إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٢

يمينه. ولقد كان حبه للجهاد والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاء عظيما بحيث ما كان له حديث إلا فيه ولا نظر إلا في آلته ولا كان له اهتمام إلا برجاله ولا ميل إلا إلى من يذكره ويحثه عليه ، ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر بلاده ، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تهب فيها الرياح يمنة ويسرة ، ولقد وقعت عليه الخيمة في ليلة ريحية على مرج عكا فلو لم يكن في البرج لقتلته ، ولا يزيده ذلك إلا رغبة ومصابرة واهتماما.

ولقد رأيته ليلة على صفد وهو يحاصرها وقد قال : لا ننام الليلة حتى تنصب لنا خمسة مجانيق ، ورتب لكل منجنيق قوما يتولون نصبه ، وكنا طوال الليل في خدمته في ألذ مفاكهة وأرغد عيش ، والرسل تتواصل تخبره بأن قد نصب من المنجنيق الفلاني كذا ومن المنجنيق الفلاني كذا ، حتى أتى الصباح وقد فرغ منها ولم يبق إلا تركيب جنازيرها عليها ، وكانت من أطول الليالي وأشدها بردا ومطرا.

وكان حسن العشرة لطيف الأخلاق طيب الفكاهة ، حافظا لأنساب العرب ووقائعهم ، عارفا بسيرهم وأحوالهم ، حافظا لأنساب خيلهم ، عالما بعجائب الدنيا ونوادرها ، بحيث كان يستفيد محاضره منه ما لا يسمع من غيره.

وكان طاهر المجلس ، لا يذكر بين يديه أحد إلا بخير ، وطاهر السمع فلا يحب أن يسمع عن أحد إلا الخير ، وطاهر اللسان فما رأيته ولع بشتم قط. وكان حسن العهد والوفاء فما أحضر بين يديه يتيم إلا وترحم على مخلفيه وجبر قلبه وأعطاه وجبر مصابه ، وإن كان له من أهله كبير يعتمد عليه سلمه إليه ، وإلا أبقى له من الخير ما يكفي حاجته وسلمه إلى من يعتني بتربيته ويكلفها.

فهذه نبذ من محاسن أخلاقه ومكارم شيمه اقتصرت عليها خوف الإطالة اه.

أقول : وقد اختصرت كثيرا مما ذكره القاضي ابن شداد في السيرة الصلاحية من أحواله ، ولو ذكرت الجميع لطال الكلام جدا ، ومن أحب الاستزادة من أحوال هذا الرجل العظيم فعليه بهذا الكتاب وبكتاب الروضتين ، وقد ذكر ابن خلكان في آخر ترجمته ما بناه في مصر والقدس والشام من المدارس والخانقاهات وغير ذلك ، ولم أر فيما رأيته أن له شيئا من الآثار في حلب ، ويظهر أن السبب في ذلك أنه لم يقم هنا مدة يتسنى له فيها

١٦١

تشييد شيء من المدارس أو غيرها بل كانت إقامته فيها في قدماته إليها أياما قلائل رحمه‌الله.

ذكر حال أولاد صلاح الدين بعده

قال ابن الأثير : لما مات صلاح الدين كان معه بها ولده الأكبر الأفضل نور الدين علي ، وكان قد حلف له العساكر جميعهم غير مرة في حياته ، فلما مات ملك دمشق والساحل والبيت المقدس وبعلبك وصرخد وبصرى وبانياس وهونين وتبنين وجميع الأعمال إلى الداروم ، وكان ولده الملك العزيز عثمان بمصر فاستولى عليها واستقر ملكه بها.

وكان ولده الظاهر غازي بحلب فاستولى عليها وعلى جميع أعمالها مثل حارم وتل باشر وأعزاز وبرزية ودرب ساك ومنبج وغير ذلك ، وكان بحماة محمود بن تقي الدين عمر فأطاعه وصار معه ، وكان بحمص شيركوه بن محمد بن شيركوه فأطاع الملك الأفضل.

سنة ٥٩٠

ذكر إلحاق جبلة واللاذقية بمملكة حلب

قال ابن الأثير : في هذه السنة وصل الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين وهو صاحب مصر إلى مدينة دمشق فحصرها وبها أخوه الأكبر الملك الأفضل علي بن صلاح الدين ، وكنت حينئذ بدمشق ، فنزل بنواحي ميدان الحص فأرسل الأفضل إلى عمه الملك العادل أبي بكر بن أيوب وهو صاحب الديار الجزرية يستنجده ، وكان الأفضل غاية الواثق به والمعتمد عليه ، وقد سبق ما يدل على ذلك ، فسار الملك العادل إلى دمشق هو والملك الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب وناصر الدين محمد بن تقي الدين صاحب حماة وأسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص وعسكر الموصل وغيرها ، كل هؤلاء اجتمعوا بدمشق واتفقوا على حفظها علما منهم أن العزيز إن ملكها أخذ بلادهم ، فلما رأى العزيز اجتماعهم علم أنه لا قدرة له على البلد ، فترددت الرسل حينئذ في الصلح فاستقرت القاعدة على أن يكون البيت المقدس وما جاوره من أعمال فلسطين للعزيز وتبقى دمشق وطبرية وأعمالها والغور للأفضل على ما كانت عليه وأن يعطي الأفضل أخاه الملك الظاهر جبلة واللاذقية وأن يكون الملك العادل بمصر إقطاعه الأول ، واتفقوا على ذلك وعاد العزيز إلى مصر ورجع كل واحد من الملوك إلى بلده.

١٦٢

سنة ٥٩٥ و ٥٩٦

ذكر وفاة الملك العزيز صاحب مصر وحصر الأفضل

والظاهر عمهما العادل في دمشق ثم رجوعهما

وملك العادل مصر والصلح بين الظاهر وعمه العادل

قال أبو الفداء : ليلة السابع والعشرين من المحرم توفي الملك العزيز عماد الدين عثمان ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين صاحب مصر ، وكان الغالب على دولة الملك العزيز فخر الدين جهاركس ، فأقام في الملك ولد الملك العزيز الملك المنصور محمد واتفقت الأمراء على إحضار أحد من بني أيوب ليقوم بالملك وعملوا مشورة بحضور القاضي الفاضل ، فأشار بالملك الأفضل وهو حينئذ بصرخد ، فأرسلوا إليه فسار محثا ووصل إلى مصر على أنه أتابك الملك المنصور بن الملك العزيز ، وكان عمر الملك المنصور حينئذ تسع سنين وشهورا ، ولما وصل إلى بلبيس لقيه إخوته وجماعة الأمراء المصرية وجميع الأعيان ، فاتفق أن أخاه الملك المؤيد مسعودا صنع له طعاما وصنع له فخر الدين جهاركس مملوك أبيه طعاما ، فابتدأ بطعام أخيه ليمين حلفها أخوه أنه يبدأ به ، فظن جهاركس أنه فعل هذا انحرافا عنه وسوء اعتقاد فيه فتغيرت نيته [هذان السطران من ابن الأثير] وفارقه وتبعه عدة من العسكر وساروا إلى الشام وكاتبوا الملك العادل وهو محاصر ماردين.

