تحفة الأنفس وشعار سكّان الأندلس

علي بن عبد الرحمن بن هذيل الأندلسي

تحفة الأنفس وشعار سكّان الأندلس

المؤلف:

علي بن عبد الرحمن بن هذيل الأندلسي


المحقق: عبد الإله أحمد نبهان و محمّد فاتح صالح زغل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مركز زايد للتراث والتاريخ
المطبعة: دار البارودي للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9948-06-105-5
الصفحات: ٤٠٦

الباب الثاني

في الرباط وفضله وما خصت

به من ذلك جزيرة الأندلس

٦١
٦٢

في الرباط وفضله

وما خصّت به من ذلك جزيرة الأندلس

قال الله العظيم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(١).

الصبر في اللغة هو الحبس ، والمصابرة منه ، وذلك حبس النفس على مقارعة المخالفين وممانعة المنازعين (٢).

والرّباط هو الثبوت واللزوم وهو من ربط النفس على الأمر ، أي تثبيتها عليه وإلزامها إيّاه (٣).

والمندوب إليه من ذلك شرعا ملازمة الثغور والثبوت بها على السّار والمحذور (٤) [فرباط الرجل نفسه هو أن يترك وطنه ويلزم ثغرا من الثّغور

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ٢٠٠.

(٢) جاء في القاموس المحيط : «صبر» الصبر : الحبس ، وصبر الإنسان وغيره على القتل أن يحبس ويرمى حتى يموت. والصبر نقيض الجزع. وقال التهانوي : التصبر هو حمل النفس على المكاره وتجرّع المرارة ، والصبر هو ترك الشكوى إلى غير الله ، والصبر : انتظار الفرج من الله.

(٣) في القاموس المحيط : «ربط» الرباط ما ربط به. وملازمة ثغر العدو كالمرابطة ، وواحد الرباطات المبنية. والمرابطة أن يربط كل من الفريقين خيولهم في ثغره ، وكلّ معدّ لصاحبه فسمّي المقام في الثغر رباطا. وانظر تفصيل القول في الرباط في شرح السير الكبير ١ : ٦ وما بعدها.

(٤) من هنا يبدأ سقط في م.

٦٣

المخوفة لمعنى الحفظ وتكثير السواد ، وأمّا من كان وطنه الثّغر فليست إقامته به رباطا ، رواه ابن حبيب (١) عن مالك (٢) ، ووجه ذلك أن يحبس نفسه ويقيم لهذا الوجه خاصة ، فإن أقام لغير ذلك فإنّه بمنزلة سائر تصرفاته فلم يربط نفسه لمدافعة العدوّ ، قال الإمام أبو الوليد الباجّي (٣) رضي‌الله‌عنه : وعندي أنّ من اختار المقام والاستيطان بالثّغر وموضع الخوف للرّباط خاصّة وأنّه لو لا ذلك لأمكنه المقام بغير ذلك البلد أنّ له حكم الرّباط (٤) [س ١٨].

وفرائض الرّباط :

١ ـ النيّة

٢ ـ والزاد الحلال.

٣ ـ والعدّة.

٤ ـ والمعقل.

__________________

(١) ابن حبيب (١٧٤ ـ ٢٣٨ ه‍ ـ ٧٩٠ ـ ٨٥٣ م) : عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون السلمي الألبيري القرطبي أبو مروان ، عالم الأندلس وفقيهها في عصره ، أصله من طليطلة ، من بني سليم أو من مواليهم ، ولد في البيرة ، وسكن قرطبة وزار مصر ، ثم عاد إلى الأندلس فتوفي بقرطبة ، كان عالما بالتاريخ والأدب ، رأسا في فقه المالكية ، له تصانيف كثيرة. الأعلام ٤ : ١٥٧.

(٢) مالك (٩٣ ـ ١٧٩ ه‍ ـ ٧١٢ ـ ٧٩٥ م) : مالك بن أنس الأصبحي الحميري ، أبو عبد الله ، إمام دار الهجرة ، وأحد الأئمة الأربعة ، وإليه تنسب المالكية ، مولده ووفاته في المدينة كان صلبا في دينه ، بعيدا عن الأمراء والملوك ، وشي به إلى جعفر عم المنصور العباسي فضربه سياطا انخلعت لها كتفه. له «الموطا» ومصنفات أخر. عن الأعلام ٥ : ٢٥٧.

