إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٢

الوقعة رحلوا عن البيرة بعد أن أشرفوا على أخذها وتركوا مالهم من الأسلحة والعدد والمجانيق والأمتعة ونجوا بأنفسهم ، فسار الملك الظاهر إلى البيرة ووصلها في الثاني والعشرين من الشهر وصعدها وخلع على مستحفظها وفرق في أهلها مائة ألف درهم وأنعم عليهم ببعض ما تركه التتر عند هربهم ، ثم رحل قاصدا دمشق.

وقد ذكر خوض الفرات المولى شهاب الدين محمود الكاتب في قصيدة أولها :

سر حيث شئت لك المهيمن جار

واحكم فطوع مرادك الأقطار

لم يبق للدين الذي أظهرته

يا ركنه عند الأعادي ثار

ومنها :

لما تراقصت الرؤوس وحركت

من مطربات قسيّك الأوتار

خضت الفرات بسابح أقصى منى

هوج الصبا من نعله الآثار

حملتك أمواج الفرات ومن رأى

بحرا سواك تقله الأنهار

وتقطعت فرقا ولم يك طودها

إذ ذاك إلا جيشك الجرار

ومنها :

رشّت دماؤهم الصعيد فلم يطر

منهم على الجيش الصعيد غبار

شكرت مساعيك المعاقل والورى

والترب والآساد والأطيار

هذي منعت وهؤلاء حميتهم

وسقيت تلك وعم ذي الإيثار

فلأملأن الدهر فيك مدائحا

تبقى بقيت وتذهب الأعصار

وقال ناصر الدين حسن بن النقيب الكناني رحمه‌الله في واقعة الفرات وأظنه حضرها :

ولما ترامينا الفرات بخيلنا

سكرناه منا بالقوى والقوادم

فأوقفت التيار عن جريانه

إلى حيث عدنا بالغنى والغنائم

وقال صاحبنا موفق الدين عبد الله بن عمر رحمه‌الله :

الملك الظاهر سلطاننا

نفديه بالأموال والأهل

اقتحم الماء ليطفي به

حرارة القلب من المغل

انتهى ما في القطب اليونيني.

٢٦١

وقال ابن شاكر الكتبي في تاريخه فوات الوفيات في ترجمة الملك الظاهر المذكور قال محيي الدين بن عبد الظاهر :

تجمع جيش الشرك من كل فرقة

وظنوا بأنا لا نطيق لهم غلبا

وجاؤوا إلى شط الفرات ومادروا

بأن جياد الخيل تقطعها وثبا

وجاءت جنود الله في العدد التي

تميس لها الأبطال يوم الوغى عجبا

فعمنا بسد من حديد سباحة

إليهم فما اسطاع العدو له نقبا

وقال : قال بدر الدين يوسف بن المهمندار :

لو عاينت عيناك يوم نزولنا

والخيل تطفح في العجاج الأكدر

وقد اطلخمّ الأمر واحتدم الوغى

ووهى الجبان وساء ظن المجتري

لرأيت سدا من حديد ما يرى

فوق الفرات وفوقه نار تري

طفرت وقد منع الفوارس مدها

تجري ولو لا خيلنا لم تطفر

ورأيت سيل الخيل قد بلغ الزبى

ومن الفوارس أسجرا في أبحر

لما سبقنا أسهما طاشت لنا

منهم إلينا بالخيول الضمّر

لم يفتحوا للرمي منهم أعينا

حتى كحلن بكل لدن أسمر

فتسابقوا هربا ولكن ردهم

دون الهزيمة رمح كل غضنفر

ما كان أجرى خيلنا في إثرهم

لو أنها برؤوسهم لم تعثر

كم قد فلقنا صخرة من صخرة

ولقد ملأنا محجرا من محجر

وجرت دماؤهم على وجه الثرى

حتى جرت منها مجاري الأنهر

والظاهر السلطان في آثارهم

يذري الرؤوس بكل عضب أبتر

ذهب الغبار مع النجيع بصقله

فكأنه في غمده لم يشهر

سنة ٦٧٣

ذكر دخول السلطان الملك الظاهر إلى بلاد سيس

قال ابن شداد في الأعلاق الخطيرة : لما كانت سنة ثلاث وسبعين عزم مولانا السلطان على قصد سيس ، وذلك أن هيثوم مات وولي بعده ولده ليفون ، فأخذ في إفساد ما كان بين أبيه وبين السلطان بمكاتبة التتر والتعرض للقفول الواردة من بلاد الروم وأخذ

٢٦٢

ما فيها من البضايع والفتك بأربابها ، فخرج من القاهرة نحو الشام وصحبته العساكر المنصورة وترك نائبا عنه الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني ، فوصل إلى دمشق وحلب ، ثم توجه ولم يشعر أحد أين يتوجه فنزل بقرب (سرمين) ورتب العساكر وطلب من كل جندي قربة وحبلا برسم الكلك (هكذا) وفرقهم على الأمراء ، ثم رحل ونزل حارم مخفا ، ثم رحل وخاض النهر الأسود ونزل تحت درب ساك وجعل كل ألف فارس إلى مقدم وأمرهم بدخول سيس ، فكان أول من دخلها الأمير بيليك الخزندار نائب المملكة ومعه جماعة من الأمراء ، فوصل إلى إسكندرونة فقتل وسبى ، وقصد المصيصة فباكرها فوجد الأرمن يريدون أن يحرقوا الجسر الذي هو على نهر جيحان فعاجلهم وقد أخذت النار فيه فأطفأها وعبر ومكن سيفه فيمن لقي من الأرمن ولم يبق إلا النساء والأطفال ، ثم ردفه مولانا بمن بقي معه من العساكر ، فلما عبر الجسر قطعه ثم رحل وقصد سيس ، فوجد ليفون وقد خرج منها هاربا ، فسار خلفه ليدركه ففاته ، فعاد إلى سيس فحاصر قلعتها فامتنعت عليه فأحرق البلد وعفاها وطمس معالمها وأخفاها وبث عساكره في أعمالها وأمرهم بإحراق ضياعها ومزارعها ، إلى أن وصلوا إلى ساحل البحر فنهبوا من كان بأياس ١ من التجار ، ثم عاد السلطان ورحل ونزل على قلعة تسمى سن الفار فحاصرها أياما ، ثم رحل بسبب أن العلوفات والأقوات قلت ، وكان قد استأمن السلطان عند توغله في بلاد سيس عشرون ألف بيت من التركمان وخلق كثير من العرب كانوا قد ركبوا إلى هيثوم لما استولت التتر على بلاد حلب ، فأمّر جماعة منهم وأقطعهم الأخباز وأخذ منهم العداد. فلله عزمات أضرمت في صدر الأعداء نارا وأكسبتهم بالفرار عارا وشنارا وأخلتهم عن ديار أهدت إليهم درها كبارا وغذتهم بدرها صغارا وأمكنت منهم سيوفا ألبستهم على مدى الأيام ذلا وصغارا. وجرت على عزمات من تقدم من الملوك ذيل الفخر باغتنام الأجر ، وطلعت في السير طلوع الفجر ، فإنها أزاحت علة الخوف من الأرمن بفتكاتها المبيدة وأرحت من جاوز بلادهم من حرب يحتاج فيه إلى ختل ومكيدة ، وأصارت صياصيها موطوءة بالحوافر ، محبوة بالتطهير ممن كان يستوطنها من الكوافر اه.