وأرسل الملك الظاهر إلى أخيه الملك الأفضل يشير عليه بقصد دمشق وأخذها من عمه الملك العادل وأن ينتهز الفرصة لاشتغال العادل بحصار ماردين ، فبرز الملك الأفضل من مصر وسار إلى دمشق ، وبلغ الملك العادل مسيره إلى دمشق فترك على حصار ماردين ولده الملك الكامل ، وسار العادل وسبق الأفضل ودخل دمشق قبل نزول الأفضل عليها بيومين ، ونزل الملك الأفضل على دمشق ثالث عشر شعبان من هذه السنة ، وزحف من الغد على البلد وجرى بينهم قتال ، وهجم بعض عسكره المدينة حتى وصل إلى باب البريد ولم يمدهم العسكر ، فتكاثر أصحاب الملك العادل وأخرجوهم من البلد ، ثم تخاذل العسكر فتأخر الأفضل إلى ذيل عقبة الكسوة ، ثم وصل إلى الملك الأفضل أخوه الظاهر

١٦٣

صاحب حلب فعاد إلى مضايقة دمشق ودام الحصار عليها وقلت الأقوات عند الملك العادل وعلى أهل البلد وأشرف الأفضل والظاهر من الخلف وخرجت السنة وهم على ذلك.

ثم دخلت سنة ٥٩٦ والملكان الأفضل والظاهر محاصران لمدينة دمشق واتفق وقوع الخلف بين الأخوين الأفضل والظاهر ، وسببه أنه كان للملك الظاهر مملوك يحبه اسمه أيبك ففقد ووجد عليه الملك الظاهر وجدا عظيما وتوهم أنه دخل دمشق ، فأرسل من تكشف خبره وأطلع الملك العادل وهو محصور على القضية ، فأرسل إلى الظاهر يقول له : إن محمود بن الشكري أفسد مملوكك وحمله إلى الأفضل أخيك ، فقبض الظاهر على ابن الشكري فظهر المملوك عنده فتغير الظاهر على أخيه الأفضل وترك قتال العادل ، وظهر الفشل في العسكر فتأخر الأفضل والظاهر عن دمشق وأقاما بمرج الصفّر إلى أواخر صفر ، ثم سارا إلى رأس الماء ليقيما به إلى أن ينسلخ الشتاء ، ثم انثنى عزمهما وسار الأفضل إلى مصر والظاهر إلى حلب على القريتين ، ولما تفرقا خرج الملك العادل من دمشق وسار في إثر الأفضل إلى مصر ، ولما وصل الأفضل إلى مصر تفرقت عساكره في بلادهم لأجل الربيع فأدركه عمه العادل فخرج الأفضل بمن بقي عنده من العسكر وضرب معه مصافا بالسايح فانكسر الأفضل وانهزم إلى القاهرة. ونازل العادل القاهرة ثمانية أيام فأجاب الأفضل إلى تسليمها على أن يعوض عنها ميافارقين وحاني وسميساط فأجابه العادل إلى ذلك ولم يف له به. (ثم قال) : ولما استقرت المملكة للملك العادل أرسل إليه الملك المنصور صاحب حماة يعتذر إليه مما وقع منه بسبب أخذه بعرين من ابن المقدم ، فقبل الملك العادل عذره وأمره برد بعرين إلى ابن المقدم ، فاعتذر الملك المنصور عنها بقربها من حماة ونزل عن منبج وقلعة نجم لابن المقدم عوضا عن بعرين ، فرضي ابن المقدم بذلك لأنهما خير من بعرين بكثير ، وتسلمهما عز الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الملك بن المقدم وكان له أيضا فامية ١ وكفر طاب وخمس وعشرون ضيعة من المعرة.

وكذلك كاتب الملك الظاهر عمه الملك العادل وصالحه وخطب له بحلب وبلادها وضرب السكة باسمه ، واشترط الملك العادل على صاحب حلب أن يكون خمسمائة فارس من خيار عسكر حلب في خدمة الملك العادل كلما خرج إلى البيكار ، والتزم صاحب حلب بذلك اه.

__________________

١ ـ هي أفامية ، وقال في معجم البلدان : ويسميها بعضهم فامية بعير همزة.

١٦٤

سنة ٥٩٧

ذكر أخذ الظاهر منبج وأفامية وغيرها

قال أبو الفداء : لما دخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة كان بالديار المصرية الملك العادل وعنده ابنه الملك الكامل محمد وهو نائبه بها ، وبحلب الملك الظاهر وهو مجد في تحصين حلب خوفا من عمه الملك العادل ، وبدمشق الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل نائب أبيه بها ، وبالشرق الملك إبراهيم بن الملك العادل ، وبميافارقين الملك الأوحد نجم الدين أيوب بن الملك العادل. (وفي هذه السنة) توفي عز الدين إبراهيم بن محمد بن المقدم وصارت البلاد بعده وهي منبج وقلعة نجم وأفامية وكفر طاب لأخيه شمس الدين عبد الملك.

ولما استقر شمس الدين بمنبج سار إليها الملك الظاهر صاحب حلب وحصرها وملك منبج وعصى عبد الملك بن المقدم بالقلعة ، فحصره ونزل عبد الملك بالأمان ، فاعتقله الملك الظاهر وملك قلعة منبج ، وبعد أن فرغ من منبج سار إلى قلعة نجم وبها نائب ابن المقدم فحصرها وملكها في آخر رجب من هذه السنة. وأرسل الملك الظاهر إلى الملك المنصور صاحب حماة يبذل منبج وقلعة نجم على أن يصير معه على الملك العادل ، فاعتذر صاحب حماة باليمين التي في عنقه للملك العادل ، فلما أيس الملك الظاهر منه سار إلى المعرة وأقطع بلادها واستولى على كفر طاب وكانت لابن المقدم ، ثم سار إلى فامية وبها قراقوش نائب ابن المقدم ، وأرسل الملك الظاهر من أحضر عبد الملك بن المقدم من حلب وكان معتقلا بها ، وأحضر معه أصحابه الذين اعتقلهم وضربهم قدام قراقوش ليسلم أفامية ، فامتنع قراقوش ، فأمر الملك الظاهر بضرب عبد الملك بن المقدم فضرب ضربا شديدا وبقي يستغيث ، فأمر قراقوش فضربت النقارات على قلعة فامية لئلا يسمع أهل البلد صراخه ، ولم يسلم القلعة فرحل عنها الملك الظاهر وتوجه إلى حماة وحاصرها لثلاث بقين من شعبان من هذه السنة ، ونزل شمالي البلد وشعث التربة التقوية وبعض البساتين وزحف من جهة الباب الغربي وقاتل قتالا شديدا ، ثم زحف في آخر شعبان من الباب الغربي والباب القبلي وباب العميان وجرى فيه قتال شديد وجرح الملك الظاهر بسهم في ساقه ، واستمرت الحرب إلى أيام من رمضان ، فلما لم يحصل على غرض صالح الملك المنصور على مال يحمله إليه قيل إنه ثلاثون

