من قتلاهم القفار ، فلما وصلت هذه النصرة للملك الناصر محمد أرسل الأمير بكتوت الفتاح بأخبار هذه النصرة إلى الديار المصرية.

ثم إن السلطان رحل من المكان الذي وقعت فيه الواقعة ودخل إلى دمشق وصحبته الخليفة المستكفي بالله سليمان والقضاة الأربعة فنزل بالقصر الأبلق ، وكان يوم دخوله إلى دمشق يوما مشهودا لم يسمع بمثله.

وقبل هذه الواقعة كانت وقعة أخرى ذكرها أبو الفداء في تاريخه فقال : في هذه السنة عاودت التتر قصد الشام وساروا إلى الفرات وأقاموا عليها مدة في أزوارها (بساتينها) وسارت منهم طائفة تقدير عشرة آلاف فارس وأغاروا على القريتين وتلك النواحي ، وكانت العساكر قد اجتمعت بحماة عند زين الدين كتبغا النائب بحماة وكان مريضا من حين عاد من بلاد سيس ، فلما اجتمعت العساكر عنده وقع الاتفاق على إرسال جماعة من العسكر إلى التتر الذي أغاروا على القريتين فجردوا أستدمر الكرجي نائب السلطنة بالساحل وجردوا صحبته جماعة من عسكر حلب وجماعة من عسكر حماة وجردوني أيضا من جملتهم ، فسرنا من حماة سابع شعبان من هذه السنة وتواقعنا مع التتر على موضع يقال له الكوم قريبا من عرض ، واقتتلنا معهم يوم السبت عاشر شعبان الموافق لسلخ آذار وصبر الفريقان ، ثم نصر الله المسلمين وولى التتر منهزمين وترجّل منهم جماعة كثيرة عن خيلهم وأحاط المسلمون بهم بعد فراغهم من الوقعة وبذلوا لهم الأمان فلم يقبلوا وقاتلوا بالنشاب وعملوا سروج الخيل ستائر لهم وناوشهم العسكر القتال من الضحى إلى انفراك الظهر ، ثم حملوا عليهم فقتلوهم عن آخرهم ، وكان هذا النصر عنوان النصر الثاني ، ثم عدنا مؤيدين منصورين ووصلنا حماة ثالث عشر شعبان الموافق لثاني نيسان. (ثم ذكر الواقعة الثانية بمعنى ما قدمناه عن ابن إياس إلى أن قال) : لما أصبح الصباح وشاهد التتر كثرة المسلمين انحدروا من الجبل يبتدرون الهرب وتبعهم

٢٨٨

المسلمون فقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وكان في طريقهم أرض متوحلة فتوحل فيها عالم كثير من التتر فأخذ بعضهم أسرى وقتل بعضهم وجرّد من العسكر الإسلامي جمعا كثيرا مع سلار وساقوا في إثر التتر المنهزمين إلى القريتين ، ووصل التتر إلى الفرات وهي في قوة زيادتها فلم يقدروا على العبور والذي عبر فيها هلك ، فساروا على جانبها إلى جهة بغداد فأنقطع أكثرهم على شاطىء الفرات وهلك من الجوع وأخذ منهم العرب جماعة كثيرة وأخلف الله تعالى بهذه الوقعة ما جرى على المسلمين في المصاف الذي كان ببلد حمص قرب مجمع المروج في سنة تسع وتسعين وستمائة. ولما حصل هذا النصر العظيم واجتمعت العساكر بدمشق أعطاهم السلطان الدستور فسارت العساكر الحلبية والحموية والساحلية إلى بلادهم فدخلنا حماة مؤيدين منصورين يوم السبت سادس عشر رمضان من هذه السنة الموافق لرابع أيار من شهور الروم اه.

سنة ٧٠٣

ذكر الاستيلاء على تل حمدون

قال ابن كثير : يوم السبت ثاني عشر رمضان قدمت ثلاثة آلاف فارس من مصر وأضيف إليها ألفان من دمشق وساروا وأخذوا معهم نائب حمص الجوكندار ووصلوا إلى حماة فصحبهم نائبها الأمير سيف الدين قبجق وجاء إليهم استدمر نائب طرابلس وانضاف إليهم قراسنقر نائب حلب وانفصلوا كلهم عليها فانفرقوا فرقتين ؛ سارت طائفة صحبة قبجق إلى ناحية ملطية وقلعة الروم ، والفرقة الأخرى صحبة قراسنقر حتى دخلوا الدربندات وحاصروا تل حمدون فتسلموه عنوة في ثالث ذي القعدة بعد حصار طويل ، فدقت البشائر لذلك بدمشق ووقع الاتفاق مع صاحب سيس على أن يكون للمسلمين من نهر جيحان إلى حلب وبلاد ما وراء النهر إلى ناحيتهم لهم وأن يعجلوا حمل سنتين ، ووقعت الهدنة على ذلك بعد قتل خلق من الأمراء الأرمن ورؤسائهم ، وعادت العساكر إلى دمشق مؤيدة منصورة ، ثم توجهت العساكر المصرية إلى مصر اه. قال أبو الفداء : لما استولوا على تل حمدون هدموها إلى الأرض.