__________________

١ ـ قال ابن شداد في «الدر المنتخب» : أياس : هي على حصن على شاطىء البحر ، وتسمى الآن أيار وهي فرضة سيس.

٢٦٣

سنة ٦٧٤

ذكر مجيء التتار إلى البيرة وانكسارهم عليها

قال ابن كثير : لما كان يوم الخميس ثامن جمادى الأولى نزل التتار على البيرة في ثلاثين ألف مقاتل من المغول [وكان اسم مقدمهم أقطاي كما في أبي الفداء] وخمسة عشر ألفا من الروم والمقدم على الجميع البرواناه بأمر أبغا ملك التتر ومعهم جيش الموصل وجيش ماردين والأكراد ونصبوا عليها ثلاثة وعشرين منجنيقا ، فخرج أهل البيرة بالليل فكبسوا عسكر التتار وأحرقوا المنجنيقات ونهبوا شيئا كثيرا ورجعوا إلى بيوتهم سالمين ، فأقام عليها الجيش مدة إلى تاسع عشر الشهر المذكور ، ثم رجعوا عنها بغيظهم لم ينالوا خيرا ، وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا.

ولما بلغ السلطان نزول التتار على البيرة أنفق في الجيش ستمائة ألف دينار ، ثم ركب سريعا وفي صحبته ولده السعيد ، فلما كان في أثناء الطريق بلغه رحيل التتار عنها فعاد إلى دمشق اه.

سنة ٦٧٥

ذكر انكسار التتار على البلستين وفتح قيسارية

قال أبو الفداء وابن كثير وابن إياس : في هذه السنة جاءت الأخبار بأن التتار زحفوا على البلاد ، فجاء الملك الظاهر بيبرس بعساكره المتوافرة إلى الشام ، وكان خروجه من مصر في العشرين من رمضان ودخل دمشق في سابع عشر شوال فأقام بها ثلاثة أيام ، ثم سار حتى دخل حلب فأقام بها يوما ورسم لنائب حلب أن يقيم بعسكر حلب على الفرات لحفظ المعابر ، وسار السلطان فقطع الدربند في نصف يوم ، ووقع سنقر الأشقر في أثناء الطريق بثلاثة آلاف من المغول فهزمهم يوم الخميس تاسع ذي القعدة ، وصعد العسكر الجبال فأشرفوا على وطاة البلستين عاشر ذي القعدة فرأوا التتار قد رتبوا عساكرهم وكانوا أحد عشر ألف مقاتل وعزلوا عنهم عسكر الروم خوفا من مخامرتهم ، فلما تراءى الجمعان حملت ميسرة التتار فصدمت صناجق السلطان ودخلت طائفة بينهم

٢٦٤

فشقوها وساقت إلى الميمنة ، فلما رأى السلطان ذلك أردف المسلمين بنفسه ومن معه ، ثم لاحت منه التفاتة فرأى الميسرة قد كادت تتحطم فأمر جماعة من الأمراء بإردافها ، ثم حمل بالعسكر جميعه حملة واحدة على التتار فترجلوا إلى الأرض عن آخرهم وقاتلوا المسلمين قتالا شديدا وصبر المسلمون صبرا عظيما ، فأنزل الله نصره على المسلمين فأحاطت بالتتار العساكر من كل جانب وقتلوا منهم خلقا كثيرا وقتل مقدمهم تناون وغالب كبرائهم وأسر منهم جماعة كثيرة صاروا أمراء ، وكان من جملة المأسورين في هذه الوقعة سيف الدين قبجق وسيف الدين أرسلان. وقتل من المسلمين أيضا جماعة فكان في جملة من قتل من سادات المسلمين الأمير الكبير ضياء الدين ابن الخطير وسيف الدين قيماز وسيف الدين بنجو الجاشنكير وعز الدين أيبك الثقفي. وهرب البرواناه (من أمراء الروم الذين كانوا مع التتار) فنجا بنفسه ودخل قيسارية في بكرة الأحد ثاني عشر ذي القعدة ، وأعلم أمراء الروم وملكهم بكسرة التتر على البلستين وأشار عليهم بالهزيمة فانهزموا منها وأخلوها.

وأما الملك الظاهر فإنه بعد فراغه من هذه الوقعة سار إلى قيسارية واستولى عليها ، وكان الحاكم بالروم يومئذ معين الدين سليمان البرواناه وكان يكاتب الملك الظاهر في الباطن ، وكان يظن الملك الظاهر أنه إذا وصل إلى قيسارية يصل إليه البرواناه على ما كان اتفق معه في الباطن ، فلم يحضر البرواناه لما أراده الله من هلاكه على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ودخل الملك الظاهر قيسارية سابع عشر ذي القعدة بعد أن حاصر أهلها ، وأرسلوا إليه يطلبون الأمان فأرسل لهم الأمان على يد الأمير بيسري فسلموا المدينة ، وكان دخوله إلى المدينة يوما مشهودا ، فنزل بدار السلطنة وصلى بها الجمعة وخطب له بها وأقام عليها سبعة أيام ، ثم رحل عن قيسارية في الثاني والعشرين من ذي القعدة. وحصل للعسكر شدة عظيمة من نفاد القوت والعلف وعدمت غالب خيولهم ، ووصلوا إلى عمق حارم وأقاموا به شهرا ، ثم رحلوا وتوجهوا إلى دمشق وسارت بذلك البشائر إلى البلدان ففرح المؤمنون يومئذ بنصر الله.

