إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٢

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٢

سنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج فهو صرف بالحقيقة أخذنا فيه الدينار وأعطينا الدراهم ، ونزلنا عن المنيحات وأحرزنا العواصم ، وسرنا أنها انجلت والكافر المحارب والمسلم هو المسالم. واشترطنا على عماد الدين الخدمة والمظاهرة والحضور في مواقف الغزو والمصابرة ، فانتظم الشمل الذي كان نثيرا وأصبح المؤمن بأخيه كثيرا ، وزال الشغب وأخمد اللهب واتصل السبب وأخذت للغزاة الأهب ووصلت إلى غاية همة الطلب ، والألفة واقعة والمصلحة جامعة وأشعة أنوار الاتفاق شائعة.

كتاب آخر :

فتحنا مدينة حلب بسلم ما كشفت بحرمتها قناعا وتسلمنا قلعتها التي ضمنت أن نتسلم بعدها بمشية الله قلاعا وعوض صاحبها من بلاد الجزيرة ما اشترط عليه به الخدمة في الجهاد بالعدة الموفورة فهي بيدنا بالحقيقة ، لأن مرادنا من البلاد رجالها لا أموالها وشوكتها لا زهرتها ومناظرتها للعدو لا نضرتها وأن يعظم في العدو الكافر نكايتها لا أن تعذق بالولي المسلم ولايتها ، والأوامر بحلب نافذة والرايات بأطراف قلعتها آخذة. وجاء أهل المدينة يستبشرون وقد بلغوا ما كانوا يؤملون وأمنوا ما كانوا يحذرون ، وعوض صاحبها ببلاد من الجزيرة على أن تكون العساكر مجتمعة على الأعداء مرصدة للاستدعاء. فالبلاد بأيدينا لنا مغنمها ولغيرنا مغرمها ، وفي خدمتنا ما لا نسمح به وهو عسكرنا ، وفي يده ما لا نضن به وهو درهمنا ، شرطنا على عماد الدين النجدة في أوقاتها والمظاهرة على العداة عند ملاقاتها فلم يخرج منا بلد إلا عاد إلينا عسكره ، وإنما استنبنا فيه من يحمل عنا مؤنته ويدبره وتكون عساكره إلى عساكرنا مضافة ونتمثل قوله سبحانه وتعالى (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً).

كتاب آخر :

نشعر الأمير بما من به من فتح مدينة حلب التي هي مفتاح البلاد وتسلم قلعتها التي هي أحد ما رست به الأرض من الأوتاد ، فلله الحمد وأين يقع الحمد من هذه المنة ونسأل الله الغاية المطلوبة بعد هذه الغاية وهي الجنة ، وصدرت هذه البشرى والموارد قد مضت إلى مصادرها والأحكام في مدينة حلب نافذة في باديها وحاضرها ، وقلعتها قد أناف لواؤنا على أنفها وقبضت على عقبه بكفها واعتذرت من لقائه أمس برشقها ، ورأينا أن نتشاغل بما بورك لنا فيه من الجهاد وأن نوسع المجال فيما نضيق به تقلب الذين كفروا في البلاد.

١٢١

كتاب آخر حين فتح تل خالد :

نزلنا تل خالد يوم الثلاثاء ثاني عشر المحرم ، وكان قد تقدمنا الأجل تاج الملوك إليها وأناخ عليها وقابلها وقاتلها وعالجها ولو شاء لعاجلها ، ولما أطلت عليها راياتنا ألقى من فيها بيده وأنجز النصر صادق وعده ، وأرسلتها حلب مقدمة لفتحها ، وقد أنعم الله علينا بنعم لا نحصيها تعدادا ولا نستقصيها اعتدادا ولا نستوعبها ولو كان النهار طرسا والبحر مدادا. ورايتنا المنصورة قد صارت مغناطيس البلاد تجذبها بطبعها وسيوفنا قد صارت مفاتح الأمصار تفتحها بنصر الله لا بحدها ولا بقطعها.

من كتاب آخر إلى الخليفة في بغداد :

قال في الروضتين : قال العماد : ورد على السلطان وهو نازل على حلب بشارتان إحداهما أن الأسطول المصري غزا في خامس عشر المحرم ورجع بعد تسعة أيام وقد ظفر ببطسة مقلعة من الشام فيها ثلثمائة وخمسة وسبعون علجا من خيالة وتجار. والثانية أن فرنج الداروم نهضوا فنذر بهم والي الشرقية فخرج إليهم فالتقوا على ماء يعرف بالعسيلة فاستولى عليهم المسلمون بعد أن كادوا يهلكون عطشا ، لأن الفرنج كانوا قد ملكوا الماء فأرواهم الله بماء السماء. قلت : وكتب الفاضل عن السلطان إلى بغداد بهاتين البشارتين وبفتح حلب وحارم كتابا شافيا أوله : أدام الله أيام الديوان العزيز ، ولا زالت منازل مملكته منازل التقديس والتطهير ، والوقوف بأقصى المطارح من أبوابه موجبا للتقديم والتصدير ، والأمة مجموعة الشمل بإمامته جمع السلامة لا جمع التكسير. الخادم ينهي أن الذي يفتتحه من البلاد ويتسلمه إما بسكون التغمد أو بحركة ما في الأغماد إنما يعده طريقا إلى الاستنفار إلى بلاد الكفار ، ويحسبه جناحا يمكنه به المطار إلى ما يلابسه الكفار من الأقطار. [وبعد أن ذكر البشارتين] ذكر تسلمه حلب وأنه لا يؤثر إلا أن تكون كلمة الله هي العليا لا غير وثغور المسلمين لها الرعاية ولا ضير ، ولا نختار إلا أن تغدو جيوش المسلمين متحاشدة على عدوها لا متحاسدة بعتوها ، ولو أن أمور الحرب تصلحها الشركة لما عز عليه أن يكون كثير المشاركين ولا أساءه أن تكون الدنيا كثيرة المالكين ، وإنما أمور الحرب لا تحتمل في التدبير إلا الوحدة ، فإذا صح التدبير لم يحتمل في اللقاء إلا العدة ، فعوض عماد الدين من بلاد الجزيرة سنجار وخابورها ونصيبين والرقة وسروج على أن المظالم تموت فلا ينشر

١٢٢

مقبورها ، والعساكر تنشر راية غزوها فلا يطوى منشورها ، وأجاب الخادم عماد الدين إلى ما سأل فيه من أن يصالح المواصلة مهما استقاموا لعماد الدين لأنه لم يثق بهم وإن كان لهم أخا ، ولم يطمئن إلى مجاورتهم إلى أن يضرب بينه وبينهم من عنايته برزخا. فليلح الآن عذر الأجنبي إذا لم يثق ولتكن هذه نصيحة من عوتب في شكره بحسن الظن فلم يفق. ومن شرطه على المواصلة المعونة بعسكرهم في غزواته والخروج من المظالم فما زاد على أن قال : سالموا مسلما وحاربوا كافرا واسكنوا لتكون الرعية ساكنة واظهروا ليكون حزب الله ظاهرا وهذه المقاصد الثلاثة الجهاد في سبيل الله والكف عن مظالم عباد الله والطاعة لخليفة الله هي مراد الخادم من البلاد إذا فتحها ومغنمه من الدنيا إذا منحها ، والله العالم أنه لا يقاتل لعيش ألين من عيش ولا لغضب يملأ العيان من نزق ولا طيش ، ولا يريد إلا هذه الأمور التي قد توسم أنها تلزم ، ولا ينوي إلا هذه النية التي هي خير ما يسطر في الصحيفة ويرقم.