٢٨٩

سنة ٧٠٥

ذكر إغارة عسكر حلب على بلاد سيس

قال أبو الفداء : في أوائل المحرم من هذه السنة الموافق العشر الأخير من تموز أرسل قراسنقر نائب السلطنة بحلب مع قشتمر مملوكه عسكر حلب للإغارة على بلاد سيس فدخلوها في أول الشهر المذكور ، وكان قشتمر المذكور ضعيف العقل قليل التدبير مشتغلا بالخمر ففرط في حفظ العسكر ولم يكشف أخبار العدو واستهان بهم ، فجمع صاحب سيس جموعا كثيرة من التتر وانضمت إليهم الأرمن والفرنج ووصلوا على غرة إلى قشتمر المذكور ومن معه من الأمراء وعسكر حلب والتقوا بالقرب من أياس ، فلم يكن للحلبيين قدرة بمن جاءهم فتولوا يبتدرون الطريق ، وتمكنت التتر والأرمن منهم فقتلوا وأسروا غالبهم واختفى من سلم في تلك الجبال ولم يصل إلى حلب منهم إلا القليل عرايا بغير خيل. وكان صاحب سيس في هذه السنة هيثوم بن ليفون بن هيثوم.

سنة ٧٠٨

مسير السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى الكرك

واستيلاء بيبرس الجاشنكير على المملكة

قال أبو الفداء : وفي هذه السنة في الخامس والعشرين من شهر رمضان خرج الملك الناصر محمد بن قلاوون من الديار المصرية متوجها إلى الحجاز الشريف. ولما وصل إلى الكرك واستقر بها أمر جمال الدين آقوش نائب السلطنة بها والأمراء الذين حضروا في خدمته بالمسير إلى الديار المصرية وأعلمهم أنه جعل السفر إلى الحجاز وسيلة إلى المقام بالكرك ، وكان سبب ذلك استيلاء سلار وبيبرس الجاشنكير على المملكة واستبدادهما بالأمور وتجاوز الحد في الانفراد بالأموال والأمر والنهي ، ولم يتركا للملك الناصر غير الاسم ، فأنف من ذلك وترك الديار المصرية وأقام بالكرك ، ولما وصلت الأمراء إلى الديار المصرية وأعلموا من بها بإقامة السلطان بالكرك اتفقوا على أن تكون السلطنة لبيبرس الجاشنكير وأن يكون سلار مستمرا على نيابة السلطنة كما كان عليه وحلفوا على ذلك. وركب بيبرس من داره بشعار السلطنة إلى الإيوان الكبير بقلعة الجبل وجلس على سرير الملك في الثالث والعشرين من

٢٩٠

شوال هذه السنة أعني سنة ثمان وسبعمائة وتلقب بالملك المظفر ركن الدين بيبرس المنصوري ، وأرسل إلى نواب السلطنة بالشام فحلفوا له عن آخرهم ، وكتب تقليدا لمولانا السلطان بالكرك ومنشورا بما عيّنه له من الإقطاع بزعمه وأرسلهما إليه واستقر الحال على ذلك حتى خرجت هذه السنة اه.

سنة ٧٠٩

دعوة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون من الكرك

إلى دمشق ثم إلى مصر وإقامته في السلطنة

وتولية حلب لسيف الدين قبجق

في هذه السنة عاد السلطان محمد بن قلاوون من الكرك إلى دمشق ثم إلى مصر وأعيد إلى السلطان لمكاتبات أتت له من أهالي دمشق وحلب ، وخلع بيبرس الجاشنكير نفسه ، واستقر الملك الناصر على سرير ملكهه مستهل شوال من هذه السنة وهي سلطنته الثالثة. وقد بسط أبو الفداء وابن إياس القول في ذلك.

