إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٢

فكم من ملم جل موقع خطبه

فساءت مباديه وسرت عواقبه

فيا قمري سعد أطلا على الدجا

فولى وما ألوى على الأرض هاربه

أيمكث في الشهباء عبد أبيكما

ومادحه أم تستقل نجائبه

فإن شئتما بعد الغياث أغثتما

مصاب سهام فوّقتها مصائبه

كأن لم أقف أجلو التهاني أمامه

وتضحك في وجه الأماني مواهبه

فهنئتما ما نلتما وبقيتما

لإعلاء ملك ساميات مراتبه

آثار الملك الظاهر غازي بحلب

المدرسة الظاهرية وهي المشهورة بالسلطانية

قال في الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة : المدرسة الظاهرية وهي المعروفة الآن بالسلطانية تجاه القلعة مشتركة بين الشافعية والحنفية ، وكان الملك الظاهر قد أسسها وتوفي سنة ثلاث عشرة وستمائة ولم تتم ، وبقيت مدة بعد وفاته حتى شرع فيها شهاب الدين طغريل أتابك الملك العزيز فعمرها وكملها سنة ثلاثين وستمائة ، ومنقوش على بابها أنها وقف على الطائفتين الشافعية والحنفية اه.

قال ابن شداد : درّس بها القاضي بهاء الدين بن شداد وهو أول مدرس بها وولي نظرها القاضي زين الدين أبو محمد عبد الله الأسدي قاضي القضاة بحلب ، وكان يدرس بها المذهبين اه.

المكتوب على بابها :

بسم الله الرحمن الرحيم ، وبه نستعين ، هذه المدرسة قد أمر بعمارتها وإنشائها في أيام السلطان الملك العزيز غياث الدنيا والدين محمد بن السلطان الملك المظفر غازي بن السلطان الملك الناصر صلاح الدنيا والدين منقذ بيت الله المقدس من أيدي الكافرين ، أسكنه محال رضوانه وفسائح جنانه وخلد سلطان الملك العزيز وألهمه العدل والإنصاف ، وأنشأها تكية وتربة ولي أمره وكافل دولته القائم بقوانين حفظه العبد الفقير إلى رحمة ربه الجليل شهاب الدين أبو سعيد طغرل بن عبد الله الملكي الظاهري عفى الله عنه ، وجعلها مدرسة للفريقين ومقرئا للمشتغلين بعلوم الشريعة من الطائفتين الشافعية والحنفية والمجتهدين في الاشتغال ، السالكين طريقة الأخيار الأمثال ، الذين يعينهم المدرس بها من الفريقين ،

١٨١

مشتملة على مسجد لله تعالى ومشيّد فيه مدفن السلطان الملك الظاهر قدّس الله روحه ليناله ثواب قراءة العلم ودراسته وبركة القرآن وتلاوته ، فجزاه الله أفضل الأجر عليه ، وشرط فيها أثابه الله تعالى أن يكون المدرس بها شافعي المذهب والإمام للصلاة في مسجدها شافعي المذهب ، وكذا المؤذن ، غفر الله لهم أجمعين سنة ستماية وعشرين.

حالتها الحاضرة :

لم يزل باب المدرسة قائما على حاله وعليه الكتابة المتقدمة ، وفوق الباب منارة صغيرة طولها نحو أربعة أذرع ، والدرج الذي يصعد به إليها خرب وموقف المؤذن كذلك ، وعن يمين الباب ويساره خمس حجر صغيرة بعضها جدد في أوائل هذا القرن ، ورممت جميعها منذ ثلاث سنوات ، يسكنها الآن بعض فقراء المغاربة.

وكان عن يمين المدرسة ويسارها حجر للطلبة علوية وسفلية أدركناها وهي مشرفة على الخراب ، والآن قد خربت بالكلية ، والحائط الشرقي خرب بتاتا وصار الناس يدخلون إلى المدرسة منه ، ومنذ سنتين صار بعض أهل الطريقة الرشيدية يقيمون الذكر في قبلية المدرسة ، فجمعوا من بعضهم ومن بعض أهل الخير نحو ثلاثين ألفا أقاموا فيه هذا الحائط من أنقاض المدرسة وأصلحوا الدرج الذي ينزل منه إلى باب المدرسة ، لأنه أصبح منخفضا لتعلية الأرض التي حول المدرسة.

وكان في وسط المدرسة حوض مركب من ثمانية أحجار بديع الشكل وقد خرب ، وبعض أحجاره لم تزل ملقاة في أرض المدرسة. وأما القبلية فقد كان جدارها المشرف على صحن المدرسة أصابه الوهن فاهتم جميل باشا منذ أربعين سنة في إصلاحه.

ومحراب المدرسة بديع جدا ، وهو مؤلف من ثلاث عشرة حجرة من الرخام الملون ، وفي طرفي المحراب عمودان من الرخام الأزرق ، ويعلو المحراب أحجار ملونة مشتبكة ببعضها على أجمل وضع قد استفرغت فيه الصنعة جهدها ، ولسان حال هذا المحراب ناطق بما وصل إليه فن العمارة في ذلك العصر من الإتقان ، وهذا المحراب لم يزل على حاله كأن بانيه قد فرغ منه الآن ، وهو من أهم الآثار العربية القديمة في حلب.

وعن يمين القبلية حجرة واسعة لعلها كانت موضع إلقاء الدروس ، وعن يسارها حجرة واسعة أيضا ، وهناك في وسطها أربعة قبور يتلو بعضها بعضا اثنان يعلوان عن

١٨٢

الأرض شبرا والآخران بعض أصابع. وأحد هذه القبور قبر السلطان الملك الظاهر غازي. لكن لا يعلم أي قبر هو ، كما أني لم أقف على اسم من دفن في القبور الثلاثة.

وللتربة باب من صحن الجامع ولها شباكان واحد للجهة الشرقية وواحد للجهة الجنوبية ، وقد سد الآن لتعلية الأرض حول المدرسة كما قدمنا ، ومكتوب على باب التربة وعلى هذين الشباكين :

هذه تربة السلطان الملك الظاهر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين منقذ بيت المقدس من أيدي الكافرين قدّس الله روحهما ورحم من ترحم عليهما.

وأوقاف هذه المدرسة كانت كثيرة لكنها ذهبت وتغلبت عليها الأيدي ، وليس لها الآن من العقارات المقيّدة في دائرة الأوقاف سوى دكان واحدة في محلة القصيلة وارداتها نحو ليرة ونصف عثمانية ذهبا ، وأرض تحت القلعة.

وتنوي الآن دائرة الأوقاف أن تعيد بناء الحجر التي كانت عن اليمين والشمال وتسكن فيها الطلبة وتفرش أرضها بالرخام وتعيد إليها بهجتها الأولى ، حقق الله ذلك.

