إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٢

لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم ، وكانت القباب منصوبة من باب القلعة إلى باب الخانقاه المجاورة للميدان ، فكان مظفر الدين ينزل كل يوم بعد صلاة العصر ويقف على قبة قبة إلى آخرها ويسمع غناءهم ويتفرج على خيالاتهم وما يفعلونه في القباب ، ويبيت في الخانقاه ويعمل السماع فيها ، ويركب عقيب صلاة الصبح يتصيد ثم يرجع إلى القلعة قبل الظهر ، هكذا يعمل كل يوم إلى ليلة المولد ، وكان يعمله سنة في ثامن الشهر وسنة في ثاني عشره لأجل الاختلاف الذي فيه. فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئا كثيرا زائدا عن الوصف وزفها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي حتى يأتي بها إلى الميدان ، ثم يشرعون في نحرها وينصبون القدور ويطبخون الألوان المختلفة فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة ، ثم ينزل وبين يديه من الشموع المشتعلة شيء كثير وفي جملتها شمعتان من الشموع الموكبية التي تحمل كل واحدة منها على بغل ومن ورائها رجل يسندها وهي مربوطة على ظهر البغل حتى ينتهي إلى الخانقاه ، فإذا كان صبيحة المولد أنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على أيدي الصوفية على يد كل شخص منهم بقجة وهم متتابعون كل واحد وراء الآخر ، فينزل من ذلك شيء كثير لا أتحقق عدده ، ثم ينزل إلى الخانقاه وتجتمع الأعيان والرؤساء وطائفة كبيرة من بياض الناس ، وينصب كرسي للوعاظ ، وقد نصب لمظفر الدين برج خشب له شبابيك إلى الموضع الذي فيه الناس والكرسي وشبابيك أخر للبرج أيضا إلى الميدان ، وهو ميدان كبير في غاية الاتساع ، ويجتمع فيه الجند ويعرضهم ذلك النهار ، وهو تارة ينظر إلى عرض الجند وتارة إلى الناس والوعاظ ، ولا يزال كذلك حتى يفرغ الجند من عرضهم ، فعند ذلك يقدم السماط في الميدان للصعاليك ، ويكون سماطا عاما فيه من الطعام والخبز شيء كثير لا يحد ولا يوصف ، ويمد سماطا في الخانقاه للناس المجتمعين عند الكرسي ، وفي مدة العرض ووعظ الوعاظ يطلب واحدا واحدا من الأعيان والرؤساء والوافدين لأجل هذا الموسم ممن قدمنا ذكره من الفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء ويخلع على كل واحد منهم ، ثم يعود إلى مكانه ، فإذا تكامل ذلك حضروا السماط وحملوا منه لمن يقع التعيين على الحمل إلى داره ، ولا يزالون على ذلك إلى العصر أو بعدها ، ثم يبيت تلك الليلة هناك ويعمل السماعات إلى بكرة ، هكذا دأبه في كل سنة. وقد لخصت صورة الحال فإن الاستقصاء يطول ، فإذا فرغوا من هذا الموسم تجهز كل إنسان للعود إلى بلده فيدفع لكل شخص شيئا من النفقة. وقد ذكرت في ترجمة الحافظ أبي الخطاب بن دحية في حرف العين وصوله إلى إربل وعمله

٢٠١

لكتاب التنوير في مولد السراج المنير لما رأى من اهتمام مظفر الدين به وأنه أعطاه ألف دينار غير ما غرم عليه مدة إقامته من الإقامات الوافرة.

(ثم قال) : وكان كريم الأخلاق كثير التواضع حسن العقيدة سالم البطانة شديد الميل إلى أهل السنة والجماعة ، لا ينفق عنده من أرباب العلوم سوى الفقهاء والمحدثين ومن عداهما لا يعطيه شيئا إلا تكلفا. وكذلك الشعراء لا يقول بهم ولا يعطيهم إلا إذا قصدوه ، فما كان يضيع قصدهم ولا يخيب أمل من يطلب بره. وكان يميل إلى علم التاريخ وعلى خاطره منه شيء يذاكر به. ولم يزل رحمه‌الله تعالى مؤيدا في مواقفه ومصافاته مع كثرتها لم ينقل أنه انكسر في مصاف قط ، ولو استقصيت في تعداد محاسنه لطال الكتاب وفي شهرة معروفة غنية عن الإطالة.

(ثم قال) : وكانت ولادته بقلعة الموصل سنة تسع وأربعين وخمسمائة وتوفي في رمضان سنة ثلاثين وستمائة بداره في البلد ، ثم نقل إلى قلعة إربل ودفن بها ، ثم نقل إلى الكوفة ودفن بالقرب من المشهد رحمه‌الله.

سنة ٦٣١

ذكر وفاة الأتابك شهاب الدين طغريل الخادم

قال الصلاح الصفدي في تاريخه المرتب على السنين في حوادث هذه السنة : فيها توفي أتابك طغريل مملوك الملك الظاهر غازي صاحب حلب ، كان صالحا عفيفا زاهدا كثير الصدقات والإحسان ، وكان واسطة خير يحب الصالحين ، ولما توفي الظاهر قام بأمر ولده العزيز أحسن قيام واستمال الأشرف وحفظ عليه البلاد ، وكان قد طهر حلب من الفسق والفجور والمكوس والخمور ، وكان الأشرف يقول : إن كان لله تعالى ولي في الأرض فهو هذا الخادم ، فلما كبر العزيز ابن الظاهر تحدث عليه أقوام قصدهم أذى الخادم وقالوا له : قد رضيت لنفسك أن تكون تحت حجر هذا الخادم ، وكان له تل باشر فأخذها منه وأزال الحجر عنه ، وأقام الأتابك لا ينفذ له أمر فمرض ومات في هذه السنة ودفن بباب الأربعين اه.

وذكره العلامة ابن خلكان في آخر ترجمة القاضي بهاء الدين بن شداد قال : وتوفي الأتابك شهاب الدين طغريل ليلة الاثنين الحادي عشر من محرم سنة إحدى وثلاثين

٢٠٢

وستمائة بحلب ودفن بمدرسة الحنفية خارج باب الأربعين ، وكان خادما أرمني الجنس أبيض حسن السيرة محمود الطريقة ، وحضرت الصلاة عليه ودفنه رحمه‌الله تعالى.