ثم قال أبو الفداء : وأعطى نيابة السلطنة بحلب سيف الدين قبجق وقرر نيابة السلطنة بالشام لشمس الدين قراسنقر (النائب السابق بحلب).

سنة ٧١٠

ذكر وفاة سيف الدين قبجق وتولية حلب إلى أسندمر ثم القبض عليه

قال أبو الفداء : في هذه السنة أعطى مولانا السلطان نيابة السلطنة بالسواحل والفتوحات لأسندمر وتصدّق علي بحماة والمعرّة وبارين ، وأرسل تقليد أسندمر بالسواحل مع منكوتمر الطباخي فوصل إلى دمشق في الثالث والعشرين من جمادى الأولى وسار إلى حماة فلم يجب أسندمر إلى المسير إلى الساحل وامتنع من قبول التقليد والخلعة ورد التقليد صحبة منكوتمر المذكور فعاد به إلى دمشق ، واتفق عند ذلك موت سيف الدين قبجق نائب السلطنة بحلب في يوم السبت سلخ جمادى الأولى ، فلما وصل خبر موته إلى الأبواب الشريفة أنعم السلطان بنيابة حلب على أسندمر موضع سيف الدين قبجق.

٢٩١

قال ابن الخطيب في الدر المنتخب في ترجمته نقلا عن تاريخ شيخه الحسن بن حبيب قال : سنة عشره وسبعمائة وفيها توفي الأمير سيف الدين قبجق المنصوري نائب السلطنة بحلب ، كان عزيز الجانب مشحون الفلك والقارب ، معظما في الدول مصدقا إن قال موفقا إن فعل ، موصوفا بالإقدام والحماسة مشهورا بالمعرفة والخبرة والسياسة ، ولي نيابة السلطنة بدمشق وحماة قبل حلب ، وكانت وفاته بها ونقل إلى تربته بحماة تغمده الله برحمته.

قال أبو الفداء : وكان السلطان قد جرد عسكرا مع كراي المنصوري وشمس الدين سنقر الكمالي فساروا وأقاموا بحمص ، ولما وصلت إلى حماة عائدا من الأبواب الشريفة ركبوا من حمص وساقوا ليكبسوا أسندمر بحلب ويبغتوه بها فإنه كان مستشعرا لما كان قد فعله من الجرائم ، وأرسل كراي المذكور إلي يعلمني بمسيرهم وأن أسير بالعسكر الحموي وأجتمع بهم لهذا المهم ، فخرجت من حماة يوم الخميس تاسع ذي الحجة وسقنا نهار الجمعة وبعض الليل ووصلنا إلى حلب بعد مضي ثلثي الليلة المسفرة عن نهار السبت حادي عشر ذي الحجة ، واحتطنا بدار النيابة التي فيها أسندمر تحت قلعة حلب وأمسكناه بكرة السبت واعتقل بقلعة حلب وجهز إلى مصر مقيدا في يوم الأحد ثاني عشر ذي الحجة ، ووصل إلى مصر فاعتقل بها ، ثم نقل إلى الكرك وكان آخر العهد به ، واحتيط على موجوده من الخيل والقماش والسلاح وكان شيئا كثيرا وحمل جميع ذلك إلى بيت المال ، واستمر كراي والكمالي ومن معهما من العساكر والعبد الفقير إسماعيل بن علي مقيمين بحلب حتى خرجت هذه السنة.

سنة ٧١١

ذكر نقل قراسنقر من نيابة السلطنة بدمشق إلى حلب

قال أبو الفداء : في هذه السنة لما قبض على أسندمر سأل قراسنقر نائب السلطنة بدمشق من مولانا السلطان أن ينقله إلى نيابة السلطنة بالمملكة الحلبية لأنه كان قد طال مقامه بها وألف سكنى حلب ، فرسم له بذلك وحصر تقليده بولاية حلب مع الأمير سيف الدين أرغون الدوادار الناصري ، وسار في صحبته من دمشق متوجها إلى حلب وحصل عند قراسنقر استشعار من العسكر المقيمين بحلب لئلا يقبضوا عليه ، وبقي المقر السيفي

٢٩٢

أرغون الدودار الناصري المذكور يطيّب خاطر قراسنقر ويحلف له على عدم توهمه ويسكنه ويثبت جأشه حتى وصل إلى حلب وركبت العساكر المقيمون بحلب لملتقاه ، فالتقيناه ودخل حلب في يوم الاثنين ثامن عشر محرم من هذه السنة واستقر في نيابة السلطنة بحلب وأعطى المقر السيفي أرغون الناصري عطاء جزيلا وسفره ، وسار المقر السيفي أرغون المذكور من حلب يوم الأربعاء لعشرين من المحرم وتوجه إلى الديار المصرية ، فأقمنا بعد ذلك مدة ثم ورد الدستور إلى العساكر المقيمة بحلب فسرنا منها في يوم الجمعة الحادي والعشرين من صفر عائدين إلى أوطاننا.