وكتب الخادم هذه الخدمة بعد أن بات بحلب ليلة ، وخرج منها إلى حارم ، وكانت استحفظت مملوكا لا يملكه دين ولا عقل غرّ ما هذبته نفس ولا أهل ، فاعتقد أن يسلمها إلى صاحب أنطاكية يسر الله فتحها اعتقادا صرح بفعله وشهره بكتبه ورسله ، وواطأ على ذلك نفرا من رجال يعرفون بالسيمة ولا يعرفون خالقا إلا من عرفوه رازقا ، ولا يسجدون إلا لمن يرونه في نهر النهار سابحا وفي بحر الظلام غارقا ، فشعر به من فيها من الأجناد المسلمين فشردوه ومن تابعه على فعله ، وظفر به المملوك عمر ابن أخيه في ضواحي البلد فأخذه وأرسله إلى قلعة حلب ، وسار الخادم إليها فتسلمها ورتب بها حامية ورابطة ، ولم يعمل على أنها للعمل طرف بل أنها للعقد واسطة. والخادم كما طالع بماضيه الذي حازه الأمس المذكور يطالع بمستقبله الذي ينجزه بمشيئة الله الغد المشكور ، فهو متأهب للخروج نحو الكفار لا تسأم رايته النصب ولا جبهة سيره الرفع ولا جيشه الجر ، ولا يصغي إلى قول خاطر الراحة المفند : لا تنفروا في الحر ، ولا يجيب دعوة الفراش الممهد ولا يعرج على الظل الممدد ولا دمية القصر المشيد ، ولا يعطف على ريحانة فؤاد يفارقه حولا ويلقاه يوما ، ولا يقيم على زهرة ولد استهل فمتى ذكره الفطر على راحته قال : إني نذرت للرحمن صوما اه.

رجوع السلطان صلاح الدين من حلب إلى دمشق

قال في الروضتين : قال القاضي ابن شداد : لم يقم السلطان في حلب إلا إلى يوم

١٢٣

السبت الثاني والعشرين من ربيع الآخر ، وأنشأ عزما على الغزاة ، فخرج ذلك اليوم إلى الوضيحي مبرزا نحو دمشق واستنهض العساكر فخرجوا يتبعونه ، ثم رحل في الرابع والعشرين منه إلى حماة فوصلها ، ثم رحل في بقية يومه ولم يزل يواصل بين المنازل حتى دخل دمشق في ثالث جمادى الأولى ، فأقام بها متأهبا إلى السابع والعشرين. ثم ذكر غزوته لعين جالوت وبسط القول في ذلك.

ذكر تولية السلطان صلاح الدين أخاه الملك العادل

أبا بكر بن أيوب على حلب

قال في الروضتين : كان الملك العادل نائبا بمصر ، فلما فتح السلطان حلب كتب العادل إليه يطلبها منه مع أعمالها ويدع الديار المصرية ، فكتب السلطان إليه أن يوافيه إلى الكرك فإنه سائر إلى فتحه ، فأشار القاضي الفاضل على السلطان أن يستنيب في الديار المصرية موضع أخيه العادل ابن أخيه تقي الدين ، فاستصحبه السلطان معه في رجب إلى الكرك هذه السنة ، وحاز في طريقه قبل وصوله إليها غنائم وخيم على الربة ، ثم حصر الكرك ورماه بالمجانيق صباحا ومساء ، وتناوب عليه الأمراء حتى خرج شهر رجب وما حصل منه الطلب ، لكن عظمت النكاية في الكفار بأخذ أموالهم وتخريب الديار ، ووصل الخبر أن الفرنج قد استجمعوا وتجمعوا بالموضع المعروف بالواله على قصد المسلمين وخلاص الكرك من أيديهم ، ورأى السلطان أن حصره يطول فعول على الرحيل إلى دمشق ، ووصل العادل إلى السلطان وهو بعد على الكرك فجهز تقي الدين إلى الديار المصرية واليا عليها وقوى عضده بصحبة القاضي الفاضل له. وتولى العادل حلب وأعمالها ومنبج وجميع قلاعها ، فسار إليها في رمضان ورجع منها إلى دمشق الملك الظاهر ونواب السلطان. قلت : وكتب العادل إلى الفاضل يستشيره في التعوض عن مصر بحلب فكتب إليه الفاضل كتابا فيه :

إنما أنت كغيث ماطر

حيثما صرفه الله انصرف

قال ابن أبي طي : كان السلطان يعظم الملك العادل ويعمل برأيه في جميع أموره ويتيمن بمشورته ، ولا يعلم بأنه أشار على السلطان بأمر فخالفه. حدثني قاضي اليمن جمال الدين قال : كان السلطان يجمع الأمراء للمشورة فإن كان العادل حاضرا سمع من رأيه وإن لم يكن حاضرا لم يقطع أمرا في المهمات حتى يكاتبه بجلية الأحوال ثم يسمع رأيه فيها ،

١٢٤

قال : وحدثني أبي قال : حدثني جماعة قالوا : كان السلطان ليس له غناء عن العادل ولا عن رأيه ، فلما حصل العادل بمصر وبعد عن السلطان هناك صار السلطان يتكلف بمكاتبته بالأخبار ويؤخر الأمور إلى أن يرد عليه جوابه فيفوته بذلك كثير من المنافع الحاصلة للدولة وللجهاد ، فلما حصر الكرك في هذه السنة كاتبه بالحضور إليه بعياله وأمواله وجميع أصحابه وولى مصر تقي الدين ، ولما حصل العادل عند السلطان وقع في نفسه أن يعوضه عن ولاية مصر ، ثم حار في ولاية يوليه إياها ، قال : وحدثني غيره قال : لما حصل العادل عند السلطان بأمواله وأثقاله كانت الأموال قد قلت على السلطان وقد حصلت عنده عساكر عظيمة ، فأحضر العادل ليلا وقال : أريد أن تقرضني مائة وخمسين ألف دينار إلى الميسور فقال : السمع والطاعة ، ثم قام وخرج من عنده وكتب إليه يقول : أموالي جميعها بين يديك وأنا مملوكك وأشتهي أن أحمل هذا المال إلى خدمة السلطان ويكون عوضا عنه مدينة حلب وقلعتها ، فأجابه السلطان : إنني والله ما أقدمتك إلا لأوليك حلب ، وإذ قد اقترحت ذلك فقد وافق ما عندي ، فلما أصبح العادل أنفذ وسأل السلطان أن يكتب له بمدينة حلب كتابا ويجعله ككتاب البيع والشراء ، فامتنع السلطان وقال : إنما تكون حلب إقطاعا والمال علي له ، فاعتذر العادل إلى السلطان ، ولما اجتمعا قال له السلطان : أظننت أن البلاد تباع؟ أو ما علمت أن البلاد لأهلها المرابطين بها ونحن خزنة للمسلمين ورعاة للدين وحراس لأموالهم ، أو ما علمت أن السلطان ملك شاه السلجوقي لما وقف طبرية على جامع خراسان لم يحكم به أحد من القضاة ولا من الفقهاء. ثم قرر السلطان ولاية العادل لحلب وأعمالها إلى رعبان إلى الفرات إلى حماة ، وكتب له التوقيع وقرر عليه مالا يحمله برسم الزرد خانات وخزانة الجهاد ورجالة من الحلبيين. ورحل السلطان إلى دمشق واستدعى ولده الظاهر من حلب ، فلما حضر أمره بالعود إلى حلب وتسليمها إلى عمه العادل ، ففعل وعاد إلى دمشق وسار العادل إلى حلب فالتقيا بالرستن وباتا فيه ، فكانت ولاية الظاهر بحلب في هذه النوبة نحو ستة أشهر.