١٦٥

ألف دينار صورية ، ثم رحل الملك الظاهر إلى دمشق وبها الملك المعظم بن الملك العادل فنازلها الملك الظاهر هو وأخوه الملك الأفضل وانضم إليهما فارس الدين ميمون القصري صاحب نابلس ومن وافقه من الأمراء الصلاحية ، واستقرت القاعدة بين الأخوين الأفضل والظاهر أنهما متى ملكا دمشق يتسلمها الملك الأفضل ثم يسيران ويأخذان مصر من الملك العادل ويتسلمها الملك الأفضل ، وتسلم دمشق حينئذ إلى الملك الظاهر صاحب حلب بحيث تبقى مصر للملك الأفضل ويصير الشام جميعه للملك الظاهر. وكان قد تخلف من أكابر الأمراء الصلاحية عنهما فخر الدين جهاركس وزين الدين قراجة ، فأرسل الملك الأفضل وسلم صرخد إلى زين الدين قراجة ، ونقل الملك الأفضل والدته وأهله إلى حمص عند شيركوه ، وبلغ الملك العادل حصار الأخوين دمشق فخرج بعساكر مصر وأقام بنابلس ولم يجسر على قتالهما ، واشتدت مضايقة الملكين الأفضل والظاهر لدمشق وتعلق النقّابون بسورها ، فلما شاهد الملك الظاهر ذلك حسد أخاه الملك الأفضل على دمشق وقال له : أريد أن تسلم إلي دمشق الآن ، فقال له الأفضل : إن حريمي حريمك وهم على الأرض وليس لنا موضع نقيم فيه ، وهب هذه البلدة لك فاجعله لي إلى حين تملك مصر وتأخذه ، فامتنع الظاهر من قبول ذلك ، وكان قتال العسكر والأمراء الصلاحية إنما كان لأجل الأفضل فقال لهم الأفضل : إن كان قتالكم لأجلي فاتركوا القتال وصالحوا الملك العادل ، وإن كان قتالكم لأجل أخي الملك الظاهر فأنتم وإياه ، فقالوا : إنما قتالنا لأجلك ، وتخلوا عن القتال.

(قال ابن الأثير) : وكان الناس كلهم يريدون الأفضل فقالوا : ما نريد سواك والعادل أحب إلينا من أخيك ، فأذن لهم في العود فهرب فخر الدين جهاركس وزين الدين قراجا الذي أعطاه الأفضل صرخد ، فمنهم من دخل دمشق ومنهم من عاد إلى إقطاعه ، فلما انفسخ الأمر عليهم عادوا إلى تجديد الصلح مع العادل فترددت الرسل بينهم واستقر الصلح على أن يكون للظاهر منبج وأفامية وكفر طاب وقرى معينة من المعرة ، ويكون للأفضل سميساط وسروج ورأس العين وحملين ، ورحلوا عن دمشق أول المحرم سنة ثمان وتسعين.

سنة ٥٩٨

قال أبو الفداء : في هذه السنة بعد رحيل الملك الأفضل والظاهر عن دمشق كما ذكرنا ، قدم إليها الملك العادل ، وكان قد سار ميمون القصري مع الملك الظاهر فأقطعه أعزاز ، وفيها خرب الملك الظاهر قلعة منبج خوفا من انتزاعها منه ، وأقطع منبج بعد ذلك

١٦٦

عماد الدين أحمد بن يوسف الدين علي بن أحمد المشطوب (١) ، وفيها أرسل قراقوش نائب عبد الملك بن محمد بن عبد الملك بن المقدم بفامية إلى الملك الظاهر يبذل له تسليم فامية بشرط أن يعطي شمس الدين عبد الملك بن المقدم إقطاعا يرضاه ، فأقطعه الملك الظاهر الراوندان وكفر طاب ومفردة المعرة وهو عشرون ضيعة معينة من بلاد المعرة وتسلم فامية ، ثم إن عبد الملك عصى بالراوندان فسار إليه الظاهر واستنزله منها وأبعده فلحق عبد الملك بالملك العادل فأحسن إليه.

وفيها سار الملك العادل من دمشق ووصل إلى حماة ونزل على تل صفرون ، وقام الملك المنصور صاحب حماة بجميع وظائفه وكلفه ، وبلغ الظاهر صاحب حلب وصول عمه الملك العادل إلى حماة بنية قصده ومحاصرته حلب ، فاستعد للحصار بحلب وراسل عمه ولاطفه وأهدى إليه ووقعت بينهما مراسلات ووقع الصلح وانتزعت منه مفردة المعرة واستقرت للملك المنصور صاحب حماة ، وأخذت من الملك الظاهر أيضا قلعة نجم وسلمت إلى الملك الأفضل ، وكان له سروج وسميساط ، وسلم الملك العادل حران وما معها لولده الملك الأشرف مظفر الدين موسى وسيره إلى الشرق ، وكان بميافارقين الملك الأوحد ابن الملك العادل وبقلعة جعبر الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه ابن الملك العادل. ولما استقر الصلح بين الملك العادل والظاهر رجع الملك العادل إلى دمشق وأقام بها وقد انتظمت الممالك الشامية والشرقية والديار المصرية كلها في سلك ملكه ، وخطب له على منابرها وضربت السكة فيها باسمه اه.

سنة ٥٩٩

ذكر أخذ الظاهر قلعة نجم من أخيه الأفضل

قال ابن الأثير : في هذه السنة أخذ الظاهر غازي قلعة نجم من أخيه الأفضل ، وكانت في جملة ما أخذ من العادل لما صالحه سنة سبع وتسعين ، فلما كان هذه السنة أخذ العادل من الأفضل سروج وجملين ورأس العين وبقي بيده سميساط وقلعة نجم ، فأرسل إليه

__________________

(١) قال ابن الوردي في تتمة المختصر : وكان ذلك بواسطة وزيره بمنبج البرهان ابن أبي شيبة وعمل موضع القلعة مارستانا وحمامين متلاصقتين وخان سبيل فقال أهل منبج عنه : هتك الحريم وصان الحمير اه.

١٦٧

الظاهر يطلب منه قلعة نجم وضمن له أنه يشفع إلى عمه العادل في إعادة ما أخذ منه ، فلم يعطه ، فتهدده بأن يكون إلبا عليه ، ولم تزل الرسل تتردد حتى سلمها إليه في شعبان وطلب منه أن يعوضه قرى أو مالا فلم يفعل ، وهذا من أقبح ما سمع عن ملك يزاحم أخاه في مثل قلعة نجم مع خستها وحقارتها وكثرة بلاده هو وعدمها لأخيه. وأما العادل فإنه لما أخذ سروج ورأس العين من الأفضل أرسل والدته إليه لتسأل في ردهما فلم يشفعها وردها خائبة ، ولقد عوقب البيت الصلاحي بما فعله أبوهم مع البيت الأتابكي ، فإنه لما قصد حصار الموصل سنة ثمانين وخمسمائة أرسل صاحب الموصل والدته وابنة عم نور الدين يسألانه أن يعود فلم يشفعها ، فجرى لأولاده هذا وردت زوجته خائبة كما فعل ، ولما رأى الأفضل عمه وأخاه قد أخذا ما كان بيده أرسل إلى ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان صاحب ملطية وقونية وما بينهما من البلاد يبذل له الطاعة وأن يكون في خدمته ويخطب له ببلده ويضرب السكة باسمه ، فأجابه ركن الدين إلى ذلك ، فأرسل له خلعة فلبسها الأفضل وخطب له بسميساط في سنة ستمائة وصار في جملته اه.