ولما بلغ خبر هذه الوقعة أبغا بن هولاكو ساق في جموع المغول حتى وصل إلى البلستين وشاهد مكان المعركة وشاهد عسكره صرعى ولم يشاهد أحدا من عسكر الروم مقتولا ، فغاظه ذلك وأعظمه وحنق على البرواناه إذ لم يعلمه بجلية الحال ، وكان يظن أن أمر الظاهر دون هذا كله ، واشتد غضبه على أهل قيسارية وأهل تلك الناحية فقتل منهم قريبا

٢٦٥

من مائتي ألف إنسان ، وقيل قتل منهم خمسمائة ألف من قيسارية وأرزن الروم ، وكان في جملة من قتل القاضي جلال الدين حبيب ، ثم سار أبغا إلى الأردو وصحبته معين الدين البرواناه ، فلما استقر بالأردو أمر بقتل البرواناه فقتل وقتل معه نيفا وثلاثين نفسا من مماليكه وخواصه. واسم البرواناه المذكور سليمان ، والبرواناه لقب وهو الحاجب بالعجمي ، وكان مقتله بألاطاغ وكان البرواناه حازما بتدبير المملكة ذا مكر ودهاء.

سنة ٦٧٦

ذكر وفاة الملك الظاهر بيبرس وآثاره بهذه البلاد

قال ابن إياس : في هذه السنة دخل السلطان إلى حلب [بعد رجوعه من محاربة التتار] فتوعك جسده وأخذته الحمى وسلسل في المرض ، فأسقاه الحكماء دواء مسهلا فأفرط في الإسهال وثقل في المرض ، فرحل من حلب وقصد الدخول إلى دمشق فمات في بعض ضياع دمشق ، فلما مات كتم موته عن العسكر وحمل في محفة إلى أن دخل دمشق فدفن هناك ليلا. وكان موته يوم الخميس في الثامن والعشرين من المحرم وله من العمر نحو ستين سنة ، وكان ملكا عظيما جليلا مهيبا كثير الغزوات خفيف الركاب يحب السفر والحركة في الشتاء والصيف ، وكان مشهورا بالفروسية في الحرب وله إقدام وعزم وقت القتال وله ثبات عند التقاء الجيوش في الحرب.

قال ابن كثير : لما مات الظاهر جعلوه في تابوت ورفعوه إلى القلعة من السور فجعلوه في بيت من بيوت البحرية إلى أن نقل إلى تربته التي بناها ولده بعد موته وهي دار العقيقي تجاه العادلية ليلة الجمعة خامس رجب من هذه السنة (١).

قال : وقد جمع له كاتبه ابن عبد الظاهر سيرة مطولة وكذلك ابن شداد الحلبي أيضا وذكر ثمة آثاره في البلاد المصرية وغيرها ، وله في تاريخ ابن شاكر المسمى بفوات الوفيات ترجمة حافلة مطولة وذكر ماله من الآثار في هذه البلاد ، وهي مصطبة كبيرة مرخمة بالميدان الأخضر شمالي حلب. جسر القلعة. جامع بأنطاكية مكان الكثيب. جامع في

__________________

(١) وتربته معروفة مشهورة وفيها الآن المكتبة المعروفة بالمكتبة الظاهرية وقبره رحمه‌الله في وسط هذا المكان.

٢٦٦

بغراس. وأنشأ قلعة البيرة وبنى بها الأبرجة ووسع خندقها وجدد جامعها. بناء ما تهدم من قلعة عين تاب. إصلاح قلعة شيزر. وبعد وفاة الظاهر أقيم في الملك ولده الملك السعيد بركة وكان ذلك في أوائل ربيع الأول.

سنة ٦٧٧

ذكر وصول العساكر إلى بلد سيس

قال ابن شداد في الأعلاق الخطيرة : كان الملك السعيد خرج من مصر إلى الشام ، فعند وصوله جرد الأمير بيسري الشمسي إلى حلب وأغار على قلعة الروم ، ثم كتب إلى الملك السعيد بأن صاحب سيس وصلتني رسله وهو يتضرع ويسأل أن يحمل إلى الخزائن المعمورة مائتي ألف درهم ويعفى من طروق العساكر المنصورة بلاده ، فخرج الأمير سيف الدين قلاوون الألفي وصحبته العسكر وهو المقدم عليهم وعلى من بالشام من العسكر المتقدم فسار إلى أن وصل إلى حلب ، ثم رحل ودخل أنطرسوس وصحبته الأمير بدر الدين بيسري فشن الغارة عليها ونهب بلدها وغنم العسكر غنيمة صالحة وعاد إلى دمشق ، ثم ملك الديار المصرية والشامية ونعت نفسه بالملك المنصور اه.

سنة ٦٧٨

ذكر خلع الملك السعيد بركة ابن الملك الظاهر

وإقامة أخيه سلامش ثم خلعه

في هذه السنة خلع الملك السعيد بركة وأرسل إلى الكرك وأقيم أخوه بدر الدين سلامش ابن الملك الظاهر ولقبوه الملك العادل ، وعمره إذ ذاك سبع سنين وشهور ، وكان القائم بتدبير دولته قلاوون الألفي ، تم خلعه وتسلطن مكانه.

ذكر سلطنة الملك المنصور قلاوون الصالحي

قال ابن إياس : هو السابع من ملوك الترك وأولادهم بالديار المصريه ، تسلطن بعد خلع الملك العادل سلامش يوم الأحد ثاني عشر شهر رجب سنة ثمان وسبعين وستمائة وتلقب بالملك المنصور. وكان أصله من مماليك آق سنقر الكاملي.

٢٦٧

قال أبو الفداء : ولما تولى السلطنة أقام منار العدل وأحسن السياسة وقام بتدبير المملكة أحسن قيام.

ذكر خروج سنقر الأشقر عن الطاعة وسلطنته بالشام

قال أبو الفداء : في الرابع والعشرين من ذي القعدة جلس سنقر الأشقر بدمشق في السلطنة وحلف له الأمراء والعسكر الذين عنده بدمشق وتلقب بالملك الكامل شمس الدين سنقر.

سنة ٦٧٩

ذكر وفاة آقوش الشمسي نائب السلطنة بحلب

وتولية علم الدين سنجر

قال أبو الفداء : في هذه السنة توفي آقوش الشمسي نائب السلطنة بحلب وولى السلطان الملك المنصور قلاوون على حلب علم الدين سنجر الباشغردي اه.

ذكر كسرة سنقر الأشقر الخارج على السلطان قلاوون

قال أبو الفداء ما خلاصته : لما عصى سنقر الأشقر بدمشق وتسلطن بها جهز الملك المنصور قلاوون إليه عساكر ديار مصر مع علم الدين سنجر الحلبي ، والتقى الفريقان بظاهر دمشق فولى الشاميون وسنقر الأشقر منهزمين ، وأتى سنقر إلى الرحبة وكاتب أبغا بن هولاكو ملك التتر وأطمعه في البلاد ، وكان عيسى بن مهنا ملك العرب مع سنقر الأشقر وقاتل معه وكتب بذلك إلى أبغا أيضا موافقة له ، ثم سار سنقر الأشقر من الرحبة إلى صهيون في جمادى الأولى من هذه السنة واستولى عليها وعلى برزية وبلاطنس والشغر وبكاس وعكار وشيزر وفامية وصارت هذه الأماكن له.

