إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٢

وهذا المنبر غير المنبر الذي كنت سمعت أن صانعه كان فلاحا من قرية الأخترين من قرى حلب ، وأنه مات قبل تركيبه وعجز الناس عن تركيبه ، فرآه ولده في النوم فقال له : عجزتم عن تركيبه؟ قال : نعم ، فأراهم كيفية التركيب فأصبح ولده وركبه اه.

أقول : وقد تقدم في حوادث سنة ٥٨٠ وصف ابن جبير للمنبر القديم ، وهذا قد احترق حينما دخل صاحب سيس إلى الجامع وأحرق الجانب القبلي منه وذلك سنة ٦٨٤ كما سيأتي ، وبقي إلى أن جدد في أيام الملك الناصر محمد في أوائل القرن الثامن وهو الموجود إلى الآن ، وهو من خشب الآبنوس بديع الصنعة قد تخلل أجزاءه قطع رقاق صغار من العاج يدلك على براعة صانعه ورقي تلك الصنعة في ذلك العهد. لكنه على مقتضي وصف ابن جبير له لم يأت مثل المنبر القديم.

ومكتوب على تاج بابه : (عمل في أيام مولانا السلطان الملك الناصر أبي الفتح محمد عز نصره). وتحت ذلك : (عمل العبد الفقير إلى الله محمد بن علي الموصلي). وعلى مصراعي الباب : (بتولي العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن عثمان الحداد). وكتب وراء المنبر في أعلى الجدار : (أمر بعمله المقر العالي الأمير الشمسي قراسنقر الجوكندار الملكي المنصوري عز نصره).

وأما المنبر الذي حمل إلى القدس الذي هو نظير السابق فإنه لم يزل باقيا فيها إلى وقتنا هذا ، وعزمت على أخذه بالمصور الشمسي وإثباته هنا لتعلم منه صنعة ذلك المنبر فلم يتسهل لي ذلك ، وقد كتب لي بالواسطة ما هو مكتوب على ذلك المنبر ، قال : مكتوب في الجهة الشرقية عن يسار المنبر في أطرافه الأربع بعد البسملة : (أمر بعمله العبد الفقير إلى رحمته الشاكر لنعمته المجاهد في سبيله المرابط لإعلاء دينه العادل نور الدين ركن الإسلام والمسلمين منصف المظلومين من الظالمين أبو القاسم محمود بن زنكي بن أيوب ناصر أمير المؤمنين عز الله أنصاره وأدام اقتداره وأعلى مناره في الخافقين ألويته وأعلامه وأعز أولياء دولته وأذل كفار نعمته وفتح له وعلى يديه وأقر بالنصر والزلفا عيناه) (هكذا كتب لي) برحمتك يا رب العالمين وذلك في شهور أربعة وستين وخمسمائة.

ومكتوب على المصراع الأيمن من الباب : (عمله سليمان معالي رحمه‌الله) وعلى المصراع الأيسر : (عمله حميد بن ظافر رحمه‌الله).

١٤١

ومكتوب على الجهة الغربية وهي اليمنى في أطرافه الأربع : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) إلخ الآية. وقوله تعالى (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) إلى قوله (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً).

ومكتوب على تاج المنبر في الجهة اليمنى في أطرافه الأربع بعد البسملة : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ) إلخ الآية. وفي الجهة اليسرى أي الملاصقة للمحراب في الأطراف الأربع أيضا بعد البسملة : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) إلخ الآية. وكتب ثمة : (صنعه حميد بن ظافر الحلبي رحمه‌الله.

وصنعه فضائل وأبو الحسن ولدي يحيى الحلبي رحمه‌الله). ويظهر أن الكتابة على طرفي التاج والكاتب لم يوضح لي ذلك.

سنة ٥٨٤

اتصال القاضي بهاء الدين يوسف بن رافع بن شداد

بالسلطان صلاح الدين وفتح جبلة واللاذقية

قال القاضي في السيرة الصلاحية المسماة بالنوادر اليوسفية في فصل نزول السلطان على كوكب : إني كنت حججت سنة ثلاث وثمانين ، ثم اتفق لي العود من الحج على الشام لقصد القدس وزيارته والجمع بين زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزيارة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فوصلت إلى دمشق ثم خرجت إلى القدس فبلغه خبر وصولي فظن أني وصلت من جانب الموصل [لأنه موصلي الأصل] في حديث ، فاستحضرني عنده وبالغ في الإكرام والاحترام ، ولما ودعته ذاهبا إلى القدس ، خرج لي بعض خواصه وأبلغني تقدمه إليّ بأن أعود أتمثل في خدمته عند العود من القدس ، فظننت أنه يوصيني بمهم إلى الموصل ، وانصرفت إلى القدس يوم رحيله عن كوكب إلى دمشق ، وكان دخوله إليها سادس ربيع الأول ، وفي ذلك اليوم اتفق دخولي إليها عائدا من القدس ، فأقام رحمه‌الله في دمشق خمسة أيام وكان له غائبا عنها ستة عشر شهرا ، وفي اليوم الخامس بلغه خبر الإفرنج أنهم قصدوا جبيلا واغتالوها ، فخرج مسرعا ساعة بلوغه الخبر ، وكان قد سير إلى العساكر يستدعيها من سائر الجوانب ، وسار يطلب جبيلا ، فلما عرف الإفرنج بخروجه كفوا عن ذلك ، وكان بلغه وصول عماد الدين زنكي وعسكر الموصل ومظفر الدين إلى حلب

١٤٢

قاصدين الخدمة للغزاة ، فسار نحو حصن الأكراد في طلب الساحل الفوقاني. ولما كان مستهل ربيع الآخر نزل على تل قبالة حصن الأكراد ، ثم سير إلى الملك الظاهر (ولده) والملك المظفر أن يجتمعا وينزلا بتيزين قبالة أنطاكية لحفظ ذلك الجانب. وسارت عساكر الشرق حتى اجتمعت بخدمة السلطان في هذه المنزلة ووصلت إليه رحمه‌الله بهذه المنزلة على عزم المسير إلى الموصل متجهزا لذلك ، فلما حضرت عنده فرح بي وأكرمني وكنت قد جمعت له كتابا في الجهاد (١) بدمشق مدة مقامي فيها يجمع آدابه وأحكامه ، فقدمته بين يديه فأعجبه وكان يلازم مطالعته ، وما زلت أطلب دستورا في كل وقت وهو يدافعني عن ذلك ويستدعيني للحضور في خدمته في كل وقت ويبلغني على ألسنة الحاضرين ثناءه علي وذكره إياي بالجميل. ثم سير إلي مع الفقيه عيسى وكشف لي أنه ليس في عزمه أن يمكنني من العود إلى بلادي ، وكان الله قد أوقع في قلبي محبته منذ رأيته وحبه الجهاد فأحببته لذلك وخدمته من تاريخ مستهل جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وهو يوم دخوله الساحل. وجميع ما حكيته قبل إنما هو روايتي عمن أثق به ممن شاهده. ومن هذا التاريخ ما سطرت إلا ما شاهدته أو أخبرني به من أثق به خبرا يقارب العيان. ثم ذكر خبر فتحه إلى أنطرسوس وما حولها ثم قال :

وسار يريد جبلة وكان عرض له ولده الملك الظاهر في أثناء طريق جبلة ، فإنه طلبه وأمره أن يحضر معه جميع العساكر التي كانت بتيزين ، ووصل إلى جبلة في الثامن عشر من جمادى الأولى ، وما استتم نزول العسكر حتى أخذ البلد وكان فيه مسلمون مقيمون فيه وقاض يحكم بينهم ، وكان قد عمل على البلد فلم يمتنع وبقيت القلعة ممتنعة ونزل العسكر محدقا بالبلد ، وقد دخله المسلمون واشتغل بقتال القلعة فقاتلت قتالا يقيم عذرا لمن كان فيها ، وسلمت بالأمان في التاسع عشر وأقام عليها إلى الثالث والعشرين. وسار عنها يطلب اللاذقية.