ذكر مسير قراسنقر إلى الحجاز وإظهاره العصيان وقصده حلب

قال أبو الفداء : وفي هذه السنة سأل قراسنقر دستورا إلى الحجاز الشريف لقضاء حجة الفرض ، فرسم له السلطان بذلك فعمل شغله وسار من حلب في أوائل شوال من هذه السنة ، ولم يسر على الطريق وسار على طرف البلاد من شرقيها حتى وصل إلى بركة زيزا فحصل عنده التخيّل والخوف من الركب المصري لئلا يقبضوا عليه في الحجاز ، فعاد من بركة زيزا على البرية وسار على البر إلى أركة والسخنة ثم إلى بر حلب واجتمع مع مهنّا ابن عيسى أمير العرب ، واتفقا على المشاققة والعصيان ، وقصد قراسنقر حلب ليستولي عليها فاجتمع العسكر والأمراء الذين بها ومنعوه من الدخول إليها. ووصل من صدقات السلطان إلى قراسنقر ومهنّا ما يطيب خاطرهما فلم يرجعا عن ضلالهما وأصرّا على ذلك ، فجرد السلطان عسكرا مع المقر السيفي أرغون الدوادار الناصري ومع الأمير حسام الدين قرالاجين بسبب قراسنقر المذكور بحيث إن رجع عن الشقاق والنفاق يقرر أمره في مكان يختاره وإن لم يرجع عن ذلك يقصده العسكر حيث كان. ووصل العسكر المذكور إلى حماة سادس ذي الحجة. وسرت بصحبتهم في عسكر حماة وتوجهنا إلى البرية بالخام بالقرب من الزرقا حادي عشر ذي الحجة ، فاندفع قراسنقر إلى الفرات وأقام هناك وافترقت مماليكه ، فبعضهم سار إلى التتر وبعضهم قدم إلى الطاعة. ثم توجه قراسنقر إلى جهة مهنّا فعادت العساكر من الخام إلى حلب ، وكان دخولنا إليها رابع عشر ذي الحجة من السنة ، ثم كان ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

٢٩٣

ثم قال : وخرجت هذه السنة وقراسنقر قد أظهر الشقاق وانضم إلى مهنّا بن عيسى أمير العرب وهو متردد في البراري على شاطىء الفرات والحكم بحلب إلى المشدين والنظار وليس بها نائب.

سنة ٧١٢

ما كان من أمر قراسنقر والأفرم وسيرهما إلى التتر

قال أبو الفداء : وفي هذه السنة قصد آقوش الأفرم نائب السلطنة بالفتوحات أن يحدث خلافا وأن يجمع الناس عليه ، فهرب إليه حموه أيدمر الزمر الزردكاش من دمشق وانضم إليه من لايق به وسار من دمشق واجتمع بالأفرم بالساحل وقصدوا من عسكر الساحل ومن غيرهم الموافقة لهم على ضلالهم فلم يوافقهم أحد ، فلما رأى الأفرم ذلك هرب من الساحل وخرج على حمية وعبر على الغولة بين دمشق وحمص وسار إلى البرية واجتمع بقراسنقر في شهر المحرم من هذه السنة. وكان بعض العساكر مع الأمير سيف الدين أركتمر على حمص فساق خلف الأفرم فلم يلحقه ، وكان على حلب العسكر المقدم ذكره في السنة الماضية صحبة الأمير سيف الدين أرغون الدوادار. فلما بلغنا هروب الأفرم واجتماعه بقراسنقر وهم قريب سلمية وقع آراء الأمراء على الرحيل من حلب والمسير إلى جهة حمص وسلمية ، فرحل الأمير سيف الدين أرغون الناصري والأمير حسام الدين قرالاجين ومؤلف هذا المختصر بعسكر حماة من حلب وسرنا ووصلنا إلى حماة في ثاني عشر المحرم من هذه السنة ، ووصلت باقي العسكر وسرنا من حماة في يوم الثلاثاء خامس عشر المحرم الموافق الثامن والعشرين من أيّار ونزلنا بظاهر سلمية. وقصد قراسنقر والأفرم كبس العسكر بالليل لظنهما أن فيهم مخامرين وأنهم يوافقونهم على ذلك ، فلم يوافقهم أحد على ذلك ، فرجعوا عن ذلك وسار قراسنقر والأفرم ومن معهما إلى جهة الرحبة فاتفق آراء الأمراء على تجريد عسكر في إثرهم فجردوا العبد الفقير إسماعيل بن علي بعسكر حماة ، وكذلك جردوا من المصريين الأمير سيف الدين (قلى) بمقدمته وغيره من المقدمين المصريين والمقدمين الدماشقة ، فسرنا من سلمية في يوم الخميس سابع عشر المحرم من هذه السنة إلى القسطل ثم إلى قديم ثم إلى عرض ثم إلى قباقب ثم إلى الرحبة ، ووصلنا إليها في يوم الأحد الثامن والعشرين من المحرم. فلما وصلنا إلى الرحبة اندفع قراسنقر ومن معه إلى جهة رومان قريب