سنة ٦٠٠

قال أبو الفدا : في هذه السنة نازل بن لاوون ملك الأرمن أنطاكية ، فتحرك الملك الظاهر صاحب حلب ووصل إلى حارم ، فرحل ابن لاوون من أنطاكية على عقبه اه.

سنة ٦٠٢

ذكر الغارة من ابن ليون على أعمال حلب

قال ابن الأثير : في هذه السنة توالت الغارة من ابن ليون الأرمني صاحب الدروب على ولاية حلب ، فنهب وحرق وأسر وسبى ، فجمع الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف صاحب حلب عساكره واستنجد غيره من الملوك فجمع كثيرا من الفارس والراجل وسار عن حلب نحن ابن ليون ، وكان ابن ليون قد نزل في طرف بلاده مما يلي بلد حلب ، فليس إليه طريق لأن جميع بلاده لا طريق إليها إلا من جبال وعرة ومضايق صعبة ، فلا يقدر غيره على الدخول إليها لا سيما من ناحية حلب ، فإن الطريق منها متعذر جدا ، فنزل الظاهر على خمسة فراسخ من حلب وجعل على مقدمته جماعة من عسكره مع أمير كبير من مماليك أبيه يعرف بميمون القصري ينسب إلى قصر الخلفاء العلويين بمصر ، لأن أباه

١٦٨

منهم أخذه ، فأنفذ الظاهر ميرة وسلاحا إلى حصن له مجاور لبلاد ابن ليون اسمه دربساك ، وأنفذ إلى ميمون ليرسل طائفة من العسكر الذين عنده إلى طريق هذه الذخيرة ليسيروا معها إلى دربساك ، ففعل ذلك وسيّر جماعة كثيرة من عسكره وبقي في قلة ، فبلغ الخبر إلى ابن ليون فجد فوافاه وهو مخف من العسكر ، فقاتله واشتد القتال بينهم ، فأرسل ميمون إلى الظاهر يعرفه وكان بعيدا عنه ، فطالت الحرب بينهم وحمى ميمون نفسه وأثقاله على قلة من المسلمين وكثرة من الأرمن ، فانهزم المسلمون ونال العدو منهم فقتل وأسر ، وكذلك أيضا فعل المسلمون بالأرمن من كثرة القتل ، وظفر الأرمن بأثقال المسلمين فغنموها وساروا بها ، فصادفهم المسلمون الذين كانوا قد ساروا مع الذخائر إلى دربساك فلم يشعروا بالحال ، فلم يرعهم إلا العدو وقد خالطهم ووضع السيف فيهم فاقتتلوا أشد قتال ، ثم انهزم المسلمون أيضا وعاد الأرمن إلى بلادهم بما غنموا واعتصموا بجبالهم وحصونهم اه.

سنة ٦٠٥

قدوم الأشرف إلى حلب متوجها إلى بلاده الشرقية

قال أبو الفدا : في هذه السنة توجه الملك الأشرف موسى بن الملك العادل (ابن عم الظاهر) من دمشق راجعا إلى بلاده الشرقية ، ولما وصل إلى حلب تلقاه صاحبها الملك الظاهر وأنزله في القلعة وبالغ في إكرامه ، وقام للأشرف ولجميع عسكره بجميع ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب والحلوى والعلوفات ، وكان يحمل إليه في كل يوم خلعة كاملة وهي غلالة وقباء وسراويل وكمة وفروة وسيف وحصان ومنطقة ومنديل وسكين ودلكش وخمس خلع لأصحابه ، وأقام على ذلك خمسة وعشرين يوما وقدم له تقدمة وهي مائة ألف درهم ومائة بقجة من مائة مملوك. فمنها عشر بقج في كل واحدة منها ثلاثة أثواب أطلس وثوبان خطاي ، وعلى كل بقجة جلد قندس كبير ، ومنها عشر في كل واحدة منها عشرة أثواب عتابي خوارزمي وعلى كل بقجة جلد قندس كبير ، ومنها عشر في كل واحدة خمسة أثواب عتابي بغدادي وموصلي وعليها عشرة جلود قندس صغار ، ومنها عشرون في كل واحدة خمس قطع مرسوسي ودبيقي ، ومنها أربعون في كل واحدة منها خمسة أقبية وخمس كمام ، وحمل إليه خمس حصن عربية بعدتها وعشرين إكديشا وأربعة قطر بغال وخمس بغلات فائقات بالسروج واللجم المكفنة وقطارين من الجمال ، وخلع على أصحابه مائة وخمسين خلعة وقاد إلى أكثرهم بغلات وأكاديش ، ثم سار الأشرف إلى بلاده اه.

١٦٩

وفي هذه السنة وصل غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان السلجوقي صاحب بلاد الروم إلى مرعش لقصد بلاد ابن لاوون الأرمني وأرسل إليه الملك الظاهر ، نجدة فدخل كيخسرو إلى بلاد ابن لاوون وعاث فيها ونهب وفتح حصنا يعرف بفرقوس اه.

الكلام على نهر حلب المسمى بقويق وعلى قناة حلب

وإصلاح مجراها من حيلان إلى حلب في هذه السنة

قال أبو الفداء : وفي هذه السنة أمر الملك الظاهر صاحب حلب بإجراء القناة من حيلان إلى حلب وغرم على ذلك أموالا كثيرة وبقي البلد يجري الماء فيه اه.

ويجدر أن نتكلم هنا على نهر حلب وأصل منبعه ونتبع ذلك بالكلام على قناتها ، ثم نذكر تفاصيل الأعمال التي قام بها الملك الظاهر غازي في إجراء القناة من حيلان إلى حلب في هذه السنة فنقول :

قال في الدر المنتخب : قال ابن شداد : أما نهرها فاسمه نهر قويق ١ ، وله مخرجان شاهدتهما وبين حلب وبينهما أربعة وعشرون ميلا ، أحدهما في قرية يقال لها الحسينية بالقرب من أعزاز يخرج الماء منها من عين كبيرة فتجري في نهر ، ويخرج بين جبلين حتى يقع في الوطأة التي قبلي الجبل الممتد من بلد أعزاز شرقا وغربا ، والمخرج الأخير يجتمع من عيون ماء من سنياب ومن بعض قرى حولها من بلد الراوندان ، فتجمع مياه تلك الأعين وتجري في نهر خارج من فم فج سنياب فيقع في الوطأة المذكورة ، ويجتمع النهران فيصيران نهرا واحدا في بلد أعزاز وهو نهر قويق ، ثم يجري إلى دابق ويمر بمدينة حلب ويمده عيون قبل وصوله إليها ، وتدور به الأرحاء بقرية مالد من شمالي حلب ، ثم يمده عيون أخر بعد أن يتجاوز حلب أيضا منها عين المباركة فيقوى بها ويزيد ويسقي في طريقه مواضع كثيرة حتى ينتهي إلى قنسرين ، ثم يمر في المطخ فيغيض في الأجم. وحكى جماعة أن نهر قويق يغيض في المطخ ويخرج إلى بحيرة أفامية ، وأن قويقا إذا مد في الشتاء احمر ماء أفامية ، فاستدلوا بذلك على ما ذكروه. والمسافة بين مغيضه وأفامية مقدار أربعة عشر ميلا.