وقال ابن الأثير في حوادث هذه السنة : لما أقام صلاح الدين تحت حصن الأكراد أتاه قاضي جبلة وهو منصور بن نبيل يستدعيه إليها ليسلمها إليه ، وكان هذا القاضي عند بيمند صاحب أنطاكية وجبلة مسموع الكلمة له الحرمة الوافرة والمنزلة العالية ، وهو يحكم على جميع المسلمين بجبلة ونواحيها وعلى ما يتعلق بالبيمند ، فحملته الغيرة للدين على قصد السلطان

__________________

(١) انظر ترجمة المؤلف في القسم الثاني وفي وفيات سنة ٦٣٢.

١٤٣

وتكفل له بفتح جبلة واللاذقية والبلاد الشمالية ، فسار صلاح الدين معه رابع جمادى الأولى فنزل بأنطرسوس (ثم ذكر خبر أخذها وخربها). قال : ورحل عنها وأتى مرقية وقد أخلاها أهلها ورحلوا عنها وساروا إلى المرقب وهي من حصونهم التي لا ترام ولا تحدث أحدا نفسه بملكه لعلوه وامتناعه ، وهو للاسبتار والطريق تحته فيكون الحصن على يمين المجتاز إلى جبلة والبحر عن يساره ، والطريق مضيق لا يسلكه إلا الواحد بعد الواحد ، فاتفق أن صاحب صقلية من الفرنج قد سير نجدة إلى فرنج الساحل في ستين قطعة من الشواني وكانوا بطرابلس ، فلما سمعوا بمسير صلاح الدين جاؤوا ووقفوا في البحر تحت المرقب في شوانيهم ليمنعوا من يجتاز بالسهام ، فلما رأى صلاح الدين ذلك أمر بالطارقيات والجفتيات فصفت على الطريق مما يلي البحر من أول المضيق إلى آخره ، وجعل وراءها الرماة فمنعوا الفرنج من الدنو إليهم ، فاجتاز المسلمون عن آخرهم حتى عبروا المضيق ووصلوا إلى جبلة ثامن عشر جمادى الأولى وتسلمها وقت وصوله ، وكان قاضيها قد سبق إليها ودخل ، فلما وصل صلاح الدين رفع أعلامه على سورها وسلمها إليه ، وتحصن الفرنج الذين كانوا بها بحصنها واحتموا بقلعتها ، فما زال قاضي جبلة يخوفهم ويرغبهم حتى استنزلهم بشرط الأمان وأن يأخذ رهائنهم يكونون عنده إلى أن يطلق الإفرنج رهائنهم من المسلمين من أهل جبلة. وكان بيمند صاحبها قد أخذ رهائن القاضي ومسلمي جبلة وتركهم عنده بأنطاكية ، فأخذ القاضي رهائن الإفرنج وجاء رؤساء أهل الجبل إلى صلاح الدين بطاعة أهله وهو من أمنع الجبال وأشقها مسلكا ، وفيه حصن يعرف ببكسرايل بين جبلة ومدينة حماة فملكه المسلمون ، وصار الطريق عليه في هذا الوقت من بلاد الإسلام إلى العسكر ، وكان الناس يلقون شدة في سلوكه. وقرر صلاح الدين أحوال جبلة وجعل فيها لحفظها الأمير سابق الدين عثمان بن الداية صاحب شيزر وسار عنها اه.

ذكر فتح اللاذقية

قال القاضي ابن شداد : سار السلطان عن جبلة يطلب اللاذقية ، وكان نزوله عليها في الرابع والعشرين. وهي بلد مليح خفيف على القلب غير مستور ، وله ميناء مشهور ، وله قلعتان متصلتان على تل مشرف على البلد ، فنزل محدقا بالبلد وأخذ العسكر منازلهم مستديرين على القلعتين من جميع نواحيهما إلا من ناحية البلد ، واشتد القتال وعظم الزحف

١٤٤

وارتفعت الأصوات وقوي الضجيج إلى آخر اليوم المذكور ، وأخذ البلد دون القلعتين وغنم الناس منه غنيمة عظيمة ، فإنه كان بلد التجار ، ففرق بين الناس الليل وهجومه وأصبح يوم الجمعة مقاتلا مجتهدا في أخذ النقوب وأخذت النقوب من شمالي القلاع وتمكن منها النقب حتى بلغ طوله على ما حكى لي من ذرعه ستين ذراعا وعرضه أربعة أذرع ، واشتد الزحف عليهم حتى صعد الناس الجبل وقاربوا السور وتواصل القتال حتى صاروا يتحاذفون بالحجارة باليد ، فلما رأى عدو الله ما حل بهم من الصغار والبوار استغاثوا بطلب الأمان عشية الجمعة الخامس والعشرين من الشهر ، وطلبوا قاضي جبلة يدخل إليهم ليقرر لهم الأمان فأجيبوا إلى ذلك ، وكان رحمه‌الله متى طلب منه الأمان لا يبخل به رفقا ، فعاد الناس عنهم إلى خيامهم وقد أخذ منهم التعب فباتوا إلى صبيحة السبت ، ودخل قاضي جبلة إليهم واستقر الحال معهم على أنهم يطلقون بنفوسهم وذراريهم خلا الغلال والذخائر وآلات السلاح والدواب ، وأطلق لهم دواب يركبونها إلى مأمنهم ورقي عليها العلم الإسلامي المنصور في بقية ذلك اليوم ، وأقمنا عليها إلى السابع والعشرين اه.

قال ابن الأثير : وكانت عمارة اللاذقية من أحسن الأبنية وأكثرها زخرفة مملوءة بالرخام على اختلاف أنواعه ، فخرب المسلمون كثيرا منها ونقلوا رخامها وشعثوا كثيرا من بيعها التي قد غرم على كل واحدة منها الأموال الجليلة المقدار ، وسلمها إلى ابن أخيه تقي الدين عمر فعمرها وحصن قلعتها ، حتى إذا رآها اليوم من رآها ينكرها فلا يظن أن هذه تلك. وكان عظيم الهمة في تحصين القلاع والغرامة الوافرة عليها كما فعل بقلعة حماة اه.