ذكر مجيء التتار إلى حلب وعودهم ثم رجوعهم

قال ابن كثير : إن السلطان الملك المنصور قلاوون أرسل طائفة من الجيش لحصار شيزر (وقد قدمنا أنها صارت بيد سنقر الأشقر) فبينما هم كذلك إذ أقبلت التتر من كل فج لما سمعوا بتفريق كلمة المسلمين ، فانجفل الناس من أيديهم من سائر البلاد إلى الشام

٢٦٨

ومن الشام إلى مصر ، فوصلت التتار إلى حلب وقتلوا خلقا كثيرا ونهبوا شيئا كثيرا وظنوا أن جيش سنقر الأشقر يكون معهم على الملك المنصور قلاوون ، فوجدوا الأمر بخلاف ذلك ، وذلك أن المنصور كتب إلى سنقر الأشقر أن التتار قد أقبلوا إلى المسلمين والمصلحة أنا نتفق عليهم لئلا يهلك المسلمون بيننا وبينهم ، وإذا ملكوا البلاد لم يدعوا منا أحدا. فكتب إليه سنقر بالسمع والطاعة ، وبرز من حصنه فخيم بجيشه ليكون على أهبة متى طلب أجاب ، ونزلت نوابه من حصونهم وبقوا مستعدين لقتال التتار. وخرج الملك من مصر في أواخر جمادى الأولى ومعه العساكر.

وفي يوم الجمعة الثالث من جمادى الآخرة قرىء على منبر جامع دمشق كتاب من السلطان أنه قد عهد بالملك إلى ابنه علي ولقب بالملك الصالح ، فلما فرغ من قراءة الكتاب جاءت البريدية فأخبروا برجوع التتر من حلب إلى بلادهم وذلك لما بلغهم من اتفاق كلمة المسلمين ، ففرح المسلمون بذلك ولله الحمد.

وقال أبو الفداء في حوادث هذه السنة : إن الملك المنصور أرسل عسكرا إلى شيزر وهي لسنقر الأشقر وجرى بينهم مناوشة ، ثم إنه ترددت الرسل بين السلطان وبين سنقر الأشقر واحتاج السلطان إلى مصالحته لقوة أخبار التتر ووقع بينهم الصلح على أن يسلم شيزر إلى السلطان ويتسلم سنقر الأشقر الشغر وبكاس وكانتا قد ارتجعتا منه ، فتسلم نواب السلطان شيزر وتسلم الشغر وبكاس سنقر الأشقر وحلفا على ذلك واستقر الصلح بينهما اه. وتقدم أنه على إثر هذا الصلح عاد التتر من حلب.

وقال ابن إياس في حوادث هذه السنة : فيها جاءت الأخبار أن ملك التتار زحف على البلاد وأرسل أخاه منكوتمر في جاليش العسكر وقد وصلوا إلى حلب وملكوا ضياعها وأشرفوا على أخذ المدينة ، فلما بلغ الملك المنصور قلاوون الألفي ذلك خرج بنفسه هو والأمراء على جرائد الخيل ، فلما وصل إلى غزة جاءت الأخبار بأن منكوتمر أخا أبغا لما بلغه مجيء السلطان نهب البلاد وأحرق الضياع وقتل الرعية وآذى البرية ثم رجع إلى بلاده ، فلما بلغ السلطان رجع من غزة إلى القاهرة فجاءت الأخبار بأن التتار رجعوا إلى حلب وأفحشوا في حق الرعية أعظم ما فعلوا في الأول ، فخرج إليهم السلطان ثانيا وجد في السير فتلاقى مع عسكر التتار على المرج الأصفر فكان بينهما واقعة عظيمة وذلك في سنة ثمانين وستمائة.

٢٦٩

سنة ٦٨٠

ذكر الوقعة العظيمة مع التتر على حمص وانكسارهم عليها

قال أبو الفداء : في هذه السنة أعني سنة ثمانين وستمائة في شهر رجب كان المصاف العظيم بين المسلمين وبين التتار بظاهر حمص ، فنصر الله المسلمين بعد ما كانوا قد أيقنوا بالبوار ، وكان من حديث هذا المصاف العظيم أن أبغا بن هولاكو حشد وجمع وسار بهذه الحشود طالبا الشام ، ثم انفرد أبغا المذكور عنهم وسار إلى الرحبة وسيّر جيوشه وجموعه إلى الشام وقدم عليها أخاه منكوتمر بن هولاكو وسار إلى جهة حمص.

قال ابن كثير : لما اقترب مجيء التتار كتب السلطان المنصور قلاوون إلى مصر وغيرها من البلاد يستدعي الجيوش ، فدخل أحمد بن حجي ومعه بشر كثير من الأعراب ، وجاء صاحب الكرك المسعود نجدة للسلطان يوم السبت الثاني عشر من جمادى الآخرة وقدم الناس عليه ووفدوا إليه من كل جانب ، وجاءته التركمان والأعراب وكثرت الأراجيف بدمشق وكثرت العساكر بها وانجفل الناس من بلاد حلب وتلك النواحي وتركوا الغلات والأموال خوفا من أن يدهمهم العدو من التتار ، ووصلت التتر صحبة منكوتمر بن هولاكو إلى عين تاب وسارت العساكر المنصورة إلى نواحي حلب يتبع بعضها بعضا ، ونازلت التتر بالرحبة في أواخر جمادى الآخرة طائفة من الأعراب وكان فيهم ملك التتار أيضا مختفيا ينظر ماذا يصنع أصحابه وكيف يقاتلون أعداءه ، ثم خرج الملك المنصور من دمشق وكان خروجه منها في أواخر جمادى وقنت الخطباء والأئمة بالجوامع والمساجد وغيرها في الصلوات وغيرها ، ولما انتهى السلطان الملك المنصور إلى حمص كتب إلى الملك الكامل سنقر الأشقر يطلبه إليه نجدة ، فجاء إلى خدمته فأكرمه السلطان واحترمه ورتب له الإقامات وتكاملت الجيوش كلها في صحبة الملك المنصور عازمين على لقاء العدو لا محالة مخلصين في ذلك. واجتمع الناس بعد خروج السلطان في جامع دمشق ووضعوا المصحف العثماني بين أيديهم وجعلوا يبتهلون إلى الله تعالى في نصرة الإسلام وأهله على الأعداء ، وخرجوا كذلك والمصحف على رؤوسهم إلى المصلى يدعون ويبتهلون ويبكون ، وأقبلت التتار قليلا قليلا ، فلما وصلوا حماة أحرقوا بستان الملك وقصره وما هناك من المساكن والسلطان المنصور مخيم بحمص في عساكر من الأتراك والتركمان وغيرهم في جحفل كثير جدا ،