المسجد الكبير في القلعة

ومن آثاره المسجد الكبير بالقلعة وهو قريب من المنارة ومكتوب عليه (بسم الله أمر بعمله مولانا السلطان الملك الظاهر العالم العادل المجاهد المؤيد المظفر المنصور غياث الدنيا والدين أوب المظفر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب خلد الله ملكه سنة ٦١٠).

وللملك الظاهر غير ذلك من الآثار في القلعة خصوصا في أبوابها. ومكتوب على وسط بابها الأول المصفح بالحديد (أمر بعمارته مولانا الملك الظاهر غازي بن يوسف سنة ثمان وستمائة) ومثل ذلك على الباب الرابع ، غير أن تاريخ هذا سنة ٦٠٦ ، وحروف الكتابة من حديد ولها مسامير أدخلت في الخشب ودقت من الطرف الآخر ، ولو تأمل فيها أهل ذاك العصر قليلا لاهتدوا منها إلى فن الطباعة.

المدرسة الظاهرية

قال في الدر المنتخب في الكلام على مدارس الشافعية التي بظاهر حلب : أولها المدرسة الظاهرية أنشأها السلطان الملك الظاهر غياث الدين غازي بن يوسف بن أيوب

١٨٣

صاحب حلب ، وانتهت عمارتها في سنة ستة عشر وستمائة (أي بعد وفاته) وأنشأ إلى جانبها تربة أرصدها ليدفن بها من يموت من الملوك والأمراء اه.

قال ابن شداد بعد العبارة المتقدمة : وفوض النظر في المدرسة إلى القاضي بهاء الدين ابن شداد وشرف الدين أبي طالب العجمي ، وحضر السلطان يوم درس بها وعمل دعوة عظيمة حضرها الفقهاء اه.

أقول : وهذه المدرسة الآن خربة وحجرها التي كانت عن اليمين والشمال تهدمت ، وعواميدها العظيمة مع كثير من أنقاضها ملقاة في أرض المدرسة ، ولم يبق من آثار عمرانها سوى محرابها مع عمودين من الرخام وليس على بابها شيء من الكتابة ، وفي وسطها حوض مثمن بديع الصنعة. وحالتها الحاضرة تعرب عن عظمة شأنها وجلالة قدر بانيها ، وإذا أجلت النظر في أطرافها ونظرت إليها نظر معتبر سالت منك العبرات واشتعلت في فؤادك نيران الحسرات ، ولو كانت هي الخربة وحدها لهان الأمر ، لكن تجد خارج باب المقام كثيرا من المدارس والرباطات والخانقاهات قد أخنى عليها الزمان وجارت عليها الأيام وأصبحت أطلالا ورسوما وكلها تنبيك عن تقدم العمران في ذلك العصر وتدلك على ارتقاء العلم في الشهباء ورواج سوقه وأنها كانت محط الرحال ومنتهى الآمال.

ولا ندري هل يسمح الزمان في عمران ما هنالك من الآثار القديمة من مدارس وغيرها على شكل تستفيد منه الأمة ، ولا ريب أن ذلك خير من أن تبقى على هذه الحالة المؤدية إلى ذهاب تلك الآثار بتاتا ، فإن أهل تلك المحلة لفقرهم قد تسلطوا على أحجار تلك الآثار وهم يسرقون منها شيئا بعد شيء ، وإذا طال الحال ولم يتلاف ذلك تصبح هذه الأماكن التي هي مفاخر الآباء والأجداد أثرا بعد عين.

المدرسة الهروية

قال في الدر المنتخب : المدرسة الهروية أنشأها الشيخ أبو الحسن علي بن أبي بكر الهروي السائح قبلي حلب ، ولم تزل إلى أن كانت فتنة التتر فدثر بعضها ولم يبق بها ساكن ، وخرب وقفها لأنه كان سوقا بالحاضر اه.

أقول : نسبة إنشائها إلى الهروي سهو ، والذي أنشأها إنما هو الملك الظاهر غازي ، ففي تاريخ ابن خلكان في ترجمة أبي الحسن علي الهروي المذكور أن أبا الحسن كان فيه

١٨٤

فضيلة وله معرفة بعلم السيمياء ، وبه تقدم عند الملك الظاهر غازي صاحب حلب واقام عنده وكان كثير الرعاية له وبنى له مدرسة بظاهر حلب ، وفي ناحية منها قبة وهو مدفون فيها ، وفي تلك المدرسة بيوت كتب على باب كل بيت منها ما يليق به ، ورأيته كتب على باب الميضاة : بيت المال في بيت الماء ، ورأيت في قبته معلقا عند رأسه غصنا وهو حلقة خلقية ليس فيه صنعة وهو أعجوبة ، وقيل إنه رآه في بعض سياحاته فاستصحبه وأوصى أن يكون عند رأسه ليعجب منه من يراه اه.

أقول : هي الآن خربة كما قال ، ولم يبق من المدرسة سوى أحجار بابها والمكان المدفون فيه أبو الحسن المذكور وحجرة بجانبه متوهنة والمدرسة داخل كرم أيضا ومكتوب على أحجار القبر (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ) إلخ الآية ، والكتابات التي كانت عليها ذهب أكثرها ، والمكان كان قد خرب وأعيد بصورة بسيطة ، وبنوا بعضا من الكتابات في أماكن من الجدر كيفما اتفق فتشوهت وذهب رونقها ، وجميع المكان مشرف الآن على الخراب.

سنة ٦١٥

ذكر قصد كيكاوس حلب وطاعة صاحبها للأشرف وانهزام كيكاوس

قال ابن الأثير : في هذه السنة سار عز الدين كيكاوس بن كيخسرو ملك الروم إلى ولاية حلب قصدا للتغلب عليها ومعه الأفضل بن صلاح الدين يوسف ، وسبب ذلك أنه كان بحلب رجلان فيهما شر كثير وسعاية بالناس ، فكانا ينقلان إلى صاحبها الملك الظاهر ابن صلاح الدين عن رعيته ، فأوغرا صدره فلقي الناس منهما شدة ، فلما توفي الظاهر وولي الأمر شهاب الدين طغرل أبعدهما وغيرهما ممن يفعل فعلهما وسد هذا الباب على فاعليه ولم يطرق إليه أحد من أهله ، فلما رأى الرجلان كساد سوقهما لزما بيوتهما وثار بهما الناس وآذوهما وتهددوهما لما كانا أسلفاه من الشر ، فخافا ففارقا حلب وقصدا كيكاوس فأطمعاه فيها وقررا في نفسه أنه متى قصدها لا تثبت بين يديه وأنه يملكها ويهون عليه ملك ما بعدها ، فلما عزم على ذلك أشار عليه ذوو الرأي من أصحابه وقالوا له : لا يتم لك هذا إلا بأن يكون معك أحد من بيت أيوب ليسهل على أهل البلاد وجندها الانقياد إليه ، وهذا الأفضل بن صلاح الدين هو في طاعتك والمصلحة أنك تستصحبه معك وتقرر بينكما قاعدة فيما تفتحانه من البلاد ، فمتى كان معك أطاعك الناس وسهل عليك ما تريد.