٢٩٤

عانة والحديثة فما أمكنا المضي خلفه إلى تلك البلاد بغير مرسوم ، فأقمنا بالرحبة ثم رحلنا منها عائدين في مستهل صفر الموافق لثامن حزيران من هذه السنة وسرنا إلى المقر السيفي أرغون الدوادار ، وكان قد سار من سلمية إلى حمص ، فوصلنا إلى حمص في يوم الخميس ثامن صفر من هذه السنة.

ثم إن المقر السيفي رأى أن حماة قريبة وليس بمقامي بعسكر حماة على حمص فائدة فاقتضى رأيه سيري إلى حماة فسرت إليها ودخلتها ثاني عشر صفر. واستمر العسكر مقيمين بحمص ، ثم إن قراسنقر والأفرم طال عليهما الحال وكثر ترداد الرسل إليهما في إطابة خواطرهما وهما لا يزدادان إلا عتوا ونفورا حتى سارا إلى التتر واتصلا بخدابندا في ربيع الأول من هذه السنة وكذلك أيدمر الزردكاش ومن انضم إليهم.

زيادة بيان في حوادث قراسنقر واحتمائه بأمير العرب مهنّا بن عيسى

وقصد هذا حلب وتوجههما مع أمير حمص الأفرم إلى بلاد العراق

قال ابن بطوطة في رحلته : كان قراسنقر من كبار الأمراء وممن حضر قتل الملك الأشرف أخي الملك الناصر وشارك فيه ، ولما تمهّد الملك للملك الناصر وقربه القرار واشتدت أواخي سلطانه جعل يتتبع قتلة أخيه فيقتلهم واحدا واحدا إظهارا للأخذ بثأره وخوفا أن يتجاسروا عليه بما تجاسروا على أخيه ، وكان قراسنقر أمير الأمراء بحلب ، فكتب الملك الناصر إلى جميع الأمراء أن ينفروا بعساكرهم وجعل لهم ميعادا يكون فيه اجتماعهم بحلب ونزولهم عليها حتى يقبضوا عليه ، فلما فعلوا ذلك خاف قراسنقر على نفسه وكان له ثمانمائة مملوك فركب فيهم وخرج على العساكر صباحا فاخترقهم وأعجزهم سبقا ، وكانوا في عشرين ألفا ، وقصد منزل أمير العرب مهنا بن عيسى وهو على مسيرة يومين من حلب ، وكان مهنّا في قنص له فقصد بيته ونزل عن فرسه وألقى العمامة في عنق نفسه ونادى : الجوار يا أمير العرب ، وكانت هناك أم الفضل زوج مهنّا وبنت عمه فقالت : قد أجرناك وأجرنا من معك ، فقال : إنما أطلب أولادي ومالي ، فقالت له : لك ما تحب فانزل في جوارنا ، ففعل ذلك وأتى مهنّا فأحسن نزله وحكمه في ماله فقال : إنما أحب أهلي ومالي

٢٩٥

الذي تركته بحلب ، فدعا مهنّا بأخوته وبني عمه فشاورهم في أمره ، فمنهم من أجابه إلى ما أراد ومنهم من قال له : كيف نحارب الملك الناصر ونحن في بلاده بالشام؟ فقال لهم مهنّا : فافعل لهذا الرجل ما يريده واذهب معه إلى سلطان العراق.