آثاره بحلب

المدرسة الأتابكية :

قال في الدر المنتخب : (المدرسة الأتابكية) أنشأها شهاب الدين طغريل عتيق الملك الظاهر غياث الدين غازي نائب السلطنة بالقلعة الحلبية ومدبر الدولة بعد وفاة معتقه ، انتهت عمارتها في سنة ثمان عشرة وستمائة ، وأول من درس بها الشيخ الإمام العالم جمال الدين خليفة بن سليمان بن خليفة القرشي الحوارني الأصل ، ولم يزل بها إلى أن خرج من حلب فرارا من أيدي التتر أسوة من خرج من أهل بلده مع من كتب عليه الجلاء من أهل حلب ، وأحرقت في زمن التتر وهي داثرة الآن.

(قلت) : رممت بعد ذلك وكملت عمارتها واستقر في تدريسها العلامة شهاب الدين أحمد بن البرهان وكان مجتهدا في مذهب أبي حنيفة ، ولم تزل بيده إلى أن نزل عنها لجدي العلامة كمال الدين أبي الفضل محمد بن الشحنة ، وهي الآن باسم ولديّ المشار إليهما (هما أبو اليمن وعبد البر) ولكن ليس لها وقف إلا حصة كمنون ومتحصلها يسير جدا لا يقوم بمعلوم القائم والإمام ، وهي ملاصقة لدارنا من جهة القبلة.

قال أبو اليمن البتروني في حواشي الدر المنتخب : هذه المدرسة لا تكاد تذكر الآن أعني في سنة خمس وثلاثين وألف ، ولكن أخبرني بعض الناس أنها المدرسة الداثرة التي لدثورها رمها بعض الفقراء وجعلها مسكنا الكائنة بالقرب من الجامع الحادث المعروف بالعادلية بالجانب الشرقي منه قبلي الخان الموقوف على الجامع المذكور ، وبين الخان المذكور وبينها زقاق ، كما أن بينها وبين الجامع المذكور زقاق ، والآن قد صارت مسكنا يسكنها بعض الناس ، وقد سد بابها وجعل له باب آخر يدخل منه إليها ، ودور ذرية المصنف (أي بني الشحنة) قريبة إليها ، إلا أن الدور المذكورة في الجانب الشرقي من الزقاق الذي بينها وبين المدرسة وهي الآن بيد ولد أخي وهو مولانا القاضي عبد الرحمن بن شيخ الإسلام أبي الجود أفندي تولاها بعد أن عزل عن قضاء حماة ، والذي أدركناه من قرية كمنون أنها جميعها وقف المدرسة ولها محصول وافر اه.

٢٠٣

أقول : قبلي الخان المذكور المسمى الآن بخان الفرّايين وأمام باب جامع العادلية وباب قايسارية العلبية عرصة واسعة نصفها الشمالي أو أكثر من النصف هو هذه المدرسة ودور بني الشحنة. المدرسة من جهة الغرب أمام باب الجامع والدور من جهة الشرق. وقد حفر منذ عهد قريب أمام شبابيك الحمام المعروفة بحمام ميخان فوجد أثر باب كبير وقد رأيته ويغلب على الظن أنه باب المدرسة وهي آخذة إلى الشمال ، وبين هذا الباب ومدفن كوهر ملك شاه السلطانة الواقع قبلي العرصة مقدار ستة أذرع.

المدرسة الأتابكية أيضا :

قال في الدر المنتخب : [المدرسة الأتابكية] : أنشأها الأتابك شهاب الدين طغريل الظاهري المقدم ذكره وتمت في سنة عشرين وستمائة ، وأول من درس بها صفي الدين عمر الحموي وبعده نظام الدين محمد بن محمد بن عثمان البلخي الأصل ، ولم يزل بها إلى أن توفي بحلب ، فوليها بعده ولده تقي الدين أحمد ، ولم يزل بها إلى أن قتل في فتنة التتر ، ثم وليها في الأيام الظاهرية الفقيه فخر الدين عبد الرحمن بن إدريس ، ثم خرج عنها إلى ديار مصر اه.

وقال أيضا : خانقاه أنشأها خارج باب الأربعين بالجبيل.

أقول : موقع هذه المدرسة والخانقاه في محلة الجبيلة في الزقاق الكائن عن يسار الداخل من باب الحديد ، وهما متلاصقتان على مكان مرتفع ولهما بابان بجانب بعضهما بينهما أربعة أذرع مكتوب على باب المدرسة :

هذا ما تقدم بإنشائه العبد الفقير إلى رحمة الله وكرمه الشاكر لما أفاض عليه رحماته أبو سعيد طغرل بن عبد الله الملكي الظاهري تقبل الله منه وأثابه مسجدا لله تعالى تقام فيه الصلوات الخمس في أوقاتها ويسكنه المدرس والفقهاء الحنفية على ما شرطه في كتاب الوقف ، وإن قدر الله وفاته خارج مدينة حلب يدفن فيه في الموضع المعد له ويلازمه القراء للقرآن العظيم على ما شرطه ، فلا يحل لأحد يغيره عما وضع له ، ومن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ، وذلك في شهور سنة عشرين وستمائة.

وفي صدر المدرسة قبلية في طرفها الأيمن إيوان في وسطه ضريح هو قبر الواقف طغرل ، والكتابة التي كانت على الباب الآخر وهو باب الخانقاه محيت ، وعليه الآن كتابة

٢٠٤

حديثة كتبت سنة ١٢٨٦ خلاصتها أنه جدد هذا المكان بإشارة الإلهام الشيخ الهمام مربي المريدين الشيخ محمد بن أحمد المكي القرشي من خلفاء محمد جان النقشبندي.

والذي تحقق عندي أن هذا الرجل من أهالي مرعش كان حضر إلى حلب قبل التاريخ المتقدم بقليل وتوجه منها إلى مكة وبقي فيها مدة وجيزة ، ثم عاد إلى حلب وهو على زي أهل مكة من العمامة والجبة وادعى أنه مكي قرشي.