١٨٥

فأحضر الأفضل من سميساط إليه وحمل إليه شيئا من الخيل والخيام والسلاح وغير ذلك ، واستقرت القواعد بينهما أن يكون ما يفتحه من حلب وأعمالها للأفضل وهو في طاعة كيكاوس والخطبة له في ذلك أجمع ، ثم يقصدون ديار الجزيرة فما يفتحونه مما بيد الملك الأشرف مثل حران والرها من البلاد الجزرية تكون لكيكاوس ، وجرت الأيمان على ذلك.

وجمعوا العساكر وساروا فملكوا قلعة رعبان فتسلمها الأفضل فمال الناس حينئذ إليهما ، ثم سار إلى قلعة تل باشر وفيها صاحبها ابن بدر الدين دلدرم الياروقي فحصروه وضيقوا عليه وملكوها منه ، فأخذها كيكاوس لنفسه ولم يسلمها إلى الأفضل ، فاستشعر الأفضل من ذلك وقال : هذا أول الغدر ، وخاف أنه إن ملك حلب يفعل به هكذا فلا يحصل إلا أن يكون قد قلع بيته لغيره ، ففترت نيته وأعرض عما كان يفعله ، وكذلك أيضا أهل البلاد فكانوا يظنون أن الأفضل يملكها فيسهل عليهم الأمر ، فلما رأوا ضد ذلك وقفوا.

وأما شهاب الدين أتابك ولد الظاهر صاحب حلب فإنه ملازم قلعة حلب لا ينزل منها ولا يفارقها البتة ، وهذه كانت عادته مذ مات الظاهر خوفا من ثائر يثور به ، فلما حدث هذا الأمر خاف أن يحصروه وربما سلم أهل البلد والجند المدينة إلى الأفضل لميلهم إليه ، فأرسل إلى الملك الأشرف بن الملك العادل صاحب الديار الجزرية وخلاط وغيرها يستدعيه لتكون طاعتهم له ويخطبون له ويجعل السكة باسمه ويأخذ من أعمال حلب ما اختار ، ولأن ولد الظاهر ابن أخته فأجاب إلى ذلك وسار إليهم في عساكره التي عنده وأرسل إلى الباقين يطلبهم إليه ، وسره ذلك للمصلحة العامة لجميعهم ، وأحضر العرب من طيىء وغيرهم ونزل بظاهر حلب ، ولما أخذ كيكاوس تل باشر كان الأفضل يشير بمعاجلة حلب قبل اجتماع العساكر بها وقبل أن يحتاطوا ويتجهزوا ، فعاد عن ذلك وصار يقول : الرأي أننا نقصد منبج وغيرها لئلا يبقى لهم وراء ظهورنا شيء ، قصدا للتمادي ومرور الزمان في لا شيء ، فتوجهوا من تل باشر إلى جهة منبج ، وتقدم الأشرف نحوهم وسارت العرب في مقدمته ، وكان طائفة من عسكر كيكاوس نحو ألف فارس قد سبقت مقدمة له فالتقوا هم والعرب ومن معهم من العسكر الأشرفي فاقتتلوا فانهزم عسكر كيكاوس وعادوا إليه منهزمين ، وأكثر العرب الأسر منهم والنهب لجودة خيلهم ودبر خيل الروم ، فلما وصل إليه

١٨٦

أصحابه منهزمين لم يثبت بل ولى على أعقابه يطوي المراحل إلى بلاده خائفا يترقب ، فلما وصل إلى أطرافها أقام ، وإنما فعل هذا لأنه صبي وغر لا معرفة له بالحرب ، وإلا فالعساكر ما برحت تقع مقدماتها بعضها على بعض ، فسار حينئذ الأشرف فملك رعبان وحصر تل باشر وبها جمع من عسكر كيكاوس جعلهم في دار وأحرقها عليهم فهلكوا ، فعظم ذلك على الناس كافة واستقبحوه واستضعفوه ، لا جرم لم يمهله الله تعالى وعجل عقوبته للؤم قدرته وشدة عقوبته ولعدم الرحمة في قلبه ، ومات عقيب هذه الحادثة. وسلم الأشرف تل باشر وغيرها من بلد حلب إلى شهاب الدين أتابك صاحب حلب وكان عازما على اتباع كيكاوس ويدخل بلاده ، فأتاه الخبر بوفاة أبيه الملك العادل فاقتضت المصلحة العود إلى حلب لأن الفرنج بديار مصر ، ومثل ذلك السلطان العظيم إذا توفي ربما جرى خلل في البلاد لا تعرف العاقبة فيه فعاد إليها وكفى كل منها أذى صاحبه.

زيادة بيان لهذه الحوادث

قال أبو الفدا : لما مات الملك الظاهر صاحب حلب وأجلس ابنه العزيز في المملكة وكان طفلا طمع صاحب بلاد الروم كيكاوس في الاستيلاء على حلب ، فاستدعى الملك الأفضل صاحب سميساط واتفق معه كيكاوس أن يفتح حلب وبلادها ويسلمها إلى الملك الأفضل ، ثم يفتح البلاد الشرقية التي بيد الملك الأشرف بن الملك العادل ويتسلمها كيكاوس ، وتحالفا على ذلك ، وسار كيكاوس إلى جهة حلب ومعه الملك الأفضل ، ووصلا إلى رعبان واستولى عليها كيكاوس وسلمها إلى الملك الأفضل فمالت إليه قلوب أهل البلاد لذلك ، ثم سار إلى تل باشر وبها ابن دلدرم ففتحها ولم يسلمها إلى الملك الأفضل وأخذها كيكاوس لنفسه ، فنفر خاطر الملك الأفضل وخواطر أهل البلاد بسبب ذلك ، ووصل الملك الأشرف بن العادل إلى حلب لدفع كيكاوس عن البلاد ووصل إليه بها الأمير مانع ابن حديثة أمير العرب في جمع عظيم ، وكان قد سار كيكاوس إلى منبج وتسلمها لنفسه أيضا ، وسار الملك الأشرف بالجموع التي معه ونزل وادي بزاعا ووقع بعض عسكره مع مقدمة عسكر كيكاوس ، فانهزمت مقدمة عسكر كيكاوس وأخذ من عسكر كيكاوس عدة أسرى فأرسلوا إلى حلب ودقت البشائر لها ، ولما بلغ ذلك كيكاوس وهو بمنبج ولى منهزما مرعوبا وتبعه الملك الأشرف يتخطف أطراف عسكره ، ثم حاصر الأشرف تل باشر واسترجعها ، وكذلك استرجع رعبان وغيرها. وتوجه الملك الأفضل إلى

١٨٧

سميساط ولم يتحرك بعدها في طلب ملك إلى أن مات سنة اثنتين وعشرين وستمائة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى ، وعاد الملك الأشرف إلى حلب وقد بلغه وفاة أبيه اه.