قال : وقال أبو الحسين بن المناري في كتابه المسمى بالحافظ : مخرج قويق نهر حلب من قرية تدعى سنياب على سبعة أميال من دابق يمر إلى حلب ثمانية عشر ميلا ثم إلى قنسرين اثني عشر ميلا ثم إلى المرج الأحمر اثني عشر ميلا ، ثم يفيض في الأجمة ،

__________________

١ ـ (يعني تصغير قاق). إضافة من الدر المنتخب.

١٧٠

فمن مخرجه إلى مغيضه اثنان وأربعون ميلا. والمرج الأحمر هذا هو المعروف الآن بمرج تل السلطان ، وإنما عرف بذلك لأن السلطان ألب أرسلان السلجوقي خيم به مدة فنسب إليه.

وقال ابن الخطيب : إن نهر حلب كان يجري في الشتاء والربيع وينقطع في الصيف ، ومنبعه من بلاد عينتاب وغوره في المطخ. قلت (القائل ابن الشحنة) : ورأيت له منبعا بقرية يقال لها أرقيق بين حلب وعينتاب ، والظاهر أنه من منابع كثيرة.

وقال ياقوت : قويق نهر مدينة حلب ، مخرجه من قرية تدعى سبتات (صوابه سنياب كما تقدم) وسألت عنها بحلب فقالوا لا نعرف هذا الاسم ، إنما مخرجه من شناذر قرية على ستة أميال من دابق ، ثم يمر في رساتيق حلب. وبعد أن ذكر ما قاله أبو الحسين بن المناري قال : وماؤه أعذب ماء وأصحه (على قوله) إلا أنه في الصيف ينشف فلا يبقى إلا نزور قليلة. وأما في الشتاء فهو حسن المنظر طيب المخبر. وقد وصفه شعراء حلب بما ألحقوه بنهر الكوثر ، ومن أمثال عوام بغداد : يفرح بفلس مطلي من لم ير دينارا. وقد أحسن القيسراني محمد بن صغير في وصفه في قوله :

رأيت نهر قويق

فساءني ما رأيت

فلو ظمئت وأسقي

ت ماءه ما رويت

ولو بكيت عليه

بقدره ما اشتفيت

وقال في السالنامة : هذا النهر ينبع من قرية يقال لها جاغد يغين من أعمال عينتاب ويجري إلى حلب ، وقبل وصوله إليها بنحو ثلاث ساعات عند قرية تعرف بحيلان اقتطع منه قدر ثلثيه واتخذ له مجرى مخصوص بقناة مغطاة وأدخل إلى البلدة. وبعد حيلان يتصل بالبقية الباقية من النهر عين يقال لها عين التل وعين يقال لها عين البيضاء ، ويسقي الجميع بساتين حلب ، وما فضل منه يمر بقرية يقال لها خان طومان ، وبعد ذلك يغيض في أراضي المطخ.

وفي زمن الشتاء حين كثرة الماء وفيضانه تجتمع المياه بعد قرية يقال لها تل الطوكان وهي بعد قرية خان طومان وتشكل هناك بحيرة ، ومتى أقبل الصيف تجف. واسم هذا النهر

١٧١

في القديم شالوس. وسبب تسميته بقويق أن أحد رؤساء عشائر التركمان واسمه قويق من أهل القرن الرابع أصلح مجاري هذا النهر في محال متعددة فنسب إليه (١).

الكلام على قناة حلب

قال في الدر المنتخب : وهذه القناة تأتي من حيلان قرية شمالي حلب وفيها أعين جمع ماؤها وسيق إلى المدينة. وقيل إن الملك الذي بنى حلب وزن ماءها إلى وسط المدينة وبنى المدينة عليها ، وهي تأتي إلى مشهد العافية تحت بعادين وتركب بعد ذلك على بناء محكم رفع لها لا نخفاض الأرض في ذلك الموضع ، ثم تمر إلى أن تصل إلى قرية بابلّى وهي ظاهرة في مواضع ، ثم تمر في جباب قد حفرت لها إلى أن تنتهي إلى باب القناة وتظهر في ذلك المكان ، ثم تمشي تحت الأرض إلى أن تدخل باب الأربعين وتنقسم في طرق متعددة إلى البلد. (قال) : ولأهل حلب صهاريج في دورهم يأتي إليها الماء من القناة ، إلا ما كان من الأماكن المرتفعة من البلد كالعقبة وقلعة الشريف فإن صهاريجهم من المطر ، وكان الذي حفرها أجراها إلى الكنيسة التي جددتها هيلانة التي هي المدرسة الحلاوية. قال : وقيل إن هذه القناة دثرت وإن عبد الملك بن مروان جددها في ولايته ، والذي أدخلها إلى حلب الشيخ الأمين ابن العصيصي الذي تغلب على قنسرين ، ولم يدخلها داره حتى لا يقال عنه إنه فعل ذلك لحظ نفسه ، وقيل إن هذه القناة إسلامية ، والصحيح أنها رومية وكانت لا تدخل في قديم الزمان إلا إلى الجامع فقط.

قال ابن شداد : وفي أيام نور الدين محمود بن زنكي أخرج منها قطعة إلى المطهرة التي هي غربي الجامع بسوق السلاح. قلت (القائل ابن الشحنة) : هذا السوق الآن سوق أمتعة وجانبه الغربي وقف على المدرسة الحلاوية وجانبه الشرقي وقف على الجامع. قال : وعمل منها قسطل إلى رأس الشعيبية ، وأخرج نور الدين قطعة أخرى منها إلى الخشابين وساق منها إلى الرحبة الكبيرة داخل باب قنسرين ، ثم انقطع ذلك كله بعد وفاة نور الدين ولم ندرك من القناة شيئا سوى قسطل الخشابين فقط.

__________________

(١) سيأتي في حوادث سنة ٧٣١ ذكر اتصال نهر الساجور بنهر حلب.

١٧٢

قال : وكان يدخل إلى حلب قناة من جهة باب قنسرين ، ولما عمل الشيخ منتخب الدين بن الإسكافي المصنع الذي في المسجد الذي هو شمالي مسجد المحصب رأيت هذا الطريق وقد نسيت ، فاستدللت بذلك على صحة ما قيل. ورأيت جماعة من الصناع يقولون إن القناة إسلامية جلبها إلى حلب ابن العصيصي حين حبس في حلب. وكانت هذه القناة قد سد طريقها لطول المدة ونقص منابع عيونها فكثرها الملك الظاهر وحرر طريقها إلى البلد وسد مخارج الماء منها فكثر ماؤها وجرى في القنوات والقساطل.