وكان في الخانقاه في جهاتها الثلاث الشرقية والغربية والشمالية حجر صغيرة ويسكن هناك رجل مصري كفيف حافظ لكتاب الله تعالى فسعى في إخراجه وسكن هو وكتب ما كتب على باب الخانقاه وصار يقيم الذكر في قبلية المدرسة ، وصار بعض موظفي الأتراك يترددون إليه ويعتقدون عليه ويبرونه ، وكان باب القبلية متوهنا فسعى في تجديده في سنة ١٣٠٢ وكتب على جداره : هذا المقام للسيد علي جواد ابن سيدنا الإمام الباقر رضي‌الله‌عنه. وقد اتخذ هذه الكتابة وسيلة لجر مغنم إليه خصوصا من النساء ، وهذا محض افتراء منه لأن الضريح الذي في إيوان القبلية هو ضريح الواقف رحمه‌الله كما تقدم لك نقله عن الصلاح الصفدي وابن خلكان. ثم إنه لم يقف عند هذا الحد بل خرب الحجر الصغيرة التي في الخانقاه وبنى موضعها بيتين وصارت الخانقاه على هيئة دار وطيّن باب الخانقاه لتخفى الكتابة التي كتبها على الباب ، وادعى حينئذ أن الدار له وحاول تسجيلها في الحكومة على أنها ملكه ، فعندئذ قام أهل المحلة ورفعوا الأمر للمحكمة الشرعية ، وأخيرا أزيلت يده وأخرج من المكان.

ومنذ عشرين سنة وضعت دائرة المعارف يدها على المدرسة والخانقاه ورفعت الجدار الذي كان بينهما ، ولم يزل أثره باقيا إلى الآن وصار المكانان مكانا واحدا ، وبنت فيه تحت وفوق غرفا للطلبة واتخذته مدرسة ابتدائية تسمى الآن مدرسة النجاة ، والباقي في المدرسة من الحجر القديمة التي كانت للطلاب هي الحجر الثلاث الشرقية كما يظهر لك بالتأمل قليلا.

والقبلية محتاجة إلى الترميم جدا ، يتوالى نزول الأتربة من سقفها ، وسألت عن سبب بقائها مشعثة فعلمت أن دائرة الأوقاف مهملة لشأنها لوضع دائرة المعارف يدها على المكان جميعه واتخاذه مدرسة. وتقول دائرة المعارف إن أمر القبلية يرجع إلى دائرة الأوقاف. وهكذا ضاع هذا المكان بين هاتين الدائرتين ولله الأمر. والباقي لهذا المكان من الأوقاف أراض عشرية يبلغ ريعها ثلاثين ليرة عثمانية ذهبا وقد فقد الكثير من أوقافها.

٢٠٥

ذكر بناء قلعة المعرة

قال أبو الفداء : وفي هذه السنة استتم بناء قلعة المعرة وكان قد أشار سيف الدين علي بن أبي علي الهذباني على الملك المظفر صاحب حماة ببنائها فبناها وتمت الآن وشحنها بالرجال والسلاح ، ولم يكن ذلك مصلحة لأن الحلبيين حاصروها فيما بعد وأخذوها وخربت المعرة بسببها اه.

سنة ٦٣٢

ذكر وفاة الملك الزاهر داود صاحب البيرة

قال أبو الفداء : في هذه السنة توفي الملك الزاهر داود صاحب البيرة ابن السلطان صلاح الدين ، وكان قد مرض في العسكر الكاملي فحمل إلى البيرة مريضا وتوفي بها. وملك البيرة بعده ابن أخيه الملك العزيز محمد صاحب حلب ، وكان الزاهر المذكور شقيق الظاهر صاحب حلب اه.

وقال الصلاح الصفدي في حوادث هذه السنة بعد أن ذكر وفاته : مولده سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة ، وكان فاضلا أديبا وشاعرا مجيدا ، ومن شعره رحمه‌الله :

يا راحلين ولم يقدموا

لقد بان صبري مذ بنتم

وعدتم بأن تبعثوا طيفكم

فهلّا وفيتم بما قلتم

وفارقتموني على أنكم

تعودون نحوي فما عدتم

فشوقي شديد إلى قربكم

وصبري ضعيف ولم تعلموا

يجدّد لي كل يوم بكم

غرام فأظهر ما أكتم

وأذكر عصرا مضى وانقضى

وقد نلت فيه المنى منكم

وأرتقب البرق من نحوكم

وأسأل ريح الصبا عنكم

بحرمة ما بيننا سالفا

من العهد إلا تعطفتم

فأين مواثيق تلك العهود

وأنتم على العهد ما خنتم

ذكر استيلاء كيقباذ بن كيخسرو على حران والرها

قال أبو الفداء : وفيها لما تفرقت العساكر الكاملية قصد كيقباذ بن كيخسرو

٢٠٦

صاحب بلاد الروم حران والرها وحاصرهما واستولى عليهما ، وكانا للسلطان الملك الكامل اه.

ذكر وفاة القاضي بهاء الدين بن شداد

قال أبو الفداء : وفي هذه السنة توفي القاضي بهاء الدين يوسف بن رافع بن شداد في صفر وكان عمره نحو ثلاث وتسعين سنة ، وصحب السلطان صلاح الدين وكان قاضي عسكره ، ولما توفي صلاح الدين كان عمر القاضي المذكور نحو خمسين سنة. ونال القاضي بهاء الدين المذكور من المنزلة عند أولاد صلاح الدين وعند الأتابك طغريل ما لم ينلها أحد. وأصله من الموصل ، وكان فاضلا دينا ، وكان إقطاعه على الملك العزيز ما يزيد على مائة ألف درهم في السنة اه.

(أقول) : وهو مؤلف السيرة الصلاحية المسماة بالنوادر اليوسفية ، وهي مطبوعة في مصر ، وقد مر بك نقول كثيرة عنها وصاحب الروضتين قد أتى على معظمها. وقد ذكرناه في القسم الثاني بأبسط من هذا.

سنة ٦٣٣

قال أبو الفداء : وفي هذه السنة سار السلطان الملك الكامل من مصر إلى البلاد الشرقية واسترجع حران والرها من يد كيقباذ صاحب بلاد الروم وأمسك كيقباذ ونوابه الذين كانوا بهما وقيدهم وأرسلهم إلى مصر فلم يستحسن ذلك منه.