سنة ٦١٩

قال أبو الفداء : وفي هذه السنة فوض الأتابك طغريل الخادم مدبر مملكة حلب إلى الملك الصالح أحمد ابن الملك الظاهر أمر الشغر وبكاس ، فسار الملك الصالح من حلب واستولى عليها وأضاف إليه سروج ومعرة مصرين.

عجائب المخلوقات

قال ياقوت في معجم البلدان في الكلام على كلّز : جرى في هذه الناحية في أيامنا هذه شيء عجيب كنت قد ذكرت مثله في أخبار سد يأجوج ومأجوج ، وكنت مرتابا فيه ومقلدا لمن حكاه فيه ، حتى إذا كان في أواخر ربيع الآخر سنة ٦١٩ شاع بحلب وأنا كنت بها يومئذ ثم ورد بصحته كتاب والي هذه الناحية أنهم رأوا هناك تنّينا عظيما في طول المنارة وغلظها أسود اللون وهو ينساب على الأرض والنار تخرج من فيه ودبره ، فما مر على شيء إلا وأحرقه ، حتى إنه أتلف عدة مزارع وأحرق أشجارا كثيرة من الزيتون وغيره ، وصادف في طريقه عدة بيوت وخركاهات للتركمان فأحرقها بما فيها من الماشية والرجال والنساء والأطفال ، ومر كذلك نحو عشرة فراسخ والناس يشاهدونه من بعد ، حتى أغاث الله أهل تلك النواحي بسحابة أقبلت من قبل البحر وتدلت حتى اشتملت عليه ورفعته وجعلت تعلو قبل السماء والناس يشاهدون النار تخرج من قبله ودبره وهو يحرك ذنبه ويرتفع حتى غاب عن أعين الناس ، قالوا : ولقد شاهدناه والسحابة ترفعه وقد لف بذنبه كلبا ، فجعل الكلب ينبح وهو يرتفع ، وكان قد أحرق في ممره نحو أربعمائة شجرة لوز وزيتون.

سنة ٦٢٢

وفاة الملك الأفضل علي بن صلاح الدين بسميساط

ونقله إلى مدينة حلب

قال ابن الأثير : في هذه السنة في صفر توفي الملك الأفضل علي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب فجأة بقلعة سميساط وكان عمره نحو سبع وخمسين سنة ، وقد ذكرنا سنة

١٨٨

تسع وثمانين وخمسمائة عند وفاة والده رحمه‌الله ملكه مدينة دمشق والبيت المقدس وغيرهما من الشام ، وذكرنا سنة اثنتين وتسعين أخذ الجميع منه ، ثم ذكرنا سنة خمس وتسعين ملكه ديار مصر ، وذكرنا سنة ست وتسعين أخذها منه ، وانتقل إلى سميساط وأقام بها ولم يزل بها إلى الآن ، فتوفي بها ، وكان رحمه‌الله من محاسن الزمان لم يكن في الملوك مثله ، كان خيرا عادلا فاضلا حليما قل أن عاقب على ذنب ، ولم يمنع طالبا ، وكان يكتب خطا حسنا وكتابة جيدة ، وبالجملة فاجتمع فيه من الفضائل والمناقب ما تفرق في كثير من الملوك ، لا جرم حرم الملك والدنيا وعاداه الدهر ومات بموته كل خلق جميل وفعل حميد ، فرحمه‌الله ورضي‌الله‌عنه.

ورأيت من كتابته أشياء حسنة ، فمما بقي على خاطري منها أنه كتب إلى أصحابه لما أخذت دمشق منه كتابا من فصوله :

وأما أصحابنا بدمشق فلا علم لي بأحد منهم وسبب ذلك أني

أي صديق سألت عنه ففي

الذل وتحت الخمول في الوطن

وأي ضد سألت حالته

سمعت مالا تحبه أذني

فتركت السؤال عنهم. وهذا غاية الجودة في الاعتذار عن ترك السؤال عنهم. ولما مات اختلف أولاده وعمهم قطب الدين موسى ولم يقو أحد منهم على الباقين ليستبد بالأمر اه.

وقال ابن خلكان في ترجمته : كان الأفضل أكبر أولاد أبيه وإليه كانت ولاية عهده ، وفيه فضيلة ومعرفة وكتابة ونباهة ، وكان يحب العلماء ويعظم حرمتهم. سمع بالإسكندرية من الإمام أبي الطاهر إسماعيل بن مكي بن عوف الزهري ، وبمصر من العلامة أبي محمد عبد الله بن بري النحوي ، وأجاز له أبو الحسن أحمد بن حمزة بن علي السلمي وأبو عبد الله محمد بن علي بن صدقة الحراني وغيرهما من الشاميين ، وأجاز له أبو القاسم هبة الله بن علي ابن مسعود وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن حامد وغيرهما من المصريين. وله شعر ، فمن المنسوب إليه أنه كتب إلى الإمام الناصر يشكو من عمه العادل أبي بكر وأخيه العزيز عثمان لما أخذا منه دمشق :

مولاي إن أبا بكر وصاحبه

عثمان قد غصبا بالسيف حق علي

١٨٩

وهو الذي كان قد ولاه والده

عليهما فاستقام الأمر حين ولي

فخالفاه وحلا عقد بيعته

والأمر بينهما والنص فيه جلي

فانظر إلى حظ هذا الاسم كيف لقي

من الأواخر ما لاقي من الأول

فجاءه جواب الإمام الناصر وفي أوله وكان الناصر يتشيع :

وافى كتابك يا ابن يوسف معلنا

بالود يخبر أن أصلك طاهر

غصبا عليا حقه إذ لم يكن

بعد النبي له بيثرب ناصر

فابشر فإن غدا عليه حسابهم

واصبر فناصرك الإمام الناصر

قال أبو الفدا : ومن شعره يعرض إلى سوء حظه قوله :

يا من يسوّد شعره بخضابه

لعساه من أهل الشبيبة يحصل

ها فاختضب بسواد حظي مرة

ولك الأمان بأنه لا ينصل

ثم قال ابن خلكان : وكانت ولادته سنة ست وقيل خمس وستين وخمسمائة بالقاهرة ووالده يومئذ وزير المصريين ، وتوفي في صفر سنة اثنتين وعشرين وستمائة فجأة بسميساط رحمه‌الله تعالى ونقل إلى حلب ودفن بتربة بظاهر حلب بالقرب من مشهد الهروي.

أقول : هذه التربة غربي الكرم الذي فيه ضريح الهروي بينهما الطريق ، وهناك قبلية لا صحن لها وهي مشرفة على الخراب ، وأمام القبلية قبر لا أدري إن كان هو قبر الملك الأفضل علي أو قبر أمه إذ لا كتابة عليه. ومكتوب على جدار القبلية من الخارج في الجهة الجنوبية والجهة الغربية بعد البسملة :

هذه تربة العبدة الفقيرة إلى رحمة ربها (جهة) مولانا الغازي المجاهد المرابط المناع العادل الزاهد الملك الناصر صلاح الدنيا والدين منقذ القدس من أيدي المشركين مطهر قبور الأنبياء والمرسلين. من دحض الكافرين مانع الطراز الأخضر من بني الأصفر الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب والدة ولده المولى الملك الأفضل علي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين. وكان الفراغ في شعبان سنة إحدى وعشرين وستمائة اه.