ذكر فتح صهيون

قال القاضي ابن شداد : رحل السلطان عن اللاذقية طالبا صهيون ، واستدارت العساكر بها من سائر نواحيها في التاسع والعشرين من جمادى الأولى ، ونصب عليها ستة مجانيق وهي قلعة حصينة منيعة في طرف جبل ، خنادقها أودية هائلة واسعة عميقة ، وليس لها خندق محفور إلا من جانب واحد مقدار طوله ستون ذراعا أو أكثر ، وهو نقر في حجر ، ولها ثلاثة أسوار : سور دون ربضها وسور دون القلعة وسور القلعة. وكان على قلعتها علم منصوب ، فحين أقبل العسكر الإسلامي شاهدته قد وقع فاستبشر المسلمون بذلك وعلموا أنه النصر والفتح. واشتد القتال عليها من الجوانب فضربها بمنجنيق الملك الظاهر صاحب حلب ، وكان نصب منجنيقا قريبا من سورها فقطع الوادي ، وكان

١٤٥

صائب الحجر فلم يزل يضربها حتى هدم من السور قطعة عظيمة يمكن الصاعد في السور الترقي إليه منها. ولما كان بكرة الجمعة ثاني جمادى الآخرة عزم السلطان وتقدم وأمر المنجنيقات أن تتوالى بالضرب ، وارتفعت الأصوات وعظم الضجيج بالتكبير والتهليل ، وما كان إلا ساعة حتى رقي المسلمون على الأسوار التي للربض واشتد الزحف وعظم الأمر وهاجم المسلمون الربض. ولقد كنت أشاهد الناس وهم يأخذون القدور وقد استوى فيها الطعام فيأكلونها وهم يقاتلون ، وانضم من كان في الربض إلى القلعة ويحملون ما أمكنهم أن يحملوا من أموالهم ونهب الباقي ، واستدارت المقاتلة حول أسوار القلعة ، ولما عاينوا الهلاك استغاثوا بطلب الأمان ، ووصل خبرهم إلى السلطان فبذل الأمان وأنعم عليهم على أن يسلموا بأنفسهم وأموالهم ويؤخذ من الرجل منهم عشرة دنانير وعن المرأة خمسة وعن الصغير ديناران. وسلمت القلعة وأقام السلطان عليها حتى سلم عدة قلاع كالعيد وفيحة وبلاطينوس وغيرها من القلاع والحصون تسلمها النواب اه.

وقال ابن الأثير : رحل صلاح الدين عن اللاذقية في السابع والعشرين من جمادى الأولى وقصد قلعة صهيون ، وهي قلعة منيعة شاهقة في الهواء صعبة المرتقى على قرنة جبل ، يطيف بها واد عميق فيه ضيق في بعض المواضع بحيث إن حجر المنجنيق يصل منه إلى الحصن ، إلا أن الجبل متصل بها من جهة الشمال ، وقد عملوا لها خندقا عميقا لا يرى قعره وخمسة أسوار منيعة ، فنزل صلاح الدين على هذا الجبل الملتصق بها ونصب عليه المنجنيقات ورماها ، وتقدم إلى ولده الظاهر صاحب حلب فنزل على المكان الضيق من الوادي ونصب عليه المنجنيقات أيضا فرمى الحصن منه ، وكان معه من الرجّالة الحلبيين كثير وهم في الشجاعة بالمنزلة المشهورة ، ودام رشق السهام من قسي اليد والجرخ والزنبورك والزيار ، فجرح أكثر من بالحصن وهم يظهرون التجلّد والامتناع ، وزحف المسلمون إليهم ثاني جمادى الآخرة فتعلقوا بقرنة من ذلك الجبل قد أغفل الفرنج إحكامها فتسلقوا منها بين الصخور حتى التحقوا بالسور الأول فملكوا منها ثلاثة وغنموا ما فيها من أبقار ودواب وذخائر وغير ذلك ، واحتمى الفرنج بالقلة التي للقلعة فقاتلهم المسلمون عليها ، فنادوا وطلبوا الأمان فلم يجبهم صلاح الدين عليه ، فقرروا على أنفسهم مثل قطيعة البيت المقدس ، وتسلم الحصن وسلمه إلى أمير يقال له منكو برس صاحب قلعة أبي قبيس فحصنه وجعله من أحصن الحصون.

١٤٦

ولما ملك المسلمون صهيون تفرقوا في تلك النواحي فملكوا حصن بلاطينوس وكان من به من الفرنج قد هربوا منه وتركوه خوفا ورعبا ، وملك أيضا حصن العيد وحصن الجماهرتين ، فاتسعت المملكة الإسلامية بتلك الناحية ، إلا أن الطريق إليها من البلاد الإسلامية على عقبة بكسرائيل شاق شديد لأن الطريق السهلة كانت غير مسلوكة لأن بعضها بيد الإسماعيلية وبعضها بيد الفرنج اه.

ذكر فتح بكاس والشّعر وسرمانية

قال القاضي ابن شداد : ثم رحل وسرنا حتى أتينا سادس جمادى الآخرة بكاس ، وهي قلعة حصينة على جانب العاصي ولها نهر يخرج من تحتها ، وكان النزول على شاطىء العاصي ، وصعد السلطان جريدة إلى القلعة ، وهي على جبل يطل على العاصي فأحدق بها من كل جانب وقاتلها قتالا شديدا بالمنجنيقات والزحف المضايق إلى تاسع الشهر ، ويسر الله فتحها عنوة وأسر من فيها بعد قتل من قتل منهم وغنم جميع ما كان فيها ، وكان له قلعة تسمى الشغر وهي في غاية المنعة ليس إليها طريق ، فسلطت عليها المنجنيقات من الجوانب ورأوا أنهم لا ناصر لهم فطلبوا الأمان في الثالث عشر ، وسألوا أن يؤخروا ثلاثة أيام لاستئذان من بأنطاكية فأذن لهم في ذلك. وكان تمام فتحها وصعود العلم السلطاني عليها يوم الجمعة سادس عشر.

ثم عاد السلطان إلى الثقل وسير ولده الملك الظاهر إلى قلعة سرمانية فقاتلها قتالا شديدا وضايقها مضايقة عظيمة وتسلمها يوم الجمعة الثالث والعشرين من الشهر ، فاتفقت فتوحات الساحل من جبلة إلى سرمانية في أيام الجمع وهي علامة قبول دعاء الخطباء المسلمين وسعادة السلطان حيث يسر الله له الفتوح في اليوم الذي يضاعف فيه ثواب الحسنات ، وهذا من نوادر الفتوحات في الجمع المتوالية ولم يتفق مثلها في تاريخ اه.

وقال ابن الأثير : سار صلاح الدين عن صهيون ثالث جمادى الآخرة فوصل إلى قلعة بكاس فرأى الفرنج قد أخلوها وتحصنوا بقلعة الشغر ، فملك قلعة بكاس بغير قتال ، وتقدم إلى قلعة الشغر وهي وبكاس على الطريق السهل المسلوك إلى اللاذقية وجبلة والبلاد التي افتتحها صلاح الدين من بلاد الشام الإسلامية ، فلما نازلها رآها منيعة حصينة لا ترام

١٤٧

ولا يوصل إليها بطريق من الطرق ، إلا أنه أمر بمزاحفتهم ونصب المنجنيق عليهم ففعلوا ذلك ، ورمى بالمنجنيق فلم يصل من أحجاره إلى القلعة شيء إلا القليل الذي لا يؤذي ، فبقي المسلمون أياما لا يرون فيه طمعا وأهله غير مهتمين بالقتال لامتناعهم عن ضرر يتطرق إليهم وبلاء ينزل عليهم ، فبينما صلاح الدين جالس وعنده أصحابه وهم في ذكر القلعة وإعمال الحيلة في الوصول إليها فقال بعضهم : هذا الحصن كما قال الله تعالى (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) فقال صلاح الدين : أو يأتي الله بنصر من عنده وفتح ، فبينما هم في هذا الحديث إذ قد أشرف عليهم فرنجي ونادى بطلب الأمان لرسول يحضر عند صلاح الدين ، فأجيب إلى ذلك ونزل رسول وسأل انتظارهم ثلاثة أيام فإن جاءهم من يمنعهم وإلا سلموا القلعة بما فيها من ذخائر ودواب وغير ذلك ، فأجابهم إليه وأخذ رهائنهم على الوفاء به ، فلما كان اليوم الثالث سلموها إليه واتفق أنه يوم الجمعة سادس عشر جمادى الآخرة. وكان سبب استمهالهم أنهم أرسلوا إلى البيمند صاحب أنطاكية وكان هذا الحصن له يعرفونه أنهم محصورون ويطلبون منه أن يرحل عنهم المسلمون ، فإن فعل وإلا سلموها. وإنما فعلوا ذلك لرعب قذفه الله تعالى في قلوبهم ، وإلا فلو أقاموا الدهر الطويل لم يصل إليهم أحد ولا بلغ المسلمون منه غرضا ، فلما تسلم صلاح الدين الحصن سلمه إلى أمير يقال له قلج وأمره بعمارته ورحل عنه.