إصلاح الملك الظاهر غازي لمجرى قناة حلب

قال : لما كانت سنة خمس وستمائة سيّر الملك الظاهر غياث الدين غازي إلى دمشق فأحضر صناعا وخرج بنفسه وأوقفهم على أصل هذه القناة التي تخرج من حيلان ، وأمرهم باعتبار الماء الخارج منها واعتبار ما يصل منه إلى حلب ، فاختبروا ذلك فرأوا أن مقدار الخارج من أصل القناة مائة وستون إصبعا ومقدار الداخل إلى حلب عشرون إصبعا لا غير ، وضمنوا له أن يكفوا جميع سكك حلب وشوارعها ودورها ومدارسها وربطها وحماماتها ، ويفضل منه كثير يصرف إلى البساتين والأراضي. فشرع الملك الظاهر في ذلك وبدأ أولا بإصلاح المجرى من حيلان إلى حلب ، وباشر ذلك بنفسه وأحضر إليها جميع الأمراء فضربوا خيامهم على حافتها ، ثم أمر بذرعها من حيلان إلى باب حلب فكانت المسافة خمسة وثلاثين ألف ذراع بذراع النجّارين وهو ذراع ونصف. قلت (القائل ابن الشحنة) : ولعله كان في ذلك الحين كذلك ، وأما الآن فهو ذراع وسدس. قال : ثم قسم ذلك قطعا على الأمراء وعيّن لكل أمير صناعا وفعلة وحمل إليهم الكلس والزيت والأحجار والآجر فأصلحت جميعها وجدد طريقها إلى البلد ، وكلّس مخارج الماء فيه فكثر ، وكانت منكشفة لا سقف لها فقطع لها الطوابق من الصخور الصلبة وطبقها جميعها إلا مواضع جعلها برسم تنقيتها وشرب الماء منها ، وأجرى جميع المجرى إلى باب حلب في ثمانية وخمسين يوما ، ولما اتصلت بالبلد أمر ببناء القساطل وأجرى الماء فيها حتى عمت أكثر البلد ، واتخذ البرك في الدور ، ووصل ماء القناة في أيامه إلى مواضع من البلد لم يسمع بوصولها إليها حتى إنها سيقت إلى الحاضر السليماني (الكلّاسة والمغاير وما بينهما وما كان عامرا في تلك النواحي). فقال أبو المظفر محمد بن محمد الواسطي المعروف بابن سنينير يمدحه لما فعل من هذه المكرمة التي عم نفعها وشاع برها وصنعها :

١٧٣

روّى ثرى حلب فعادت روضة

أنفا وكانت قبله تشكو الظما

أحيا موات ترابها فكأنه

عيسى بإذن الله أحيا الأعظما

لا غرو إن أجرى القناة جداولا

فلطالما بقناته أجرى الدما

ذكر القساطل التي بنيت في حلب على إثر ذلك

قال ابن شداد : لما اتصلت القناة بالبلد أمر ببناء القساطل ، فأول قسطل بني القسطل الذي بباب الأربعين تحت الرباط الذي بناه شهاب الدين طغريل الأتابك من رأس خندق الروم ، وصورته حوض طوله عشرون ذراعا ورأساه المشرق والمغرب قبتان ، وفيه أنبوبان مقدار الإصبع ، ثم ساق هذه القناة إلى باب النصر وعمل حوضا كبيرا قريبا من عشرين شبرا بثلاثة أنابيب ومن القسطل إلى بحسيتا وعمل فيها قسطلين ، وهناك تنتهي إلى المعقلية ، ثم ساق من أصل القناة من باب الأربعين إلى الطريق الآخذ إلى البلد وما يليه ، وهذا الطريق الآخذ إلى بلاط فيه قسطل في رأس العقبة قدام درب الملك ، ثم يسير إلى رأس درب الديلم ، وهناك قسطل ثم إلى الدرب المعروف بالبازيار ثم إلى رأس درب بني الزهرة والطيوريين ، وهناك قسطل ثم إلى درب شراحيل ، وهناك قسطل ثم إلى عند حمام أوران ، وهناك قسطل (الظاهر موغان وهي حمام البيلوني التي خربت سنة ١٣٣٥ لتعريض الجادة) ثم إلى وسط أسد الله ، وهناك قسطل ثم إلى باب الجنان إلى عند مسجد القصير ، وهناك قسطل ثم يعود إلى الطريق الآخذ إلى سويقة اليهود ثم إلى باب النصر. وعمل حوضا كبيرا يفيض ثم إلى السويقة عند دار الصبغ وعمل قسطل وبني المسجد المعلّق وهناك انتهى.

ثم ساق من أصل الماء من المقسم الذي تحت القلعة ثم إلى أسواق حلب وقصبة البلد مصنعة في الأرض وجعل ماء القناة جميعها تجتمع في تلك المصنعة ، ثم جعل فيها مقاسم يخرج الماء على السوية فيتفرق في حلب على السواء ، فأخرج منها طريقا إلى الجامع وما يضاف إليه وطريقا إلى باب الأسود وما يليه وطريقا إلى باب العراق وما يليه وطريقا إلى القطيعة (لعله القصيلة) وما يليها.

وأما طريق الجامع فبنى عليه في رأس دار العدل قسطلا ثم إلى رأس الصاغة تحت المسجد المعلق قسطلا وأخذ منه إلى حمّام العفيف التي عند حبس الدلبة ، ثم أخذ من

١٧٤

قسطل راس الصاغة إلى رأس سوق النطاعين ، ثم إلى شرقي الجامع ، وبني هناك قسطل وفيه ينقسم الماء ثلاثة أقسام :

قسم منه فوارة الجامع ، وقسم يشق وسط الجامع ويصير إلى المطهرة الغربية وما يتصل بها ، وقسم يأخذ إلى باب قنسرين وما يليه ، فإنه يخرج إلى رأس سوق العطّارين العتيق وراس المربعة ، وينقسم هناك قسمين قسم يأخذ إلى الخشابين ، وقسم يأخذ إلى الدركاه ، فأما قسم الدركاه فيصير إلى المطهرة الصغيرة المعروفة بتل فيروز ورأس سوق العطر.

وأما قسم باب قنسرين فينقسم إلى الزجّاجين فيصير إلى رأس درب أسد الدين الآخذ شمالي سوق الأساكفة والبز ، وهناك قسطل ثم إلى عند مسجد المجن ثم إلى درب البيمارستان ، وهناك قسطل يفيض فيه ثلاثة أنابيب ليلا ونهارا.

وأما طريق باب قنسرين فيصير إلى رأس درب ابن أبي الأسود ، وهناك قسطل ثم يصير إلى عند المسجد المعروف بابن الإسكافي ، وهناك قسطل ثم يصير إلى الرحبة التي عند المسجد المحصب وهناك قسطل.

ثم ينقسم الماء هناك ثلاثة أقسام : قسم يأخذ إلى الطيريرة قدام المسجد المعروف بصفي الدين طارق (قبل جامع الرومي) في رأس درب المساسيخ (لعله المسالخ) * وهناك قسطل وهو آخر هذا الطريق.

وقسم يأخذ إلى باب قنسرين ، وقسم يأخذ إلى جرن الأصفر عند المسجد وهناك قسطل (١).

وأما القسم الذي يأخذ إلى باب قنسرين قسطل يفيض الماء منه بثلاثة أنابيب ، ثم يخرج منه الماء إلى ظاهر البلد لتحت برج الغنم مقابل سوق الأعلى وهو بعد عدة قساطل وهو آخر الطريق ، ثم يدخل منه هناك إلى درب البنات وهناك قسطل وهو آخر هذا الطريق اه (٢).