(٣) الباجي (٤٠٣ ـ ٤٧٤ ه‍ ـ ١٠١٢ ـ ١٠٨١ م) : أبو الوليد الباجي ، سليمان بن خلف بن سعد التجيبي القرطبي ، فقيه مالكي كبير ، من رجال الحديث ، أصله من بطليوس Badajoz ، ومولده في باجةBeja بالأندلس ، رحل إلى الحجاز سنة ٤٢٦ ، فمكث ثلاثة أعوام وبالموصل عاما وفي دمشق وحلب مدة ، وعاد إلى الأندلس فولي القضاء في بعض أنحائها وتوفي بالمريةAlmeria له كتب عديدة منها شرح موطا مالك. عن الأعلام ٣ : ١٢٥.

(٤) انتهى السقط في م.

٦٤

قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : [رباط يوم في سبيل الله خير من الدّنيا وما فيها](١).

وقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جزي عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن العثار (٢).

وقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : رباط ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقوم ليلها لا يفتر ويصوم نهارها لا يفطر (٣).

وقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : من رابط فواق ناقة حرّمه الله على النار (٤).

__________________

(١) في فيض القدير ٧ : ٣٣٦٠ برقم : ٤٣٩٤ رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها ، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها ، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها.

أحال محققه إلى مسند أحمد ٥ : ٣٣٩ والبخاري ٦ : ٢٨٩٢ والترمذي ٤ : ١٦٦٤ عن سهل ابن سعد. وانظر أحاديث مماثلة في شرح السير الكبير ١ : ٦ ، ٨.

(٢) الحديث في فيض القدير ٧ : ٣٢٦١ وآخره فيه : وأمن من الفتّان وأخرجه مسلم في صحيحه ٣ : ١٩١٣ عن سلمان وانظر روايات أخر عن سلمان في شرح السير الكبير ١ : ٦.

(٣) روي مثله بطرق متعددة عن سلمان عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) قال : رباط ليلة أو يوم وليلة أفضل من صيام شهر وقيامه صائما لا يفطر وقائما لا يفتر وإن مات مرابطا أجري عليه صالح عمله حتى يبعثه الله ووقي عذاب القبر.

انظر كتاب الجهاد لابن أبي عاصم ٢ : ٦٩٩ برقم : ٣٠٨ و ٣٠٩ والحديث في مسند أحمد ٥ : ٤٤١ وهناك رواية أخرى في كتاب الجهاد ٢ : ٧٠٠ وتخريجه ثمة.

(٤) الفواق : ما بين الحلبتين من الوقت لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر. وخص الناقة بالذكر لكثرة تداولهم لحلبها فهو أقرب للتعميم والحديث في فيض القدير ١١ : ٥٨٠٧ برقم : ٨٦٩٢ ضعيف جدا ، أخرجه العقيلي في الضعفاء ١ : ٢٢ ـ ٣ : ١٤٣ عن عائشة في كتاب الجهاد لابن أبي عاصم ١ : ٣٧٨ برقم ١٣٥ عن أبي هريرة وفيه : من قاتل في سبيل الله فواق ناقة فله الجنة ، وفي ص ٣٧٩ عن معاذ بن جبل : وجبت له الجنة ... وانظر تخريج الحديث ثمة.

٦٥

وقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من رابط يوما في شهر رمضان في سبيل الله كان أفضل من عبادة ستمئة سنة ، ولا يدرك أحد فضله إلا من كان على مثل حاله / أو زاد عليه.

وعن عصمة بن راشد عن أبيه قال : سمعت قوما من أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يفصّلون الرّباط على الجهاد. قال : فقلت لأبي : ولم ذلك؟

قال : لأنّ في الجهاد شروطا كثيرة ليست في الرّباط.

وقال ابن عمر (١) : فرض الجهاد لسفك دماء المشركين والرّباط لحقن دماء المسلمين ، وحقن دماء المسلمين أحبّ إليّ من سفك دماء المشركين.

وقال أبو هريرة (٢) : لحرس ليلة أحبّ إليّ من صيام ألف يوم أصومها وأقوم ليلها في المسجد الحرام وعند قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعن أبي عطية (٣) أنّ رجلا توفي على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال

__________________

(١) عبد الله بن عمر ١٠ ق. ه ـ ٧٣ ه‍ ـ ٦١٣ ـ ٦٩٢ م : عبد الله بن عمر بن الخطاب من أعزّ بيوتات قريش في الجاهلية ، كان جريئا جهيرا نشأ في الإسلام ، وهاجر إلى المدينة مع أبيه وشهد فتح مكة ومولده ووفاته فيها. أفتى الناس في الإسلام ستين سنة. غزا إفريقية مرتين ، وكفّ بصره في آخر حياته وتوفي بمكة وهو آخر من توفي فيها من الصحابة.