وفي أثناء ذلك ورد عليهم الخبر بأن أولاد قراسنقر سيّروا على البريد إلى مصر ، فقال مهنّا لقراسنقر : أما أولادك فلا حيلة فيهم وأما مالك فنجتهد في خلاصه ، فركب فيمن أطاعه من أهله واستنفر من العرب نحو خمسة وعشرين ألفا وقصدوا حلب فأحرقوا باب قلعتها وتغلبوا عليها واستخلصوا منها مال قراسنقر ومن بقي من أهله ولم يتعدوا إلى سوى ذلك ، وقصدوا ملك العراق وصحبهم أمير حمص الأفرم ووصلوا إلى الملك محمد خدابنده سلطان العراق وهو بموضع مصيفه المسمى قراباغ وهو ما بين السلطانية وتبريز فأكرم نزلهم وأعطى مهنّا عراق العرب ، وأعطى قراسنقر مدينة مراغة من عراق العجم وتسمى دمشق الصغيرة ، وأعطى الأفرم همدان. وأقاموا عنده مدة مات فيها الأفرم وعاد مهنّا إلى الملك الناصر بعد مواثيق وعهود أخذها منه ، وبقي قراسنقر على حاله وكان الملك الناصر يبعث له الفداوية مرة بعد مرة ، فمنهم من يدخل عليه داره فيقتل دونه ومنهم من يرمي بنفسه عليه وهو راكب فيضربه ، وقتل بسببه من الفداوية جماعة (١) ، وكان لا يفارق الدرع أبدا ولا ينام إلا في بيت العود والحديد ، فلما مات السلطان محمد خدابنده وولي ابنه أبو سعيد وقع ما سنذكره من أمر الجوبان كبير أمرائه وفرار ولده الدمرطاش إلى الملك الناصر ، ووقعت المراسلة بين الملك الناصر وبين أبي سعيد واتفقا أن يبعث أبو سعيد إلى الملك الناصر برأس قراسنقر ويبعث إليه الملك الناصر برأس الدمرطاش ، فبعث إليه الملك الناصر برأس الدمرطاش إلى أبي سعيد ، فلما وصله أمر بحمل قراسنقر إليه ، فلما عرف قراسنقر بذلك أخذ خاتما كان له مجوفا في داخله سم ناقع فنزع فصه وامتص ذلك السم فمات لحينه ، فعرف أبو سعيد بذلك الملك الناصر ولم يبعث له برأسه.

ترجمة قراسنقر المنصوري وآثاره بحلب :

قال ابن خطيب الناصرية في الدر المنتخب : قراسنقر المنصوري الأمير شمس الدين ولي نيابة حلب من قبل أستاذه الملك المنصور قلاوون في سنة إحدى وثمانين وستمائة عوضا عن الأمير علم الدين سنجر الباشقردي ، وقدم إليها من مصر واستمر بها عشر سنين ، ثم

__________________

(١) انظر آخر حوادث سنة ٧٢٧ في الكلام على حصن القدموس.

٢٩٦

عزل منها في سنة إحدى وتسعين وستمائة بالأمير سيف الدين بلبان الطباخي ، ثم وليها في سنة تسع وتسعين عوضا عن المذكور واستمر بها عشر سنين أيضا ، ثم نقل إلى نيابة دمشق ، ثم ولي نيابة حلب مرة ثالثة واستمر بها أياما ، ثم تسحّب هو والأمير جمال الدين آقوش الأفرم الدواداري نائب السلطنة بطرابلس وذلك في سنة إحدى عشرة وسبعمائة إلى بلاد التتار خوفا على نفسهما فلحقا بخدابنده بن أرغون بن القان هولاكو ملك البلاد الشرقية على ما حكينا في ترجمة آقوش الأفرم.

وكان الأمير قراسنقر المذكور أميرا كبيرا شجاعا سعيدا حازما معرضا عن شرب الخمر ذا معرفة وخبرة ودهاء وتدبير ، ولي نيابة السلطنة بمصر ودمشق وحماة وحلب وجمع أملاكا كثيرة وبنى بالقاهرة مدرسة مشهورة وبحلب رباطا معروفا به وله وقف كبير. وفيه يقول العلامة صدر الدين أبو عبد الله محمد الشهير بابن الوكيل الشافعي عند قدومه إلى حلب :

شمس سما فوق السماك محله

وسبا سناه البدر في هالاته

بالسيف والعلم ارتقى فمضاء ذا

لعدائه ومضى به لعداته

فالعلم بين بنانه وبيانه

والحلم من أدواته ودواته

وكذا حديث الجود عنه مسند

متواتر قد صح عند رواته

قد كان في حلب وفي سكانها

شوق إليه يشب في لفحاته

فتباشروا فرحا بنيل مرامهم

ودعوا بطول بقائه وثباته

وفيه يقول الرئيس بهاء الدين علي بن أبي سوادة الحلبي من أبيات :