ولما كان صلاح الدين مشغولا بهذه القلاع والحصون سير ولده الظاهر غازي صاحب حلب ، فحصر سرمينية وضيق على أهلها واستنزلهم على قطيعة قررها عليهم ، فلما أنزلهم وأخذ منهم المقاطعة هدم الحصن وعفى أثره وعالى بنيانه ، وكان فيه وفي هذه الحصون من أسارى المسلمين الجم الغفير ، فأطلقوا وأعطوا كسوة ونفقة. وكان فتحه في يوم الجمعة الثالث والعشرين من جمادى الآخرة. واتفق أن فتح هذه المدن والحصون جميعها من جبلة إلى سرمانية مع كثرتها كان في ست جمع مع أنها في أيدي أشجع الناس وأشدهم عداوة للمسلمين ، فسبحان من إذا أراد أن يسهل الصعب فعل. وهي جميعها من أعمال أنطاكية ولم يبق لها سوى القصير وبغراس ودرب ساك وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى اه.

ذكر فتح برزية ١

قال ابن الأثير : رحل صلاح الدين من قلعة الشغر إلى قلعة برزية وكانت قد وصفت

__________________

١ ـ ضبطها في معجم البلدان : برزويه وقال : والعامة تقول برزيه.

١٤٨

له ، وهي تقابل حصن أفامية وتناصفها في أعمالها وبينهما بحيرة تجتمع من ماء العاصي وعيون تتفجر من جبل برزية وغيره. قال القاضي ابن شداد : ثم سير السلطان جريدة إلى قلعة برزية ، وهي قلعة حصينة في غاية القوة والمنعة على سن جبل شاهق يضرب بها المثل في جميع بلاد الفرنج والمسلمين ، تحيط بها أودية من سائر جوانبها ، وذرع علوها كان خمسمائة ذراع ونيفا وسبعين ذراعا ، ثم جدد عزمه على حصارها بعد رؤيتها واستدعى الثقل ، وكان نزول الثقل وبقية العسكر تحت جبلها في الرابع والعشرين من الشهر. وفي بكرة الخامس والعشرين منه صعّد السلطان جريدة مع المقاتلة والمنجنيقات وآلات الحصار إلى الجبل فأحدقت بالقلعة من سائر نواحيها وركب القتال من كل جانب وضرب أسوارها بالمنجنيقات المتواترة الضرب ليلا ونهارا. وفي السابع والعشرين قسم العساكر ثلاثة أقسام ورتب كل قسم يقاتل شطرا من النهار ثم يستريح ويسلم القتال للقسم الآخر بحيث لا يفتر القتال عنها ، وكان صاحب النوبة الأولى عماد الدين صاحب سنجار فقاتلها قتالا شديدا حتى استوفى نوبته وضرس الناس من القتال وتراجعوا ، واستلم النوبة الثانية السلطان بنفسه وركب وتحرك خطوات وصاح في الناس فحملوا عليها حملة الرجل الواحد وصاحوا صيحة الرجل الواحد ، وقصدوا السور من كل جانب ، فلم يكن إلا بعض ساعة حتى رقي الناس على الأسوار وهجموا القلعة وأخذت القلعة عنوة فاستغاثوا الأمان ، وقد تمكنت الأيدي منهم (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) ونهب جميع ما فيها وأسر من فيها ، وكان قد أوى إليها خلق عظيم ، وكانت من قلاعهم المذكورة ، وكان يوما عظيما ، وعاد الناس إلى خيامهم غانمين وعاد السلطان إلى الثقل فرحا مسرورا وأحضر بين يديه صاحب القلعة ، وكان رجلا كبيرا منهم ، وكان هو ومن أخذ من أهله سبعة عشر نفسا ، فمنّ عليهم ورقّ لهم وأنفذهم إلى صاحب أنطاكية استمالة له فإنهم كانوا يتعلقون به ومن أهله اه.

وبسط ابن الأثير خبر فتحها بأكثر من ذلك وقال في الآخر : وأما صاحب برزية فإنه أسر هو وأصحابه وامرأته وأولاده ومنهم بنت له معها زوجها فتفرقهم العسكر ، فأرسل صلاح الدين في الوقت وبحث عنهم واشتراهم وجمع شمل بعضهم ببعض ، فلما قارب أنطاكية أطلقهم وسيرهم إليها ، وكانت امرأة صاحب برزية أخت امرأة بيمند صاحب أنطاكية وكانت تراسل صلاح الدين وتعلمه كثيرا من الأحوال التي تؤثر فأطلق هؤلاء لأجلها اه.

١٤٩

ذكر فتح درب ساك

قال ابن الأثير : لما فتح صلاح الدين حصن برزية رحل عنه من الغد فأتى جسر الحديد وهو على العاصي بالقرب من أنطاكية فأقام عليه حتى وافاه من تخلف عنه من عسكره ، ثم سار عنه إلى قلعة درب ساك فنزل عليها ثامن رجب ، وهي من معاقل الداوية الحصينة وقلاعهم التي يدخرونها لحماياتهم عند نزول الشدائد ، فلما نزل عليها نصب المنجنيقات وتابع الرمي بالحجارة ، فهدمت من سورها شيئا يسيرا فلم يبال من فيه بذلك ، فأمر بالزحف عليها ومهاجمتها ، فبادرها العسكر بالزحف وقاتلوها وكشفوا الرجال عن سورها ، وتقدم النقّابون فنقبوا منها برجا وعلقوه فسقط واتسع المكان الذي يريد المقاتلة أن يدخلوا منه ، وعادوا يومهم ذلك ، ثم باكروا الزحف من الغد ، وكان من فيه قد أرسلوا إلى صاحب أنطاكية يستنجدونه فصبروا وأظهروا الجلد وهم ينتظرون جوابه إما بإنجادهم وإزاحة المسلمين عنهم وإما بالتخلي عنهم ليقوم عذرهم في التسليم ، فلما علموا عجزه عن نصرتهم وخافوا هجوم المسلمين عليها وأخذهم بالسيف وقتلهم وأسرهم ونهب أموالهم طلبوا الأمان فأمّنهم على شرط أن لا يخرج أحد إلا بثيابه التي عليه بغير مال ولا سلاح ولا أثاث بيت ولا دابة ولا شيء مما بها ، ثم أخرجهم منه وسيّرهم إلى أنطاكية ، وكان فتحه تاسع عشر رجب.