الإصابة ٤ : ١٠٧ برقم : ٤٨٢٥ ونكت الهميان : ١٨٣ والأعلام ٤ : ١٠٨.

(٢) أبو هريرة ٢١ ق. ه ـ ٥٩ ه‍ ـ ٦٠٢ ـ ٦٧٩ م : عبد الرحمن بن صخر الدوسي الملقب بأبي هريرة ، صحابي ، كان أكثر الصحابة حفظا للحديث ورواية له ، نشأ يتيما ضعيفا في الجاهلية ، وقدم المدينة ، وكان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) بخيبر فأسلم سنة ٧ ه‍ ولزم صحبة النبي وروى عنه الكثير ولي إمرة المدينة مدة ، واستعمله عمر على البحرين ثم عزله ، وكان أكثر مقامه في المدينة وتوفي فيها. عن الأعلام ٣ : ٣٠٨.

(٣) أبو عطية : صحابي ذكره في الإصابة ٧ : ١٣١ برقم : ٧٦٠ وقال : غير منسوب ، ذكره الطبراني وغيره في الصحابة.

٦٦

بعضهم : [س ١٩] يا رسول الله ، لا تصلّ عليه ، فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هل منكم من أحد رآه على شيء من أعمال الخير. قال : فقال رجل : حرس معنا يا رسول الله ليلة كذا وكذا. قال : فصّلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عليه ومشى إلى قبره ، فجعل يحثو عليه التراب ويقول : إنّ أصحابك يظنّون أنّك من أهل النار وأنا أشهد أنّك من أهل الجنّة (١).

وعن مكحول (٢) عن عليّ بن أبي طالب (٣) رضي‌الله‌عنه أنه قال : لصلاة الرجل متقلدا سيفه في سبيل الله فضل على صلاته بغير تقليد بسبعين ضعفا ، ولو قلت : بسبعمئة ضعف لكان كذلك (٤).

وسنّة المرابط في سبيل الله التقليد كما أنّ السنّة للمعتكف الصيام.

__________________

(١) الحديث في الإصابة ٧ : ١٣١ قال : وأخرج البغوي وأبو أحمد الحاكم من طريق إسماعيل بن عياش والطبراني من طريق بقيّة ، كلاهما عن بجير ابن سعد عن خالد بن معدان عن أبي عطية .. وذكر الحديث ..

(٢) مكحول ت : ١١٢ ه‍ ـ ٧٣٠ م : مكحول بن أبي مسلم شهراب بن شاذل ، أبو عبد الله ، الهذليّ بالولاء ، فقيه الشام في عصره ، من حفاظ الحديث. أصله من فارس ومولده بكابل ، ترعرع بها وسبي وصار مولى لامرأة بمصر من هذيل فنسب إليها فأعتق وتفقّه ورحل في طلب الحديث إلى العراق فالمدينة وطاف كثيرا من البلدن واستقر في دمشق وتوفي فيها.

تهذيب التهذيب ١٠ : ٢٨٩ والأعلام ٧ : ٢٨٤.

(٣) عليّ بن أبي طالب ٢٣ ق. ه ـ ٤٠ ه‍ ـ ٦٠٠ ـ ٦٦١ م : أبو الحسن ، أمير المؤمنين ، رابع الراشدين ، ولي الخلافة بعد مقتل عثمان بن عفان سنة ٣٥ ه‍ قتله غيلة عبد الرحمن بن ملجم المرادي في ١٧ رمضان سنة ٤٠ ه‍.

الإصابة ٤ : ٢٦٩ برقم : ٥٦٨٢ والأعلام ٤ : ٢٩٥.

(٤) ورد هذا الحديث بألفاظ مختلفة عن علي ففي اللآلىء المصنوعة ٢ : ١٣٥ بسنده عن علي مرفوعا : صلاة الرجل متقلدا سيفه تفضل على صلاته غير متقلد سبعمائة ضعف ، إن الله تعالى يباهي بالمتقلد سيفه في سبيل الله ملائكته ، وهم يصلّون عليه مادام متقلده. وقريب منه في الفوائد المجموعة ٢٠٨ وكذلك في تذكرة الموضوعات ١٢٠ ومثله في كتاب الموضوعات ٢ : ٢٢٦.

٦٧

وعن معاذ بن جبل (١) رضي‌الله‌عنه قال : الطّاعم في سبيل الله كالصائم سرمدا في غيره ، وحسنة من حسنات المرابط كجميع حسنات العابد.