سنة ٦٣٤

ذكر وفاة الملك العزيز محمد صاحب حلب

وولاية ابنه الملك الناصر يوسف

قال أبو الفداء : وفي هذه السنة كان قد خرج الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى حارم للصيد ورمي البندق ، واغتسل بماء بارد فحم ، ودخل إلى حلب وقد قويت به الحمى واشتد مرضه وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة وكان عمره ثلاثا وعشرين سنة وشهورا. وكان حسن السيرة

٢٠٧

في رعيته ، ولما توفي تقرر في الملك بعده ولده الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز محمد وعمره نحو سبع سنين ، وقام بتدبير الدولة شمس الدين لولو الأرمني وعز الدين عمر بن مجلي وجمال الدولة إقبال الخاتوني ، والمرجع في الأمور إلى والدة الملك العزيز ضيفة خاتون بنت الملك العادل اه.

وقال صلاح الدين الصفدي في تاريخه المرتب على السنين في حوادث هذه السنة : فيها توفي الملك العزيز محمد بن الظاهر غازي. ولد في ذي الحجة سنة تسع وستمائة ، وتوفي والده وهو طفل ونشأ في حجر شهاب الدين طغريل الخادم ، فرتب أموره أحسن ترتيب وقام بدولته القيام العجيب إلى أن ترعرع واستقل بالأمر وفك عن نفسه الحجر ، توفي بحلب ودفن بالقلعة ، وكان حسن الصورة كريما عفيفا ولم يبلغ أربعا وعشرين سنة ، وملك حلب بعده ولده الملك الناصر الذي قتله التتر رحمهما‌الله تعالى.

وقال في الزبد والضرب : دفن بالقلعة ؛ ودفنت والدته بالحجرة تجاه الصفة التي دفن فيها ولدها الملك العزيز اه.

وفي المختار من الكواكب المضية نقلا عن العلامة الذهبي في تاريخ الإسلام أنه دفن في مشهد الفردوس شمالي قبة الشيخ علي الهروي وغربي جبانة الصالحين وقبلي جبانة القلعيين ، وهو مشهد مبارك تقام فيه الجمعة اه.

(أقول) : لعله بعد أن دفن في القلعة نقل إلى مشهد الفردوس.

ذكر توجه عسكر حلب مع تورانشاه لمحاصرة بغراس

قال أبو الفداء : في هذه السنة توجه عسكر حلب مع الملك المعظم تورانشاه عم الملك العزيز فحاصروا بغراس ، وكان قد عمرها الداوية بعد ما فتحها السلطان صلاح الدين وخربها وأشرف عسكر حلب على أخذها ، ثم رحلوا عنها بسبب الهدنة مع صاحب أنطاكية ، ثم إن الفرنج أغاروا على ربض درب ساك وهي حينئذ لصاحب حلب فوقع بهم عسكر حلب وولى الفرنج منهزمين وكثر فيهم القتل والأسر ، وعاد عسكر حلب بالأسرى ورؤوس الفرنج وكانت هذه الوقعة من أجلّ الوقائع اه.

٢٠٨

سنة ٦٣٥

ذكر استيلاء الحلبيين على المعرة وحصارهم حماة

قال أبو الفداء : في هذه السنة توفي الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بدمشق ، ولما بلغ الحلبيين موت الكامل اتفقت آراؤهم على أخذ المعرة ثم أخذ حماة من الملك المظفر صاحب حماة لموافقته الملك الكامل على قصدهم ، ووصل عسكر حلب إلى المعرة وانتزعوها من يد الملك المظفر صاحب حماة وحاصروا قلعتها ، وخرجت المعرة حينئذ عن ملك الملك المظفر صاحب حماة. ثم سار عسكر حلب ومقدمهم المعظم تورانشاه بن صلاح الدين إلى حماة بعد استيلائهم على المعرة ونازلوا حماة وبها صاحبها الملك المظفر ، ونهب العسكر الحلبي بلاد حماة ، واستمر الحصار على حماة حتى خرجت هذه السنة.

ذكر الخطبة بحلب إلى كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو

قال أبو الفداء : وفي هذه السنة عقد لسلطان الروم غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو العقد على غازية خاتون بنت الملك العزيز محمد صاحب حلب وهي صغيرة حينئذ ، وتولى القبول عن ملك الروم قاضي دوقات ، ثم عقد للملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز صاحب حلب العقد على أخت كيخسرو وهي ملكة خاتون بنت كيقباذ ابن كيخسرو بن قليج أرسلان ، وأم ملكة خاتون المذكورة بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، وقد كان زوجها الملك المعظم عيسى صاحب دمشق بكيقباذ المذكور وخطب لغياث الدين كيخسرو بحلب اه.

سنة ٦٣٨

ذكر عود العساكر الحلبية عن محاصرة حماة

قال أبو الفداء : في هذه السنة نزل الملك الحافظ أرسلان شاه ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب عن قلعة جعبر وبالس وسلمها إلى أخته ضيفة خاتون صاحبة حلب ، وتسلم عوض ذلك أعزاز وبلادا معها تساوي ما نزل عنه ، وكان سبب ذلك أن الملك

٢٠٩

الحافظ المذكور أصابه فالج وخشي من أولاده وتغلبهم عليه ففعل ذلك لأنه كان ببلاد قريبة إلى حلب لا يمكنهم التعرض إليه اه.