وسميساط بضم السين المهملة وفتح الميم ، وهي قلعة في بر الشام على الفرات في ناحية بلاد الروم بين قلعة الروم وملاطية اه.

١٩٠

ذكر وفاة الأمير سيف الدين علي بن الأمير

علم الدين سليمان بن جندر

قال ابن كثير في تاريخه في حوادث هذه السنة : وتوفي فيها الأمير سيف الدين علي ابن الأمير علم الدين سليمان بن جندر ، وكان من أكابر الأمراء بحلب وله الصدقات الكثيرة ، ووقف بها مدرستين إحداهما على الشافعية والأخرى على الحنفية ، وبنى الخانات والقناطر وغير ذلك من سبل الخيرات وغزا غزوات اه.

آثاره بحلب نقلا عن الدر المنتخب

قال فيه : (المدرسة السيفية) أنشأها الأمير سيف الدين علي بن علم الدين سليمان ابن جندر ، انتهت سنة سبع عشرة وستمائة مشتركة بين الشافعية والحنفية ، وهي خراب داثر. وفيه في باب ذكر ما بحلب من مدارس المالكية والحنابلة : [مدرسة] أنشأها الأمير سيف الدين علي تحت القلعة لتدريس مذهبي مالك وأحمد بن حنبل ، وهذه المدرسة كانت قد نسيت وأغلق بابها ففتحته وما أدري ما فعل الله بها بعد خروجي من حلب. وقال في باب الخانقاهات والربط : [رباط] أنشأه الأمير سيف الدين علي بالرحبة الكبيرة وكانت في دار تعرف ببدر الدين محمود بن شكري الذي خنقه الملك الظاهر غازي اه.

ومن آثاره جامع خارج محلة الكلاسة ، قال بيشوف : مكتوب عليه : بسم الله ، أنشأ هذا المسجد المبارك في أيام مولانا السلطان الملك الظاهر غازي خلد الله ملكه العبد الفقير إلى رحمة ربه علي بن سليمان بن جندر غفر الله له ولوالديه سنة ٦٠٦.

سنة ٦٢٤

قال ابن الأثير : فيها ظفر جمع من التركمان كانوا بأطراف أعمال حلب بفارس مشهور من الفرنج الداوية بأنطاكية فقتلوه ، فعلم الداوية بذلك فساروا وكبسوا التركمان فقتلوا منهم وأسروا وغنموا من أموالهم ، فبلغ إلى أتابك المتولي لأمور حلب فراسل الفرنج وتهددهم بقصد بلادهم ، واتفق أن عسكر حلب قتلوا فارسين كبيرين من الداوية أيضا ، فأذعنوا بالصلح وردوا إلى التركمان كثيرا من أموالهم وحريمهم وأسراهم اه.

١٩١

قال ابن كثير في حوادث هذه السنة : وممن توفي فيها من الأعيان جنكز خان ملك التتار وجد ملوكهم ، وساق له ترجمة طويلة حافلة تدل على حسن سيرته وعدله في رعيته ، ومما جاء فيها أنه أهدى له رجل جام زجاج من معمول حلب فاستحسنه جنكز خان ، فوهّن أمره عنده بعض خواصه وقال : خوند هذا زجاج لا قيمة له ، فقال : أليس قد حمله من بلاد بعيدة حتى وصل إلينا سالما ، أعطوه مائتي بالس اه.

سنة ٦٢٦

وصف ياقوت لحلب في هذه السنة في كلامه على حلب

في كتابه معجم البلدان

قال : شاهدت من حلب وأعمالها ما استدللت على أن الله تعالى خصها بالبركة وفضلها على جميع البلاد ، فمن ذلك أنه يزرع في أراضيها القطن والسمسم والبطيخ والخيار والدخن والكرم والذرة والمشمش والتين والتفاح عذيا لا يسقى إلا بماء المطر ، ويجيء مع ذلك رخصا غضا طريا ويفوق ما يسقى بالمياه والسيح في جميع البلاد ، وهذا لم أره فيما طوفت من البلاد في غير أرضها.

ومن ذلك أن مسافة ما بيد مالكها في أيامنا هذه وهو الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر يوسف بن أيوب ومدبر مملكته والقائم بجميع أموره شهاب الدين طغرل وهو خادم رومي زاهد متعبد حسن العدل والرأفة برعيته لا نظير له في أيامه في جميع أقطار الأرض ، حاشا الإمام المستنصر بالله أبي جعفر المنصور بن الظاهر بن الناصر لدين الله [الخليفة في بغداد] من المشرق إلى المغرب مسيرة خمسة أيام ، ومن الجنوب إلى الشمال مثل ذلك ، وفيها ثمانمائة ونيف وعشرون قرية مشتركة بين الرعية والسلطان ، أوقفني الوزير الصاحب القاضي الأكرم جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن إبراهيم القفطي ، وهو يومئذ وزير صاحبها ومدبر دواوينها ، على الجريدة بذلك وأسماء القرى وأسماء ملاكها ، وهي بعد ذلك تقوم برزق خمسة آلاف فارس مراخي الغلة موسع عليهم.

قال لي الوزير الأكرم : لو لم يقع إسراف في خواص الأمراء وجماعة من أعيان المفاريد لقامت بأرزاق سبعة آلاف فارس ، لأن فيها من الطواشية المفاريد ما يزيد على ألف فارس

١٩٢

يحصل للواحد منهم في العام من عشرة آلاف درهم إلى خمسة عشر ألف درهم ، ويمكن أن يستخدم من فضلات خواص الأمراء ألف فارس.

وفي أعمالها إحدى وعشرون قلعة يقام بذخائرها وأرزاق مستحفظيها خارجا عن جميع ما ذكرناه وهو جملة أخرى كثيرة ، ثم يرتفع بعد ذلك كله من فضلات الإقطاعات الخاصة بالسلطان من سائر الجبايات إلى قلعتها عنبا وحبوبا ما يقارب في كل يوم عشرة آلاف درهم ، وقد ارتفع إليها في العام الماضي وهو سنة ٦٢٥ من جهة واحدة وهي دار الزكاة التي يجبى فيها العشور من الإفرنج والزكاة من المسلمين وحق البيع سبعمائة ألف درهم مع العدل الكامل والرفق الشامل بحيث لا يرى فيها متظلم ولا متهضم ولا مهتضم ، وهذا من بركة العدل وحسن النية.