قال ابن حبيب : الرّباط هو شعبة من شعب الجهاد وبقدر خوف أهل ذلك الثّغر وتحرّزهم من عدوّهم يكون كثرة ثوابهم.

وقال ابن عمر : اغزوا مادام الغزو حلوا خضرا قبل أن يكون مرّا عسرا ، ثم يكون تماما ثم يكون رماما ثم يكون حطاما فإذا انتكأت المغازي وكثرت العزائم واستحلّت الغنائم فخير جهادكم الرباط.

تفسير ذلك : الثمام : الرطب من النبات. والرمام : اليابس والحطام : الذي ينكسر وينحطم. وقوله : انتكأت : تباعدت وقوله : العزائم : يريد حمل السلطان بشدّة الأمر عليهم.

والعزم فيما يشقّ عليهم لبعد المغزى وقلّة / [س ٢٠] عونهم عليه وغير ذلك.

وإن أسمى ثغر نالت به الهمم العلية مراتب وأقدارا ، وأكرم تربة رفع الإيمان بها علما ومنارا ، وحلّى بها الدين الحنيفيّ منبرا ورسم دينارا ، تربة لبست الجهاد في سبيل الله شعارا / [م ١٠] واستوجبت

__________________

(١) معاذ بن جبل ٢٠ ق. ه ـ ١٨ ه‍ ـ ٦٠٣ ـ ٦٣٩ م : معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي ، أبو عبد الرحمن ، صحابي جليل ، كان أعلم الأمة بالحلال والحرام ، وهو أحد الستة الذين جمعوا القرآن الكريم على عهد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وهو فتى وآخى النبي بينه وبين جعفر بن أبي طالب ، وشهد العقبة مع الأنصار السبعين وشهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله ، وبعثه رسول الله بعد غزوة تبوك قاضيا ومرشدا لأهل اليمن كان من أحسن الناس وجها وأسمحهم كفا مات بعد وفاة أبي عبيدة بطاعون عمواس بالأردن.

٦٨

بخصائصها المنيفة حظوة عند الله وإيثارا ، فعزّت جنابا وكرمت أنصارا. جزيرة الأندلس أزكى تربة راقت صفحة ومحيّا ، وفازت بمدخور فضل الشهادة أعمار أهلها مماتا ومحيا ، فخبرها طريف ، وأمرها على سائر الأقطار منيف ، لأنّها بين بحر زخّار ، وعدوّ جرّار ، ملازمين أهلها في الليل والنهار ، والروم بها أمم كثيرة مختلفة لا يعلمهم إلا الله تعالى ، والحرب بينهم وبين المسلمين على قلّتهم بالإضافة إليهم لم تزل سجالا ، تارة حال نصر واقتدار ، وتارة حال تمحيص واختبار ، فسبحان العزيز القهّار الذي كلّ شيء عنده بمقدار.

روي عن عائشة (١) رضي‌الله‌عنها أنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سينقطع الجهاد والرباط إلا بجزيرة يقال لها الأندلس بالمغرب الأقصى ، المرابط فيها أفضل من شهيد يتشحّط في دمه.

وروي أيضا عنها أنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أفضل رباط على وجه الأرض جزيرة الأندلس ، شرقيّها عدوّ وغربيّها عدوّ وقبليّها عدوّ وجوفيّها / [س ٢١] عدوّ.

وروى ابن عباس (٢) رضي‌الله‌عنه قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما من

__________________

(١) عائشة ٩ ق. ه ـ ٥٨ ه‍ ـ ٦١٣ ـ ٦٧٨ م : عائشة بنت أبي بكر الصديق عبد الله بن عثمان ، من قريش ، أفقه نساء المسلمين وأعلمهن بالدين والأدب. تزوجها النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) في السنة الثانية بعد الهجرة ، وكانت أحب نسائه إليه وأكثرهن رواية للحديث ، وكان لها موقف من خلافة عليّ وحاربته في موقعة الجمل. وتوفيت في المدينة ـ الأعلام ٣ : ٢٤٠.

(٢) ابن عباس ٣ ق. ه ـ ٦٨ ه‍ ـ ٦١٩ ـ ٦٨٧ م : عبد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي أبو العباس ، حبر الأمة ، الصحابي الجليل ، ولد بمكة ونشأ في بدء عصر النبوة ، ولازم الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وروى عنه الأحاديث الصحيحة وشهد مع علي موقعة الجمل وموقعة صفين.