ولما وصل الظاهر إلى دمشق أقبل على خدمة والده والتقرب إليه ، إلا أن الانكسار لخروج حلب عنه ظاهر عليه وهو مع ذلك لا يظهر شيئا إلا الطاعة لوالده والانقياد إلى مرضاته.

١٢٥

حدثني أبي عن مجد الدين بن الخشاب قال : حدثني الملك الظاهر قال : لما بلغني أن السلطان أعطى حلب للملك العادل جرى عليّ ما قدم وما حدث وأصابني من الهم ما لم أقدر على النهوض به ، ووددت أني لم أكن رأيتها ولا دخلت إليها لأني قلبي أحبها وقبلها وطاب لي هواؤها ، ولما فارقتها كنت أحن إليها وأشتاقها.

قال : ودخل العادل حلب في رمضان وخلع على المقدمين والأعيان ، وكان قد قدم بين يديه كاتبه المعروف بالصنيعة لتسلم حلب وقلعتها من الملك الظاهر وولى القلعة صارم الدين بزغش وولى الديوان والإقطاعات شجاع الدين بن البيضاوي صباغ ذقنه ، وولى الإنشاء وما يتعلق بأمور السر للصنيعة ابن النحال وكان نصرانيا ثم أسلم على يد العادل ، فولى ابن النحال الوظائف لجماعة من النصارى ، وفي ذلك يقول الشاعر :

فاق دين المسيح في دولة العا

دل حتى علا على الأديان

ذا أمير وذا وزير وذا وا

ل وذا مشرف على الديوان

وفي السيرة الصلاحية للقاضي ابن شداد قال : عاد السلطان صلاح الدين من الكرك إلى دمشق مستصحبا أخاه الملك العادل معه لإياسه عن الكرك بعد نزول الإفرنج عليها ، فدخل دمشق في الرابع والعشرين من شعبان وأعطى أخاه الملك العادل حلب بعد مقامه بدمشق إلى ثاني يوم من شهر رمضان ، وكان بها ولده الملك الظاهر ومعه سيف الدين يازكج يدبر أمره وابن العميد في البلد ، وكان الملك الظاهر من أحب الأولاد إلى قلبه لما قد خصه الله به من الشهامة والفطنة والعقل وحسن السمت والشغف بالملك والظهور ذلك عليه ، وكان أبر الناس بوالده وأطوعهم له ، ولكن أخذ منه حلب لمصلحة رآها ، فخرج من حلب لما دخل الملك العادل هو ويازكج سائرين إلى خدمة السلطان ، فدخل دمشق الثامن عشر من شوال فأقام في خدمة أبيه لا يظهر إلا الطاعة والانقياد مع انكسار في باطنه لا يخفى عن نظر والده اه.

ومما يجدر ذكره هنا ما ذكره ابن خلكان في ترجمة محمد أبي السعادات المعروف بالمسعودي قال : حكى أبو البركات الهاشمي الحلبي قال : لما دخل السلطان صلاح الدين إلى حلب سنة تسع وسبعين وخمسمائة نزل المسعودي المذكور إلى جامع حلب وقعد في خزانة كتبها الوقف (وكان محلها في الشرقية) واختار منها جملة أخذها لم يمنعه منها مانع ، ولقد رأيته وهو يحشوها في عدل اه.

١٢٦

سنة ٥٨٠

ذكر وصف الرحالة أبي الحسين محمد بن أحمد بن جبير

الكناني الأندلسي لما مرّ به من هذه الديار في هذه السنة

قال في وصفه لمدينة حران :

بلد لا حسن لديه ولا ظل يتوسط برديه ، قد اشتق من اسمه هواؤه فلا يألف البرد ماؤه ، ولا تزال تتقد بلفح الهجير ساحاته وأرجاؤه. ولا تجد فيه مقيلا ولا تنفس منه إلا نفسا ثقيلا. قد نبذ بالعراء ، ووضع في وسط الصحراء ، فعدم رونق الحضارة ، وتعرت أعطافه من ملابس النضارة. أستغفر الله كفى بهذا البلد شرفا وفضلا أنها البلدة العتيقة المنسوبة لأبينا إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وله بقبليها بنحو ثلاثة فراسخ مشهد مبارك فيه عين جارية كان مأوى له ولسارة صلوات الله عليها ومتعبدا لهما. ببركة هذه النسبة قد جعل الله هذه البلدة مقرا للصالحين المتزهدين ومثابة للسائحين المتبتلين ، لقينا من أفرادهم الشيخ أبا البركات حيان ابن عبد العزيز حذاء مسجده المنسوب إليه ، وهو يسكن منه في زاوية بناها في قبلته ، وتتصل بها في آخر الجانب زاوية لابنه عمر قد التزمها وأشبه طريقة أبيه فما ظلم ، وتعرفت منه شنشنة أعرفها من أخزم ، فوصلنا إلى الشيخ وهو قد نيف على الثمانين فصافحنا ودعا لنا وأمرنا بلقاء ابنه عمر المذكور من رجال الآخرة ، ولقينا أيضا بمسجد عتيق الشيخ الزاهد سلمة فلقينا رجلا من الزهاد الأفراد فدعا لنا وسألنا وودعناه وانصرفنا. وبالبلد سلمة آخر يعرف بالمكشوف الرأس لا يغطي رأسه تواضعا لله عزوجل حتى عرف بذلك ، ووصلنا إلى منزله فأعلمنا أنه خرج للبرية سائحا. وبهذه البلدة كثير من أهل الخير وأهلها هينون معتدلون محبون للغرباء مؤثرون للفقراء ، وأهل هذه البلاد من الموصل لديار بكر وديار ربيعة إلى الشام (١) على هذا السبيل من حب الغرباء وإكرام الفقراء ، وأهل قراها كذلك فما يحتاج الفقراء الصعاليك معهم زادا. لهم في ذلك مقاصد في الكرم مأثورة. وشأن أهل هذه البلاد في هذا السبيل عجيب والله ينفعهم بما هم عليه.

__________________

(١) كان مجيئه من بغداد إلى الموصل إلى هذه البلاد.

١٢٧

وأما عبادهم وزهادهم والسائحون في الجبال منهم فأكثر من أن يقيدهم الإحصاء والله ينفع المسلمين ببركاتهم وصوالح دعواتهم بمنه وكرمه.

ولهذه البلدة المذكورة أسواق حفيلة الانتظام عجيبة الترتيب مسقفة كلها بالخشب ، فلا يزال أهلها في ظل ممدود فتخترقها كأنك تخترق دارا كبيرة الشوارع قد بني عند كل ملتقى أربع سكك أسواق منها قبة عظيمة مرفوعة مصنوعة من الجص هي كالمفرق لتلك السكك ، ويتصل بهذه الأسواق جامعها المكرم وهو عتيق مجدد قد جاء على غاية الحسن ، وله صحن كبير فيه ثلاث قباب مرتفعة على سواري رخام وتحت كل قبة بئر عذبة ، وفي الصحن أيضا قبة رابعة عظيمة قد قامت على عشر سوار من الرخام دور كل سارية تسعة أشبار ، وفي وسط القبة عمود من الرخام عظيم الجرم دوره خمسة عشر شبرا ، وهذه القبة من بنيان الروم ، وأعلاها مجوف كأنه البرج المشيد ، يقال إنه كان مخزنا لعدتهم الحربية والله أعلم.