وأما قلعتها فبها يضرب المثل في الحسن والحصانة ، لأن مدينة حلب في وطاء من الأرض ، وفي وسط ذلك الوطاء جبل عال مدور صحيح التدوير مهندم بتراب صح به تدويره ، والقلعة مبنية في رأسه ، ولها خندق عظيم وصل بحفره إلى الماء ، وفي وسط هذه القلعة مصانع تصل إلى الماء المعين ، وفيها جامع وميدان وبساتين ودور كثيرة ، وكان الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب قد اعتنى بها بهمته العالية فعمرها (بعمارة) ١ عادية وحفر خندقها وبنى رصيفها بالحجارة المهندمة فجاءت عجبا للناظرين إليها ، لكن حالت المنية بينه وبين تتمتها.

ولها في أيامنا هذه ثمانية أبواب باب الأربعين وباب اليهود ، وكان الملك الظاهر قد جدد عمارته وسماه باب النصر ، وباب الجنان وباب أنطاكية وباب قنسرين وباب العراق وباب النيرب ٢.

وما زال فيها على قديم الزمان وحديثه أدباء وشعراء ، ولأهلها عناية بإصلاح أنفسهم وتثمير الأموال ، فقل ما ترى من ناشئتها من لم يتقبل أخلاق آبائه في مثل ذلك ، فلذلك فيها بيوتات قديمة معروفة بالثروة ويتوارثونها ويحافظون على حفظ قديمهم بخلاف سائر البلدان.

وقد أكثر الشعراء من ذكرها ووصفها والحنين إليها ، وأنا أقتنع من ذلك بقصيدة لأبي بكر محمد بن الحسن بن مراد الصنوبري وقد أجاد فيها ووصف منتزهاتها وقراها القريبة فقال :

__________________

١ ـ زيادة من معجم البلدان.

٢ ـ في معجم البلدان : وباب السر (بدل باب النيرب) ، على أن الأبواب التي ذكرها ياقوت سبعة لا ثمانية ، فلعله أخل بباب النيرب.

١٩٣

احبسا العيس احبساها

واسألا الدار اسألاها

واسألا أين ظباء ال

دار أم أين مهاها

أين قطّان محاهم

ريب دهر ومحاها

وهي طويلة جدا وقد تقدم منها وصفه لجامع حلب الأعظم.

سنة ٦٢٧

قال أبو الفداء : فيها ولد الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز صاحب حلب اه.

سنة ٦٢٨

قال ابن الأثير : في هذه السنة قلت الأمطار بديار الجزيرة والشام لا سيما حلب وأعمالها ، فإنها كانت قليلة بالمرة وغلت الأسعار بالبلاد ، وكان أشدها غلاء حلب ، إلا أنه لم يكن بالشديد مثل ما تقدم في السنين الماضية ، فأخرج أتابك شهاب الدين وهو والي الأمر بحلب والمرجع إلى أمره ونهيه وهو المدبر لدولة سلطانها الملك العزيز ابن الملك الظاهر والمربي له من المال والغلات كثيرا ، وتصدق صدقات دارة وساس سياسة حسنة بحيث لم يظهر للغلاء أثر ، فجزاه الله خيرا.

وفيها قصد الفرنج الذين بالشام مدينة جبلة وهي بين جملة المدن المضافة إلى حلب ودخلوا إليها وأخذوا منها غنيمة وأسرى ، فسير أتابك شهاب الدين إليهم العساكر مع أمير كان أقطعها فقاتل الفرنج وقتل منهم كثيرا واسترد الأسرى والغنيمة. اه (١).

سنة ٦٢٩

ذكر استقلال الملك العزيز بالملك

قال ابن خلكان في ترجمة القاضي ابن شداد : في أول سنة تسع وعشرين توجه القاضي ابن شداد إلى الديار المصرية لإحضار ابنة الملك الكامل ابن الملك العادل للملك

__________________

(١) أقول : وإلى هذه السنة انتهى تاريخ ابن الأثير.

١٩٤

العزيز صاحب حلب ، وكان قد عقد نكاحه عليها ، وجاء بها في رمضان من السنة ، ولما وصل كان قد استقل الملك العزيز بنفسه ورفعوا عنه الحجر ، ونزل الأتابك طغرل من القلعة إلى داره تحت القلعة ، واستولى على الملك العزيز جماعة من الشبان الذين كانوا يعاشرونه ويجالسونه فاشتغل بهم ، ولم ير القاضي أبو المحاسن وجها يرتضيه فلازم داره إلى حين وفاته اه.

سنة ٦٣٠

ذكر استيلاء الملك العزيز محمد بن الظاهر

صاحب حلب على شيزر

قال أبو الفداء : وكانت شيزر بيد شهاب الدين يوسف بن مسعود بن سابق الدين عثمان بن الداية ، وكان سابق الدين عثمان بن الداية المذكور وإخوته من أكابر أمراء نور الدين محمود بن زنكي ، ثم اعتقل الملك الصالح إسماعيل بن نور الشهيد سابق الدين عثمان ابن الداية وشمس الدين أخاه ، فأنكر السلطان صلاح الدين عليه ذلك وجعله حجة لقصد الشام وانتزاعه من الملك الصالح إسماعيل ، فاتصل أولاد الداية بخدمة السلطان صلاح الدين وصاروا من أكبر أمرائه. وكانت شيزر إقطاع سابق الدين المذكور فأقره السلطان صلاح الدين عليها وزاده أبا قبيس لما قتل صاحبها حمار دكن ، ثم ملك شيزر بعده ولده مسعود بن عثمان حتى مات وصارت لولده شهاب الدين يوسف المذكور إلى هذه السنة ، فسار الملك العزيز صاحب حلب بأمر الملك الكامل وحاصر شيزر ، وقدم إليه وهو على حصارها الملك المظفر محمود صاحب حماة مساعدا له ، فسلم شهاب الدين يوسف شيزر إلى الملك العزيز ونزل إلى خدمته فتسلمها في هذه السنة. وهنّأ الملك العزيز يحيى بن خالد بن القيسراني بقوله :

يا مالكا عم أهل الأرض نائله

وخص إحسانه الداني مع القاصي

لما رأت شيزر آيات نصرك في

أرجائها ألقت العاصي إلى العاصي

ثم ولى الملك العزيز على شيزر وأحسن إلى الملك المظفر محمود صاحب حماة ورحل كل منهما إلى بلده.

١٩٥

وفاة الملك المعظم مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل

قال أبو الفداء في حوادث هذه السنة : وفيها توفي مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين علي كجك.

آثاره وآثار أبيه بحلب

قال في الدر المنتخب : خانقاه الملك المعظم مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين علي كوجك صاحب إربل بالسهيلة ، وهي الآن معروفة بسويقة حاتم بالقرب من الجامع الكبير اه.