ذكر عيث الخوارزمية في البلاد الحلبية والقتال بينهما

قال أبو الفداء : وفي هذه السنة كثر عيث الخوارزمية القاطنين في بلاد حران وفسادهم بعد مفارقة الملك الصالح أيوب البلاد الشرقية ، وساروا إلى قرب حلب فخرج إليهم عسكر حلب مع الملك المعظم تورانشاه بن صلاح الدين ووقع بينهم القتال فانهزم الحلبيون هزيمة قبيحة وقتل منهم خلق كثير منهم الملك الصالح ابن الملك الأفضل ابن السلطان صلاح الدين ، وأسر مقدم الجيش الملك المعظم المذكور ، واستولى الخوارزميون على أثقال الحلبيين وأسروا منهم عدة كثيرة ، ثم كانوا يقتلون بعضهم ليشتري غيره نفسه منهم بماله فأخذوا بذلك شيئا كثيرا ، ثم نزل الخوارزمية بعد ذلك على حيلان وكثر عيثهم وفسادهم ونهبهم في بلاد حلب ، وجفل أهل الحواضر والبلاد ودخلوا مدينة حلب واستعد أهلها للحصار ، وارتكب الخوارزمية من الفواحش والقتل ما ارتكبه التتر. ثم سارت الخوارزمية إلى منبج وهجموها بالسيف يوم الخميس لتسع بقين من ربيع الأول من هذه السنة وفعلوا من القتل والنهب مثل ما تقدم ذكره ، ثم رجعوا إلى بلادهم وهي حران وما معها بعد أن أخربوا بلد حلب.

ثم إن الخوارزمية رحلوا من حران وقطعوا الفرات من الرقة ووصلوا إلى الجبّول ثم إلى تل عزاز ثم إلى سرمين ثم إلى المعرة وهم ينهبون ما يجدونه ، فإن الناس جفلوا من بين أيديهم ، وكان قد وصل الملك المنصور إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص ومعه عسكر من عسكر الصالح إسماعيل المستولي على دمشق نجدة للحلبيين ، فاجتمع الحلبيون مع صاحب حمص المذكور وقصدوا الخوارزمية ، واستمرت الخوارزمية على ما هم عليه من النهب حتى نزلوا على شيزر ونزل عسكر حلب على تل السلطان ، ثم رحلت الخوارزمية إلى جهة حماة ولم يتعرضوا إلى نهب لانتماء صاحبها الملك المظفر إلى الملك الصالح أيوب ، ثم سارت الخوارزمية إلى سلمية ثم إلى الرصافة طالبين الرقة ، وسار عسكر حلب من تل السلطان ولحقتهم العرب فأرمت الخوارزمية ما كان معهم من المكاسب وسيبوا الأسرى ، ووصلت الخوارزمية إلى الفرات في أواخر شعبان في هذه السنة ولحقهم عسكر حلب وصاحب حمص إبراهيم قاطع صفين ، فعمل لهم الخوارزمية ستائر ووقع القتال بينهم إلى الليل فقطع

٢١٠

الخوارزمية الفرات وساروا إلى حران ، فسار عسكر حلب إلى البيرة وقطعوا الفرات منها وقصدوا الخوارزمية والتقوا قريب الرها لتسع بقين من رمضان هذه السنة ، فولى الخوارزمية منهزمين ، وركب صاحب حمص وعسكر حلب أقفيتهم يقتلون ويأسرون إلى أن حال الليل بينهم ، ثم سار عسكر حلب إلى حران فاستولوا عليها وهربت الخوارزمية إلى بلد عانة ، وبادر بدر الدين لولو صاحب الموصل إلى نصيبين ودارا وكانتا للخوارزمية فاستولى عليهما وخلص من كان بهما من الأسرى ، وكان منهم الملك المعظم توران شاه ابن السلطان صلاح الدين أسيرا في بلدة دارا من حين أسروه في كسرة الحلبيين ، فحمله بدر الدين لولو إلى الموصل وقدم له ثيابا وتحفا وبعث به إلى عسكر حلب ، واستولى عسكر حلب على الرقة والرها وسروج ورأس عين وما مع ذلك ، واستولى صاحب حمص المنصور إبراهيم على بلد الخابور. ثم سار عسكر حلب ووصل إليهم نجدة من الروم وحاصروا الملك المعظم ابن الملك الصالح أيوب بآمد وتسلموها منه وتركوا له حصن كيفا وقلعة الهيثم ، ولم يزل ذلك بيده حتى توفي أبوه الملك الصالح أيوب بمصر وسار إليها المعظم المذكور على ما سنذكره إن شاء الله تعالى ، وبقي ولد المعظم وهو الملك الموحد عبد الله ابن المعظم تورانشاه ابن الصالح أيوب مالكا لحصن كيفا إلى أيام التتر وطالت مدته بها اه.

سنة ٦٣٩

وفاة الملك الحافظ أرسلان صاحب أعزاز ونقله إلى حلب

قال أبو الفداء : في هذه السنة في ذي الحجة توفي الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه ابن الملك العادل بن أيوب بأعزاز وهي التي تعوضها عن قلعة جعبر ، ونقل إلى حلب فدفن في الفردوس ، وتسلم نواب الملك الناصر يوسف صاحب حلب قلعة أعزاز وأعمالها اه.

سنة ٦٤٠

ذكر القتال بين الحلبيين والخوارزمية وانهزام الخوارزمية

قال أبو الفداء : وفي هذه السنة كان بين الخوارزمية ومعهم الملك المظفر غازي صاحب ميافارقين وبين عسكر حلب ومعهم المنصور إبراهيم صاحب حمص مصاف قريب

٢١١

الخابور عند المجدل يوم الخميس لثلاث بقين من صفر هذه السنة ، فولى المظفر غازي والخوارزمية منهزمين أقبح هزيمة ونهب منهم عسكر حلب شيئا كثيرا ونهبت وطاقات الخوارزمية ونساؤهم أيضا ، ونزل الملك المنصور إبراهيم في خيمة الملك المظفر غازي واحتوى على خزائنه ووطاقه ، ووصل عسكر حلب وصاحب حمص إلى حلب في مستهل جمادى الأولى مؤيدين منصورين.