والجامع المكرم سقف بجوائز الخشب والحنايا ، وخشبه عظام طوال لسعة البلاط وسعته خمس عشرة خطوة ، وهو خمسة أبلطة ، وما رأينا جامعا أوسع حنايا منه ، وجداره المتصل بالصحن الذي عليه المدخل مفتح كله أبوابا عددهم تسعة عشر بابا تسعة يمينا وتسعة شمالا ، والتاسع عشر منها باب عظيم وسط هذه الأبواب يمسك قوسه من أعلى الجدار إلى أسفله بهي المنظر جميل الوضع كأنه باب من أبواب المدن الكبار ، ولهذه الأبواب كلها أغلاق من الخشب البديع الصنعة والنقش تنطبق عليها على شبه أبواب مجالس القصور ، فشاهدنا من حسن بناء هذا الجامع وحسن ترتيب أسواقه المتصلة به مرأى عجيبا قل ما يوجد في المدن مثل انتظامه.

ولهذه البلدة مدرسة ومارستان ، وهي بلدة كبيرة وسورها متين حصين مبني بالحجارة المنحوتة المرصوص بعضها على بعض في نهاية من القوة ، وكذلك بنيان الجامع المكرم ، ولها قلعة حصينة مما يلي الجهة الشرقية منها منقطعة عنها بفضاء واسع بينهما ومنقطعة أيضا عن سورها بحفير عظيم يستدير بها قد شيدت حافاته بالحجارة المركومة فجاء في نهاية الوثاقة والقوة. وسور القلعة وثيق الحصانة.

ولهذه البلدة نهير مجراه بالجهة الشرقية أيضا منها بين سورها وجبانتها ومصبه من عين هي على بعد من البلد. والبلد كثير الخلق واسع الرزق حاصل البركة كثير المساجد جم

١٢٨

المرافق على أحفل ما يكون من المدن. وصاحبه مظفر الدين بن زين الدين (له ذكر في حوادث سنة ٥٧٨) وطاعته إلى صلاح الدين. وهذه البلاد كلها من الموصل إلى نصيبين إلى الفرات المعروفة بديار ربيعة وحدها من نصيبين إلى الفرات مع ما يلي الجنوب من الطريق وديار بكر التي تليها في الجانب الجوفي كآمد وميافارقين وغيرها مما يطول ذكره ليس في ملوكها من يناهض صلاح الدين ، فهم إلى طاعته وإن كانوا مستبدين ، وفضله يبقى عليهم ولو شاء نزع الملك منهم لفعله بمشيئة الله ، فكان نزولنا ظاهر البلد بشرقيه على نهيره المذكور ، وأقمنا مريحين يوم الاثنين ويوم الثلاثاء منه ، وإثر الظهر منه كان اجتماعنا بسلمة المكشوف الرأس الذي فاتنا لقاؤه يوم الاثنين فلقيناه بمسجده ، فرأينا رجلا عليه سيما الصالحين وسمت المحبين مع طلاقة وبشر وكرم لقاء وبر ، فآنسنا ودعا لنا وودعناه وانصرفنا حامدين لله عزوجل على ما منّ علينا من لقاء أوليائه الصالحين وعباده المقربين.

وفي ليلة الأربعاء التاسع لربيع المذكور كان رحيلنا بعد تهويم ساعة فأسرينا إلى الصباح ونزلنا مريحين بموضع يعرف بتل عبدة وهو موضع عمارة ، وهذا التل مشرف متسع كأنه المائدة المنصوبة ، وفيه أثر بناء قديم ، وبهذا الموضع ماء جار ، وكان رحيلنا منه عند المغرب ، وأسرينا الليل كله واجتزنا على قرية تعرف بالبيضاء فيها خان كبير جديد وهو نصف الطريق من حران إلى الفرات ويقابلها على اليمين من الطريق في استقبالك الفرات إلى الشام مدينة سروج التي شهر ذكرها الحريري بنسبة أبي زيد إليها ، وفيها البساتين والمياه المطردة حسبما وصفها في مقاماته ، فكان وصولنا إلى الفرات ضحوة النهار ، وعبرنا في الزوارق المقلة المعدة للعبور إلى قلعة جديدة على الشط تعرف بقلعة نجم ، وحولها ديار بادية وفيها سويقة يوجد فيها المهم من علف وخبز ، فأقمنا بها يوم الخميس العاشر لربيع الأول المذكور مريحين خلال ما تكمل القافلة بالعبور. وإذا عبرت الفرات حصلت في حد الشام وسرت في طاعة صلاح الدين إلى دمشق والفرات حد بين ديار الشام وديار ربيعة وبكر ، وعن يسار الطريق في استقبالك الفرات إلى الشام مدينة الرقة وهي على الفرات ، وتليها رحبة مالك بن طوق وتعرف برحبة الشام وهي من المدن الشهيرة ، ثم رحلنا منها عند مضي ثلث الليل الأول وأسرينا ووصلنا مدينة منبج مع الصباح من يوم الجمعة الحادي عشر لربيع المذكور والثاني والعشرين ليونيه.

١٢٩

وقال في وصفه لمدينة منبج :

بلدة فسيحة الأرجاء صحيحة الهواء يحف بها سور عتيق ممتد الغاية والانتهاء ، جوها صقيل ومجتلاها جميل ونسيمها أرج النشر عليل ، نهارها يندى ظله وليلها كما قيل فيه سحر كله ، تحف بغربيها وبشرقيها بساتين ملتفة الأشجار مختلفة الثمار والماء يطرد فيها ويتخلل جميع نواحيها ، وخصص الله داخلها بآبار معينة شهدية العذوبة سلسبيلية المذاق تكون في كل دار منها البئر والبئران ، وأرضها أرض كريمة تستنبط مياها كلها ، وأسواقها وسككها فسيحة متسعة ودكاكينها وحوانيتها كأنها الخانات والمخازن اتساعا وكبرا ، وأعالي أسواقها مسقفة وعلى هذا الترتيب أسواق أكثر مدن هذه الجهات. لكن هذه البلدة تعاقبت عليها الأحقاب حتى أخذ منها الخراب ، كانت من مدن الروم العتيقة ولهم فيها من البناء آثار تدل على عظم اعتنائهم بها ، ولها قلعة حصينة في جوفيها تنقطع عنها وتنحاز منها ، ومدن هذه الجهات كلها لا تخلو من القلاع السلطانية ، وأهلها أهل فضل وخير سنيون شافعيون ، وهي مطهرة بهم من أهل المذاهب المنحرفة والعقائد الفاسدة كما تجده في الأكثر من هذه البلاد ، فمعاملتهم صحيحة وأحوالهم مستقيمة وجادتهم الواضحة في دينهم من اعتراض بنيات الطريق سليمة ، فكان نزولنا خارجها في أحد بساتينها ، وأقمنا يوما مريحين ، ثم رحلنا نصف الليل ووصلنا بزاعة ضحوة يوم السبت الثاني عشر لربيع المذكور.