كف بصره في آخر عمره فسكن الطائف وتوفي بها. عن الأعلام ٤ : ٩٥.

٦٩

مسجده فأشار بيده مسلّما تلقاء المغرب ، فقيل له : على من يا رسول الله؟ فقال : على ناس من أمتي يكونون بالمغرب الأقصى بجزيرة يقال لها الأندلس ، إليها آخر ما ينتشر هذا الدين ، رباط يوم فيها أفضل من رباط عامين في ثغور غيرها ، حيّها مرابط وميتها شهيد ، تحشرهم السّحاب يوم القيامة من وراء البحر الكافر ، فتمطرهم على المحشر كما يمطر الماء(١).

وروي عن شهر بن حوشب (٢) أنه قال : ما من بقعة من الأندلس إلا ولها ثواب لا يدركه العاملون ، يبعث الله أهل الأندلس يوم القيامة على حدة لا يخالطهم أحد قد تجلّلهم النور والبهاء ، وهم رؤساء المجاهدين.

ألا بمثل هذه المزيّة وهذه الآثار تنافس البقاع البقاع وتفاخر الأمصار الأمصار ، مزيّة ما فوقها بغية لمختار ، وأثرة إليها تنصرف آمال البررة الأخيار .. جعلها الله تعالى من كلأته وعصمته في أوفى ذمّة وأمنع جوار.

__________________

(١) الأحاديث التي ورد فيها ذكر «الأندلس» صراحة لا تصح ، وغاية ما هناك أن تستشف إشارات إلى ذلك كما في حديث «أنس بن مالك أن خالته أم حرام بنت ملحان زوجة أبي الوليد عبادة بن الصامت أخبرته أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) نام ثم استيقظ وهو يضحك. فقالت له بنت ملحان : ما يضحكك يا رسول الله؟ قال : ناس من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله ، يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرّة أو مثل الملوك على الأسرّة. وأنه نام مرة أخرى وفعل كفعله الأول. فلما قالت له أم حرام : ادع الله أن يجعلني منهم ، قال : أنت من الأولين» وقد توفيت أم حرام في قبرس.

وقد أوّل ابن حزم هذا الحديث بأن المراد به الفتوحات البحرية الأولى (صقلية وأقريطش) والفتوحات التي تلتها ومنها الأندلس. عن رسالة ابن حزم في فضل الأندلس وذكر رجالها والحديث المذكور في هذه الحاشية مما رواه مسلم ٢ : ١٠٤.

(٢) شهر بن حوشب ٢٠ ـ ١٠٠ ه‍ ـ ٦٤١ ـ ٧١٨ م : شهر بن حوشب الأشعري ، فقيه قارىء من رجال الحديث ، شامي الأصل ، سكن العراق ، وكان يتزيّا بزيّ الجند ويسمع الغناء بالآلات ، وولي بيت المال مدة ، وهو متروك الحديث. وكان ظريفا.

تهذيب التهذيب ٤ : ٣٦٩ ـ الأعلام ٣ : ١٧٨.

٧٠

الباب الثالث

في فرض الجهاد

وما قيل في ذلك

٧١
٧٢

في فرض الجهاد وما قيل في ذلك

لا خلاف بين الأمّة في وجوب الجهاد ، وأنّه فرض على الكفاية ، فمن أدلّة الفرضيّة قوله / [م ١١] تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ)(١) فقيل في (كتب) : (فرض). وقوله سبحانه : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ)(٢).

[س ٢٢ ـ] فقيل في قوله : «خفافا وثقالا» أي شبابا وشيوخا ، وقيل : أغنياء وفقراء ، وقيل : ركبانا ومشاة ، وقيل : ذوي عيال وغير ذوي عيال ، (٣) وقال جلّ ذكره : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً)(٤) وقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها وحسابهم على الله (٥).

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٢١٦.

(٢) سورة التوبة ٩ / ٤١.

(٣) انظر نهاية الأرب ٦ : ١٥٣ وهو ينقل عن الأحكام السلطانية للماوردي. والتفسير في الأحكام السلطانية : ٣٠.

(٤) سورة التوبة ٩ / ١٢٣.

(٥) في شرح السير الكبير ١ : ١٥٠ برقم : ١٥٣ ذكر عن الحسن رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها فقد عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله.

قال محمد بن الحسن الشيباني : فكان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) يقاتل عبدة الأوثان وهم قوم لا يوحّدون الله. فمن قال منهم : لا إله إلا الله. كان ذلك دليلا على إسلامه.