وقائلة من أفرس الترك في الوغى

وأثبتهم فوق الجياد السوابق

وافتكهم طعنا إذا اشتبك القنا

وأضربهم بالسيف في كل مأزق

فقلت كفيل الملك والبطل الذي

له صولة الآساد تحت السناجق

قراسنقر المنصور في كل موقف

وحامي حمى الإسلام عند الحقائق

توفي الامير شمس الدين قراسنقر في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة بمراغة وقد جاوز سبعين سنة تغمده الله تعالى برحمته اه.

أقول : وذكره المقريزي في تاريخه السلوك فيمن توفي في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة والله أعلم أيهما أصح.

٢٩٧

قال ثمة : وقد أعيا الملك الناصر قتله وبعث إليه كثيرا من الفداوية فصانه الله منهم بحيث قتل من الفداوية بسببه مائة وأربعة عشر فداويا ، ولما بلغ السلطان موته قال : والله ما كنت أشتهي موته إلا من تحت سيفي وأكون قد قدرت عليه وبلغت مقصودي ، ولكن الأجل حصين. وكانت له مع الفداوية أخبار طويلة ذكر منها المقريزي ما يطول به الكلام فاكتفينا بما نقلناه لك عن ابن بطوطة.

تولية حلب لسيف الدين سودي وقصد التتار الرحبة

قال أبو الفداء : وفي هذه السنة قرر السلطان سيف الدين سودي الجمدار الأشرفي ثم الناصري في نيابة السلطنة بحلب المحروسة موضع قراسنقر ، فوصل سودي إلى حلب في ثامن ربيع الأول من هذه السنة واستقر في نيابة السلطنة بحلب.

مجيء التتر إلى الرحبة وتجريد العساكر إلى حلب

قال أبو الفداء : في يوم السبت سابع عشر رجب خرجت بعساكر حماة ودخلت حلب في يوم السبت الآخر الرابع والعشرين من رجب وأقمت بها ، وكان النائب بها الأمير سيف الدين سودي ، ثم وصل بعض عسكر دمشق مع سيف الدين بهادراص وقويت أخبار التتر وجفل أهل حلب وبلادها ، ثم وصلت التتر إلى بلاد سيس وكذلك وصلوا إلى الفرات ، فعندها رحل الأمير سيف الدين سودي وجميع العساكر المجردة من حلب ثامن رمضان ووصلنا إلى حماة سابع عشر رمضان وكان خدابندا نازل الرحبة بجموع المغل (التتر) في آخر شعبان من هذه السنة الموافق لأواخر كانون الأول ، وقام سيف الدين سودي بعسكر حلب وغيره من العساكر المجردة بظاهر حلب ونزل بعضهم في الخانات ، وكان البرد شديدا والجفال قد ملؤوا المدينة ، واستمرينا مقيمين بحماة وكشافتنا تصل إلى عرض والسخنة وتعود إلينا بأخبار المخذول.

واستمر خدابندا محاصرا للرحبة وأقام عليها المجانيق وأخذ فيها النقوب ومعه قراسنقر والأفرم ومن معهما ، وكانا قد أطمعا خدابندا أنه ربما يسلم إليه النائب بالرحبة قلعة الرحبة وهو بدر الدين بن أركشي الكردي ، لأن الأفرم هو الذي كان قد سعى للمذكور في نيابة السلطنة بالرحبة وأخذ له إمرة الطبلخاناة ، فطمع الأفرم بسبب تقدم إحسانه إلى المذكور أن يسلم إليه الرحبة ، وحفظ المذكور دينه وما في عنقه من الأيمان للسلطان وقام بحفظ

٢٩٨

القلعة أحسن قيام وصبر على الحصار وقاتل أشد قتال. ولما طال مقام خدابندا على الرحبة بجموعه وقع في عسكره الغلاء والفناء وتعذرت عليه الأقوات وكثرت منه المقفزون إلى الطاعة وضجروا من الحصار ولم ينالوا شيئا ولا وجد خدابندا لما أطمعه به قراسنقر والأفرم صحة ، فرحل خدابندا عن الرحبة راجعا على عقبه في السادس والعشرين من رمضان بعد حصار نحو شهر وتركوا المجانيق وآلات الحصار على حالها ، فنزلت أهل الرحبة واستولوا عليها ونقلوها إلى الرحبة ، ولما جرى ذلك رحل سودي وعسكر حلب من حماة وعادوا إلى حلب واستمر بهادراص ومن معه من عسكر دمشق مقيما بحماة مدة ، ثم ورد لهم الدستور فساروا إلى دمشق اه.