وقال في وصفه لبلدة بزاعة :

بقعة طيبة الثرى واسعة الذرى ، تصغر عن المدن وتكبر عن القرى ، بها سوق تجمع بين المرافق السفرية والمتاجر الحضرية ، وفي أعلاها قلعة كبيرة حصينة رامها أحد ملوك الزمن فغاظته باستصعابها ، فأمر بثلم بنائها حتى غادرها عودة منبوذة بعرائها. ولهذه البلدة عين معينة يخترق ماؤها بسيط بطحاء ترف بساتينها خضرة ونضارة وتريك برونقها الأنيق حسن الحضارة. ويناظرها في جانب البطحاء قرية كبيرة تعرف بالباب بين بزاعة وحلب ، وكان يعمرها منذ ثماني سنين قوم من الملاحدة الإسماعيلية لا يحصي عددهم إلا الله ، فطار شرارهم وقطع هذه السبيل فسادهم وإضرارهم حتى داخلت أهل هذه البلاد العصبية وحركتهم الأنفة والحمية ، فتجمعوا من كل أوب عليهم ووضعوا السيوف فيهم فاستأصولهم عن آخرهم وعجلوا بقطع دابرهم وكومت بهذه البطحاء جماجمهم ، وكفى الله

١٣٠

المسلمين عاديتهم وشرهم ، وأحاق بهم مكرهم والحمد لله رب العالمين. وسكانها اليوم قوم سنيون ، فأقمنا بها يوم السبت ببطحاء هذه البلدة مريحين ورحلنا في الليل وأسرينا إلى الصباح ، ووصلنا مدينة حلب ضحوة يوم الأحد الثالث عشر لربيع الأول والرابع والعشرين ليونيه.

وقال في وصفه لحلب حرسها الله تعالى :

بلدة قدرها خطير وذكرها في كل زمان يطير ، خطابها من الملوك كثير ، محلها من النفوس أثير ، فكم هاجت من كفاح وسلت عليها من بيض الصفاح ، لها قلعة شهيرة الامتناع بائنة الارتفاع معدومة الشبه والنظير في القلاع ، تنزهت حصانة أن ترام أو تستطاع ، قاعدة كبيرة ومائدة من الأرض مستديرة ، منحوتة الأرجاء موضعة على نسبة اعتدال واستواء ، فسبحان من أحكم تقديرها وتدبيرها وأبدع كيف شاء تصويرها وتدويرها ، عتيقة في الأزل حديثة وإن لم تزل ، قد طاولت الأيام والأعوام وشيعت الخواص والعوام ، هذه منازلها وديارها فأين سكانها قديما وعمّارها ، وتلك دار مملكتها وفناؤها فأين أمراؤها الحمدانيون وشعراؤها ، أجل فني جميعهم ولم يأن بعد فناؤها فيا عجبا للبلاد تبقى وتذهب أملاكها ويهلكون ولا يقضى هلاكها ، تخطب بعدهم فلا يتعذر ملاكها وترام فيتيسر بأهون شيء إدراكها ، هذه حلب كم أدخلت من ملوكها في خبر كان ونسخت ظرف الزمان بالمكان. أنّث اسمها فتحلت بزينة الغوان ودانت بالغدر فيمن خان وتجلت عروسا بعد سيف دولتها ابن حمدان. هيهات هيهات سيهرم شبابها ويعدم خطابها ويسرع فيها بعد حين خرابها ، وتتطرق جنبات الحوادث إليها حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، لا إله سواه سبحانه جلت قدرته ، وقد خرج بنا الكلام عن مقصده فلنعد إلى ما كنا بصدده فنقول : إن من شرف هذه القلعة أنه يذكر أنها كانت قديما في الزمان الأول ربوة يأوي إليها إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والتسليم بغنيمات له فيحلبها هناك ويتصدق بلبنها ، فلذلك سميت حلب والله أعلم. وبها مشهد كريم يقصده الناس ويتبركون بالصلاة فيه. ومن كمال خلالها المشترطة في حصانة القلاع أن الماء بها نابع وقد صنع عليه جبان فهما ينبعان ماء فلا تخاف الظمأ أبد الدهر ، والطعام يصبر فيها الدهر كله ، وليس في شروط الحصانة أهم ولا آكد من هاتين الخلتين ويطيف بهذين الجبين المذكورين سوران حصينان من الجانب الذي ينظر للبلد ، ويعترض دونهما خندق لا يكاد البصر يبلغ مدى عمقه والماء ينبع فيه. وشأن هذه القلعة في الحصانة والحسن أعظم من أن ننتهي إلى وصفه ، وسورها الأعلى كله أبراج

١٣١

منتظمة فيها العلالي المنيفة والقصاب المشرفة قد تفتحت كلها طيقانا ، وكل برج منها مسكون ، وداخلها المساكن السلطانية والمنازل الرفيعة الملوكية.

وأما البلد فموضعه ضخم جدا حفيل التركيب بديع الحسن واسع الأسواق كبيرها ، متصلة الانتظام مستطيلة تخرج من سماط صنعة إلى سماط صنعة أخرى إلى أن تفرغ من جميع الصناعات المدنية ، وكلها مسقف بالخشب فكأنها في ظلال وارفة ، فكل سوق منها تقيد الأبصار حسنا وتستوقف المستوفز تعجبا. وأما قيساريتها فحديقة بستان نظافة وجمالا ، مطيفة بالجامع المكرم لا يتشوق الجالس فيها مرأى سواها ولو كان من المرائي الرياضية ، وأكثر حوانيتها خزائن من الخشب البديع الصنعة قد اتصل السماط خزانة واحدة وتخللتها شرف خشبية بديعة النقش ، وتفتحت كلها حوانيت فجاء منظرها أجمل منظر ، وكل سماط منها يتصل بباب من أبواب الجامع المكرم.

وهذا الجامع من أحسن الجوامع وأجملها ، قد أطاف بصحنه الواسع بلاط كبير متسع مفتح كله أبوابا قصرية الحسن إلى الصحن عددها ينيف عن الخمسين بابا فيستوقف الأبصار حسن منظرها. وفي صحنه بئران معينتان ، والبلاط القبلي لا مقصورة فيه فجاء ظاهر الاتساع رائق الانشراح ، وقد استفرغت الصنعة القرنصية جهدها في منبره (١) فما أرى في بلد من البلاد منبرا على شكله وغرابة صنعته ، واتصلت الصنعة الخشبية منه إلى المحراب فتجللت صفحاته كلها حسنا على تلك الصفة الغريبة وارتفع كالتاج العظيم على المحراب وعلا حتى اتصل. بسمك السقف ، وقد قوس أعلاه وشرف بالشرف الخشبية القرنصية ، وهو مرصع كله بالعاج والآبنوس ، واتصال الترصيع من المنبر إلى المحراب مع ما يليهما من جدار القبلة دون أن يتبين بينهما انفصال فتجتلي العيون منه أبدع منظر يكون في الدنيا. وحسن هذا الجامع المكرم أكثر من أن يوصف.

ويتصل به من الجانب الغربي مدرسة للحنفية تناسب الجامع حسنا واتقان صنعة ، فيها في الحسن روضة تجاور أخرى ، وهذه المدرسة من أحفل ما شاهدناه من المدارس بناء وغرابة صنعة. ومن أظرف ما يلحظ فيها أن جدارها القبلي مفتح كله بيوتا وغرفا لها طيقان يتصل بعضها ببعض ، وقد امتد بطول الجدار عريش كرم مثمر عنبا ، فحصل لكل طاق

__________________

(١) سيأتي الكلام على هذا المنبر والمنبر الذي حمل من حلب إلى القدس في حوادث سنة ٥٨٣.

١٣٢

من تلك الطيقان قسطها من ذلك العنب متدليا أمامها فيمد الساكن فيها يده ويجتنيه متكئا دون كلفة ولا مشقة.