أقول : موقع هذه الخانقاه في أوائل الزقاق المعروف الآن بزقاق الفرن وهي عن يمينك إذا قدمت من جهة الجامع الكبير داخل بوابة طويلة ينزل إليها بعدة درجات ولذا قل من يعرفها. ولها قبلية صغيرة أمامها قبو وأمام القبو صحن طوله مع القبو تسعة أمتار وعرضه ثمانية. وفي الجهة الشرقية ثلاث حجر في داخل الوسطى منهن حجرة صغيرة فيها قبر لم أعلم صاحبه ، وفي الجهة الشمالية حجرة مستطيلة ، وفي الغربية حجرتان والجميع مقبو ، ومنذ سنين غير معلومة تغلب الجيران فبنوا فوق هذه الحجر بيوتا ومطابخ حتى فوق القبلية ، وقد كان المكان المنخفض من البوابة ممتلئا ترابا إلى باب الخانقاه بحيث سد الباب ، فسعى منذ ١٥ سنة الشيخ عمر ابن الشيخ عبد الرؤوف الكيالي وأزال تلك الأتربة وفتح باب الخانقاه ورمم بعضها وصار يسكنها بعض الفقراء ، لكنها لا تصلح لشيء لأنك لا تجد في هذه الحجر ولا في القبلية إلا بعض المنافذ ، والشمس لا تعرفها مطلقا. وقد تمكنت بعد عناء من قراءة الكتابة التي على بابها وهي :

(البسملة) جدد في دولة مولانا الملك الظاهر غياث الدنيا والدين أبو المظفر الغازي ابن الملك الناصر يوسف بن أيوب خلد الله ملكه وقدس روح الواقف الأمير الكبير المجاهد زين الدين علي بن بكتكين وأبقا ولده الملك المعظم مظفر الدين أدام الله أيامه في سنة (التاريخ ذاهب) وذلك بتولي الجابي الفقير إلى ربه محمد بن سليمان التيزيني رحمه‌الله.

من هذه الكتابة ومما قاله في الدر المنتخب ظهر لي أن الباني الأول هو زين الدين علي بن بكتكين المتوفى سنة ٥٦٣ والمجدد هو ولده الملك المعظم مظفر الدين كوكبوري المتوفى

١٩٦

في هذه السنة وهي سنة ٦٣٠. وليس لهذه الخانقاه شيء من الأوقاف سوى بعض أراض عشرية.

ترجمة الباني الأول :

قال ابن الأثير في حوادث سنة ثلاث وستين وخمسمائة : في هذه السنة فارق زين الدين علي بن بكتكين النائب عن قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل خدمة صاحبه بالموصل وسار إلى إربل ، وكان هو الحاكم في الدولة وأكثر البلاد بيده ، منها إربل وفيه بيته وأولاده وخزائنه ، ومنها شهزور وجميع القلاع التي معها وجميع بلاد الهكارية ، وقلاعه منه العمادية وغيرها ، وبلد الحميدية وتكريت وسنجار وحران وقلعة الموصل هو بها ، وكان قد أصابه طرش وعمي أيضا ، فلما عزم على مفارقة الموصل إلى بيته بإربل سلم جميع ما كان بيده من البلاد إلى قطب الدين مودود وبقي معه إربل ولم يزل بها إلى أن مات بهذه السنة.

وقال ابن خلكان : هو زين الدين علي المعروف بكجك صاحب إربل ، رزق أولادا كثيرة ، وكان قصيرا ولهذا قيل له كجك ، وأصله من التركمان ، وملك إربل وبلادا كثيرة في تلك النواحي وفرقها على أولاد أتابك قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل ولم يبق له سوى إربل ، ويقال إنه جاوز مائة سنة وعمي في آخر عمره وانقطع بإربل إلى أن توفي في ذي القعدة سنة ثلاث وستين وخمسمائة ودفن في تربته المعروفة به المجاورة للجامع العتيق داخل البلد.

وكان موصوفا بالقوة المفرطة والشهامة ، وله بالموصل أوقاف كثيرة مشهورة من مدارس وغيرها.

قال في الروضتين : وكان خيرا عادلا حسن السيرة جوادا محافظا على حسن العهد وأداء الأمانة قليل العذر بل عديمه ، وكان إذا وعد بشيء لابد له من أن يفعله وإن كان خطيرا ، وكان حاله من أعجب الأحوال بينما يبدو منه ما يدل على سلامة صدره وغفلته ، حتى يبدو منه ما يدل على إفراط الذكاء وغلبة الدهاء ، بلغني أنه أتاه بعض أصحابه بذنب فرس ذكر أنه نفق له فأمر له بفرس ، فأخذ ذلك الذنب أيضا غيره من الأجناد فأحضره وذكر أنه نفق له دابة فأمر له بفرس ، وتداول ذلك الذنب اثنا عشر رجلا كلهم يأخذ

١٩٧

فرسا ، فلما أحضره آخرهم قال لهم : أما تستحون مني كما أستحي أنا منكم ، قد أحضر هذا عندي اثنا عشر رجلا وأنا أتغافل لئلا يخجل أحدكم ، أتظنون أنني لا أعرفه ، بلى والله وإنما أردت أن يصلكم عطائي بغير منّ ولا تكدير فلم تتركوني.

ليس الغبي بسيد في قومه

لكن سيد قومه المتغابي

قال : وكان يعطي كثيرا ويخلع عظيما ، وكان له البلاد الكثيرة فلم يخلف شيئا بل أنفده جميعه في العطايا والإنعام على الناس ، وكان يلبس الغليظ ويشد على وسطه كل ما يحتاج إليه من سكين ودوفش ومطرقة ومسلة وخيوط ودسترك وغير ذلك.

وكان أشجع الناس ميمون النقيبة لم يهزم له راية ، وكان يقوم المقام الخطير فيسلم منه بحسن نيته. وكان تركيا أسمر اللون خفيف العارضين قصيرا جدا. وبنى مدارس وربطا بالموصل وغيرها. وبلغني أنه مدحه الحيص بيص ، فلما أراد الإنشاد قال له : أنا لا أدري ما تقول لكن أعلم أنك تريد شيئا ، فأمر له بخمسمائة دينار وأعطاه فرسا وخلعا وثيابا يكون مجموع ذلك ألف دينار.