وقال القاضي ابن شداد : كان فتحها في الثاني والعشرين منه ، وأعطاها علم الدين سليمان بن جندر وسار عنها في الثالث والعشرين منه اه.

ذكر فتح بغراس

قال ابن الأثير : ثم سار عن درب ساك إلى قلعة بغراس فحصرها بعد أن اختلف أصحابه في حصرها ، فمنهم من أشار ومنهم من نهى عنه. وقال : هو حصن حصين وقلعة منيعة وهو بالقرب من أنطاكية ولا فرق بين حصره وحصرها ، ويحتاج أن يكون أكثر العسكر في اليزك مقابل أنطاكية ، فإذا كان الأمر كذلك قل المقاتلون عليها ويتعذر الوصول إليها ، فاستخار الله تعالى وسار إليها وجعل أكثر عسكره يزكا مقابل أنطاكية يغيرون على أعمالها ، وكانوا حذرين من الخوف من أهلها إن غفلوا لقربهم منها ، وصلاح الدين في بعض أصحابه على القلعة يقاتلها ، ونصب المنجنيقات فلم يؤثر فيها شيئا لعلوها

١٥٠

وارتفاعها ، فغلب على الظنون تعذر فتحها وتأخر ملكها ، وشق على المسلمين قلة الماء عندهم ، إلا أن صلاح الدين نصب الحياض وأمر بحمل الماء إليها فخفف الأمر عليهم ، فبينما هو على هذه الحال إذ قد فتح باب القلعة وخرج منه إنسان يطلب الأمان فأجيب إلى ذلك ، فأذن له في الحضور ، فحضر وطلب الأمان لمن في الحصن حتى يسلموه إليه بما فيه على قاعدة درب ساك ، فأجابهم إلى ما طلبوا ، فعاد الرسول ومعه الأعلام الإسلامية فرفعت على رأس القلعة ، ونزل من فيها وتسلم المسلمون القلعة بما فيها من ذخائر وأموال وسلاح ، وأمر صلاح الدين بتخريبه فخرب ، وكان ذلك مضرة عظيمة على المسلمين فإن ابن ليون صاحب الأرمن خرج إليه من ولايته وهو مجاوره فجدد عمارته وأتقنه وجعل فيه جماعة من عسكره يغيرون منه على البلاد فتأذى بهم السواد الذي لحلب وهو الآن بأيديهم اه.

ذكر الهدنة بين صلاح الدين وصاحب أنطاكية

قال القاضي ابن شداد : كان فتح بغراس ثاني شعبان ، وفي بقية ذلك اليوم عاد السلطان رحمه‌الله إلى المخيم الأكبر وراسله أهل أنطاكية في طلب الصلح فصالحهم لشدة ضجر العسكر وقوة قلق عماد الدين صاحب سنجار في طلب الدستور. وعقد الصلح بيننا وبين أنطاكية من بلاد الفرنج لا غير على أن يطلقوا جميع أسارى المسلمين الذين عندهم ، وكان إلى سبعة أشهر ، فإن جاءهم من ينصرهم وإلا سلموا البلد إلى السلطان. ورحل يطلب دمشق فسأله ولده الملك الظاهر أن يجتاز به فأجابه ، وسار حتى أتى حلب حادي عشر شعبان وأقام بقلعتها ثلاثة أيام وولده يقوم بالضيافة حق القيام ، ولم يبق للعسكر إلا من ناله من نعمته منال ، وأكثر ظني أنه أشفق عليه والده. وسار من حلب يريد دمشق فاعترضه ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين وأصعده إلى قلعة حماة واصطنع له طعاما حسنا وأحضر له سماع الصوفية ، وبات فيها ليلة واحدة وأعطاه جبلة واللاذقية ، وسار على طريق بعلبك حتى أتاها وأقام بمرجها ودخل إلى حمامها ، ثم أتى دمشق فأقام بها حتى دخل شهر رمضان ، وما كان يرى تخلية وقته عن الجهاد مهما أمكنه ، وكان قد بقي له من القلاع القريبة من حوران التي يخاف عليها من جانبها وصفد وكوكب ، فرأى أن يشغل الوقت بفتح المكانين في الصوم.

١٥١

وقال ابن الأثير بعد أن ذكر خبر الهدنة على نحو ما قدمناه : وأما صلاح الدين فإنه عاد إلى حلب ثالث شعبان فدخلها وسار منها إلى دمشق وفرق العساكر الشرقية كعماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار والخابور وعسكر الموصل وغيرها ، ثم رحل من حلب إلى دمشق وجعل طريقه على قبر عمر بن عبد العزيز فزاره وزار الشيخ الصالح أبا زكريا المغربي ، وكان مقيما هناك وكان من عباد الله الصالحين وله كرامات ظاهرة ، وكان مع صلاح الدين الأمير عز الدين أبو الفليتة قاسم بن المهنا العلوي الحسيني وهو أمير مدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان قد حضر عنده وشهد معه مشاهده وفتوحه ، وكان صلاح الدين قد تبرك برؤيته وتيمن بصحبته ، وكان يكرمه كثيرا وينبسط معه ويرجع إلى قوله في أعماله كلها ، ودخل دمشق أول شهر رمضان فأشير عليه بتفريق العساكر ، فقال : إن العمر قصير والأجل غير مأمون وقد بقي بيد الفرنج هذه الحصون كوكب وصفد والكرك وغيرها ولا بد من الفراغ منها ، فإنها في وسط بلاد الإسلام ولا يؤمن شر أهلها وإن أغفلناهم ندمنا فيما بعد اه.

سنة ٥٨٧

ذكر وفاة الأمير حسام الدين

قال في الروضتين : في هذه السنة توفي الأمير حسام الدين محمد بن عمر بن لاجين ابن أخت السلطان صلاح الدين بدمشق تاسع عشر رمضان ودفن بالتربة الحسامية المنسوبة إليه.

آثاره بحلب :

قال في الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة : [المدرسة الحدادية] أنشأها الأمير حسام الدين محمد بن عمر ابن أخت صلاح الدين ، وهي من الكنائس الأربع التي قدم ذكرها التي صيّرها ابن الخشاب مساجد ، فهدمها وبناها بناء وثيقا ، فلم يزل يتولاها المدرسون إلى أن وصلت إلي ونزلت عنها لولديّ وهي الآن بيدهما. وقال بعده : إنها الآن معطلة.

قال ابن شداد : أول من درس بها الفقيه الإمام الحسين بن محمد بن أسعد ، ثم تولاها فخر الدين يوسف ولم يزل إلى أن قتله التتر عند استيلائهم على حلب.

١٥٢

ذكر وفاة الأمير علم الدين

قال في الروضتين : وفي هذه السنة في أواخر ذي الحجة توفي الأمير علم الدين سليمان بن جندر من أكابر أمراء حلب ، وكان في خدمة السلطان في القدس ، وهو شيخ الدولة وكبيرها وظهيرها ومشيرها ، وهو الذي أشار بتخريب عسقلان لتتوفر العناية والاهتمام بالقدس ، ثم مرض بالقدس وطلب المسير إلى الوطن فأدركته المنية بقرية غباغب على مرحلة من دمشق.