وللبلدة سوى هذه المدرسة نحو أربع مدارس أو خمس ، ولها مارستان ، وأمرها في الاحتفال عظيم ، فهي تليق بالخلافة وحسنها كله داخل لا خارج لها إلا نهير يجري من جوفيها إلى قبليها ويشق ربضها المستدير بها ، فإن لها ربضا كبيرا فيه من الخانات ما لا يحصى عدده ، وبهذا النهر الأرحاء وهي متصلة بالبلد وقائمة وسط ربضه ، وبهذا الربض بعض بساتين تتصل بطوله ، وكيفما كان الأمر فيه داخلا وخارجا فهو من بلاد الدنيا التي لا نظير لها والوصف فيه يطول ، فكان نزولنا بربضه في خان يعرف بخان أبي الشكر ، فأقمنا فيه أربعة أيام ورحلنا ضحوة يوم الخميس السابع عشر لربيع المذكور والثامن والعشرين ليونية ووصلنا (قنسرين) قبيل العصر ، فأرحنا بها قليلا ثم انتقلنا إلى قرية تعرف (بتل تاجر) فكان مبيتنا بها ليلة الجمعة الثامن عشر منه.

كلامه على قنسرين والمعرة :

قال : وقنسرين هذه هي البلدة المشهورة في الزمان ، لكنها خربت وعادت كأن لم تغن بالأمس ، فلم يبق إلا آثارها الدارسة ورسومها الطامسة ، ولكن قراها عامرة منتظمة لأنها على محرث عظيم مد البصر عرضا وطولا ، وتشبهها من البلاد الأندلسية جيّان ، ولذلك يذكر أن أهل قنسرين عند استفتاح الأندلس نزلوا جيّان تأنسا بشبه الوطن وتعللا به مثل ما فعل في أكثر بلادها حسب ما هو معروف. ثم رحلنا من ذلك الموضع عند الثلث الماضي من الليل فأسرينا وسرنا إلى ضحوة من النهار ، ثم نزلنا مريحين بموضع يعرف بياقدين في خان كبير يعرف بخان التركمان وثيق الحصانة ، وخانات هذا الطريق كأنها القلاع امتناعا وحصانة ، وأبوابها حديد ، وهي من الوثاقة في غاية. ثم رحلنا من هذا الموضع وبتنا بموضع بتمني في خان وثيق على الصفة المذكورة. ثم أسحرنا منه يوم السبت التاسع عشر لربيع الأول المذكور وهو آخر يوم من يونية.

ورأينا عن يمين طريقنا بمقدار فرسخين يوم الجمعة المذكور بلاد (المعرة) وهي سواد كلها بشجر الزيتون والتين والفستق وأنواع الفواكه ، ويتصل التفاف بساتينها وانتظام قراها مسيرة يومين ، وهي من أخصب بلاد الله وأكثرها رزقا.

١٣٣

ذكر مجيء الخلع من الخليفة إلى السلطان صلاح الدين

ونزول عسكر الموصل على إربل

قال القاضي ابن شداد في السيرة الصلاحية : في شهر جمادى الآخرة وصل رسول الخليفة ومعه الخلع فلبسها السلطان وألبس أخاه الملك العادل (كان عنده بدمشق) وابن أسد الدين خلعا جاءت لهم. وفي الرابع عشر من هذا الشهر خلع السلطان خلعة الخليفة على ابن قره أرسلان وأعطاه دستورا وأعطاه العساكر.

وفي هذا التاريخ وصلت رسل ابن زين الدين مستصرخا إلى السلطان يخبر أن عسكر الموصل وعسكر قزل نزلوا مع مجاهد الدين قايماز على إربل وأنهم نهبوا وأحرقوا وأنه نصر عليهم وكسرهم.

سنة ٥٨١

ذكر مجيء السلطان إلى حلب وتوجهه إلى حران

ثم قصده نواحي الموصل

قال القاضي ابن شداد : ولما سمع السلطان ذلك رحل من دمشق يطلب البلاد ، وتقدم إلى العساكر فتبعته وسار حتى أتى حران على طريق البيرة ، والتقى مع مظفر الدين بالبيرة في الثاني عشر من محرم سنة إحدى وثمانين ، وتقدم السلطان إلى سيف الدين المشطوب أن يسير في مقدمة العساكر إلى رأس العين ، ووصل السلطان إلى حران الثاني والعشرين من صفر ، وفي السادس والعشرين منه قبض على مظفر الدين بن زين الدين لشيء كان قد جرى منه وحديث كان بلغه عنه رسوله ولم يقف عليه وأنكره ، فأخذ منه قلعة حران والرها ، ثم أقام في الاعتقال تأديبا إلى مستهل ربيع الأول ، ثم خلع عليه وطيب قلبه وأعاد إليه قلعة حران وبلاده التي كانت بيده وأعاده إلى قانونه في الإكرام والاحترام ، ولم يتخلف له سوى قلعة الرها ووعده بها. ثم رحل السلطان ثاني ربيع الأول إلى رأس العين ووصله في ذلك رسول قليج أرسلان يخبره أن ملوك الشرق بأسرهم قد اتفقت كلمتهم على قصد السلطان إن لم يعد عن الموصل وماردين وأنهم على ضرب المصاف معه إن أصر على ذلك ، فرحل السلطان يطلب دنيسر فوصله ثامن ربيع الأول عماد الدين بن قره أرسلان

١٣٤

ومعه عسكر نور الدين صاحب ماردين ، فالتقاهم واحترمهم ، ثم رحل من دنيسر حادي عشر نحو الموصل حتى نزل موضعا يعرف بالإسماعيليات قريب الموصل بحيث يصل من العسكر كل يوم نوبة جديدة تحاصر الموصل ، فبلغ عماد الدين بن قره أرسلان موت أخيه نور الدين فطلب من السلطان دستورا طمعا في ملك أخيه فأعطاه دستورا. اه

قال في الروضتين : قال العماد : دخلت سنة إحدى وثمانين والسلطان مخيم بظاهر حماة فسار إلى حلب وتلقاه أخوه الملك العادل واجتمعت له بها العساكر ، فخرج منها في صفر لقصد الموصل ، فسار وقطع الفرات وأقام العسكر ثلاثة أيام للعبور بها ، وكان السلطان قد سير إلى معاقل الفرات وقلاعه ونواحيه وضياعه وأمر أهلها بعمارة كل سفينة في الفرات وزورق ومركب وجمعها من كل مشرق ومغرب ، ثم وصل إلى حران وفيها مظفر الدين بن زين الدين وهو أخو زين الدين يوسف صاحب إربل وقد كان أول من دخل في خدمة السلطان وأول ما قصد تلك البلاد في المرة الأولى ، واقتدى به أخوه وغيره من أصحاب الأطراف في الانتماء إلى السلطان ، وحضر معه حصار عدة بلاد كالموصل وسنجار وآمد وحلب وأظهر من المودة فوق ما كان في الحساب ، وكان كثير الحث للسلطان على المسير إلى الموصل هذه المرة برسوله وكتابه ، وقال رسوله للسلطان : إذا عبرتم الفرات فإن مظفر الدين يستدرك كل ما فات ويقوم بكل ما يحتاج إليه في تلك البلاد من النفقات والغرامات والأزواد ويقدم يوم الوصول إلى حران خمسين ألف دينار ، وكتب خطه بذلك ، فلما وصل السلطان إلى حران لم ير منه ما التزمه الرسول ، فارتاب وظن أنه مال مع المواصلة ووشت الأعداء فيه بذلك وأن نيته قد تغيرت ، فحلف للسلطان أنه لم يتغير وأن ما التزمه الرسول لم يكن بأمره وهو ابن ماهان ، فانعزل عنده عن مرتبته وهان ، فقبض السلطان على مظفر الدين ليتبين أمره وشاور فيه أصحابه فأشار بعضهم بإتلافه وبعضهم باستبقائه واستئلافه ، فعفا السلطان عنه على أن يسلم إليه قلعتي الرها وحران ففعل ذلك وهو مسرور ببقاء نفسه ، ثم أعيدت إليه القلعتان في آخر السنة لما رأى السلطان من حركاته المستحسنة اه.