٧٣

ومن أدلّة الكفاية قوله سبحانه : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ، فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ)(١) فجعل تعالى طائفة للجهاد وأخرى لغيره من الأعمال ، ومنها قوله عزوجل : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ)(٢) ثم قال سبحانه : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى)(٣) ففرّق بين الحسنيين وباين بين المثلين ، فمن حيث المفاضلة في الأجر فهمت صورة الكفاية ، كما فهم من تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة جواز صلاة الفرد (٤) ، ولا يعلم لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ غزوة خرج فيها إلا وقد تخلّف عنه فيها رجال ، وكذلك تخلّف رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن سرايا أخرجها ، ثبت عنه أنه قال : «لو لا أن أشقّ على أمتي لأحببت أن لا أتخلّف خلف سريّة تخرج في سبيل الله ولكن لا أجد ما أحملهم عليه / [س ٢٣] ولا يجدون ما يتحمّلون عليه فيخرجون ويشقّ عليهم أن يتخلّفوا بعدي ، فلوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثمّ أحيا ثمّ أقتل ثمّ أحيا ثمّ أقتل ثمّ أحيا (٥).

__________________

(١) سورة التوبة ٩ / ١٢٢.

(٢) سورة النساء ٤ / ٩٥ والآية بتمامها : «لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى ، وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما».

(٣) انظر الحاشية السابقة.

(٤) قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة ـ صحيح البخاري ، كتاب الأذان. برقم ٦٠٩ وصحيح مسلم : كتاب المساجد ومواضعه برقم : ١٠٣٨.

(٥) الحديث في الموطّا : كتاب الجهاد : باب الترغيب في الجهاد ٢ : ٤٠ ص ٤٦٥ مع خلاف في بعض الألفاظ وأخرجه البخاري في ٥٦ ـ كتاب الجهاد ، ١١٩ باب الحبائل والحملان ومسلم في ٣٣ كتاب الإمارة و ٢٨ باب فضائل الجهاد والخروج في سبيل الله برقم : ١٠٣ ، ١٠٦.

٧٤

وعن أبي سعيد الخدري (١) أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في غزوة غزاها بني لحيان : يبعث من كلّ رجلين رجل والأجر بينهما (٢).

ففي تخلّفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الخروج إلى الجهاد مع السرايا مع إذنه في أن ينبعث من كل رجلين رجل ، دليل على أنّ فرض الجهاد ساقط عن الناس إذا قام به منهم من فيه الكفاية.

فدلّ كتاب الله سبحانه والأخبار الواردة عن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أنّه إن قام بالجهاد بعض المسلمين سقط فرضه عن الباقين. وسنذكر بعد حيث يتعيّن فرضه إن شاء الله تعالى(٣).

وفائدة القيام به : سدّ الثغور وعمارتها وحراستها وحفظها بالمنعة والعدد.

وقد ناط الشّارع به فروضا وأحكاما ، فمن فروضه :

النية لقول الله عزوجل : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ

__________________

(١) أبو سعيد الخدري ١٠ ق. ه ـ ٧٤ ه‍ ـ ٦١٣ ـ ٦٩٣ م : سعد بن مالك بن سنان الخدري الأنصاري الخزرجيّ ، أبو سعيد ، صحابيّ ، كان من ملازمي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وروى عنه أحاديث كثيرة. غزا اثنتي عشرة غزوة. وتوفي بالمدينة. الإصابة ٣ : ٨٥ برقم : ٢١٨٩ والأعلام ٣ : ٨٧.

(٢) عن أبي سعيد الخدري أن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) بعث إلى بني لحيان فقال : لينبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما» عن صحيح مسلم.

(٣) انظر شرح السّير الكبير ١ : ١٨٧ ونورد ما فيه مختصرا : قال أبو حنيفة رحمه‌الله : الجهاد واجب على المسلمين ، إلا أنهم في سعة من ذلك حتى يحتاج إليهم ، فكان الثوري يقول : القتال مع المشركين ليس بفرض ، إلا أن تكون البداية منهم فحينئذ يجب قتالهم. قال السرخسيّ : والحاصل أن الأمر بالجهاد وبالقتال نزل مرتبا ... وذكر ترتيب ذلك وانتهى إلى أن المسلمين أمروا بالقتال مطلقا لإعزاز الدين وقهر المشركين فإذا حصل المقصود بالبعض سقط عن الباقين .. لأنه بدون سائر الأشغال لا يتم أمر الجهاد ، فلهذا كان فرضا على الكفاية.