__________________

* ـ العبارة في الأعلاق الخطيرة ـ ط المعهد الفرنسي بدمشق : ١٩٥٣ ـ على النحو التالي : وينقسم الماء هناك ثلاثة أقسام قسم يأخذ إلى ربع بني الطريرة قدام المسجد المعروف بالرئيس صفي الدين طارق في رأس درب الماسح ...

(١) رفع هذا القسطل سنة ١٣٣٨ حينما بني خان آل الجلبي وله حجرتان كبيرتان من الحجر الأصفر طول الواحدة أزيد من ذراعين ونصف وعرضها ذراع لم يزالا ملقاتين على قارعة الطريق.

(٢) بعض هذه الأسماء قد تغيرت الآن إنما بالتأمل القليل تعرف أماكنها.

١٧٥

قال ابن الخطيب : إن الملك الظاهر وقف عليها أوقافا لعمارتها وإصلاحها ولكن هذا الوقف لا يعرف اليوم. (قال) : وسيق الماء منها في زماننا إلى خارج باب المقام إلى القرب من المدرسة الجمالية وانقطع بعد الفتنة التيمورية أو قبلها بقليل. قلت : وقد أجريته أنا إلى تربة آشق تمر في سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة اه.

سنة ٦٠٩

قال أبو الفداء : في سنة ثمان وستمائة أرسل الملك الظاهر القاضي بهاء الدين بن شداد إلى الملك العادل فاستعطف خاطره وخطب ابنته ضيفة خاتون ابنة الملك العادل فزوجها من الملك الظاهر وزال ما كان بينهما من الإحن. وفي هذه السنة في المحرم عقد الملك الظاهر العقد وكان المهر خمسين ألف دينار ، وتوجهت من دمشق في المحرم إلى حلب فاحتفل الملك الظاهر لملتقاها وقدم لها أشياء كثيرة نفيسة.

سنة ٦١٠

ذكر بناء باب اليهود وتسميته باب النصر

قال في الزبد والضرب : وفي سنة عشر وستمائة أتم الملك الظاهر بناء باب اليهود بحلب ، وكان قد شرع في هدمه وحفر خندقه وتوسعته وبناه بناء حسنا وغيّره عن صورته التي كان عليها ، وبنى عليه برجين عظيمين وسماه باب النصر.

قلت : وقد ذكر ابن شداد أنه كان يعرف قديما بباب اليهود لأن اليهود تجاوره بدورهم ومنه يخرجون إلى مقابرهم.

وفيها في خامس عشر ذي الحجة ولد له الملك العزيز محمد من ابنة عمه الخاتون ضيفة خاتون ، فضربت البشائر وزينت حلب وعقدت القباب اه.

قال أبو الفداء : في هذه السنة في رمضان توفي بحلب فارس الدين ميمون القصري وهو آخر من بقي من كبراء الأمراء الصلاحية ، وهو منسوب إلى قصر الخلفاء بمصر كان قد أخذه السلطان صلاح الدين من هناك اه.

١٧٦

سنة ٦١١

قال أبو الفداء : في هذه السنة توفي دلدرم بن ياروق صاحب تل باشر وولي تل باشر بعده ابنه فتح الدين.

سنة ٦١٣

ذكر وفاة الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين

قال الصلاح الصفدي في تاريخه المرتب على السنين في حوادث هذه السنة : فيها توفي الملك الظاهر غازي بن يوسف بن أيوب صاحب حلب ، مولده بالقاهرة سنة ثمان وستين وخمسمائة ، وكان ملكا مهيبا له سياسة وفطنة ، ودولته معمورة بالعلماء والفضلاء مزينة بالملوك والأمراء ، وكان محسنا إلى الرعية ، وحضر معظم فتوحات والده ، وكان محبا للعلماء مجيزا للشعراء ، أعطاه والده مملكة حلب سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة ، ودفن بقلعة حلب ، ثم بنى له الطواشي طغريل مدرسة تحت القلعة وعمّر فيها تربة ونقله إليها اه.

وقال ابن الأثير في حوادث هذه السنة : فيها في جمادى الآخرة توفي الملك الظاهر غازي. وهو صاحب مدينة حلب ومنبج وغيرهما من بلاد الشام. وكان مرضه إسهالا ، وكان شديد السيرة ضابطا لأموره كلها كثير الجمع للأموال من غير جهاتها المعتادة عظيم العقوبة على الذنب لا يرى الصفح ، وله مقصد يقصده كثير من أهل البيوتات من أطراف البلاد والشعراء وأهل الدين وغيرهم فيكرمهم ويجري عليهم الجاري الحسن ، ولما اشتدت علته عهد بالملك بعده لولد له صغير اسمه محمد ولقبه الملك العزيز غياث الدين عمره ثلاث سنين ، وعدل عن ولد كبير لأن الصغير كانت أمه ابنة عمه الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب مصر ودمشق وغيرهما من البلاد ، فعهد بالملك له ليبقي عمه البلاد عليه ولا ينازعه فيها. ومن أعجب ما يحكى أن الملك الظاهر قبل مرضه أرسل رسولا إلى عمه العادل بمصر يطلب منه أن يحلف لولده الصغير ، فقال العادل : سبحان الله أي حاجة إلى هذه اليمين ، الملك الظاهر مثل بعض أولادي ، فقال الرسول : قد طلب هذا واختاره ولا بد من إجابته إليه ، فقال العادل : كم من كبش في المرعى وخروف عند القصّاب. وحلف فاتفق في تلك الأيام أن توفي الملك الظاهر والرسول في الطريق ، ولما عهد الظاهر إلى ولده بالملك جعل أتابكه ومربيه خادما روميا اسمه طغريل ولقبه شهاب الدين ، وهو من خيار

١٧٧

عباد الله كثير الصدقة والمعروف ، ولما توفي الظاهر أحسن شهاب الدين هذا السيرة في الناس وعدل فيهم وأزال كثيرا من السنن الجارية وأعاد أملاكا كانت قد أخذت من أربابها ، وقام بتربية الطفل أحسن قيام وحفظ بلاده ، واستقامت الأمور بحسن سيرته وعدله وملك ما كان يتعذر على الظاهر ملكه ، فمن ذلك تل باشر كان الملك الظاهر لا يقدر أن يتعرض إليه ، فلما توفي ملكها كيكاوس السلجوقي ملك الروم كما نذكره انتقلت إلى شهاب الدين. وما أقبح بالملوك وأبناء الملوك أن يكون هذا الرجل الغريب المنفرد أحسن سيرة وأعف عن أموال الرعية وأقرب إلى الخير منهم ، ولا أعلم اليوم في ولاة أمور المسلمين أحسن سيرة منه ، فالله يبقيه ويدفع عنه ، فلقد بلغني عنه كل حسن وجميل اه.