ذكر وفاة الملكة ضيفة خاتون صاحبة حلب

قال أبو الفداء : وفي هذه السنة في ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى توفيت ضيفة خاتون بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، وكان مرضها قرحة في مراق البطن وحمى ، ودفنت بقلعة حلب. وكان مولدها سنة إحدى أو اثنتين وثمانين وخمسمائة بقلعة حلب حين كانت حلب لأبيها الملك العادل قبل أن ينتزعها منه أخوه السلطان صلاح الدين ويعطيها ابنه الظاهر غازي ، فاتفق مولدها ووفاتها بقلعة حلب ، ولما ولدت كان عند أبيها الملك العادل ضيف فسماها ضيفة فكانت مدة عمرها نحو تسع وخمسين سنة. وكان الملك الظاهر صاحب حلب قد تزوج قبل ضيفة خاتون بأختها غازية وتوفيت ، فلما توفيت غازية تزوج بأختها ضيفة خاتون المذكورة ، وكانت ضيفة خاتون قد ملكت حلب بعد وفاة ابنها الملك العزيز وتصرفت في الملك تصرف السلاطين وقامت بالملك أحسن قيام ، وكانت مدة ملكها نحو ست سنين ولما توفيت كان عمر ابن ابنها الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز نحو ثلاث عشرة سنة فأشهد عليه أنه بلغ وحكم واستقل بمملكة حلب وما هو مضاف إليها والمرجع في الأمور إلى جمال الدين إقبال الأسود الخصي الخاتوني اه.

وقال في الزبد والضرب : دفنت في الحجرة بالقلعة تجاه الصفة التي دفن فيها ولدها الملك العزيز.

آثارها بحلب

خانقاه : داخل باب الأربعين تجاه مسجد الشيخ الحافظ عبد الرحمن ابن الأستاذ (در المنتخب).

٢١٢

الفردوس :

هي خارج باب المقام. قال في الزبد والضرب : جعلتها تربة ومدرسة ورباطا ورتبت فيه خلقا من القراء والصوفية والفقهاء ، وهي معدودة في تاريخ ابن شداد من مدارس الشافعية ، وها هو اسمها مكتوب عليها في سطر حسن الخط جدا ، وما أحسن ما قيل في هذا المكان :

في باب فردوس حلب

سطر من الخط عجب

فيه صحاف من ذهب

هن صحاف من ذهب

يشير الشاعر بما ذكره إلى ما كتب هناك من الآية التي فيها ذكر صحاف الذهب التي يطاف بها على أهل الجنة.

أقول : هذه المدرسة لم تزل عامرة إلى الآن بل هي المدرسة الوحيدة التي حفظتها لنا الأيام في الجملة في تلك الأماكن ، وفي زماننا هذا لا قراء فيها ولا فقهاء غايته أنه تقام فيها الجمعة ويكثر المصلون فيها يوم الجمعة أيام الربيع. أما محرابها وعموداه وما فوقه فهو مما يستوقف الناظر إليه لحسن صنعته وبداعة هندسته وإحكام بنائه ، ولعله أعظم أثر عربي موجود في الشهباء ، ويتجلى لك فيه ما وصل إليه فن البناء في ذلك العصر من الرقي.

وعن يمين القبلية حجرة واسعة فيها ثمانية قبور لم تعلم أصحابها على التعيين لأن الكتابة التي على ألواح القبور كادت تكون ممحوة ، وقد تقدم وسيأتي لنا ذكر أشخاص من ملوك بني أيوب وغيرهم قلنا إنهم دفنوا في الفردوس.

وعن يسار القبلية حجرة كذلك وفي وسطها ضريحان بجانب بعضهما وعلى أحدهما ستار أخضر كتب عليه : هذا قبر علي بن أبي طالب نقله إلى هنا سيف الدولة بن حمدان. وهذا كذب لا أصل له ولا أدري من كتبه ولا زمن ذلك ، فإن قبر علي كرم الله وجهه في الكوفة في قصر الإمارة في مكان لا يعرف على التحقيق ، ولم نر مؤرخا قال إن عليا رضي‌الله‌عنه نقل إلى حلب مع شدة اعتناء المؤرخين خصوصا الشيعة بأخبار علي

٢١٣

وآله رضي‌الله‌عنهم أجمعين. وأرى أن من الواجب على دائرة الأوقاف أن تمحو هذه الكتابة.

وفي صحن المدرسة حوض مركب من ثمانية أحجار كبيرة بديعة الصنعة جدا ، غير أن الماء لا يأتيه في هذه الأزمنة ، وفيه عواميد ضخمة جدا خمسة منها لم تزل مرفوعة ، وثلاث منها وهي عواميد الجهة الغربية ملقاة على الأرض مع عدة قواعد لها ، وعن يمين الصحن ويساره بيتان كبيران قد امتلئا من القبور ثلاث منها أو أربع قديم والباقي حادث ولا نعلم أصحابها ، والذي علمته أن المتولين على هذه المدرسة من أهل تلك المحلة كانوا يدفنون هناك مع بعض أهليهم وذراريهم حتى ملؤوا المكانين على سعتهما ويظهر أنهما محل الرباط قديما.

وفي شماليها إيوان كبير جدا مبني بالحجارة الضخمة كتب على يمينه فوق مدخل المدرسة : بسم الله الرحمن الرحيم لله در أقوام إذا جن عليهم الليل سمعت لهم أنين وألحان وإذا أصبحوا رأيت عليهم تغير ألوان. إذا ما الليل أقبل [وداخل الإيوان من الأيمن] كابدوه. ويسفر عنهم وهم ركوع. أطار الشوق نومهم فقاموا. وأهل الأمن في الدنيا هجوع. أجسادهم تصبر على التعبد ، وأقدامهم ليلها تقيم على التهجد. لا يرد لهم صوت ولا دعاء ، تراهم في ليلهم سجدا ركعا قد ناداهم النادي وأطرابهم الشادي. يا رجال الليل (وفي صدره) جدوا. رب صوت لا يرد. ما يقوم الليل إلا. من له حزم وجد. لو أرادوا في ليلهم ساعة أن يناموا أقلقهم الشوق إليه فقاموا ، وجذبهم الوجد والغرام فهاموا ، وأنشدهم بريد الحضرة وبثهم ، وحملهم على المناجاة وحثهم. حثوا مطاياكم وجدوا. إن كان لي في القلوب وجد. قد آن أن تظهر الخبا [وفي يساره] يا. وتنشر الصحف فاستعدوا. الفرش مشتقاته إليهم والوسائد متأسفة عليهم ، النوم قرم إلى عيونهم والراحة مرتاحة إلى جنوبهم. الليل عندهم أجل الأوقات في المراتب ومسامرهم عند تهجده يرعى الكواكب. وزارني طيفك حتى [وفي الجانب الأيسر خارج الإيوان] إذا أراد أن يمضي تعلقت به. فليت ليلي لم يزل سرمدا والصبح لم أنظر إلى كوكبه. هجروا المنام في الظلام ، وتلذذوا بطول المقام ، وناجوا ربهم بأطيب كلام. [وفي الجدار الغربي] وأنسوا بقرب الملك العلام. لو