٧٥

الدِّينَ)(١) ولقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّما [م ١٢] الأعمال بالنيّات ولكلّ امرئ ما نوى».(٢).

ومنها : العدّة لقول الله سبحانه : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ)(٣) الآية ...

ومنها : الثّبات عند اللقاء لقول الله تعالى : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا)(٤) وقوله : (إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ)(٥).

ومن أحكامه وقيل من سنّته التحريض لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خوطب به فقيل [س ٢٤] له (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ)(٦) وفعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مواطن ، وسنفرد له بعد ذلك بابا إن شاء الله.

فقتال الكفّار واجب على ما تقدّم لا يعدل عنه إلا بإجابتهم إلى الدّخول

__________________

(١) سورة البيّنة ٩٨ / ٥.

(٢) هذا حديث مشهور ذكره النووي أول الأربعين ويكثر الاستشهاد به في مجالات شتى. قال ابن ماجه ٢ : ١٤١٣ برقم : ٤٢٢٧ عن عمر وهو يخطب الناس فقال : سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) يقول : إنما الأعمال بالنيات ، ولكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله وإلى ورسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه. (باب النية) قال النووي : وهذا حديث صحيح متّفق على صحته مجمع على عظم موقعه وجلالته وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام. وكان السلف وتابعوهم من الخلف ـ رحمهم‌الله تعالى ـ يحبّون استفتاح المصنفات بهذا الحديث.

(٣) سورة الأنفال ٨ / ٦٠ وتتمتها : (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ).

(٤) سورة الأنفال ٨ / ٤٥ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

(٥) سورة الأنفال ٨ / ١٥.

(٦) سورة الأنفال ٨ / ٦٥.

٧٦

في الإسلام أو بذل الجزية لنا في دارنا (١). قال أبو عمر بن عبد البّر (٢) : يجب على الإمام إغزاء طائفة من المسلمين إلى العدوّ في كلّ سنة مرة ، يخرج معهم بنفسه أو يؤمّر عليهم من يثق به ليدعوهم إلى الإسلام ويزعهم ويكفّ أذاهم ويظهر دين الله عليهم ويقاتلهم حتّى يدخلوا في الإسلام ويعطوا الجزية.

وسئل ابن عبّاس رضي‌الله‌عنه في الغزو مع الإمام لا يريد إلا الدّنيا (٣) فقال : قاتل أنت على حظك من الآخرة.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الجهاد ماض مذ بعث الله نبيّه إلى آخر عصابة تقاتل الدجّال لا ينقصه جور من جار ولا عدل من عدل (٤).

ولا تجوز المهادنة إلا لضرورة تدعو إليها ، قال الله تعالى : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ)(٥).

__________________

(١) انظر شرح السير الكبير ١ : ١٨٩ «ولا ينبغي أن يدع المشركين بغير دعوة إلى الإسلام ، أو إعطاء جزية إذا تمكن من ذلك».

(٢) أبو عمر ابن عبد البر ٣٦٨ ـ ٤٦٣ ه‍ ـ ٩٧٨ ـ ١٠٧١ م : يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النميري القرطبي المالكي أبو عمر ، من كبار حفّاظ الحديث ، مؤرخ ، أديب ، بحاثة ، يقال له : حافظ المغرب. ولد بقرطبة ورحل رحلات طويلة في غربي الأندلس وشرقيّها وولي قضاء لشبونة وشنترين وتوفي بشاطبة ، وله مؤلفات كثيرة مطبوعة منها الاستيعاب في معرفة الأصحاب وكتاب بهجة المجالس وأنس المجالس. عن الأعلام ٨ : ٢٤٠.

(٣) سقطت (إلا) من م.

(٤) استدل في شرح السير الكبير ١ : ١٦٠ بهذا الحديث أنه لا يترك الجهاد بجور الأمراء ثم أورد حديثا بمعناه : عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أصل الإسلام ثلاثة : الكف عمّن قال لا إله إلا الله أن تكفّروه بذنب ولا تخرجوه من الإسلام بعمل ، والجهاد ماض منذ بعثني الله حتى يقاتل آخر عصابة من أمتي الدجال ، والإيمان بالأقدار كلها.

(٥) سورة محمد ٤٧ / ٣٥ وانظر شرح السير الكبير ١ : ١٩٠.

٧٧

وقد يتعيّن فرض الجهاد في بعض الأحيان لسببين (١) :

أحدهما : أمر الإمام بالخروج للغزو فمن عيّنه تعيّن عليه.