ترجمة ولده الملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل المجدد لبناء هذه الخانقاه :

قال ابن خلكان : أبو سعيد كوكبوري بن أبي الحسن علي بن بكتكين الملقب الملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل ، ولما توفي والده ولي موضع أبيه وعمره أربع عشرة سنة ، وكان أتابكه مجاهد الدين قايماز ، فأقام مدة ثم تعصب مجاهد الدين عليه وكتب محضرا أنه ليس أهلا لذلك ، وشاور الديوان العزيز (أي الخليفة في بغداد) في أمره واعتقله وأقام أخاه زين الدين أبا المظفر يوسف مكانه ، وكان أصغر منه ، ثم أخرج مظفر الدين من البلاد فتوجه إلى بغداد فلم يحصل له بها مقصود ، فانتقل إلى الموصل ومالكها يومئذ سيف الدين غازي بن مودود فاتصل بخدمته وأقطعه مدينة حران ، فانتقل إليها وأقام بها مدة ، ثم اتصل بخدمة السلطان صلاح الدين وحظي عنده وتمكن منه وزاده في الإقطاع الرها في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة ، وأخذ صلاح الدين الرها من ابن الزعفراني وأعطاها مظفر الدين مع حران وأخذ الرقة من ابن حسان وأعطاها ابن الزعفراني ، ثم أعطاه سميساط وزوجه أخته الست ربيعة خاتون بنت أيوب. وشهد مع صلاح الدين مواقف كثيرة وأبان فيها عن نجدة

١٩٨

وقوة نفس وعزمة ، وثبت في مواضع لم يثبت فيها غيره على ما تضمنه تواريخ العماد الأصفهاني وبهاء الدين بن شداد وغيرهما ، وشهرة ذلك تغني عن الإطالة فيه. ولو لم يكن إلا وقعة حطين لكفته فإنه وقف هو وتقي الدين صاحب حماة وانكسر العسكر بأسره ، ثم لما سمعوا بوقوفهما تراجعوا حتى كانت النصرة للمسلمين وفتح الله سبحانه عليهم. ثم لما كان السلطان صلاح الدين منازلا عكا بعد استيلاء الفرنج عليها وردت عليه ملوك الشرق تنجده وتخدمه ، وكان في جملتهم زين الدين يوسف أخو مظفر الدين وهو يومئذ صاحب إربل ، فأقام قليلا ثم مرض وتوفي سنة ست وثمانين وخمسمائة بالناصرة ، فلما توفي التمس مظفر الدين من السلطان أن ينزل عن حران والرها وسميساط ويعوضه إربل ، فأجابه إلى ذلك وضم إليه شهرزور فتوجه إليها في هذه السنة. هذه خلاصة أمره.

سيرته وآثاره : (اقرأ وتأمل)

قال : وأما سيرته فلقد كان له في فعل الخيرات غرائب لم يسمع أن أحدا فعل في ذلك ما فعله. لم يكن في الدنيا شيء أحب إليه من الصدقة ، كان له كل يوم قناطير مقنطرة من الخبز يفرقها على المحاويج في عدة مواضع من البلد يجتمع في كل يوم خلق كثير ويفرق عليهم في أول النهار. وكان إذا نزل من الركوب يكون قد اجتمع عند الدار جمع كثير فيدخلهم إليه ويدفع لكل واحد كسوة على قدر الفصل من الشتاء والصيف أو غير ذلك ، ومع الكسوة شيء من الذهب من الدينار والاثنين والثلاثة وأقل وأكثر. وكان قد بنى أربع خانقاهات للزمنى والعميان وملأها من هذين الصنفين وقرر لهم ما يحتاجون إليه كل يوم ، وكان يأتيهم بنفسه في كل عصرية اثنين وخميس ويدخل عليهم ويدخل إلى كل واحد في بيته ويتفقده بشيء من النفقة ويسأله عن حاله ، وينتقل إلى الآخر وهكذا حتى يدور على جميعهم وهو يباسطهم ويمزح معهم ويجبر قلوبهم. وبنى دارا للنساء الأرامل ودارا للصغار الأيتام ودارا للملاقيط ورتب بها جماعة من المراضع وكل مولود يلتقط يحمل إليهم فيرضعنه ، وأجرى على أهل كل دار ما يحتاجون إليه في كل يوم وكان يدخل إليها في كل وقت ويتفقد أحوالهن ويعطيهن النفقات زيادة على المقرر لهن ، وكان يدخل إلى البيمارستان ويقف على مريض مريض ويسأله عن مبيته وكيفية حاله وما يشتهيه. وكان له دار مضيف يدخل إليها كل قادم على البلد من فقيه أو فقير أو غيرهما ، وعلى الجملة فما كان يمنع منها كل من قصد الدخول إليها ولهم الراتب في الدار في الغداء والعشاء ، وإذا عزم الإنسان على السفر أعطوه نفقة على ما يليق بمثله.

١٩٩

وبنى مدرسة رتب فيها فقهاء الفريقين من الشافعية والحنفية ، وكان كل وقت يأتيها بنفسه ويعمل السماط ويبيت بها ويعمل السماع ، وإذا طاب خلع شيئا من ثيابه وسير للجماعة بكرة شيئا من الإنعام ، ولم يكن له لذة سوى السماع فإنه كان لا يتعاطى المنكر ولا يمكّن من إدخاله إلى البلد.

وبنى للصوفية خانقاهين فيهما خلق كثير من المقيمين والواردين ويجتمع في أيام المواسم فيهما من الخلق ما يعجب الإنسان من كثرتهم ، ولهما أوقاف كثيرة بجميع ما يحتاج إليه ذلك الخلق ، ولا بد عند سفر كل واحد من نفقة يأخذها. وكان ينزل بنفسه إليهم ويعمل عندهم السماعات في كثير من الأوقات.

وكان يسيّر في كل سنة دفعتين جماعة من أمنائه إلى بلاد الساحل ومعهم جملة مستكثرة من المال يفتكّ بها أسرى المسلمين من أيدي الفرنج ، فإذا وصلوا إليه أعطى كل واحد شيئا ، وإن لم يصلوا فالأمناء يعطونهم بوصية منه في ذلك.

وكان يقيم في كل سنة سبيلا للحاج ويسيّر معه جميع ما تدعو حاجة المسافر إليه في الطريق ويسيّر صحبته أمينا معه خمسة أو ستة آلاف دينار ينفقها بالحرمين على المحاويج وأرباب الرواتب ، وله بمكة حرسها الله تعالى آثار جميلة وبعضها باق إلى الآن ، وهو أول من أجرى الماء إلى جبل عرفات ليلة الوقوف وغرم عليه جملة كثيرة ، وعمر بالجبل مصانع للماء فإن الحاج كانوا يتضررون من عدم الماء ، وبنى له تربة أيضا هناك.

احتفاله بمولد النبي الكريم :

قال : وأما احتفاله بمولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن الوصف يقصر عن الإحاطة به لكن نذكر طرفا منه. وهو أن أهل البلاد كانوا قد سمعوا بحسن اعتقاده فيه فكان في كل سنة يصل إليه من البلاد القريبة من إربل مثل بغداد والجزيرة وسنجار ونصيبين وبلاد العجم وتلك النواحي خلق كثير من الفقهاء والصوفية والوعاظ والقراء والشعراء ، ولا يزالون يتواصلون من المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول ، ويتقدم مظفر الدين بنصب قباب من الخشب كل قبة أربع أو خمس طبقات ، ويعمل مقدار عشرين قبة وأكثر منها قبة له والباقي للأمراء وأعيان دولته لكل واحد قبة ، فإذا كان أول صفر زينوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المتجملة وقعد في كل قبة جوق من المغاني وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي ، ولم يتركوا طبقة من تلك الطبقات حتى رتبوا فيها جوقا ، وتبطل معايش الناس في تلك المدة وما يبقى

٢٠٠