٢١٤

احتجبوا عنه في ليلهم لذابوا ولو تغيبوا عنه لحظة لما طابوا. يديمون التهجد إلى السحر ويتوقعون ثمر اليقظة والسهر. بلغنا أن الله تبارك وتعالى يتجلى للمحبين فيقول لهم : من أنا فيقولون : أنت مالك رقابنا فيقول : أنتم أحبتي أنتم أهل ولايتي وعنايتي ، ها وجهي فشاهدوه ها كلامي فاسمعوه ها كأسي فاشربوه ، وسقاهم ربهم شرابا طهورا ، إذا شربوا طابوا ثم طربوا إذا طربوا قاموا ، إذا قاموا هاموا ، إذا هاموا طاشوا ، إذا طاشوا عاشوا ، لما حملت ريح الصبا قميص يوسف لم يفضض ختامه إلا يعقوب ، ما عرفه أهل كنعان ومن عندهم خرج ولا يهودا وهو الحامل ١ اه.

وعلى الجدار الشرقي :

البسملة ، هذا ما أنشأته الستر الرفيع والحجاب المنيع عصمة الدنيا والدين ضيفة

__________________

١ ـ يلاحظ القارىء أن هذه الكتابة فيها أربعة مقاطع شعرية كل مقطع مكون من بيتين ، هي :

إذا ما الليل أقبل كابدوه

ويسفر عنهم وهم ركوع

أطار الشوق نومهم فقاموا

وأهل الأرض في الدنيا هجوع

يا رجال الليل جدوا

رب صوت لا يرد

ما يقوم الليل إلا

من له حزم وجد

حثوا مطاياكم وجدوا

إن كان لي في القلوب وجد

قد آن أن تظهر الخبايا

وتنشر الصحف فاستعدوا

وزارني طيفك حتى إذا

أراد أن يمضي تعلقت به

فليت ليلي لم يزل سرمدا

والصبح لم أنظر إلى كوكبه

٢١٥

خاتون بنت السلطان الملك العادل والدة السلطان الملك العزيز بن الملك الظاهر في أيام مولانا السلطان الملك الناصر صلاح الدنيا والدين يوسف بن الملك العزيز محمد بن غازي ابن يوسف ناصر أمير المؤمنين خلد الله ملكه.

وعلى الجدار الشرقي من خارج المدرسة :

البسملة ، يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ، الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ، ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون ، يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ، وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون (١). هذا ما أمر بإنشائه الستر الرفيع والجناب المنيع الملكة الرحيمة عصمة الدنيا والدين ضيفة خاتون ابنة السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب تغمدهم الله برحمته ، وذلك في أيام مولانا السلطان الملك الناصر العالم العادل المجاهد المرابط المؤيد المظفر المنصور صلاح الدنيا والدين يوسف بن الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غازي بن يوسف بن أيوب ناصر أمير المؤمنين عز نصره.

بتولي العبد الفقير عبد المحسن العزيزي الناصري رحمه‌الله

في سنة ثلاثة وثلاثين وستمائة.

وقد كان للمدرسة باب قديم فيه شيء من الصنعة فقلعته إدارة الأوقاف من نحو ثماني سنين وألقته في رواق إدارتها في خان الكمرك بين ما يوضع هناك من الأخشاب العتيقة التي يقل الفائدة منها ، وعملت للمدرسة بابا جديدا ويا ليتها أبقت القديم على قدمه.

وإذا شاهدت محراب هذه المدرسة وصحنها وما فيه من العواميد العظيمة وإيوانها وقنطرته المبنية من الأحجار الضخمة وقفت خاضعا خاشعا وتجلت لك عظمة البانين وما كانوا عليه من العناية والاهتمام في شأن العلم وأهله والعناية في رفع مناره وتشييد الأبنية الضخمة له ورصد الأوقاف الكثيرة لأجله ، فلا غرابة إذا انتشر العلم في ذلك العصر وراجت أسواقه وتهافت الناس عليه ، وقد خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا

__________________

(١) سورة الزخرف.

٢١٦

الشهوات ولم يبق للأمراء والأغنياء في عصرنا الحاضر عناية إلا بتثمير أموالهم والعكوف على ملذاتهم وإنفاق أموالهم في غير ما يرضي الله تعالى وفيما لا يعود بشيء من النفع على الأمة ، فلا تستغرب إذا حل بهم البلاء وأحاط بهم الشقاء (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ). وهذا الأثر العظيم هو البقية الباقية من الآثار القديمة في حلب وهو في حاجة كبرى إلى الترميم في عدة أماكن ، ولعل إدارة الأوقاف تمد له يد الاهتمام والعناية ليحافظ على حالته الحاضرة وتعود إليه بهجته الأولى. والباقي له الآن من الأوقاف أراض عشرية يبلغ ريعها عشرين ليرة عثمانية ذهبا.

ونختم الكلام على هذا المكان بلطيفة ذكرها الصلاح الصفدي في تاريخه الوافي بالوفيات في ترجمة الشيخ كمال الدين محمد بن علي الزملكاني قال : لما توجه إلى قضاء حلب نزل في مكان يعرف بالفردوس ، وكان معه شمس الدين محمد الخياط الشاعر المشهور الدمشقي فأنشده لنفسه وأنشدني من لفظه غير مرة :

يا حاكم الحكام يا من به

قد شرفت رتبته الفاخره

ومن سقى الشهباء مذ حلّها

بحار علم وندى زاخره

نزلت في الفردوس فابشر به

دارك في الدنيا وفي الآخره

اه. وكانت وفاة الزملكاني في سنة ٧٢٧ وله في فوات الوفيات ترجمة حافلة.