والثاني : أن يفجأ العدوّ قوما لهم قوة على مدافعته فيتعيّن عليهم دفاعه وقتاله ، فإن لم يستقلّوا بذلك لزم من قاربهم أن يخرج إليهم ، فإن لم يستقلّ الجميع وجب على من علم بضعفهم وطمع في إدراكهم وعونهم المضيّ إليهم حتّى يندفع [س ٢٥] عنهم العدوّ.

ويسقط الوجوب عن الصبيّ والمجنون والمرأة والمريض والأعمى والأعرج الذي يعجز عن المحاربة والركوب وحبس السلاح عند الحاجة إلى ذلك.

وكذلك يسقط بالفقر وعدم نفقة الذهاب والإياب وبالرقّ إلا بإذن السيّد (٢) وبالأبوين إلّا بإذنهما إلّا أن يفجأ العدوّ مدينة أو محلّة أو يقع النّفير أو يكون الابن قد أوجبه على نفسه في وقت معيّن فلا يجوز المنع بوجه ولا يحتاج إذن جدّ ولا جدّة. وإن كان الأبوان كافرين فهما في ذلك

__________________

(١) جاء في السير الكبير وشرحه ١ : ١٩٩ برقم : ٢٣٦ ، فأما إذا جاء النفير عاما فقيل لأهل مدينة : قد جاء العدو يريدون أنفسكم أو ذراريكم أو أموالكم ، فلا بأس بأن يخرج بغير إذن والديه قال السرخسي : لأن الخروج في مثل هذه الحالة فرض عين على كل واحد ، قال تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) (التوبة ٩ / ٤١) وما يفوته بترك هذه الفريضة لا يمكنه استدراكه ، وما يفوته بالخروج بغير إذن الوالدين يمكنه استدراكه بعد هذا ، فيشتغل بما هو الأهم ، ولأن الضرر في تركه الخروج أعم ، فإذ ذلك يتعدى إليه وإلى والديه وإلى غيرهم من المسلمين.

(٢) في شرح السير الكبير ١ : ١٩٩ برقم : ٢٣٧ ، ولا ينبغي للعبد أن يجاهد بغير إذن مولاه ما لم يكن النفير عاما ، فإذا كان ذلك ، فله أن يخرج وليس لمولاه أن يمنعه من ذلك. قال السرخسي : لأن فرضية الخروج عند النفير العام كفرضية الصوم والصلاة وذلك مستثنى للعبد مما ملكه عليه مولاه.

٧٨

كالمسلمين إلّا أن يعلم أنّ منعهما لغير حاجتهما بل ليوهنا الإسلام ولا يعينا المسلمين ، فلا يمتنع وإن كرها (١).

وقيل للأوزاعي (٢) : ما تقول في رجل غزا بإذن والديه ، فاشترطا عليه أن لا يقاتل ، فلقوا العدوّ ، قال : لا طاعة [م ١٣] للوالدين في ترك الفرائض والجمع والحجّ والقتال ، ولا يسقط الوجوب لخوف لصوص وقطّاع طريق ومخيفي سبيل لأنّ قتالهم أهمّ ، قال أبو إسحاق بن شعبان : هم أحقّ بالجهاد من الرّوم ، وأمّا إن وطئ الكفّار دار المسلمين فيجب على كلّ من له منّة قتالهم بغاية إمكانه ونهاية قدرته وطاقته حتى العبد والمرأة إن لم يستغن عنهما (٣).

__________________

(١) انظر هذه الأحكام المشار إليها في شرح السير الكبير ١ : ١٩٠ ـ ١٩٧.

(٢) الأوزاعي ٨٨ ـ ١٥٧ ـ ٧٠٧ ـ ٧٧٤ م : عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي من قبيلة الأوزاع ، أبو عمرو ، إمام الديار الشامية في الفقه والزهد ، وأحد الكتّاب المترسلين ، ولد في بعلبك ، ونشأ في البقاع ، وسكن بيروت وتوفي بها ، وعرض عليه القضاء فامتنع. له كتاب السنن والمسائل. عن الأعلام ٣ : ٣٢٠.

(٣) قال في شرح السير الكبير : ١ : ٢٠١ وما بعدها : وكذلك الغلمان الذين لم يبلغوا إذا أطاقوا القتال فلا بأس بأن يخرجوا ويقاتلوا في النفير العام ، وإن كره ذلك الآباء والأمهات. وعند تحقق الضرورة بوقوع النفير عاما لا بأس للمرأة أن تقاتل بغير إذن وليها وزوجها.

٧٩
٨٠