ثم بسط في الروضتين الكلام على محاصرته للموصل ثم رحيله عنها إلى ميافارقين ومحاصرتها إلى أن ملكها ثم رحيله منها إلا خلاط ثم عوده إلى الموصل ونزوله بموضع قريب منها يقال له كفر زمار.

١٣٥

قال ابن شداد : ومرض السلطان بكفر زمار مرضا شديدا خاف من غائلته ، فرحل طالبا حران وهو مريض ، وكان يتجلد ولا يركب محفته ، فوصل وهو شديد المرض وبلغ إلى غاية الضعف وأيس منه وأرجف بموته ، ووصل إليه أخوه العادل من حلب ومعه الأطباء.

وكان ذلك سببا للصلح مع المواصلة. وبسط في الروضتين ما تقرر بينه وبينهم من الأمور قال : ولما امتد زمان مرضه أمر ببناء دار عند سرادقه فبنيت في أربعة أو خمسة أيام ، ثم آذن الله بالشفاء وسمى هذه الديار دار العافية للبرء فيها من سقامه ، ثم أخلاها لمن ينزل بها ضيفا وجعلها للآوين إليها وقفا.

سنة ٥٨٢

ذكر عود السلطان من حران إلى حلب وتوجهه منها إلى دمشق

قال القاضي ابن شداد : ولما وجد السلطان نشاطا من مرضه رحل يطلب جهة حلب ، وكان وصوله إليها رابع عشر محرم سنة اثنتين وثمانين ، وكان يوما مشهودا لشدة فرح الناس بعافيته ولقائه ، فأقام بها أربعة أيام ثم رحل نحو دمشق.

ذكر نقل الملك العادل من حلب إلى مصر

وتولية حلب للملك الظاهر غازي وشرح أسباب ذلك

قال القاضي ابن شداد : وفي سابع عشر جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين وصل الملك الأفضل علي (ابن السلطان صلاح الدين ونائبه بمصر) إلى دمشق ولم يكن قد رأى قبل ذلك الشام ، وكان السلطان رأى رواح الملك العادل إلى مصر فإنه كان آنس بأحوالها من الملك المظفر ، فما زال يفاوضه بذلك وهو على حران مريض ، وقد حصل ذلك في نفس الملك العادل ، فإنه كان يحب الديار المصرية ، فلما عاد السلطان إلى دمشق ومنّ الله بعافيته سير يطلب الملك العادل إلى دمشق ، فأقام بها في خدمة السلطان فجرت بينهما أحاديث ومراجعات في قواعد تقرر إلى جمادى الآخرة ، واستقرت القاعدة على عود الملك العادل إلى مصر وتسليم حلب إلى الظاهر. وكان الملك الظاهر والملك العزيز بدمشق في خدمة والدهما ، فلما استقرت القاعدة على عود الملك العادل إلى مصر استقرت على أن يكون أتابك الملك العزيز ويسلمه ولده يربي أمره ويسلم الملك العادل حلب إلى الملك

١٣٦

الظاهر. ولقد قال لي الملك العادل : إنه لما استقرت عليه هذه القاعدة واجتمعت بخدمة الملك العزيز والملك الظاهر وجلست بينهما قلت للملك العزيز : يا مولاي إن السلطان قد أمرني أن أسير في خدمتك إلى مصر وأنا أعلم أن المفسدين كثير ، وغدا فما نخلو ممن يقول ما لا يجوز عني ويخوفك مني ، فإن كان لك عزم تسمع فقل لي حتى لا أجيء ، فقال : لا أسمع وكيف يكون ذلك ، ثم التفت. وقلت للملك الظاهر : أنا أعرف ان أخاك ربما سمع في أقوال المفسدين وأنا فمالي إلا أنت ، وقد قنعت منك بمنبج متى ضاق صدري من جانبه ، فقال : مبارك وذكر كل خير.

ثم إن السلطان سير ولده الظاهر إلى حلب وأعادها إليه ، وكان رحمه‌الله يعلم أن حلب هي أصل الملك وجرثومته وقاعدته ولهذا دأب في طلبها ذلك الدأب ، ولما حصلت له أعرض عما عداها من بلاد المشرق وقنع منهم بالطاعة والمعونة على الجهاد فسلمها إليه علما منه بحذاقته وحزمه وحفظه ، فسار حتى أتى العين المباركة وسير في خدمته الشحنة حسام الدين بشارة وواليا شجاع الدين عيسى بن بلاشوا ، فنزل يوم الجمعة بعين المباركة وخرج الناس إلى لقائه في بكرة تاسع جمادى الآخرة ، وصعد القلعة ضحوة نهاره وفرح الناس به فرحا شديدا ، ومد على الناس من جناح عدله وأفاض عليهم وابل فضله.

قال ابن الأثير في حوادث هذه السنة : وقد بلغني من خبير بأحوال صلاح الدين أنه إنما حمله على أخذ حلب من العادل وإعادة تقي الدين إلى الشام أن صلاح الدين لما مرض بحران على ما ذكرناه أرجف بمصر أنه قد مات فجرى من تقي الدين حركات من يريد أن يستبد بالملك ، فلما عوفي صلاح الدين بلغه ذلك فأرسل الفقيه عيسى الهكاري (١) ، وكان كبير القدر عنده مطاعا في الجند إلى مصر وأمره بإخراج تقي الدين والمقام بمصر ، فسار مجدا فلم يشعر تقي الدين إلا وقد دخل الفقيه عيسى إلى داره بالقاهرة وأرسل إليه يأمره بالخروج منها ، فطلب أن يمهل إلى أن يتجهز فلم يفعل وقال : تقيم خارج المدينة وتتجهز ، فخرج وأظهر أنه يريد الدخول إلى الغرب فقال له : اذهب حيث شئت ، فلما سمع صلاح الدين الخبر أرسل إليه يطلبه ، فسار إلى الشام فأحسن إليه ولم يظهر له شيئا مما كان لأنه كان حليما كريما صبورا رحمه‌الله.

__________________

(١) عيسى هذا له ترجمة في ابن خلكان وهو فقيه وأمير كان يلبس ثياب الأجناد ويتعمم عمامة الفقهاء ، وقد ذكره القاضي ابن شداد في السيرة الصلاحية في صحيفة ٨٢.

١٣٧

وأما أخذ حلب من العادل فإن السبب فيه أن كان من جملة جندها أمير كبير اسمه سليمان بن جندر بينه وبين صلاح الدين صحبة قديمة قبل الملك ، وكان صلاح الدين يعتمد عليه ، وكان عاقلا ذا مكر ودهاء ، فاتفق أن الملك العادل لما كان بحلب لم يفعل معه ما كان يظنه وقدم غيره عليه فتأثر بذلك ، فلما مرض صلاح الدين وعوفي سار إلى الشام فسايره يوما سليمان بن جندر فجرى حديث مرضه ، وكان صلاح الدين قد أوصى لكل واحد من أولاده بشيء من البلاد ، فقال له : بأي رأي كنت تظن أن وصيتك تمضي كأنك كنت خارجا إلى الصيد فلا يخالفونك ، بالله ما تستحي يكون الطائر أهدى منك إلى المصلحة ، قال : وكيف ذلك ، وهو يضحك ، قال : إذا أراد الطائر أن يعمل عشا لفراخه قصد أعالي الشجرة ليحمي فراخه ، وأنت سلمت الحصون إلى أهلك وجعلت أولادك على الأرض ، هذه حلب وهي أم البلاد بيد أخيك وحماة بيد ابن أخيك تقي الدين وحمص بيد ابن شيركوه وابنك العزيز مع تقي الدين بمصر يخرجه أي وقت أراد ، وهذا ابنك الآخر مع أخيك في خيمة يفعل به ما أراد ، فقال له : صدقت واكتم هذا الأمر ، ثم أخذ حلب من أخيه وأخرج تقي الدين من مصر ثم أعطى أخاه العادل حران والرها وميافارقين ليخرجه من الشام ومصر لتبقى لأولاده فلم ينفعه ما فعل. لما أراد الله تعالى نقل الملك عن أولاده على ما نذكره اه.