سنة ٥٨٨

وصية السلطان صلاح الدين لولده الملك الظاهر غازي

عند عوده إلى حلب بعد عقد الهدنة بين السلطان والفرنج

في بلاد الساحل والإذن بعود العساكر إلى أوطانهم

قال ابن الأثير : في العشرين من شعبان من هذه السنة عقدت بين المسلمين والفرنج هدنة لمدة ثلاث سنين وثمانية أشهر. وساق سبب الصلح. قال القاضي ابن شداد : ولما انقضى هذا الأمر واستقرت القواعد أعطى السلطان دستورا في عود العساكر الإسلامية إلى أوطانهم (وكان من جملة عساكره ولده الملك الظاهر غازي) قال : ولما كانت بكرة التاسع والعشرين من رمضان توجه الملك الظاهر عز نصره بعد أن ودعه نزل إلى الصخرة فصلى عندها وسأل الله تعالى ما شاء ، ثم ركب وركبت في خدمته فقال لي : تذكرت أمرا أحتاج فيه إلى مراجعة السلطان مشافهة ، فأنفذ من استأذن له في العود إلى خدمته فأذن له في ذلك فحضر واستحضرني وأخلى المكان ثم قال موميا لولده :

«أوصيك بتقوى الله تعالى فإنها رأس كل خير ، وآمرك بما أمر الله به فإنه سبب نجاتك ، وأحذرك من الدماء والدخول فيها والتقلد بها فإن الدم لا ينام ، وأوصيك بحفظ قلوب الرعية والنظر في أحوالهم فأنت أميني وأمين الله عليهم ، وأوصيك بحفظ قلوب الأمراء وأرباب الدولة والأكابر فما بلغت ما بلغت إلا بمداراة الناس ، ولا تحقد على أحد فإن الموت لا يبقي على أحد ، واحذر ما بينك وبين الناس فإنه لا يغفر إلا برضاهم وما بينك وبين الله

١٥٣

يغفره الله بتوبتك إليه فإنه كريم». وكان ذلك بعد أن انصرفنا من خدمته ، ومضى من الليل ما شاء الله أن يمضي ، وهذا ما أمكنني حكايته وضبطه ، ولم يزل بين يديه إلى قرب السحر ، ثم أذن له في الانصراف ونهض له ليودعه فقبل وجهه ومسح على رأسه وانصرف في دعة الله ونام في برج الخشب الذي للسلطان ، وكنا نجلس عنده في الأحيان إلى بكرة ، وانصرفت في خدمته إلى بعض الطريق وودعته وسار في حفظ الله اه.

ثم قال بعد ذلك : وعاد السلطان بعد الفراغ من تصفح أحوال القلاع الساحلية بأسرها إلى دمشق ، وكان دخوله إليها في السادس والعشرين من شوال.

سنة ٥٨٩

ذكر وفاة السلطان صلاح الدين رحمه‌الله تعالى

كان ابتداء مرضه سادس عشر صفر. وذكر القاضي ابن شداد في السيرة الصلاحية تفاصيل ذلك (ثم قال) : وكانت وفاته بدمشق بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة. ولما وصل القارىء الذي كان يقرأ عنده إلى قوله تعالى (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) تبسّم وتهلل وجهه وسلمها إلى ربه. وكان يوما لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله منذ فقدوا الخلفاء الراشدين ، وغشي القلعة والبلد والدنيا من الوحشة ما لا يعلمه إلا الله تعالى. وبالله لقد كنت أسمع من بعض الناس أنهم يتمنون فداءه بنفوسهم ، وما سمعت هذا الحديث إلا على ضرب من التجوز والترخص إلا في ذلك اليوم ، فإني علمت من نفسي ومن غيري أنه لو قبل الفداء لفدي بالنفس.

ثم جلس ولده الملك الأفضل للعزاء في الإيوان الشمالي وحفظ باب القلعة إلا عن الخواص والأمراء والمعممين ، وكان يوما عظيما ، قد شغل كل إنسان ما عنده من الحزن والأسف والبكاء والاستغاثة في أن ينظر إلى غيره ، وحفظ المجلس عن أن ينشد فيه شاعر أو يتكلم فيه فاضل وواعظ. ثم اشتغل بتغسيله وتكفينه ، فما أمكننا أن ندخل في تجهيزه ما قيمته حبة واحدة إلا بالقرض حتى في ثمن التبن الذي يلت به الطين. وغسله الدولعي الفقيه ، ونهضت إلى الوقوف على غسله ولم تكن لي قوة تحمل ذلك المنظر. وأخرج بعد صلاة الظهر في تابوت مسجى بثوب فوط ، وكان ذلك وجميع ما أحتاج إليه من الثياب في تكفينه قد أحضره القاضي الفاضل من وجه حل عرفه ، وارتفعت الأصوات عند مشاهدته

١٥٤

وعظم من الضجيج والعويل ما شغلهم عن الصلاة فصلى عليه الناس أرسالا. وكان أول من أمّ بالناس القاضي محيي الدين بن الزكي ، ثم أعيد إلى الدار التي في البستان وكان متمرضا بها ، ودفن في الصفة الغربية منها.

قال في الروضتين ما خلاصته : لما توفي السلطان رحمه‌الله دفن بالقلعة في منزله ، وما زال الأفضل بن صلاح الدين يتروى موضعا ينقله إليه ، ثم استقرأ حدود الجامع ليجعل التربة فيها فوفق لدار كانت لبعض الصالحين وهي في حد المكان الذي زاده الأجل الفاضل في المسجد ، فاشتراها منه وأمر بعمارتها قبة فعمرت ، ونقل إليها السلطان يوم عاشوراء من سنة اثنتين وتسعين.

ثم قال نقلا عن محمد بن القادسي المؤرّخ : إنه دفن معه سيفه الذي كان معه في الجهاد ، وكان ذلك برأي الفاضل.

ومن كلام بعضهم في وفاة السلطان : أفلت الشمس عند الصباح ، وذهبت روح الدنيا الذي ذهب بذهابها كثير من الأرواح ، وتلك الساعة ظلت لها الألباب حائرة ، وتمثلت فيها السماء مائرة والجبال سائرة ، وأغمد سيف الله الذي كان على أعدائه دائم التجريد ، وخفت الأرض من جبلها الذي كان يمنعها أن تميد ، وأصبح الإسلام وقد فقد ناصره ثاكلا لوحيد ، فهو أعظم فاقد لأعظم فقيد ، وليس أحد من الناس إلا وقد صم عن الخبر وأصيب في سواد القلب والبصر اه.

ترجمته :

هو أبو المظفر يوسف بن أيوب بن شاذي الملقب الملك الناصر صلاح الدين صاحب الديار المصرية والشامية والفراتية واليمنية.

قال ابن خلكان في ترجمته : اتفق أهل التاريخ على أن أباه وأهله من دوين [بضم الدال وكسر الواو] وهي بلدة في آخر عمل أذربيجان من جهة أران وبلاد الكرج وأنهم أكراد روادية [بفتح الراء وكسر الدال] وهي قبيلة كبيرة من الأكراد. وقال لي رجل فقيه عارف بما يقول وهو من أهل دوين : إن على باب دوين قرية يقال لها أجد انقان وجميع أهلها أكراد روادية ، ومولد أيوب والد صلاح الدين بها.