٢٧٠

فأقبلت التتر في مائة ألف مقاتل أو يزيدون [في أبي الفداء كان عدتهم ثمانين ألفا] ولما كان يوم الخميس رابع عشر شهر رجب التقى الجمعان وتواجه الخصمان عند طلوع الشمس وعسكر التتر في مائة ألف فارس وعسكر المسلمين على النصف من ذلك أو يزيدون قليلا والجمع فيما بين مشهد خالد بن الوليد إلى الرستن ، فاقتتلوا قتالا عظيما لم ير مثله من أعصار متطاولة ، فاستظهر التتار أول النهار وكسروا الميسرة واضطربت الميمنة أيضا ، وانكسر جناح القلب الأيسر وثبت السلطان ثباتا عظيما جدا في جماعة قليلة وقد انهزم كثير من عسكر المسلمين والتتر في آثارهم حتى وصلوا وراءهم إلى بحيرة حمص ، ووصلوا إلى حمص وهي مغلقة الأبواب فقتلوا خلقا من العامة وغيرهم ، وأشرف المسلمون على خطة عظيمة من الهلاك ، ثم إن أعيان الأمراء من الشجعان والفرسان تآمروا فيما بينهم مثل سنقر الأشقر وبيسري وطيبرس الوزيري وأمير سلاح وأيتمش السعدي وحسام الدين لاجين وحسام الدين طرنطاي والدواداري وأمثالهم لما رأوا ثبات السلطان ردوا إلى السلطان وحملوا حملات متعددة صادقة ، ولم يزالوا يتابعون الحملة بعد الحملة حتى كسر الله بحوله وقوته التتر وخرج منكوتمر ، وجاءهم الأمير عيسى بن مهنا ناحية العرض فصدم التتر فاضطربت الجيوش لصدمته وتمت الهزيمة ولله الحمد وقتلوا من التتر مقتلة عظيمة جدا ، ورجعت الطائفة من التتر الذين اتبعوا المسلمين المنهزمين فوجدوا أصحابهم قد كسروا والعساكر في آثارهم يقتلون ويأسرون والسلطان ثابت في مكانه تحت الصناجق والكوسات تضرب خلفه وما معه إلا نحو ألف فارس ، فطمعوا فيه فقاتلوه ، فثبت لهم ثباتا عظيما فانهزموا من بين يديه فلحقهم فقتل أكثرهم ، وكان ذلك تمام النصر ، وكان انهزام التتر قبل الغروب ، وافترقوا فرقتين أخذت فرقة منهم إلى ناحية سلمية والبرية والأخرى إلى ناحية حلب والفرات ، فأرسل السلطان في آثارهم من يتبعهم وجاءت البطاقة بالبشارة بما وقع من النصر إلى دمشق يوم الجمعة خامس عشر رجب ، فدقت البشائر وزينت البلد وأوقدت الشموع وفرح الناس. فلما أصبح الناس يوم السبت أقبلت طائفة من المنهزمين منهم بيليك الناصري والحالق وغيرهم فأخبروا الناس بما شاهدوا من الهزيمة في أول الأمر ولم يكونوا شاهدوا ما بعد ذلك ، فبقي الناس في قلق عظيم وخوف شديد وتهيأ ناس كثير للهرب ؛ فبينما الناس في ذلك إذ أقبلت البريدية وأخبروا الناس بصورة ما وقع في أول الأمر وآخره ، فتراجع الناس وفرحوا فرحا شديدا ولله الحمد ، ثم دخل السلطان إلى دمشق يوم الجمعة الثاني والعشرين من رجب

٢٧١

وبين يديه الأسارى بأيديهم الرماح عليها شقف رؤوس القتلى منهم. وكان يوما مشهودا ، ومع السلطان طائفة من أصحاب سنقر الأشقر منهم علم الدين الدواداري ، فنزل السلطان بالقلعة مؤيدا منصورا وقد كثرت له المحبة والأدعية ، وكان سنقر الأشقر قد ودع السلطان من حمص ورجع إلى صهيون.

وأما التتر فإنهم انهزموا في أسوأ حال وأتعسه يتخطفون من كل جانب ويقتلون في كل فج ، حتى وصلوا إلى الفرات فغرق أكثرهم ونزل إليهم أهل البيرة فقتلوا منهم خلقا كثيرا وأسروا منهم آخرين والجيوش في آثارهم يطردونهم عن البلاد حتى أراح الله منهم الناس. وقد استشهد في هذه الوقعة جماعة من سادات الأمراء منهم الأمير الكبير الحاج عز الدين أزدمر الجمدار وهو الذي جرح ملك التتار يومئذ منكوتمر ، فإنه خاطر بنفسه وأوهم أنه مقفز إليه وقلب رمحه حتى وصل إليه فطعنه فجرحه فقتلوه رحمه‌الله تعالى ودفن بالقرب من مشهد خالد ، وخرج السلطان من دمشق قاصدا الديار المصرية يوم الأحد ثاني شعبان والناس يدعون له ، ودخل مصر في ثاني عشر شعبان.

قال أبو الفداء : كان عدة التتر ثمانين ألف فارس منهم خمسون ألفا من المغل والباقي حشود وجموع من أجناس مختلفة مثل الكرج والأرمن والعجم وغيرهم. ولما وصل خبر هذه الكسرة إلى أبغا وهو على الرحبة يحاصرها رحل عنها على عقبه منهزما وكتب بهذا الفتح العظيم إلى سائر البلاد الإسلامية فزينت لذلك. (ثم قال) : ومات منكوتمر بن هولاكو بن طلو ابن جنكز خان بجزيرة ابن عمر مكمودا عقيب كسرته على حمص ، وكان موته من جملة هذا الفتح العظيم.

سنة ٦٨١

قال أبو الفداء : فيها ولى السلطان مملوكه شمس الدين قرا سنقر نيابة السلطنة بحلب فسار إليها واستقر.

سنة ٦٨٢

قال ابن الوردي : فيها تسلم عسكر حلب لكحنا بمكاتبة حكامها قراسنقر وصارت من أعظم الثغور نفعا.

٢٧٢

سنة ٦٨٤

ذكر تجديد المحراب الكبير في الجامع الأعظم

قال في كراسة عندي تكلم فيها على الجامع الأعظم : وأما المحراب الكبير فقد جدد بعد حريقه في أيام السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون في شهر رجب سنة أربع وثمانين وستمائة في كفالة قراسنقر المنصوري وفيه انحراف اه.