وقال أبو الفداء : لما كانت صبيحة يوم السبت وهو الخامس والعشرون من جمادى الأولى من هذه السنة ابتدأ الملك الظاهر المذكور حمّى حادة ، ولما اشتد مرضه أحضر القضاة والأكابر وكتب نسخة يمين أن يكون الملك بعده لولده الصغير الملك العزيز ، ثم بعده لولده الكبير الملك الصالح صلاح الدين أحمد بن غازي ، وبعدهما لابن عمهما الملك المنصور محمد بن العزيز عثمان بن السلطان صلاح الدين ، وحلف الأمراء والأكابر على ذلك وجعل الحكم في الأموال والقلاع إلى شهاب الدين طغريل الخادم وأعذق به جميع أمور الدولة ، وفي الثالث عشر من جمادى الآخرة أقطع الملك الظافر خضر المعروف بالمستمر كفر سودا ، وأخرج من حلب في ليلة بالتوكيل ، وأخرج علم الدين قيصر مملوك الملك الظاهر إلى حارم نائبا. وفي خامس عشر جمادى الآخرة اشتد مرض الملك الظاهر ومنع الناس الدخول إليه ، وتوفي في ليلة الثلاثاء العشرين من جمادى الآخرة ، وكان مولده بمصر في نصف رمضان سنة ثمان وستين وخمسمائة ، فكان عمره أربعا وأربعين سنة وشهورا ، وكان فيه بطش وإقدام على سفك الدماء ، ثم أقصر عنه ، وهو الذي جمع شمل البيت الناصري الصلاحي ، وكان ذكيا فطنا اه.

وقال ابن خلكان في ترجمته : كان الظاهر يكنى أبا الفتح وأبا منصور أيضا ويلقب بغياث الدين ، وكان ملكا مهيبا حازما متيقظا كثير الاطلاع على أحوال رعيته وأخبار الملوك ، عالي الهمة حسن التدبير والسياسة باسط العدل محبا للعلماء مجيزا للشعراء ، أعطاه والده مملكة حلب في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة بعد أن كانت لعمه الملك العادل فنزل عنها ، وتعوض عنها غيرها كما قد شهر. ويحكى عن سرعة إدراكه أشياء حسنة ، منها أنه

١٧٨

جلس يوما لعرض العسكر وديوان الجيش بين يديه ، وكان كلما حضر أحد من الأجناد سأله الديوان عن اسمه لينزلوه ، حتى حضر واحد فسألوه عن اسمه فقبل الأرض فلم يفطن أحد من أرباب الديوان لما أراد ، فعاودوا سؤاله فقال الملك الظاهر : اسمه غازي ، وتأدب الجندي أن يذكر اسمه لما كان موافقا لاسم السلطان وعرف هو مقصوده ، وله من هذا الجنس شيء كثير لا حاجة إلى التطويل فيه.

وفي الزبد والضرب : لما مات الظاهر كتم خبر موته حتى دفن في الحجرة التي جنب داره الكبيرة التي أنشأها بالقلعة ، وكان له في كل دار بحلب مأتم وعزاء.

والناس مأتمهم عليه واحد

في كل دار أنّه وزفير

قال ابن خلكان : ورثاه شاعره الشرف راجح بن إسماعيل بن أبي القاسم الأسدي الحلي وكنيته أبو الوفاء بهذه القصيدة ومدح ولديه السلطان الملك العزيز محمدا وأخاه الملك الصالح صاحب عين تاب وما قصر فيها ، وهي :

سل الخطب إن أصغى إلى من يخاطبه

بمن علقت أنيابه ومخالبه

نشدتك عاتبه على نائباته

وإن كان ينأى السمع عمن يعاتبه

لي الله كم أرمي بطرفي ضلالة

إلى أفق مجد قد تهاوت كواكبه

فمالي أرى الشهباء قد حال صبحها

علي دجى لا تستنير غياهبه

أحقا حمى الغازي الغياث بن يوسف

أبيح وعادت خائبات مواكبه

نعم كورت شمس المدائح وانطوت

سماء العلا والنجح ضاقت مذاهبه

فمن مخبري عن ذلك الطود هل وهت

قواعده أم لان للخطب جانبه

أجل ضعضعت بعد الثبات وزعزعت

بريح المنايا العاصفات مناكبه

وغيض ذاك البحر من بعد ما طمت

وطمّت لغيبان البلاد غواربه

فشلت يمين الخطب أي مهند

برغم العلا سلت وفلت مضاربه

لئن حبس الغيث الغياثي قطره

فقد سحبت في كل قطر سحائبه

فأنّى يلذ العيش بعد ابن يوسف

أخو أمل أكدت عليه مطالبه

فلا أدركت نيل العلا طالباته

ولا بركت في أرض يمن ركائبه

ولا انتجعت إلا بعيش حقيبة

من الجدب لا تثني عليه حقائبه

مضى من أقام الناس في ظل عدله

وآمن من خطب تدب عقاربه

١٧٩

فكم من حمى صعب أباحت سيوفه

ومن مستباح قد حمته كتائبه

أرى اليوم دست الملك أصبح خاليا

أما فيكم من مخبر أين صاحبه

فمن سائلي عن سائل الدمع لم جرى

لعل فوآدي بالوجيب يجاوبه

فكم من ندوب في قلوب نضيجة

بنار كروب أججتها نوادبه

أسلم ولم تحطم صدور رماحه

بذب ولم تثلم بضرب قواضبه

ولا اصطدمت عند الحتوف كماته

ولا ازدحمت بين الصفوف جنائبه

ولا سيم أخذ الثار يوم كريهة

تشق مثار النقع فيها سلاهبه

فيا ملبسي ثوبا من الحسن مسبلا

أيحسن بي أن التسلي سالبه

خدمتك روض المجد تضفو ظلاله

عليّ وحوض الجود تصفو مشاربه

وقد كنت تدنيني وترفع مجلسي

لمفروض مدح ما تعداك واجبه

فما بال إذني قد تمادى ولم يكن

إذا جئت يثنيني عن الباب حاجبه

أرى الشمس أخفت يوم فقدك نورها

فلا كان يوم كاسف الوجه شاحبه

فكيف نبا سيف اعتزامك أو كبا

جواد من الحزم الذي أنت راكبه

فمن لليتامى يا غياث يغيثهم

إذا الغيث لم ينقع صدى العام ساكبه

ومن لملوك كنت ظلا عليهم

ظليلا إذا ما الدهر نابت نوائبه

أيا تاركي ألقى العدو مسالما

متى ساءني بالجد قمت ألاعبه

سقت قبرك الغر الغوادي وجاده

من الغيث ساريه الملثّ وساربه

فإن يك نور من شهابك قد خبا

فيا طالما جلّى دجى الليل ثاقبه

فقد لاح بالملك العزيز محمد

صباح هدى كنا زمانا نراقبه

فتى لم يفته من أبيه وجده

إباء وجد غالبا من يغالبه

ومن كان في المسعى أبوه دليله

تدانى له الشأو الذي هو طالبه

وبالصالح استعلى صلاح رعية

لها منه رعي ليس يقلع راتبه

فحسب الورى من أحمد ومحمد

مليكان من عاداهما ذل جانبه

هما أحرزا علياء غازي بن يوسف

وما ضيّعا المجد الذي هو كاسبه

فأفق الورى لولاهما كان أظلمت

مشارقه من بعده ومغاربه

ستحمي على رغم الليالي حماهما

عوالي قنا تردي الأسود ثعالبه

١٨٠