١٥٥

وشاذي (جد صلاح الدين) أخذ ولديه نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه وخرج بهما إلى بغداد ، وهناك خدم ولداه مجاهد الدين بهروز بن عبد الله الغياثي شحنة العراق ، فرأى مجاهد الدين في نجم الدين أيوب عقلا ورأيا حسنا وحسن سيرة فجعله دزدار تكريت (١) فسار إليها هو ووالده وأخوه أسد الدين ، ومات أبوه شاذي بها ، وعلى قبره قبة داخل البلد.

ثم حصلت وقعة بين الإمام المسترشد وبين مسعود بن محمد ملكشاه السلجوقي وعماد الدين زنكي صاحب الموصل ، فأرسل المسترشد إلى قراجا الساقي وهو صاحب بلاد فارس وخوزستان يستنجده ، فأتاه وكبس عسكرهما وانهزما بين يديه ، فوصل زنكي إلى تكريت فخدمه نجم الدين أيّوب وأقام له السفن ، فعبر دجلة هناك وتبعه أصحابه ، فأحسن نجم الدين إليهم ، وبلغ ذلك مجاهد الدين بهروز فسير إليه وأنكر عليه وقال له : كيف ظفرت بعدونا فأحسنت إليه وأطلقته. ثم إن أسد الدين قتل إنسانا بتكريت لكلام جرى بينهما ، فأرسل مجاهد الدين إليهما فأخرجهما من تكريت فقصدا عماد الدين زنكي ، وكان إذ ذاك صاحب الموصل ، فأحسن إليهما وعرف لهما خدمتهما وأقطع لهما إقطاعا حسنا وصارا من جملة جنده ، فلما فتح عماد الدين زنكي بعلبك وذلك في أوائل سنة أربع وثلاثين وخمسمائة جعل نجم الدين دزدارها.

ثم قال : اتفق أرباب التواريخ أن صلاح الدين مولده سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة بقلعة تكريت لما كان أبوه وعمه بها ، والظاهر أنهم ما أقاموا بها بعد ولادة صلاح الدين إلا مدة يسيرة. ولما قتل زنكي حصر صاحب دمشق مجير الدين أبق بن بوري بعلبك ، فأرسل نجم الدين أيوب إلى سيف الدين غازي بن زنكي صاحب الموصل وقد قام بالملك بعد والده ينهي إليه الحال ويطلب منه عسكرا ليرحل صاحب دمشق عنه ، وكان سيف الدين في ذلك الوقت في أول ملكه وهو مشغول بإصلاح ملوك الأطراف المجاورين له فلم يتفرغ له ، وضاق الأمر على من في بعلبك من الحصار ، فلما رأى نجم الدين أيوب الحال وخاف أن تؤخذ قهرا أرسل في تسليم القلعة وطلب إقطاعا ذكره فأجيب إلى ذلك ، وحلف له صاحب دمشق عليه وسلم له القلعة ووفى له صاحب دمشق بما حلف عليه من

__________________

(١) قال ابن خلكان : دزدار بضم الدال وسكون الزاي وفتح الدال وهو لفظ أعجمي معناه حافظ القلعة وهو الوالي. ودز بالعجمي القلعة ودار الحافظ.

١٥٦

الإقطاع والتقدم وصار عنده من أكبر الأمراء ، واتصل أخوه أسد الدين بخدمة نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب ، فقربه نور الدين وأقطعه وكان يرى منه في الحرب آثارا يعجز عنها غيره لشجاعته وجراءته فصارت له حمص والرحبة وغيرهما وجعله مقدم عسكره.

ولما ملك نور الدين محمود بن زنكي دمشق وذلك سنة تسع وأربعين وخمسمائة لازم نجم الدين خدمته وكذلك ولده صلاح الدين ، وكانت مخايل السعادة عليه لائحة والنجابة تقدمه من حالة إلى حالة ، ونور الدين يرى له ويؤثره ، ومنه تعلم صلاح الدين طرائق الخير وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد حتى تجهز للمسير مع عمه شيركوه إلى الديار المصرية وذلك سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ، ثم توجه إليها سنة أربع وستين وصار إليها بنفسه وماله وإخوته وأهله ورجاله ومعه ابن أخيه صلاح الدين وهو كاره للخروج مع عمه ولم يخرج معه باختياره (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ولما علم الفرنج بوصول أسد الدين إلى مصر على اتفاق بينه وبين أهلها رحلوا راجعين على أعقابهم ناكصين ، وأقام أسد الدين بها يتردد إليه شاور (وزير مصر) في الأحيان ، ثم تحقق أسد الدين أنه لا سبيل لاستيلائه على البلاد مع بقاء شاور فأعمل الحيلة في القبض عليه وقتله تلك السنة وصار وزير مصر بدله ، والسلطان صلاح الدين يباشر الأمور مقررا لها لمكان كفايته ودرايته وحسن رأيه وسياسته. وفي الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة مات أسد الدين وكانت مدة وزارته شهرين وخمسة أيام ، ولما مات أسد الدين استوزر العاضد صاحب مصر صلاح الدين يوسف واستقرت الأمور بعده وتمهدت القواعد ، ولما تم له ذلك سير بطلب والده نجم الدين أيوب ليتم له السرور وتكون قصته مشاكلة لقصة يوسف الصديق عليه‌السلام ، فوصل والده إليه في جمادى الآخرة سنة خمس وستين.

وفي المحرم من سنة سبع وستين وخمسمائة قطعت خطبة العاضد صاحب مصر وخطب فيها للإمام المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين ، وكان السبب في ذلك ضعف أمر العاضد وتفرق العساكر في أهليهم ، وكان نور الدين محمود قد كتب له يأمره بذلك ، وفي أثناء ذلك توفي العاضد آخر ملوك العبيديين فاستولى صلاح الدين على قصره وأمواله وذخائره ، وكان فيه من الجواهر والأعلاق النفيسة ما لم يكن عند الملوك قد جمع على طول السنين وممر الدهور ، فمنه القضيب الزمرد طوله نحو قصبة ونصف والحبل الياقوت

١٥٧

وغيرهما ، ومن الكتب المنتخبة بالخطوط المنسوبة والخطوط الجيدة نحو مائة ألف مجلد ، وباع السلطان صلاح الدين جميع ذلك. واستقل حينئذ صلاح الدين بأمر مصر ومهد أمورها وجرى أمره فيها على السداد. ولما توفي الملك العادل نور الدين بدمشق كما تقدم وعلم صلاح الدين أن ولده الملك الصالح صبي لا يستقل بالأمر ولا ينهض بأعباء الملك واختلفت الأحوال بالشام ، فنهض حينئذ إليها واستولى عليها وعاد إلى مصر سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة ، ثم خرج منها إلى الشام في سنة ثمان وسبعين واستمر على الجهاد في سبيل الله إلى أن توفي في التاريخ المتقدم رحمه‌الله.

وقال القاضي ابن شداد في القسم الأول من كتابه السيرة الصلاحية الذي ذكر فيه مولده ومنشأه وخصائصه وأوصافه وأخلاقه المرضية ما خلاصته : اتفق لوالده الانتقال من تكريت إلى الموصل وانتقل ولده المذكور معه وأقام بها إلى أن ترعرع ، ثم أعطي بعلبك وأقام بها مدة فنقل ولده إليها وأقام بها في خدمة والده يتربى تحت حجره ويرتضع ثدي محاسن أخلاقه ، حتى بدت منه أمارات السعادة ولاحت لوائح التقدم والسيادة فقدمه الملك العادل نور الدين محمود رحمه‌الله وعول عليه ونظر إليه وقرّبه وخصّصه ، ولم يزل كلما تقدم قدما تبدر منه أسباب تقضي تقديمه إلى ما هو أعلى منه.