وذكر ابن إياس لرحيلهم عن الرحبة سببا آخر حيث قال : وفي هذه السنة حضر مملوك نائب حلب وأخبر السلطان بأن التتار قد تحركوا على البلاد ، فلما تحقق السلطان ذلك عرض العسكر وأنفق عليهم فعبوا حالهم في سبعة أيام. ثم خرج السلطان من القاهرة في أوائل شهر رمضان وقصد التوجه إلى حلب بسبب التتار ، فلما وصل إلى غزة وردت عليه الأخبار بأن التتار بلغهم مجيء السلطان فخافوا ورحلوا عن مدينة الرحبة وتوجهوا إلى بلادهم.

سنة ٧١٤

وفاة سيف الدين سودي وآثاره بحلب

وتوليتها للأمير علاء الدين ألطنبغا

قال أبو الفداء : في هذه السنة في رجب توفي الأمير سيف الدين سودي نائب السلطنة بحلب ، فولى السلطان نيابة السلطنة بحلب الأمير علاء الدين ألطنبغا الحاجب ، ووصل إلى حلب واستقر بها نائبا في أوائل شعبان من هذه السنة. اه.

قال ابن كثير : وممن توفي في هذه السنة سودي نائب حلب في رجب ودفن بتربته وهو الذي كان سببا في إجراء النهر إليها غرم عليه ثلثمائة ألف (١). وكان مشكور السيرة حميد الطريقة رحمه‌الله.

__________________

(١) انظر حوادث سنة ٧٣١.

٢٩٩

وفي تتمة المختصر لابن الوردي : كان مشكور السيرة ودفن بالمقام وبنيت عليه تربة ورتب عليه قراء وما يليق به.

قال في الدرر الكامنة في ترجمته : كان رأس نوبة ومن أعيان الأمراء ، وولي نيابة حلب في سنة ٧١٢ وهو الذي أجرى النهر من الساجور إلى قويق وطوله أربعون ألف ذراع ، وكان الغرامة عليه أربعمائة ألف درهم لم يظلم فيه أحدا ، ولم يزل إلى أن مات في رجب سنة ٧١٤ ، وكانت مدة إمرته على حلب سنتين.

قال ابن الوردي في تتمة المختصر : ولي حلب بعد سودي الأمير علاء الدين ألطنبغا الصالحي الحاجب فانتفعت به حلب وبلادها وعمر جامعه بالميدان الأسود ونقل إليه أعمدة عظيمة من قورس ، وعمرت بسبب هذا الجامع أماكن كثيرة حوله.

سنة ٧١٨

ذكر بناء ألطنبغا للجامع المسمى باسمه

قال في الدر المنتخب : ومن مشاهير جوامع حلب جامع ألطنبغا الصالحي نائب حلب ثم دمشق ، بناه بطرف الميدان الأسود سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة وهو أول جامع بني بحلب بعد الجامع الكبير داخل سورها على كتف خندق الروم شرقي المدينة ، وجعل له بابين بابا غريبا يستطرق منه إلى حوش عظيم يعرف به ومنه إلى المدينة وهو بابه الكبير ، وبنى إلى جانبه ميضاة كبيرة كثيرة النفع ، وبابا شرقيا صغيرا يستطرق منه على جسر إلى ظاهر البلد وركب عليه باب قلعة النقير لما افتتحها وأخربها ، وإليه تنسب محلته ، وبه الآن مكان يخزن به ملح الجبول أظنه كان خانقاها للمسجد المذكور ، وكرا المخزن يأخذه متوليه فيصرفه على مرتزقته ، وبالقرب منه تربة هي الآن تحت يد بعض الناس تغلب عليها فجعلها بيتا وهي بناء عظيم.

سبب بنائه :

قال في كراسة عندي أظنها من (كنوز الذهب لأبي ذر) : ونحن نذكر في كتابنا هذا ما تجدد بعده (بعد ابن شداد) من الجوامع من غير استيعاب فنبدأ بجامع ألطنبغا ، إذ هو أول جامع بني بحلب بعد الأموي كما تقدم ، وكملت عمارته في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة ، وهذا الجامع بصدر الميدان الأسود ، وبلغني أن ألطنبغا كان يكره الخطيب ابن

٣٠٠