تاريخ حريقه :

قال في الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة : لما استولى التتار المخذولون على حلب يوم الأحد عاشر صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة دخل صاحب سيس إلى الجامع وقتل به خلقا كثيرا وأحرق الجانب القبلي منه ، وأخذ الحريق قبلة وغربا إلى المدرسة الحلاوية واحترق سوق البزازين ، فعرف عماد الدين القزويني لهولاكو ما اعتمده السيسيون من الإحراق للجامع وإعفائهم كنائس النصارى ، فأمر هولاكو برفع ذلك وإطفاء النار وقتل السيسيين فقتل منهم خلقا كثيرا ولم يقدروا على إطفاء النار ، فأرسل الله عزوجل مطرا عظيما فأطفأها. ثم اعتنى نور الدين يوسف بن أبي بكر بن عبد الرحمن السلماسي الصوفي بتنظيف الجامع ودفن ما كان فيه من قتلى المسلمين في جباب كانت بالجامع للغلة في شماليه. ولما مات عز الدين أحمد أحد البتكجية ، وليس معناه الكاتب مطلقا إنما معناه الذي يكتب الكتب (١) ، خرج عن ماله جميعه لله تعالى فقبضه أخوه وتصدق ببعضه وعمر حائط الجامع منه فأصرف عليه عشرين ألف درهم منها ثمانية عشر ألفا لبنائه وألفان لحصره ومصابيحه.

(قلت) : ولما ملك السلطان الملك الظاهر حلب أمر بتكليس الحائط الذي بني وعقد الجملون على الحائط القبلي وكذا الحائط الغربي من جهة الصحن وعمل له سقفا متقنا اه.

أقول : يظهر أنه لم يبن جميع الحائط القبلي وبقي محل المحراب إلى أن أمر بعمارته الملك المنصور قلاوون في هذه السنة في ولاية قراسنقر كما هو محرر على الجدار فوق المحراب ونص ذلك : (أمر بعمارته بعد حريقه مولانا السلطان الأعظم الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون أعز الله تعالى نصره).

__________________

(١) قلت : فعلى هذا يقتضي أن تكون هذه الكلمة الكتبجية

٢٧٣

وكتب تحت ذلك فوق المحراب ما نصه : (بالإشارة العالية المولوية الأميرية الشمسية قراسنقر الجوكندار الملكي المنصوري). وكتب على الجدار تحت المنبر : (أمر بعمله المقر العالي الأميري قراسنقر الجوكندار المنصوري عز نصره).

سنة ٦٨٩

ذكر وفاة السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي

وسلطنة ولده الأشرف خليل

قال أبو الفداء ما خلاصته : في هذه السنة في ذي القعدة توفي الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون الصالحي ، وكانت مدة ملكه إحدى عشرة سنة وثلاثة أشهر ، ولما توفي جلس في الملك بعده ولده الملك الأشرف صلاح الدين خليل.

سنة ٦٩٠

ذكر عمارة قلعة حلب بعد خرابها

قال أبو الفداء : وفي أوائل هذه السنة أعني سنة تسعين تكملت عمارة قلعة حلب ، وكان قد شرع قراسنقر في عمارتها في أيام السلطان الملك المنصور فتمت في أيام الملك الأشرف فكتب اسمه عليها ، وكان قد خربها هولاكو لما استولى على حلب في سنة ثمان وخمسين وستمائة فكان لبثها على التخريب نحو ثلاثة وثلاثين سنة بالتقريب اه.

قال بيشوف في تاريخه : مكتوب جانب الباب الأوسط في القلعة :

(بالإشارة العالية المولوية الأميرية الشمسية قراسنقر الجوكندار المنصوري الأشرفي كافل المملكة الحلبية أعز الله نصره) وعلى ظاهر القصر فوق باب القلعة : (أمر بعمارته بعد إهماله وإشرافه على الدثور في أيام مولانا السلطان الأعظم الملك الأشرف صلاح الدنيا والدين ناصر الإسلام والمسلمين عماد الدولة ركن الملة مجير الأمة ظهير الخلافة نصير الإمامة سيد الملوك والسلاطين سلطان جيوش الموحدين ناصر الحق بالبراهين محيي العدل في العالمين).

٢٧٤

وعلى الباب الوسطاني في القلعة : (أمر بعمارته بعد دثوره السلطان الأعظم الملك الأشرف صلاح الدنيا والدين خليل محيي الدولة الشريفة العباسية ناصر الملة المحمدية عز نصره).

سنة ٦٩١

ذكر فتوح قلعة الروم وعزل قراسنقر عن حلب

وتولية سيف الدين بلبان الطباخي

قال أبو الفداء : في هذه السنة سار السلطان الملك الأشرف من مصر إلى الشام وجمع عساكره المصرية والشامية ، وسار الملك المظفر محمود وعمه الملك الأفضل إلى خدمته والتقياه بدمشق وسارا في خدمته وسبقاه ، فاهتم الملك المظفر صاحب حماة في أمر الضيافة والإقامة والتقدمة ، ووصل السلطان إلى حماة (إلى أن قال) : وأما العساكر فسارت على السكة إلى حلب ، ثم فصل السلطان إلى حلب وتوجه منها إلى قلعة الروم في العشر الأول من جمادى الآخرة من هذه السنة وهي حصن على جانب الفرات في غاية الحصانة ونصب عليها المجانيق (عند ابن كثير أن المجانيق كانت تزيد على ثلاثين منجنيقا) وهذا الحصار من جملة الحصارات التي شاهدتها ، وكانت منزلة الحمويين على رأس الجبل المطل على القلعة من شرقها وكنا نشاهد أحوال أهلها في مشيهم وسعيهم في القتال وغير ذلك ، واشتدت مضايقتها ودام حصارها وفتحت بالسيف في يوم السبت حادي عشر رجب من هذه السنة وقتل أهلها ونهب ذراريهم ، واعتصم كيناغيلوس خليفة الأرمن المقيم بها في القلة وكذلك اجتمع بها من هرب من القلعة ، وكان منجنيق الحمويين على رأس الجبل المطل على القلة فتقدم مرسوم السلطان إلى صاحب حماة أن يرمي عليهم بالمنجنيق ، فلما وترناه لنرمي عليهم طلبوا الأمان من السلطان فلم يؤمنهم إلا على أرواحهم خاصة وأن يكونوا أسرى ، فأجابوا إلى ذلك وأخذ كيناغيلوس وجميع من كان بقلة القلعة أسرى عن آخرهم ، ورتب السلطان علم الدين سنجر الشجاعي لتحصين القلعة وإصلاح ما خرب منها وجرد معه لذلك جماعة من العسكر وأقام الشجاعي وعمرها وحصنها إلى الغاية القصوى ، ورجع السلطان إلى حلب ثم إلى حماة وقام الملك المظفر بوظائف خدمته ، ثم توجه السلطان إلى دمشق وأعطى الملك المظفر الدستور فأقام ببلده ، وسار السلطان إلى دمشق وصام بها

٢٧٥

رمضان وعيّد بها ثم سار إلى الديار المصرية. وعند عود السلطان إلى حلب من قلعة الروم عزل قراسنقر المنصوري عن نيابة السلطنة بحلب واستصحبه معه وولى موضعه على حلب سيف الدين بلبان المعروف بالطباخي.