سنة ٦٤١

قال أبو الفرج الملطي في تاريخه مختصر الدول : في سنة إحدى وأربعين غزا يساورنوين الشام ووصل إلى موضع يسمى حيلان على باب حلب وعاد عنها لحفى أصاب خيول المغول ، واجتاز بملطية وخرب بلدها ورعى غلاتها وبساتينها وكرومها وأخذ منها أموالا عظيمة حتى خشل النساء وصلبان البيع ووجوه الأناجيل وآنية القداس المصوغة بالذهب والفضة ، ثم رحل عنها اه.

سنة ٦٤٤

ذكر محاصرة الخوارزمية دمشق ثم اقتتالهم

مع العساكر الحلبية عند بحيرة حمص وانكسارهم وتشتت شملهم

ذكر الصلاح الصفدي في تاريخه المرتب على السنين في حوادث سنة ٦٤٣ أن في هذه السنة حضر معين الدين ابن الشيخ (أحد الأمراء) والخوارزمية إلى دمشق وحاصروها

٢١٧

وضايقوها ، وقطعت الخوارزمية الطريق على الناس وزحفوا إلى البلد من كل ناحية. وبعد أن ذكر ما ارتكبه الخوارزميون من فظيع الأعمال ثمة من النهب والإحراق قال : ولما علم الصالح أيوب بأن الصالح إسماعيل قد اتفق مع الخوارزمية استمال المنصور صاحب حمص فأجابه وكتب إلى الحلبيين يقول : هؤلاء الخوارزمية قد أخربوا البلاد والمصلحة أن نتفق عليهم ، فأجابوه ، وخرج الأمير شمس الدين لولو بالعساكر من حلب في سنة أربع وأربعين وجمع صاحب حمص العرب والتركمان وخرج إليهم عسكر دمشق واجتمعوا كلهم على حمص ، واتفق الصالح أسماعيل والخوارزمية وعز الدين أيبك والناصر داود واجتمعوا على مرج الصفرّ ولم ينزل إليهم الناصر من الكرك بل بعث إليهم عساكره ، وساروا والتقوا على بحيرة حمص ، فكانت الدائرة على الخوارزمية. قال أبو الفداء : انهزموا هزيمة قبيحة تشتت شملهم بعدها وقتل مقدمهم حسام الدين بركة خان وحمل رأسه إلى حلب وانقطع منهم جماعة وتفرقوا في الشام وخدموا به وكفى الله الناس شرهم.

سنة ٦٤٦

ذكر استيلاء الحلبيين على حمص

قال أبو الفداء : في هذه السنة أرسل الملك الناصر يوسف صاحب حلب عسكرا مع الأمير شمس الدين لولو الأرمني فحاصروا الملك الأشرف موسى بحمص مدة شهرين ، فسلم إليهم حمص وتعوض عنها بتل باشر مضافا إلى ما بيده من تدمر والرحبة ، ولما بلغ الملك الصالح نجم الدين أيوب ذلك شق عليه وسار إلى الشام لارتجاع حمص من الحلبيين ، وكان قد حصل له مرض وورم في مأبطه ، ثم فتح وحصل منه ناصور ، ووصل الملك الصالح إلى دمشق وأرسل عسكرا إلى حمص مع حسام الدين بن أبي علي فخر الدين بن الشيخ فنازلوا حمص وحاصروها ونصبوا عليها منجنيقا مغربيا يرمي بحجر زنتها مائة وأربعون رطلا بالشامي مع عدة منجنيقات أخر ، وكان الشتاء والبرد قويا ، واستمر الحصار عليها ، واتفق حينئذ وصول الخبر إلى الملك الصالح وهو بدمشق بوصول الفرنج إلى جهة دمياط ، وكان أيضا قد قوي مرضه ، ووصل أيضا نجم الدين الباذراي رسول الخليفة وسعى في الصلح بين الملك الصالح والحلبيين وأن تستقر حمص بيد الحلبيين ، فأجاب الملك الصالح إلى ذلك وأمر العسكر فرحلوا عن حمص بعد أن أشرفوا على أخذها.

٢١٨

سنة ٦٤٧

استيلاء الملك الناصر صاحب حلب على نصيبين وقرقيسيا

قال أبو الفداء : في هذه السنة وقع الحرب بين صاحب الموصل بدر الدين لولو وبين الملك الناصر صاحب حلب ، فأرسل إليه الملك الناصر عسكرا والتقوا مع المواصلة بظاهر نصيبين ، فانهزمت المواصلة هزيمة قبيحة واستولى الحلبيون على أثقال لولو صاحب الموصل وخيمه ، وتسلم الحلبيون نصيبين وأخذوها من صاحب الموصل ، ثم ساروا إلى دارا فنازلوها وتسلموها وخربوها بعد حصار ثلاثة أشهر ، ثم تسلموا قرقيسيا وعادوا إلى حلب.

٢١٩

دولة الأتراك بمصر والشام

سنة ٦٤٨

ذكر قتل الملك المعظم تورانشاه وخروج الملك عن بني أيوب في مصر

وسلطنة أيبك التركماني

قال أبو الفداء في حوادث سنة ٦٤٧ ما خلاصته : في هذه السنة توفي الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب في شعبان ولم يوص بالملك إلى أحد ، فلما توفي أحضرت شجر الدر وهي جارية الملك الصالح فخر الدين ابن الشيخ والطواشي وعرفتهما بموت السلطان ، فكتموا ذلك خوفا من الفرنج ، وجمعت شجر الدر الأمراء وقالت لهم : السلطان يأمركم أن تحلفوا له ثم من بعده لولده الملك المعظم تورانشاه المقيم بحصن كيفا وللأمير فخر الدين ابن الشيخ بأتابكية العسكر. وبعد أن حلفوا أرسل فخر الدين قاصدا لإحضار الملك المعظم من حصن كيفا فسار منها إلى مصر.

ثم قال في حوادث سنة ٦٤٨ : وفي يوم الاثنين لليلة بقيت من المحرم قتل الملك المعظم تورانشاه ابن الملك الصالح أيوب الملك ابن الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب ، وسبب ذلك أن المذكور اطرح جانب أمراء أبيه ومماليكه وكل منهم بلغه عنه من التهديد والوعيد ما نفر قلبه منه واعتمد على بطانته الذين وصلوا معه من حصن كيفا ،

٢٢٠