وكانت وفاة الملك العادل سنة ٦١٥ كما ذكره ابن الأثير في حوادث هذه السنة ، وكان عمره خمسا وسبعين سنة. وقال : إنه كان عاقلا ذا رأي سديد ومكر شديد وخديعة صبورا حليما ذا أناة ، يسمع ما يكره ويغض عليه ، حتى كأنه لم يسمعه ، كثير الحرج وقت الحاجة لا يقف في شيء وإذا لم تكن حاجة فلا. وملك دمشق سنة ٥٩٢ من الأفضل ابن أخيه ، وملك مصر منه سنة ٥٩٦ ، وقسم الملك في حياته بين أولاده. وبسط ابن الأثير ذلك.

وقال ابن خلكان في ترجمته ما خلاصته : هو أبو بكر محمد بن أبي الشكر أيوب ابن شادي بن مروان الملقب بالملك العادل سيف الدين ، ولما ملك السلطان صلاح الدين الديار المصرية كان ينوب في حال غيبته في الشام ويستدعي منه الأموال للإنفاق في الجند وغيرهم.

١٣٨

ولما ملك السلطان مدينة حلب في صفر سنة تسع وسبعين وخمسمائة أعطاها لولده الظاهر غازي ، ثم أخذها منه وأعطاها للملك العادل ، فانتقل إليها وقصد قلعتها يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر رمضان من السنة المذكورة ، ثم نزل عنها للملك الظاهر غازي بن السلطان لمصلحة وقع الاتفاق عليها بينه وبين أخيه صلاح الدين ، وخرج منها في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة ليلة السبت الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول ، ثم أعطاه السلطان قلعة الكرك ، وتنقل في الممالك في حياة السلطان وبعد وفاته ، وآخر الأمر أنه استقل بمملكة الديار المصرية وخطب له بحلب يوم الجمعة حادي عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وملك معها البلاد الشامية والشرقية وصفت له الدنيا ، ثم ملك بلاد اليمن في سنة اثنتي عشرة وستمائة ، وكان ملكا عظيما ذا رأي ومعرفة تامة قد حنكته التجارب ، حسن السيرة جميل الطوية وافر العقل حازما في الأمور صالحا محافظا على الصلوات في أوقاتها متبعا لأرباب السنة مائلا إلى العلماء ، حتى صنف له فخر الدين الرازي كتاب تأسيس التقديس وذكر اسمه في خطبته وسيره إليه من بلاد خراسان ، وكان بالغالب يصيف بالشام لأجل الفواكه والثلج والمياه الباردة ويشتي في الديار المصرية لاعتدال الوقت فيها وقلة البرد. وعاش في أرغد عيش ، وكان يأكل كثيرا خارجا عن المعتاد ، حتى يقال إنه كان يأكل وحده خروفا لطيفا مشويا ، وكان له في النكاح نصيب وافر ، وحاصل الأمر أنه كان ممتعا في دنياه ، وكانت ولادته بدمشق سنة أربعين وخمسمائة وتوفي سنة خمس عشرة وستمائة ، ودفن بالقلعة ثاني يوم وفاته ، ثم نقل إلى مدرسته المعروفة به (هي التي اتخذها الآن المجمع العلمي العربي بدمشق مقرا له وأسس فيها مكتبة ومتحفا) ودفن في التربة التي بها ، وقبره على الطريق يراه المجتاز من الشباك المركب هناك رحمه‌الله.

سنة ٥٨٣

ذكر فتح البيت المقدس وحمل المنبر إليه من حلب

في هذه السنة في رجب فتح السلطان صلاح الدين رحمه‌الله البيت المقدس ، وقد كان أخذ من المسلمين سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة ، فيكون مدة بقائه في أيديهم إحدى وتسعين سنة. وبسط ابن الأثير وصاحب الروضتين الأخبار في ذلك.

قال ابن الأثير : وصلى المسلمون فيه الجمعة ومعهم صلاح الدين وصلى في قبة الصخرة ، وكان الخطيب والإمام محيي الدين محمد بن أبي الحسن بن الزكي قاضي

١٣٩

دمشق (١) ، ثم رتب فيه صلاح الدين خطيبا وإماما برسم الصلوات الخمس ، وأمر أن يعمل له منبر فقيل له إن نور الدين محمودا كان قد عمل بحلب منبرا أمر الصناع بالمبالغة في تحسينه وإتقانه ، وقال : هذا قد عملناه لينصب بالبيت المقدس فعمله النجارون في عدة سنين لم يعمل في الإسلام مثله ، فأمر بإحضاره فحمل من حلب ونصب بالقدس ، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة ، وكان هذا من كرامات نور الدين وحسن مقاصده رحمه‌الله اه.

وقال في الروضتين نقلا عن العماد الكاتب ما خلاصته : أنه كان بحلب نجار يعرف بالأختريني من ضيعة تعرف بأخترين لم يلف له في براعته وصنعته قرين ، فأمره نور الدين بعمل منبر لبيت الله المقدس وقال له : اجتهد أن تأتي به على النعت المهندم والنحت المهندس ، فجمع الصناع وأحسن الإبداع ، وأتمه في سنين واستحق بحق إحسانه التحسين ، واتفق أن جامع حلب في الأيام النورية احترق فاحتيج إلى منبر ينصب فنصب ذلك المنبر وحسن المنظر ، وتولى حينئذ النجار عمل المحراب على الرقم وشابه المحراب المنبر في الرسم ، ومن رأى حلب شاهد منه على مثال المنبر القدسي الإحسان.

وفي كراسة عندي تكلم فيها على الجامع الأعظم (ويظهر أنها من كنوز الذهب لأبي ذر) قال فيها : قرأت في تاريخ الإسلام [للذهبي] : وقد كان نور الدين أنشأ منبرا برسم الأقصى قبل فتح بيت المقدس طمعا في أن يفتحه ، ولم تزل نفسه تحدثه بفتحه ، وكان بحلب نجار فائق الصنعة فعمل لنور الدين هذا المنبر على أحسن نعت وأبدعه ، فاحترق جامع حلب فنصب فيه ، ثم عمل النجار المذكور ويعرف بالأختريني منبرا آخر شبه ذلك المنبر ، فلما افتتح السلطان بيت المقدس أمر بنقل المنبر فنصب إلى جانب محراب الأقصى. انتهى.

وقال قبل نقل كلام الذهبي : وأما المنبر الذي هو الآن به فعمل في أيام السلطان الملك الناصر محمد وصانعه محمد بن علي الموصلي بتولي محمد بن عثمان بن الحداد (٢) ،

__________________

(١) وخطبته مذكورة في الروضتين وفي ابن خلكان في ترجمة ابن الزكي وهي طويلة بديعة.

(٢) والملك الناصر محمد تولى الملك في الديار المصرية ثلاث مرات والمرة الثالثة كانت سنة ٧٠٩ وبقي إلى سنة ٧٤١.

١٤٠