سنة ٦٩٢

ذكر استيلاء الملك الأشرف على قلعة بهنسى وقلعة مرعش وتل حمدون

قال ابن إياس : في هذه السنة توجه الملك الأشرف من مصر إلى دمشق فعرض عليه العسكر بدمشق وعين جماعة من الأمراء والمماليك السلطانية ليتوجهوا إلى نحو سيس ، فلما وصلوا إلى سيس أرسل صاحبها يطلب الأمان ، فأرسل الأمراء يكاتبون السلطان بذلك فعاد الجواب من السلطان : إن كان صاحب سيس يسلم هذه القلاع الثلاث وهي قلعة بهسنى وقلعة مرعش وتل حمدون فأعطوه الأمان ، وإن لم يسلم هذه القلاع الثلاث فحاصروه. فلما وصلت مراسيم السلطان بذلك سلم صاحب سيس تلك القلاع الثلاث وحصل الصلح ورجع العسكر من سيس.

سنة ٦٩٣

ذكر مقتل الملك الأشرف خليل وسلطنة أخيه

قال أبو الفداء : في أوائل المحرم قتل السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور قلاوون ، وساق سبب ذلك ، وأقيم في السلطنة مكانه أخوه الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون.

سنة ٦٩٤

ذكر استيلاء زين الدين كتبغا على المملكة

قال أبو الفداء : في هذه السنة في تاسع المحرم جلس الأمير زين الدي كتبغا المنصوري على سرير المملكة ولقب نفسه الملك العادل زين الدين كتبغا واستحلف الناس على ذلك ، وخطب له بمصر والشام ونقشت السكة باسمه ، وجعل مولانا السلطان الملك الناصر في قاعة بقلعة الجبل وحجب عنه الناس ، ولما تملك زين الدين كتبغا المذكور جعل

٢٧٦

نائبه في السلطنة حسام الدين لاجين الذي كان مستترا بسبب قتل السلطان الملك الأشرف.

ذكر إسلام قازان خان ملك التتر

قال أبو الفداء : في هذه السنة في ذي الحجة استقر قازان خان بن أرغون بن أبغا ابن هولاكو بن طلو بن جنكز خان في المملكة.

قال ابن خطيب الناصرية في ترجمته : غازان واسمه بالعربي محمود ، ولي أمر الملك بالبلاد الشرقية في سنة أربع وتسعين وستمائة عوضا عن القان بيدو بن طرغاي بن هولاكو ، وكان وزيره ومدبر مملكته زوج عمته الأمير نوروز التركي فحرضه على الإسلام فأسلم في شعبان من هذه السنة بخراسان على يد الشيخ الكبير المحدث صدر الدين إبراهيم بن الشيخ عبد الله بن حموية الجويني وذلك بقرب الري بعد خروجه من الحمام ، وجلس مجلسا عاما فتلفظ بشهادة الحق وهو يبتسم ووجهه يستنير ويتهلل ، وكان شابا أشقر مليحا له إذ ذاك بضع وعشرون سنة ، وضج المسلمون حوله عندما أسلم ضجة عظيمة من المغل والعجم وغيرهم ونثر على الخلق الذهب واللؤلؤ وكان يوما مشهودا ، وفشا الإسلام في حاشيته بتحريض الأمير نوروز المذكور ، فإنه كان مسلما خيرا صحيح الإسلام يحفظ كثيرا من القرآن والرقايق والأذكار ، ثم شرع نوروز يلقن الملك غازان شيئا من القرآن ويجتهد عليه ودخل رمضان فصامه ، ولو لا هذا الفوز الذي حصل له في الإسلام وإلا كان قد استباح الشام لما غلب عليه فلله الحمد والمنة اه. وسيأتيك خبر مجيئه إلى هذه البلاد سنة ٦٩٩.

وقال ابن كثير : في هذه السنة ملك التتار قازان بن أرغون فأسلم وأظهر الإسلام على يد الأمير نوروز رحمه‌الله تعالى ودخلت التتر أو أكثرهم في الإسلام ونثر الذهب واللؤلؤ والفضة على رؤوس الناس يوم إسلامه ، وتسمى بمحمود وشهد الجمعة والخطبة وخرب كنائس كثيرة وضرب عليهم الجزية ورد مظالم كثيرة ببغداد وغيرها من البلاد ، وظهرت السبح والهياكل مع التتر والحمد لله وحده اه.

٢٧٧

سنة ٦٩٦

ذكر خلع الملك العادل كتبغا

واستيلاء حسام الدين لاجين على المملكة

قال أبو الفداء ما خلاصته : في هذه السنة حصلت وقعة بين الملك العادل كتبغا وبين نائبه في السلطنة حسام الدين لاجين في دمشق أدت إلى خلع الملك كتبغا نفسه وطلب الأمان ، وأقيم في السلطنة حسام الدين لاجين وبايعه الأمراء ولقب بالملك المنصور ، وشرط عليه الأمراء شروطا منها أن لا ينفرد عنهم برأي ولا يسلط مماليكه عليهم كما فعل بهم كتبغا ، فأجابهم لاجين إلى ذلك ثم رحل بالعساكر المصرية إلى مصر وأعطى للعادل كتبغا صرخد.

ذكر قتل الأمير نوروز

قال ابن كثير : في هذه السنة قتل قازان نوروز الذي كان إسلامه على يديه ، كان نوروز هو الذي استسلمه ودعاه إلى الإسلام فأسلم وأسلم معه أكثر التتر ، فإن التتر شوشوا خاطر قازان عليه واستمالوه منه وعنه ، فلم يزل به حتى قتله وقتل جميع من ينسب إليه ، وكان نوروز هذا من خيار أمراء التتر عند قازان ولقد أسلم على يديه خلق كثير لا يعلمهم إلا الله واتخذوا السبح والهياكل وحضروا الجماعات وقرؤوا القرآن انتهى.