وكان رحمه‌الله حسن العقيدة كثير الذكر لله تعالى ، قد أخذ عقيدته على الدليل بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم وأكابر الفقهاء ، وكان قد جمع له الشيخ قطب الدين النيسابوري عقيدة تجمع جميع ما يحتاج إليه في هذا الباب ، وكان من شدة حرصه عليها يعلمها للصغار من أولاده حتى ترسخ في أذهانهم في الصغر. وكان شديد المواظبة على الصلاة بالجماعة ، حتى إنه ذكر يوما أن له سنين ما صلى إلا جماعة. وكان إن مرض يستدعي الإمام وحده ويكلف نفسه القيام ويصلي جماعة. وكان يواظب على السنن الرواتب ، وكان له صلوات يصليها إذا استيقظ في الليل ، وإلا أتى بها قبل صلاة الصبح. ولقد رأيته قدس الله روحه يصلي في مرضه الذي مات فيه قائما وما ترك الصلاة إلا في الأيام الثلاثة التي تغيب فيها ذهنه. وأما الزكاة فإنه مات رحمه‌الله ولم يحفظ ما تجب عليه به الزكاة. وأما صدقة النفل فإنها استرقت جميع ما ملكه من الأموال ، فإنه ملك ما ملك ومات ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهما ناصرية جرما واحدا ذهبا ، ولم يخلف ملكا ولا دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا قرية ولا مزرعة ولا شيئا من أنواع الأملاك. وكان رحمه‌الله تعالى يحب

١٥٨

سماع القرآن العظيم ويستجيد إمامه ويشترط أن يكون عالما بعلم القرآن العظيم متقنا لحفظه. وكان يستقرىء من يحرسه في الليل وهو في برجه الجزأين والثلاثة والأربعة وهو يسمع ، وكان رحمه‌الله خاشع القلب رقيقه عزير الدمعة إذا سمع القرآن يخشع قلبه وتدمع عينه في معظم أوقاته. وكان رحمه‌الله شديد الرغبة في سماع الحديث ، وكان يأمر الناس بالجلوس عند سماع الحديث إجلالا له. وإن كان ذلك الشيخ ممن لا يطرق أبواب السلاطين ويتجافى عن الحضور في مجالسهم سعى إليه وسمع عليه ، وتردد إلى الحافظ الأصفهاني بالإسكندرية وروى عنه أحاديث كثيرة. وكان يحب أن يقرأ الحديث بنفسه ، وكان يستحضرني في خلوته ويحضر شيئا من كتب الحديث ويقرؤها هو ، فإذا مر بحديث فيه عبرة رق قلبه ودمعت عينه.

وكان رحمه‌الله كثير التعظيم لشعائر الدين ، يقول ببعث الأجسام ونشورها ومجازاة المحسن بالجنة والمسيء بالنار ، مصدقا بجميع ما وردت به الشرائع منشرحا بذلك صدره مبغضا للفلاسفة والمعطلة ومن يعاند الشريعة.

ولقد كان رحمه‌الله عادلا رؤوفا رحيما ناصرا للضعيف على القوي ، وكان يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء ، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير وعجوز هرمة وشيخ كبير ، وكان يفعل ذلك سفرا وحضرا. على أنه كان في جميع زمانه قابلا لجميع ما يعرض عليه من القصص في كل يوم ، ويفتح باب العدل ولم يرد قاصدا للحوادث والحكومات.

وكان يجلس مع الكاتب ساعة إما في الليل وإما في النهار ، ويوقع على كل قصة بما يجريه الله على قلبه ، ولم يرد قاصدا أبدا ولا منتحلا ولا طالب حاجة ، وهو مع ذلك دائم الذكر والمواظبة على التلاوة.

وكرمه قدّس الله روحه كان أظهر من أن يسطر وأشهر من أن يذكر ، وكان يعطي في وقت الضيق كما يعطي في حالة السعة ، وكان نواب خزائنه يخفون عنه شيئا من المال حذرا أن يفاجئهم مهم لعلمهم بأنه متى علم به أخرجه. وسمعته يقول في معرض حديث جرى : يمكن أن يكون في الناس من ينظر إلى المال كما ينظر إلى التراب ، فكأنه أراد بذلك نفسه رحمه‌الله.

١٥٩

وكان يعطي فوق ما يؤمل الطالب ، فما سمعته قط يقول أعطينا ، وكان يعطي الكثير ويبسط وجهه للعطاء بسطه لمن لم يعطه شيئا. وأكثر الرسائل كانت تكون في ذلك على لساني ويدي ، وكنت أخجل من كثرة ما يطلبون ولا أخجل منه من كثرة ما أطلبه لهم لعلمي بعدم مؤاخذته ذلك ، وما خدمه أحد إلا وأغناه عن سؤال غيره. وقد سمعت من صاحب ديوانه يقول لي : قد تجارينا عطاياه فحصرنا عدد ما وهب من الخيل بمرج عكا فكان عشرة آلاف فرس ، ومن شاهد مواهبه يستقل هذا القدر.

وكان رحمه‌الله من عظماء الشجعان ، قوي النفس شديد البأس عظيم الثبات ولا يهوله أمر ، ولقد رأيته يعطي دستورا في أوائل الشتاء ويبقى في شرذمة يسيرة في مقابلة عددهم الكثير. وكان لابد له من أن يطوف حول العدو في كل يوم مرة أو مرتين إذا كنا قريبا منهم ، ولقد وصل في ليلة واحدة منهم نيف وسبعون مركبا على عكا وأنا أعدها من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس وهو لا يزداد إلا قوة نفس.

وكان إذا اشتد الحرب يطوف بين الصفين ومعه صبي واحد وعلى يده جنيبة ويخرق العساكر من الميمنة إلى الميسرة ويرتب الأطلاب ويأمرهم بالتقدم والوقوف في مواضع يراها ، وكان يشارف العدو ويجاوره.

ولقد قرىء عليه جزآن من الحديث بين الصفين ، وذلك أني قلت له : قد سمع الحديث في جميع المواطن الشريفة ولم ينقل أنه سمع بين الصفين ، فإن رأى المولى أن يؤثر عنه ذلك كان حسنا ، فأذن في ذلك فأحضر جزءا كما أحضر من له به سماع فقرىء عليه ونحن على ظهور الدواب بين الصفين نمشي تارة ونقف أخرى.

وما رأيته استكثر العدو أصلا ولا استعظم أمرهم ، وكان مع ذلك في حال الفكر والتدبير تذكر بين يديه الأقسام كلها ويرتب على كل قسم بمقتضاه من غير حدة ولا غضب يعتريه ، ولقد انهزم المسلمون في يوم المصاف الأكبر بمرج عكا حتى القلب ورجاله ووقع الكؤس والعلم وهو رضي‌الله‌عنه ثابت القدم في نفر يسير ، حتى انحاز إلى الجبل يجمع الناس ويردهم ويخجلهم حتى يرجعوا ، ولم يزل كذلك حتى نصر عسكر المسلمين على العدو في ذلك اليوم.

ولقد كان رحمه‌الله شديد المواظبة على الجهاد عظيم الاهتمام به ولو حلف حالف إنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد دينارا ولا درهما إلا في الجهاد أو في الأرفاد لصدق وبر في

١٦٠