سنة ٦٩٧

ذكر تجريد العساكر إلى حلب ودخولهم إلى بلاد سيس

وعودهم إلى حلب ثم دخولهم ثانيا وما فتحوه

قال أبو الفداء : في هذه السنة جرد حسام الدين لاجين الملقب بالملك المنصور جيشا كثيفا من الديار المصرية مع بدر الدين بكتاش الفخري المعروف بأمير سلاح ومع علم الدين سنجر الدواداري ومع شمس الدين كريته ومع حسام الدين لاجين الرومي المعروف بالحسام أستاذدار ، فساروا إلى الشام ورسم لاجين المذكور بمسير عساكر الشام فسار البكي الظاهري نائب السلطنة بصفد ، ثم بعد مدة سار سيف الدين قبجق نائب

٢٧٨

السلطنة بالشام وأقام قبجق ببعض العسكر بحمص ، وسارت العساكر إلى حلب وسار الملك المظفر محمود صاحب حماة بعسكره ، ووصل المذكورون إلى حلب يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى الآخرة وسابع نيسان ، ثم ساروا إلى بلاد سيس فعبر صاحب حماة والدواداري ومن معهما من العساكر من دربندمري وعبر باقي العساكر من جهة بغراس من باب إسكندرونة واجتمعوا على نهر جيحان وشنوا الغارات على بلاد سيس في العشر الأوسط من شهر رجب ، وكسبوا وغنموا وعادوا فخرجوا من دربند بغراس إلى مرج أنطاكية في الحادي والعشرين من رجب من هذه السنة الموافق لرابع أيار ، وسار صاحب حماة الملك المظفر إلى جهة حماة حتى وصل إلى جهة قصطون فورد مرسوم لاجين بعود العساكر واجتماعهم بحلب ودخولهم إلى بلاد سيس ثانيا ، وهذه الغزاة من الغزوات التي حضرتها وشاهدتها من أولها إلى آخرها ، فعدنا إلى حلب ووصلنا إليها في يوم الأحد الثامن والعشرين من رجب وأقمنا ، ثم رحلنا من حلب ثالث رمضان من هذه السنة الموافق للعشرين من حزيران وأقام على حموص ١ بدر الدين بكتاش أمير سلاح والملك المظفر صاحب حماة ومن انضم إليهما من عسكر دمشق مثل ركن الدين بيبرس العجمي المعروف بالجالق ومضافيه من عسكر دمشق وحاصرنا حموص وضايقناها ، وأما باقي العسكر فإنهم نزلوا أسفل من حموص في الوطاة ، واستمر الحال على ذلك وقل الماء في حموص واشتد بهم العطش ، وكان قد اجتمع فيها من الأرمن عالم عظيم ليعتصموا بها وكذلك اجتمع فيها من الدواب شيء كثير فهلك غالبهم في العطش.

ولما اشتد بهم الحال وهلكت النساء والأطفال أخرج أهل حموص في الخامس والعشرين من رمضان وهو سابع عشر يوما من نزولنا عليها من نسائهم نحو ألف ومائتين من النساء والصبيان فتقاسمهم العسكر وغنموهم ، فكان قسمي جاريتين ومملوكا ، وأصابنا ونحن نازلون على حموص في العشر الأوسط من شهر تموز ضباب قوي ومطر ، وحصل للملك المظفر وهو نازل على حموص قليل مرض ولم يكن صحبته طبيبه فاقتصر على ما كنت أصفه له وأعالجه به فشفاه الله تعالى وعاد إلى العافية وأنعم علي وأحسن إلي على جاري عادته ، وكانت خيمته المنصوبة على حموص خيمة ظاهرها أحمر قد عملها من أكسية مغربية وداخلها منقوش بالخام الرفيع المصبغ ، وكانت الأمراء الذين لم ينازلوا حمص وهم مقيمون في الوطاة إذا

__________________

١ ـ هي من قلاع بلاد الأرمن.

٢٧٩

عرض لهم ما يقتضي المشاورة يطلعون إلى الجبل ويجتمعون في خيمة الملك المظفر وبين يديه يتشاورون على ما فيه المصلحة ، واستمر الحال على ذلك إلى أن فتحت حموص وغيرها على ما سنذكره.

ثم قال : ولما دخلت العساكر إلى سيس ونازلت حموص كان ملك الأرمن سنباط ، ولما ضاقت على الأرمن البلاد بما رحبت وهلكوا من كثرة ما قتل وغنم منهم المسلمون نسبوا ذلك إلى سوء تدبير سنباط وعدم مصانعته للمسلمين فكرهوه واتفقوا على إقامة أخيه دندين ابن ليفون في المملكة والقبض على سنباط ، واجتمع الأرمن على دندين فأحس سنباط بذلك فهرب إلى جهة قسطنطينية وتملك دندين ، ويقال له كسيندين أيضا ، فلما تملك دندين المذكور أرسل إلى العساكر المقيمة في بلاد سيس على حموص وعلى غيرها وبذل لهم الطاعة والإجابة إلى ما يرسم به سلطان الإسلام وأنه نائب السلطان بهذه البلاد ، فطلب منه العسكر أن يكون نهر جيحان حدا بين المسلمين والأرمن وأن يسلم كل ما هو جنوبي نهر جيحون من الحصون والبلاد ، فأجاب دندين المذكور إلى ذلك وسلم جميع البلاد التي جنوب نهر جيحان المذكور إلى المسلمين ، منها حموص وتل حمدون وكويرا والنفير وحجر شغلان وسرفندكار ومرعش ، وهذه جميعها حصون منيعة ما ترام ، وكذلك سلم غيرها من البلاد ، وكان تسليم حموص يوم الجمعة تاسع عشر شوال من هذه السنة ووافق ذلك ثامن شهر آب ، وسلمت تل حمدون بعدها ، ثم سلمت باقي الحصون والبلاد المذكورة ، وأمر حسام الدين لاجين الملقب بالملك المنصور باستمرار عمارة هذه البلاد ، وكان ذلك رأيا فاسدا على ما سيظهر من عود هذه البلاد إلى الأرمن عند دخول قازان البلاد. (ثم قال) : وعدنا من بلاد سيس ودخلنا حلب تاسع ذي القعدة.

ولما أقمنا بها ورد مرسوم حسام الدين لاجين إلى سيف الدين بلبان الطباخي [نائب حلب] بالقبض على جماعة من الأمراء المجردين مع العسكر ، فعلموا بذلك ، وكان قبجق مقيما بحمص مستشعرا خائفا من لاجين المذكور فهرب من حلب فارس الدين البكي نائب السلطنة بصفد وكان من جملة العسكر المجردين على حلب ، وكذلك هرب السلحدار وبورلار وغراز ووصلوا إلى حمص واتفقوا مع سيف الدين قبجق على العصيان. ولما هربوا ساق خلفهم أيدغدي شقير مملوك حسام الدين لاجين من حلب مع جماعة من العسكر

٢٨٠